أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

الجصاص

المجلد الأول

المجلد الأول بَابٌ الْقَوْلُ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مدخل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ مُقَدِّمَةً 1 تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ جُمَلٍ مِمَّا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَتَوْطِئَةً لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ اسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِهِ وَأَحْكَامِ أَلْفَاظِهِ، وَمَا تَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ أَنْحَاءُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ الشَّرْعِيَّةُ; إذْ كَانَ أَوْلَى الْعُلُومِ بِالتَّقْدِيمِ مَعْرِفَةَ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ شِبْهِ خَلْقِهِ وَعَمَّا نَحَلَهُ الْمُفْتَرُونَ مِنْ ظُلْمِ عَبِيدِهِ، وَالْآنَ حَتَّى انْتَهَى بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ. وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ وَيُزَلِّفُنَا لديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. بَابٌ الْقَوْلُ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَعْنَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِيهَا. وَالثَّانِي: هَلْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهِ؟ وَالثَّالِثُ: هَلْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا؟ وَالرَّابِعُ: هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ؟ وَالْخَامِسُ: هَلْ هِيَ آيَة تَامَّةٌ أَمْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ؟ وَالسَّادِسُ: قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَالسَّابِعُ: تَكْرَارُهَا فِي أَوَائِل السُّوَرِ فِي الصَّلَاةِ. وَالثَّامِن: الْجَهْرُ بِهَا. وَالتَّاسِع: ذِكْرُ مَا فِي مُضْمَرِهَا مِنْ الْفَوَائِدِ وَكَثْرَةِ الْمَعَانِي. فَنَقُولُ: إنَّ فِيهَا ضَمِيرَ فِعْلٍ لَا يَسْتَغْنِي الْكَلَامُ عَنْهُ; لِأَنَّ الْبَاءَ مَعَ سَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِفِعْلٍ إمَّا مُظْهَرٍ مَذْكُورٍ، وَإِمَّا مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالضَّمِيرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: خَبَرٍ وَأَمْرٍ، فَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ خَبَرًا كَانَ مَعْنَاهُ: أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ، فَحُذِفَ هَذَا الْخَبَرُ وَأُضْمِرَ; لِأَنَّ الْقَارِئَ مُبْتَدِئٌ، فَالْحَالُ الْمُشَاهَدَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ، مُغْنِيَةٌ عَنْ ذِكْرِهِ، وَإِذَا كَانَ أَمْرًا كَانَ مَعْنَاهُ: ابْدَءُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَاحْتِمَالُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَفِي نَسَقِ تِلَاوَةِ السُّورَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، وَهُوَ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وَمَعْنَاهُ: قُولُوا إيَّاكَ، كَذَلِكَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي معنى قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} [علق: 1] . وقد

_ 1 مراد المصنف بالمقدمة المذكورة لكتابه الذي ألفه في أصول الفقه، فإنه مقدمة لاستنباط أحكام القرآن "لمصححه".

وَرَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ مُصَرَّحًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فأمر في افتتاح لقراءة بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا أُمِرَ أَمَامَ الْقِرَاءَةِ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَهُوَ إذَا كَانَ خَبَرًا فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَمْرِ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ فَفِيهِ أَمْرٌ لَنَا بِالِابْتِدَاءِ بِهِ وَالتَّبَرُّكِ بِافْتِتَاحِهِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَنَا بِهِ لِنَفْعَلَ مِثْلَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لَهُمَا جَمِيعًا، فَيَكُونَ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ، لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الضَّمِيرِ فِي انْتِفَاءِ إرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ، قِيلَ لَهُ: إذَا أَظْهَرَ صِيغَةَ الْخَبَرِ امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُمَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ أَمْرًا وَخَبَرًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِالْخَبَرِ الْأَمْرَ كَانَ اللَّفْظُ مَجَازًا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ كَانَ حَقِيقَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مَجَازًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَجَازُ مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمَعْدُولًا بِهِ عَنْهُ فِي حَالٍ وَاحِدٍ; فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إرَادَةُ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الضَّمِيرُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَادَةِ وَلَا يَسْتَحِيلُ إرَادَتُهُمَا مَعًا عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِإِضْمَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، وَابْدَءُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِي وَتَبَرُّكًا بِهِ غَيْرَ أَنَّ جَوَازَ إرَادَتِهِمَا لَا يُوجِبُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إثْبَاتَهُمَا إلَّا بِدَلَالَةٍ; إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبِهِ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ حُكْمَ اللَّفْظِ إثْبَاتُ ضَمِيرٍ مُحْتَمَلٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَتَعْيِينُهُ فِي أَحَدِهِمَا مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ كَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي نَظَائِرِهِ نَحْوَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِضَمِيرِ يَحْتَمِلُ رَفْعَ الْحُكْمِ رَأْسًا وَيَحْتَمِلُ الْمَأْثَمَ لَمْ يَمْتَنِعْ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا وَجَوَازِ إرَادَتِهِمَا، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فَيَنْتَظِمُهُمَا، فَاحْتَجْنَا فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْ إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا. وَقَدْ يَجِيءُ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُحْتَمِلِ لِأَمْرَيْنِ مَا لَا يَصِحُّ إرَادَتُهُمَا مَعًا، نَحْوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِضَمِيرِ يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْعَمَلِ وَيَحْتَمِلُ أَفْضَلِيَّتَهُ. 1فَمَتَى أَرَادَ الْجَوَازَ امْتَنَعَتْ إرَادَةُ الْأَفْضَلِيَّةِ; لِأَنَّ إرَادَةَ الْجَوَازِ تَنْفِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَإِرَادَةَ الْأَفْضَلِيَّةِ تَقْتَضِي إثْبَاتَ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ مَعَ إثْبَاتِ النُّقْصَانِ فِيهِ وَنَفْيِ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الْأَصْلِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ الْمُوجِبِ

_ 1 في نسخة "فضليته".

لِلنُّقْصَانِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ إرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ وَإِثْبَاتِ النَّقْصِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَتِهِمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِذَا ثَبَتَ اقْتِضَاؤُهُ لِمَعْنَى الْأَمْرِ انْقَسَمَ ذَلِكَ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ فَالْفَرْضُ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15] فَجَعَلَهُ مُصَلِّيًا عَقِيبَ الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذِكْرَ التَّحْرِيمَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] . قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ الِافْتِتَاحِ. رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قَالَ: هِيَ بسم الله الرحمن الرحيم; وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الذَّبِيحَةِ فَرْضٌ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَقَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . وَهُوَ فِي الطَّهَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَابْتِدَاءِ الْأُمُور نَفْلٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَلَّا أَوْجَبْتُمْ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِهِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ" قِيلَ لَهُ: الضَّمِيرُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَيُعْتَبَرُ عُمُومُهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْهُ مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ; وَقَوْلُهُ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ" عَلَى جِهَةِ نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لِدَلَائِلَ قَامَتْ عَلَيْهِ.

بَابُ الْقَوْل فِي أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] . وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ لَهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . وَرَوَى أَبُو قَطَنَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ، حَتَّى نَزَلَ {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فَكَتَبَ فَوْقَهُ: الرَّحْمَنَ، فَنَزَلَتْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ فَكَتَبَهَا حِينَئِذٍ. وَمِمَّا سَمِعْنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَقَتَادَةُ وَثَابِتٌ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو كِتَابَ الْهُدْنَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم" فَقَالَ لَهُ سُهَيْلٌ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ، فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلَى أَنْ سُمِحَ بِهَا بَعْدُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تعالى في سورة النمل.

الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَمْ لَا; فَعَدَّهَا قُرَّاءُ الْكُوفِيِّينَ آيَةً مِنْهَا وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ حَكَى مَذْهَبَهُمْ فِي تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا عِنْدَهُمْ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنْهَا عِنْدَهُمْ لَجُهِرَ بِهَا كَمَا جُهِرَ بِسَائِرِ آيِ السُّوَرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ مِنْهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَتَصْحِيحُ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شاء الله تعالى.

الْقَوْلُ فِي هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ قال أبو بكر: ثم اختلف في أنها آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي غَيْرِهَا; إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَمَا سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ آيَةً مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سأل، فيقول عبدي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا، قَالَ: لِعَبْدِي مَا سَأَلَ" فَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَذَكَرهَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ آيِ السُّورَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهَا نِصْفَيْنِ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ أن تكون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةً مِنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْقِسْمَةِ; الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِي الْقِسْمَةِ لَمَا كَانَتْ نِصْفَيْنِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَا لِلَّهِ فِيهَا أَكْثَرِ مِمَّا لِلْعَبْدِ لأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ فِي أَضْعَافِ السورة، قيل

لَهُ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا كَانَتْ آيَةً غَيْرَهَا 1 فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا، وَلَوْ جَازَ مَا ذَكَرْت لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْقُرْآنِ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْهَا دُونَهَا. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ، فَالْوَاجِبُ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُون مَذْكُورًا فِي الْقِسْمَةِ; إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا قَسَمَ مِنْ آيِ السُّورَةِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَيَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَيَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أَنَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ هَذَا غَلَطٌ مِنْ رَاوِيهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فيه كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَإِنَّمَا جَعَلَ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ لِمَا انْتَظَمَ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْآيِ بَعْدَهَا مِنْ قَوْله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} جَعَلَهَا لِلْعَبْدِ خَاصَّةً; إذْ لَيْسَ فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةٌ مِنْ الْعَبْدِ لِمَا ذُكِرَ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لَمَّا كَانَ نِصْفَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعُدُّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةً بَلْ كَانَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ 2 وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ يَزِيدَ الْقَارِي، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قُلْت لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنْ الْمَئِينِ، وَإِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي، فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السبع الطوال، ولم تكتبوا بينهما

_ 1 أي غير آية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . 2 قوله "يكون لله تعالى أربع" فيه نظر ظاهر لأنه يكون له تعالى حينئذ ثلاث كما لا يخفى "لمصححه".

سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ قَالَ عُثْمَانُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: "ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا" وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَأَخْبَرَ عُثْمَانُ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكْتُبُهَا فِي فَصْلِ السُّورَةِ بَيْنَهَا وَبَيْن غَيْرِهَا لَا غَيْرُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْ السُّوَرِ وَمِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَعَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا مِنْهَا كَمَا عَرَفَتْ مَوَاضِعَ سَائِرِ الْآيِ مِنْ سُورِهَا وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ سَبِيلَ الْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْآيِ كَهُوَ بِالْآيِ نَفْسِهَا، فَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ الْقُرْآنِ نَقْلَ الْكَافَّةِ دُونَ نَقْلِ الْآحَادِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَوَاضِعِهِ وَتَرْتِيبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إزَالَةُ تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ وَلَا نَقْلُ شَيْءِ مِنْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَامَ إزَالَتَهُ وَرَفْعَهُ فَلَوْ كَانَتْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لَعَرَفَتْ الْكَافَّةُ مَوْضِعَهَا مِنْهَا كَسَائِرِ الْآيِ وَكَمَوْضِعِهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ فَلَمَّا لَمْ نَرَهُمْ نَقَلُوا ذَلِكَ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ نَقَلُوا إلَيْنَا جَمِيعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي إثْبَاتِهَا مِنْ السُّوَرِ فِي مَوَاضِعَهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُصْحَفِ، قِيلَ لَهُ: إنَّمَا نَقَلُوا إلَيْنَا كَتْبَهَا فِي أَوَائِلهَا وَلَمْ يَنْقُلُوا إلَيْنَا أَنَّهَا مِنْهَا; وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَائِلَهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أُثْبِتَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ السُّوَرِ. وَلَيْسَ إيصَالُهَا بِالسُّورَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَتُهَا مَعَهَا مُوجِبَيْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا; لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بَعْضُهُ مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، وَمَا قَبْلَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مُتَّصِلٌ بِهَا، وَلَا يَجِبُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ سُورَةً وَاحِدَةً فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا نُقِلَ إلَيْنَا الْمُصْحَفُ وَذَكَرُوا أَنَّ مَا فِيهِ هُوَ الْقُرْآنُ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ لَبَيَّنُوا ذَلِكَ وَذَكَرُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِهَا لِئَلَّا تَشْتَبِهَ. قِيلِ لَهُ: هَذَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مِنْهُ فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا لَعَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ حَسَبَ مَا أَلْزَمْتَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا مِنْهَا. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنْ السُّورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا هُوَ مِنْ السُّورَة أَنَّهُ مِنْهَا، كَمَا عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِكَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهَا كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ نفسه.

وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} " وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سوى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا كَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً، وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ جَمِيعِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَائِهِمْ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ; فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَكَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا عَدُّوا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا عَدُّوا سِوَاهَا; لِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهَا عِنْدَهُمْ، قِيلَ لَهُ: فَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: "سُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ". وَالثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ إنَّمَا هِيَ بَعْضُ السُّورَةِ; وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَقُولُوا فِي الْفَاتِحَةِ إنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَوَى عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي جلال 1 عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يقول: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سَبْعُ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " وَشَكَّ بَعْضُهُمْ فِي ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْنَادِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَبْدِ الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي جَلَالٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "إذا قرأتم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فاقرءوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإنها إحْدَى آيَاتِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثُمَّ لَقِيت نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّنَدِ وَالرَّفْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي الْأَصْلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "فَإِنَّهَا إحْدَى آيَاتِهَا" مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يُدْرِجُ كَلَامَهُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا لِعِلْمِ السَّامِعِ الَّذِي حَضَرَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْأَخْبَارِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ أَنْ يُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاحْتِمَالِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْهَرُ بِهَا، وَظَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَى الْجَهْرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَيْضًا لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ عَارِيًّا مِنْ الِاضْطِرَابِ فِي السَّنَدِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الرَّفْعِ وَزَوَالِ الِاحْتِمَالِ فِي كَوْنِهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَا جَازَ لَنَا إثْبَاتُهَا مِنْ السُّورَةِ; إذْ كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا نَقْلَ الأمة على ما بين آنفا.

_ 1 هكذا في النسخ التي في أيدينا. والذي وجدنا في خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال: نوح بن أبي بلال "لمصححه".

فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا آيَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهَا هُنَاكَ بَعْضُ آيَةٍ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] . وَمَعَ ذَلِكَ فَكَوْنُهَا لَيْسَتْ آيَةً تَامَّةً فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُون آيَةً فِي غَيْرِهَا لِوُجُودِنَا مِثْلَهَا فِي الْقُرْآنِ أَلَا تَرَى أَنَّ قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَضْعَافِ الْفَاتِحَةِ هُوَ آيَةٌ تَامَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هُوَ آيَةٌ تَامَّةٌ فِي الْفَاتِحَةِ، وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اُحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ بَعْضَ آيَةٍ فِي فُصُولِ السُّوَرِ وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ آيَةً عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَيَّة تَامَّةً مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ; لِأَنَّ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَعَدَّهَا آيَةً وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كان يعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةً فَاصِلَةً رَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عِكْرِمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَوَى أَيْضًا أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كان يعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةً وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْبَصْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَك بِآيَةٍ أَوْ سُورَةٍ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ بَعْدَ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرِي" فَمَشَى وَاتَّبَعْته حَتَّى انْتَهَى إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَأَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ وَبَقِيَتْ الرِّجْلُ الْأُخْرَى، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "بِأَيِّ شَيْءٍ تَفْتَتِحُ القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ " فقلت: {ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا آيَةٌ; إذْ لَمْ تُعَارِضْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَخْبَارٌ غَيْرُهَا فِي نَفْيِ كَوْنِهَا آيَةً، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى مَا أَصَّلْت أَنْ لَا تُثْبِتَهَا آيَةً بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَسَبَ مَا قُلْته فِي نَفْيِ كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ، قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفُ الْأُمَّةِ عَلَى مَقَاطِعِ الْآيِ

وَمَقَادِيرِهَا، وَلَمْ يُتَعَبَّدْ بِمَعْرِفَتِهَا فَجَائِزٌ إثْبَاتُهَا آيَةً بِخَبَرِ الْوَاحِدِ 1. وَأَمَّا مَوْضِعُهَا مِنْ السُّوَرِ فَهُوَ كَإِثْبَاتِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، سَبِيلُهُ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَا بِالنَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ كَسَائِرِ السُّوَرِ وَكَمَوْضِعِهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْآيِ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفٌ فِي سَائِرِ الْآيِ عَلَى مَبَادِئِهَا وَمَقَاطِعِهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْنَا مَقَادِيرُ الْآيِ، فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا آيَةٌ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ آيَةً مُنْفَرِدَةً كُرِّرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى حَسَبِ مَا يُكْتَبُ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ، لِنَقْلِ الْأُمَّةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَخُصُّوا شَيْئًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ وُجُودُهَا مُكَرَّرَةً فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُخْرِجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ لِوُجُودِنَا كَثِيرًا مِنْهُ مَذْكُورًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا، وَكُلُّ لَفْظَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ نَحْوَ قوله {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا مُفْرَدَةٌ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَا عَلَى مَعْنَى تَكْرَارِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ وكذلك {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهَا آيَةٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فيه. فَصْلٌ وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيَّ وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ كَانُوا يَقُولُونَ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعِنْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ; فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَؤُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ ابْتِدَاءِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَا يُعِيدُهَا مَعَ السُّورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ عليه أن يقرأها في تلك الصلاة

_ 1 مراد المصنف رحمه الله تعالى أنه يجوز إثبات أن البسملة آية تامة بخبر الواحد وليس مراده إثبات أصل قرآنيتها بخبر الواحد كما لا يخفى "لمصححه".

حَتَّى يُسَلِّمَ، وَإِنْ قَرَأَهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ فَحَسَنٌ قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِيمَا يَقْضِي; لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ، وَقِرَاءَةُ الْإِمَامَ لَهُ قِرَاءَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِنْ الْقُرْآنِ فِي ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْرَدَةً عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ فَقَطْ حَسَبِ إثْبَاتِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ وَالْكُتُبِ، وَلَا مَنْقُولَةً عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ قِرَاءَةِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَتَجْدِيدِهَا قَبْلَ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجْزِيهِ قِرَاءَتُهَا قَبْلَ الْحَمْدِ وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يَقْرَأهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُعِيدُهَا فِي الْأُخْرَى أَيْضًا قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً قَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ قَرَأَ سُوَرًا كَثِيرَةً وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ يُخْفِيهَا قَرَأَهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ سُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا لَمْ يَقْرَأْهَا; لِأَنَّهُ فِي الْجَهْرِ يَفْصِلُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَدُلّ عَلَى أن قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إنَّمَا هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَوْ لِابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهَا آيَةً وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فَيَقْرَأُهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا قَرَأْتَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ أَجْزَأَك فِيمَا بَقِيَ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: لَا يَقْرَؤُهَا فِي الْمَكْتُوبَةِ سِرًّا وَلَا جَهْرًا، وَفِي النَّافِلَةِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَات حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يُسِرُّونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، وَقَالَ فِي بَعْضِهَا: "يُخْفُونَ"، وَفِي بَعْضِهَا: "كَانُوا لَا يَجْهَرُونَ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا فِي التَّطَوُّعِ; إذْ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ التَّطَوُّعِ فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ وَأَنْسِ بْنِ مَالِكٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يفتتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "، وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَرْكِهَا رَأْسًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رَوَى أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ فِي الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلَمْ يَسْكُتْ"، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لِمَالِكٍ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهَا فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهَا رَأْسًا فَلَا. وَقَدْ رُوِيَ قِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ غير

مُعَارِضٍ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ قِرَاءَتُهَا فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْر مُعَارِضٍ لَهُمْ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ وَلَا فِي النَّفْيِ كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي سَائِرِ سُنَنِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ دُونَ سَائِرِ الرَّكَعَاتِ وَسُوَرِهَا فَهُوَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ; وَإِنْ كَانَتْ آيَةً فِي مَوْضِعِهَا عَلَى وَجْهِ الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَمَرَنَا بِالِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا ثَمَّ ثَبَتَ أَنَّهَا مَقْرُوءَةٌ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَانَتْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ حُرْمَةً وَاحِدَةً وَجَمِيعُ أَفْعَالِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى التَّحْرِيمَةِ، صَارَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ كَالْفِعْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ وَإِنْ طَالَ، كَالِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ، وَكَمَا لَمْ تُعَدْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، كَذَلِكَ حُكْمُهَا مَعَ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَالرَّكَعَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفَصْلِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا عِنْدَ كُلَّ سُورَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِرَاءَتِهَا عَلَى حَسَبِ مَوْضُوعِهَا قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْفَصْلَ قَدْ عُرِفَ بِنُزُولِهَا. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِي الِابْتِدَاءَ بِهَا تَبَرُّكًا; وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاء الصَّلَاةِ، وَلَا صَلَاةَ هُنَاكَ مُبْتَدَأَةٌ فَيُقْرَأُ مِنْ أَجْلِهَا، فَلِذَلِكَ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَوَّلِهَا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ لَهَا قِرَاءَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَنُوبُ عَنْهَا الْقِرَاءَةُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَمِنْ حَيْثُ اُحْتِيجَ إلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا صَارَتْ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْمَسْنُونُ فِيهَا قِرَاءَتُهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى; كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الثَّانِيَةِ; إذْ كَانَ فِيهَا ابْتِدَاءُ قِرَاءَةٍ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ لِأَنَّهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ حُكْمُ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا دَوَامٌ عَلَى فِعْلٍ قَدْ ابْتَدَأَهُ، وَحُكْمُ الدَّوَامِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَالرُّكُوعِ إذَا أَطَالَهُ، وَكَذَلِكَ السُّجُودُ وَسَائِرُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الدَّوَامُ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِد مِنْهَا حُكْمُهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، حَتَّى إذَا كَانَ الِابْتِدَاءُ فَرْضًا كَانَ مَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِهِ. وَأَمَّا مَنْ رَأَى إعَادَتَهَا عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ فَإِنَّهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ لَمْ يَجْعَلهَا مِنْ السُّورَةِ، وَالْآخَرُ مَنْ جُعَلَهَا مِنْ أَوَائِلِهَا فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا مِنْ أَوَائِلِهَا فَإِنَّهُ رَأَى إعَادَتَهَا كَمَا يَقْرَأَ سَائِرَ آيِ السُّورَةِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهَا مِنْ السُّورَةِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ سُورَةٍ كَالصَّلَاةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَيَبْتَدِئُ فِيهَا بِقِرَاءَتِهَا كَمَا فَعَلَهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ; لِأَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ

قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بَدَأَ بِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ قَبْلَهَا سُورَةً غَيْرَهَا. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ آنِفًا" ثُمَّ قَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] إلَى آخِرِهَا حَتَّى خَتَمَهَا. وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ كَانَ يَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِهَا، وَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ أُمَّ الْقُرْآنِ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَيَفْتَتِحُ السُّورَةَ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أَمَّا إبْرَاهِيمُ فَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] حَتَّى إذَا خَتَمَهَا وَصَلَ بِخَاتِمَتِهَا {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فَصْلٌ أَمَّا الْجَهْرُ بِهَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالثَّوْرِيَّ قَالُوا: يُخْفِيهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْهَرُ بِهَا. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ; فَرَوَى عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَجَهَرَ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُخْفِيهَا ثُمَّ يَجْهَرُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَى عَنْهُ أَنَسٌ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يُسِرُّونَ قِرَاءَةَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لَا يَجْهَرُونَ بِهَا وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يُسِرَّانِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ. وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: جَهْرُ الْإِمَامِ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ. وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قَالَ: ذُكِرَ لِعِكْرِمَةَ الْجَهْرُ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَنَا إذَا أَعْرَابِيٌّ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: الْجَهْرُ فِي الصَّلَاةِ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ، قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ الْجَهْرِ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْأَعْرَابُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا; وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَهْرِ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: ذَلِكَ فِعْلُ الْأَعْرَابِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَدَّهَا آيَةً، وَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ تَمَامُ السَّبْعِ الْمَثَانِي، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ لَا يَجْهَرَانِ بـ {بِسْمِ اللَّهِ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَلَا بِالتَّعَوُّذِ وَلَا بِآمِينَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَرَوَى أَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يُسِرُّونَ، وَفِي بَعْضِهَا: كَانُوا يُخْفُونَ; وَجَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ حَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَيَخْتِمُهَا بِالتَّسْلِيمِ. حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "مَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ". فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ عِنْدَك أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعِهَا فَالْوَاجِبُ الْجَهْرُ بِهَا كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقُرْآنِ; إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. قِيلَ لَهُ: إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا، جَازَ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] الْآيَةَ هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَمَنْ اسْتَفْتَحَ بِهِ الصَّلَاةَ لَا يَجْهَرُ بِهِ، مَعَ الْجَهْرِ بِسَائِرِ الْقِرَاءَةِ، كذلك ما وصفناه. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ; إذْ لَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَجَهَرَ بِهَا كَجَهْرِهِ بِسَائِرِهَا فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثُمَّ لَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَيَقْرَأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَبِمَا رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا; لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَرَأَهَا، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ جَهَرَ بِهَا وَإِنْ قَرَأَهَا، وَكَانَ عِلْمُ الرَّاوِي بِقِرَاءَتِهَا إمَّا مِنْ جِهَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَهَا لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ في

الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلَمْ يَسْكُتْ", وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ; وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا لَمْ يُجْهَرْ بِهَا; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَعُدُّهَا آيَةً مِنْهَا لَا يَجْهَرُ بِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ مُعَلَّى أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا فَفِي هَذَا الْخَبَر أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَهْرٍ وَلَا إخْفَاءٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا; وَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجْهَرُ بِهَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا بِكَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ غَيْرَ جَاهِرٍ بِهَا، فَسَمِعَتْهُ لِقُرْبِهَا مِنْهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ صَلَاةَ فَرْضٍ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بَلْ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ وَجَائِزٌ عِنْدَنَا لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَقْرَأَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ جَهْرٍ أَوْ إخْفَاءٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ فَإِنَّ جَابِرًا مِمَّنْ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ لِأُمُورٍ حُكِيَتْ عَنْهُ تُسْقِطُ رِوَايَتَهُ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ عَلَى مَا حُكِيَ، وَكَانَ يَكْذِبُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَرْوِيهِ; وَقَدْ كَذَّبَهُ قَوْمٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا; وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ لَمَا خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَخْبَارُ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ظُهُورُ عَمَلِ السَّلَفِ بِالْإِخْفَاءِ دُونَ الْجَهْرِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَأُنْسُ بْنُ مَالِكٍ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ: الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ؛ إذْ كَانَ مَتَى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا كَانَ الَّذِي ظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي سَائِرِ الْقِرَاءَةِ; فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ; إذْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ بِهَا كَهِيَ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ فِي سَائِرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ اُحْتُجَّ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ وَلَمْ يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَلَمْ يُكَبِّرْ إذَا خَفَضَ وَإِذَا رَفَعَ، فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ سَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ: أَيْ مُعَاوِيَةُ سَرَقْتَ الصلاة، أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وَأَيْنَ التَّكْبِيرُ إذَا خَفَضْت وَإِذَا رَفَعْت؟ فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً أُخْرَى فَقَالَ فِيهَا ذَلِكَ الَّذِي عَابُوا عَلَيْهِ; قَالَ فَقَدْ عَرَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارِ الْجَهْرَ بِهَا قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْت لَعَرَفَهُ أَبُو بَكْرٍ

وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ الْإِخْفَاءَ دُونَ الْجَهْرِ، وَلَكَانَ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِعِلْمِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى". وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي حَالَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْقَوْمِ الْمَجْهُولِينَ الَّذِينَ ذَكَرْت، وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِفَاضَةٍ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إنَّمَا رَوَيْته مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْجَهْرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَنَحْنُ أَيْضًا نُنْكِرُ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَيُّهُمَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا قَوْلُهُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : الْأَمْرُ بِاسْتِفْتَاحِ الْأُمُورِ لِلتَّبَرُّكِ بِذَلِكَ، وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَذِكْرُهَا عَلَى الذَّبِيحَةِ شِعَارٌ وَعَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَمَّى اللَّهَ الْعَبْدُ عَلَى طَعَامِهِ لَمْ يَنَلْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ مَعَهُ وَإِذَا لَمْ يُسَمِّهِ نَالَ مِنْهُ مَعَهُ"، وَفِيهِ إظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَفْتَتِحُونَ أُمُورَهُمْ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَهُوَ مَفْزَعٌ لِلْخَائِفِ، وَدَلَالَةٌ مِنْ قَائِلِهِ عَلَى انْقِطَاعِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلُجُوئِهِ إلَيْهِ، وَأُنْسٌ لِلسَّامِعِ، وَإِقْرَارٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَاعْتِرَافٌ بِالنِّعْمَةِ، وَاسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَعِيَاذَةٌ بِهِ، وَفِيهِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْصُوصَةِ بِهِ لَا يُسَمَّى بِهِمَا غَيْرُهُ، وَهُمَا اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ.

بَابٌ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ غَيْرَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَيُجْزِيهِ صَلَاتُهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إذَا لَمْ يَقْرَأْ أُمَّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَعَادَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَعَادَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا. وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، قَالَ: اقْرَأْ مِنْهُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَلِيلٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ نَسِيَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ يَضُرَّ، وَتُجْزِيهِ. وَرَوَى

وَكِيعٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ جَابِرَ بْن زَيْدٍ قَامَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] ثُمَّ رَكَعَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ التَّمَامِ لَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ; إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِهَا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ تَرْكِ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا، قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَمَعْنَاهُ قِرَاءَةُ الْفَجْرِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ; وَالْأَمْرُ عَلَى الْإِيجَابِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ; إذْ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيضا قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَالْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] إلى قوله {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ فِي الليل. وقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} عُمُومٌ عِنْدَنَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالْفَرَائِضِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الصَّلَاةِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ حِينَ لَمْ يُحْسِنْهَا فَقَالَ لَهُ: "ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ". وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْقُرْآنِ; لِأَنَّا مَتَى وَجَدْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَم بِذَلِكَ عَنْ الْقُرْآنِ، كَقَطْعِهِ السَّارِقَ وَجَلْدِهِ الزَّانِيَ وَنَحْوِهَا ثُمَّ لَمْ يُخَصِّصْ نَفْلًا مِنْ فَرْضٍ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا، وَعَلَى أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ فِي شَأْنِ صَلَاةِ اللَّيْلِ لَوْ لَمْ يُعَاضِدْهُ الْخَبَرُ لَمْ يَمْنَعْ لُزُومَ حُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِض وَالنَّوَافِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِثْلُهَا، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنَّ مَا جَازَ فِي النَّفْلِ جَازَ فِي الْفَرْضِ مِثْلُهُ، كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هُمَا مُخْتَلِفَانِ عِنْدَكَ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَك فِي الْفَرْضِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي النَّفْلِ إذَا صَلَّاهَا قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ آكَدُ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْفَرْضِ، فَإِذَا جَازَ النَّفَلُ مَعَ تَرْكِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَالْفَرْضُ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ أَوْجَبَ فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْجَبَهَا فِي

الْآخَرِ، وَمَنْ أَسْقَطَ فَرْضَهَا فِي أَحَدِهِمَا أَسْقَطَهُ فِي الْآخَرِ فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ النَّفْلِ بِغَيْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْفَرْضِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِهَا بِالْآيَةِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اقْرَأْ مَا شِئْت أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلِ: بِعْ عَبْدِي هَذَا بِمَا تَيَسَّرَ، أَنَّهُ مُخَيِّرٌ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَهُ بِمَا رَأَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُهُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ; لِأَنَّ فِيهِ نَسْخَ مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ وُقُوعِ الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ مَا يُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي ذَبْحِهِ أَيُّهَا شَاءَ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رَفْعُ حُكْمِهَا مِنْ التَّخْيِيرِ وَلَا نَسْخُهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّخْصِيصُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ وَرَدَ أَثَرٌ فِي قِرَاءَةِ آيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُ الْآيَةِ; لِأَنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي أَنْ يَقْرَأَ أَيُّهَا شَاءَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ فإن قال قائل: قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} يُسْتَعْمَلُ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ لَهَا، قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا الَّتِي لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي جَمِيعِ مَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوز تَخْصِيصُهُ فِي بَعْضِ مَا يُقْرَأْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ} أَمْرٌ، وَحَقِيقَتُهُ وَمُقْتَضَاهُ الْوَاجِبُ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى النَّدْبِ مِنْ الْقِرَاءَةِ دُونَ الْوَاجِبِ مِنْهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ" فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ" حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ

فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: ثُمَّ اقْرَأْ مَا شِئْت وَفِي الثَّانِي: مَا تَيَسَّرَ فَخَيَّرَهُ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا شَاءَ. وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَرْضًا لَعَلَّمَهُ إيَّاهَا مَعَ عِلْمِهِ بِجَهْرِ الرَّجُلِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِ عَلَى بَعْضِ فُرُوضِ الصَّلَاةِ دُون بَعْضٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا لَيْسَتْ بِفَرْضِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَزَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ سَيَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ يُقْرَأُ فِيهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ". وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ عَنْ مَخْلَدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا قُمْت فَتَوَجَّهْت إلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ" وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، فَذَكَرَ فِيهِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَخْبَارِ الْأُخَرِ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ بِمَا تَيَسَّرَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِالْآخَرِ; إذْ كَانَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يُقْرَأُ، وَذَكَرَ فِي الْآخَرِ الْأَمْرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَأَثْبُت التَّخْيِيرَ فِيمَا عَدَاهَا بِقَوْلِهِ: "وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ" بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَخْبَارِ الْأُخَرِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَلِأَنَّ فِي خَبَرِنَا زِيَادَةً، وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ بِلَا تَخْيِيرٍ. قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا عَلَى الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا ادَّعَيْت، لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ نَقُولَ: التَّخْيِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْخَبَرِ الْمُطْلَقِ حُكْمُهُ ثَابِتٌ فِي الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ التَّخْيِيرُ عَامًّا فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ إنْ شِئْت وَبِمَا سِوَاهَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ زِيَادَةِ التَّخْيِيرِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، دُونَ تَخْصِيصِهِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُخْرُجْ فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ". وَقَوْلُهُ: "لَا صَلَاةَ إلَّا بِالْقُرْآنِ" يَقْتَضِي جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: "وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ". يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ

فَرْضُ الْقِرَاءَةِ مُتَعَيِّنًا بِهَا لَمَا قَالَ: "وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ" وَلَقَالَ: بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ" وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي السَّنَدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوهِنُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَمِنْ أَبِي السَّائِبِ جَمِيعًا فَلَمَّا قَالَ: "فَهِيَ خِدَاجٌ" وَالْخِدَاجُ النَّاقِصَةُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ جَائِزَةً لَمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَ النُّقْصَانِ; لِأَنَّ إثْبَاتَهَا نَاقِصَةً يَنْفِي بُطْلَانَهَا; إذْ لَا يَجُوزُ الْوَصْفُ بِالنُّقْصَانِ لِمَا لَمْ يَثْبُتُ مِنْهُ شَيْءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلنَّاقَةِ إذَا حَالَتْ فَلَمْ تَحْمِلْ: إنَّهَا قَدْ أَخَدَجَتْ، وَإِنَّمَا يُقَالَ: أَخَدَجَتْ وَخَدَجَتْ، إذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا نَاقِصَ الْخِلْقَةِ أَوْ وَضَعَتْهُ لِغَيْرِ تَمَامٍ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ; فَأَمَّا مَا لَمْ تَحْمِل فَلَا تُوصَفُ بِالْخِدَاجِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ; إذْ النُّقْصَانُ غَيْرُ نَافٍ لِلْأَصْلِ، بَلْ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَصْلِ حَتَّى يَصِحَّ وَصْفُهَا بِالنُّقْصَانِ وَقَدْ رَوَى أَيْضًا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ" فَأَثْبَتَهَا نَاقِصَةً، وَإِثْبَاتُ النُّقْصَانِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَصْلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا خُمُسُهَا عُشْرُهَا" فَلَمْ يَبْطُلْ جُزْءٌ بِنُقْصَانِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ عِجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ" وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَارِضُ حَدِيثَ مَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ فِي ذِكْرِهِمَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ دُونِ غَيْرِهَا، وَإِذَا تَعَارَضَا سَقَطَا، فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا نَاقِصَةً إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ بِمُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ، بَلْ السَّهْوُ وَالْإِغْفَالُ أَجْوَزُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى رِوَايَتِهِمَا بِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَارُضٌ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهُمَا جَمِيعًا، قَالَ مَرَّةً: وَذَكَرَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَذَكَرَ مَرَّةً أُخْرَى الْقِرَاءَةَ مُطْلَقَةً. وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْإِطْلَاقِ مَا قَيَّدَهُ فِي خَبَرِ هَذَيْنِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا جَوَّزْت أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ الْأَمْرَيْنِ، فَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ رَأْسًا; لِإِثْبَاتِهِ إيَّاهَا نَاقِصَةً مَعَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ رَأْسًا. قِيلَ لَهُ: نَحْنُ نَقْبَلُ هَذَا السُّؤَالَ، وَنَقُولُ كَذَلِكَ: يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْخَبَرَيْنِ; إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ يُفْسِدُهَا، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ الْآخَرِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ يَرَاهَا فَرْضًا فَمِنْهَا حَدِيثُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا، لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَلَمَّا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضَهَا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا عَبَّرَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَأَرَادَ قِرَاءَةَ صَلَاةِ الْفَجْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِهَا، وَكَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ فَقَالَ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِهَا. قِيلَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ الْعِبَارَةُ عَنْهُمَا لِمَا ذَكَرْت مُوجِبًا لِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ فِيهَا دُون مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: "قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي" أَمْرٌ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الصَّلَاةُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِيجَابِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى النَّوَافِلِ وَالْفُرُوضِ. وَقَدْ أَفَادَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَفْيَ إيجَابِهَا; لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: "فَمَنْ لَمْ يَقْرَأ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ" فَأَثْبَتَهَا نَاقِصَةً مَعَ عَدَمِ قِرَاءَتِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَسْخَ أَوَّلِ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَذِكْرُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَتُهَا فَرْضًا فِيهَا. وَهَذَا كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ بْن أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعِ ابْنِ الْعَمْيَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَادِعَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، وَتَشَهُّدٌ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَتَبَأُّسٌ وَتَمَسْكُنٌ وَتَقَنُّعٌ لِرَبِّك، وَتَقُولُ اللَّهُمَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهِيَ خِدَاجٌ" وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّاهُ صَلَاةً مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَرْضًا فِيهَا. وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُخَالِفُونَ أَيْضًا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" وَبِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُنَادِيَ أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْأَصْل وَنَفْيَ الْكَمَالِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عِنْدَنَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا; لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ نَفْيَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ، وَإِثْبَاتَ النُّقْصَانِ فَلَا مَحَالَةَ بَعْضُهُ ثَابِتٌ، وَإِرَادَتُهُمَا مَعًا مُنْتَفِيَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ ذلك إسقاط التخيير في قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا

تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَذَلِكَ نَسْخٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَابْنُ فُضَيْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: "لَا تَجْزِي صَلَاةٌ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ب الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٌ فِي الْفَرِيضَةِ وَغَيْرِهَا". إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَعَهَا غَيْرُهَا. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا صَلَاةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ نَفْيُ الْكَمَالِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا مُجْزِيَةٌ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ مَعَهَا غَيْرَهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ وَإِيجَابَ النُّقْصَانِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الْأَصْلِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ لِتَضَادِّهِمَا وَاسْتِحَالَةِ إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَرَّةً "لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" فَأَوْجَبَ بِذَلِكَ قِرَاءَتَهَا وَجَعْلَهَا فَرْضًا فِيهَا، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَا ذَكَرَهُ سَعِيدٌ مِنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَشَيْءٍ مَعَهَا، وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ إذَا لَمْ يَقْرَأْ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ غَيْرَهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعَكَ تَارِيخُ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالَيْنِ، وَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ وَلِمُخَالِفِك أَنْ يَقُولَ: لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ اللَّفْظَانِ جَمِيعًا، جَعَلْتهمَا حَدِيثًا وَاحِدًا سَاقَ بَعْضُ الرُّوَاةِ لَفْظَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَغْفَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَلْفَاظِهِ، وَهُوَ ذِكْرُ السُّورَةِ، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ حِينَئِذٍ، وَيَثْبُتُ الْخَبَرُ بِزِيَادَةٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ لِقَوْلِ خَصْمِك مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِك، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِوُجُودِهِمَا مَعًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِد بِزِيَادَةِ السُّورَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ ذِكْرِ السُّورَةِ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إثْبَاتَ النَّقْصِ، حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَلَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ" وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12-13] فَنَفَاهَا بَدْءًا وَأَثْبَتَهَا ثَانِيًا; لِأَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ لَا نَفْيَ الْأَصْلِ، أَيْ: لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً فَيَفُونَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلَّا اسْتَعْمَلْت الْأَخْبَارَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَاسْتَعْمَلْت التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ قِيلَ لَهُ: لَوْ انْفَرَدَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ الْآيَةِ، لَمَا كَانَ فِيهَا مَا يُوجِبُ فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ فِيهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا إثْبَاتَ الْأَصْلِ مَعَ تَرْكِهَا، وَاحْتِمَالُ سَائِرِ الْأَخْبَارِ الْأُخَرِ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالَ. وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِتَعْيِينِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى الْآيَةِ وَصَرْفُهَا عَنْ الْوَاجِبِ إلَى النَّفْلِ فِيمَا عَدَا الْكِتَابَ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ فَإِنَّك تَجِدُهُ كافيا إن شاء الله تعالى.

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِهَا تَقْتَضِي أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا بِفِعْلِ الْحَمْدِ، وَتَعْلِيمٌ لَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ وَكَيْفَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَكَيْفَ الدُّعَاء لَهُ؟ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الدُّعَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِالْإِجَابَةِ; لِأَنَّ السُّورَةَ مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْحَمْدِ ثُمَّ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثُمَّ الِاعْتِرَافِ بِالْعِبَادَةِ لَهُ وَإِفْرَادِهَا لَهُ دُونَ غيره بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ثُمَّ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي الْقِيَامِ بِعِبَادَتِهِ فِي سَائِرِ مَا بِنَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدنيا والدين، وهو قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثُمَّ الدُّعَاءِ بِالتَّثْبِيتِ عَلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي هَدَانَا لَهَا مِنْ وُجُوبِ الْحَمْدِ لَهُ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ والعبادة; لأن قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هُوَ دُعَاءٌ لِلْهِدَايَةِ وَالتَّثْبِيتِ عَلَيْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي; وَهُوَ التَّوْفِيقُ عَمَّا ضَلَّ عَنْهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقُّوا لِذَلِكَ غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَنَا الْحَمْدَ، هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِهِ، قَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَوْلِ الْحَمْدِ مُضْمَرٌ فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ، وَهُوَ مَعَ مَا ذَكَرْنَا رُقْيَةٌ وَعَوْذَةٌ وَشِفَاءٌ، لِمَا حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْبَاقِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُعَلَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فَمَرَرْنَا بِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالُوا: سَيِّدٌ لَنَا لَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ، فَهَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ قَالَ: قُلْت: أَنَا، وَلَمْ أَفْعَلَ حَتَّى جَعَلُوا لَنَا جَعْلًا، جَعَلُوا لَنَا شَاةً قَالَ: فَقَرَأْت عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَبَرَأَ; فَأَخَذْت الشَّاةَ، ثُمَّ قُلْت: حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: "عَلِمْت أَنَّهَا رُقْيَةُ حَقٍّ اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ". وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَسْمَاءٌ مِنْهَا أُمُّ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا ابْتِدَاؤُهُ قَالَ الشَّاعِرُ: الْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا فَسَمَّى الْأَرْضَ أُمًّا لَنَا لِأَنَّهُ مِنْهَا ابْتَدَأَنَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ، وَإِحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ تُغْنِي عَنْ الْأُخْرَى; لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: أُمُّ الْكِتَابِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ; فَقِيلَ تَارَةً أُمُّ الْقُرْآنِ وَتَارَةً أُمُّ الْكِتَابِ، وَقَدْ رُوِيَتْ الْعِبَارَةُ بِاللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ السَّبْعِ الْمَثَانِي، فَقَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالسَّبْعِ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، وَمَعْنَى الْمَثَانِي أَنَّهَا تُثْنَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَنِهَا، وَلَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ إعَادَتُهُ فِي كُلِّ ركعة.

وَمِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ صِفَات الْمُتَّقِينَ وَمِنْ شَرَائِط التَّقْوَى; كَمَا جَعَلَ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَسَائِرِ مَا لَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ وُجُوهٌ: مِنْهَا إتْمَامُهَا مِنْ تَقْوِيمِ الشَّيْءِ وَتَحْقِيقِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] . وَقِيلَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَغَيْرِهِ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ; لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ فُرُوضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوضٍ غيره، كقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الَّتِي فِيهَا الْقِرَاءَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] الْمُرَادُ الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] وَقَوْلُهُ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَقَوْلُهُ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] فَذَكَرَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِهَا، وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فِيهَا وَعَلَى إيجَابِ مَا هُوَ من فروضها، فصار قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} مُوجِبًا لِلْقِيَامِ فِيهَا وَمُخْبَرًا بِهِ عَنْ فَرْضِ الصلاة ويحتمل {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} يُدِيمُونَ فُرُوضَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] يَعْنِي يُقِيمُ الْقِسْطَ وَلَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الرَّاتِبِ الدَّائِمِ: قَائِمٌ، وَفِي فَاعِلِهِ: مُقِيمٌ يُقَالُ: فُلَان يُقِيمُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَتْ السُّوقُ، إذَا حَضَرَ أَهْلُهَا; فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الِاشْتِغَالَ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَمِنْهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بِالْآيَةِ وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فِي فَحْوَى الْخِطَابِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ النَّفَقَةِ، وَهِيَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] وَقَوْلُهُ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ} [البقرة: 195] وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا أَنَّهُ قَرَنَهَا إلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَجَعَلَ هَذَا الْإِنْفَاقَ مِنْ شَرَائِط التَّقْوَى وَمِنْ أَوْصَافِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ أَوْ شَرْطٍ يَقْتَضِي الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةَ الْمَفْرُوضَةَ كَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَرَادَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَمَّا مَدَحَ هَؤُلَاءِ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الرِّزْقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُبَاحَ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ، وَأَنَّ مَا اغْتَصَبَهُ وَظَلَمَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رِزْقًا لَهُ لَجَازَ إنْفَاقُهُ وَإِخْرَاجُهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْغَاصِبَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِمَا اغْتَصَبَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ". وَالرِّزْقُ الْحَظُّ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] أَيْ حَظَّكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ التَّكْذِيبَ بِهِ، وَحَظُّ الرَّجُلِ هُوَ نَصِيبُهُ، وَمَا هُوَ خَالِصٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ، وَهُوَ الْمُبَاحُ الطَّيِّبُ. وَلِلرِّزْقِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَقْوَاتِ الْحَيَوَانِ; فَجَائِزٌ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُ قُوتًا وَغِذَاءً. وقَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْبَارُهُ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ عَقِيدَةٍ وَإِظْهَارِ الْكُفْرِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي اُطُّلِعَ مِنْهُ عَلَى إسْرَارِ الْكُفْرِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَبُولِ ظَاهِرِهِمْ دُونِ مَا عَلِمَهُ هُوَ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَرَضَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ بَعْد الْهِجْرَةِ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَسُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِمَا فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبُولِ ظَاهِرِهِمْ دُونَ حَمْلِهِمْ عَلَى أَحْكَام سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ وَإِذَا انْتَهَيْنَا إلَى مَوَاضِعِهَا ذَكَرْنَا أَحْكَامَهَا وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الزِّنْدِيقِ وَاحْتِجَاجَ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا

بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" وَأَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ قَتَلَ فِي بَعْض السَّرَايَا رَجُلًا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، حِين حَمَلَ عَلَيْهِ لِيَطْعَنَهُ، فَقَالَ: "هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ" يَعْنِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عَقْدِ الضَّمِيرِ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ الْإِقْرَارَ دُونَ الِاعْتِقَادِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ إقْرَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَنَفَى عَنْهُمْ سَمْتَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ. وَالنِّفَاقُ اسْمٌ شَرْعِيُّ جُعِلَ سِمَةً لِمَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، خُصُّوا بِهَذَا الِاسْم لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ إذْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لِسَائِرِ الْمُبَادِينَ بِالشِّرْكِ فِي أَحْكَامِهِمْ. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَهُوَ الْجُحْرُ الَّذِي يَخْرُج مِنْهُ إذَا طُلِبَ; لِأَنَّ لَهُ أَجْحُرَةٌ 1 يَدْخُلُ بَعْضُهَا عِنْدَ الطَّلَبِ ثُمَّ يُرَاوِغُ الَّذِي يُرِيدُ صَيْدَهُ فَيَخْرُجُ مِنْ جُحْرٍ آخَرَ قَدْ أَعَدَّهُ. وقَوْله تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} هُوَ مَجَازٌ فِي اللُّغَةِ; لِأَنَّ الْخَدِيعَةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْإِخْفَاءُ; وَكَأَنَّ الْمُنَافِقَ أَخْفَى الْإِشْرَاكَ وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ عَلَى وَجْهِ الْخِدَاعِ وَالتَّمْوِيهِ وَالْغُرُورِ لِمَنْ يُخَادِعُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخَادَعَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَيْسَ يَخْلُو هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَادَعُ بِتَسَاتُرِ شَيْءٍ، أَوْ غَيْرَ عَارِفِينَ، فَذَلِكَ أَبْعَدُ; إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْصِدَهُ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا عَمَلَ الْمُخَادِعِ، وَوَبَالُ الْخِدَاعِ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ إنَّمَا يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَقِيلِ: إنَّ الْمُرَادَ: يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُذِفَ ذِكْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:57] وَالْمُرَادُ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَهُوَ مَجَازٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا خَادَعُوا رَسُولَ اللَّهِ تَقِيَّةً لِتَزُولَ عَنْهُمْ أَحْكَامُ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِقَتْلِهِمْ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُوَالُوهُمْ كَمَا يُوَالِي الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَوَاصَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ لَهُمْ الْإِيمَانَ لِيُفْشُوا إلَيْهِمْ أَسْرَارَهُمْ فَيَنْقُلُوا ذَلِكَ إلَى أَعْدَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} مَجَازٌ; وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا عَلَى جِهَةِ مُقَابَلَةِ الْكَلَامِ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ في معناه، كقوله تعالى:

_ 1 هكذا في النسخ التي بأيدينا وصوابه حجرة.

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . وَالثَّانِيَةُ لَيْسَتْ بِسَيِّئَةٍ بَلْ حَسَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَابَلَ بِهَا السَّيِّئَةَ أَجْرَى عَلَيْهَا اسْمَهَا وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَالثَّانِي لَيْسَ بِاعْتِدَاءٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِعِقَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مُقَابَلَةِ اللَّفْظ بِمِثْلِهِ وَمُزَاوَجَتِهِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِجَزَاءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَدِحْ بِالْجَهْلِ، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ازْدِوَاجِ الْكَلَامِ وَمُقَابَلَتِهِ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ أَطْلَقَهُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ; وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَبَالُ الِاسْتِهْزَاءِ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ وَلَاحِقًا لَهُمْ كَانَ كَأَنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانُوا قَدْ أُمْهِلُوا فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُعَاجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ وَالْقَتْلِ كَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَأَخَّرَ عِقَابَهُمْ فَاغْتَرُّوا بِالْإِمْهَالِ كَانُوا كالمستهزأ بهم.

مطلب في أن عقوبة الدنيا غير مَوْضُوعَةً عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى ما يعلمه الله تعالى من المصالح فيها وَلَمَّا كَانَتْ أَجْرَامُ الْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ مِنْ أَجْرَامِ سَائِرِ الْكُفَّارِ الْمُبَادِينَ بِالْكُفْرِ; لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الِاسْتِهْزَاءَ والمخادعة بقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} وقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وَمَعَ مَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِنْ عِقَابِهِمْ وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي الْآخِرَةِ، خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامِ سَائِرِ الْمُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ فِي رَفْعِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَجْرَاهُمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ. ثَبَتَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ فَأَوْجَبَ رَجْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَلَمْ يُزِلْ عَنْهُ الرَّجْمَ بِالتَّوْبَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَاعِزٍ بَعْد رَجْمِهِ وَفِي الْغَامِدِيَّةِ بَعْد رَجْمِهَا: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ". وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا، وَلَوْ كَفَرَ رَجُلٌ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَحَكَمَ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّنَا بِجَلْدِ ثَمَانِينَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْقَاذِفِ بِالْكُفْرِ الْحَدَّ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا، وَأَوْجَبَ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ الْحَدَّ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى شَارِبِ الدَّمِ وَآكِلِ الْمَيْتَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يُوجِبَ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ حَدًّا رَأْسًا وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إلَى عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ، جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا فَيُوجِبَ فِي بَعْضِهَا أَغْلَظَ مِمَّا يُوجِبُ فِي بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا

يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ. وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِقْرَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ لَنَا بِقِتَالِهِمْ أَصْلٌ فِيمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا مِنْ فِعْلِ الْإِمَامِ وَمَنْ قَامَ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى مَا يَفْعَلُهُ هُوَ تَعَالَى مِنْ الْآلَامِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ لَا يُعَاقِبَ الْمُنَافِقَ فِي الدُّنْيَا بِالْآلَامِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، بَلْ يَفْعَلُ بِهِ أَضْدَادَ ذَلِكَ، وَيَكُونَ عِقَابُهُ الْمُسْتَحِقَّ بِكُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ مُؤَجَّلًا إلَى الْآخِرَةِ، جَازَ أَنْ لَا يَتَعَبَّدَنَا بِقَتْلِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَعْجِيلِ عُقُوبَةِ كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ. وَقَدْ غَبَّرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكَّةَ بَعْدَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُو الْمُشْرِكِينَ إلَى اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ بِقِتَالِهِمْ، بَلْ كَانَ مَأْمُورًا بِدُعَائِهِمْ فِي ذَلِكَ بِأَلْيَنِ الْقَوْلِ وَأَلْطَفِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَالَ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] وَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 – 35] فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ فَرَضَ الْقِتَالَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمَصْلَحَةِ مِنْ كِلَا الْحَالَيْنِ بِمَا تَعَبَّدَ بِهِ، فَجَازَ مِنْ أَصْلِ مَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْمُجَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ دُونَ مِنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُنَافِقُ أَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ غَيْرِهِ. وقَوْله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} يَعْنِي وَاَللَّه أَعْلَمُ قَرَارًا، كَقَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً} [غافر: 64] وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ: 6] فَسَمَّاهَا فِرَاشًا; وَالْإِطْلَاقُ لَا يَتَنَاوَلُهَا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مُقَيَّدًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ: 7] وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَوْتَادِ لَا يُفِيدُ الْجِبَالَ، وَقَوْلُهُ: {الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16] وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ فَقَعَدَ فِي الشَّمْسِ; لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ الْأَسْمَاءِ. وَلَيْسَ فِي الْعَادَة إطْلَاقُ هَذَا الِاسْم لِلْأَرْضِ وَالشَّمْسِ. وَهَذَا كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجَاحِدُ لَهُ كَافِرًا، وَسَمَّى الزَّارِعَ كَافِرًا، وَالشَّاكِّ السِّلَاحَ كَافِرًا، وَلَا يَتَنَاوَلُهُمَا هَذَا الِاسْمُ فِي الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ كَثِيرَةٌ، وَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَمَا كَانَ فِي الْعَادَةِ مُطْلَقًا فُهِمَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ فِيهَا عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ مَوْضِعَهُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ السَّمَاءِ وَوُقُوفُهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ، ثُمَّ دَوَامُهَا عَلَى طُولِ الدَّهْرِ غَيْرَ مُتَزَايِلَةٍ وَلَا مُتَغَيِّرَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] . وَكَذَلِكَ ثَبَات الْأَرْضِ وَوُقُوفُهَا عَلَى غَيْرِ سَنَدٍ 1 فِيهِ أَعْظَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَفِيهَا. تَنْبِيهٌ وَحَثٌّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى اللَّهِ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} نَظِيرُ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 13] وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] يُحْتَجُّ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِمَّا لَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ، فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِيهِ أَكْبَرُ دَلَالَةٍ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَرَعَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مَوْصُوفٌ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ، فَلَمْ يُعَارِضْهُ مِنْهُمْ خَطِيبٌ، وَلَا تَكَلَّفَهُ شَاعِرٌ، مَعَ بَذْلِهِمْ الْأَمْوَالَ وَالْأَنْفُسَ فِي تُوهِينِ أَمْرِهِ، وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ، وَكَانَتْ مُعَارَضَتُهُ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهَا أَبْلَغَ الْأَشْيَاءِ فِي إبْطَالِ دَعْوَاهُ وَتَفْرِيقِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ; فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْعِبَادِ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا أَكْبَرُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ أَنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] وَقَالَ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فَتَحَدَّاهُمْ بِالنَّظْمِ دُونَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَظْهَرَ عَجْزَهُمْ عَنْهُ فَكَانَتْ هَذِهِ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نُبُوَّةَ نَبِيِّهِ وَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ; لِأَنَّ سَائِرَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ تَقَضَّتْ بِانْقِضَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً مِنْ طَرِيقِ الْأَخْبَارِ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ بَعْدَهُ، كُلُّ مَنْ اعْتَرَضَ عليها بعد قرعناه بالعجز عنه،

_ 1 قوله "ثبات الأرض ووقفها على غير سند فيه صراحة قطعية بأن الأرض موقوفة على متن الهواء كما هو مصرح في كلام علي رضي الله عنه في كتاب نهج البلاغة وأما ما ذكره بعض المتأخرين في كتبهم من حديث الصخرة والثور فلا يصح شيء منه أصلا بل هي أخبار ملفقة مأخوذة من الأخبار الاسرائيلية فلا يجوز الاعتماد عليها ولا الركون إليها "لمصححه".

فَتَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَثْبِيتِ النُّبُوَّةِ، كَمَا كَانَ حُكْمُ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنْ لُزُومِ الْحُجَّةِ بِهِ وَقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِنْدَ الْجَاحِدِينَ لِنُبُوَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَتَمِّ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَكْمَلِهِمْ خُلُقًا، وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيَا، فَمَا طَعَنَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي كَمَالِ عَقْلِهِ وَوُفُورِ حِلْمِهِ وَصِحَّةِ فَهْمِهِ وَجَوْدَةِ رَأْيِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ قَدْ أَرْسَلَهُ إلَى خَلْقِهِ كَافَّةً، ثُمَّ جَعَلَ عَلَامَةَ نُبُوَّتِهِ وَدَلَالَةَ صِدْقِهِ كَلَامًا يُظْهِرُهُ وَيَقْرَعُهُمْ بِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ، فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ كَذِبُهُ وَبُطْلَانُ دَعْوَاهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَدَّاهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُقَرِّعهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ إلَّا وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى مِثْلِهِ. الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التلاوة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُعَارِضُونَهُ وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَوُجِدَ مُخْبِرُهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَلَا تَتَعَلَّقُ هَذِهِ بِإِعْجَازِ النُّظُمُ، بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فِي تَصْحِيحِ نُبُوَّتِهِ; لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي أَنَّكُمْ مَعَ صِحَّةِ أَعْضَائِكُمْ وَسَلَامَةِ جَوَارِحُكُمْ لَا يَقَعُ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَمَسَّ رَأْسَهُ وَأَنْ يَقُومَ مِنْ مَوْضِعِهِ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، مَعَ سَلَامَةِ أَعْضَائِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ; إذْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا كَوْنُهُ مِنْ قِبَلِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ تَحَدَّى اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ قَالَ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فَلَمَّا عَجَزُوا قَالَ: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] . فَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ وَأَعْرَضُوا عَنْ طَرِيق الْمُحَاجَّةِ وَصَمَّمُوا عَلَى الْقِتَالِ وَالْمُغَالَبَةِ أَمَرَ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِقِتَالِهِمْ وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : إنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَصْنَامَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ مِنْ يُصَدِّقُكُمْ وَيُوَافِقُكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ عَجْزَ الْجَمِيعِ عَنْهُ فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ، كَقَوْلِهِ: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . فَقَدْ انْتَظَمَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ مِنْ ابْتِدَائِهَا إلَى حَيْثُ انْتَهَيْنَا إلَيْهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْأَمْرُ

والتبدئة بِسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعْلِيمُنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءَ لَهُ، وَالرَّغْبَةَ إلَيْهِ فِي الْهِدَايَةِ إلَى الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ دُونَ طَرِيقِ الْمُسْتَحَقِّينَ لِغَضَبِهِ وَالضَّالِّينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَتِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَصْفِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَصِفَتَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَنَعْتَهُمْ وَتَقْرِيبَ أَمْرِهِمْ إلَى قُلُوبِنَا بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ بِاَلَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَبِالْبَرْقِ الَّذِي يُضِيءُ فِي الظُّلُمَاتِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءٍ وَلَا ثَبَاتٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِإِظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ، وَأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ هُوَ الْكُفْرُ، كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَالْمَطَرِ اللَّذَيْنِ يَعْرِضُ فِي خِلَالِهِمَا بَرْقٌ يُضِيءُ لَهُمْ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَبْقَوْنَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْد انْقِضَاءِ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ بِمَا لَا يُمْكِنْ أَحَدًا دَفْعُهُ: مِنْ بَسْطِهِ الْأَرْضَ وَجَعْلِهَا قَرَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَجَعْلِ مَعَايِشِهِمْ وَسَائِرِ مَنَافِعِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ مِنْهَا، وَإِقَامَتِهَا عَلَى غَيْرِ سَنَدٍ; إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُون لَهَا نِهَايَةٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُدُوثِهَا، وَأَنَّ مُمْسِكَهَا وَمُقِيمَهَا كَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ خَالِقُهَا وَخَالِقكُمْ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِمَا جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا مِنْ أَقْوَاتِكُمْ وَسَائِرِ مَا أَخْرَجَ مِنْ ثِمَارِهَا لَكُمْ; إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ إلَّا الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، فَحَثِّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى نِعَمِهِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ عَجْزِهِمْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَدَعَاهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الْمُنْعِمِ عَلَيْنَا بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَقَالَ: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا تَدْعُونَهُ آلِهَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّه هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِهِ دُونَهَا، وَهُوَ الْخَالِق لَهَا وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إنَّكُمْ تَعْلَمُونَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِ الْوَاجِبِ. وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْعَقْلِ مَا يُمْكِنُكُمْ بِهِ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَوَجَبَ تَكْلِيفُكُمْ ذَلِكَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَقْلِ إبَاحَةُ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَعَ إزَاحَةِ الْعِلَّةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ فَلَمَّا قَرَّرَ جَمِيعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِدَلَائِلِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ عَطَفَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ثُمَّ عَقَّبَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى آخر ما ذكر.

مطلب في أمر اله تعالى باستعمال الحجج العقلية والاستدلال بها قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ الْأَمْرَ بِاسْتِعْمَالِ حُجَجِ الْعُقُولِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهَا، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِمَذْهَبِ مَنْ نَفَى الِاسْتِدْلَالَ بِدَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتَصَرَ عَلَى الْخَبَرِ بِزَعْمِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ

وَالْعِلْمِ بِصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا دَعَا النَّاسَ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ عَلَى الْخَبَرِ دُونَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ عُقُولِنَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ الْخَبَرُ السَّارُّ، وَالْأَظْهَرُ وَالْأَغْلَبُ أَنَّ إطْلَاقَهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا يُحْدِثُ عِنْدَهُ الِاسْتِبْشَارَ وَالسُّرُورَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجْرِي عَلَى غَيْرِهِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: أَيُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرُوهُ جَمَاعَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ; أَنَّ الْأَوَّلَ يَعْتِقُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ حَصَلَتْ بِخَبَرِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: أَيُّ عَبْدِ أَخْبَرَنِي بِوِلَادَتِهَا; فَأَخْبَرُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ يَعْتِقُونَ جَمِيعًا; لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى خَبَرٍ مُطْلَقٍ فَيَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْمُخْبِرِينَ، وَفِي الْبِشَارَةِ عَقَدَهَا عَلَى خَبَرٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ مَا يُحْدِثُ عِنْدَهُ السُّرُورَ وَالِاسْتِبْشَارَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْخَبَرِ مَا وَصَفْنَا. قَوْلُهُمْ: رَأَيْت الْبِشْرَ فِي وَجْهِهِ; يَعْنِي الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ قَالَ اللَّهُ فِي صِفَةِ وُجُوهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39] فَأَخْبَرَ عَمَّا ظَهَرَ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ آثَارِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِذِكْرِ الِاسْتِبْشَارِ، وَمِنْهُ سَمُّوا الرَّجُلَ بَشِيرًا تَفَاؤُلًا مِنْهُمْ إلَى الْإِخْبَارِ بِالْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ وَسَمُّوا مَا يُعْطَى الْبَشِيرَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ بُشْرَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَتَنَاوَلُ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ سُرُورًا فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَأَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ فِي الشَّرِّ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ فَحَسْبُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مَعْنَاهُ أُخْبِرْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْبَشِيرَ هُوَ الْمُخْبِرُ الْأَوَّلُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ قَوْلُهُمْ: "ظَهَرَتْ لَنَا تَبَاشِيرُ هَذَا الْأَمْرِ" يَعْنُونَ أَوَّلَهُ، وَلَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الشَّرِّ وَفِيمَا يَغُمُّ. وَإِنَّمَا يَقُولُونَهُ فِيمَا يَسُرُّ وَيُفْرِحُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ أَصْلَهُ فِيمَا يَسُرُّ وَيَغُمُّ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا يَظْهَرُ أَوَّلًا فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِنْ سُرُورٍ أَوْ غَمٍّ، إلَّا أَنَّهُ كَثُرَ فِيمَا يَسُرُّ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ أَخَصَّ بِهِ مِنْهُ بِالشَّرِّ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لِآدَمَ، أَعْنِي الْأَجْنَاسَ بِمَعَانِيهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي ذِكْرِ الأسماء وقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوجِبُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ {عَرَضَهُمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْمَاءُ مِنْ يَعْقِلُ; لِأَنَّ "هُمْ" إنَّمَا يُطْلَقُ فِيمَا يَعْقِلُ دُونَ مَا لا يعقل.

قِيلَ لَهُ: لَمَّا أَرَادَ مَا يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ جَازَ تَغْلِيبُ اسْمِ مَا يَعْقِلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] لَمَّا دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَعْقِلُ أَجْرَى الْجَمِيعَ مَجْرًى وَاحِدًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا تَوْقِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَأَنَّهُ عَلَّمَهُ إيَّاهَا بِمَعَانِيهَا إذْ لَا فَضِيلَةَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ دُونَ الْمَعَانِي. وَهِيَ دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضِيلَتِهِ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إعْلَامَ الْمَلَائِكَةِ فَضِيلَةَ آدَمَ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ بِمَعَانِيهَا حَتَّى أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ بِهَا وَلَمْ تَكُنْ الْمَلَائِكَةُ عَلِمَتْ مِنْهَا مَا عَلِمَهُ آدَم فَاعْتَرَفَتْ لَهُ بِالْفَضْلِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُولُ إنَّ لُغَةَ آدَمَ وَوَلَدِهِ كَانَتْ وَاحِدَةً إلَى زَمَانِ الطُّوفَانِ، فَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّه تَعَالَى أَهْلَ الْأَرْضِ وَبَقِيَ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ مَنْ بَقِيَ وَتُوُفِّيَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَوَالَدُوا وَكَثُرُوا، أَرَادُوا بِنَاءَ صَرْحٍ بِبَابِلَ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنْ الطُّوفَانِ; إذْ كَانَ بَلْبَلَ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ فَنَسِيَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ اللِّسَانَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَّمَهَا اللَّهُ الْأَلْسِنَةَ الَّتِي تَوَارَثَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ذُرِّيَّتُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى إنْسَانٌ كَامِلُ الْعَقْلِ جَمِيعَ لُغَتِهِ الَّتِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهَا بِالْأَمْسِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَارِفِينَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ إلَى أَنْ تَفَرَّقُوا، فَاقْتَصَرَ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَتَرَكُوا سَائِرَ الْأَلْسِنَةِ الَّتِي كَانُوا عَرَفُوهَا وَلَمْ تَأْخُذْهَا عَنْهُمْ أَوْلَادُهُمْ وَنَسْلُهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ مِنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ سَائِرَ اللُّغَاتِ.

بَابِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} ، رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الطَّاعَةَ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي السُّجُودِ لِآدَمَ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: 100] قَالَ: "كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ السُّجُودَ". وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السُّجُودُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَتَكْرِمَةً وَتَحِيَّةً لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ سُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجُوزُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّحِيَّةُ وَالتَّكْرِمَةِ جَائِزَانِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ضَرْبًا مِنْ التَّعْظِيمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ، وَآدَمَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقِبْلَةِ لَهُمْ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِآدَمَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ مِنْ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِمَةِ. وَظَاهِرُ ذَلِكَ

يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَم مُفَضَّلًا مُكَرَّمًا; فَذَلِكَ كَظَاهِرِ الْحَمْدِ إذَا وَقَعَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ مَجَازًا، كَمَا يُقَالُ: أَخْلَاقُ فُلَانٍ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ; لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى بَابِهِ وَحَقِيقَتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ قَدْ كَانَ أَرَادَ بِهِ تَكْرِمَةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَفْضِيلَهُ عَلَى قَوْلِ إبْلِيسَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 61 - 62] فَأَخْبَرَ إبْلِيسُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ كَانَ مِنْ السُّجُودِ لِأَجْلِ مَا كَانَ مِنْ تَفْضِيلِ اللَّهِ وَتَكْرِمَتِهِ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ قِبْلَةً لِلسَّاجِدِينَ مِنْ غَيْرِ تَكْرِمَةٍ لَهُ وَلَا فَضِيلَةَ لَمَا كَانَ لِآدَمَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ وَلَا فَضِيلَةٌ تُحْسَدُ، كَالْكَعْبَةِ الْمَنْصُوبَةِ لِلْقِبْلَةِ وَقَدْ كَانَ السُّجُودُ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَيُشْبِهْ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ بَاقِيًا إلَى زَمَانِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ضَرْبًا مِنْ التَّعْظِيمِ وَيُرَادُ إكْرَامُهُ وَتَبْجِيلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبِمَنْزِلَةِ تَقْبِيلِ الْيَدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إبَاحَةِ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَخْبَارٌ، وَقَدْ رُوِيَ الْكَرَاهَةُ; إلَّا أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّكْرِمَةِ وَالتَّحِيَّةِ مَنْسُوخٌ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسٌ، أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا" لَفْظُ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . قِيلَ إنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ قَبِيحًا مِنْ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ الْجَمِيعُ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْكُفْرِ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ فَيَكُونُ أَعْظَمَ لِمَأْثَمِهِ وَجُرْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وَقَوْلِهِ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ كِفْلًا مِنْ الْإِثْمِ فِي كُلِّ قَتِيلٍ ظُلْمًا; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ"، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى صَلَاةٍ مَعْهُودَةٍ وَزَكَاةٍ مَعْلُومَةٍ وَقَدْ عَرَفَهَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا صَلَاةً مُجْمَلَةً وَزَكَاةً مُجْمَلَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْبَيَانِ، إلَّا أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا الْآنَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِمَا فِيمَا خُوطِبْنَا بِهِ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ، إمَّا لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فِي حَالِ وُرُودِ الْخِطَابِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَرَدَ بَعْدَهُ بَيَانُ الْمُرَادِ

فَحَصَلَ ذَلِكَ مَعْلُومًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فَإِنَّهُ يُفِيدُ إثْبَاتَ فَرْضِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ إنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الرُّكُوعَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ فَنَصَّ عَلَى الرُّكُوعِ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قوله: {وَارْكَعُوا} عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بالقراءة في قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . وَقَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] وَالْمَعْنَى صَلَاةُ الْفَجْرِ; فَيَنْتَظِمُ وَجْهَيْنِ مِنْ الْفَائِدَةِ: أَحَدُهُمَا: إيجَابُ الرُّكُوعِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ إلَّا وَهُوَ مِنْ فَرْضِهَا، وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُصَلِّينَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ ذكر الصلاة في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ بِعِطْفِ الرُّكُوعِ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ بِعَيْنِهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا جَائِزٌ إذَا أُرِيدَ بِالصَّلَاةِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهَا الْإِجْمَالُ دُونَ صَلَاةٍ مَعْهُودَةٍ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} إحَالَةً لَهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَيَّنَهَا بِرُكُوعِهَا وَسَائِرِ فُرُوضِهَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِغَيْرِ رُكُوعٍ وَكَانَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالُ رُجُوعِهِ إلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الصَّلَاةَ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ بَلْ الَّتِي فِيهَا الرُّكُوعُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} يَنْصَرِفُ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةُ أَنَّهُمَا مَعُونَتَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الصَّلَاةِ لُطْفٌ فِي اجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِمَا لَا الْمَفْرُوضَيْنِ، وَذَلِكَ نَحْوُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ; إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْهُمَا لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْإِيجَابِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فِيهِ رَدُّ الضَّمِيرِ عَلَى وَاحِدٍ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ اثْنَيْنِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وَقَالَ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لغريب.

مطلب يحتج بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية على أن الأذكار توقيفية لا يجوز تغييرها قَوْله تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} يُحْتَجُّ بِهَا فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْأَقْوَالِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا إلَى غَيْرِهَا. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بِهِ

عَلَيْنَا الْمُخَالِفُ فِي تَجْوِيزِنَا تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةَ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ، وَفِي تَجْوِيزِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي تَجْوِيزِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَلْزَمُنَا فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إنَّمَا هُوَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} يَعْنِي حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ، كَمَا قِيلَ لَكُمْ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا لَا إلَهِ إلَّا اللَّهُ فَقَالُوا بَدَلَ هَذَا حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ تَجَاهُلًا وَاسْتِهْزَاءً وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ: إنَّمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ لَتَبْدِيلِهِمْ الْقَوْلَ إلَى لَفْظٍ فِي ضِدِّ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرُوا بِهِ; إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَصَارُوا إلَى الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. فَأَمَّا مِنْ غَيْر اللَّفْظُ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ; إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا تَضَمَّنَتْ الْحِكَايَةَ عَنْ فِعْلِ قَوْمٍ غَيَّرُوا اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فَأَلْحَقَ بِهِمْ الذَّمَّ بِهَذَا الْقَوْلِ وَإِنَّمَا يُشَارِكُهُمْ فِي الذَّمِّ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْفِعْلِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ اللَّفْظَ وَأَتَى بِالْمَعْنَى فَلَمْ تَتَضَمَّنَهُ الْآيَةُ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ فِعْلِ الْقَوْمِ إجَازَةُ مَنْ يُجِيزُ الْمُتْعَةَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] ، فَقَصْرَ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَمَنْ اسْتَبَاحَهُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ الذَّمُّ بِحُكْمِ الْآيَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} إلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ الْمَقْتُولِ وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرِيفَةِ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ شَأْنِ الْبَقَرَةِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ إنَّمَا كَانَ سَبَبُهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي النُّزُولِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ تَرْتِيبَ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ تِلَاوَتِهَا وَنِظَامِهَا وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "اُذْكُرْ; إذْ أَعْطَيْت أَلْفَ دِرْهَمِ زَيْدًا; إذْ بَنَى دَارِي" وَالْبِنَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَطِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مُقَدَّمٌ فِي النزول قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَةَ قَدْ ذُكِرَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ أُضْمِرَتْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّوفَانِ وَانْقِضَائِهِ: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْكَلَامِ وَتَأْخِيرَهُ إذَا كَانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلَى

بَعْضِ بِالْوَاوِ غَيْرُ مُوجِبٍ تَرْتِيبَ الْمَعْنَى عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بَقَرَةً مَجْهُولَةً غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ وَلَا مَوْصُوفَةٍ وَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا فِي ذَبْحِ أَدْنَى مَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ الْفَرِيقَانِ مِنْ نُفَاةِ الْعُمُومِ وَمَنْ مُثْبِتِيهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لِمَذْهَبِهِ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فَاحْتَجُّوا بِهِ مِنْ جِهَة وُرُودِهِ مُطْلَقًا فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُمُومِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَنَّتُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُرَاجَعَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى شَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ التَّكْلِيفَ وَذَمَّهُمْ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ بِقَوْلِهِ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ اعْتَرَضُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ". وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَنِّفْهُمْ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ بَدْءًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ لَزِمَهُمْ تَنْفِيذُ ذَلِكَ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَوَرَدَ النَّكِيرُ فِي بَدْءِ الْمُرَاجَعَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ; لِأَنَّ النَّكِيرَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَغْلِيظُ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ النَّكِيرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16] . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا تَارِكِينَ لِلْأَمْرِ بَدْءًا وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ الْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِهِ. فَقَدْ حَصَلَتْ الْآيَةُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدِهَا: وُجُوبُ اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ وَأَنَّ عَلَى الْمَأْمُورِ الْمُسَارَعَةَ إلَى فِعْلِهِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ 1. وَالثَّالِثُ: جَوَازُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِشَيْءِ مَجْهُولِ الصِّفَةِ مَعَ تَخْيِيرِ الْمَأْمُورِ فِي فِعْلِ مَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى النَّدْبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ; إذْ لَمْ يَلْحَقهُمْ الذَّمُّ إلَّا بِتَرْكِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ مِنْ غير ذكر وعيد.

_ 1 قوله والثاني أن الأمر على الفور إلى آخره هذا مذهب أبي الحسن الكرخي شيخ المصنف وهو خلاف ما عليه جمهور الحنفية وعامة المتكلمين من أن الأمر المطلق عن الوقت لا يوجب الفور وهو الصحيح "لمصححه".

وَالْخَامِس: جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ; ذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الْبَقَرَةِ كُلٌّ مِنْهَا قَدْ نَسَخَ مَا قَبْلَهَا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} اقْتَضَى ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيُّهَا كَانَتْ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءُوا، وَقَدْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ. فلما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} فَقَالَ: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} نَسَخَ التَّخْيِيرَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةُ وَذَبْحِ غَيْرِهَا، وَقَصَرُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وقيل لهم {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} فَأَبَانَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْبَحُوا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَيُّ لَوْنٍ كَانَتْ وَعَلَى أَيِّ حَالِ كَانَتْ مِنْ ذَلُولٍ أو غيرها، فلما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} نَسَخَ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ فِي ذَبْحِ أَيِّ لَوْنٍ شَاءُوا مِنْهَا وَبَقِيَ التَّخْيِيرُ فِي الصِّفَةِ الْأُخْرَى مِنْ أَمْرِهَا، فَلَمَّا رَاجَعُوا نُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا وَأُمِرُوا بِذَبْحِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ وَاسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهَا بَعْدَ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ وَتَشْدِيدِ التَّكْلِيفِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَمْرِ النَّسْخِ دَلَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ يُوجِبُ نَسْخَهُ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَوَامِر الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ الْقَوْمِ إنَّمَا كَانَ زِيَادَةً فِي نَصٍّ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَأَوْجَبَ نَسْخَهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْفَرْضِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتَهُ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِمْ بَدْءًا قَدْ كَانَ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً فَنُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَهَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مِنْ ذَلِكَ قَدْ كَانَ وَقْتُ فِعْلِهِ عَقِيبَ وُرُودِ الْأَمْرِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ وَاسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَثَبَتَ ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الفقه.

مطلب دل قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} على جواز الاجتهاد وَالسَّادِسُ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنّ فِي الْأَحْكَامِ; إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْفَارِضِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَالسَّابِعُ: اسْتِعْمَالُ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ خلافه بقوله: {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسَلَّمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ بَرِيئَةٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُون بِهَا عَيْبٌ بَاطِنٌ. وَالثَّامِنُ: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُرَاجَعَةِ الْأَخِيرَةِ: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لما

قَرَنُوا الْخَبَرَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وُفِّقُوا لِتَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهَا وَلِوُجُودِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقُولُوا "إنْ شَاءَ اللَّهُ" لَمَا اهْتَدَوْا لَهَا أَبَدًا وَلَدَامَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وكذلك قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ ذَلِكَ لِنَطْلُبَ نَجَاحَ الْأُمُورِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 – 24] فَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالِاعْتِرَافُ بِقُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ مَالِكُهُ وَالْمُدَبِّرُ لَهُ. وَالتَّاسِعُ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} عَلَى أَنَّ الْمُسْتَهْزِئَ يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْجَهْلِ، لِانْتِفَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْل بِنَفْيِهِ الِاسْتِهْزَاءَ عَنْ نَفْسِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِأَمْرِ الدِّينِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِهَا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْ مَأْثَمُهُ النِّسْبَةَ إلَى الْجَهْلِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مِسْعَرٍ أَنَّهُ تَقَدَّمَ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ الْقَاضِي قَالَ: وَعَلَيَّ جُبَّةُ صُوفٍ وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَثِيرَ الْمَزْحِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَصُوفُ نَعْجَةٍ جُبَّتُك أَمْ صُوفُ كَبْشٍ؟ فَقُلْت لَهُ: لَا تَجْهَلْ أَبْقَاكَ اللَّهُ قَالَ: وَأَنَّى وَجَدْت الْمِزَاحَ جَهْلًا؟ فَتَلَوْت عَلَيْهِ: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قَالَ: فَأَعْرَضِ وَاشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِقَتْلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالنَّظَرِ بِالْقَوْلِ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لِنَبِيِّ الله {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} كُفْرٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ لِمُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هَذَا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً بَيْنَ نِسَائِهِمْ وَبَيْنَهُمْ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِفِرَاقِهِنَّ وَلَا تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَسَّرَهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَدَامَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُهُ، وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ عَبْدًا لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَأَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ". وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "قُلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ يُخْفُوا لِي أَعْمَالَهُمْ وَعَلَيَّ أَنْ أُظْهِرَهَا". وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عَامٌّ وَالْمُرَادُ خَاصٌّ; لِأَنَّ كُلَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِالْقَاتِلِ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عَامًّا فِي سَائِرِ النَّاسِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا حِرْمَانُ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ، رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عن

عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَهُوَ وَارِثُهُ، فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ فَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ قَوْمٍ آخَرِينَ وَذَكَرَ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ وَذَكَرَ بَعْدَهَا: فَلَمْ يُوَرَّثْ بَعْدَهَا قَاتِلٌ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ وَلَا مِنْ سَائِرِ مَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: إنْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَرِثَ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: قَاتِلُ الْخَطَإِ يَرِثُ دُونَ قَاتِلِ الْعَمْدِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَإِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ عَمْدًا مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا وَلَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً وَرِثَ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْ دِيَتِهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَتَلَ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَوْ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ لَا يَتَوَارَثَانِ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ قَاتِلِ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِ الْخَطَإِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَنْبَسَةَ بْنِ لَقِيطٍ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْمُثَنَّى وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ". وَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ". وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقَاتِلُ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْ أَخِيهِ وَلَا مِنْ ذِي قَرَابَتِهِ شَيْئًا وَيَرِثُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ نَسَبًا بَعْدَ الْقَاتِلِ". وَرَوَى حِصْنُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ عَنْ عَدِيٍّ الْجُذَامِيِّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ لِي امْرَأَتَانِ فَاقْتَتَلَتَا فَرَمَيْت إحْدَاهُمَا؟ فَقَالَ: "اعْقِلْهَا وَلَا تَرِثْهَا". فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ مِيرَاثَهُ مِنْ سَائِرِ مَالِ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ لِعُمُومِ لَفْظِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْخَبَرَ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَجَرَى مَجْرَى التَّوَاتُرِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا وَصِيَّةَ لوارث" وقوله:

"لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" و "إذا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ" وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مِنْ جِهَةِ الْإِفْرَادِ وَصَارَتْ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ لِتَلَقِّي الْفُقَهَاءُ لَهَا بِالْقَبُولِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ إيَّاهَا فَجَازَ تَخْصِيصُ آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَى تَسْوِيَةِ حُكْمِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ جَائِزِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ فِي شُيُوعِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ وَلَمَّا وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ مَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ دِيَتَهُ مَالُهُ وَمِيرَاثٌ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ وَيَرِثُهَا سَائِرُ وَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَرِثُونَ سَائِرَ أَمْوَالِهِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ مَالِهِ فِي الْحِرْمَانِ كَمَا أَنَّهُ إذَا وَرِثَ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ وَرِثَ مِنْ دِيَتِهِ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ حُكْمُ سَائِرِ مَالِهِ حُكْمَ دِيَتِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ مَالِهِ حُكْمَ دِيَتِهِ فِي الْحِرْمَانِ; إذْ كَانَ الْجَمِيعُ مُسْتَحَقًّا عَلَى سِهَامِ وَرَثَتِهِ وَأَنَّهُ مَبْدُوءٌ بِهِ فِي الدَّيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ لِمَا اقْتَضَاهُ الْأَثَرُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ مَالِهِ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْأَثَرَ لَمْ يَفْصِلْ فِي وُرُودِهِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا وَرِثَ قَاتِلُ الْخَطَإِ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ سِوَى الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي دِيَتِهِ; لِأَنَّهَا مِنْ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ. فَوَاجِبٌ عَلَى مُقْتَضَى عِلَّتِهِ أَنْ يَرِثَ مِنْ دِيَتِهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي قَاتِلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ سَائِرَ مَالِهِ كَمَا لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ إذَا وَجَبَتْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ قَاتِلِ الْخَطَإِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ مِنْ دِيَتِهِ وَأَيْضًا إذَا كَانَ قَتْلُ الْعَمْدِ وَشِبْهُ الْعَمْدِ إنَّمَا حَرَّمَا الْمِيرَاثَ لِلتُّهْمَةِ فِي إحْرَازِ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِهِ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَظْهَرَ رَمْيَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَاصِدٌ بِهِ قَتْلَهُ لِئَلَّا يُقَادَ مِنْهُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثَ، فَلَمَّا كَانَتْ التُّهْمَةُ مَوْجُودَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ وَأَيْضًا تَوْرِيثُهُ بَعْضَ الْمِيرَاثِ دُونَ بَعْضٍ خَارِجٌ مِنْ الْأُصُولِ; لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ مَنْ وَرِثَ بَعْضَ تَرِكَةٍ وَرِثَ جَمِيعَهَا وَمَنْ حُرِمَ بَعْضُهَا حُرِمَ جَمِيعُهَا. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ بِالْقَتْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُكَلَّفَيْنِ، وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فِي الْأُصُولِ فَأُجْرِيَ قَاتِلُ الْخَطَإِ مَجْرَاهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ بِقَتْلِ الْخَطَإِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِ الدَّمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ الْقَتْلَ بِرَمْيِهِ أَوْ بِضَرْبِهِ وَأَنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِغَيْرِهِ فَأُجْرِيَ فِي ذَلِكَ مَجْرَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْهُمَا ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقَّانِ الدَّمَ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يحتلم".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي سُقُوطَ حُكْمِ قَتْلِهِ رَأْسًا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ لَمَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ يُحْرَمُ النَّائِمُ الْمِيرَاثَ إذَا انْقَلَبَ عَلَى صَبِيِّ فَقَتَلَهُ؟ قِيلَ لَهُ: هُوَ مِثْلُ قَاتِلِ الْخَطَإِ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ أَنَّهُ نَائِمٌ وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا فِي الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَادِلِ إذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ حُرِمَ الْمِيرَاثَ، فَلَا وَجْه لَهُ; لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ وَقَدْ كَانَ الْبَاغِي مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ قَوَدًا أَنَّهُ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ يُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ لَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُحَارِبًا فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ حَدًّا أَنْ لَا يَكُونَ مِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ الْإِمَامَ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ فِي إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمِيرَاثِ مَنْ ذَكَرْنَا أَمْرَهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَامَ مَقَامَهُمْ فِي قَتْلِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ بِحَقِّ لَا يُحْرِمُ قَاتِلُهُ مِيرَاثَهُ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي حَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إذَا عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ: إنَّهُ لَا يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ; لِأَنَّهُ غَيْرَ قَاتِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ; إذْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِلْقَتْلِ وَلَا لِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِالْمَقْتُولِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ، وَحَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ كَالرَّامِي وَالْجَارِحِ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ لِفِعْلِهِمَا السَّبَبَ قِيلَ لَهُ: الرَّمْيُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ مُرُورِ السَّهْمِ هُوَ فِعْلُهُ وَبِهِ حَصَلَ الْقَتْلُ، وَكَذَلِكَ الْجُرْحُ فَعَلَهُ فَصَارَ قَاتِلًا بِهِ لِاتِّصَالِ فِعْلِهِ بِالْمَقْتُولِ; وَعِثَارُ الرَّجُلِ بِالْحَجَرِ وَوُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهِ قَاتِلًا، وقَوْله تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ الْمُعَانِدَ فِيهِ أَبْعَدُ مِنْ الرُّشْدِ وَأَقْرَبُ إلَى الْيَأْسِ مِنْ الصَّلَاحِ مِنْ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} يُفِيدُ زَوَالَ الطَّمَعِ فِي رُشْدِهِمْ لِمُكَابَرَتِهِمْ الْحَقَّ بَعْد الْعِلْمِ بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} ، قِيلَ فِي مَعْنَى مَعْدُودَةً: إنَّهَا قَلِيلَةٌ، كَقَوْلِهِ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أَيْ قَلِيلَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} إنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا مِقْدَارُ مَا عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183 – 184] ، فَسَمَّى أَيَّامَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْدُودَاتٍ وَأَيَّامُ الشَّهْرِ كُلِّهِ. وَقَدْ احْتَجَّ شُيُوخُنَا لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ وَعَشْرَةٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِك"

وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْض تُسَمَّى أَيَّامًا وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ; لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ يُقَالُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى هذا الاستدلال بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ، وَهِيَ أَيَّامُ الشَّهْرِ، وَقَوْلِهِ: {إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} وَقَدْ قِيلَ فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَقْدَحُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيَّامًا قَلِيلَةً كَقَوْلِهِ: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 42] يَعْنِي قَلِيلَةً، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَحْدِيدَ الْعَدَدِ وَتَوْقِيتَ مِقْدَارِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَشْتَدُّ وَيَصْعُبُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَقْتًا مُبْهَمًا كَقَوْلِهِمْ: أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَيَّامَ الْحَجَّاجِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ تَحْدِيدُ الْأَيَّامِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ زَمَانُ مُلْكِهِمْ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك" قَدْ أُرِيدَ بِهِ لَا مَحَالَةَ تَحْدِيدُ الْأَيَّامِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَيْضِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ مَخْصُوصٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ، فَمَتَى أُضِيفَ ذِكْرُ الْأَيَّامِ إلَى عَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ. قَوْله تَعَالَى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قَدْ عُقِلَ مِنْهُ اسْتِحْقَاقُ النَّارِ بِمَا يَكْسِبُ مِنْ السَّيِّئَةِ وَإِحَاطَتِهَا فَكَانَ الْجَزَاءُ مُسْتَحَقًّا بِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شَرْطَيْنِ فِي عَتَاقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَحْنَثُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ وُجُودِ الْآخَرِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} يَدُلّ عَلَى تَأْكِيدِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا كَافِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُؤْمِنَيْنِ; لِأَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {وَذِي الْقُرْبَى} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إلَى اليتامى والمساكين. {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا كُلُّهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وَالْإِحْسَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ إلَيْهِ وَالنُّصْحُ فِيهِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِلَعْنِ الْكُفَّارِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا مِمَّا لَا

يَخْتَلِفْ فِيهِ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْحَسَنِ أَحَدُ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ وَالنَّكِيرَ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ الدُّعَاءُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حَسَنٌ وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا ذُكِرَ، وَالْمِيثَاقُ هُوَ الْعَقْدُ الْمُؤَكَّدُ إمَّا بِوَعِيدٍ أَوْ بِيَمِينٍ، وَهُوَ نَحْوُ أَمْرِ اللَّهِ الصَّحَابَةَ بِمُبَايَعَةِ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى شَرَائِطِهَا الْمَذْكُورَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَكَذَلِكَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} [آل عمران: 195] . وَالْآخَرُ: أَنْ لَا يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، إمَّا بِأَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ الْهِنْدُ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْيَأْسُ مِنْ الْخَلَاصِ مِنْ شِدَّةٍ هُوَ فِيهَا، أَوْ بِأَنْ يَقْتُلَ غَيْرَهُ فَيُقْتَلَ بِهِ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَاحْتِمَالُ اللَّفْظَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حُكْمِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِمَّا كَانَ يَكْتُمُهُ الْيَهُودُ لِمَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَكْسِ وَيَلْزَمُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ، فَأَطْلَعَ اللَّه نَبِيَّهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ دَلَالَةً وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي جَحْدِهِمْ نُبُوَّتَهُ; إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَلَا عَرَفَ مَا فِيهَا إلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا حَكَى اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} وَسَائِرُ مَا ذَمَّهُمْ هُوَ تَوْقِيفٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى مَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَقْرِيعٌ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَإِظْهَارِ قَبَائِحِهِمْ، وَجَمِيعُهُ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} دَالٌّ عَلَى أَنَّ فِدَاءَ أُسَارَاهُمْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إخْرَاجُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَسَرَ بَعْضَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُفَادُوهُمْ، فَكَانُوا فِي إخْرَاجِهِمْ كَافِرِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِمْ مَا حَظَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي مُفَادَاتِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ بِقِيَامِهِمْ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ وُجُوبِ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى ثَابِتٌ عَلَيْنَا; رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ وَيَفْدُوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفْشُوا السَّلَامَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ" فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى فِكَاكِ الْأَسِيرِ; لِأَنَّ الْعَانِيَ هُوَ

الْأَسِيرُ. وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: "أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَى أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ: سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: عَلَى مَنْ فَدْيُ الْأَسِيرِ؟ قَالَ: عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُقَاتِلُ عَنْهَا. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنْ النَّار، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَوْ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لِشُرِّقُوا بِهِ وَلَمَاتُوا". وَقِيلَ: فِي تَمَنِّي الْمَوْتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ تَحُدُّوا بِأَنْ يَدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ كَاذِبًا وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَمَّا قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَقَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قِيلَ لَهُمْ: فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إظْهَارُ كَذِبِهِمْ وَتَبْكِيتِهِمْ بِهِ، وَالثَّانِي: الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِذَلِكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَحَدِّي النَّصَارَى بِالْمُبَاهَلَةِ، فَلَوْلَا عِلْمُهُمْ بِصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبِهِمْ لَسَارَعُوا إلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ وَلَسَارَعَ النَّصَارَى إلَى الْمُبَاهَلَةِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنَزَلَ الْمَوْتُ وَالْعَذَابُ بِهِمْ، وَكَانَ يَكُونُ فِي إظْهَارِهِمْ التَّمَنِّي وَالْمُبَاهَلَةِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَدَحْضٌ لِحُجَّتِهِ إذَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ مَا أَوْعَدَهُمْ، فَلَمَّا أَحْجَمُوا عَنْ ذَلِكَ مَعَ التَّحَدِّي وَالْوَعِيدِ مَعَ سُهُولَةِ هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . وَفِيهِ دَلَالَةٌ أُخْرَى عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ إخْبَارُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مَعَ خِفَّةِ التَّمَنِّي وَسُهُولَتِهِ عَلَى الْمُتَلَفِّظِ وَسَلَامَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ لَوْ قَالَ لَهُمْ: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَا يَمَسُّ رَأْسَهُ مَعَ صِحَّةِ جَوَارِحِهِ، وَأَنَّهُ إنْ مَسَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ فَأَنَا مُبْطِلٌ فَلَا يَمَسُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَمَعَ سَلَامَةِ أَعْضَائِهِمْ وَصِحَّةِ جَوَارِحِهِمْ; فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَاقِلًا لَا يَتَحَدَّى أَعْدَاءَهُ بِمِثْلِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِجَوَازِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ; إذْ لَمْ يَتَمَنَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْمَوْتَ، وَكَوْنُ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ حِين تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَقَرَّعَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْا لِأَنَّهُمْ لَوْ تَمَنَّوْا لَكَانَ ذَلِكَ ضَمِيرًا مُغَيَّبًا عِلْمُهُ عَنْ النَّاسِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّكُمْ قَدْ تَمَنَّيْتُمْ 1 بِقُلُوبِكُمْ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلتَّمَنِّي صِيغَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْتَ اللَّهَ غَفَرَ لِي، وَلَيْتَ زَيْدًا قَدِمَ; وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَمَتَى قَالَ ذَلِكَ قَائِلٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُتَمَنِّيًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِضَمِيرِهِ وَاعْتِقَادِهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالنِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَالتَّحَدِّي بِتَمَنِّي الْمَوْتَ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى الْعِبَارَةِ الَّتِي فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهَا تَمَنٍّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّكْذِيبِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَبَهْتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي أَمْرِهِ فَيَتَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَتَمَنَّوْا ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ مَعَ عِلْمِ الْجَمِيعِ بِأَنَّ التَّحَدِّيَ بِالضَّمِيرِ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَقَالِهِ وَلَا فَسَادِهَا، وَأَنَّ الْمُتَحَدَّى بِذَلِكَ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ قَدْ تَمَنَّيْت بِقَلْبِي ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنْ لِخَصْمِهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى كَذِبِهِ وَأَيْضًا فَلَوْ انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى التَّمَنِّي بِالْقَلْبِ دُونَ الْعِبَارَةِ بِاللِّسَانِ لَقَالُوا: قَدْ تَمَنَّيْنَا ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا; فَكَانُوا مُسَاوِينَ لَهُ فِيهِ وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى كَذِبِهِمْ وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوهُ لَنُقِلَ كَمَا لَوْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ بِأَيِّ كَلَامٍ كَانَ لَنُقِلَ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالتَّمَنِّي بِاللَّفْظِ والعبارة دون الضمير والاعتقاد.

_ 1 قوله "قد تمنيتم بقلوبكم" هكذا في النسخة التي بأيدينا ولعل الصواب "ما تمنيتم" بدليل الجواب الآتي "لمصححه".

بَابُ السِّحْرِ وَحُكْمُ السَّاحِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} إلَى آخَرِ الْقِصَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْوَاجِبُ أَنْ نُقَدِّمَ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ لِخَفَائِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنْ الْعَامَّةِ، ثُمَّ نُعَقِّبُهُ بِالْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ فِي اللُّغَةِ لِمَا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَالسَّحَرُ عِنْدَهُمْ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْغِذَاءِ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيدٌ: أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحِرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ قِيلِ: فِيهِ وَجْهَانِ: نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كَالْمَسْحُورِ وَالْمَخْدُوعِ، وَالْآخَرُ: نُغَذَّى، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ وَقَالَ آخَرُ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ

وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُسَحَّرِ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ. وَالسَّحَرُ الرِّئَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُلْقُومِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سحري ونحري، وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153 – 185] يَعْنِي مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُطْعَمُ وَيُسْقَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ السِّحْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِضَعْفِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ وَلَطَافَتِهَا وَرِقَّتِهَا وَبِهَا مَعَ ذَلِكَ قَوَامُ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ إلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وَتُخُيِّلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ وَقَدْ أُجْرِيَ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْتَدَحُ وَيُحْمَدُ كَمَا رُوِيَ: "إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، فَقَالَ لِعَمْرٍو: "خَبِّرْنِي عَنْ الزِّبْرِقَانَ! " فَقَالَ: مُطَاعٌ فِي نَادِيهِ، شَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: هُوَ وَاَللَّهُ يَعْلَمْ أَنِّي أَفْضَلُ مِنْهُ فَقَالَ عَمْرٌو: إنَّهُ زَمِرُ الْمُرُوءَةِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ أَحْمَقُ الْأَبِ لَئِيمُ الْخَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقْت فِيهِمَا أَرْضَانِي فَقُلْت أَحْسَنُ مَا عَلِمْت، وَأَسْخَطَنِي فَقُلْت أَسْوَأُ مَا عَلِمْت فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا". وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ فَخَطَبَ أَحَدُهُمَا فَعَجَبَ النَّاسُ لِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا". قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا". قَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا". فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مِنْ الْعِلْم جَهْلًا" فَيَتَكَلَّفُ الْعَالِمُ إلَى عِلْمِهِ مَا لَا يَعْلَمُ فَيُجَهِّلُهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ مِنْ الشِّعْرِ

حِكَمًا" فَهِيَ هَذِهِ الْأَمْثَالُ وَالْمَوَاعِظُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا" فَعَرْضُك كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مِنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ فَسَمَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْضَ الْبَيَانِ سِحْرًا; لِأَنَّ صَاحِبَهُ بَيْنَ أَنْ يُنْبِئَ عَنْ حَقٍّ فَيُوضِحَهُ وَيُجَلِّيهِ بِحُسْنِ بَيَانِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيَّا; فَهَذَا مِنْ السِّحْرِ الْحَلَالِ الَّذِي أَقَرَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْخِطْهُ مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ عُمَرُ: "هَذَا وَاَللَّهِ السِّحْرُ الْحَلَالُ". وَبَيْنَ أَنْ يُصَوِّرَ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ بِبَيَانِهِ وَيَخْدَعَ السَّامِعِينَ بِتَمْوِيهِهِ وَمَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 166] يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى وَقَالَ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 166] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلًا وَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أُدُمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا، وَقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَ الْمَوَاضِعِ أَسْرَابًا وَجَعَلُوا آزَاجًا وَمَلَئُوهَا نَارًا، فَلَمَّا طُرِحَتْ عَلَيْهِ وَحَمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَهَا; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الزِّئْبَقِ إذَا أَصَابَتْهُ النَّارُ أَنْ يَطِيرَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَضَرْبٌ مِنْ الْحُلِيِّ مَسْحُورٌ أَيْ مُمَوَّهٌ عَلَى مَنْ رَآهُ مَسْحُورٌ بِهِ عَيْنُهُ فَمَا كَانَ مِنْ الْبَيَانِ عَلَى حَقٍّ وَيُوَضِّحُهُ فَهُوَ مِنْ السِّحْرِ الْحَلَالِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَقْصُودًا بِهِ إلَى تَمْوِيهٍ وَخَدِيعَةٍ وَتَصْوِيرِ بَاطِلٍ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَهُوَ مِنْ السِّحْرِ الْمَذْمُومِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مَوْضُوعُ السِّحْرِ التَّمْوِيهَ وَالْإِخْفَاءَ; فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا يُوَضِّحُ الْحَقَّ وَيُنْبِئُ عَنْهُ سِحْرًا، وَهُوَ إنَّمَا أَظْهَرَ بِذَلِكَ مَا خَفِيَ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَى إخْفَاءِ مَا ظَهَرَ وَإِظْهَارُهُ غَيْرُ حَقِيقَةٍ؟ قِيلَ لَهُ: سُمِّيَ ذَلِكَ سِحْرًا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَغْلَبُ فِي ظَنِّ السَّامِعِ أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ مُسْتَنْكَرٍ غَيْرِ مُبَيَّنٍ لَمَا صَادَفَ مِنْهُ قَبُولًا وَلَا أَصْغَى إلَيْهِ، وَمَتَى سَمِعَ الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ مَقْبُولَةٍ عَذْبَةٍ لَا فَسَادَ فِيهَا وَلَا اسْتِنْكَارَ وَقَدْ تَأَتَّى لَهَا بِلَفْظِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ بِمَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْغَبِيُّ الَّذِي لَا بَيَانَ لَهُ أَصْغَى إلَيْهِ وَسَمِعَهُ وَقَبِلَهُ، فَسَمَّى اسْتِمَالَتَهُ لِلْقُلُوبِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا كَمَا يَسْتَمِيلُ السَّاحِرُ قُلُوبَ الْحَاضِرِينَ إلَى مَا مَوَّهَ بِهِ وَلَبَّسَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سُمِّيَ الْبَيَانُ سِحْرًا لَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْت وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَمَّى الْبَيَانَ سِحْرًا لِأَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى الْبَيَانِ رُبَّمَا قَبُحَ بَيَانُهُ بَعْضَ مَا هُوَ حَسَنٌ وَحَسُنَ عِنْدَهُ بَعْضُ مَا هُوَ قَبِيحٌ فَسَمَّاهُ لِذَلِكَ سِحْرًا، كَمَا سَمَّى مَا مَوَّهَ بِهِ صَاحِبُهُ وَأَظْهَرَ عَلَى غَيْر حَقِيقَةٍ سِحْرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاسْمِ السِّحْرِ إنَّمَا أُطْلِقْ عَلَى الْبَيَانِ مَجَازًا لَا حقيقة

وَالْحَقِيقَةُ مَا وَصَفْنَا، وَلِذَلِكَ صَارَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ قَدْ قُصِدَ بِهِ الْخَدِيعَةُ وَالتَّلْبِيسُ وَإِظْهَارُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ. وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ وَحُكْمَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَلْنَقُلْ فِي مَعْنَاهُ فِي التَّعَارُفِ وَالضُّرُوبِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ وَمَا يَقْصِدُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ مُنْتَحِلِيهِ وَالْغَرَضِ الَّذِي يَجْرِي إلَيْهِ مُدَّعُوهُ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ: فَمِنْهَا سِحْرُ أَهْلِ بَابِلِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وَكَانُوا قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلِّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا وَهُمْ مُعَطِّلَةٌ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالصَّانِعِ الْوَاحِدِ الْمُبْدِعِ لِلْكَوَاكِبِ وَجَمِيعِ أَجْرَامِ الْعَالَمِ وَهُمْ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى إلَيْهِمْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحَاجَّهُمْ بِالْحِجَاجِ الَّذِي بَهَرَهُمْ بِهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُهُ ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إلَى الشَّامِ. وَكَانَ أَهْلُ بَابِلَ وَإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَى أَيَّامِ بيوراسب الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّحَّاكَ وَإِنَّ أَفْرِيدُونَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دنباوند اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ وَكَاتَبَ سَائِرَ مَنْ يُطِيعُهُ وَلَهُ قِصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتَّى أَزَالَ مُلْكَهُ وَأَسَرَهُ وَجُهَّالُ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَفْرِيدُونَ حَبَسَ بيوراسب فِي جَبَلٍ دنباوند الْعَالِي عَلَى الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ حَيٌّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُنَاكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ، وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَذَّرْنَاهُ، وَأَحْسَبُهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ الْمَجُوسِ وَصَارَتْ مَمْلَكَةُ إقْلِيمِ بَابِلَ لِلْفُرْسِ فَانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَاسْتَوْطَنُوهَا. وَلَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ بَلْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، إلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ: الْمَاءَ، وَالنَّارَ، وَالْأَرْضَ، وَالْهَوَاءَ; لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ وَأَنَّ بِهَا قِوَامُ الْحَيَوَانِ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْمَجُوسِيَّةَ فِيهِمْ بَعْد ذَلِكَ فِي زَمَانِ "كشتاسب" حِينَ دَعَاهُ "زَرَادُشْتُ" فَاسْتَجَابَ لَهُ عَلَى شَرَائِطَ وَأُمُورٍ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَإِنَّمَا عَرَضْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِبَانَةَ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ بَابِلَ. وَلَمَّا ظَهَرَتْ الْفُرْسُ عَلَى هَذَا الْإِقْلِيمِ كَانَتْ تَتَدَيَّنُ بِقَتْلِ السَّحَرَةِ وَإِبَادَتِهَا، وَلَمْ يَزُلْ ذَلِكَ فِيهِمْ وَمِنْ دِينِهِمْ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَجُوسِيَّةِ فِيهِمْ وَقَبْلَهُ إلَى أَنْ زَالَ عَنْهُمْ الْمُلْكُ وَكَانَتْ عُلُومُ أَهْلِ بَابِل قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمْ الْحِيَلَ والنيرنجيات وَأَحْكَامِ النُّجُومِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَوْثَانًا قَدْ عَمِلُوهَا عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَجَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هَيْكَلًا فِيهِ صَنَمُهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهَا بِضُرُوبٍ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادَاتِهِمْ مِنْ مُوَافَقَةِ ذَلِكَ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ بِزَعْمِهِمْ فِعْلَ

خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ بِزَعْمِهِ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ الْمُشْتَرَى مِنْ الدَّخَنِ وَالرُّقَى وَالْعَقْدِ وَالنَّفْثِ عَلَيْهَا، وَمَنْ طَلَبِ شَيْئًا مِنْ الشَّرِّ وَالْحَرْبِ وَالْمَوْتِ وَالْبَوَارِ لِغَيْرِهِ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إلَى زُحَلَ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَرَادَ الْبَرْقَ وَالْحَرْقَ وَالطَّاعُونَ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إلَى الْمِرِّيخِ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ذَبْحِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَجَمِيعُ تِلْكَ الرُّقَى بِالنَّبَطِيَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْظِيمُ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ إلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضٍ، فَيُعْطِيهِمْ مَا شَاءُوا مِنْ ذَلِكَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا فِي غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرٍ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُلَامَسَةٍ سِوَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ; فَمِنْ الْعَامَّةِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا ثُمَّ إذَا شَاءَ أَعَادَهُ، وَيَرْكَبُ الْبَيْضَةَ وَالْمِكْنَسَةَ وَالْخَابِيَةَ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَيَمْضِي مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الْهِنْدِ وَإِلَى مَا شَاءَ مِنْ الْبُلْدَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ. وَكَانَتْ عَوَامُّهُمْ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَكُلُّ مَا دَعَا إلَى تَعْظِيمِهَا اعْتَقَدُوهُ وَكَانَتْ السَّحَرَةُ تَحْتَالُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِحِيَلٍ تُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ إلَى اعْتِقَاد صِحَّتِهِ بِأَنْ يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَبْلُغُ مَا يُرِيدُ إلَّا مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَلَمْ تَكُنْ مُلُوكُهُمْ تَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَتْ السَّحَرَةُ عِنْدَهَا بِالْمَحَلِّ الْأَجَلِ لِمَا كَانَ لَهَا فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنْ مَحِلِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَلِأَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ مَا تَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ لِلْكَوَاكِبِ، إلَى أَنْ زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاس فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ كَانُوا يَتَبَارَوْنَ بِالْعِلْمِ وَالسِّحْرِ وَالْحِيَلِ وَالْمَخَارِيقِ وَلِذَلِكَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَصَا وَالْآيَاتِ الَّتِي عَلِمَتْ السَّحَرَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ وَأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَلَمَّا زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ وَكَانَ مَنْ مُلْكِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ، وَكَانُوا يَدْعُونَ عَوَامَّ النَّاسِ وَجُهَّالَهُمْ سِرًّا كَمَا يَفْعَلُهُ السَّاعَةَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْأَحْدَاثِ وَالْأَغْمَارِ وَالْجُهَّالِ الْحَشْوَ وَكَانُوا يَدْعُونَ مَنْ يَعْمَلُونَ لَهُ ذَلِكَ إلَى تَصْدِيقِ قَوْلِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِصِحَّتِهِ وَالْمُصَدِّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ يَكْفُرُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: التَّصْدِيقُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِهِ الْكَوَاكِبَ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً وَالثَّانِي: اعْتِرَافُهُ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَقْدِرُ عَلَى ضَرِّهِ وَنَفْعِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّحَرَةَ تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ يُبَيِّنَانِ لِلنَّاسِ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعُونَ وَبُطْلَانَ مَا يَذْكُرُونَ، وَيَكْشِفَانِ لَهُمْ مَا بِهِ يُمَوِّهُونَ، وَيُخْبِرَانِهِمْ بِمَعَانِي تِلْكَ الرُّقَى وَأَنَّهَا شِرْكٌ وَكُفْرٌ وَبِحِيَلِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى التَّمْوِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ وَيُظْهِرُونَ لَهُمْ حَقَائِقَهَا وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ قَبُولِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فَهَذَا أَصْلُ سِحْرِ بَابِلَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا وَيُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَيَعِزُّونَهَا إلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنْهَا وَيُسَلِّمَهَا لَهُمْ.

فَمِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ كَثِيرٌ مِنْ التَّخْيِيلَاتِ الَّتِي مَظْهَرُهَا عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا. فَمِنْهَا مَا يَعْرِفهُ النَّاسُ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهَا وَظُهُورِهَا. وَمِنْهَا مَا يَخْفَى وَيَلْطُفُ وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَى بَاطِنِهِ إلَّا مَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ; لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَظَاهِرٍ وَغَامِضٍ. فَالْجَلِيُّ مِنْهُ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ وَسَمِعَهُ مِنْ الْعُقَلَاءِ، وَالْغَامِضُ الْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُهُ وَمَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَتَهُ وَتَكَلَّفْ فِعْلَهُ وَالْبَحْثَ عَنْهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا يَتَخَيَّلُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ إذَا سَارَتْ فِي النَّهْرِ فَيَرَى أَنَّ الشَّطَّ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ النَّخْلِ وَالْبُنْيَانِ سَائِرٌ مَعَهُ، وَكَمَا يَرَى الْقَمَرَ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ يَسِيرُ لِلْغَيْمِ فِي مَهَبِّ الْجَنُوبِ، وَكَدَوَرَانِ الدَّوَّامَةِ فِيهَا الشَّامَةِ فَيَرَاهَا كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ فِي أَرْجَائِهَا، وَكَذَلِكَ يَرَى هَذَا فِي الرَّحَى إذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ الدَّوْرَانِ، وَكَالْعُودِ فِي طَرَفِهِ الْجَمْرَةُ إذَا أَدَارَهُ مُدِيرُهُ رَأَى تِلْكَ النَّارَ الَّتِي فِي طَرَفِهِ كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ، وَكَالْعِنَبَةِ الَّتِي يَرَاهَا فِي قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ كَالْخَوْخَةِ وَالْإِجَّاصَةِ عَظْمًا، وَكَالشَّخْصِ الصَّغِيرِ يَرَاهُ فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا جَسِيمًا، وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيك قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ صَغُرَتْ، وَكَمَا يُرَى الْمُرَدَّى فِي الْمَاءِ مُنْكَسِرًا أَوْ مُعْوَجًّا، وَكَمَا يُرَى الْخَاتَمُ إذَا قَرَّبْته مِنْ عَيْنِك فِي سَعَةِ حَلْقَةِ السِّوَارِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا فَيَعْرِفُهَا عَامَّةُ النَّاسِ. وَمِنْهَا مَا يَلْطُفُ فَلَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ تَعَاطَاهُ وَتَأَمَّلَهُ كَخَيْطِ السَّحَّارَةِ الَّذِي يَخْرُجُ مَرَّةً أَحْمَرَ وَمَرَّةً أَصْفَرَ وَمَرَّةً أَسْوَدَ، وَمِنْ لَطِيفِ ذَلِكَ وَدَقِيقِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ مِنْ جِهَةِ الْحَرَكَات وَإِظْهَارِ التَّخْيِيلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا حَتَّى يُرِيك عُصْفُورًا مَعَهُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَهُ ثُمَّ يُرِيكَهُ وَقَدْ طَارَ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَإِبَانَةِ رَأْسِهِ، وَذَلِكَ لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ، وَالْمَذْبُوحُ غَيْرُ الَّذِي طَارَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ قَدْ خَبَّأَ أَحَدَهُمَا وَأَظْهَرَ الْآخَرَ، وَيُخَبِّئُ لِخِفَّةِ الْحَرَكَةِ الْمَذْبُوحَ وَيُظْهِرُ الَّذِي نَظِيرُهُ. وَيُظْهِرُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ إنْسَانًا وَأَنَّهُ قَدْ بَلَعَ سَيْفًا وَأَدْخَلَهُ فِي جَوْفِهِ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةٌ. وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحَرَكَات لِلصُّوَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَرَى فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَنْصَرِفُ بِحِيَلٍ قَدْ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ وَكَفَارِسٍ مِنْ صُفْرٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنْ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ وَلَا يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْجُنْدِ خَرَجَ بِبَعْضِ نَوَاحِي الشَّامِ مُتَصَيِّدًا وَمَعَهُ كلب له

وَغُلَامٌ فَرَأَى ثَعْلَبًا فَأَغْرَى بِهِ الْكَلْبَ فَدَخَلَ الثَّعْلَبُ ثُقْبًا فِي تَلٍّ هُنَاكَ وَدَخَلَ الْكَلْبُ خَلْفَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَأَمَرَ الْغُلَامَ أَنْ يَدْخُلَ فَدَخَلَ وَانْتَظَرَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَوَقَفَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُل فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِ الثَّعْلَبِ وَالْكَلْبِ وَالْغُلَامِ وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَخْرُجْ وَأَنَّهُ مُتَأَهِّبٌ لِلدُّخُولِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ إلَى هُنَاكَ، فَمَضَيَا إلَى سِرْبٍ طَوِيلٍ حَتَّى أَفْضَى بِهِمَا إلَى بَيْتٍ قَدْ فُتِحَ لَهُ ضَوْءٌ مِنْ مَوْضِعٍ يُنْزَلُ إلَيْهِ بِمِرْقَاتَيْنِ، فَوَقَفَ بِهِ عَلَى الْمِرْقَاةِ الْأُولَى حَتَّى أَضَاءَ الْبَيْتَ حِينًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: اُنْظُرْ فَنَظَرَ فَإِذَا الْكَلْبُ وَالرَّجُلُ وَالثَّعْلَبُ قَتْلَى، وَإِذَا فِي صَدْرِ الْبَيْتِ رَجُلٌ وَاقِفٌ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَرَى هَذَا لَوْ دَخَلَ إلَيْهِ هَذَا الْمَدْخَلَ أَلْفُ رِجْلٍ لَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ فَقَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ رُتِّبَ وَهُنْدِمَ عَلَى هَيْئَةٍ مَتَى وَضَعَ الْإِنْسَانُ رِجْلَهُ عَلَى الْمِرْقَاةِ الثَّانِيَةِ لِلنُّزُولِ تَقَدَّمَ الرَّجُلُ الْمَعْمُولُ فِي الصَّدْرِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِلْ إلَيْهِ فَقَالَ: فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي هَذَا؟ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَحْفِرْ مِنْ خَلْفِهِ سَرَبًا يُفْضِي بِك إلَيْهِ، فَإِنْ وَصَلَتْ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَمْ يَتَحَرَّك فَاسْتَأْجَرَ الْجُنْدِيُّ أُجَرَاءَ وَصُنَّاعًا حَتَّى حَفَرُوا سَرَبًا مِنْ خَلْف التَّلِّ فَأَفْضَوْا إلَيْهِ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَإِذَا رَجُل مَعْمُولٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ أُلْبِسَ السِّلَاحُ وَأُعْطِيَ السَّيْفُ فَقَلَعَهُ، وَرَأَى بَابًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ قَبْرٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ مَيِّتٍ عَلَى سَرِيرِ هُنَاكَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا مُصَوِّرُو الرُّومِ وَالْهِنْدِ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهَا، وَمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهَا صُورَةٌ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهَا إنْسَانٌ، وَحَتَّى تَصَوُّرُهَا ضَاحِكَةً أَوْ بَاكِيَةً، وَحَتَّى يُفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ الضَّحِكِ مِنْ الْخَجَلِ وَالسُّرُورِ وَضَحِكِ الشَّامِتِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ التَّخَايِيلِ وَخَفِيِّهَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ جَلِيِّهَا وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْن مِنْ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حِيَلِهِمْ فِي الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَسِحْرِهِمْ وَوُجُوهِ حِيَلِهِمْ بَعْضُهُ سَمِعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ وَبَعْضُهُ وَجَدْنَاهُ فِي الْكُتُبِ قَدْ نُقِلَتْ حَدِيثًا مِنْ النَّبَطِيَّةِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ، مِنْهَا كِتَابٌ فِي ذِكْرِ سِحْرِهِمْ وَأَصْنَافِهِ وَوُجُوهِهِ، وَكُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُرْبَانَاتٍ الْكَوَاكِبِ وَتَعْظِيمِهَا وَخُرَافَاتٍ مَعَهَا لَا تُسَاوِي ذِكْرَهَا وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا. وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ السِّحْرِ: وَهُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ حَدِيثِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَطَاعَاتِهِمْ لَهُمْ بِالرُّقَى وَالْعَزَائِمِ. وَيَتَوَصَّلُونَ إلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ بِتَقْدِمَةِ أُمُورٍ وَمُوَاطَأَةِ قَوْمٍ قَدْ أَعَدُّوهُمْ لِذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ يَجْرِي أَمْرُ الْكُهَّانِ مِنْ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ أَكْثَرُ مَخَارِيقِ الْحَلَّاجِ مِنْ بَابِ الْمُوَاطَآتِ وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَا يَحْتَمِلُ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ

لَذَكَرْت مِنْهَا مَا يُوقِفُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخَارِيقِهِ وَمَخَارِيقِ أَمْثَالِهِ. وَضَرَرُ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ وَفِتْنَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ غَيْرُ يَسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ بَابِ أَنَّ الْجِنَّ إنَّمَا تُطِيعُهُمْ بِالرُّقَى الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءُوا وَيُخْرِجُونَ الْجِنَّ لِمَنْ شَاءُوا فَتُصَدِّقُهُمْ الْعَامَّةُ عَلَى اغْتِرَارٍ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ انْقِيَادِ الْجِنِّ لَهُمْ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَتْ تُطِيعُ بِهَا سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَهُمْ بِالْخَبَايَا وَبِالسُّرُقِ وَقَدْ كَانَ الْمُعْتَضِدُ بِاَللَّهِ مَعَ جَلَالَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ اغْتَرَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي دَارِهِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِنِسَائِهِ وَأَهْلِهِ شَخْصٌ فِي يَدِهِ سَيْفٌ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُهُ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَإِذَا طُلِبَ لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ مَعَ كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ وَقَدْ رَآهُ هُوَ بِعَيْنِهِ مِرَارًا، فَأَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ وَدَعَا بِالْمُعَزِّمِينَ فَحَضَرُوا وَأَحْضَرُوا مَعَهُمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهِمْ مَجَانِينَ وَأَصِحَّاءَ، فَأَمَرَ بَعْضَ رُؤَسَائِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ، فَعَزَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا فَجُنَّ وَتَخَبَّطَ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ. وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْحِذْقِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ; إذْ أَطَاعَتْهُ الْجِنُّ فِي تَخْبِيطِ الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَزِّمِ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْهُ لِذَلِكَ الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى عَزَّمَ عَلَيْهِ جَنَّنَ نَفْسَهُ وَخَبَّطَ فَجَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَقَامَتْ نَفْسُهُ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، إلَّا أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الشَّخْصِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي دَارِهِ، فَخَرَقُوا عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ عَلَّقُوا قَلْبَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ لِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ حَضَرَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِم ثُمَّ تَحَرَّزَ الْمُعْتَضِدُ بِغَايَةِ مَا أَمْكَنَهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِيثَاقِ مِنْ سُورِ الدَّارِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ مِنْ تَسَلُّقٍ وَنَحْوِهِ، وَبَطَحَتْ فِي أَعْلَى السُّورِ خَوَابِي لِئَلَّا يَحْتَالَ بِإِلْقَاءِ الْمَعَالِيقِ الَّتِي يَحْتَالُ بِهَا اللُّصُوصُ; ثُمَّ لَمْ يُوقَفْ لِذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى خَبَرٍ إلَّا ظُهُورُهُ لَهُ الْوَقْتَ بَعْدَ الْوَقْتَ، إلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ. وَهَذِهِ الْخَوَابِي الْمَبْطُوحَةُ عَلَى السُّورِ وَقَدْ رَأَيْتهَا عَلَى سُوَرِ الثُّرَيَّا الَّتِي بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فَسَأَلْت صَدِيقًا لِي كَانَ قَدْ حَجَبَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاَللَّهِ عَنْ أَمْرِ هَذَا الشَّخْصِ، وَهَلْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُ؟ فَذَكَرَ لِي أَنَّهُ لَمْ يُوقَفْ عَلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ إلَّا فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ خَادِمًا أَبْيَضَ يُسَمَّى يَقِقْ، وَكَانَ يَمِيلُ إلَى بَعْضِ الْجَوَارِي اللَّاتِي فِي دَاخِلِ دُورِ الْحَرَمِ، وَكَانَ قَدْ اتَّخَذَ لِحًى عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَانَ إذَا لَبِسَ بَعْضَ تِلْكَ اللِّحَى لَا يَشُكُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهَا لِحْيَتُهُ، وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِحْيَةً مِنْهَا وَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِي يَدِهِ سَيْف أَوْ غَيْرُهُ مِنْ السِّلَاحِ حَيْثُ يَقَعُ نَظَرُ الْمُعْتَضِدِ. فَإِذَا طُلِبَ دَخَلَ بَيْنَ الشَّجَرِ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ أَوْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَمَرَّاتِ أَوْ الْعَطَفَاتِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِ طَالِبِيهِ نَزَعَ اللِّحْيَةَ وَجَعَلَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ حَوْزَتِهِ وَيَبْقَى السِّلَاحُ مَعَهُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْخَدَمِ الطَّالِبِينَ

لِلشَّخْصِ، وَلَا يَرْتَابُونَ بِهِ وَيَسْأَلُونَهُ هَلْ رَأَيْت فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ أَحَدًا فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهُ صَارَ إلَيْهَا؟ فَيَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا وَكَانَ إذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْفَزَعِ فِي الدَّارِ خَرَجَتْ الْجَوَارِي مِنْ دَاخِلِ الدُّورِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَرَى هُوَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ وَيُخَاطِبُهَا بِمَا يُرِيدُ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ مُشَاهَدَةَ الْجَوَارِي، وَكَلَامَهَا، فَلَمْ يَزُلْ دَأْبُهُ إلَى أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْبُلْدَانِ وَصَارَ إلَى طَرَسُوسَ وَأَقَامَ بِهَا إلَى أَنْ مَاتَ، وَتَحَدَّثَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ وَوُقِفَ عَلَى احْتِيَالِهِ فَهَذَا خَادِمٌ قَدْ احْتَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ لَهَا أَحَدٌ مَعَ شِدَّةِ عِنَايَةِ الْمُعْتَضِدِ، وَأَعْيَاهُ مَعْرِفَتُهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَلَمْ تَكُنْ صِنَاعَتُهُ الْحِيَلَ وَالْمَخَارِيقَ، فَمَا ظَنُّك بِمَنْ قَدْ جَعَلَ هَذَا صِنَاعَةً وَمَعَاشًا؟. وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ السِّحْرِ وَهُوَ السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَةِ بِهَا وَالْبَلَاغَاتُ، وَالْإِفْسَادِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، وَذَلِكَ عَامٌّ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَرَادَتْ إفْسَادَ مَا بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَصَارَتْ إلَى الزَّوْجَةِ فَقَالَتْ لَهَا: إنَّ زَوْجَك مُعْرِضٌ وَقَدْ سُحِرَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنْك وَسَأَسْحَرُهُ لَك حَتَّى لَا يُرِيدَ غَيْرَك وَلَا يَنْظُرَ إلَى سِوَاك، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَأْخُذِي مِنْ شَعْرٍ حَلَقَهُ بِالْمُوسَى ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ إذَا نَامَ وَتُعْطِينِيهَا، فَإِنَّ بِهَا يَتِمُّ الْأَمْرُ فَاغْتَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهَا وَصَدَّقَتْهَا ثُمَّ ذَهَبَتْ إلَى الرَّجُلِ وَقَالَتْ لَهُ: إنَّ امْرَأَتَك قَدْ عَلَّقَتْ رَجُلًا وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى قَتْلِك وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا فَأَشْفَقْت عَلَيْك وَلَزِمَنِي نُصْحُك، فَتَيَقَّظْ وَلَا تَغْتَرَّ فَإِنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ بِالْمُوسَى، وَسَتَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَمَا فِي أَمْرِهَا شَكٌّ فَتَنَاوَمَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا ظَنَّتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ عَمَدَتْ إلَى مُوسَى حَادٍّ وَهَوَتْ بِهِ لِتَحْلِقَ مِنْ حَلْقِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَهُ فَرَآهَا وَقَدْ أَهْوَتْ بِالْمُوسَى إلَى حَلْقِهِ فَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهَا أَرَادَتْ قَتْلَهُ، فَقَامَ إلَيْهَا فَقَتَلَهَا وَقُتِلَ وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى. وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ السِّحْرِ، وَهُوَ الِاحْتِيَالُ فِي إطْعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالدُّخَنِ الْمُسَدِّرَةِ الْمُسْكِرَةِ، نَحْوُ دِمَاغِ الْحِمَار إذَا طَعِمَهُ إنْسَانٌ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ مَعَ أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ، وَيَتَوَصَّلُونَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي طَعَامٍ حَتَّى يَأْكُلَهُ فَتَذْهَبَ فِطْنَتُهُ وَيَجُوزَ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مِمَّا لَوْ كَانَ تَامَّ الْفِطْنَةِ لَأَنْكَرَهَا، فَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ مَسْحُورٌ. وَحِكْمَةٌ كَافِيَةٌ تُبَيِّنُ لَك أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخَارِيقُ وَحِيَلٌ لَا حَقِيقَةَ لِمَا يَدَّعُونَ لَهَا أَنَّ السَّاحِرَ وَالْمُعَزِّمَ لَوْ قَدَرَا عَلَى مَا يَدَّعِيَانِهِ مِنْ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَدَّعُونَ وَأَمْكَنَهُمَا الطَّيَرَانُ وَالْعِلْمُ بِالْغُيُوبِ وَأَخْبَارِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْخَبِيئَاتِ وَالسُّرُقِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ مِنْ غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، لَقَدَرُوا عَلَى إزَالَةِ الْمَمَالِكِ وَاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْبُلْدَانِ بِقَتْلِ الْمُلُوكِ بِحَيْثُ لَا يَبْدَأهُمْ مَكْرُوهٌ، وَلَمَا مَسَّهُمْ السُّوءُ وَلَا

امْتَنَعُوا عَمَّنْ قَصَدَهُمْ بِمَكْرُوهٍ، وَلَاسْتَغْنَوْا عَنْ الطَّلَبِ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَكَانَ الْمُدَّعُونَ لِذَلِكَ أَسْوَأَ النَّاسِ حَالًا وَأَكْثَرَهُمْ طَمَعًا وَاحْتِيَالًا وَتَوَصُّلًا لِأَخْذِ دَرَاهِمِ النَّاسِ وَأَظْهَرَهُمْ فَقْرًا وَإِمْلَاقًا عَلِمْت أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَرُؤَسَاءُ الْحَشْوِن وَالْجُهَّالُ مِنْ الْعَامَّةِ مِنْ أَسْرَعِ النَّاسِ إلَى التَّصْدِيقِ بِدَعَاوَى السَّحَرَةِ وَالْمُعَزِّمِينَ وَأَشَدِّهِمْ نَكِيرًا عَلَى مَنْ جَحَدَهَا، وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا مُفْتَعَلَةً مُتَخَرِّصَةً يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا، كَالْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوُونَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ فَقَالَتْ: وَمَا سِحْرُك؟ قَالَتْ: سِرْت إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ عِلْمِ السِّحْرِ فَقَالَا لِي: يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَأَبَيْت، فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ فَذَهَبْت لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْت لَا فَعَلْت وَجِئْت إلَيْهِمَا فَقُلْت: قَدْ فَعَلْت، فَقَالَا: مَا رَأَيْت؟ فَقُلْت: مَا رَأَيْت شَيْئًا; فَقَالَا: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَيْهِ فَذَهَبْت وَفَعَلْت فَرَأَيْت كَأَنَّ فَارِسًا قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِي مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ حَتَّى صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ، فَجِئْتهمَا فَأَخْبَرْتهمَا فَقَالَا: ذَلِكَ إيمَانُك خَرَجَ عَنْك وَقَدْ أَحْسَنْت السِّحْرَ فَقُلْت: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَا: لَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِينَهُ فِي وَهْمِك إلَّا كَانَ فَصَوَّرْت فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِالْحَبِّ. فَقُلْت لَهُ: انْزَرِعْ فَانْزَرَعَ وَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبِلَا، فَقُلْت لَهُ: انْطَحَنَ وَانْخَبِزْ إلَى آخَرِ الْأَمْرِ حَتَّى صَارَ خُبْزًا وَإِنِّي كُنْت لَا أُصَوِّرُ فِي نَفْسِي شَيْئًا إلَّا كَانَ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: لَيْسَتْ لَك تَوْبَةٌ فَيَرْوِي الْقُصَّاصُ وَالْمُحَدِّثُونَ الْجُهَّالُ مِثْلَ هَذَا لِلْعَامَّةِ، فَتُصَدِّقُهُ وَتَسْتَعِيدُهُ وَتَسْأَلُهُ أَنْ يُحَدِّثَهَا بِحَدِيثِ سَاحِرَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَيَقُولُ لَهَا: إنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ أَخَذَ سَاحِرَةً فَأَقَرَّتْ لَهُ بِالسِّحْرِ، فَدَعَا الْفُقَهَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حُكْمِهَا، فَقَالُوا: الْقَتْلُ فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: لَسْت أَقْتُلُهَا إلَّا تَغْرِيقًا قَالَ: فَأَخَذَ رَحَى الْبَذْرِ فَشَدَّهَا فِي رِجْلِهَا وَقَذَفَهَا فِي الْفُرَاتِ، فَقَامَتْ فَوْقَ الْمَاءِ مَعَ الْحَجَرِ، فَجَعَلَتْ تَنْحَدِرُ مَعَ الْمَاءِ، فَخَافُوا أَنْ تَفُوتَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: مَنْ يُمْسِكُهَا وَلَهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَرَغِبَ رَجُلٌ مِنْ السَّحَرَةِ كَانَ حَاضِرًا فِيمَا بِذَلَهُ فَقَالَ: أَعْطَوْنِي قَدَحَ زُجَاجٍ فِيهِ مَاءٌ فَجَاءُوهُ بِهِ، فَقَعَدَ عَلَى الْقَدَحِ وَمَضَى إلَى الْحَجَرِ فَشَقَّ الْحَجَرَ بِالْقَدَحِ فَتَقَطَّعَ الْحَجَرُ قِطْعَةً قِطْعَةً، فَغَرِقَتْ السَّاحِرَةُ فَيُصَدِّقُونَهُ وَمَنْ صَدَّقَ هَذَا فَلَيْسَ يَعْرِفُ النُّبُوَّةَ وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا سَحَرَةً. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] . وَقَدْ أَجَازُوا مِنْ فِعْلِ السَّاحِرِ مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ هَذَا وَأَفْظَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِيهِ: "إنَّهُ يُتَخَيَّلُ لِي أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ" وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرْته فِي جُفِّ طَلْعَةٍ وَمُشْطٍ ومشاقة، حتى

أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا سَحَرَتْهُ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ وَهُوَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ، فَاسْتُخْرِجَ وَزَالَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُكَذِّبًا لِلْكُفَّارِ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8] . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ وَضْعِ الْمُلْحِدِينَ تَلَعُّبًا بِالْحَشْوِ الطَّغَامِ وَاسْتِجْرَارًا لَهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِإِبْطَالِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالْقَدْحِ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْجِزَات الْأَنْبِيَاءِ وَفِعْلِ السَّحَرَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَجْمَعُ بَيْنَ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَإِثْبَاتِ مُعْجِزَاتِهِمْ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] فَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ مَنْ كَذَّبَهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِبُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَانْتِحَالِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْيَهُودِيَّةُ بِجَهْلِهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي الْأَجْسَادِ. وَقَصَدَتْ بِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ; فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى مَوْضِعِ سِرِّهَا وَأَظْهَرَ جَهْلَهَا فِيمَا ارْتَكَبَتْ وَظَنَّتْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرَّهُ وَخَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الرُّوَاةِ إنَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظُ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ وَلَا أَصْلَ لَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ التَّخْيِيلَاتِ، أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ هِيَ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَبَوَاطِنُهَا كَظَوَاهِرِهَا، وَكُلَّمَا تَأَمَّلْتهَا ازْدَدْت بَصِيرَةً فِي صِحَّتِهَا، وَلَوْ جَهَدَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى مُضَاهَاتِهَا وَمُقَابِلَتِهَا بِأَمْثَالِهَا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْهَا; وَمَخَارِيقُ السَّحَرَةِ وَتَخْيِيلَاتُهُمْ إنَّمَا هِيَ ضَرْبٌ مِنْ الْحِيلَةِ وَالتَّلَطُّفِ لِإِظْهَارِ أُمُورٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمَا يَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ وَمَتَى شَاءَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغَ غَيْرِهِ وَيَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ سِوَاهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ مَا يَقِفُ النَّاظِرُ عَلَى جُمْلَتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، وَلَوْ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ لَطَالَ وَاحْتَجْنَا إلَى اسْتِئْنَافِ كِتَابٍ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَيَانُ مَعْنَى السِّحْرِ وَحُكْمِهِ وَالْآنَ حَيْثُ انْتَهَى بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذِكْرِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ حُكْمِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى مُدَّعِي ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَات عَلَى حَسَبِ مَنَازِلِهِمْ فِي عِظَمِ الْمَأْثَمِ وكثرة الفساد، والله أعلم بالصواب.

بَابُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ وَقَوْلِ السَّلَف فِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَجَاءَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا

أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا فَوَجَدُوا سِحْرَهَا وَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ، فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ، فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ أَمْرَهَا; وَكَانَ عُثْمَانُ إنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ; لِأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَكَرَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُولُ: كُنْت كَاتِبًا لِجُزَيِّ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَتَى كِتَابُ عُمَرَ أَنْ: اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ. وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "يُقْتَلُ السَّاحِرُ وَلَا يُسْتَتَابُ". وَرَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ سَاحِرًا فَدَفَنَهُ إلَى صَدْرِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ فَجَعَلَ يَفْشُو سِرَّهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُفْشِي سِرِّي؟ فَقَالُوا: سَاحِرٌ هَهُنَا فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إذَا نَشَرْت الْكِتَابَ عَلِمْنَا مَا فِيهِ، فَأَمَّا مَا دَامَ مَخْتُومًا فَلَيْسَ نَعْلَمُهُ; فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَّافِينَ كُهَّانُ الْعَجَمِ، فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا يُؤْمِنُ لَهُ بِمَا يَقُولُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَرَوَى مُبَارَكٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ جُنْدُبًا 1 قَتَلَ سَاحِرًا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَعْصِمَ وَامْرَأَةٌ مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَلَمْ يَقْتُلْهُمَا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: "يُقْتَلُ السَّاحِرُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ، وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى كُفْرِهِ وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ; فَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاحِرِ: يُقْتَلُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنِّي أَتْرُكُ السِّحْرَ وَأَتُوبُ مِنْهُ، فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ. وَإِنَّ أَقَرَّ فَقَالَ: كُنْت أَسْحَرُ وَقَدْ تَرَكْت مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً سَاحِرًا وَأَنَّهُ تَرَكَ مُنْذُ زَمَانٍ لَمْ يُقْتَلْ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ السَّاعَةَ سَاحِرٌ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَيُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحُرُّ الذِّمِّيُّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ فَيُقْتَلُ وَلَا يُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شُهِدَ عَلَى عَبْدٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ يعلم أنه

_ 1 هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو مجلز مات بعد الستين كذا في خلاصة تهذيب الكمال.

سِحْرٌ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَيَقْتُل، وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا وَتَرَكَ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً سَاحِرًا وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ السَّاعَةَ سَاحِرٌ لَمْ يُقْتَلْ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهَا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وَحُبِسَتْ وَضُرِبَتْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ لَهُمْ تَرْكُهَا لِلسِّحْرِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وَحُبِسَتْ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهَا تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ: فَحَكَمَ فِي السَّاحِرِ وَالسَّاحِرَةِ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ; إلَّا أَنْ يَجِيءَ فَيُقِرَّ بِالسِّحْرِ أَوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَهُ، فَإِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الرِّدَّةِ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّازِيّ قَالَ: سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّاحِرِ "يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ" لِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ؟ فَقَالَ: السَّاحِرُ قَدْ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. وَالسَّاعِي بِالْفَسَادِ إذَا قَتَلَ قُتِلَ.

مطلب في أن ثبوت السحر يكون إما باقتصاص الأثر وتتبعه وإما بالإخبار قَالَ: فَقُلْت لِأَبِي يُوسُفَ: مَا السَّاحِرُ؟ قَالَ: الَّذِي يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلُ مَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ إذَا أَصَابَ بِهِ قَتْلًا، فَإِذَا لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْ; لِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ; إذْ كَانَ لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ بَيَانُ مَعْنَى السِّحْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْقَتْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِي السِّحْرِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَشْوُ مِنْ إيصَالِهِمْ الضَّرَرَ إلَى الْمَسْحُورِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا سَقْيِ دَوَاءٍ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سِحْرُ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِهَةِ إرَادَتِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَى قَتْلِهِ بِإِطْعَامِهِ، وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَرَادُوا، كَمَا سَمَّتْهُ زَيْنَبُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَأَخْبَرَتْهُ الشَّاةُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ". قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسْلِمِ إذَا تَوَلَّى عَمَلَ السِّحْرِ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ بَاطِنًا لَمْ تُعْرَفْ تَوْبَتُهُ بِإِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ، إلَّا أَنْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ السَّاحِرُ: أَنَا أَعْمَلُ عَمَلًا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي; فَفِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ: عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ وَقَدْ تَعَمَّدْت قَتْلَهُ; قُتِلَ بِهِ قَوَدًا، وَإِنْ قَالَ: مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْهُ ثُمَّ تَكُونُ الدِّيَةُ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ السَّاحِرَ كَافِرًا بِسِحْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ جَانِيًا كَسَائِرِ الْجُنَاةِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِاسْتِحْقَاقِ سِمَةِ السِّحْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَافِرًا، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ; إذْ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِعَمَلِهِ السِّحْرَ فِي إيجَابِ قَتْلِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مَعَانِي السِّحْرِ وَضُرُوبَهُ; وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَمَذَاهِبِ الصَّابِئِينَ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} فِيمَا يُرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهِ وَالْمُصَدِّقَ بِهِ وَالْعَامِلَ بِهِ كَافِرٌ; وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدِي إنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ السِّحْرِ، مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نُطَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: "مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ السِّحْرُ الَّذِي نَسَبَهُ عَامِلُوهُ إلَى النُّجُومِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِل وَالصَّابِئِينَ; لِأَنَّ سَائِرَ ضُرُوبِ السِّحْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالنُّجُومِ عِنْدَ أَصْحَابِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ السِّحْرِ الْمَذْمُومِ يَتَنَاوَلُ هَذَا الضَّرْبَ مِنْهُ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ السِّحْرِ هُوَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْهُ وَمِمَّا يَدَّعِي فِيهِ أَصْحَابُهَا الْمُعْجِزَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقُوا ذَلِكَ بِفِعْلِ النُّجُومِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا; وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِقَتْلِ فَاعِلِهِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِ بَيْنَ عَامِلِ السِّحْرِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسِّعَايَةِ وَالشَّعْوَذَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنْ السَّحَرِ لَا تُوجِبُ قَتْلَ فَاعِلهَا إذَا لَمْ يَدَّعِ فِيهِ مُعْجِزَةً لَا يُمْكِنُ الْعِبَادَ فِعْلُهَا; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إيجَابَهُمْ قَتْلَ السَّاحِرِ إنَّمَا كَانَ لِمَنْ ادَّعَى بِسِحْرِهِ مُعْجِزَاتٍ لَا يَجُوزُ وُجُودُ مِثْلِهَا إلَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِمْ وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِل; وَالْآخَرُ: مَا يَدَّعِيهِ الْمُعَزِّمُونَ وَأَصْحَابُ النيرنجيات مِنْ خِدْمَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ وَالْفَرِيقَانِ جَمِيعًا كَافِرَانِ; أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ فِي سِحْرِهِ تَعْظِيمَ الْكَوَاكِبِ وَاعْتِقَادَهَا آلِهَةً، وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا حَيْثُ أَجَازَتْ أَنْ تُخْبِرَهَا الْجِنُّ بِالْغُيُوبِ وَتَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ فُنُونِ الْحَيَوَانِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَقَدْ جَوَّزَتْ وُجُودَ مِثْلِ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ الْكَذَّابِينَ الْمُتَخَرِّصَيْنِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لِتَجْوِيزِهِ كَوْنَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْلَامِ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُتَخَرِّصًا

كَذَّابًا فَإِنَّمَا كُفْرُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ جَهْلُهُ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. وَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ الَّذِي رَأَتْ الصَّحَابَةُ قَتْلَهُ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ وَلَا بَيَانٍ لِمَعَانِي سِحْرِهِ أَنَّهُ السَّاحِرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} وَهُوَ السَّاحِرُ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا ضُرُوبَ السِّحْرِ، وَهُوَ سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَغْلَبَ الْأَعَمَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ; وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَتَعَاطَى سَائِرَ ضُرُوبِ السَّحَر الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَانُوا يَجْرُونَ فِي دَعْوَاهُمْ الْإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ وَتَغْيِيرِ صُوَرِ الْحَيَوَانِ عَلَى مِنْهَاجِ سَحَرَةِ بَابِلَ، وَكَذَلِكَ كُهَّانُ الْعَرَبِ، يَشْمَلُ الْجَمِيعَ اسْمُ الْكُفْرِ لِظُهُورِ هَذِهِ الدَّعَاوَى مِنْهُمْ وَتَجْوِيزِهِمْ مُضَاهَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مُعْجِزَاتِهِمْ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ إيجَابُ قَتْلِ السَّاحِرِ مِنْ طَرِيقِ الْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ، بَلْ إيجَابُ قَتْلِهِ بِاعْتِقَادِهِ عَمَلَ السِّحْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُمْ لِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ وَأَصْحَابُ الْحَرَكَاتِ وَالْخِفَّةِ بِالْأَيْدِي، وَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِسَقْيِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ لِلْعَقْلِ أَوْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ. وَمَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّعْيِ بِالنَّمَائِمِ وَالْوِشَايَةِ وَالتَّضْرِيبِ وَالْإِفْسَادِ; فَإِنَّهُمْ إذَا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ ذَلِكَ حِيَلٌ وَمَخَارِيقُ، حُكْمُ مَنْ يَتَعَاطَى مِثْلَهَا مِنْ النَّاس لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدَّبَ وَيُزْجَرَ عَنْ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مُسْتَحِقٌّ لِاسْمِ الكفر قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ المفسرين وقوله {لِتَتْلُوَ} مَعْنَاهُ تُخْبِرُ وَتَقْرَأُ. ثُمَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَادَّعَتْهُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى سُلَيْمَانَ كَانَ كُفْرًا، فَنَفَاهُ اللَّهُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَحَكَمَ بِكُفْرِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَعَاطَوْهُ وَعَمِلُوهُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فَأَخْبَرَ عَنْ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لِمَنْ يُعَلِّمَانِهِ ذَلِكَ: لَا تَكْفُرْ بِعَمَلِ هَذَا السِّحْرِ وَاعْتِقَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ إذَا عُمِلَ بِهِ واعتقده. ثُمَّ قَالَ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ: مِنْ اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ اللَّهِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، يَعْنِي مِنْ نَصِيبٍ ثُمَّ قَالَ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فَجَعَلَ ضِدَّ هَذَا الْإِيمَانِ فِعْلَ السِّحْرِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ فِي مُقَابَلَةِ

فِعْلِ السِّحْرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ. وَإِذَا ثَبَتَ كُفْرُهُ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ فِي وَقْتٍ فَقَدْ كَفَرَ بِفِعْلِ السِّحْرِ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا خَالَفَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْهُ: إنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي فَرْقِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ السَّاحِرَ قَدْ جَمَعَ إلَى كُفْرِهِ السَّعْيَ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلُ: فَأَنْتَ لَا تَقْتُلُ الْخُنَّاقَ وَالْمُحَارِبِينَ إلَّا إذَا قَتَلُوا، فَهَلَّا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي السَّاحِرِ قِيلَ لَهُ: يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَنَّاقَ وَالْمُحَارِبَ لَمْ يَكْفُرَا قَبْلَ الْقَتْلِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّا الْقَتْلَ; إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُمَا سَبَبٌ يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْقَتْلَ، وَأَمَّا السَّاحِرُ فَقَدْ كَفَرَ بِسِحْرِهِ قَتَلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ، فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِكُفْرِهِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَعَ كُفْرِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَانَ وُجُوبُ قَتْلِهِ حَدًّا فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ إذَا اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ; فَهُوَ مُشْبِهٌ لِلْمُحَارِبِ الَّذِي قَتَلَ فِي أَنَّ قَتْلَهُ حَدًّا لَا تُزِيلُهُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَيُفَارِقَ الْمُرْتَدَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَحَسْبُ فَمَتَى انْتَقَلَ عَنْهُ زَالَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ. وَلِمَا وَصَفْنَا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْمُحَارَبَةِ; وَلِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ الْمَرْأَةُ السَّاحِرَةُ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عِنْدَهُمْ لَا تُقْتَلُ حَدًّا وَإِنَّمَا تُقْتَلُ قَوَدًا. وَوَجْهٌ آخَرُ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَرْكِ اسْتِتَابَةِ السَّاحِرِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُف فِي نَوَادِرَ ذَكَرَهَا عَنْهُ أَدْخَلَهَا فِي أَمَالِيهِ عَلَيْهِمْ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "اُقْتُلُوا الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ". وَلَمْ يَحْكِ أَبُو يُوسُف خِلَافَهُ وَيَصِحُّ بِنَاءُ مَسْأَلَةِ السَّاحِرِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ سِرًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنْدِيقِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ السَّاحِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ; لِأَنَّ كُفْرَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ قِيلَ لَهُ: الْكُفْرُ الَّذِي أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا أَظْهَرَهُ لَنَا، وَأَمَّا الْكُفْرُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ بِسِحْرِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَيْهِ وَلَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَنَا إقْرَارَهُ عَلَى السِّحْرِ بِالْجِزْيَةِ لَمْ نُجِبْهُ إلَيْهِ وَلَمْ نُجِزْ إقْرَارَهُ عَلَيْهِ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَيْضًا، فَلَوْ أَنَّ الذِّمِّيَّ السَّاحِرَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ بِكُفْرِهِ لَاسْتَحَقَّهُ بِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْمُحَارِبِينَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُمْ فِي تَرْكِ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، يُوجِبُ أَنْ لَا يُسْتَتَابَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ كَسَائِرِ الزَّنَادِقَةِ وَأَنْ يَقْتُلُوا مَعَ إظْهَارهمْ التَّوْبَةَ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ قَانِعٍ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ:

حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ". وَقِصَّةُ جُنْدُبٍ فِي قَتْلِهِ السَّاحِرَ بِالْكُوفَةِ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَشْهُورَةٌ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ" قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ قَتْلِهِ; وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدٌّ لَا يُزِيلُهُ التَّوْبَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ إذَا وَجَبَتْ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ قَالُوا فِيمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنَّهُ إذَا قَالَ كُنْت سَاحِرًا وَقَدْ تُبْت أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، كَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا وَجَاءَ تَائِبًا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ حَدًّا; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ لِعَمَلِهِ السِّحْرَ وَاسْتِدْعَائِهِ النَّاسَ إلَيْهِ وَإِفْسَادِهِ إيَّاهُمْ مَعَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ أَجْرَى السَّاحِرَ مَجْرَى الزِّنْدِيقِ، فَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ كَمَا لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ، وَلَمْ يَقْتُلْ سَاحِرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِكُفْرِهِ وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ. فَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْحَرْبِيُّ وَقَدْ بَيَّنَّا مُوَافَقَةَ السَّاحِرِ الذِّمِّيِّ لِلزِّنْدِيقِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ اسْتَحْدَثَ كُفْرًا سِرًّا، لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاحِرِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ; وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُحَارِبِ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُنْتَحِلِي الذِّمَّةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ بَيَّنَّا خُرُوجَهُ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَبِرْ قَتْلَهُ بِسِحْرِهِ وَأَوْجَبُوا قَتْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحُصُولِ الِاسْمِ لَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي ذِكْرِهِ قَتْلَ السَّاحِرِ بِغَيْرِهِ: إمَّا أَنْ يُجِيزَ عَلَى السَّاحِرِ قَتْلَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا اتِّصَالِ سَبَبٍ إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ، وَذَلِكَ فَظِيعٌ شَنِيعٌ وَلَا يُجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ مُضَاهَاتِهِ أَعْلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَوْ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ سَقْيِ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ فَإِنَّ مِنْ احْتَالَ فِي إيصَالِ دَوَاءٍ إلَى إنْسَانٍ حَتَّى شَرِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ دِيَةٌ; إذْ كَانَ هُوَ الشَّارِبَ لَهُ وَالْجَانِيَ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ سَيْفًا فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَوْجَرَهُ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِشُرْبِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ إلَّا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَوِي فِيهِ السَّاحِرُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قَوْلُهُ: "إذَا قَالَ السَّاحِرُ قَدْ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ

وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا بِحَدِيدَةِ قَدْ يَمُوتُ الْمَجْرُوحُ مِنْ مِثْلِهِ وَقَدْ لَا يَمُوتُ، لَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ الْقِصَاصُ; فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِهِ إيجَابَ الْقِصَاصِ كَمَا يَجِبُ فِي الْحَدِيدَةِ وَقَوْلُهُ: قَدْ يَمُوتُ وَقَدْ لَا يَمُوتُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي زَوَالِ الْقِصَاصِ لِوُجُودِهَا فِي الْجَارِحِ بِحَدِيدَةٍ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مِنْ عَمَلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالضَّرْبِ بِالْعَصَا وَاللَّطْمَةِ الَّتِي قَدْ تَقْتُلُ وَقَدْ لَا تَقْتُلُ قِيلَ لَهُ: وَلِمَ صَارَ بِالْقَتْلِ بِالْعَصَا وَاللَّطْمَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْحَدِيدَةِ؟. فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا سِلَاحٌ وَذَاكَ لَيْسَ بِسِلَاحِ، لَزِمَهُ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِسِلَاحِ أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ، وَيَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ السِّلَاحِ دُونَ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَإِنْ قَالَ مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْهُ مُخَالِفٌ فِي النَّظَرِ لِأَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ; لِأَنَّ مَنْ جَرَحَ رَجُلًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ، لَزِمَهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ وَكَانَ مَحْكُومًا بِحُدُوثِ الْمَوْتِ عِنْدَ الْجِرَاحَةِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى أَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَوْتِهِ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي السَّاحِرِ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَسْحُورَ مَرِضَ مِنْ سِحْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَرِيضِ مِنْ الْجِرَاحَةِ إذَا لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُحْكَمْ بِالْقَتْلِ حَتَّى يُقْسِمَ أَوْلِيَاءُ الْمَجْرُوحِ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ وَوَالَى بَيْنَ الضَّرْبِ حَتَّى قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، فَقَالَ الْجَارِحُ: مَاتَ مِنْ عِلَّةٍ كَانَتْ بِهِ قَبْلَ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ قَالَ: اخْتَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَمُتْ مِنْ ضَرْبَتِي; أَنْ تُقْسِمَ الْأَوْلِيَاءُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ; وَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي مَعْنَى السِّحْرِ وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ، وَنَتَكَلَّمُ الْآنَ فِي مَعَانِي الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا، فَنَقُولُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ الْجَمِيعَ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ; لِأَنَّ مُتَّبِعِي السِّحْرِ مِنْ الْيَهُودِ لَمْ يَزَالُوا مُنْذُ عَهْدِ سُلَيْمَانَ إلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَصَفَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا الْقُرْآنَ وَنَبَذُوهُ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ يُرِيدُ شَيَاطِينَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَمَعْنَى تَتْلُو: تُخْبِرُ وَتَقْرَأُ، وَقِيلَ: تَتْبَعُ; لِأَنَّ التَّالِيَ تَابِعٌ وَقَوْلُهُ: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} قِيلَ فِيهِ: عَلَى عَهْدِهِ، وَقِيلَ فِيهِ: عَلَى مُلْكِهِ، وَقِيلَ فِيهِ:

تَكْذِبُ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَبَرُ كَذِبًا قِيلَ تَلَا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ صِدْقًا قِيلَ: تَلَا عَنْهُ، وَإِذَا أُبْهِمَ جَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80] . وَكَانَتْ الْيَهُودُ تُضِيفُ السِّحْرَ إلَى سُلَيْمَانَ وَتَزْعُمُ أَنَّ مُلْكَهُ كَانَ بِهِ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ; ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَبِيًّا؟ وَاَللَّهِ مَا كَانَ إلَّا سَاحِرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . وَقِيلَ: إنَّ الْيَهُودَ إنَّمَا أَضَافَتْ السِّحْرَ إلَى سُلَيْمَانَ تَوَصُّلًا مِنْهُمْ إلَى قَبُولِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِتُجَوِّزهُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ: إنَّ سُلَيْمَانَ جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ أَوْ فِي خِزَانَتِهِ لِئَلَّا يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ: بِهَذَا كَانَ يَتِمُّ مُلْكُهُ; وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ وَقَبِلَتْهُ وَأَضَافَتْهُ إلَيْهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ دَفَنُوا السِّحْرَ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ فِي حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ وَظَهَرَ نَسَبُوهُ إلَى سُلَيْمَانَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُونَ لِذَلِكَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ اسْتَخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْهَمُوا النَّاس أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُوهِمُوهُمْ وَيَخْدَعُوهُمْ بِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} قَدْ قُرِئَ بِنَصْبِ اللَّامِ وَخَفْضِهَا; فَمَنْ قَرَأَهَا بِنَصْبِهَا جَعَلَهُمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِخَفْضِهَا جَعَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُمَا كَانَا عِلْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ. وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ غَيْرُ مُتَنَافِيَتَيْنِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ مَلَكَيْنِ فِي زَمَنِ هَذَيْنِ الْمَلِكَيْنِ لِاسْتِيلَاءِ السِّحْرِ عَلَيْهِمَا وَاغْتِرَارِهِمَا وَسَائِرِ النَّاسِ بِقَوْلِهِمَا وَقَبُولِهِمْ مِنْهُمَا، فَإِذَا كَانَ الْمَلَكَانِ مَأْمُورَيْنِ بِإِبْلَاغِهِمَا وَتَعْرِيفِهِمَا وَسَائِرِ النَّاسِ مَعْنَى السِّحْرِ وَمَخَارِيقِ السَّحَرَةِ وَكُفْرِهَا جَازَ أَنْ نَقُولَ فِي إحْدَى القراءتين: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، بِأَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ. وَنَقُولُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ مِنْ النَّاسِ; لِأَنَّ الْمَلِكَيْنِ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِإِبْلَاغِهِمَا وَتَعْرِيفِهِمَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِ رَسُولِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] فَأَضَافَ الْإِنْزَالَ تَارَةً إلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَارَةً إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَلَكَيْنِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِتَعْرِيفِ الْكَافَّةِ; لِأَنَّ الْعَامَّةَ كَانَتْ تَبَعًا لِلْمَلِكَيْنِ، فَكَانَ أَبْلَغُ الْأَشْيَاءِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِي السِّحْرِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِهِ تَخْصِيصَ الْمَلِكَيْنِ بِهِ لِيَتْبَعَهُمَا النَّاسُ. كَمَا قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وَقَدْ كَانَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَسُولَيْنِ إلَى رَعَايَاهُ كَمَا أُرْسِلَا إلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالْمُخَاطَبَةِ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ

فِي اسْتِدْعَائِهِ وَاسْتِدْعَاءِ رَعِيَّتِهِ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ دُونَ رَعَايَاهُمَا وَإِنْ كَانَ رَسُولًا إلَى كَافَّةِ النَّاسِ، لِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ تَبَعٌ لِلرَّاعِي. وَكَذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ لِكِسْرَى: "أَمَّا بَعْدُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ وَإِلَّا فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ" وَقَالَ لِقَيْصَرَ: "أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَإِلَّا فَعَلَيْكَ إثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ" يَعْنِي أَنَّك إذَا آمَنْتَ تَبِعَتْكَ الرَّعِيَّةُ، وَإِنْ أَبَيْتَ لَمْ تَسْتَجِبْ الرَّعِيَّةُ إلَى الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْك فَهُمْ تَبَعٌ لَك فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَلِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَصَّ الْمَلِكَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ بِإِرْسَالِ الْمَلَكَيْنِ إلَيْهِمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] . فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَلَائِكَةُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ وَمُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا جَائِزٌ شَائِعٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُرْسِلُ الْمَلَائِكَةَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ كَمَا يُرْسِلُهُمْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَثَّفَ أَجْسَامَهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ لِئَلَّا يَنْفِرُوا مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] يَعْنِي هَيْئَةَ الرَّجُلِ. وقَوْله تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الْمَلَكَيْنِ لِيُبَيِّنَا لِلنَّاسِ مَعَانِي السِّحْرِ وَيَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُ كُفْرٌ وَكَذِبٌ وَتَمْوِيهٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ حَتَّى يَجْتَنِبُوهُ، كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ لِيَجْتَنِبُوهُ وَلَا يَأْتُوهُ; فَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ كُفْرًا وَتَمْوِيهًا وَخِدَاعًا وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَدْ اغْتَرُّوا بِهِ وَصَدَّقُوا السَّحَرَةَ فِيمَا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِهِ، بَيَّنَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ عَلَى لِسَانِ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِيَكْشِفَا عَنْهُمْ غُمَّةَ الْجَهْلِ وَيَزْجُرَاهُمْ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: بَيَّنَّا سَبِيلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِيَجْتَبِيَ الْخَيْرَ وَيَجْتَنِبَ الشَّرَّ وَكَمَا قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فُلَانٌ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ. قَالَ: أَجْدَرُ أَنْ يَقَعْ فِيهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَيَانِ مَعَانِي السِّحْرِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ، وَبَيْنَ بَيَانِ سَائِرِ ضُرُوبِ الْكُفْرِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَتَحْرِيم الزِّنَا وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ; لِأَنَّ الْغَرَضَ لِمَا بَيَّنَّا فِي اجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ كَهُوَ فِي بَيَانِ الْخَيْرِ; إذْ لَا يَصِلْ إلَى فِعْلِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْم بِهِ; كَذَلِكَ اجْتِبَاءُ الطَّاعَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ، فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَتْ وَجَبَ بَيَانُ الشَّرِّ لِيَجْتَنِبَهُ; إذْ لَا يَصِلُ إلَى تَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَمِنْ النَّاس مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَذَبُوا عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ كَمَا كَذَبُوا عَلَى سُلَيْمَانَ، وَأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يَتْلُوهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَنْزِل عَلَيْهِمَا. وزعم أن قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} مَعْنَاهُ: مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إلَيْهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى: 10 – 11] أَيْ يَتَجَنَّبُ الْأَشْقَى الذِّكْرَى قال: وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ}

مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يُعَلِّمَانِ ذَلِكَ أَحَدًا وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَقْتَصِرَانِ عَلَى أَنْ لَا يُعَلِّمَاهُ حَتَّى يُبَالِغَا فِي نَهْيِهِ فَيَقُولَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} . وَاَلَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اسْتِنْكَارُهُ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ السِّحْرَ مَعَ ذَمِّهِ السِّحْرِ وَالسَّاحِرِ; وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ لَا يُوجَبُ; لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ لَا مَنْ يُبَيِّنُهُ لِلنَّاسِ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ مِنْ النَّاسِ مَعْنَى السِّحْرِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ لِيَجْتَنِبَهُ; وَهَذَا مِنْ الْفُرُوضِ الَّتِي أَلْزَمَنَا إيَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا رَأَيْنَا مِنْ اُخْتُدِعَ بِهِ وَتَمَوَّهَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فَإِنَّ الْفِتْنَةَ مَا يَظْهَرُ بِهِ حَالُ الشَّيْءِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، تَقُولُ الْعَرَبُ: "فَتَنْتُ الذَّهَبَ" إذَا عَرَضْته عَلَى النَّارِ لِتَعْرِفَ سَلَامَتَهُ أَوْ غِشَّهُ وَالِاخْتِبَارُ كَذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّ الْحَالَ تَظْهَرُ فَتَصِيرُ كَالْمُخْبِرَةِ عَنْ نَفْسِهَا. وَالْفِتْنَةُ: الْعَذَابُ، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] فَلَمَّا كَانَ الْمَلَكَانِ يُظْهِرَانِ حَقِيقَةَ السحر ومعناه قالا {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . وقال قتادة: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} : بَلَاءٌ وَهَذَا سَائِغٌ أَيْضًا; لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلَهُ فِتْنَةٌ لِمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ لِيَبْلُوهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: إنَّا فِتْنَةٌ وَبَلَاءٌ; لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي الشَّرِّ وَلَا يُؤْمَنُ وُقُوعُهُ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِحْنَةً كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ السِّحْرِ كُفْرٌ; لِأَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِهِ إيَّاهُ لِئَلَّا يَعْمَلَ بِهِ; لِأَنَّهُمَا عَلَّمَاهُ مَا السِّحْرُ وَكَيْفَ الِاحْتِيَالُ لِيَتَجَنَّبَهُ، وَلِئَلَّا يُتِمُّوهُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ السَّامِعُ فَيَكْفُرُ فَيَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً بِالرِّدَّةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا بِالنَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَةِ وَالْبَلَاغَاتِ الْكَاذِبَةِ وَالْإِغْرَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَتَمْوِيهِ الْبَاطِلِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ حَقٌّ فَيُفَارِقَهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ; الْإِذْنُ هُنَا الْعِلْمُ فَيَكُونُ اسْمًا إذَا كَانَ مُخَفَّفًا، وَإِذَا كَانَ مُحَرَّكًا كَانَ مَصْدَرًا، كَمَا يَقُولُ: حَذِرَ الرَّجُلُ حَذَرًا فَهُوَ حَذِرٌ; فَالْحَذِرُ الِاسْمُ; وَالْحَذَرُ الْمَصْدَرُ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَمَثَلٍ ومثل، وقيل فيه {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: بِتَخْلِيَتِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْعَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ السِّحْرُ وَمَنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَضَرَّهُ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} قِيلَ مَعْنَاهُ: مَنْ

اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ اللَّهِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَهُوَ النَّصِيبُ مِنْ الْخَيْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَا لَهُ مِنْ دِينٍ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالسِّحْرِ وَقَبُولَهُ كُفْرٌ. وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} قِيلَ: بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْت هَامَهْ يَعْنِي: بِعْته، وَهَذَا أَيْضًا يُؤَكِّدُ أَنَّ قَبُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ كُفْرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} قَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ كَلِمَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ. وَقِيلَ: إنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} [النساء: 46] . وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَهُمْ يُرِيدُونَ الْهُزْءَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8] ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ السَّامُّ عَلَيْكَ يُوهِمُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا مثله. وقوله: {وَرَاعِنَا} وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الْمُرَاعَاةَ وَالِانْتِظَارَ، فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ الْهُزْءَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي كَانَتْ الْيَهُودُ تُطْلِقُهُ نُهُوا عَنْ إطْلَاقِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الْمَعْنَى الْمَحْظُورِ إطْلَاقُهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِطْلَاقُ مُقْتَضِيًا لِمَعْنَى الْهُزْءِ وَإِنْ احْتَمَلَ الِانْتِظَارَ، وَمِثْلُهُ مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْوَعْدِ يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ؟ قَالَ الله تعالى: {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72] وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] وَمَتَى أُطْلِقَ عُقِلَ بِهِ الْخَيْرُ دُونَ الشَّرِّ; فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَرَاعِنَا} فِيهِ احْتِمَالُ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ بِالْهُزْءِ أَخُصَّ مِنْهُ بِالِانْتِظَارِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ احْتَمَلَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُهُ حَتَّى يُقَيَّدَ بِمَا يُفِيدُ الْخَيْرَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُزْءَ مَحْظُورٌ فِي الدِّينِ، وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ هُوَ مَحْظُورٌ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي كِتَابِهِ.

بَابُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} قَالَ قَائِلُونَ: "النَّسْخُ هُوَ الْإِزَالَةُ" وَقَالَ آخَرُونَ: "هُوَ الْإِبْدَالُ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] أَيْ يُزِيلُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيُبَدِّلُ مَكَانَهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ. وَقِيلَ: هُوَ النَّقْلُ، مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي مَوْضُوعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ فِي إطْلَاقِ الشَّرْعِ إنما هو

بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ، وَالنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ فِي التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلَاوَةِ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي شَرِيعَةِ نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ النَّسْخِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ نَسْخُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالسَّبْتِ وَالصَّلَاةِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ; قَالَ: لِأَنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرِيعَتَهُ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ ذَا حَظٍّ مِنْ الْبَلَاغَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مَحْظُوظٍ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَكَانَ سَلِيمَ الِاعْتِقَادِ غَيْرَ مَظْنُونٍ بِهِ غَيْرَ ظَاهِرٍ أَمْرُهُ; وَلَكِنَّهُ بَعُدَ مِنْ التَّوْفِيقِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ; إذْ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهَا أَحَدٌ، بَلْ قَدْ عَقَلَتْ الْأُمَّةُ سَلَفَهَا وَخَلَفَهَا مِنْ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ نَسْخَ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَنُقِلَ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا لَا يَرْتَابُونَ بِهِ وَلَا يُجِيزُونَ فِيهِ التَّأْوِيلَ كَمَا قَدْ عَقَلَتْ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ عَامًّا وَخَاصًّا وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، فَكَانَ دَافِعُ وُجُودِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَدَافِعِ خَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ; إذْ كَانَ وُرُودُ الْجَمِيعِ وَنَقْلُهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَارْتَكَبَ هَذَا الرَّجُلُ فِي الْآيِ الْمَنْسُوخَةِ وَالنَّاسِخَةِ وَفِي أَحْكَامِهَا أُمُورًا خَرَجَ بِهَا عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ مَعَ تَعَسُّفِ الْمَعَانِي وَاسْتِكْرَاهِهَا وَمَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ ظَنِّي فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِهِ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِنَقْلِ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ وَاسْتِعْمَالِ رَأْيِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِمَا قَدْ قَالَ السَّلَفُ فِيهِ وَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَكَانَ مِمَّنْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ" وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِمَا يُغْنِي ويكفي. وأما: {أَوْ نُنْسِهَا} قِيلَ إنَّهُ مِنْ النِّسْيَانِ، وَنَنْسَأهَا مِنْ التَّأْخِيرِ، يُقَالُ: نَسَأَت الشَّيْءَ: أَخَّرْته، وَالنَّسِيئَةُ: الدَّيْنُ الْمُتَأَخِّرُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] يَعْنِي تَأْخِيرَ الشُّهُورِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ النِّسْيَانُ، فَإِنَّمَا هُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التِّلَاوَةَ حَتَّى لَا يَقْرَءُوا ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ تِلَاوَتِهِ فَيُنْسَوْهُ عَلَى الْأَيَّامِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَنْسَوْهُ دَفْعَةً وَيَرْفَعَ مِنْ أَوْهَامِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا مَعْنَى قِرَاءَةِ أَوْ نَنْسَأْهَا فَإِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يُنَزِّلُهَا وَيُنَزِّلُ بَدَلًا مِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمُصْلِحَةِ أَوْ يَكُونُ أَصْلَحَ لِلْعِبَادِ مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَخِّرَ إنْزَالَهَا إلَى وَقْتٍ يَأْتِي فَيَأْتِي بَدَلًا مِنْهَا لَوْ أَنْزَلَهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ فَيَقُومَ مَقَامَهَا فِي الْمُصْلِحَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: "بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ" كَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُوَلَّى وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ فِي الْقِتَالِ ثُمَّ قَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] أَوْ مِثْلِهَا كَالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَمَا كَانَ إلَى بَيْتِ

الْمَقْدِسِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ فِي كَثْرَةِ الصَّلَاحِ أَوْ مِثْلِهَا. فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ لَكُمْ إمَّا فِي التَّخْفِيفِ أَوْ فِي الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: خَيْرٌ مِنْهَا فِي التِّلَاوَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ فِي مَعْنَى التِّلَاوَة وَالنَّظْمِ; إذْ جَمِيعُهُ مُعْجِزٌ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسَّنَةِ; لِأَنَّ السَّنَةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَهَذَا إغْفَالٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ لِاسْتِوَاءِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي إعْجَازِ النَّظْمِ وَالْآخِرُ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّظْمَ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إمَّا التَّخْفِيفُ أَوْ الْمَصْلَحَةِ. وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ أَرَادَ التِّلَاوَةَ، فَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهِ بِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ إنَّمَا تَقْتَضِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ لِلْحُكْمِ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِلتِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ تِلَاوَةِ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ مِنْ مُحْكَمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَمَنْ أَرَادَهَا فَلْيَطْلُبْهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] . قَالَ: نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ} [التوبة: 29] الْآيَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وقَوْله تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُتَارَكَةً. فَهَذِهِ

الْآيَاتُ كُلُّهَا أُنْزِلَتْ قَبْلَ لُزُومِ فَرْضِ الْقِتَالِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ; وَإِنَّمَا كَانَ الْغَرَضُ الدُّعَاءَ إلَى الدِّينِ حِينَئِذٍ بِالْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُوجَدُ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] وقَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] وقَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [طه: 133] {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَظْهَرْهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِتَالِ بَعْدَ قَطْعِ الْعُذْرِ فِي الْحِجَاجِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَهُمْ حِينَ اسْتَقَرَّتْ آيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي وَالدَّانِي وَالْقَاصِي بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي لَا يُكَذَّبُ مِثْلُهَا وَسَنَذْكُرُ فَرْضَ الْقِتَالِ عِنْدَ مَصِيرِنَا إلَى الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ بَخْتُ نَصْر، خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَعَانَ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى. وقَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} قَالَ: هُمْ النَّصَارَى لَا يَدْخُلُونَهَا إلَّا مُسَارَقَةً، فَإِنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خزي، قال: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "هُمْ النَّصَارَى خَرَّبُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ قَتَادَةَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ عَهْدَ بَخْتَ نَصَّرَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَهْرِ طَوِيلٍ، وَالنَّصَارَى إنَّمَا كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ وَإِلَيْهِ يَنْتَمُونَ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَ بَخْتَ نَصَّرَ فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالنَّصَارَى إنَّمَا اسْتَفَاضَ دِينُهُمْ فِي الشَّامِ وَالرُّومِ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِين الْمَلِكِ وَكَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِمِائَتِي سَنَةٍ وَكُسُورٍ؟ وَإِنَّمَا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ صَابِئِينَ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ وَكَانَ مِنْ يَنْتَحِلُ النَّصْرَانِيَّةَ مِنْهُمْ مَغْمُورِينَ مُسْتَخِفِّينَ بِأَدْيَانِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّصَارَى تَعْتَقِدُ مِنْ تَعْظِيمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِثْلَ اعْتِقَادِ الْيَهُودِ فَكَيْفَ أَعَانُوا عَلَى تَخْرِيبِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ؟ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ سَعْيَهُمْ فِي خَرَابِهِ إنَّمَا هُوَ مَنْعُهُمْ مِنْ عِمَارَتِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّة دُخُولَ الْمَسَاجِدِ من وجهين،

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وَالْمَنْعُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْآخَرُ: الِاعْتِقَادُ وَالدِّيَانَةُ وَالْحُكْمُ; لِأَنَّ مِنْ اعْتَقَدَ مِنْ جِهَةِ الدِّيَانَةِ الْمَنْعَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسَاجِد فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ فِيهِ قَدْ مَنَعَ مَسْجِدًا أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ اسْمَهُ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ هَاهُنَا مَعْنَاهُ الْحَظْرُ، كَمَا جَائِز أَنْ يُقَالَ مَنَعَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْعُصَاةَ مِنْ الْمَعَاصِي بِأَنْ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا; فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُنْتَظِمًا لِلْأَمْرَيْنِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إخْرَاجَهُمْ مِنْهَا إذَا دَخَلُوهَا لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانُوا خَائِفِينَ بِدُخُولِهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} وَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَرِّبَهَا بِيَدِهِ، وَالثَّانِي: اعْتِقَادُهُ وُجُوبَ تَخْرِيبِهَا; لِأَنَّ دِيَانَاتهمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَدُلُّ عَلَى مِثْلِ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] وَعِمَارَتُهَا تَكُون مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِنَاؤُهَا وَإِصْلَاحُهَا، وَالثَّانِي: حُضُورُهَا وَلُزُومُهَا، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ; يَعْنِي يَحْضُرُهُ وَيَلْزَمُهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ"، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فَجَعَلَ حُضُورَهُ الْمَسَاجِدَ عِمَارَةً لَهَا وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ لَهُمْ دُخُولَ الْمَسَاجِدِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَاصَّةً أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً، إطْلَاقُهُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: جَائِز أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مَوْضِع مِنْ الْمَسْجِدِ مَسْجِدٌ كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمَجْلِسِ مَجْلِسٌ، فَيَكُونُ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَى جُمْلَتِهِ تَارَةً وَعَلَى كُلِّ مَوْضِعِ سُجُودٍ فِيهِ أُخْرَى؟ قِيلَ لَهُ: لَا تَنَازُعَ بَيْن أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ مَسَاجِدُ كَمَا لَا يُقَالُ إنَّهُ مَسْجِدَانِ، وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلدَّارِ الْوَاحِدَةِ إنَّهَا دُورٌ; فَثَبَتَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ سُمِّيَ مَوْضِعُ السُّجُودِ مَسْجِدًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ مُقَيَّدًا غَيْرَ مُطْلَقٍ وَحُكْمُ الْإِطْلَاقِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مَا وَصَفْنَا، وَعَلَى أَنَّك لَا تَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَإِنَّمَا تُرِيدُ تَخْصِيصَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَك بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} رَوَى أَبُو أَشْعَثَ السَّمَّانُ، عَنْ عَاصِمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رِجْلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . وَرَوَى أَيُّوبُ بْنُ عَتَبَة عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ قَوْمًا خَرَجُوا فِي سَفَرٍ فَصَلُّوا فَتَاهُوا عَنْ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "تَمَّتْ صَلَاتُكُمْ". وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَة، عَنْ رَجُلٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ يُخْطِئُ الْقِبْلَةَ فِي السَّفَرِ وَيُصَلِّي، قَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وَحَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ الْحَافِظِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، قَالَ: وَجَدْت فِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً كُنْت فِيهَا، فَأَصَابَتْنَا ظُلْمَةٌ فَلَمْ نَعْرِفْ الْقِبْلَةَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَّا: قَدْ عَرَفْنَا الْقِبْلَةَ هَاهُنَا قِبَلَ الشَّمَالِ، فَصَلُّوا وَخَطُّوا خُطُوطًا; وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقِبْلَةُ هَاهُنَا قِبَلَ الْجَنُوبِ، وَخَطُّوا خُطُوطًا; فَلَمَّا أَصْبَحْنَا وَطَلَعَتْ الشَّمْسُ وَأَصْبَحَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةُ، فَلَمَّا قَفَلْنَا مِنْ سَفَرِنَا سَأَلْنَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ الله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَيْ حَيْثُ كُنْتُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ سَبَب نُزُول الْآيَةِ كَانَ صَلَاةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ اجْتِهَادًا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، وَفِيهِ أُنْزِلَتْ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ: هِيَ الْقِبْلَةُ الْأُولَى ثُمَّ نَسَخَتْهَا الصَّلَاةُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَنْ يُصَلِّيَ إلَى حَيْثُ شَاءَ وَإِنَّمَا كَانَ تَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ حَتَّى أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ صَلَّى فِي سَفَرٍ مُجْتَهِدًا إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ; وَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَالثَّوْرِيُّ: إنْ وَجَدَ مَنْ يَسْأَلُهُ فَيُعَرِّفُهُ جِهَةَ الْقِبْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَرِّفُهُ جِهَتَهَا فَصَلَّاهَا بِاجْتِهَادِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ صَلَّاهَا مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشَرِّقًا أَوْ مَغْرِبًا عَنْهَا. وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وابن أبي

سَلَمَةَ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يُعِدْ; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَرَوَى أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ: "إنَّمَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إذَا صَلَّاهَا مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ أَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ، وَإِنْ تَيَامَنَ قَلِيلًا أَوْ تَيَاسَرَ قَلِيلًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ اجْتَهَدَ فَصَلَّى إلَى الْمَشْرِقِ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ فِي الْمَغْرِبِ اسْتَأْنَفَ، فَإِنْ كَانَتْ شَرْقًا ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ فَتِلْكَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ وَيُعْتَدُّ بِمَا مَضَى. قال أبو بكر ظاهر الآية يدل على جَوَازِهَا إلَى أَيِّ جِهَةٍ صَلَّاهَا وَذَلِكَ أَنَّ قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} مَعْنَاهُ: فَثَمَّ رِضْوَانُ اللَّهِ; وَهُوَ الْوَجْهَ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] يَعْنِي لِرِضْوَانِهِ وَلِمَا أَرَادَهُ مِنَّا، وَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يَعْنِي مَا كَانَ لِرِضَاهُ وَإِرَادَتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَجَابِرٍ اللَّذَيْنِ قَدَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ فِي هَذَا أُنْزِلَتْ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيَانِ الْقِبْلَةِ قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّفِقَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيُسْأَلُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا فَيُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَة وَيُرِيدُ بِهَا بَيَانَ حُكْمِ جَمِيعِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِأَنْ يَقُولَ: إذَا كُنْتُمْ عَالِمِينَ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ مُمَكَّنِينَ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا فَذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ فَصَلُّوا إلَيْهَا. وَإِذَا كُنْتُمْ خَائِفِينَ أَوْ فِي سَفَرٍ فَالْوَجْهُ الَّذِي يُمْكِنُكُمْ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ، وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْكُمْ الْجِهَاتُ فَصَلَّيْتُمْ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ فَهِيَ وَجْهُ اللَّهِ؟ وَإِذَا لَمْ تَتَنَافَ إرَادَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَصَّ حَدِيثُ جَابِرٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا أَخْطَأَ، وَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَدْبِرَ لِلْقِبْلَةِ وَالْمُتَيَاسِرَ وَالْمُتَيَامِنَ عَنْهَا سَوَاءٌ; لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَهُمْ صَلَّى إلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْآخِرَ إلَى نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ وَهَاتَانِ جِهَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا أَيْضًا حَدِيثٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ". وَهَذَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ جَمِيعِ الْجِهَاتِ قِبْلَةً، إذْ كَانَ قَوْلُهُ: "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" كَقَوْلِهِ: جَمِيعُ الْآفَاقِ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الدُّنْيَا؟ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَعْقُولِ خِطَابِ النَّاسِ مَتَى أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَيَشْمَلُ اللَّفْظُ جَمِيعَهَا وَأَيْضًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ مَكَّةَ فَإِنَّمَا صَلَاتُهُ إلَى الْكَعْبَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ اجْتِهَادٍ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوقِنُ بِالْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا فِي مُحَاذَاةِ

الْكَعْبَةِ غَيْرَ مُنْحَرِفٍ عَنْهَا، وَصَلَاةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ; إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَهَا، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي السَّفَرِ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَهَا وَمَنْ أَوْجَبَ الْإِعَادَةَ فَإِنَّمَا يُلْزِمُهُ فَرْضًا آخَرَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامَهُ فَرْضًا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; فَإِنْ أَلْزَمُونَا عَلَيْهِ بِالثَّوْبِ يُصَلَّى فِيهِ ثُمَّ تُعْلَمُ نَجَاسَتُهُ أَوْ الْمَاءِ يُتَطَهَّرُ بِهِ ثُمَّ يُعْلَمُ أَنَّهُ نَجِسٌ. قِيلَ لَهُمْ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَاهُ بَعْدَ الْعِلْمِ فَرْضًا آخَرَ بِدَلَالَةِ قَامَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى إلْزَامِ الْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَرْضًا آخَرَ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجُوزُ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهِيَ صَلَاةُ النَّفْلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ بِهِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، فَلَمَّا جَازَتْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِذَا صَلَّى الْفَرْضَ إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا عَلَى مَا كُلِّفَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّبَيُّنِ غَيْرُهَا وَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِمَاءِ نَجِسٍ بِحَالٍ، لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ; لِأَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي تَوَجَّهَ إلَيْهَا قَدْ قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْقِبْلَةِ كَالتَّيَمُّمِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِلْمُصَلِّي فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَالْمُتَطَهِّرِ بِمَاءٍ نَجِسٍ مَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّهَارَةَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ وَلَا مَاءٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ مَسْأَلَتُنَا صَلَاةُ الْخَائِفِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَيُبْنَى عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جِهَةٌ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَهَا فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: قِيَامُ هَذِهِ الْجِهَةِ مَقَامَ الْقِبْلَةِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَالْمُتَيَمِّمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الصَّلَاةُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الْكَعْبَةِ لَا يَتَّسِعُ لِصَلَاةِ النَّاسِ الْغَائِبِينَ عَنْهَا حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصَلِّيًا لِمُحَاذَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَامِعَ مِسَاحَتُهُ أَضْعَافُ مِسَاحَةِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ جَمِيعُ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ مُحَاذِيًا لِسَمْتِهَا وَقَدْ أُجِيزَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ؟ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كُلِّفُوا التَّوَجُّهَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهَا مُحَاذِيَةُ الْكَعْبَةِ، لَا مُحَاذَاتُهَا بِعَيْنِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الْعُذْرِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْتُ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُحَاذِي لِلْكَعْبَةِ دُونَ مَنْ بَعُدَ مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الثَّانِي تَوَجُّهُهُ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِهَا، قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ هَذَا الِاعْتِبَارُ سَائِغًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُجِيزَ صَلَاةَ الْجَمِيعِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُحَاذَاةُ الْكَعْبَةِ مِقْدَارَ عِشْرِينَ ذِرَاعًا إذَا كَانَ مُسَامِتَهَا، ثُمَّ قَدْ رَأَيْنَا أَهْلَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ قَدْ أَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِينَ حَاذَوْهَا هُمْ الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَقْصُرُ عَدَدُهُمْ عَنْ النِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ لِقِلَّتِهِمْ، وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحَاذِي الْكَعْبَةَ حِينَ لَمْ يُغَادِرْهَا ثُمَّ أَجْزَأَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ،

وَلَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ مَعَ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ فِي الْأُصُولِ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ دُونِ الْأَخَصِّ الْأَقَلِّ حَتَّى صَارَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَحْظُورًا قَتْلُهُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنْ مُرْتَدٍّ وَمُلْحِدٍ وَحَرْبِيٍّ; وَمَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ مُسْلِمٍ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرٍ؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُصُولِ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ يُجْرَى حُكْمُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَكْثَرِ الْأَعَمِّ حُكْمٌ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ، ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي وَقْتِهِ هُوَ مَا عِنْده أَنَّهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَفِي اجْتِهَادِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَأَنْ لَا إعَادَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تُوجِبُ الْإِعَادَةَ عَلَى مِنْ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ مَعَ إمْكَانِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَإِنَّمَا أَجَزْنَا فِيمَا وَصَفْنَا صَلَاةَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْحَالِ الَّتِي يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ جِهَةِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْمَسْأَلَةَ عَنْهَا وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّمَا يُؤَدِّي فَرْضَهُ بِاجْتِهَادِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْضُ فِيهِ نَسْخٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأُخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَاسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُسْتَدْبِرِينَ لَهَا; لِأَنَّ مَنْ اسْتَقْبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَهُوَ مُسْتَدْبِرٌ لِلْكَعْبَةِ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ حِينَ فَعَلُوا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ وُرُودِ النَّسْخِ; إذْ الْأَغْلَبُ أَنَّهُمْ ابْتَدَءُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ النَّسْخِ; لِأَنَّ النَّسْخَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَارَ الْمُخْبِرُ إلَى قُبَاءَ بَعْدَ النَّسْخِ وَبَيْنَهُمَا نَحْوَ فَرْسَخٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ صَلَاتِهِمْ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَطُولَ مُكْثُهُمْ فِي الصَّلَاةِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَلَوْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً; لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ النَّسْخِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ ابْتَدَءُوهَا قَبْلَ النَّسْخِ وَكَانَ ذَلِكَ فَرْضَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فَرْضٌ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فَرْضُهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اجْتَهَدَ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ ثُمَّ وَجَدَ النَّصَّ فِيهِ، فَيَبْطُلُ اجْتِهَادُهُ مَعَ النَّصِّ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت; لِأَنَّ النَّصَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ مُعَايَنَتِهَا أَوْ الْعِلْمِ بِهَا، وَلَيْسَتْ لِلصَّلَاةِ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا الْمُصَلِّي، بَلْ سَائِرُ الْجِهَات لِلْمُصَلِّينَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَمَنْ شَاهَدَ

الْكَعْبَةَ أَوْ عَلِمَ بِهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَفَرْضُهُ الْجِهَةُ الَّتِي يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ الْكَعْبَةُ جِهَةَ فَرْضِهِ، وَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْجِهَةُ فَفَرْضُهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ; فَقَوْلُكَ إنَّهُ صَارَ مِنْ الِاجْتِهَادِ إلَى النَّصِّ خَطَأٌ; لِأَنَّ جِهَةَ الْكَعْبَةِ لَمْ تَكُنْ فَرْضَهُ فِي حَالِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا النَّصُّ فِي حَالِ إمْكَانِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْكَعْبَةِ وَالْجَهْلِ بِجِهَتِهَا، فَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ لَمَا سَاغَ الِاجْتِهَادُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى نَصًّا عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْعِلْمِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى نَصًّا عَلَى الْحُكْمِ فِي حَادِثَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَبْقَى عَلَى وَلَدِهِ; لِأَنَّهُ نَفَى الْوَلَدَ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَعْنِي مُلْكَهُ وَلَيْسَ بِوَلَدِهِ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 92 -93] فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِتْقَ وَلَدِهِ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الْوَالِدِ إذَا مَلَكَهُ وَلَدُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى عِتْقِ الْوَلَدِ إذَا مَلَكه أَبُوهُ، وَاقْتَضَى خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِتْقَ الْوَالِدِ إذَا مَلَكَهُ وَلَدُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ: إذَا مَلَكَ أَبَاهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْتِقَهُ لِقَوْلِهِ: فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي عِتْقًا مُسْتَأْنَفًا بَعْدَ الْمِلْكِ فَجُهِلَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ جَمِيعًا; لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بِالشِّرَى; إذْ قَدْ أَفَادَ أَنَّ شِرَاهُ مُوجِبٌ لِعِتْقِهِ; وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النَّاسُ غَادِيَانِ: فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا، وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا" يُرِيدُ أَنَّهُ مُعْتِقُهَا بِالشِّرَى لَا بِاسْتِئْنَافِ عِتْقٍ بَعْدَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} ; اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَلَاهُ بِالْمَنَاسِكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "ابْتَلَاهُ بِقَتْلِ وَلَدِهِ وَالْكَوَاكِبِ". وَرَوَى طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ابْتَلَاهُ بِالطَّهَارَةِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ فَالْخَمْسَةُ فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الرَّأْسِ; وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ" 1 وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ مَكَانَ الْفَرْقِ: "إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ" وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَأْوِيلَ الْآيَةِ. وَرَوَاهُ عَمَّارُ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، كَرِهْتُ الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ أَسَانِيدِهَا وَسِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا; إذْ هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَقَدْ نَقَلَهَا النَّاسُ قَوْلًا وَعَمَلًا وَعَرَفُوهَا مِنْ

_ 1 قوله "من الفطرة" أي من سنة الأنبياء التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها هكذا في النهاية "لمصححه".

سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَكُونُ مُرَادُ الْآيَةِ جَمِيعَهُ، وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَمَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَوَفَّى بِهِ وَقَامَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ; لِأَنَّ ضِدَّ الْإِتْمَامِ النَّقْصُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِإِتْمَامِهِنَّ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَشْرَ الْخِصَالِ فِي الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ مِنْ الْفِطْرَةِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُقْتَدِيًا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وَبِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] .

مطلب في الحث على نظافة البدن والثياب وَهَذِهِ الْخِصَالُ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ سُنَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّنْظِيفُ وَنَفْيُ الْأَقْذَارِ وَالْأَوْسَاخِ عَنْ الْأَبَدَانِ وَالثِّيَابِ مَأْمُورًا بِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَظَرَ إزَالَةَ التَّفَثِ وَالشَّعْرِ فِي الْإِحْرَامِ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ "أَنْ يَسْتَاكَ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ" فَهَذِهِ كُلُّهَا خِصَالٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ مَحْمُودَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَقَدْ أَكَّدَهَا التَّوْقِيفُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَيَّانِ التَّمَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَا: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ حَيَّانِ الْعِجْلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ فَرُّوخَ أَبُو وَاصِلٍ قَالَ: أَتَيْت أَبَا أَيُّوبَ فَصَافَحَتْهُ فَرَأَى فِي أَظْفَارِي طُولًا فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَقَالَ: "يَجِيءُ أَحَدُكُمْ يَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأَظْفَارُهُ كَأَنَّهَا أَظْفَارُ الطَّيْرِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْخَبَاثَةُ وَالتَّفَثُ؟ " وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سهل بن أيوب قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَذَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ زَيْدٍ الْأَهْوَازِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَهِمُ 1 قَالَ: "وَمَا لِي لَا أَهِمُ وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ أَظْفَارِهِ وَأَنَامِلِهِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه كَانَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى الْجُمُعَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن

_ 1 قوله "إنك تهم" مضارع "وهم" بمعنى غلط، وفي رواية أخرى "أنك لتوهم" بمعنى تغلط. وقوله "رفغ أحدكم" الرفغ بالضم والفتح واحد الأفراغ وهي أصول المغابن كالآبط وغيرها من مطاوي الأعضاء وما يجتمع فيها من الوسخ والعرق وأراد بالرفغ هنا وسخ الظفر كما في النهاية. "لمصححه".

أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ: "أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ؟ " وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: "أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟ " حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ السَّدُوسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَمْسٌ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُهُنَّ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِدْرَى 1 وَالسِّوَاكِ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَّتَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ الدَّقِيقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَوَّرُ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إدْرِيسُ الْحَدَّادُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اطَّلَى وَلِيَ مَغَابِنَهُ بِيَدِهِ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي: حَدَّثَنَا مُطَيْرٌ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ: حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "اطَّلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَاهُ رَجُلٌ فَسَتَرَ عَوْرَتَهُ بِثَوْبٍ وَطَلَى الرَّجُلُ سَائِرَ جَسَدِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "اُخْرُجْ عَنِّي" ثُمَّ طَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْرَتَهُ بِيَدِهِ". وَقَدْ رَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٌ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَوَّرُ، فَإِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ حَلَقَهُ". وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ عَادَتَهُ كَانَتْ الْحَلْقَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ الْأَكْثَرَ الْأَعَمَّ لِيَصِحَّ الْحَدِيثَانِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ تَوْقِيتِ الْأَرْبَعِينَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ فِي التَّأْخِيرِ مُقَدَّرَةً بِذَلِكَ وَأَنَّ تَأْخِيرهَا إلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ مَحْظُورٌ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ اللَّوْمَ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، لَا سِيَّمَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَلْقُ بَعْضِ الشَّعْرِ; قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ مَالِكٍ إحْفَاءُ الشَّارِبِ عِنْدِي مُثْلَةٌ قال مالك:

_ 1 قوله "المدرى" هو الشيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من اسنان المشط وأطول منه يسرح به الشعر المتبدل ويحك به الرأس كذا في النهاية.

وَتَفْسِيرُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إحْفَاءِ الشَّارِبِ الْإِطَارُ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَعْلَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُوَسِّعُ فِي الْإِطَارِ مِنْهُ فَقَطْ وَذَكَرَ عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ: وَسَأَلْت مَالِكًا عَمَّنْ أَحْفَى شَارِبِهِ قَالَ: أَرَى أَنْ يَوْجَعَ ضَرْبًا، لَيْسَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِحْفَاءِ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ يُبْدِي 1 حَرْفَ الشَّفَتَيْنِ الْإِطَارُ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَحْلِقْ شَارِبَهُ، هَذِهِ بِدَعٌ تَظْهَرُ فِي النَّاسِ، كَانَ عُمَرَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ نَفَخَ فَجَعَلَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَمَّا فِي الْحَضَرِ لَا يُعْرَفُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ وَكَانَ عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ يَذْكُرُ فِيهِ فَضْلًا عَظِيمًا. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَحْلِقَ أَحَدٌ شَارِبَهُ حَتَّى يَبْدُوَ الْجِلْدُ، وَأَكْرَهُهُ; وَلَكِنْ يَقُصُّ الَّذِي عَلَى طَرَفِ الشَّارِبِ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ طَوِيلَ الشَّارِبِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إسْرَائِيلَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فَقَالَ: أَمَّا بِمَكَّةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ; لِأَنَّهُ بَلَدُ الْحَلْقِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ فَلَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَمْ نَجِدْ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ شَيْئًا مَنْصُوصًا; وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ: الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيعُ، كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْفِطْرَةُ عَشْرَةٌ"، مِنْهَا قَصُّ الشَّارِبِ. وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ شَوَارِبِهِ عَلَى سِوَاكٍ". وَهَذَا جَائِزٌ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِعَدَمِ آلَةِ الْإِحْفَاءِ فِي الْوَقْتِ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُزُّ شَارِبَهُ; وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْإِحْفَاءَ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحْفُوا الشَّارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى". وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى" وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْإِحْفَاءَ أَيْضًا وَرَوَى عُمَرُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ الْإِحْفَاءُ، وَالْإِحْفَاءُ يَقْتَضِي ظُهُورَ الْجِلْدِ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، كَمَا يُقَالُ رِجْلٌ حَافٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي رِجْلِهِ شَيْءٌ وَيُقَالُ حَفِيَتْ رِجْلُهُ وَحَفِيَتْ الدَّابَّةُ; إذَا أَصَابَ أَسْفَلَ رِجْلِهَا وَهْنٌ مِنْ الْحَفَاءِ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي أُسَيْدَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحْفُونَ شَوَارِبَهُمْ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَطَّابٍ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَحْلِقُ شَارِبَهُ كَأَنَّهُ يَنْتِفُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حتى يرى بياض الجلد.

_ 1 قوله "ليس بيدي" هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا لكن الصواب حذف "ليس" وهو صريح كلام القرطبي في نقله كلام الإمام مالك "لمصححه".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمَّا كَانَ التَّقْصِيرُ مَسْنُونًا فِي الشَّارِبِ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ; قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ" ثَلَاثًا; وَدَعَا لِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، فَجَعَلَ حَلْقَ الرَّأْسِ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ إذَا غَضِبَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَتْرُكُهُ حَتَّى يُمْكِنَ فَتْلُهُ ثُمَّ يَحْلِقُهُ كَمَا تَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فَإِنَّ الْإِمَامَ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ أَئِمَّةٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لِمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ مِنْ اتِّبَاعِهِمْ وَالِائْتِمَامِ بِهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ; فَالْخُلَفَاءُ أَئِمَّةٌ; لِأَنَّهُمْ رُتِّبُوا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَلْزَمُ النَّاسَ اتِّبَاعُهُمْ وَقَبُولُ قَوْلِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ أَئِمَّةٌ أَيْضًا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ يُسَمَّى إمَامًا; لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ لَزِمَهُ الِاتِّبَاعُ لَهُ وَالِائْتِمَامُ بِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ; فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا" وَقَالَ: "لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إمَامِكُمْ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمِ الْإِمَامَةِ مُسْتَحَقٌّ لِمَنْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ مَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ، إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَتَنَاوَلُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] فَسُمُّوا أَئِمَّةً; لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ بِمَنْزِلَةِ مِنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} [هود: 101] وَقَالَ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] يَعْنِي فِي زَعْمِكَ وَاعْتِقَادِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ" وَالْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ يَجِبُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحَقِّ وَالْهُدَى. أَلَا تَرَى أَنَّ قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قَدْ أَفَادَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221] . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمِ الْإِمَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فِي أَعْلَى رُتْبَةِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ الْعُدُولُ وَمَنْ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ، ثُمَّ الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ لِلنَّاسِ إمَامًا وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ أئمة بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} مَسْأَلَتَهُ تَعْرِيفَهُ هَلْ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةٌ؟ فَقَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِ: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فَحَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً إمَّا عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِهِ مَا سَأَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ إيَّاهُ، وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ إجَابَتِهِ إلَى مَا سَأَلَ لِذُرِّيَّتِهِ إذَا كَانَ قَوْلُهُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} مَسْأَلَتَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا،

وَهُوَ مَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً وَأَنْ يُعَرِّفَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إجَابَةٌ إلَى مَسْأَلَتِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إجَابَةٌ إلَى مَسْأَلَتِهِ لَقَالَ: لَيْسَ فِي ذُرِّيَّتِك أَئِمَّةٌ وَقَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي مِنْ ذُرِّيَّتِك أَحَدٌ فَلَمَّا قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ وَقَعَتْ لَهُ فِي أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً، ثُمَّ قَالَ: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً وَلَا يَجْعَلهُمْ مَوْضِعَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أَنَّهُ النُّبُوَّةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ إمَامًا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ الظَّالِمِ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْك فِي ظُلْمٍ فَانْقُضْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ يُعْطِيهِمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فِي الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً لِنَبِيٍّ وَلَا قَاضِيًا، وَلَا مَنْ يَلْزَمُ النَّاسَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنْ مُفْتٍ أَوْ شَاهِدٍ أَوْ مُخْبِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا فَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ شَرْطَ جَمِيعِ مَنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْعَدَالَةُ وَالصَّلَاحُ، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَئِمَّةَ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ غَيْرَ فُسَّاقٍ وَلَا ظَالِمِينَ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى شَرْطِ الْعَدَالَةِ لِمَنْ نُصِبَ مَنْصِبَ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ; لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ هُوَ أَوَامِرُهُ، فَلَمْ يُجْعَلْ قَبُولُهُ عَنْ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ مَا أَوْدَعَهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ وَأَجَازَ قَوْلَهُمْ فِيهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِقَبُولِهِ مِنْهُمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يَعْنِي أُقَدِّمُ إلَيْكُمْ الْأَمْرَ بِهِ; وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} وَمِنْهُ عَهْدُ الْخُلَفَاءِ إلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ إنَّمَا هُوَ مَا يَتَقَدَّمُ بِهِ إلَيْهِمْ لِيَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَحْكُمُوا بِهِ فِيهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ إذَا كَانَ إنَّمَا هُوَ أَوَامِرُهُ لَمْ يخل قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الظَّالِمِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ أَوْ أَنَّ الظَّالِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامُهُ وَلَا يُؤْمَنُونَ عَلَيْهَا; فَلَمَّا بَطُلَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمَةٌ لِلظَّالِمِينَ كَلُزُومِهَا لِغَيْرِهِمْ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ لِتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ، ثَبَتَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُقْتَدًى بِهِمْ فِيهَا، فَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانُ إمَامَةِ الْفَاسِقِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً، وَأَنَّ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ وَهُوَ فَاسِقٌ لَمْ يَلْزَمْ النَّاسَ اتِّبَاعُهُ وَلَا طَاعَتُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ". وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَنْفُذُ إذَا وَلِيَ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَلَا فُتْيَاهُ إذَا كَانَ مُفْتِيًا، وَأَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قُدِّمَ وَاقْتَدَى بِهِ مُقْتَدٍ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً فَقَدْ حَوَى قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجْوِيزُ إمَامَةِ الْفَاسِقِ وَخِلَافَتِهِ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاكِمِ فَلَا يُجِيزُ حُكْمَهُ، وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ الْمُسَمَّى زُرْقَانَ وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بِالْبَاطِلِ، وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا مِمَّنْ تُقْبَلُ حِكَايَتُهُ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَدَالَةُ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً وَلَا يَكُونُ حَاكِمًا; كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ لَوْ رَوَى خَبَرًا عَنْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفَ يَكُونُ خَلِيفَةً وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَأَحْكَامُهُ غَيْرُ نَافِذَةٍ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى ذَلِكَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَضَاءِ وَضَرَبَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَحُبِسَ فَلَجَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَسْوَاطًا. فَلَمَّا خِيفَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: فَتَوَلَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَزُولَ عَنْك هَذَا الضَّرْبُ فَتَوَلَّى لَهُ عَدَّ أَحْمَالِ التِّبْنِ الَّذِي يَدْخُلُ، فَخَلَّاهُ، ثُمَّ دَعَاهُ الْمَنْصُورُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَأَبَى، فَحَبَسَهُ حَتَّى عَدَّ لَهُ اللَّبِنَ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ لِسُورِ مَدِينَةِ بَغْدَادَ. وَكَانَ مَذْهَبُهُ مَشْهُورًا فِي قِتَالِ الظَّلَمَةِ وَأَئِمَّةِ الْجَوْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: احْتَمَلْنَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى جَاءَنَا بِالسَّيْفِ يَعْنِي قِتَالَ الظَّلَمَةِ فَلَمْ نَحْتَمِلْهُ، وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ بِالْقَوْلِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتَمَرْ لَهُ فَبِالسَّيْفِ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَرُوَاةِ الْأَخْبَارِ وَنُسَّاكِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ: هُوَ فَرْضٌ وَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ". فَرَجَعَ إبْرَاهِيمُ إلَى مَرْوَ وَقَامَ إلَى أَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّوْلَةِ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَسَفْكَهُ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَاحْتَمَلَهُ مِرَارًا ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَضِيَّتُهُ فِي أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مَشْهُورَةٌ وَفِي حَمْلِهِ الْمَالِ إلَيْهِ وَفُتْيَاهُ النَّاسَ سِرًّا فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِ وَالْقِتَالِ مَعَهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَقَالَ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ: لِمَ أَشَرْت عَلَى أَخِي بِالْخُرُوجِ مَعَ إبْرَاهِيمَ حَتَّى قُتِلَ؟ قَالَ: مَخْرَجُ أَخِيك أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مَخْرَجِك. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ قَدْ خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ، وَهَذَا إنَّمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَغْمَارُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ بِهِمْ فُقِدَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى تَغَلَّبَ الظَّالِمُونَ عَلَى أُمُورِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَيْفَ يَرَى إمَامَةَ الْفَاسِقِ؟ فَإِنَّمَا جَاءَ غَلَطُ مَنْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ، إنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ وَقَوْلِ سَائِرِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَهُ

مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ فَوَلِي الْقَضَاءَ مِنْ قِبَلِ إمَامٍ جَائِرٍ أَنَّ أَحْكَامَهُ نَافِذَةٌ وَقَضَايَاهُ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ جَائِزَةٌ مَعَ كَوْنِهِمْ فُسَّاقًا وَظَلَمَةً، وَهَذَا مَذْهَبٌ صَحِيحٌ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ إمَامَةَ الْفَاسِقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فَإِنَّمَا يَكُونُ قَاضِيًا بِأَنْ يُمْكِنَهُ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يُجْبِرَهُ عَلَيْهَا، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِمَنْ وَلَّاهُ; لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْوَانِهِ. وَلَيْسَ شَرْطُ أَعْوَانِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا; أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى الرِّضَا بِتَوْلِيَةِ رَجُلٍ عَدْلٍ مِنْهُمْ الْقَضَاءَ حَتَّى يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ إمَامٍ وَلَا سُلْطَانٍ؟ وَعَلَى هَذَا تَوَلَّى شُرَيْحٌ وَقُضَاةُ التَّابِعِينَ الْقَضَاءَ مِنْ قِبَلِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ إلَى أَيَّامِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ وَلَا آلِ مَرْوَانَ أَظْلَمُ وَلَا أَكْفَرُ وَلَا أَفْجَرُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمَّالِهِ أَكْفَرُ وَلَا أَظْلَمُ وَلَا أَفْجَرُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَوَّلَ مَنْ قَطَعَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إنِّي وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضْعَفِ يَعْنِي عُثْمَانَ وَلَا بِالْخَلِيفَةِ الْمُصَانِعِ يَعْنِي مُعَاوِيَةَ وَإِنَّكُمْ تَأْمُرُونَنَا بِأَشْيَاءَ تَنْسُونَهَا فِي أَنْفُسِكُمْ; وَاَللَّهِ لَا يَأْمُرُنِي أَحَدٌ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا بِتَقْوَى اللَّهِ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ مِنْ بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ الْكَذَّابُ يَبْعَثُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ عُمَرَ بِأَمْوَالٍ، فَيَقْبَلُونَهَا، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْقَعْقَاعِ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ارْفَعْ إلَيَّ حَوَائِجَك فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى" وَأَحْسَبُ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي وَأَنَّ الْيَدَ السُّفْلَى يَدُ الْآخِذِ، وَإِنِّي لَسْت سَائِلَك شَيْئًا وَلَا رَادًّا عَلَيْك رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ مِنْك، وَالسَّلَامُ. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَسَائِرُ التَّابِعِينَ يَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ أَيْدِي هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَلَا يَرَوْنَ إمَامَتَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَهَا عَلَى أَنَّهَا حُقُوقٌ لَهُمْ فِي أَيْدِي قَوْمٍ فَجَرَةٍ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ مُوَالَاتِهِمْ وَقَدْ ضَرَبُوا وَجْهَ الْحَجَّاجِ بِالسَّيْفِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرَّاءِ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ هُمْ خِيَارُ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَقَاتَلُوهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بِالْأَهْوَازِ ثُمَّ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرَاتِ بِقُرْبِ الْكُوفَةِ وَهُمْ خَالِعُونَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَاعِنُونَ لَهُمْ مُتَبَرِّئُونَ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُ مَنْ قَبْلَهُمْ مَعَ مُعَاوِيَةَ حِينَ تَغَلَّبَ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَأْخُذَانِ الْعَطَاءَ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُمْ غَيْرُ مُتَوَلِّينَ لَهُ بَلْ مُتَبَرِّئُونَ مِنْهُ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ

عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ. فَلَيْسَ إذًا فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مِنْ قِبَلِهِمْ وَلَا أَخْذِ الْعَطَاءِ مِنْهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْلِيَتِهِمْ وَاعْتِقَادِ إمَامَتِهِمْ. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُ أَغْبِيَاءِ الرُّفَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فِي رَدِّ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ; لِأَنَّهُمَا كَانَا ظَالِمَيْنِ حِينَ كَانَا مُشْرِكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا جَهْلٌ مُفْرِطٌ; لِأَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الظُّلْمِ، فَأَمَّا التَّائِبُ مِنْهُ فَهَذِهِ السِّمَةُ زَائِلَةٌ عَنْهُ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ; لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ فَزَالَتْ الصِّفَةُ زَالَ الْحُكْمُ، وَصِفَةُ الظُّلْمِ صِفَةُ ذَمٍّ، فَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ زَالَتْ الصِّفَةِ عَنْهُ; كَذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُ الْحُكْمُ الَّذِي عَلِقَ بِهِ مِنْ نَفْيِ نَيْلِ الْعَهْدِ فِي قوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] إنَّمَا هُوَ نَهْيٌ عَنْ الرُّكُونِ إلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا عَلَى الظُّلْمِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] إنَّمَا هُوَ مَا أَقَامُوا عَلَى الإحسان فقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لَمْ يَنْفِ بِهِ الْعَهْدَ عَمَّنْ تَابَ عَنْ ظُلْمِهِ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُسَمَّى ظَالِمًا كَمَا لَا يُسَمَّى مَوْسُومًا مَنْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ كَافِرًا. وَمَنْ تَابَ مِنْ الْفِسْقِ فَاسِقًا، وَإِنَّمَا يُقَال: كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ فَاسِقًا، وَكَانَ ظَالِمًا; وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لَا يَنَالُ عَهْدِي مَنْ كَانَ ظَالِمًا وَإِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ عَمَّنْ كَانَ مَوْسُومًا بِسِمَةِ الظَّالِم، وَالِاسْمُ لَازِمٌ لَهُ بَاقٍ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} أَمَّا الْبَيْتُ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ; إذْ كَانَا يَدْخُلَانِ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ أَوْ الْجِنْسِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْجِنْسَ، فَانْصَرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، وقوله: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَثُوبُونَ إلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ أَحَدٌ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى وَطَرًا مِنْهُ، فَهُمْ يَعُودُونَ إلَيْهِ، وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُمْ يَحُجُّونَ إلَيْهِ فَيُثَابُونَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُهُ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ مَثَابَةً وَثَوَابًا: إذَا رَجَعَ; قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا أَدْخَلَ الْهَاءَ عَلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ لَمَّا كَثُرَ مَنْ يَثُوبُ إلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: نَسَّابَةٌ وَعَلَّامَةٌ وَسَيَّارَةٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا قِيلَ الْمَقَامَةُ وَالْمَقَامُ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ مِنْ رُجُوعِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَمِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ الْعَوْدَ إلَيْهِ وَمِنْ أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ إلَيْهِ فَيُثَابُونَ; فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَيَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُمْ يُحِبُّونَ الْعَوْدَ إلَيْهِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ قَوْله تَعَالَى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] وَقَدْ نَصَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى فِعْلِ الطَّوَافِ; إذْ كَانَ الْبَيْتُ

مَقْصُودًا وَمَثَابَةً لِلطَّوَافِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ. وَرُبَّمَا احْتَجَّ مُوجِبُو الْعُمْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ اقْتَضَى الْعَوْدَ إلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلُ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ الْعَوْدَ إلَيْهِ وَوَعَدَهُمْ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ: لَك أَنْ تَعْتَمِرَ وَلَك أَنْ تُصَلِّيَ، لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِالْعُمْرَةِ دُونَ الْحَجِّ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَجَّ فِيهِ طَوَافُ الْقُدُومِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافُ الصَّدَرِ، وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ اللَّفْظِ. فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ. وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَأَمْناً} فَإِنَّهُ وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْحَرَمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ لَا الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا; لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا فِي الْمَسْجِدِ; وَكَقَوْلِهِ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ". وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْحَجِّ وَحُضُورِهِمْ مَوَاضِعَ النُّسُكِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَعَثَ بِالْبَرَاءَةِ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ" مُنْبِئًا عَنْ مُرَادِ الْآيَةِ؟ وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَصْفَهُ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ اقْتَضَى جَمِيعَ الْحَرَمِ; وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمَّا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْبَيْتِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ بِهِ وَحَظْرِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فِيهِ; وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، فَكَانَ أَمْنُهُمْ فِيهَا لِأَجْلِ الْحَجِّ وَهُوَ مَعْقُودٌ بِالْبَيْتِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مِنْهُ بِذَلِكَ لَا خَبَرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] كُلُّ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ سُوءٌ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوَجَدَ مُخْبِرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ; لِأَنَّ أَخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ; فَدَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ

إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبْلِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَمْنِ فِيهِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَائِذُ بِهِ وَاللَّاجِئُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ الْحَرَمِ مُنْذُ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِلْحَرَمِ وَتَسْتَعْظِمُ الْقَتْلَ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُحَلُّ لَقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدِهَا" فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلَّا الْإِذْخِرَ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا. وَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يُسْفَكَنَّ فِيهَا دَمٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّهَا لِي سَاعَةً مِنْ نَهَار وَلَمْ يُحِلَّهَا لِلنَّاسِ". وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَظَرَ فِيهَا سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَأَنَّ حُرْمَتَهَا بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْ تَحْرِيمِهَا تَحْرِيمَ صَيْدِهَا وَقَطْعَ الشَّجَرِ وَالْخَلَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا وَجْهُ اسْتِثْنَائِهِ الْإِذْخِرَ مِنْ الْحَظْرِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ أَطْلَقَ قَبْلَ ذَلِكَ حَظْرَ الْجَمِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ؟ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إبَاحَةِ الْإِذْخِرِ وَحَظْرِهِ عِنْدَ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُهُ إبَاحَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فَخَيَّرَهُ فِي الْإِذْنِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ مَا حَرْمَدَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُرْمَتِهَا بِالنَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ، فَإِنَّ مِنْ آيَاتِهَا وَدَلَالَاتِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِصَاصِهِ لَهَا مَا يُوجِبُ تَعْظِيمَهَا مَا يُشَاهَدُ فِيهَا مِنْ أَمْنِ الصَّيْدِ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ بِقَاعِ الْحَرَمِ مُشْبِهَةٌ لِبِقَاعِ الْأَرْضِ وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الظَّبْيُ وَالْكَلْبُ فَلَا يُهِيجُ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُ، حَتَّى إذَا خَرَجَا مِنْ الْحَرَمِ عَدَا الْكَلْبُ عَلَيْهِ وَعَادَ هُوَ إلَى النُّفُورِ وَالْهَرَبِ وَذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَعَلَى تَفْضِيلِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ حَظْرُ صَيْدِ

الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} لَمَّا اقْتَضَى فِعْلَ الطَّوَافِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرُهُ الْإِيجَابُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ مُوجِبٌ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الطَّوَافِ; وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ حَجَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْلِهِ: "اسْتَلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ تَقَدَّمَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ". فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ إرَادَتِهِ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمَقَامِ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فِعْلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَظَاهِرُهُ أَمْرٌ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ; وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا السَّائِبُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَيُقِيمُهُ عِنْدَ الشُّقَّةِ الثَّالِثَةِ مِمَّا يَلِي الرُّكْنَ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُثْبِتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي هَاهُنَا فَيَقُومُ فَيُصَلِّي. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الطَّوَافِ، وَدَلَّ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا تَارَةً عِنْدَ الْمَقَامِ وَتَارَةً عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا عِنْدَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَارِي عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ رَكِبَ وَأَنَاخَ بِذِي طَوًى، فَصَلَّى رَكْعَتَيْ طَوَافِهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّاهَا فِي الْحَطِيمِ، وَعَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُصَلِّ خَلْفَ الْمَقَامِ أَجْزَأَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ". وَقَالَ عَطَاءٌ: مَقَامُ إبْرَاهِيمَ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَقَامُ إبْرَاهِيمَ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ، فَوَضَعَ إبْرَاهِيمُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ فَغَسَلَتْ شِقَّهُ ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ، فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَغَسَلَتْهُ فَغَابَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ شَعَائِرِهِ فَقَالَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أنس.

وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ; لِأَنَّ الْحَرَمَ يُسَمَّى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَأَوَّلَهُ غَيْرُهُمْ عَلَيْهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مَا رَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ثُمَّ صَلَّى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَقَامِ هُوَ الْحَجَرُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ تَعَالَى إيَّانَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ تَعَلُّقٌ بِالْحَرَمِ وَلَا سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عَلَيْهَا مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ، وَهَذَا الْمَقَامُ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ إبْرَاهِيمَ; لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْحَجَرِ رُطُوبَةَ الطِّينِ حَتَّى دَخَلَتْ قَدَمُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ; وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بقوله {مُصَلّىً} فَقَالَ فِيهِ مُجَاهِدٌ: مُدَّعًى وَجَعَلَهُ مِنْ الصَّلَاةِ; إذْ هِيَ الدُّعَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] . وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهِ قِبْلَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ; لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ تُعْقَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُصَلَّى الْمِصْرِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "الْمُصَلَّى أَمَامَك" يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تِلَاوَتِهِ الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ قِبْلَةٌ فَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْعَلُهُ الْمُصَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَيَكُونُ قِبْلَةً لَهُ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا الدُّعَاءُ، فَحَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْلَى; لِأَنَّهَا تَنْتَظِمُ سَائِرَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلُوا عَلَيْهَا الْآيَةَ. قَوْله تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: طَهِّرَا مِنْ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي يَدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه لَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ نَصَبُوا عَلَى الْبَيْتِ الْأَوْثَانَ فَأَمَرَ بِكَسْرِهَا وَجَعَلَ يَطْعَنُ فِيهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} . وَقِيلَ فِيهِ: طَهِّرَاهُ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطْرَحُونَهُ عِنْدَهُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} : ابْنِيَاهُ عَلَى الطَّهَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ غَيْرَ مُنَافِيهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: "ابْنِيَاهُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَطَهِّرَاهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَمِنْ الْأَوْثَانِ أَنْ تُجْعَلَ فِيهِ أَوْ تَقْرَبَهُ". وَأَمَّا "الطَّائِفِينَ" فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مُرَادِ الْآيَةِ مِنْهُ، فَرَوَى جويبر عن الضحاك قال:

{لِلطَّائِفِينَ} مَنْ جَاءَ مِنْ الْحُجَّاجِ {وَالْعَاكِفِينَ} : أَهْلُ مَكَّة وَهُمْ الْقَائِمُونَ. وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِك عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْعَاكِفُونَ: مِنْ انْتَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُجَاوِرِينَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ: إذَا كَانَ طَائِفًا فَهُوَ مِنْ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنْ الْعَاكِفِينَ، وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنْ الرُّكَّعِ السُّجُودِ وَرَوَى ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قَالَ: الطَّوَافُ قَبْلَ الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ الضَّحَّاكِ: "مَنْ جَاءَ مِنْ الْحُجَّاجِ فَهُوَ مِنْ الطَّائِفِينَ" رَاجِعٌ أَيْضًا إلَى مَعْنَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ; لِأَنَّ مَنْ يَقْصِدُ الْبَيْتَ فَإِنَّمَا يَقْصِدُهُ لِلطَّوَافِ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَصَّ بِهِ الْغُرَبَاءَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ; لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْغُرَبَاءَ فِي فِعْلِ الطَّوَافِ سَوَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا تَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ عَلَى الطَّائِفِ الَّذِي هُوَ طَارِئٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] وَقَوْلِهِ: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201] قِيلَ لَهُ: إنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَالطَّوَافُ مُرَادٌ لَا مَحَالَةَ; لِأَنَّ الطَّارِئَ إنَّمَا يَقْصِدُهُ لِلطَّوَافِ فَجَعَلَهُ هُوَ خَاصًّا فِي بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا لَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ، فَالْوَاجِبُ إذَا حَمَلَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّوَافِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَالْعَاكِفِينَ} مَنْ يَعْتَكِفُ فِيهِ; وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاعْتِكَافُ الْمَذْكُورُ في قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَخَصَّ الْبَيْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: الْمُقِيمُونَ بِمَكَّةَ اللَّائِذُونَ بِهِ، إذَا كَانَ الِاعْتِكَافُ هُوَ اللُّبْثُ، وَقِيلَ فِي الْعَاكِفِينَ: الْمُجَاوِرُونَ، وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى اللُّبْثِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَوْضِعِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ الطَّائِفِينَ عَلَى الْغُرَبَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ; وَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَ لَا مَحَالَةَ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ; إذْ كَانُوا إنَّمَا يَقْصِدُونَهُ لِلطَّوَافِ، وَأَفَادَ جَوَازَ الِاعْتِكَافِ فيه بقوله {وَالْعَاكِفِينَ} وَأَفَادَ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ أَيْضًا وَبِحَضْرَتِهِ، فَخَصَّ الْغُرَبَاءَ بِالطَّوَافِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الطَّوَافِ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ الَّذِي هُوَ لُبْثٌ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الطَّوَافَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ; فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعَانِيَ، مِنْهَا: فِعْلُ الطَّوَافِ فِي الْبَيْتِ وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ، وَأَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَفِعْلُ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ وَبِحَضْرَتِهِ بِقَوْلِهِ {وَالْعَاكِفِينَ} . وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا; إذْ لَمْ تُفَرِّقَ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْبَيْتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ" فَتِلْكَ الصَّلَاةُ لَا مَحَالَةَ كَانَتْ

تَطَوُّعًا; لِأَنَّهُ صَلَّاهَا حِينَ دَخَلَ ضُحَى وَلَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ. وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى جواز الجوار بمكة; لأن قوله: {وَالْعَاكِفِينَ} يَحْتَمِلُهُ إذَا كَانَ اسْمًا لِلُّبْثِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ; عَلَى أَنَّ عَطَاءً وَغَيْرَهُ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْمُجَاوِرِينَ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ قَبْلَ الصَّلَاةُ لِمَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الطَّوَافِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُهُ، قِيلَ لَهُ: قَدْ اقْتَضَى اللَّفْظُ فِعْلَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا، وَإِذَا ثَبَتَ طَوَافٌ مَعَ صَلَاةٍ فَالطَّوَافِ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا. فَإِنْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِي الْبَيْتِ وَكَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ خَارِجَ الْبَيْتِ كَذَلِكَ دَلَالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إلَى الْبَيْتِ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قَدْ اقْتَضَى فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ كَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ الطَّوَافُ فِي كَوْنِهِ مَفْعُولًا خَارِجَ الْبَيْتِ بِدَلِيلِ الِاتِّفَاقِ. وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَطُوفَ حَوَالَيْهِ خَارِجًا مِنْهُ; وَلَا يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ مَنْ طَافَ فِي جَوْفِهِ; وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَمَرَنَا بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَمَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ لِلرُّكَّعِ وَالسُّجُودِ وَجْهٌ; إذْ كَانَ حَاضِرُو الْبَيْتِ وَالنَّاءُونَ عَنْهُ سَوَاءً فِي الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَطْهِيرَهُ إنَّمَا هُوَ لِحَاضِرِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ دُونَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ نَفْسِ الْبَيْتِ لِلرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَنْتَ مَتَى حَمَلْته عَلَى الصَّلَاةِ خَارِجًا كَانَ التَّطْهِيرُ لِمَا حَوْلَ الْبَيْتِ؟ وَأَيْضًا إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ، فَيَجُوزُ فِي الْبَيْتِ وَخَارِجِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] كَذَلِكَ قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِعْلَهَا خَارِجِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُتَوَجِّهًا إلَى شَطْرِهِ، قِيلَ لَهُ: لَوْ حَمَلْت اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَعَلَى قَضِيَّتِك أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَمَتَى كَانَ فِيهِ فَعَلَى قَوْلِك لَا يَكُونُ متوجها إليه.

فَإِنْ قَالَ: أَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْبَيْتَ نَفْسَهُ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُوجِبُ جَوَازَ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إلَى الْبَيْتِ. قِيلَ لَهُ: فَمَنْ كَانَ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ هُوَ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَ الْبَيْتِ; لِأَنَّ شَطْرَهُ نَاحِيَتُهُ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى نَاحِيَتِهِ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَتَوَجَّهَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ دُونَ جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، فَفِعْلُهُ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] إذْ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ وَمِنْ الْمَسْجِدِ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ الطَّوَافِ عَامٌّ فِي سَائِرِ مَا يُطَافُ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ; لِأَنَّ الطَّوَافَ عِنْدَنَا عَلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَالْفَرْضُ هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَالْوَاجِبُ هُوَ طَوَافُ الصَّدَرِ، وَوُجُوبُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ" وَالْمَسْنُونُ وَالْمَنْدُوبُ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْحَجِّ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا، فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ، يَبْقَى الْحَاجُّ مُحْرِمًا مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَهُ، وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدَرِ فَإِنَّ تَرْكَهُ يُوجِبُ دَمًا إذَا رَجَعَ الْحَاجُّ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَطُفْهُ، وَأَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَإِنَّ تَرْكَهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب.

بَابُ ذِكْرِ صِفَةِ الطَّوَافِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَفِيهِ رَمَلٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَلَا رَمَلَ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ طَوَافِ الْقُدُومِ إذَا أَرَادَ السَّعْيَ بَعْدَهُ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حِينَ قَدِمَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى حِينَ قَدِمَ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَلَا رَمَلَ فِيهِ وَطَوَافُ الْعُمْرَةِ فِيهِ رَمَلٌ; لِأَنَّ بَعْدَهُ سَعْيًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ رَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّة حَاجًّا. رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ". وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ رَمَلَ مِنْ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ مَشَى إلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ قِبَلِ اتِّفَاقِ الْأَوَّلِينَ جَمِيعًا عَلَى تَسَاوِي الْأَرْبَعِ الْأَوَاخِرِ فِي الْمَشْيِ فِيهِنَّ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ فِي الرَّمَلِ فِيهِنَّ فِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ;

إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ اخْتِلَافُ حُكْمِ جَوَانِبه فِي الْمَشْيِ وَلَا الرَّمَلِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الطَّوَافِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ سُنَّةِ الرَّمَلِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سُنَّةً حِينَ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَائِيًا 1 بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ إظْهَارًا لِلتَّجَلُّدِ وَالْقُوَّةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ; فَأَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَنَاكِبِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟ وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قَدْ رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِهِ بَدِيًّا لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ مُرَاءَاةً لِلْمُشْرِكِينَ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُشْرِكُونَ; وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ; فَثَبَتَ بَقَاءُ حُكْمِهِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُهُ بَدِيًّا بِالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يُوجِبُ زَوَالَ حُكْمِهِ حَيْثُ زَالَ السَّبَبُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ رَمْيِ الْجِمَارِ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَرَضَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَوْضِعِ الْجِمَارِ فَرَمَاهُ، ثُمَّ صَارَ الرَّمْيُ سُنَّةً بَاقِيَةً مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ السَّبَبِ؟ وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة أَنَّ أُمَّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَعِدَتْ الصَّفَا تَطْلُبُ الْمَاءَ ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَسْرَعَتْ الْمَشْيَ فِي بَطْنِ الْوَادِي لِغَيْبَةِ الصَّبِيِّ عَنْ عَيْنِهَا، ثُمَّ لَمَّا صَعِدَتْ مِنْ الْوَادِي رَأَتْ الصَّبِيَّ فَمَشَتْ عَلَى هِينَتِهَا وَصَعِدَتْ الْمَرْوَةَ تَطْلُبُ الْمَاءَ، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَصَارَ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا سُنَّةً، وَإِسْرَاعُ الْمَشْيِ فِي الْوَادِي سُنَّةٌ مَعَ زَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي فُعِلَ مِنْ أَجْلِهِ، فَكَذَلِكَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ أُخْبِرَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ إنَّ الْحَجَرَ بَعْضُهُ مِنْ الْبَيْتِ: إنِّي لَأَظُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ اسْتِلَامَهُمَا إلَّا أَنَّهُمَا لَيْسَا عَلَى قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَلَا طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ إلَّا لِذَلِكَ. وَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ: طُفْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا كُنْت عِنْدَ الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ أَخَذْت أَسْتَلِمُهُ فَقَالَ: مَا طُفْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْت: بَلَى قَالَ فَرَأَيْته يَسْتَلِمُهُ؟ قُلْت: لَا قَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] .

_ 1 قوله "مرائيا به" هو من الرؤية، قال في النهاية: جاء في حديث: "رمل الطواف إنما كنا رأينا به المشركين" هو فاعلنا من الرؤية، أي بذلك إنا أقوياء. انتهى.

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} الْآيَةَ; يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَى "مَأْمُونٍ فِيهِ" كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] يَعْنِي مَرْضِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلَ الْبَلَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] مَعْنَاهُ: أَهْلَهَا; وَهُوَ مَجَازٌ; لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ لَا يَلْحَقَانِ الْبَلَدَ وَإِنَّمَا يَلْحَقَانِ مَنْ فِيهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَمْنِ الْمَسْئُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: سَأَلَ الْأَمْنَ مِنْ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ; لِأَنَّهُ أَسْكَنَ أَهْلَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ الْأَمْنَ مِنْ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ; لِأَنَّهُ كَانَ آمِنًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ سَأَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} . وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 67] . وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} وَالْمُرَادُ وَاَللَّه أَعْلَمُ بِذَلِكَ الْأَمْنُ مِنْ الْقَتْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَهُ مَعَ رِزْقِهِمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وَقَالَ عَقِيبَ مَسْأَلَةِ الْأَمْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] فَذَكَرَ مَعَ مَسْأَلَتِهِ الْأَمْنَ وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ مَعْنَى مَسْأَلَةِ الْأَمْنِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْنِهَا مِنْ الْقَتْلِ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِعَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" يَعْنِي الْقِتَالَ فِيهَا; فَسَأَلَهُ إدَامَةَ هَذَا الْحُكْمِ فِيهَا وَتَبْقِيَتَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ بَعْدَهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَرَمًا وَلَا أَمْنًا قَبْلَ مَسْأَلَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ". وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا قَبْلَ ذَلِكَ; لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَهَا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَاتَّبَعَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ حَرَامًا بَعْدَ الدَّعْوَةِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَمْنَعُ

مِنْ اصْطِلَامِ أَهْلِهَا وَمِنْ الْخَسْفِ بِهِمْ وَالْقَذْفِ الَّذِي لَحِقَ غَيْرَهَا وَبِمَا جَعَلَ فِي النُّفُوسِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَالْهَيْبَةِ لَهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي بِالْحُكْمِ بِأَمْنِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلى ذلك. قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} قَدْ تَضَمَّنَ اسْتِجَابَتَهُ لِدَعْوَتِهِ وَإِخْبَارَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ كَانَتْ دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ خَاصَّةً لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَدَلَّتْ الْوَاوُ الَّتِي في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} عَلَى إجَابَةِ دَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ وَعَلَى اسْتِقْبَالِ الْأَخْبَارِ بِمُتْعَةِ مَنْ كَفَرَ قَلِيلًا، وَلَوْلَا الْوَاوُ لَكَانَ كَلَامًا مُنْقَطِعًا مِنْ الْأَوَّلِ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى اسْتِجَابَةِ دَعَوْتِهِ فِيمَا سَأَلَهُ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى {فَأُمَتِّعُهُ} أَنَّهُ إنَّمَا يُمَتِّعُهُ بِالرِّزْقِ الَّذِي يَرْزُقُهُ إلَى وَقْتِ مَمَاتِهِ. وَقِيلَ: "أُمَتِّعُهُ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا" وَقَالَ الْحَسَنُ: أُمَتِّعُهُ بِالرِّزْقِ وَالْأَمْنِ إلَى خُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُ إنْ قَامَ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ يُجْلِيهِ عَنْهَا. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ حَظْرَ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} مَعَ وُقُوعِ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى قَتْلَهُ بِذِكْرِ الْمُتْعَةِ إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} الْآيَةَ. قَوَاعِدُ الْبَيْتِ: أَسَاسُهُ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ بَنَاهُ عَلَى قَوَاعِدَ قَدِيمَةٍ أَوْ أَنْشَأَهَا هُوَ ابْتِدَاءً؟ فَرَوَى معمر عن أيوب عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قَالَ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتْ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحُجُّ الْبَيْتَ قَبْل آدَمَ، ثُمَّ حَجَّهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْشَأَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: "أَوَّلُ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ إبْرَاهِيمُ". وَاخْتُلِفَ فِي الْبَانِي مِنْهُمَا لِلْبَيْتِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إضَافَةِ فِعْلِ الْبِنَاءِ إلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْنِيًّا فِيهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَائِشَةَ: "لَوْ قَدْ مُتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُك وَدَفَنْتُكِ" يَعْنِي أَعَنْت فِي غَسْلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: هُمَا بَنَيَاهُ جَمِيعًا. وَقِيلَ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ: إنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ رَفَعَهَا وَكَانَ إسْمَاعِيلُ صَغِيرًا فِي وَقْتِ رَفْعِهَا; وَهُوَ غَلَطٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا إذَا رَفَعَاهُ جَمِيعًا، أَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا وَنَاوَلَهُ الْآخَرُ الْحِجَارَةَ، وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ جَائِزَانِ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ لَا يَجُوزُ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] اقْتَضَى ذَلِكَ الطَّوَافَ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ.

وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ اقْتَصَرُوا فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَادْخُلِي الْحِجْرَ وَصَلِّي عِنْدَهُ". وَلِذَلِكَ طَافَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْحَجَرِ لِيَحْصُلَ الْيَقِينُ بِالطَّوَافِ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ; وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْبَيْتِ لَمَّا بَنَاهُ حِينَ احْتَرَقَ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الْحَجَّاجُ أَخْرَجَهُ مِنْهُ. قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} مَعْنَاهُ: يَقُولَانِ رَبَّنَا تَقْبَلْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} يَعْنِي: يَقُولُونَ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ. وَالتَّقَبُّلُ: هُوَ إيجَابُ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَوْنَ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ قُرْبَةً; لِأَنَّهُمَا بَنَيَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَأُخْبِرَا بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ". قَوْله تَعَالَى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} يُقَالُ: إنَّ أَصْلَ النُّسُكِ فِي اللُّغَةِ الْغَسْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: نَسَكَ ثَوْبَهُ إذَا غَسَلَهُ، وَقَدْ أُنْشِدَ فِيهِ بَيْتُ شِعْرٍ: وَلَا يُنْبِتُ الْمَرْعَى سِبَاخُ عَرَاعِرِ ... وَلَوْ نُسِكَتْ بِالْمَاءِ سِتَّةَ أَشْهُرِ وَفِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ نَاسِكٌ، أَيْ: عَابِدٌ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: "إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ". فَسَمَّى الصَّلَاةَ نُسُكًا، وَالذَّبِيحَةُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ تُسَمَّى نُسُكًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] يَعْنِي ذَبْحَ شَاةٍ، وَمَنَاسِكُ الْحَجِّ: مَا يَقْتَضِيه مِنْ الذَّبْحِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَالْأَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} سَائِرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لِلْحَجِّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَرَاحَ بِهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ مِنًى" وَذَكَرَ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَى نَحْوِ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ، قَالَ: ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] . وَكَذَلِكَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى قَوْمٍ بِعَرَفَاتٍ وُقُوفٍ خَلْفَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِهَا فَقَالَ: "كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ إبْرَاهِيمَ فِي شَرَائِعِهِ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ رَاغِبٌ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ; إذْ كَانَتْ مِلَّةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْتَظِمَةً لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَزَائِدَةً عَلَيْهَا.

بَابُ مِيرَاثِ الْجَدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ

بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً} فَسَمَّى الْجَدَّ وَالْعَمَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبًا، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ، وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ دُونَ الْإِخْوَةِ. وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَاَللَّهِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ جَدًّا وَلَا جَدَّةً إلَّا أَنَّهُمْ الْآبَاءُ {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ". وَاحْتِجَاجُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ دُونَ الْإِخْوَةِ وَإِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاحْتِجَاجِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فِي اسْتِحْقَاقِهِ الثُّلُثَيْنِ دُونَ الْإِخْوَةِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْأَبُ دُونَهُمْ إذَا كَانَ بَاقِيًا; وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ; إذْ لَمْ يَكُنْ أَبٌ; وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَ عُثْمَانُ: قَضَى أَبُو بَكْرٍ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْأُبُوَّةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الْجَدِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ الثُّلُثِ فَيُعْطَى الثُّلُثَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَدِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْإِخْوَةِ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ السُّدُسِ، فَيُعْطَى السُّدُسَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ. وَالْحِجَاجُ لِلْفَرْقِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْحِجَاجَ بِالْآيَةِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ظَاهِرُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ أَبًا، وَالثَّانِي: احْتِجَاجُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ وَإِطْلَاقُهُ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْأَسْمَاءِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ; وَإِنْ كَانَا أَطْلَقَاهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَحُجَّتُهُ ثَابِتَةٌ; إذْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ، وَمَنْ يَدْفَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الظَّاهِرِ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْعَمَّ أَبًا فِي الْآيَةِ لِذِكْرِهِ إسْمَاعِيلَ فِيهَا وَهُوَ عَمُّهُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي" يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَهُوَ عَمُّهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَدَّ إنَّمَا سُمِّيَ أَبًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِجَوَازِ انْتِفَاءِ اسْمِ الْأَبِ عَنْهُ; لِأَنَّك لَوْ قُلْت لِلْجَدِّ إنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ لَكَانَ ذَلِكَ نَفْيًا صَحِيحًا، وَأَسْمَاءُ الْحَقَائِقِ لَا تَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا بِحَالٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْجَدَّ إنَّمَا سُمِّيَ أَبًا بِتَقْيِيدِ، وَالْإِطْلَاقُ لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ فِيهِ بِعُمُومِ لَفْظِ الْأَبَوَيْنِ فِي الْآيَةِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَبَ الْأَدْنَى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] مُرَادٌ بِالْآيَةِ فَلَا

جَائِزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَدُّ; لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِطْلَاقُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا دَفْعُ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِ لَفْظِ الْأَبِ فِي إثْبَاتِ الْجَدِّ أَبًا مِنْ حَيْثُ سُمِّيَ الْعَمُّ أَبًا فِي الْآيَةِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يُعْتَمَدُ; لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأَبِ إنْ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ وَالْعَمَّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَجَائِزٌ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي سَائِرِ مَا أُطْلِقَ فِيهِ، فَإِنْ خُصَّ الْعَمُّ بِحُكْمِ دُونَ الْجَدِّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ الْعُمُومِ فِي الْجَدِّ وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي الْمَعْنَى مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْم; لِأَنَّ الِابْنَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَدِّ، وَإِنْ كَانَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَدِّ وَاسِطَةٌ وَهُوَ الْأَبُ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ; وَالْعَمُّ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ; إذْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَدَّ وَإِنْ بَعُدَ فِي الْمَعْنَى بِمَعْنَى مَنْ قَرُبَ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ وَفِي الْحُكْمِ جَمِيعًا; إذْ لَمْ يَكُنْ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَكَانَ لِلْجَدِّ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَتَنَاوَلَ إطْلَاقُ اسْمِ الْأَبِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَمِّ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ مُطْلَقًا، وَلَا يُعْقَلُ مِنْهُ أَيْضًا إلَّا بِتَقْيِيدٍ، وَالْجَدُّ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي مَعْنَى الْوِلَادِ فَجَائِزٌ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَبِ وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ حُكْمَهُ، وَأَمَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْجَدِّ بِاسْمِ الْأَبِ مَجَازٌ، وَأَنَّ الْأَبَ الْأَدْنَى مُرَادٌ بِالْآيَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْجَدِّ بِهِ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ اسْمٌ وَاحِدٌ مَجَازًا حَقِيقَةً; فَغَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ الْأَبُ بِهَذَا الِاسْمِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ مَوْجُودٌ فِي الْجَدِّ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَدْ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَجَازَ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْآخَرِ كَالْإِخْوَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُمْ هَذَا الِاسْمُ لِأَبٍ كَانُوا أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَيَكُونُ الَّذِي لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْأُخُوَّةِ مِنْ الَّذِينَ لِلْأَبِ وَالِاسْمُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِي مَعْنَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ النَّجْمِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ حَقِيقَةً، وَالْإِطْلَاقُ عِنْدَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلَ النَّجْمَ الَّذِي هُوَ الثُّرَيَّا؟ يَقُولُ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: فَعَلَتْ كَذَا وَكَذَا وَالنَّجْمُ عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ; يَعْنِي الثُّرَيَّا وَلَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ بِقَوْلِهَا طَلَعَ النَّجْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرَ الثُّرَيَّا; وَقَدْ سَمَّوْا هَذَا الِاسْمَ لِسَائِرِ نُجُومِ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَكَذَلِكَ اسْمُ الْأَبِ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْمُحْتَجِّ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأَبَ وَالْجَدَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ اُخْتُصَّ الْأَبُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَكُونُ فِي اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْأَبِ فِي الْأَبِ الْأَدْنَى وَالْجَدِّ إيجَابُ كَوْنِ لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ حَقِيقَةً مَجَازًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ مُخْتَصًّا بِالنِّسْبَةِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ لَلَحِقَ الْأُمَّ هَذَا الِاسْمُ لِوُجُودِ الْوِلَادِ فِيهَا، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُسَمَّى الْأُمُّ أَبًا، وَكَانَتْ الْأُمُّ أُولَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَبِ

وَالْجَدِّ لِوُجُودِ الْوِلَادَةِ حَقِيقَةً مِنْهَا قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ قَدْ خَصُّوا الْأُمُّ بِاسْمٍ دُونَهُ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْوِلَادِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّ أَبًا حِينَ جَمَعَهَا مَعَ الْأَبِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَمِمَّا يَحْتَجُّ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَلِلْقَائِلِينَ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْجَدَّ يَجْتَمِعُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِالنِّسْبَةِ وَالتَّعْصِيبِ مَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَا بِنْتًا وَجَدًّا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بِالنِّسْبَةِ وَالتَّعْصِيبِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَبًا يَسْتَحِقُّ بِالنِّسْبَةِ وَالتَّعْصِيبِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ دُونَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي نَفْيِ مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ، إذْ كَانَتْ الْإِخْوَةُ إنَّمَا تَسْتَحِقُّهُ بِالتَّعْصِيبِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْوِلَادَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ فِي نَفْيِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَاسَمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّ السُّدُسَ مَعَ الِابْنِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ مَعَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقّ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ الْجَدَّ. فَإِنْ قِيلَ: الْأُمُّ تَسْتَحِقُّ السُّدُسَ مَعَ الِابْنِ وَلَمْ يَنْتِفْ بِذَلِكَ تَوْرِيثُ الْإِخْوَةِ مَعَهَا قِيلَ لَهُ: إنَّمَا نُصِّفَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِنَفْيِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى وَجْه الْمُقَاسَمَةِ، وَإِذَا انْتَفَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ إذَا انْفَرَدُوا مَعَهُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَرِثَهُمْ مَعَهُ يُوجِبُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ عَلَى اعْتِبَارٍ مِنْهُمْ فِي الثُّلُثِ أَوْ السُّدُسِ، وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَا تَقَعُ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ مُقَاسَمَةٌ بِحَالٍ، وَنَفْيُ الْقِسْمَةِ لَا يَنْفِي مِيرَاثَهُمْ، وَنَفْيُ مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ إذَا انْفَرَدُوا يُوجِبُ إسْقَاطَ مِيرَاثِهِمْ مَعَهُ; إذْ كَانَ مَنْ يُوَرِّثُهُمْ مَعَهُ إنَّمَا يُوَرِّثُهُمْ بِالْمُقَاسَمَةِ وَإِيجَابِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. فَلَمَّا سَقَطَ الْمُقَاسَمَةُ بِمَا وَصَفْنَا سَقَطَ مِيرَاثُهُمْ مَعَهُ; إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلَانِ: قَوْلُ مَنْ يُسْقِطُ مَعَهُ مِيرَاثَهُمْ رَأْسًا، وَقَوْلُ مَنْ يُوجِبُ الْمُقَاسَمَةَ، فَلَمَّا بَطَلَتْ الْمُقَاسَمَةُ بِمَا وَصَفْنَا ثَبَتَ سُقُوطُ مِيرَاثِهِمْ مَعَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْجَدُّ يُدْلِي بِابْنِهِ وَهُوَ أَبُو الْمَيِّتِ، وَالْأَخُ يُدْلِي بِأَبِيهِ، فَوَجَبَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا كَمَنْ تَرَكَ أَبَاهُ وَابْنَهُ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ هَذَا الِاعْتِبَارُ لَمَا وَجَبَتْ الْمُقَاسَمَةُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَدِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ، كَمَنْ تَرَكَ أَبًا وَابْنًا، لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ إذَا تَرَكَ جَدَّ أَبٍ وَعَمَّا أَنْ يُقَاسِمَهُ الْعَمُّ; لِأَنَّ جَدَّ الْأَبِ يُدْلِي بِالْجَدِّ الْأَدْنَى، وَالْعَمُّ أَيْضًا يُدْلِي بِهِ; لِأَنَّهُ ابْنُهُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى سُقُوطِ مِيرَاثِ الْعَمِّ مَعَ جَدِّ الْأَبِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي وُصِفَتْ دَلَّ عَلَى انْتِقَاضِهَا وَفَسَادِهَا وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا عَلَى هَذَا

الِاعْتِلَالِ أَنَّ ابْنَ الْأَخِ يُشَارِكُ الْجَدَّ فِي الْمِيرَاثِ; لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ ابْنِ الْأَبِ، وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ، وَلَوْ تَرَكَ أَبًا وَابْنَ ابْنٍ كَانَ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ لِابْنِ الِابْنِ. قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَا يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ وَلَا يُعَذَّبُونَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ. وَفِيهِ إبْطَالُ مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْذِيبَ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ الْآبَاءِ، وَيُبْطِلُ مَذْهَبَ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ بِصَلَاحِ آبَائِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَقَالَ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِأَبِي رِمْثَةَ وَرَآهُ مَعَ ابْنِهِ "أَهُوَ ابْنُك؟ " فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: "أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "يَا بَنِي هَاشِمٍ لَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَأْتُونَ بِأَنْسَابِكُمْ فَأَقُولُ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا" وَقَالَ: "مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ". قَوْله تَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إخْبَارٌ بِكِفَايَةِ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ أَعْدَائِهِ، فَكَفَاهُ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَحِرْصِهِمْ، فَوَجَدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَهُوَ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فَعَصَمَهُ مِنْهُمْ وَحَرَسَهُ مِنْ غَوَائِلِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقُ وُجُودَ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إلَّا وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ مُخْبِرِ أَخْبَارِ الْمُتَخَرِّصِينَ وَالْكَاذِبِينَ عَلَى حَسَبِ مَا يُخْبِرُونَ، بَلْ أَكْثَرُ أَخْبَارِهِمْ كَذِبٌ وَزُورٌ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ لِسَامِعِيهِ، وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الشَّاذِّ النَّادِرِ إنَّ اتَّفَقَ. قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلي بِمَكَّةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: كَانَ التَّحْوِيلُ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقَالَ قَتَادَةَ: "لِسِتَّةَ عَشَرَ" وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ حَوَّلَهَا إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} . فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا

دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ حَوَّلَهُ إلَيْهَا وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ فَرْضًا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي تَوَجُّهِهِ إلَيْهَا وَإِلَى غَيْرِهَا. فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْفَرْضُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ بِلَا تَخْيِيرٍ. وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَقَدْ كَانَ التَّوَجُّهُ فَرْضًا لِمَنْ يَفْعَلُهُ; لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا كَفَّرَ بِهِ فَهُوَ الْفَرْضُ، وَكَفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ. وَحَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ شَأْنُ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتْ الْيَهُودُ بِذَلِكَ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ قِبْلَةَ أَبِيهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الْآيَةَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْفَرْضَ كَانَ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ بِلَا تَخْيِيرٍ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ الْفَرْضُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَوَرَدَ النَّسْخُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَقُصِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بِلَا تَخْيِيرٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفَرَ الَّذِينَ قَصَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ لِلْبَيْعَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ فِيهِمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، فَتَوَجَّهَ بِصَلَاتِهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي طَرِيقِهِ وَأَبَى الْآخَرُونَ وَقَالُوا: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَجَّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ، فَقَالَ: "قَدْ كُنْت عَلَى قِبْلَةٍ يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَوْ ثَبَتَّ عَلَيْهَا أَجْزَأَكَ" وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ وَإِنْ كَانَ اخْتَارَ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وَكَانَ نُزُولُ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَفِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرُهَا، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ أَوَّلَ مَا نَسَخَ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ النَّاسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ دُونَ الْمَنْسُوخِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ شَأْنُ الْقِبْلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إلَى قَوْلِهِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى حَيْثُ شَاءُوا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الْقُرْآنِ هَذَا التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أَرَادَ بِذِكْرِ السُّفَهَاءِ هَاهُنَا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ عَابُوا تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. وَأَرَادُوا بِهِ إنْكَارَ النَّسْخِ; لِأَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ لَا يَرَوْنَ النَّسْخَ. وَقِيلَ إنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا وَلَّاك عَنْ قِبْلَتِك الَّتِي كُنْت عَلَيْهَا؟ ارْجِعْ إلَيْهَا نَتَّبِعْك وَنُؤْمِنْ بِك وَإِنَّمَا أَرَادُوا فِتْنَتَهُ. فَكَانَ إنْكَارُ الْيَهُودِ لِتَحْوِيلِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا حُوِّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ: يَا مُحَمَّدُ رَغِبْت عَنْ مِلَّةِ آبَائِك ثُمَّ رَجَعْت إلَيْهَا آنِفًا، وَاَللَّهِ لَتَرْجِعَنَّ إلَى دِينِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَقَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْقِبْلَةِ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} . وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِمَكَّةَ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَتَمَيَّزُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَتِهِمْ يَتَوَجَّهُونَ إلَى الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ الْيَهُودُ الْمُجَاوِرُونَ لِلْمَدِينَةِ يَتَوَجَّهُونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنُقِلُوا إلَى الْكَعْبَةِ لِيَتَمَيَّزُوا مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا تَمَيَّزُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِاخْتِلَافِ الْقِبْلَتَيْنِ، فَاحْتَجَّ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ فِي إنْكَارِهَا النَّسْخِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لِلَّهِ فَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِمَا سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْعُقُولِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ بِذَلِكَ أَيَّ الْجِهَاتِ شَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِي الدِّينِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْيَهُودَ زَعَمَتْ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أَوْلَى بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهَا; لِأَنَّهَا مِنْ مَوَاطِنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَدْ شَرَّفَهَا تَعَالَى وَعَظَّمَهَا، فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَلِّي عَنْهَا. فَأَبْطَلَ اللَّه قَوْلَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَوَاطِنَ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِلَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْعِبَادِ; إذْ كَانَتْ الْمَوَاطِنُ بِأَنْفُسِهَا لَا تَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْظِيمَهَا لِتَفْضِيلِ الْأَعْمَالِ فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُجَوِّزُ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَمَنْ يَأْبَى ذَلِكَ يَقُولُ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نُسِخَ قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَكَانَ التَّوَجُّهُ إلَى حَيْثُ كَانَ مِنْ الْجِهَاتِ فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ عِنْدَنَا، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلُ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَفِي الْخَائِفِ وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: أَنَّهُ فِيمَنْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إيجَابِ نَسْخٍ لَهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا الْحُكْمُ بِنَسْخِهَا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأُصُولِ بِمَا يُغْنِي وَيَكْفِي. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلي نَحْوَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَنَزَلَتْ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" فَحَوَّلَتْ بَنُو سَلِمَةَ وُجُوهَهَا نَحْوَ الْبَيْتِ وَهُمْ رُكُوعٌ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءَ; إذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، أَلَا فَاسْتَقْبِلُوهَا فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ وَجْهُ النَّاسِ إلَى الشَّامِ. وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "لَمَّا صُرِفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} مَرَّ رَجُلٌ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ فَانْحَرَفُوا قَبْلَ أَنْ يَرْكَعُوا وَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ فِي أَيْدِي أَهْل الْعِلْمِ قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا 1، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أُعْتِقَتْ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَأْخُذُ قِنَاعَهَا وَتَبْنِي وَهُوَ أَصْلٌ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ; لِأَنَّ الْأَنْصَارَ قَبِلَتْ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ بِالنِّدَاءِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُنَادِيَ بِالنِّدَاءِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ لَزِمَهُمْ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّدَاءِ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ مَا يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي رَفْعِهِ، وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ مُتَوَجِّهِينَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ تَرَكُوهُ إلَى غَيْرِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قِيلَ لَهُ:; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يقين من بقاء الحكم

_ 1 قوله: "ولا يستقبلها" أي يستأنف الصلاة.

الْأَوَّلِ بَعْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنْ حَضْرَتِهِ، لِتَجْوِيزِهِمْ وُرُودَ النَّسْخِ، فَكَانُوا فِي بَقَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ، فَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي رَفْعِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا أَجَزْتُمْ لِلْمُتَيَمِّمِ الْبِنَاءَ عَلَى صَلَاتِهِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ كَمَا بَنَى هَؤُلَاءِ عَلَيْهَا بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ قِيلَ لَهُ: هُوَ مُفَارِقٌ لِمَا ذَكَرْت، مِنْ قِبَلِ أَنَّ تَجْوِيزَ الْبِنَاءِ لِلْمُتَيَمِّمِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وَيُجِيزُ لَهُ الْبِنَاءَ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُود الْمَاءِ، وَالْقَوْمُ حِينَ بَلَغَهُمْ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَلَمْ يَبْقُوا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إلَيْهَا، فَنَظِيرُ الْقِبْلَةِ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُتَيَمِّمُ بِالْوُضُوءِ وَالْبِنَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ لِلْمُتَيَمِّمِ إنَّمَا هُوَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابُ بَدَلٌ مِنْهُ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ، كَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ مَسْحِهِ فَلَا يَبْنِي، فَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ. وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْمُصَلِّينَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ دَخَلُوا فِيهَا الصَّلَاةَ إلَى الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فَرْضٌ لَزِمَهُمْ فِي الْحَالِ. وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أُعْتِقَتْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَرَضَ السَّتْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ لَزِمَهَا فِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَنْصَارَ حِينَ عَلِمَتْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّاهُ إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، فَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ بَدَلٍ إلَى أَصْلِ الْفَرْضِ. وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ فِعْلَ الْأَنْصَارِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالزَّوَاجِرَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِالْعِلْمِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ: إنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَرَكَ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ، وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُ التَّحْوِيلِ عَلَى الْأَنْصَارِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ الْخَبَرُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي أَنَّ الْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَوَامِرِ الْعِبَادِ لَا يُنْسَخُ شَيْءٌ مِنْهَا إذَا فَسَخَهَا مَنْ لَهُ الْفَسْخُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِ الْآخَرِ بِهَا. وَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْأَمْرِ بِهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغَهُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْل الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ الْقَوْلِ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْوَسَطُ: الْعَدْلُ، وَهُوَ الَّذِي بَيْن الْمُقَصِّرِ وَالْغَالِي. وَقِيلَ: هُوَ الْخِيَارُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ; لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْخِيَارُ، قَالَ زُهَيْرٌ: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا طَرَقَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ

وقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} مَعْنَاهُ كَيْ تَكُونُوا، وَلَأَنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ. وَقِيلَ فِي الشُّهَدَاءِ: إنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي خَالَفُوا الْحَقَّ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69] . وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَعَلَى أُمَمِهِمْ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ لِإِعْلَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُمْ وَقِيلَ: لِتَكُونُوا حُجَّةً فِيمَا تَشْهَدُونَ كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدٌ بِمَعْنَى حُجَّةٍ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِأَجْمَعِهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَشْهَدُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ وَفِيمَا حَكَمُوا بِهِ وَاعْتَقَدُوا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصْفُهُ إيَّاهَا بِالْعَدَالَةِ وَأَنَّهَا خِيَارٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَصْدِيقَهَا وَالْحُكْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهَا وَنَافٍ لِإِجْمَاعِهَا عَلَى الضَّلَالِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ قَوْلُهُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بِمَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى شُهَدَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَقَدْ حَكَمَ لَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ; لِأَنَّ شُهَدَاء اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا وَلَا ضُلَّالًا، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَنْ شَاهَدُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ بِأَعْمَالِهِمْ دُونَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ زَمَنِهِمْ، كَمَا جُعِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ. هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّهَادَةِ الْحُجَّةُ فَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَاهَدُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي وَعَلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ إذَا ثَبَتَتْ فِي وَقْتٍ فَهِيَ ثَابِتَةٌ أَبَدًا. وَيَدُلُّك عَلَى فَرْقِ مَا بَيْنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ وَالشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] لَمَّا أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ خَصَّ أَهْلَ عَصْرِهِ وَمَنْ شَاهَدَهُ بِهَا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِحَالِ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ فَلَا تَخْتَصُّ بِهَا أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهَا فِي كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. كَذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَمَّا كَانُوا شُهَدَاءَ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُجَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا حُجَّةً عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ الدَّاخِلِينَ مَعَهُمْ فِي إجْمَاعِهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ عَصْرٍ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ

خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنْ إجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ بِصِحَّةِ قَوْلِهَا وَجَعْلِهَا حُجَّةً وَدَلِيلًا، فَالْخَارِجُ عَنْهَا بَعْد ذَلِكَ تَارِكٌ لِحُكْمِ دَلِيلِهِ وَحُجَّتِهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُود دليل الله تعالى عاريا من مدلوله.

مطلب يستحيل وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُتْرَكُ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي أَيِّ حَالٍ حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ تَرْكُهُ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْهُ. وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ أَهْلُ عَصْرٍ دُونَ عَصْرٍ. وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِحُكْمِ الْآيَةِ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ أَهْلِ سَائِرِ الْإِعْصَارِ لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ دُونَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إلَى الْمَوْجُودِينَ فِي حَالِ نُزُولِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمَخْصُوصُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِهِمْ إلَّا بِدَلَالَةِ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ: أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 87] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِهَا: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي عَصْرِهِ وَمَنْ جاء بعده. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَمَا أَحْسِبُ مُسْلِمًا يَسْتَجِيزُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهَا وَشَاهِدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَحْمَةً لِكَافَّتِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وَاسْمُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّمَا حُكْمُ لِجَمَاعَتِهَا بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ لِأَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَمِنْ أَيْنَ حَكَمْتَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِالْعَدَالَةِ حَتَّى جَعَلْتهمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا جُعِلَ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَوْ يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهَا فِي كَوْنِهَا حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِمْ، لَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ

كُلِّ عَصْرٍ; لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّوْا أُمَّةً; إذْ كَانَتْ الْأُمَّةُ اسْمًا لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَؤُمُّ جِهَةً وَاحِدَةً، وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى حِيَالِهِمْ يَتَنَاوَلُهُمْ هَذَا الِاسْمُ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأُمَّةِ وَالْمُرَادُ أَهْلُ عَصْرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ الْقُرْآنَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ إطْلَاقًا صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ آخِرُ الْقَوْمِ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظٍ مُنْكَرٍ حِينَ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَجَعْلَهُمْ حُجَّةً، وَهَذَا يَقْتَضِي أَهْلَ كُلِّ عصر; إذ كان قوله: {جَعَلْنَاكُمْ} خِطَابًا لِلْجَمِيعِ، وَالصِّفَةُ لَاحِقَةٌ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: 159] وَجَمِيعُ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ لَهُ وَسَمَّى بَعْضَهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ أُمَّةً لِمَا وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ جَائِزٌ أَنْ يُسَمُّوا أُمَّةً وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ قَدْ يَلْحَقُ أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهَا. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ كُفْرُهُ نَحْوَ الْمُشَبِّهَةِ 1 بِهِ؟ وَمَنْ صَرَّحَ بِالْجَبْرِ وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ، لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ، مِنْ نَحْوِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ. وَسَوَاءٌ مَنْ فَسَقَ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِقَادِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَلْحَقُ الْكُفَّارَ وَلَا الْفُسَّاقَ. وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ فَسَقَ أَوْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ أَوْ بِرَدِّ النَّصِّ; إذْ الْجَمِيعُ شَمِلَهُمْ صِفَةُ الذَّمِّ وَلَا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم.

_ 1 قوله: "نحو المشبهة" فيه نظر يعلم بمراجعة الكتب الفقهية.

بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قِيلَ: إنَّ التَّقَلُّبَ هُوَ التَّحَوُّلُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ; لِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ بِالتَّحْوِيلِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَكَانَ مُنْتَظِرًا لِنُزُولِ الْوَحْيِ بِهِ وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِيهِ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ; لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ صَلَاحٌ وَلَا يُجِيبُهُمْ اللَّهُ فَيَكُونَ فِتْنَةً عَلَى قَوْمِهِ. فَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَقَلُّبِ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُحَوِّلَهُ اللَّه تَعَالَى إلَى الْكَعْبَةِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَتَمَيُّزًا مِنْهُمْ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَحَبَّ ذَلِكَ; لِأَنَّهَا قِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَقِيلَ: إنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءً لِلْعَرَبِ إلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}

وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَإِنَّ أَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ قَالُوا: إنَّ الشَّطْرَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ، يُقَالُ: شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْته نِصْفَيْنِ، وَيَقُولُونَ فِي مَثَلٍ لَهُمْ: "احْلِبْ حَلْبًا لَك شَطْرُهُ" أَيْ نِصْفُهُ. وَالثَّانِي: نَحْوُهُ وَتِلْقَاؤُهُ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ; إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى إلَى جَانِبٍ مِنْهُ أَجْزَأَهُ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى نَاحِيَةً مِنْ الْبَيْتِ فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ; لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ وَنَحْوَهُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوَجُّهُ إلَى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمُرَادُهُ الْبَيْتُ نَفْسُهُ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَتَوَجَّهَ فِي صَلَاتِهِ نَحْوَ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحَاذِيًا لِلْبَيْتِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ وَلِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا، وَالْمُرَادُ لِمَنْ كَانَ حَاضِرَهَا إصَابَةُ عَيْنِهَا وَلِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا النَّحْوَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ أَنَّهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَجِهَتُهَا فِي غَالِبِ ظَنِّهِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْعَيْنِ; إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى إصَابَة عَيْنِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْهَا. فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ مَا هُوَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهُ جِهَتَهَا وَنَحْوِهَا دُونَ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. وَهَذَا أَحَدُ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِنَّمَا كُلِّفَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَى ظَنِّهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْمُشْتَبَهِ مِنْ الْحَوَادِثِ حَقِيقَةً مَطْلُوبَةً كَمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي، وَلِذَلِكَ صَحَّ تَكْلِيفُ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا كَمَا صَحَّ تَكْلِيفُ طَلَبِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ; لِأَنَّ لَهَا حَقِيقَةً، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِبْلَةٌ رَأْسًا لَمَا صَحَّ تَكْلِيفُنَا طَلَبَهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} الْوُجْهَةُ قِيلَ فِيهَا قِبْلَةٌ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: طَرِيقَةً وَهُوَ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وِجْهَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِكُلِّ نَبِيٍّ فَالْوُجْهَة وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] قَالَ قَتَادَةُ: "هُوَ صَلَاتُهُمْ إلَى الْبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلَاتُهُمْ إلَى الْكَعْبَةِ". وَقِيلَ فِيهِ: لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ الَّتِي جِهَاتُ الْكَعْبَةِ وَرَاءَهَا أَوْ قُدَّامَهَا أَوْ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ عَنْ شِمَالِهَا، كَأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ جِهَةً مِنْ جِهَاتِهَا بِأَوْلَى أَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ غَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ جَالِسًا بِإِزَاءِ

الْمِيزَابِ فَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قَالَ: "هَذِهِ الْقِبْلَةُ". فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ عَنَى الْمِيزَابَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَشَارَ إلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصُ جِهَةِ الْمِيزَابِ دُونَ غَيْرِهَا، وَكَيْفَ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] وقَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ قِبْلَةٌ لِمُوَلِّيهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَةِ الْكَعْبَةِ إنَّمَا هُوَ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا فِي غَالِبِ ظَنِّهِ لَا إصَابَةَ مُحَاذَاتِهَا غَيْرَ زَائِلٍ عَنْهَا; إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ وَإِذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَتِهَا مُحَاذِيًا لها. وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُبَادَرَةُ وَالْمُسَارَعَةُ إلَى الطَّاعَاتِ. وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ تَعْجِيلِ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَضِيلَةِ التَّأْخِيرِ، نَحْوَ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا وَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ بَعْدَ حُضُورِ وَقْتِهَا وَوُجُودِ سَبَبهَا وَيُحْتَجُّ بِهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَلَا مَحَالَةَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ الْخَيْرَاتِ فَوَجَبَ بمضمون قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} إيجَابُ تَعْجِيلِهِ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ: لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبْهَةِ وَيَضَعُونَ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] مَعْنَاهُ: لَكِنْ اتِّبَاعُ الظَّنِّ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ مَعْنَاهُ: لَكِنْ بِسُيُوفِهِمْ فُلُولٌ، وَلَيْسَ بِعَيْبِ. وَقِيلَ فِيهِ: "إنَّهُ أَرَادَ بِالْحُجَّةِ الْمُحَاجَّةَ وَالْمُجَادَلَةَ، فَقَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حِجَاجٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ بِالْبَاطِلِ". وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إلَّا هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَإِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَجِيءُ إلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاءٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إلَّا دَارُ مَرْوَانَ

كَأَنَّهُ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ إلَّا دَارُ الْخَلِيفَةِ وَدَارُ مَرْوَانَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَأَنْكَرَ هَذَا بَعْضُ النُّحَاةِ.

بَابُ وُجُوب ذَكَرِ اللَّه تَعَالَى قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذِكْرُنَا إيَّاهُ عَلَى وُجُوهٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ عَنْ السَّلَفِ، قِيلَ فِيهِ: "اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي"، وَقِيلَ فِيهِ: "اُذْكُرُونِي بِالثَّنَاءِ بِالنِّعْمَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّنَاءِ بِالطَّاعَةِ"، وَقِيلَ: "اُذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ" وَقِيلَ فِيهِ: اُذْكُرُونِي بِالدُّعَاءِ أَذْكُرْكُمْ بِالْإِجَابَةِ. وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَجَمِيعُهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لِشُمُولِ اللَّفْظِ وَاحْتِمَالِهِ إيَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ وَاحِدٍ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الذِّكْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. فَهُوَ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى وَالذَّكَرَ، وَالْأُخُوَّةُ تَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَنَحْوُهَا، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْجَمِيعُ مَعْنًى وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ طَاعَتَهُ، وَالطَّاعَةُ تَارَةً بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، وَتَارَةً بِالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ، وَتَارَةً بِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَتَارَةً بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ، وَتَارَةً فِي عَظَمَتِهِ، وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، جَازَ إرَادَةُ الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، كَلَفْظِ الطَّاعَةِ نَفْسِهَا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا مُطْلَقًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَكَالْمَعْصِيَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَهَا لَفْظُ النهي. فقوله: {فَاذْكُرُونِي} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِسَائِرِ وُجُوهِ الذِّكْرِ، وَمِنْهَا سَائِرُ وُجُوهِ طَاعَتِهِ وَهُوَ أَعَمُّ الذِّكْرِ، وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه.

مطلب في أن ذكر الله تعالى بالتفكر في دلائله أفضل أنواع الذكر وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَذِكْرُهُ بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الذِّكْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ وَتَابِعَةٌ لَهُ وَبِهِ يَصِحُّ مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْيَقِينَ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِهِ تَكُونُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِ

اللَّهِ تَعَالَى وَحُجَجِهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت فِيهَا فِكْرًا ازْدَدْت طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا. وَهَذَا هُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَذْكَارِ إنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ حُكْمُهَا بِثُبُوتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ" حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي". قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} عقيب قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَفِعْلَ الصَّلَاةِ لُطْفٌ فِي التَّمَسُّكِ بِمَا فِي الْعُقُولِ مِنْ لُزُومِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِقُلُوبِكُمْ وَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي دَلَائِلِهِ أَكْبَرُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعُونَةٌ وَلُطْفٌ فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَا الذِّكْرِ وَإِدَامَتِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} فِيهِ إخْبَارٌ بِإِحْيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الشُّهَدَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيُحْيَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مراده لما قال: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} . لأن قوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} إخْبَارٌ بِفَقْدِ عِلْمِنَا بِحَيَاتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَيَاةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ شَعَرُوا بِهِ وَعَرَفُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَيَاةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ أُحْيُوا فِي قُبُورِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ مُنَعَّمُونَ فِيهَا جَازَ أَنْ يَحْيَا الْكُفَّارُ فِي قُبُورِهِمْ فَيُعَذَّبُوا، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ. فَإِنْ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مُنَعَّمِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَيْفَ خَصَّ الْمَقْتُولِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قِيلَ لَهُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اخْتَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ عَلَى جِهَةِ تَقْدِيمِ الْبِشَارَةِ بِذِكْرِ حَالِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] .

مطلب في أن الإنسان هو الروح فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً وَنَحْنُ نَرَاهُمْ رَمِيمًا فِي الْقُبُورِ بَعْدَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ عَلَيْهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: النَّاسُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَالنَّعِيمُ وَالْبُؤْسُ إنَّمَا هُمَا لَهُ دُونَ الْجُثَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إن الإنسان

هَذَا الْجِسْمُ الْكَثِيفُ الْمُشَاهَدُ، فَهُوَ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلَطِّفُ أَجْزَاءً مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَيُوَصِّلُ النَّعِيمَ إلَيْهِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ اللَّطِيفَةُ بِحَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ تُعَذَّبُ أَوْ تُنَعَّمُ عَلَى حَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ يُفْنِيهِ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يُفْنِي سَائِرَ الْخَلْقِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُحْيِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحَشْرِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَسَمَةُ الْمُسْلِمِ طَيْرٌ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهَا إلى جسده"1. قَوْله تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَائِزٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ قَدَّمَ إلَيْهِمْ ذِكْرَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ فِي اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْبَلَايَا وَالشَّدَائِدِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا إذَا وَرَدَتْ فَيَكُونَ ذَلِكَ أَبْعَدَ مِنْ الْجَزَعِ وَأَسْهَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْوُرُودِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ مِنْ ثَوَابِ تَوْطِينِ النَّفْسِ. قَوْله تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ مِنْ الشَّدَائِدِ، وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يَعْنِي إقْرَارَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُلْكِ لَهُ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِمَا يَشَاءُ تَعْرِيضًا مِنْهُ لِثَوَابِ الصَّبْرِ وَاسْتِصْلَاحًا لَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إذْ هُوَ تَعَالَى غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ; إذْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةً. فَفِي إقْرَارِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَرِضًى بِقَضَائِهِ فِيمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ; إذْ لَا يَقْضِي إلَّا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20] . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ". وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَاعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُجَازِي الصَّابِرِينَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ فَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الشَّدَائِدِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} يعني الثناء الجميل والبركات والرحمة

_ 1 هذا الحديث شاهد للمعنى الأول.

وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . وَمِنْ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهَا كَانَتْ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَكَانَ خَوْفُهُمْ مِنْ قِبَلِ هَؤُلَاءِ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ. وَأَمَّا الْجُوعُ فَلِقِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ وَالْفَقْرِ الَّذِي نَالَهُمْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ تَارَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُفْقِرَهُمْ بِتَلَفِ أَمْوَالِهِمْ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْعَدُوِّ بِأَنْ يُغْلَبُوا عَلَيْهِ فَيَتْلَفَ وَنَقْصٍ من الأموال والأنفس والثمرات يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا; لِأَنَّ النَّقْصَ مِنْ الْأَمْوَالِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ الْعَدُوَّ. وَكَذَلِكَ الثَّمَرَاتُ لِشُغْلِهِمْ إيَّاهُمْ بِقِتَالِهِمْ عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَوَائِحِ الَّتِي تُصِيبُ الْأَمْوَالَ وَالثِّمَارَ. وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ فِي الْحَرْبِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ يُمِيتُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ. فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالرِّضَا بِمَا فَعَلَهُ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الصَّلَاحَ وَالْحَسَنَ وَمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ إلَّا لِيُعْطِيَهُمْ، وَأَنَّ مَنْعَهُ إيَّاهُمْ إعْطَاءٌ مِنْهُ لَهُمْ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّبْرُ عَلَى جِهَادِهِمْ وَعَلَى الثَّبَاتِ عَلَى دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْكُلُونَ عَنْ الْحَرْبِ وَلَا يَزُولُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالِابْتِلَاءِ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَبْتَلِي أَحَدًا بِالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا يُوجِبُ الرِّضَا بِهِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي بِالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ لَوَجَبَ الرِّضَا بِهِ كَمَا رَضِيَهُ بِزَعْمِهِمْ حِينَ فَعَلَهُ وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَدْحَ الصَّابِرِينَ عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَعَلَى مَصَائِبِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَ. وَالْوَعْدُ بِالثَّوَابِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالْمَحَلِّ الْجَلِيلِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ لِائْتِمَارِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ فِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ تَسْلِيَةً عَنْ الْهَمِّ وَنَفْيِ الْجَزَعِ الَّذِي رُبَّمَا أَدَّى إلَى ضَرَرٍ فِي النَّفْسِ وَإِلَى إتْلَافِهَا فِي حَالِ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَحْمُودِ الْعَاقِبَةِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ إلَّا اللَّهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ: فَرْضٌ، وَنَفْلٌ. فَأَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرَ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ لَا يُثْنِيهِ عَنْهَا مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَلَا شَدَائِدُهَا. وَأَمَّا النَّفَلُ فَإِظْهَارُ الْقَوْلِ بـ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فَإِنَّ فِي إظْهَارِهِ فَوَائِدَ جَزِيلَةً، مِنْهَا فِعْلُ مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ وَوَعَدَهُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ إذَا

سَمِعَهُ، وَمِنْهَا غَيْظُ الْكُفَّارِ وَعِلْمُهُمْ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَائِهِ وَيُحْكَى عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ قَالَ: الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا لَا يُحِبُّ الْبَقَاءَ فِيهَا، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْزَنَ لِلْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ ثَوَابًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: "قَرَأْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فَقُلْت: لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، قَالَتْ: بِئْسَمَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي قَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ فَكَانَتْ سُنَّةً إنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ لَا يَطَّوَّفُ بِهِمَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ سُنَّةً قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنَ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَعِلْمٌ، وَلَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّمَا سَأَلَ عَنْ هَذَا الرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَحْسَبُهَا نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ". وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالَ: كَانَ عَلَى الصَّفَا تَمَاثِيلُ وَأَصْنَامٌ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَطُوفُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عَائِشَةَ سُؤَالُ مَنْ كَانَ لَا يَطُوفُ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَجْلِ إهْلَالِهِ لِمَنَاةَ، وَعَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِسُؤَالِ مَنْ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمَا الْأَصْنَامُ، فَتَجَنَّبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، فَرَوَى هِشَام بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، جَمِيعًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا أَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرِئِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَذَكَرِ أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا سُنَّةٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ. وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نَكْرَهُ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا تَطَوُّعٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: إنَّ مَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ: إنَّهُ واجب

فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَتَرْكُهُ يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيّ: لَا يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ إذَا تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِع فَيَطُوفَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ لِمَنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ مِثْلُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيّ قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْت مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ مَا تَرَكْت جَبَلًا إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ". فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْفِي كَوْنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَرْضًا فِي الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إخْبَارُهُ بِتَمَامِ حَجَّتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ فُرُوضِهِ لَبَيَّنَهُ لِلسَّائِلِ لِعِلْمِهِ بِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِهِ قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ اللَّفْظ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ فَرْضًا بِدَلَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَسْنُونًا وَيَكُونَ تَطَوُّعًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ اللَّفْظِ، إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ مَسْنُونًا فِي تَوَابِعِ الْحَجِّ بِدَلَالَةٍ. وَمِمَّا يُحْتَجّ بِهِ لِوُجُوبِهِ أَنَّ فَرَضَ الْحَجِّ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّه; لِأَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَحُجُّ مَأْمُومَةَ فِي قَعْرِهَا لَجَفَّ يَعْنِي أَنَّهُ يَقْصِدُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَعَانٍ أُخَرِ لَمْ يَكُنْ اسْمًا مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَان فَمهمَا وَرَدَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ. وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَّ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا سَعَى بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةَ الْوُجُوبِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَذَلِكَ أَمْرِ يَقْتَضِي إيجَابُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ، فَوَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: "بِمَ أَهْلَلْت؟ " فَقُلْت: أَهْلَلْت بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَحْسَنْت طُفْ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ! " فَأَمَرَهُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ جَمِيعًا مَجْهُولُ الرَّاوِي، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُبَيْدِ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ امْرَأَةٍ سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ

السَّعْيُ فَاسْعَوْا" فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ يَقُولَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ تَذْكُرْ اسْمَ الرَّاوِيَةِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ امْرَأَةٍ يُقَالَ لَهَا حَبِيبَةُ بِنْت أَبِي تُجْزَأَةَ قَالَتْ: دَخَلْت دَارَ أَبِي حُسَيْنٍ وَمَعِي نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى إنَّ ثَوْبَهُ لَيَدُورَ بِهِ وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ" فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ السَّعْيَ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ الرَّمْي وَالطَّوَافُ نَفْسُهُ; لِأَنَّ الْمَشْي يُسَمَّى سَعَيَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَلَيْسَ الْمُرَادُ إسْرَاعَ الْمَشْي، وَإِنَّمَا هُوَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالرَّمَل فِيهِ، وَهُوَ سَعْي لِأَنَّهُ إسْرَاعُ الْمَشْيِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ أَيَّ سَعْيٍ كَانَ، وَهُوَ إذَا رَمْل فَقَدْ سَعَى، وَوُجُوبُ التَّكْرَار لَا دَلَالَة عَلَيْهِ. فَالْأَخْبَارُ الْأُوَلُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَلَا دَلَالَة فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا لَا يَنُوبُ عَنْهُ دَمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ يَنُوبُ عَنْهُ لِمَنْ تَرَكَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بَعْد الْإِحْلَالِ مِنْ جَمِيعِ الْإِحْرَامِ كَمَا يَصِحُّ الرَّمْيُ وَطَوَافُ الصَّدْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنُوب عَنْهُ الدَّمُ كَمَا نَابَ عَنْ الرَّمْي وَطَوَافِ الصَّدْرِ. فَإِنْ قِيلَ: طَوَافُ الزِّيَارَةِ يُفْعَلُ بَعْدَ الْإِحْلَالَ وَلَا يَنُوب عَنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يُوجِبُ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ، وَإِذَا طَافَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْسَ لِبَقَاءِ السَّعْيِ تَأْثِيرٌ فِي بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ كَالرَّمْيِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ لَمْ يَحِلّ مِنْ النِّسَاءِ وَكَانَ حَرَامًا حَتَّى يَسْعَى بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ; لِأَنَّهُمْ عَلَى ثَلَاثَة أَقَاوِيل بَعْدَ الْحَلْقِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ اللِّبَاسِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيِّبِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ فَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّعْيَ بَيْنهمَا لَا يُفْعَلُ إلَّا تَبَعًا لِلطَّوَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا طَوَافَ عَلَيْهِ لَا سَعْيَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَطَوَّعُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَتَطَوَّعُ بِالرَّمْيِ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ لَا يُفْعَلُ إلا بعد

الْوُقُوفِ، وَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ مَنْ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ تَبَعٌ فَيَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَا لَا يُفْعَلُ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَهُوَ تَابِعٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْعُولٍ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِغَيْرِهِ بَلْ يُفْعَلُ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ مِنْ شُرُوطِهِ شَيْئَانِ: الْإِحْرَامُ وَالْوَقْتُ، وَمَا كَانَ شَرْطُهُ الْإِحْرَامَ أَوْ الْوَقْتَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِوَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ تَبَعُ فَرْضٍ غَيْرِهِ. وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُهُ بِالْوَقْتِ. وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إنَّمَا تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِالْإِحْرَامِ وَالْوَقْتِ وَلَيْسَ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْإِحْرَامِ، فَلَيْسَ هُوَ إذَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُ مَعَ حُضُورِ وَقْتِهِ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الطَّوَافُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَأَشْبَهَ طَوَافَ الصَّدْرِ لَمَّا كَانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ كَانَ تَبَعًا فِي الْحَجِّ يَنُوبُ عَنْ تَرْكِهِ دَمٌ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ لِأَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ مَعَالِمُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِشْعَارِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُك شَعَرْت بِكَذَا وَكَذَا أَيْ عَلِمْته. وَمِنْهُ إشْعَارُ الْبَدَنَةِ أَيْ إعْلَامُهَا لِلْقُرْبَةِ، وَشِعَارُ الْحَرْبِ عَلَامَاتُهَا الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا فَالشَّعَائِرُ هِيَ الْمَعَالِمُ لِلْقُرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وَشَعَائِرُ الْحَجِّ مَعَالِمُ نُسُكِهِ، وَمِنْهُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ بِفَحْوَاهَا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثُمَّ قَوْلُهُ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُمَا، وَأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَنْفِ إرَادَةَ الْوُجُوبِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ السَّعْيَ فِيهِ مَسْنُونٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَصَوَّبَتْ قَدَمَاهُ فِي الْوَادِي سَعَى حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: أَرَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: كَانَ فِي النَّاسِ فَرَمَلُوا وَلَا أَرَاهُمْ فَعَلُوا إلَّا بِرَمَلِهِ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَرَوَى مَسْرُوقٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ شَاءَ يَسْعَى بِمَسِيلِ مَكَّةَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ وَإِنَّمَا يَعْنِي الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جبير قال:

"رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: إنْ مَشَيْت فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي، وَإِنْ سَعَيْت فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى". وَرَوَى عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ فَأَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ إظْهَارُ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَعَلُّقُ فِعْلِهِ بِهَذَا السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ سُنَّةً مَعَ زَوَالِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ كَانَ رَمْيَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إبْلِيسَ لَمَّا عَرَضَ لَهُ بِمِنًى، وَصَارَ سُنَّةً بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ سَبَبُ الرَّمَلِ فِي الْوَادِي أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا طَلَبَتْ الْمَاءَ لِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَجَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَانَتْ إذَا نَزَلَتْ الْوَادِيَ غَابَ الصَّبِيُّ عَنْ عَيْنِهَا، فَأَسْرَعَتْ الْمَشْيَ. وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَلِمَ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَبَقَهُ إبْرَاهِيمُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سُرْعَةِ الْمَشْيِ هُنَاكَ. وَهُوَ سُنَّةٌ كَنَظَائِرِهِ مِمَّا وَصَفْنَا. وَالرَّمَلُ فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِمَّا قَدْ نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مَسْنُونًا بَعْدَهُ، وَظُهُورُ نَقْلِهِ فِعْلًا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ تعالى أعلم.

بَابُ طَوَافِ الرَّاكِبِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي طَوَافِ الرَّاكِبِ بَيْنَهُمَا، فَكَرِهَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الطُّفَيْلِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى الدَّابَّةِ سُنَّةٌ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُدْفَعُ عَنْهُ أَحَدٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ. وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة, أَنَّهَا شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" وَكَانَ عُرْوَةُ إذَا رَآهُمْ يَطُوفُونَ عَلَى الدَّوَابِّ نَهَاهُمْ فَيَتَعَلَّلُونَ بِالْمَرَضِ، فَيَقُولُ: "خَابَ هَؤُلَاءِ وَخَسِرُوا". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا مَنَعَنِي مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ الرُّكُوبَ وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَقَدْ اشْتَكَى فَطَافَ عَلَى بَعِيرٍ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ". وَلَمَّا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ بِهِمَا السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي عَلَى مَا وَصَفْنَا وَكَانَ الرَّاكِبُ تَارِكًا لِلسَّعْيِ كَانَ فِعْلُهُ خِلَافَ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ، فَيَجُوزُ.

فَصْلُ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ، وَذَكَرَ حَجَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَوَافَهُ بِالْبَيْتِ إلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا حَتَّى بَدَا لَهُ الْبَيْتُ فَقَالَ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ; إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" فَإِنَّمَا بُدِئَ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَة لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَنَفْعَلُهُ كَذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَسْنُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَة، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ ذَلِكَ الشَّوْطَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ. قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} عَقِيبَ ذِكْرِ الطَّوَافِ بِهِمَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَاهُ تَطَوُّعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ رُجُوعُ الْكَلَامِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الطَّوَافِ بِهِمَا، وَمَعْلُومٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُتَطَوَّعُ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَاهُ فِي غَيْرِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} إخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ تَطَوُّعًا، إذْ لَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لِفِعْلِهِ فِي غَيْرِهِمَا لَا تَطَوُّعًا وَلَا غَيْرَهُ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ تَطَوَّعَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا فِي الْخِطَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} .

بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] الْآيَةَ وَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] هَذِهِ الْآيُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ وَتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ زَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا، وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ بَيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِبَيَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِشُمُولِ اسْمِ الْهُدَى لِلْجَمِيعِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلِيلِ; لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ طرق

إخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ انْطَوَتْ تَحْتَ الْآيَةِ; لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكُلُّ مَا اقْتَضَى الْكِتَابُ إيجَابَ حُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلَالَةِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ. وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمْ ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ: فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّ كِتْمَانَهُ هَلَكَةٌ. وَنَظِيرُهُ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَقَدْ رَوَى حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ". فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِهَا فِي سَائِرِ مَا انْتَظَمَتْهُ; لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِلَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ. وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ الْمُقَصِّرَةِ عَنْ مَرْتَبَةِ إيجَابِ الْعِلْمِ الْعَامِّ لِمَخْبَرِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] قَدْ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ الْكِتْمَانِ وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِالْإِظْهَارِ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ السَّامِعِينَ قَبُولُهُ لَمَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُبَيِّنًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى; إذْ مَا لَا يُوجِبُ حُكْمًا فَغَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْبَيَانِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الْكِتْمَانِ مَتَى أَظْهَرُوا مَا كَتَمُوا وَأَخْبَرُوا بِهِ لَزِمَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى خَبَرِهِمْ وَمُوجَبِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الخطاب: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الْكِتْمَانِ وَمَأْمُورًا بِالْبَيَانِ لِيَكْثُرَ الْمُخْبِرُونَ وَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُمْ مَا نُهُوا عَنْ الْكِتْمَانِ إلَّا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَيْهِ، وَمَنْ جَازَ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ جَازَ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى التَّقَوُّلِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ فَقَدْ دَلَّتْ الْآثَارُ عَلَى قَبُولِ الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَا ادَّعَيْته لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ، فَظَوَاهِرُ الْآيِ مُقْتَضِيَةٌ لِقَبُولِ مَا أُمِرُوا بِهِ لِوُقُوعِ بَيَانِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ. وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ إظْهَارِ العلم وترك

كِتْمَانِهِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنِّي أَعْطَيْت قَوْمِي مِائَةَ شَاةٍ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمِائَةُ شَاةٍ رَدٌّ عَلَيْك، وَإِنْ تَرَكُوا الْإِسْلَامَ قَاتَلْنَاهُمْ". وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَمْنَعُ أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْكِتْمَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] مَانِعٌ أَخْذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ; إذْ كَانَ الثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْبَدَلُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَة: إنْ كُنْت حَاوَلْت دُنْيَا أَوْ رَضِيت بِهَا ... فَمَا أَصَبْت بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ عُلُومِ الدِّينِ. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْكِتْمَانِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْبَيَانِ وَأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ بِالنَّدَمِ عَلَى الْكِتْمَانِ فِيمَا سَلَفَ دُونَ الْبَيَانِ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ.

بَابُ لَعْنِ الْكُفَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا 1، وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ لأن قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قَدْ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ جُنَّ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْجُنُونِ مُسْقِطًا لِلَعْنِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالْمُوَالَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ أَنَّ مَوْتَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ جُنُونَهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ يَلْعَنُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] ! قِيلَ لَهُ هَذَا تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْآيَةِ فَكَذَلِكَ مِنْ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ من الله

_ 1 قوله "إن على المسلمين الخ" مراد المص أن تحقق موته كافرا يستحق اللعنة من المسلمين وليس مراده أنه يجب عليهم لعنه كما يوهمه كلامه هنا بدليل آخر كلامه "لمصححه".

تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ يَلْعَنُونَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ بِاسْتِحْقَاقِهِ اللَّعْنَ مِنْ النَّاسِ لَعَنُوهُ أَوْ لَمْ يَلْعَنُوهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وَصْفُهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ انْتَظَمَ مَعَانِيَ كُلَّهَا مُرَادَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْهَا: أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ وَلَا مِثْلَ وَلَا مُسَاوِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَاسْتَحَقَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ دُونَ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَالْوَصْفِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا سِوَاهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّجْزِيءُ وَالتَّقْسِيمُ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ ذَا أَبْعَاضٍ وَجَازَ عَلَيْهِ التَّجْزِئَةُ وَالتَّقْسِيمُ فَلَيْسَ بِوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا: أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْوُجُودِ قَدِيمًا لَمْ يَزُلْ مُنْفَرِدًا بِالْقِدَمِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وُجُودٌ سِوَاهُ. فَانْتَظَمَ وَصْفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الْآيَة قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَالَات عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَفِيهَا أَمْرٌ لَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّهُ نَصَبَهَا لِيَسْتَدِلّ بِهَا وَيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَنَفْيِ الْأَشْبَاهِ عَنْهُ وَالْأَمْثَالِ. وَفِيهِ إبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخَبَرِ وَأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْعُقُولِ فِي الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى. فَأَمَّا دَلَالَةُ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عَلَى اللَّهِ، فَهُوَ قِيَامُ السَّمَاءِ فَوْقنَا عَلَى غَيْرِ عَمْد مَعَ عَظْمهَا سَاكِنَةً غَيْرَ زَائِلَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَرْض تَحْتَنَا مَعَ عَظْمِهَا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَهَى مِنْ حَيْثُ كَانَ مَوْجُودًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى إقَامَةِ حَجَرٍ فِي الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ وَلَا عَمْد لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُقِيمَا أَقَامَ السَّمَاءَ عَلَى غَيْرِ عَمْد وَالْأَرْضَ عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى الْخَالِقِ لَهُمَا، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ وَأَنَّهُ قَادِرٌ لَا يَعْجِزُهُ شَيْءٌ; إذْ كَانَتْ الْأَجْسَامُ لَا تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اخْتِرَاعِ الْأَجْسَامِ; إذْ لَيْسَ اخْتِرَاعُ الْأَجْسَامِ وَاخْتِرَاعُ الْأَجْرَامِ بِأَبْعَد فِي الْعُقُولِ وَالْأَوْهَامِ مِنْ إقَامَتهَا مَعَ عَظْمهَا وَكَثَافَتِهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار وَعَمَدٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَدُلّ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَهِيَ امْتِنَاعُ جَوَازِ تَعَرِّيهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْرَاض مُحْدَثَةٌ لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِد مِنْهَا بَعْد أَنَّ لَمْ يَكُنْ، وَمَا لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَصَحَّ بِذَلِكَ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ، وَالْمُحْدَثُ يَقْتَضِي مُحَدِّثًا كَاقْتِضَاءِ الْبِنَاءِ لِلْبَانِي وَالْكِتَابَةِ لِلْكَاتِبِ وَالتَّأْثِيرِ لِلْمُؤَثَّرِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ آيَات اللَّهِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْ جِهَةٍ أَنَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

حَادِثٌ بَعْدَ الْآخَرِ، وَالْمُحْدَثُ يَقْتَضِي مُحْدِثًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مُحْدِثهمَا وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُمَا; إذْ كُلُّ فَاعِلٍ فَغَيْرُ مُشْبِهٍ لِفِعْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَانِي لَا يُشْبِهُ بِنَاءَهُ وَالْكَاتِبُ لَا يُشْبِهُ كِتَابَتَهُ؟ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ أَشْبَهَهُ لَجَرَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحُدُوثِ، فَكَانَ لَا يَكُونُ هُوَ أُولَى بِالْحُدُوثِ مِنْ مُحْدَثه. وَلَمَّا صَحَّ أَنَّ مُحْدِثَ الْأَجْسَامِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَدِيمٌ صَحَّ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحْدِثَهَا قَادِرٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْفِعْلِ إلَّا مِنْ الْقَادِرِ. وَيَدُلُّ أَنَّ مُحْدِثَهَا حَيٌّ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْفِعْلِ إلَّا مِنْ قَادِرٍ حَيٍّ وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ لِاسْتِحَالَةِ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ إحْدَاثِهِ. وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ صُقْعٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَزْمَانُ السَّنَةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُمَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُخْتَرِعُهُمَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ عَالِمٌ; إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَمْ يُوجَدُ مِنْهُ الْفِعْلُ وَلَوْ لَمْ يَكُونُ عَالِمًا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُتْقَنًا مُنْتَظِمًا. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، فَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ تُحْدِثَ مِثْلَ هَذَا الْجِسْمَ الرَّقِيقَ السَّيَّالَ الْحَامِلَ لِلْفُلْكِ وَعَلَى أَنْ تُجْرِيَ الرِّيَاحَ الْمُجْرِيَةَ لِلْفُلْكِ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ سَكَنَتْ الرِّيَاحُ بَقِيَتْ رَاكِدَةً عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَى إجْرَائِهَا وَإِزَالَتِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33] ، فَفِي تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ لِحَمْلِ السُّفُنِ وَتَسْخِيرِهِ الرِّيَاحَ لِإِجْرَائِهَا أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ عَلَى إثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَيِّ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ; إذْ كَانَتْ الْأَجْسَامُ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَسَخَّرَ اللَّهُ الْمَاءَ لِحَمْلِ السُّفُنِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَسَخَّرَ الرِّيَاحَ لِإِجْرَائِهَا وَنَقْلِهَا لِمَنَافِعِ خَلْقِهِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَظْم نِعْمَتِهِ، وَاسْتَدْعَى مِنْهُمْ النَّظَرَ فِيهَا لِيَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَهُمْ قَدْ أَنْعَمَ بِهَا فَيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَيَسْتَحِقُّوا بِهِ الثَّوَابَ الدَّائِمَ فِي دَارِ السَّلَامِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَمَّا دَلَالَةُ إنْزَالِهِ الْمَاءَ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَمِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَاءِ النُّزُولَ وَالسَّيَلَانَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ ارْتِفَاعُ الْمَاءِ مِنْ سُفْلٍ إلَى عُلُوٍّ إلَّا بِجَاعِلِ يَجْعَلهُ كَذَلِكَ. فَلَا يَخْلُو الْمَاءُ الْمَوْجُودِ فِي السَّحَابِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْدِثٌ أَحْدَثُهُ هُنَاكَ فِي السَّحَابِ، أَوْ رَفَعَهُ مِنْ مَعَادِنِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ إلَى هُنَاكَ. وَأَيُّهُمَا كَانَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إثْبَاتِ الْوَاحِدِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ ثُمَّ إمْسَاكُهُ فِي السَّحَابِ غَيْرُ سَائِلٍ مِنْهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرِيدُهَا بِالرِّيَاحِ الْمُسَخَّرَةِ لِنَقْلِهِ فِيهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَجَعَلَ السَّحَابَ مَرْكَبًا لِلْمَاءِ وَالرِّيَاحَ مَرْكَبًا لِلسَّحَابِ حَتَّى تَسُوقَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ لِيَعُمَّ نَفْعُهُ لِسَائِرِ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ

الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [السجدة: 27] ثُمَّ أَنْزَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ قَطْرَةً قَطْرَةً لَا تَلْتَقِي وَاحِدَةٌ مَعَ صَاحِبَتِهَا فِي الْجَوِّ مَعَ تَحْرِيكِ الرِّيَاحِ لَهَا حَتَّى تَنْزِلَ كُلُّ قَطْرَةٍ عَلَى حِيَالِهَا إلَى مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَلَوْلَا أَنَّ مُدَبِّرًا حَكِيمًا عَالِمًا قَادِرًا دَبَّرَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَقَدَّرَهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّقْدِيرِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ نُزُولُ الْمَاءِ فِي السَّحَابِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَهُوَ الَّذِي تَسِيلُ مِنْهُ السُّيُولُ الْعِظَامُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ وَالتَّرْتِيبِ؟ وَلَوْ اجْتَمَعَ الْقَطْرُ فِي الْجَوِّ وَائْتَلَفَ لَقَدْ كَانَ يَكُونُ نُزُولُهَا مِثْلَ السُّيُولِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنْهَا بَعْدَ نُزُولِهَا إلَى الْأَرْضِ فَيُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَإِبَادَةِ جَمِيعِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، وَكَانَ يَكُونُ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ الطُّوفَانِ فِي نُزُولِ الْمَاءِ مِنْ السَّمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11] فَيُقَالُ إنَّهُ كَانَ صَبًّا كَنَحْوِ السُّيُولِ الْجَارِيَةِ فِي الْأَرْضِ. فَفِي إنْشَاءِ اللَّهِ تَعَالَى السَّحَابَ فِي الْجَوِّ وَخَلْقِ الْمَاءِ فِيهِ وَتَصْرِيفِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُشْبِهٍ الْأَجْسَامَ; إذْ الْأَجْسَامُ لَا يُمْكِنُهَا فِعْلُ ذَلِكَ وَلَا تَرُومُهُ وَلَا تَطْمَعُ فِيهِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ إحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَهِيَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى إحْيَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَلَمَا أَمْكَنَهُمْ إنْبَاتُ شَيْءٍ مِنْ النَّبَاتِ فِيهَا، فَإِحْيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَإِنْبَاتُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ فِيهَا الَّتِي قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وَمُشَاهَدَةً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ. ثُمَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ النَّبَاتِ لَوْ فَكَّرْت فِيهِ عَلَى حِيَالِهِ لَوَجَدْته دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ عَالِمٍ بِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ أَجْزَائِهِ وَنَظْمِهَا عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيعَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْمُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى; إذْ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْأَزْهَارِ وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَالْفَوَاكِهِ الْمُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيعَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مُوجِبُهَا إذْ الْمُتَّفِقُ لَا يُوجِبُ الْمُخْتَلِفَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَدْ خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَطُعُومِهِ وَأَلْوَانِهِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَدَلَالَةً لَهُمْ عَلَى صُنْعِهِ وَنِعَمِهِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ مَا بَثَّ فِيهَا مِنْ دَابَّةٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَهِيَ كَذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ أَيْضًا فِي اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْحَيَوَانَاتُ هِيَ الْمُحْدِثَةُ لِأَنْفُسِهَا، لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ أَحْدَثَتْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَوُجُودُهَا قَدْ أَغْنَى عَنْ إحْدَاثِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ إيجَادُ الْفِعْلِ مِنْ الْمَعْدُومِ، وَمَعَ ذَلِكَ فقد علمنا

أَنَّهَا بَعْدَ وُجُودِهَا غَيْرُ قَادِرَةٍ عَلَى اخْتِرَاعِ الْأَجْسَامِ وَإِنْشَاءِ الْأَجْرَامِ، فَهِيَ فِي حَالِ عَدَمِهَا أَحْرَى أَنْ لَا تَكُونَ قَادِرَةً عَلَيْهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي أَجْزَائِهِ، فَهُوَ بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى إحْدَاثِ جَمِيعِهِ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَهَا هُوَ الْقَادِرُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ مُحْدِثُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُشْبِهًا لَهَا مِنْ وَجْهٍ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ وُقُوعِ إحْدَاثِ الْأَجْسَامِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَهِيَ أَنَّ الْخَلْقَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَصْرِيفِهَا لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصْرِيفَهَا تَارَةً جَنُوبًا وَتَارَةً شَمَالًا وَتَارَةً صَبًّا وَتَارَةً دَبُورًا مُحْدَثٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُحْدِثَ لِتَصْرِيفِهَا هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ; إذْ كَانَ مَعْلُومًا اسْتِحَالَةُ إحْدَاثِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ. فَهَذِهِ دَلَائِلُ قَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُقَلَاءَ عَلَيْهَا وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا. وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إحْدَاثِ النَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا زِرَاعَةٍ، وَإِحْدَاثِ الْحَيَوَانَاتِ بِلَا نِتَاجٍ وَلَا زَوَاجٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ فِي إنْشَاءِ خَلْقِهِ عَلَى هَذَا تَنْبِيهًا لَهُمْ عِنْدَ كُلِّ حَادِثٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَالْفِكْرِ فِي عَظَمَتِهِ، وَلِيُشْعِرَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أَغْفَلُوهُ وَيُزْعِجَ خَوَاطِرَهُمْ لِلْفِكْرِ فِيمَا أَهْمَلُوهُ. فَخَلَقَ تَعَالَى الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ ثَابِتَتَيْنِ دَائِمَتَيْنِ لَا تَزُولَانِ وَلَا تَتَغَيَّرَانِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي جَعَلَهُمَا وَخَلَقَهُمَا عَلَيْهَا بَدْءًا إلَى وَقْتِ فَنَائِهِمَا، ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَيَوَانَ مِنْ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَنْشَأَ لِلْجَمِيعِ رِزْقًا مِنْهَا وَأَقْوَاتًا بِهَا تَبْقَى حَيَاتُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ ذَلِكَ الرِّزْقَ جُمْلَةً فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ بِمَا أُعْطُوا بَلْ جَعَلَ لَهُمْ قُوتًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ سَنَةٍ بِمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ لِئَلَّا يَبْطَرُوا وَيَكُونُوا مُسْتَشْعِرِينَ لِلِافْتِقَارِ إلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَوَكَلَ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى ذَلِكَ مِنْ الْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ لِيُشْعِرَهُمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ ثَمَرَاتٌ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فَيَجْتَنُونَ ثَمَرَتَهُ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّ مَغَبَّتِهِ ثُمَّ تَوَلَّى هُوَ لَهُمْ مِنْ إنْزَالِ الْمَاءِ مِنْ السَّمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ أَنْ يُنْزِلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَأَنْشَأَ سَحَابًا فِي الْجَوِّ وَخَلَقَ فِيهِ الْمَاءَ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ أَنْبَتَ لَهُمْ بِهِ سَائِرَ أَقْوَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِمَلَابِسِهِمْ. ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى مَنَافِعِهِ فِي وَقْتِ مَنَافِعِهِ حَتَّى جَعَلَ لِذَلِكَ الْمَاءِ مَخَازِنَ وَيَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ يَجْتَمِعُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَاءُ فَيَجْرِي أَوَّلًا فَأَوَّلًا عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ لَهُ فِي الْأَرْضِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ لَسَالَ كُلُّهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَلَفُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا لِعَدَمِهِ الْمَاءَ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَجَعَلَ السَّمَاءَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْفِ، وَجَعَلَ سَائِرَ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْقُلُهُ الْإِنْسَانُ إلَى بَيْتِهِ لِمَصَالِحِهِ ثُمَّ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ لَنَا وَذَلَّلَهَا لِلْمَشْيِ عَلَيْهَا وَسُلُوكِ طُرُقِهَا، وَمَكَّنَنَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي بِنَاءِ الْبُيُوتِ وَالدُّورِ لِنَسْكُنَ مِنْ الْمَطَرِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَتَحَصُّنًا مِنْ الْأَعْدَاءِ لَمْ تُخْرِجْنَا إلَى غَيْرِهَا، فَأَيَّ مَوْضِعٍ مِنْهَا أَرَدْنَا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي إنْشَاءِ الْأَبْنِيَةِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْجِصِّ وَالطِّينِ وَمِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ أَمْكَنَنَا ذَلِكَ وَسَهَّلَ عَلَيْنَا سِوَى مَا أَوْدَعَهَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي عَقَدَ بِهَا مَنَافِعَنَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَلَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا. ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ أَعْمَارِنَا وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً جَعَلَهَا كِفَاتًا لَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا جَعَلَهَا فِي الْحَيَاةِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات: 25 – 26] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 7 – 8] ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا خَلَقَ مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ عَلَى الْمُلِذِّ دُونَ الْمُؤْلِمِ وَلَا عَلَى الْغِذَاءِ دُونَ السُّمِّ وَلَا عَلَى الْحُلْوِ دُونَ الْمُرِّ، بَلْ مَزَجَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِيُشْعِرَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ مِنَّا الرُّكُونَ إلَى هَذِهِ اللَّذَّاتِ وَلِئَلَّا تَطْمَئِنَّ نُفُوسُنَا إلَيْهَا فَتَشْتَغِلَ بِهَا عَنْ دَارِ الْآخِرَةِ الَّتِي خُلِقْنَا لَهَا، فَكَانَ النَّفْعُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ فِي الذَّوَاتِ الْمُؤْلِمَةِ الْمُؤْذِيَةِ كَهُوَ فِي الْمَلَذَّةِ السَّارَّةِ، وَلِيُشْعِرَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَيْفِيَّةِ الْآلَامِ لِيَصِحَّ الْوَعِيدُ بِآلَامِ الْآخِرَةِ وَلِنَنْزَجِرَ عَنْ الْقَبَائِحِ فَنَسْتَحِقَّ النَّعِيمَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ وَلَا تَنْغِيصٌ. فَلَوْ اقْتَصَرَ الْعَاقِلُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ كَافِيًا شَافِيًا فِي إثْبَاتِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُلْحِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ وَمِنْ الثَّنَوِيَّةِ وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّشْبِيهِ. وَلَوْ بَسَطْت مَعْنَى الْآيَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ضُرُوبِ الدَّلَائِلِ لَطَالَ وَكَثُرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; إذْ كَانَ الْغَرَضُ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مُقْتَضَى دَلَالَةِ الْآيَةِ بِوَجِيزٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ الِاسْتِقْصَاءِ. وَاَللَّهَ نَسْأَلُ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهُدَاهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

بَابُ إبَاحَةِ رُكُوبِ الْبَحْرِ وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَةِ رُكُوبِ الْبَحْرِ غَازِيًا وَتَاجِرًا وَمُبْتَغِيًا لِسَائِرِ الْمَنَافِعِ; إذْ لَمْ يَخُصَّ ضَرْبًا مِنْ الْمَنَافِعِ دُونَ

غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] ، وَقَالَ: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 66] . وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} قَدْ انْتَظَمَ التِّجَارَةَ وَغَيْرَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إبَاحَةُ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنَعَ الْغَزْوَ فِي الْبَحْرِ إشْفَاقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ الْبَحْرَ إلَّا غَازِيًا أَوْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَى رَاكِبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ مُطَرَّفٍ، عَنْ بِشْرِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا" 1 وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لِئَلَّا يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ; إذْ لَا غَرَرَ فِيهِ; لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ غَرَقًا كَانَ شَهِيدًا. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامِ بِنْتُ مِلْحَانِ أُخْتُ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَهُمْ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَضْحَكَك؟ قَالَ: "رَأَيْت قَوْمًا مِمَّنْ يَرْكَبُ 2 ظَهْرَ هَذَا الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ" قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: "فَإِنَّك مِنْهُمْ" قَالَتْ: ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَضْحَكَك؟ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: "أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ". قَالَ: فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَحَمَلَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قُرِّبَتْ لَهَا بَغْلَةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود وحدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم

_ 1 قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا" فيه دليل ظاهر للقائلين بأن جوف الأرض مشتعل بالنار وبأن القسم الأعظم من كرة الأرض مغمور سطحه من جميع جهاته بماء البحر "لمصححه". 2 قوله "ممن يركب" في رواية: من أمتي يركبون الخ" "لمصححه".

الْجُوَيْرِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّمْلِيُّ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ" وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لِآدَمِيٍّ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً لِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ. وَسَنُبَيِّنُ شَرَائِطَ الذَّكَاةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَيْتَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِهَا مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ وَالْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ أَفْعَالَنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَا فِعْلَ غَيْرِنَا; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْهَى الْإِنْسَانُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ جَازَ إطْلَاقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا يُطْعِمُهَا الْكِلَابَ وَالْجَوَارِحَ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا مُؤَكِّدًا بِهِ حُكْمَ الْحَظْرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَخْصِيصُ مَيْتَةِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْإِبَاحَةِ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْجَرَادُ وَالسَّمَكُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إلَيْهِمْ حُوتًا فَأَكَلُوا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِي؟ ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ غَيْرِ الطَّافِي وَفِي الْجَرَادِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: 96] وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَّقِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". وَسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالثَّبْتِ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَرَوَاهُ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّنَدِ يُوجِبُ

اضْطِرَابَ الْحَدِيثِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ بِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ زِيَادٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الْبَحْرِ: "ذَكِيٌّ صَيْدُهُ طَهُورٌ مَاؤُهُ" وَهَذَا أَضْعَفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ مِنْ الْأَوَّلِ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْعَلَوِيِّ، عَنْ، مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ الْمُدْلَجِي، عَنْ الْفَرَّاسِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَهَذَا أَيْضًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد بن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّمَكِ الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَكَرِهَهُ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ حَيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِهِ" وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ أَيْضًا، فَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "مَا طَفَا مِنْ مَيْتَةِ الْبَحْرِ فَلَا تَأْكُلْهُ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا كَرِهَا الطَّافِيَ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ كَرَاهَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ كَرَاهِيَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَبِي أَيُّوبَ إبَاحَةُ أَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ أَكْلِهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَخْصِيصِ غَيْرِ الطَّافِي مِنْ الْجُمْلَةِ فَخَصَّصْنَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّافِي فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيهِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ! ". وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَلَا تَأْكُلْ 1 وَمَا أَلْقَى فَكُلْ، وَمَا وَجَدْته ميتا طافيا فلا تأكله! "

_ 1 قوله: "ما جزر عنه البحر فلا تأكل" هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا، ولم نقف على هذه الرواية في جامع الأصول لابن الأثير ولا في جمع الجوامع للسيوطي، وهي رواية مخالفة لغيرها من الروايات الواردة في أن ما جزر عنه البحر في حكم ما ألقاه. "لمصححه".

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا وَجَدْتُمُوهُ حَيًّا فَكُلُوهُ، وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ حَيًّا فَمَاتَ فَكُلُوهُ، وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلُوهُ" وَحَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الدِّهْقَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا صِدْتُمُوهُ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ فَكُلُوهُ، وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلُوهُ". فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَحَمَّادٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً ثُمَّ يُرْسِلَ عَنْهُ فَيُفْتِيَ بِهِ، وَفُتْيَاهُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ بَلْ يُؤَكِّدُهُ. عَلَى أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ ذَكَرْت، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، فَزِيَادَتُهُمَا فِي الرَّفْعِ مَقْبُولَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ. فَإِنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ" وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهِ قِيلَ لَهُ: يَخُصُّ مَا ذَكَرْنَا وَرَوَيْنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الطَّافِي، وَيَلْزَمُ مُخَالِفَنَا عَلَى أَصْلِهِ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنْ يَبْنِيَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ فَيَسْتَعْمِلُهُمَا وَأَنْ لَا يُسْقِطَ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا خَبَرٌ فِي رَفْعِهِ اخْتِلَافٌ، فَرَوَاهُ مَرْحُومٌ الْعَطَّارُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا، فَيَلْزَمُك فِيهِ مِثْلُ مَا رُمْت إلْزَامَنَا إيَّاهُ فِي خَبَرِ الطَّافِي. فَإِنْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَلَمْ يُخَصِّصْ الطَّافِيَ مِنْ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُهُمَا جَمِيعًا وَنَجْعَلُهُمَا كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا، نَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الطَّافِي فِي النَّهْيِ وَنَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا الطَّافِي. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ مَتَى اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرَ كَانَ مَا اُتُّفِقَ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَاضِيًا عَلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَ "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ" مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا وَخَبَرُ الطَّافِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْخَبَرَيْنِ الْآخَرَيْنِ قِيلَ لَهُ: إنما يعرف

ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ فِيمَا لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصُّ الْكِتَابِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عُمُومُ الْكِتَابِ مُعَاضِدًا لِلْخَبَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ قَوْلَهُ فِيهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ أَنْ يُعَضِّدَهُ عُمُومُ الْكِتَابِ، فَيُسْتَعْمَلَ حِينَئِذٍ مَعَ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِنْهُ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْلَ الْحُوتِ الَّذِي أَلْقَاهُ الْبَحْرُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِطَافٍ وَإِنَّمَا الطَّافِي مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّافِي مِنْ أَجْلِ بَقَائِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى طَفَا عَلَيْهِ فَيُلْزِمُونَنَا عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ الْمُذَكَّى إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ حَتَّى طَفَا عَلَيْهِ. وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْمَقَالَةِ وَمَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ السَّمَكَ لَوْ مَاتَ ثُمَّ طَفَا عَلَى الْمَاءِ لَأُكِلَ، وَلَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَمْ يَطْفُ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدَنَا هُوَ مَوْتُهُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا غَيْرُ. وَقَدْ رَوَى لَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حَدِيثًا وَقَالَ لَنَا إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلْ مَا طَفَا عَلَى الْبَحْرِ" وَأَبَانَ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِرِوَايَتِهِ، قَالَ شُعْبَةُ: لَأَنْ أَزْنِيَ سَبْعِينَ زَنْيَةً أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرْوِيَ عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وَأَنَّهُ عُمُومٌ فِي الطَّافِي وَغَيْرِهِ، قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الطَّافِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] أَنَّهُ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ، وصيده مَا اصْطَادُوا وَهُوَ حَيٌّ، وَالطَّافِي خَارِجٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ وَلَا مِمَّا صِيدَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: اصْطَادَ سَمَكًا مَيِّتًا، كَمَا لَا يُقَالَ: اصْطَادَ مَيِّتًا. فَالْآيَةُ لَمْ تَنْتَظِمْ الطَّافِيَ وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ، وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ أَكْلِ الْجَرَادِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجَرَادِ كُلِّهِ مَا أَخَذْته وَمَا وَجَدْته مَيِّتًا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ حَيًّا ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ وَشَوَاهُ أُكِلَ، وَمَا أُخِذَ حَيًّا فَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ فَلَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: "وَمَا قَتَلَهُ مَجُوسِيٌّ لَمْ يُؤْكَلْ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "أَكْرَهُ أَكْلَ الْجَرَادِ مَيِّتًا، فَأَمَّا الَّذِي أَخَذْته حَيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ" يُوجِبُ إبَاحَتَهُ جَمِيعَهُ، مِمَّا وُجِدَ مَيِّتًا وَمِمَّا قَتَلَهُ آخِذُهُ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ هَذَا الْخَبَرَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِقَتْلِ آخِذِهِ; إذْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا فَائِدُ أَبُو الْعَوَّامِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْجَرَادِ قَالَ: "أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ". وَمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُبَاحٌ وَتَرْكُ أَكْلِهِ لَا يُوجِبُ حَظْرَهُ; إذْ جَائِزٌ تَرْكُ أَكْلِ الْمُبَاحِ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَفْيُ التَّحْرِيمِ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا مَاتَ وَبَيْنَ مَا قَتَلَهُ آخِذُهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَبْنَا جَرَادًا فَأَكَلْنَاهُ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: "غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ وَلَا نَأْكُلُ غَيْرَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَيِّتِهِ وَبَيْنَ مَقْتُولِهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ: حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْجَرَادَ وَتَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذِهِ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْجَرَادِ لَمْ يُفَرَّقْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ مَيِّتِهِ وَبَيْنَ مَقْتُولِهِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] يَقْتَضِي حَظْرَ جَمِيعِهَا فَلَا يُخَصُّ مِنْهَا إلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يَقْتُلُهُ آخِذُهُ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ تَحْرِيمِهِ قِيلَ لَهُ: تَخُصُّهُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي إبَاحَتِهِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ. وَلَمْ تُفَرِّقْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِالْآيَةِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَى الْآيَةِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا. وَلَيْسَ الْجَرَادُ عِنْدَنَا مِثْلَ السَّمَكِ فِي حَظْرِنَا لِلطَّافِي مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ; لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي تَخْصِيصِ السَّمَكِ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ بِإِزَائِهَا أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي حَظْرِ الطَّافِي مِنْهُ، فَاسْتَعْمَلْنَاهَا جَمِيعًا وَقَضَيْنَا بِالْخَاصِّ مِنْهَا عَلَى الْعَامِّ مَعَ مُعَاضَدَةِ الْآيَةِ لِأَخْبَارِ الْحَظْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا وَافَقَنَا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَقْتُولِ مِنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَهِيَ فِيمَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ: أَحَدِهِمَا قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ فِي حَالِ إمْكَانِهِ، وَالْآخَرِ: إسَالَةِ دَمِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَكُونُ مُذَكًّى بِإِصَابَتِهِ إلَّا أَنْ يَجْرَحَهُ وَيَسْفَحَ دَمَهُ؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْجَرَادِ دَمٌ سَائِلٌ كَانَ قَتْلُهُ وَمَوْتُهُ حَتْفَ أَنْفِهِ

سَوَاءً، كَمَا كَانَ قَتْلُ مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ مِنْ غَيْرِ سَفْحِ دَمِهِ وَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً فِي كَوْنِهِ غَيْرِ مُذَكًّى. فَكَذَلِكَ وَاجِبٌ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَتْلِ الْجَرَادِ وَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ; إذْ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُسْفَحُ دَمُهُ. فَإِنْ قِيلِ: قَدْ فَرَّقْت بَيْنَ السَّمَكِ الطَّافِي وَمَا قَتَلَهُ آخِذُهُ أَوْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ، فَمَا أَنْكَرْت مِنْ فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا مَاتَ مِنْ الْجَرَادِ وَمَا قُتِلَ مِنْهُ؟ قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي السَّمَكِ لِمَا لَمْ يَحْتَجْ فِي صِحَّةِ ذَكَاتِهِ إلَى سَفْحِ الدَّمِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلْآثَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَمِنْ أَصْلِنَا تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالْآثَارِ. وَلَيْسَ مَعَك الْأَثَرُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْجَرَادِ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ أَخْبَارِ الْإِبَاحَةِ فِي الْكُلِّ وَالْوَجْهِ الْآخَرِ: أَنَّ السَّمَكَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَكَانَ لَهُ ذَكَاةٌ مِنْ جِهَةِ الْقَتْلِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى سَفْحِ دَمِهِ فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ، لِأَنَّ دَمَهُ طَاهِرٌ وَهُوَ يُؤْكَلُ بِدَمِهِ، فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِيهِ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ يَقُومُ لَهُ مَقَامَ الذَّكَاةِ فِي سَائِرِ مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْجَرَادِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْجَرَادُ كُلُّهُ ذَكِيٌّ وَعَنْ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ وَالْمِقْدَادِ إبَاحَةُ أَكْلِ الْجَرَادِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ ذَكَاةِ الْجَنِينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِمَا إذَا خَرَجَ مَيِّتًا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُؤْكَلُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذْبَحُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: يُؤْكَلُ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ أُكِلَ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا تَمَّ خَلْقُهُ فَذَكَاةُ أُمِّهِ ذَكَاتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} وَقَالَ فِي آخِرِهَا {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقال: إنما {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فَحَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّكَاةَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ فِي النَّحْرِ وَاللَّبَّةِ وَفِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ بِسَفْحِ دَمِهِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت". وَقَوْلُهُ فِي الْمِعْرَاضِ: "إذَا خَزَقَ فَكُلْ وَإِذَا لَمْ يَخْزِقْ فَلَا تَأْكُلْ" فَلَمَّا كَانَتْ الذَّكَاةُ مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حُكْمًا عَامًّا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمُذَكَّى بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَنِينِ، كَانَ مُحَرَّمًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ، مِنْهَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري وأبي

الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ذَكَاةُ الْجَنِينَ ذَكَاةُ أُمِّهِ". وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا وَاهِيَةُ السَّنَدِ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ أَسَانِيدِهَا وَبَيَانِ ضَعْفِهَا وَاضْطِرَابِهَا; إذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إيجَابَ تَذْكِيَتِهِ كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] مَعْنَاهُ كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: "قَوْلِي قَوْلُك وَمَذْهَبِي مَذْهَبُك" وَالْمَعْنَى قَوْلِي كَقَوْلِك وَمَذْهَبِي كَمَذْهَبِك، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكِ جِيدُهَا ... سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ وَمَعْنَاهُ: فَعَيْنَاك كَعَيْنَيْهَا وَجِيدُك كَجِيدِهَا. وَإِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ لِمَا وَصَفْنَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِالْخَبَرِ لِتَنَافِيهِمَا; إذْ كَانَ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إيجَابُ تَذْكِيَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ غَيْرَ مُذَكًّى فِي نَفْسِهِ وَالْآخَرُ يُبِيحُ أَكْلَهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ; إذْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ذَكَاتُهُ فِي نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُخَصِّصَ الْآيَةَ بِهِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاهِيَ السَّنَدِ مُحْتَمِلٌ لِمُوَافَقَتِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ إيجَابُ تَذْكِيَتِهِ كَمَا تُذَكَّى الْأُمُّ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا وَجَبَ تَذْكِيَتُهُ وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَذْكِيَةِ الْأُمِّ، فَكَانَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعَ ذَلِكَ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةً لَهُ لِتَنَافِيهِمَا وَتَضَادِّهِمَا; إذْ كَانَ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إيجَابُ تَذْكِيَتِهِ وَفِي الْآخَرِ نَفْيُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ نُرِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَالَيْنِ بِأَنْ يَجِبَ ذَكَاتُهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا وَيُقْتَصَرُ عَلَى ذَكَاةِ أُمِّهِ إذَا خَرَجَ مَيِّتًا؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذِكْرُ الْحَالَيْنِ مَوْجُودًا فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ لَفْظٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ فِي إرَادَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إثْبَاتَ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ إثْبَاتُ زِيَادَةِ حَرْفٍ، وَلَيْسَ فِي الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ فِيهِ حَرْفٌ وَغَيْرُ حَرْفٍ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِإِرَادَتِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ إرَادَةُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ تُوجِبُ زِيَادَةَ حَرْفٍ وَهُوَ الْكَافُ وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ زِيَادَةٌ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةٍ أَوْلَى; لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَجَازًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَذْفُ شَيْءٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ قِيلَ لَهُ: كَوْنُ الْحَرْفِ مَحْذُوفًا أَوْ غَيْرَ مَحْذُوفٍ لَا يُزِيلُ عَنْهُ الِاحْتِمَالَ; لِأَنَّهُ. وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ غَيْرَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَا يسمى

جَنِينًا إلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَتَى بَايَنَهَا لَا يُسَمَّى جَنِينًا، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الذَّكَاةَ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُذَكًّى بِتِلْكَ الْحَالِ فِي ذَكَاتِهَا قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بَعْدَ الِانْفِصَالِ جَنِينًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ مِنْ الِاجْتِنَانِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْجَنِينَ لَوْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ كَمَا تُذَكَّى الْأُمُّ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَنِينِ بَعْدَ الذَّكَاةِ وَالِانْفِصَالِ. وَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَسَمَّاهُ جَنِينًا بَعْدَ الْإِلْقَاءِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" أَنَّهُ يُذَكَّى كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ إذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ كَوْنَهُ مُذَكًّى وَهُوَ جَنِينٌ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا، وَأَنَّ مَوْتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ لَا يُكْسِبُهُ حُكْمَ الْمَيْتَاتِ كَمَوْتِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ حَيًّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاتَهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ ذَكَاةِ الْأُمِّ لَهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَرَادَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِحَالِ خُرُوجِهِ مَيِّتًا قِيلَ لَهُ: هَذِهِ دَعْوَاك لَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ جَازَ أَنْ تَشْتَرِطَ فِيهِ مَوْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِطَ إيجَابَ ذَكَاتِهِ خَرَجَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ لَهُ ذَكَاةٌ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ. وَعَلَى أَنَّا مَتَى شَرَطْنَا إيجَابَ ذَكَاتِهِ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِأُمِّهِ اسْتَعْمَلْنَا الْخَبَرَ عَلَى عُمُومِهِ فَجَعَلْنَا إبَاحَةَ الْأَكْلِ مُعَلَّقَةً بِوُجُودِ الذَّكَاةِ فِيهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وَبَعْدَ خُرُوجِهِ، وَحَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْت وَإِثْبَاتِ ضَمِيرٍ فِيهِ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْخَبَرِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْت فِي إيجَابِ ذَكَاتِهِ إذَا خَرَجَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَبْلَ وُرُودِهِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ إنْ خَرَجَ حَيًّا فَقَدْ وَجَبَتْ ذَكَاتُهُ سَوَاءٌ مَاتَ فِي حَالٍ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَكَاتِهِ أَوْ بَقِيَ، وَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إنْ مَاتَ فِي وَقْتٍ لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ كَانَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِإِيجَابِ ذَكَاتِهِ وَأَنَّهُ إنْ خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ; إذْ هُوَ غَيْرُ مُذَكًّى، فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ، فَأَفَادَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ إذَا خَرَجَ مَيِّتًا. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا ذَكَرَهُ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْجَنِينِ يَخْرُجُ مَيِّتًا فَقَالَ: "إنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ ". قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أَنَّهُ

خَرَجَ مَيِّتًا، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مُجَالِدٍ مِنْهُمْ هُشَيْمٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا، وَإِنَّمَا قَالُوا: سُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْجَنِينِ يَكُونُ فِي بَطْنِ الْجَزُورِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ، فَقَالَ: "كُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ" وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ قَالَ كُلُّ مَنْ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا، وَلَمْ تَجِئْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إلَّا فِي رِوَايَةِ السَّاجِيِّ. وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ. فَإِنْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] أَنَّهَا الْأَجِنَّةُ، قِيلَ لَهُ: إنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا جَمِيعُ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] الْخِنْزِيرُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ وَالْبَقَرَةُ. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْعَامِ وَلَا تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى الْجَنِينِ دُونَ غَيْرِهِ; لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَجِنَّةَ فَهِيَ عَلَى إبَاحَتِهَا بِالذَّكَاةِ كَسَائِرِ الْأَنْعَامِ هِيَ مُبَاحَةٌ بِشَرْطِ ذَكَاتِهَا، وَكَالْجَنِينِ إذَا خَرَجَ حَيًّا هُوَ مُبَاحٌ بِشَرْطِ الذَّكَاةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] إذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الْحَالِ، فَهُوَ مُجْمَلٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: بَعْضُ الْأَنْعَامِ مُبَاحٌ وَبَعْضُهُ مَحْظُورٌ. وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ عُمُومِ شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَ حُكْمُ الْجَنِينِ حُكْمَ أُمِّهِ فِيمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ وَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الذَّكَاةِ إذَا مَاتَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِمَوْتِهَا، وَلَوْ خَرَجَ الْوَلَدُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ دُونَ أُمِّهِ فِي إيجَابِ الْغُرَّةِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْحَيَوَانِ إذَا مَاتَ بِمَوْتِ أُمِّهِ وَخَرَجَ مَيِّتًا أُكِلَ، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ حَتَّى يُذَكَّى قِيلَ لَهُ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قِيَاسُ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ بِعِلَّةٍ تُوجِبُ رَدَّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى. فَأَمَّا فِي قِيَاسِ مَسْأَلَةٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ فِي حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي اسْتَشْهَدْت بِهَا إنَّمَا حُكْمُهَا ضَمَانُ الْجَنِينِ فِي حَالِ انْفِصَالِهِ مِنْهَا حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَمَسْأَلَتُنَا إنَّمَا هِيَ فِي إثْبَاتِ ذَكَاةِ الْأُمِّ لَهُ فِي حَالِ مَنْعِهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَكَيْفَ يَصِحُّ رَدُّ هَذِهِ إلَى تِلْكَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ شَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يَجِبْ لِلْجَنِينِ أَرْشٌ وَلَا قِيمَةٌ عَلَى الضَّارِبِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ حَدَثَ بِهَا نُقْصَانٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِجَنِينِ الْبَهَائِمِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ حُكْمٌ فِي حَيَاةِ الْأُمِّ وَثَبَتَ ذَلِكَ لِجَنِينِ الْمَرْأَةِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ قِيَاسُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقَدْ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فِي نَفْسِ ما ذكرت؟

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْجَنِينُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ فِي حُكْمِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ مِنْهَا إذَا ذُكِّيَتْ الْأُمُّ فَيَحِلُّ بِذَكَاتِهَا قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ مِنْهَا لِجَوَازِ خُرُوجِهِ حَيًّا تَارَةً فِي حَيَاةِ الْأُمِّ وَتَارَةً بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالْعُضْوُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ تَابِعٍ لَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا وَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْوَاجِبُ أَنْ يَتْبَعَ الْجَنِينُ الْأُمَّ فِي الذَّكَاةِ كَمَا يَتْبَعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي امْتِنَاعِ قِيَاسِ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إذَا أَعْتَقَتْ الْأَمَةُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْوَلَدُ مِنْهَا غَيْرَ حُرٍّ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْت، وَجَائِزٌ أَنْ تُذَكَّى الْأُمُّ وَيَخْرُجَ الْوَلَدُ حَيًّا فَلَا يَكُونُ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةً لَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الذَّكَاةِ; إذْ لَوْ تَبِعَهَا فِي ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْدَ ذَكَاةِ الْأُمِّ بِذَكَاةِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ ابْنِ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي أَجِنَّةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ ذَكَاتَهَا ذَكَاةُ أُمِّهَا إذَا أُشْعِرَتْ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إذَا أُشْعِرَ الْجَنِينُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُ: إذَا ذُكِرَ الْإِشْعَارُ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَأُبْهِمَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَهُوَ خَبَرُ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْإِشْعَارُ، فَهَلَّا سَوَّيْت بَيْنَهُمَا; إذْ لَمْ تَنْفِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مَا أَوْجَبَهُ خَبَرُ الْإِشْعَارِ; إذْ هُمَا جَمِيعًا يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا فِي أَحَدِهِمَا تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَفْيٍ لِغَيْرِهِ وَفِي الْآخَرِ إبْهَامُهُ وَعُمُومُهُ. وَلَمَّا اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْعِرْ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ ذَكَاةُ الْأُمِّ وَاعْتُبِرَتْ ذَكَاةُ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَائِهَا مِنْهُ بَعْدَ مُبَايَنَتِهِ لَهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا أُشْعِرَ وَيَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ" عَلَى أَنَّهُ يُذَكَّى كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ. وَيُقَالُ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إذَا كَانَ قَوْلُهُ: "ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ" إذَا أُشْعِرَ، يَنْفِي ذَكَاتَهُ بِأُمِّهِ إذَا لَمْ يُشْعِرْ، فَهَلَّا خَصَّصْت بِهِ الْأَخْبَارَ الْمُبْهَمَةَ; إذْ كَانَ عِنْدَكُمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ" وَدَلَالَةُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي عِنْدَهُ تَحْرِيمَ سَائِرِ الْمَيْتَاتِ سِوَاهُمَا، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعْنَى. قَوْلِهِ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" عَلَى مُوَافَقَةِ دَلَالَةِ هَذَا الْخَبَرِ.

بَابُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً} [الأنعام: 145] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَجِلْدُهَا مِنْ أَجْزَائِهَا; لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّهُ الْمَوْتُ بَدَلًا مِنْ الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ. إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] قَدْ دَلَّ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْمَعْنَى فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا وَإِنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهَا". وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إلَّا جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. وَأَصْحَابُنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ جِلْدِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلُوهُ طَاهِرًا بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً. وَقَالَ مَالِكٌ: يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَيُغَرْبَلُ عَلَيْهَا وَلَا تُبَاعُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ إذَا بَيَّنْت أَنَّهَا مَيِّتَةٌ. وَالْحُجَّةُ لِمَنْ طَهَّرَهَا وَجَعْلَهَا مُذَكَّاةً مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا يُوجِبُ طَهَارَتَهَا وَالْحُكْمَ بِذَكَاتِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ الْجَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى بَيْتٍ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَسْقَى فَقِيلَ: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغَتُهُ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا" وَسِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ قَالَتْ: كَانَتْ لَنَا شَاةٌ فَمَاتَتْ فَطَرَحْنَاهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا فَعَلَتْ شَاتُكُمْ؟ " فَقُلْنَا: رَمَيْنَاهَا، فَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، "أَفَلَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا" فَبَعَثْنَا إلَيْهَا فَسَلَخْنَاهَا وَدَبَغْنَا جِلْدَهَا وَجَعَلْنَاهُ سِقَاءً وَشَرِبْنَا فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةِ مَيْمُونَةَ فَقَالَ: "مَا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا" وَالزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ لَهُمْ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: "أَلَا دَبَغُوا إهَابَهَا فَانْتَفَعُوا بِهِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا" فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ، كُلُّهَا يُوجِبُ طَهَارَةَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَاضِيَةٌ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وُرُودِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يمنع مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم

والْغَلَطِ. وَالثَّانِي: جِهَةِ تَلَقِّي الْفُقَهَاءِ إيَّاهَا بِالْقَبُولِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ مَعَ آيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحْرِيمُهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ، وَالْجِلْدُ بَعْدَ الدِّبَاغِ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ التَّحْرِيمُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا رَمَوْا بِالشَّاةِ الْمَيْتَةِ وَلَمَا قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَقُولَ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْجِلْدَ بَعْدَ الدِّبَاغِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ. وَلَمَّا وَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي طَهَارَتِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ افْتِرَاشِهَا وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ تُبَاعَ أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهَا، بَلْ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ أَنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا، وَدِبَاغَهَا طَهُورُهَا. وَإِذَا كَانَتْ مُذَكَّاةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَبَيْعُهَا وَحُكْمُ افْتِرَاشِهَا وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ جُلُودِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ كَالِانْتِفَاعِ بِلُحُومِهَا؟ فَلَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فِيمَا وَصَفْنَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُذَكَّاةٌ طَاهِرَةٌ بِمَنْزِلَةِ ذَكَاةِ الْأَصْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهَا مَأْكُولَةً، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مُوَافَقَةُ مَالِكٍ إيَّانَا عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا لِامْتِنَاعِ أَكْلِهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجِلْدِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي الشَّعْرِ وَالصُّوفِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْنَا عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْت، فَيَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ عِلَّتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ، وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّ مُوجَبَهُمَا حُكْمٌ وَاحِدٌ. وَمَتَى عَلَّلْنَاهُ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَجَبَ قِيَاسُ الْجِلْدِ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَلَّلْته بِمَا وَصَفْت كَانَ مَقْصُورَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَعْلُولِ. وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ" فَاحْتَجَّ بِذَلِكَ مَنْ حَظَرَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَغَيْرُ جَائِزٍ مُعَارَضَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِبَاحَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ

حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا بِمِثْلِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ لَكَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَهُ وَتَلَقِّيهمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْجِلْدِ بَعْدَ الدِّبَاغِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ" وَهُوَ إنَّمَا يُسَمَّى إهَابًا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَالْمَدْبُوغُ لَا يُسَمَّى إهَابًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أَدِيمًا فَلَيْسَ إذًا فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي إبَاحَةِ بَيْعِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَقَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ" لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ يُسَمَّى إهَابًا. وَالْبَيْعُ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا بِقَوْلِهِ: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَكْلِ دُونَ الْبَيْعِ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُجِيزَ بَيْعَ لَحْمِهَا بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" فَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ اللَّحْمِ مَعَ قَوْلِهِ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" كَذَلِكَ حُكْمُ الْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَنَعْت بَيْعَ اللَّحْمِ بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" قِيلَ لَهُ: وَامْنَعْ بَيْعَ الْجِلْدِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَإِنَّمَا خَصَّ مِنْ جُمْلَتِهِ الْمَدْبُوغَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" وَإِذَا كَانَ الْجِلْدُ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ قَبْلَ الدِّبَاغِ كَتَحْرِيمِ اللَّحْمِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَبَيْعِ اللَّحْمِ نَفْسِهِ وَكَبَيْعِ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ لِأَعْيَانِهَا كَالْخَمْرِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا جِلْدُ الْكَلْبِ فَيَلْحَقُهُ الدِّبَاغُ وَيَطْهُرُ إذَا كَانَ مَيْتَةً، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" وَقَالَ: "دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ عِنْدَنَا لَوْ ذُبِحَ لَكَانَ طَاهِرًا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ نَجِسًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَيْفَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؟ قِيلَ لَهُ: كَمَا يَكُونُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ نَجِسًا وَيُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ ذَكَاتُهُ كَالذَّبْحِ. وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَا تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ

الذَّكَاةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْكَلْبُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؟ فَلَيْسَ هُوَ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وَقَالَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] وَهَذَانِ الظَّاهِرَانِ يَحْظُرَانِ دُهْنَ الْمَيْتَةِ كَمَا أَوْجَبَا حَظْرَ لَحْمِهَا وَسَائِرِ أَجْزَائِهَا. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ 1 الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الْأَوْدَاكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْدَاكَ وَهِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَعَكْرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِلْأُدُمِ وَالسُّفُنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا كَمَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ أَكْلِهَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يَدْهُنُ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ ظُهُورَ السُّفُنِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِتَحْرِيمِهِ وَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ حَظْرَهُ.

_ 1 المراد بالصليب هناك الودك الذي يستخرج من العظم "لمصححه".

بَابُ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لَمْ يَقْتَضِ تَحْرِيمَ مَا مَاتَتْ فِيهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَى تَحْرِيمَ عَيْنِ الْمَيْتَةِ، وَمَا جَاوَرَ الْمَيْتَةَ فَلَا يُسَمَّى مَيْتَةً، فَلَمْ يَنْتَظِمْهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ. وَلَكِنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ" وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلْقُوهَا وما حولها ثم كلوه".

باب القول في أنها من القرآن

بَابُ الْقَوْل فِي أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] . وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ لَهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . وَرَوَى أَبُو قَطَنَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ، حَتَّى نَزَلَ {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فَكَتَبَ فَوْقَهُ: الرَّحْمَنَ، فَنَزَلَتْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ فَكَتَبَهَا حِينَئِذٍ. وَمِمَّا سَمِعْنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَقَتَادَةُ وَثَابِتٌ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو كِتَابَ الْهُدْنَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم" فَقَالَ لَهُ سُهَيْلٌ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ، فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلَى أَنْ سُمِحَ بِهَا بَعْدُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تعالى في سورة النمل.

القول في أنها من فاتحة الكتاب

الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَمْ لَا; فَعَدَّهَا قُرَّاءُ الْكُوفِيِّينَ آيَةً مِنْهَا وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ حَكَى مَذْهَبَهُمْ فِي تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا عِنْدَهُمْ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنْهَا عِنْدَهُمْ لَجُهِرَ بِهَا كَمَا جُهِرَ بِسَائِرِ آيِ السُّوَرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ مِنْهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَتَصْحِيحُ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شاء الله تعالى.

القول في هل هي من أوائل السور

الْقَوْلُ فِي هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ قال أبو بكر: ثم اختلف في أنها آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي غَيْرِهَا; إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَمَا سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ آيَةً مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سأل، فيقول عبدي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا، قَالَ: لِعَبْدِي مَا سَأَلَ" فَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَذَكَرهَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ آيِ السُّورَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهَا نِصْفَيْنِ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ أن تكون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةً مِنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْقِسْمَةِ; الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِي الْقِسْمَةِ لَمَا كَانَتْ نِصْفَيْنِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَا لِلَّهِ فِيهَا أَكْثَرِ مِمَّا لِلْعَبْدِ لأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ فِي أَضْعَافِ السورة، قيل

باب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة

بَابٌ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ غَيْرَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَيُجْزِيهِ صَلَاتُهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إذَا لَمْ يَقْرَأْ أُمَّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَعَادَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَعَادَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا. وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، قَالَ: اقْرَأْ مِنْهُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَلِيلٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ نَسِيَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ يضر، وتجزيه. وروى

ومن سورة البقرة

ومن سورة البقرة مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ صِفَات الْمُتَّقِينَ وَمِنْ شَرَائِط التَّقْوَى; كَمَا جَعَلَ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَسَائِرِ مَا لَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ وُجُوهٌ: مِنْهَا إتْمَامُهَا مِنْ تَقْوِيمِ الشَّيْءِ وَتَحْقِيقِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] . وَقِيلَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَغَيْرِهِ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ; لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ فُرُوضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوضٍ غيره، كقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الَّتِي فِيهَا الْقِرَاءَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] الْمُرَادُ الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] وَقَوْلُهُ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَقَوْلُهُ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] فَذَكَرَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِهَا، وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فِيهَا وَعَلَى إيجَابِ مَا هُوَ من فروضها، فصار قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} مُوجِبًا لِلْقِيَامِ فِيهَا وَمُخْبَرًا بِهِ عَنْ فَرْضِ الصلاة ويحتمل {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} يُدِيمُونَ فُرُوضَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] يَعْنِي يُقِيمُ الْقِسْطَ وَلَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الرَّاتِبِ الدَّائِمِ: قَائِمٌ، وَفِي فَاعِلِهِ: مُقِيمٌ يُقَالُ: فُلَان يُقِيمُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَتْ السُّوقُ، إذَا حَضَرَ أَهْلُهَا; فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الِاشْتِغَالَ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَمِنْهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بِالْآيَةِ وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فِي فَحْوَى الْخِطَابِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ النَّفَقَةِ، وَهِيَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] وَقَوْلُهُ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ

مطلب في أن عقوبة الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام، وإنما هي على ما يعلمه الله تعالى من المصالح فيها

مطلب في أن عقوبة الدنيا غير مَوْضُوعَةً عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى ما يعلمه الله تعالى من المصالح فيها وَلَمَّا كَانَتْ أَجْرَامُ الْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ مِنْ أَجْرَامِ سَائِرِ الْكُفَّارِ الْمُبَادِينَ بِالْكُفْرِ; لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الِاسْتِهْزَاءَ والمخادعة بقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} وقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وَمَعَ مَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِنْ عِقَابِهِمْ وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي الْآخِرَةِ، خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامِ سَائِرِ الْمُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ فِي رَفْعِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَجْرَاهُمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ. ثَبَتَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ فَأَوْجَبَ رَجْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَلَمْ يُزِلْ عَنْهُ الرَّجْمَ بِالتَّوْبَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَاعِزٍ بَعْد رَجْمِهِ وَفِي الْغَامِدِيَّةِ بَعْد رَجْمِهَا: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ". وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا، وَلَوْ كَفَرَ رَجُلٌ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَحَكَمَ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّنَا بِجَلْدِ ثَمَانِينَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْقَاذِفِ بِالْكُفْرِ الْحَدَّ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا، وَأَوْجَبَ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ الْحَدَّ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى شَارِبِ الدَّمِ وَآكِلِ الْمَيْتَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يُوجِبَ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ حَدًّا رَأْسًا وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إلَى عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ، جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا فَيُوجِبَ فِي بَعْضِهَا أَغْلَظَ مِمَّا يُوجِبُ فِي بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ قال أصحابنا: لا

مطلب في أمر اله تعالى باستعمال الحجج العقلية والاستدلال بها

مطلب في أمر اله تعالى باستعمال الحجج العقلية والاستدلال بها قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ الْأَمْرَ بِاسْتِعْمَالِ حُجَجِ الْعُقُولِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهَا، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِمَذْهَبِ مَنْ نَفَى الِاسْتِدْلَالَ بِدَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتَصَرَ على الخبر بزعمه في معرفة الله

باب السجود لغير الله تعالى

بَابِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} ، رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الطَّاعَةَ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي السُّجُودِ لِآدَمَ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: 100] قَالَ: "كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ السُّجُودَ". وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السُّجُودُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَتَكْرِمَةً وَتَحِيَّةً لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ سُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجُوزُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّحِيَّةُ وَالتَّكْرِمَةِ جَائِزَانِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ضَرْبًا مِنْ التَّعْظِيمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ، وَآدَمَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقِبْلَةِ لَهُمْ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِآدَمَ فِي ذَلِكَ حظ من التفضيل والتكرمة. وظاهر ذلك

مطلب يحتج بقوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا} الآية على أن الأذكار توقيفية لا يجوز تغييرها

مطلب يحتج بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية على أن الأذكار توقيفية لا يجوز تغييرها قَوْله تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} يُحْتَجُّ بِهَا فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْأَقْوَالِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تبديلها إلى غيرها. وربما احتج به

مطلب دل قوله تعالى: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} على جواز الاجتهاد

مطلب دل قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} على جواز الاجتهاد وَالسَّادِسُ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنّ فِي الْأَحْكَامِ; إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْفَارِضِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَالسَّابِعُ: اسْتِعْمَالُ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ خلافه بقوله: {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسَلَّمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ بَرِيئَةٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُون بِهَا عَيْبٌ بَاطِنٌ. وَالثَّامِنُ: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُرَاجَعَةِ الْأَخِيرَةِ: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لما

باب السحر وحكم الساحر

بَابُ السِّحْرِ وَحُكْمُ السَّاحِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} إلَى آخَرِ الْقِصَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْوَاجِبُ أَنْ نُقَدِّمَ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ لِخَفَائِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنْ الْعَامَّةِ، ثُمَّ نُعَقِّبُهُ بِالْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ فِي اللُّغَةِ لِمَا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَالسَّحَرُ عِنْدَهُمْ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْغِذَاءِ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيدٌ: أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحِرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ قِيلِ: فِيهِ وَجْهَانِ: نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كَالْمَسْحُورِ وَالْمَخْدُوعِ، وَالْآخَرُ: نُغَذَّى، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ وَقَالَ آخَرُ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ من هذا الأنام المسحر

باب اختلاف الفقهاء في حكم الساحر وقول السلف فيه

بَابُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ وَقَوْلِ السَّلَف فِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَجَاءَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قال: "من أتى كاهنا أو عرافا

مطلب في أن ثبوت السحر يكون إما باقتصاص الأثر وتتبعه وإما بالإخبار

مطلب في أن ثبوت السحر يكون إما باقتصاص الأثر وتتبعه وإما بالإخبار قَالَ: فَقُلْت لِأَبِي يُوسُفَ: مَا السَّاحِرُ؟ قَالَ: الَّذِي يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلُ مَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ إذَا أَصَابَ بِهِ قَتْلًا، فَإِذَا لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْ; لِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ; إذْ كَانَ لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ بَيَانُ مَعْنَى السِّحْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْقَتْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِي السِّحْرِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَشْوُ مِنْ إيصَالِهِمْ الضَّرَرَ إلَى الْمَسْحُورِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا سَقْيِ دَوَاءٍ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سِحْرُ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِهَةِ إرَادَتِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَى قَتْلِهِ بِإِطْعَامِهِ، وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَرَادُوا، كَمَا سَمَّتْهُ زَيْنَبُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَأَخْبَرَتْهُ الشَّاةُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ". قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسْلِمِ إذَا تَوَلَّى عَمَلَ السِّحْرِ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ بَاطِنًا لَمْ تُعْرَفْ تَوْبَتُهُ بِإِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ، إلَّا أَنْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ السَّاحِرُ: أَنَا أَعْمَلُ عَمَلًا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي; فَفِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ: عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ وَقَدْ تَعَمَّدْت قَتْلَهُ; قُتِلَ بِهِ قَوَدًا، وَإِنْ قَالَ: مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أولياؤه لمات منه ثم تكون الدية.

باب في نسخ القرآن بالسنة وذكر وجوه النسخ

بَابُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} قَالَ قَائِلُونَ: "النَّسْخُ هُوَ الْإِزَالَةُ" وَقَالَ آخَرُونَ: "هُوَ الْإِبْدَالُ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] أَيْ يُزِيلُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيُبَدِّلُ مَكَانَهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ. وَقِيلَ: هُوَ النَّقْلُ، مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي مَوْضُوعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ فِي إطْلَاقِ الشَّرْعِ إنما هو

مطلب في الحث على نظافة البدن والثياب

مطلب في الحث على نظافة البدن والثياب وَهَذِهِ الْخِصَالُ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ سُنَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّنْظِيفُ وَنَفْيُ الْأَقْذَارِ وَالْأَوْسَاخِ عَنْ الْأَبَدَانِ وَالثِّيَابِ مَأْمُورًا بِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَظَرَ إزَالَةَ التَّفَثِ وَالشَّعْرِ فِي الْإِحْرَامِ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ "أَنْ يَسْتَاكَ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ" فَهَذِهِ كُلُّهَا خِصَالٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ مَحْمُودَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَقَدْ أَكَّدَهَا التَّوْقِيفُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَيَّانِ التَّمَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَا: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ حَيَّانِ الْعِجْلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ فَرُّوخَ أَبُو وَاصِلٍ قَالَ: أَتَيْت أَبَا أَيُّوبَ فَصَافَحَتْهُ فَرَأَى فِي أَظْفَارِي طُولًا فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَقَالَ: "يَجِيءُ أَحَدُكُمْ يَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأَظْفَارُهُ كَأَنَّهَا أَظْفَارُ الطَّيْرِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْخَبَاثَةُ وَالتَّفَثُ؟ " وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سهل بن أيوب قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَذَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ زَيْدٍ الْأَهْوَازِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَهِمُ 1 قَالَ: "وَمَا لِي لَا أَهِمُ وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ أَظْفَارِهِ وَأَنَامِلِهِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه كَانَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى الْجُمُعَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن

_ 1 قوله "إنك تهم" مضارع "وهم" بمعنى غلط، وفي رواية أخرى "أنك لتوهم" بمعنى تغلط. وقوله "رفغ أحدكم" الرفغ بالضم والفتح واحد الأفراغ وهي أصول المغابن كالآبط وغيرها من مطاوي الأعضاء وما يجتمع فيها من الوسخ والعرق وأراد بالرفغ هنا وسخ الظفر كما في النهاية. "لمصححه".

باب ذكر صفة الطواف

بَابُ ذِكْرِ صِفَةِ الطَّوَافِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَفِيهِ رَمَلٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَلَا رَمَلَ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ طَوَافِ الْقُدُومِ إذَا أَرَادَ السَّعْيَ بَعْدَهُ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حِينَ قَدِمَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى حِينَ قَدِمَ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَلَا رَمَلَ فِيهِ وَطَوَافُ الْعُمْرَةِ فِيهِ رَمَلٌ; لِأَنَّ بَعْدَهُ سَعْيًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ رَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّة حَاجًّا. رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ". وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ رَمَلَ مِنْ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ مَشَى إلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ قِبَلِ اتِّفَاقِ الْأَوَّلِينَ جَمِيعًا عَلَى تَسَاوِي الْأَرْبَعِ الْأَوَاخِرِ فِي الْمَشْيِ فِيهِنَّ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ في الرمل فيهن في جميع الجوانب;

باب ميراث الجد

بَابُ مِيرَاثِ الْجَدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ

باب القول في صحة الإجماع

بَابُ الْقَوْلِ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْوَسَطُ: الْعَدْلُ، وَهُوَ الَّذِي بَيْن الْمُقَصِّرِ وَالْغَالِي. وَقِيلَ: هُوَ الْخِيَارُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ; لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْخِيَارُ، قَالَ زُهَيْرٌ: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا طَرَقَتْ إحدى الليالي بمعظم

مطلب يستحيل وجود النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم

مطلب يستحيل وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُتْرَكُ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي أَيِّ حَالٍ حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ تَرْكُهُ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْهُ. وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ أَهْلُ عَصْرٍ دُونَ عَصْرٍ. وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِحُكْمِ الْآيَةِ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ أَهْلِ سَائِرِ الْإِعْصَارِ لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ دُونَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إلَى الْمَوْجُودِينَ فِي حَالِ نُزُولِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمَخْصُوصُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِهِمْ إلَّا بِدَلَالَةِ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ: أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 87] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِهَا: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي عَصْرِهِ وَمَنْ جاء بعده. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَمَا أَحْسِبُ مُسْلِمًا يَسْتَجِيزُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهَا وَشَاهِدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَحْمَةً لِكَافَّتِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وَاسْمُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّمَا حُكْمُ لِجَمَاعَتِهَا بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ لِأَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَمِنْ أَيْنَ حَكَمْتَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِالْعَدَالَةِ حَتَّى جَعَلْتهمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا جُعِلَ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَوْ يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهَا فِي كَوْنِهَا حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِمْ، لعلمنا أن المراد أهل

باب استقبال القبلة

بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قِيلَ: إنَّ التَّقَلُّبَ هُوَ التَّحَوُّلُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ; لِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ بِالتَّحْوِيلِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَكَانَ مُنْتَظِرًا لِنُزُولِ الْوَحْيِ بِهِ وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِيهِ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ; لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ صَلَاحٌ وَلَا يُجِيبُهُمْ اللَّهُ فَيَكُونَ فِتْنَةً عَلَى قَوْمِهِ. فَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَقَلُّبِ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُحَوِّلَهُ اللَّه تَعَالَى إلَى الْكَعْبَةِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَتَمَيُّزًا مِنْهُمْ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَحَبَّ ذَلِكَ; لِأَنَّهَا قِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَقِيلَ: إنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءً لِلْعَرَبِ إلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}

باب وجوب ذكر الله تعالى

بَابُ وُجُوب ذَكَرِ اللَّه تَعَالَى قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذِكْرُنَا إيَّاهُ عَلَى وُجُوهٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ عَنْ السَّلَفِ، قِيلَ فِيهِ: "اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي"، وَقِيلَ فِيهِ: "اُذْكُرُونِي بِالثَّنَاءِ بِالنِّعْمَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّنَاءِ بِالطَّاعَةِ"، وَقِيلَ: "اُذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ" وَقِيلَ فِيهِ: اُذْكُرُونِي بِالدُّعَاءِ أَذْكُرْكُمْ بِالْإِجَابَةِ. وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَجَمِيعُهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لِشُمُولِ اللَّفْظِ وَاحْتِمَالِهِ إيَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ وَاحِدٍ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الذِّكْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. فَهُوَ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى وَالذَّكَرَ، وَالْأُخُوَّةُ تَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَنَحْوُهَا، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْجَمِيعُ مَعْنًى وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ طَاعَتَهُ، وَالطَّاعَةُ تَارَةً بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، وَتَارَةً بِالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ، وَتَارَةً بِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَتَارَةً بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ، وَتَارَةً فِي عَظَمَتِهِ، وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، جَازَ إرَادَةُ الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، كَلَفْظِ الطَّاعَةِ نَفْسِهَا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا مُطْلَقًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَكَالْمَعْصِيَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَهَا لَفْظُ النهي. فقوله: {فَاذْكُرُونِي} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِسَائِرِ وُجُوهِ الذِّكْرِ، وَمِنْهَا سَائِرُ وُجُوهِ طَاعَتِهِ وَهُوَ أَعَمُّ الذِّكْرِ، وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه.

مطلب في أن ذكر الله تعالى بالتفكر في دلائله أفضل أنواع الذكر

مطلب في أن ذكر الله تعالى بالتفكر في دلائله أفضل أنواع الذكر وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَذِكْرُهُ بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الذِّكْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ وَتَابِعَةٌ لَهُ وَبِهِ يَصِحُّ مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْيَقِينَ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِهِ تَكُونُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرَ القلب الذي هو الفكر في دلائل

مطلب في أن الإنسان هو الروح

مطلب في أن الإنسان هو الروح فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً وَنَحْنُ نَرَاهُمْ رَمِيمًا فِي الْقُبُورِ بَعْدَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ عَلَيْهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: النَّاسُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَالنَّعِيمُ وَالْبُؤْسُ إنَّمَا هُمَا لَهُ دُونَ الْجُثَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إن الإنسان

باب السعي بين الصفا والمروة

بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: "قَرَأْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فَقُلْت: لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، قَالَتْ: بِئْسَمَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي قَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ فَكَانَتْ سُنَّةً إنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ لَا يَطَّوَّفُ بِهِمَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ سُنَّةً قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنَ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَعِلْمٌ، وَلَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّمَا سَأَلَ عَنْ هَذَا الرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَحْسَبُهَا نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ". وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالَ: كَانَ عَلَى الصَّفَا تَمَاثِيلُ وَأَصْنَامٌ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَطُوفُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عَائِشَةَ سُؤَالُ مَنْ كَانَ لَا يَطُوفُ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَجْلِ إهْلَالِهِ لِمَنَاةَ، وَعَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِسُؤَالِ مَنْ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمَا الْأَصْنَامُ، فَتَجَنَّبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، فَرَوَى هِشَام بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، جَمِيعًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا أَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرِئِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَذَكَرِ أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا سُنَّةٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ. وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نَكْرَهُ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا تَطَوُّعٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: إنَّ مَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ: إنَّهُ واجب

باب طواف الراكب

بَابُ طَوَافِ الرَّاكِبِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي طَوَافِ الرَّاكِبِ بَيْنَهُمَا، فَكَرِهَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الطُّفَيْلِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى الدَّابَّةِ سُنَّةٌ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُدْفَعُ عَنْهُ أَحَدٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ. وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة, أَنَّهَا شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" وَكَانَ عُرْوَةُ إذَا رَآهُمْ يَطُوفُونَ عَلَى الدَّوَابِّ نَهَاهُمْ فَيَتَعَلَّلُونَ بِالْمَرَضِ، فَيَقُولُ: "خَابَ هَؤُلَاءِ وَخَسِرُوا". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا مَنَعَنِي مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ الرُّكُوبَ وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَقَدْ اشْتَكَى فَطَافَ عَلَى بَعِيرٍ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ". وَلَمَّا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ بِهِمَا السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي عَلَى مَا وَصَفْنَا وَكَانَ الرَّاكِبُ تَارِكًا لِلسَّعْيِ كَانَ فِعْلُهُ خِلَافَ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ، فَيَجُوزُ.

باب في النهي عن كتمان العلم

بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] الْآيَةَ وَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] هَذِهِ الْآيُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ وَتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ زَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا، وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ بَيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِبَيَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِشُمُولِ اسْمِ الْهُدَى لِلْجَمِيعِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلِيلِ; لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ طرق

باب لعن الكفار

بَابُ لَعْنِ الْكُفَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا 1، وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ لأن قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قَدْ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ جُنَّ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْجُنُونِ مُسْقِطًا لِلَعْنِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالْمُوَالَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ أَنَّ مَوْتَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ جُنُونَهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ يَلْعَنُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] ! قِيلَ لَهُ هَذَا تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْآيَةِ فَكَذَلِكَ مِنْ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ من الله

_ 1 قوله "إن على المسلمين الخ" مراد المص أن تحقق موته كافرا يستحق اللعنة من المسلمين وليس مراده أنه يجب عليهم لعنه كما يوهمه كلامه هنا بدليل آخر كلامه "لمصححه".

باب إباحة ركوب البحر

بَابُ إبَاحَةِ رُكُوبِ الْبَحْرِ وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَةِ رُكُوبِ الْبَحْرِ غَازِيًا وَتَاجِرًا وَمُبْتَغِيًا لِسَائِرِ الْمَنَافِعِ; إذْ لَمْ يَخُصَّ ضَرْبًا من المنافع دون

باب تحريم الميتة

بَابُ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لِآدَمِيٍّ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً لِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ. وَسَنُبَيِّنُ شَرَائِطَ الذَّكَاةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَيْتَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِهَا مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ وَالْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ أَفْعَالَنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَا فِعْلَ غَيْرِنَا; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْهَى الْإِنْسَانُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ جَازَ إطْلَاقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا يُطْعِمُهَا الْكِلَابَ وَالْجَوَارِحَ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا مُؤَكِّدًا بِهِ حُكْمَ الْحَظْرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَخْصِيصُ مَيْتَةِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْإِبَاحَةِ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْجَرَادُ وَالسَّمَكُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إلَيْهِمْ حُوتًا فَأَكَلُوا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِي؟ ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ غَيْرِ الطَّافِي وَفِي الْجَرَادِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: 96] وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَّقِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". وَسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالثَّبْتِ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَرَوَاهُ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومثل هذا الاختلاف في السند يوجب

باب أكل الجراد

بَابُ أَكْلِ الْجَرَادِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجَرَادِ كُلِّهِ مَا أَخَذْته وَمَا وَجَدْته مَيِّتًا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ حَيًّا ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ وَشَوَاهُ أُكِلَ، وَمَا أُخِذَ حَيًّا فَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ فَلَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: "وَمَا قَتَلَهُ مَجُوسِيٌّ لَمْ يُؤْكَلْ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "أَكْرَهُ أَكْلَ الْجَرَادِ مَيِّتًا، فَأَمَّا الَّذِي أَخَذْته حَيًّا فلا بأس به".

باب ذكاة الجنين

بَابُ ذَكَاةِ الْجَنِينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِمَا إذَا خَرَجَ مَيِّتًا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُؤْكَلُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذْبَحُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: يُؤْكَلُ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ أُكِلَ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا تَمَّ خَلْقُهُ فَذَكَاةُ أُمِّهِ ذَكَاتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} وَقَالَ فِي آخِرِهَا {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقال: إنما {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فَحَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّكَاةَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ فِي النَّحْرِ وَاللَّبَّةِ وَفِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ بِسَفْحِ دَمِهِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت". وَقَوْلُهُ فِي الْمِعْرَاضِ: "إذَا خَزَقَ فَكُلْ وَإِذَا لَمْ يَخْزِقْ فَلَا تَأْكُلْ" فَلَمَّا كَانَتْ الذَّكَاةُ مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حُكْمًا عَامًّا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمُذَكَّى بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَنِينِ، كَانَ مُحَرَّمًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ، مِنْهَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري وأبي

باب جلود الميتة إذا دبغت

بَابُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً} [الأنعام: 145] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَجِلْدُهَا مِنْ أَجْزَائِهَا; لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّهُ الْمَوْتُ بَدَلًا مِنْ الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ. إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] قَدْ دَلَّ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْمَعْنَى فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا وَإِنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهَا". وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إلَّا جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. وَأَصْحَابُنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ جِلْدِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلُوهُ طَاهِرًا بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً. وَقَالَ مَالِكٌ: يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَيُغَرْبَلُ عَلَيْهَا وَلَا تُبَاعُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ إذَا بَيَّنْت أَنَّهَا مَيِّتَةٌ. وَالْحُجَّةُ لِمَنْ طَهَّرَهَا وَجَعْلَهَا مُذَكَّاةً مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا يُوجِبُ طَهَارَتَهَا وَالْحُكْمَ بِذَكَاتِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ الْجَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى بَيْتٍ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَسْقَى فَقِيلَ: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغَتُهُ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا" وَسِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ قَالَتْ: كَانَتْ لَنَا شَاةٌ فَمَاتَتْ فَطَرَحْنَاهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا فَعَلَتْ شَاتُكُمْ؟ " فَقُلْنَا: رَمَيْنَاهَا، فَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، "أَفَلَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا" فَبَعَثْنَا إلَيْهَا فَسَلَخْنَاهَا وَدَبَغْنَا جِلْدَهَا وَجَعَلْنَاهُ سِقَاءً وَشَرِبْنَا فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةِ مَيْمُونَةَ فَقَالَ: "مَا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا" وَالزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ لَهُمْ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: "أَلَا دَبَغُوا إهَابَهَا فَانْتَفَعُوا بِهِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا" فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ، كُلُّهَا يُوجِبُ طَهَارَةَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَاضِيَةٌ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وُرُودِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يمنع مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم

باب تحريم الانتفاع بدهن الميتة

بَابُ تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وَقَالَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] وَهَذَانِ الظَّاهِرَانِ يَحْظُرَانِ دُهْنَ الْمَيْتَةِ كَمَا أَوْجَبَا حَظْرَ لَحْمِهَا وَسَائِرِ أَجْزَائِهَا. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ 1 الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الْأَوْدَاكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْدَاكَ وَهِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَعَكْرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِلْأُدُمِ وَالسُّفُنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا كَمَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ أَكْلِهَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يَدْهُنُ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ ظُهُورَ السُّفُنِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِتَحْرِيمِهِ وَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ حَظْرَهُ.

_ 1 المراد بالصليب هناك الودك الذي يستخرج من العظم "لمصححه".

باب الفأرة تموت في السمن

بَابُ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لَمْ يَقْتَضِ تَحْرِيمَ مَا مَاتَتْ فِيهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَى تَحْرِيمَ عَيْنِ الْمَيْتَةِ، وَمَا جَاوَرَ الْمَيْتَةَ فَلَا يُسَمَّى مَيْتَةً، فَلَمْ يَنْتَظِمْهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ. وَلَكِنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ" وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلْقُوهَا وما حولها ثم كلوه".

مطلب الدهن المتنجس يجوز الانتفاع به بغير الأكل ويجوز بيعه بشرط بيان عيبه

مطلب: الدهن المتنجس يجوز الانتفاع به بغير الأكل ويجوز بيعه بشرط بيان عيبه وَرَوَى عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ،

أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي وَدَكٍ لَهُمْ فَقَالَ: "أَجَامِدٌ هُوَ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "اطْرَحُوهَا وَاطْرَحُوا مَا حَوْلَهَا وَكُلُوا وَدَكَكُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ مَائِعٌ قَالَ: "فَانْتَفِعُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ" فَأَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل. وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِانْتِفَاعِ، وَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْحَسَنِ فِي آخَرِينَ مِنْ السَّلَف جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ، قَالَ أَبُو مُوسَى: بِيعُوهُ وَلَا تَطْعَمُوهُ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنَعَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِصْبَاحِ وَدَبْغِ الْجُلُودِ وَنَحْوِهِ. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَيْضًا وَيُبَيَّنُ عَيْبُهُ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ لِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ الْأَكْلُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ نَحْوِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ، إذْ لَيْسَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقٌّ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ، وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّا قَيَّدْنَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي مَنْعِ بَيْعِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ جَوَازَ بَيْعِهِ مِنْ حَيْثُ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُمَا حَقُّ الْعَتَاقِ، وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِمَا إبْطَالٍ لِحَقِّهِمَا، فَلِذَلِكَ مُنِعَ بَيْعُهُمَا مَعَ إطْلَاقِ سَائِر وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ فِيهِمَا. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وَدَكِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ كَلَحْمِهَا مَمْنُوعٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ مَا مَاتَ فِيهِ الْفَأْرَةُ مِنْ الْمَائِعَاتِ بِمُحَرَّمِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَيْتَةَ، وَسَائِرُ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ مُطْلَقَةٌ فِيهِ سِوَى الْأَكْلِ، فَكَانَ بَيْعُهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَجُوزُ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ. وَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ 1 يَجُوزُ بَيْعُهُمْ كَسَائِرِ مَنَافِعِهِمْ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ بِإِلْقَاءِ الْفَأْرَةِ وَمَا حَوْلَهَا فِي الْجَامِدِ مِنْهُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا كَانَ نَجِسًا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِحُكْمِهِ فِيمَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ مِنْهُ بِالنَّجَاسَةِ، وَأَنَّ مَا يُنَجَّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لَا يُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ; إذْ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ السَّمْنِ الْمُجَاوِرِ لِلسَّمْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِتَنْجِيسِ سَائِرِ سَمْنِ الْإِنَاءِ بِمُجَاوَرَةِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ لِغَيْرِهِ. فَهَذَا أَصْلٌ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّجَاسَةِ فِي التغليظ والتخفيف وأنها ليست متساوية

_ 1 الرقيق يطلق على المفرد وعلى الجماعة.

الْمَنَازِلِ، فَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي بَعْضِهَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَفِي بَعْضِهَا الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ دَلَالَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ الْقِدْرُ يَقَعُ فِيهَا الطَّيْرُ فَيَمُوتُ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ يُحَدِّثُ عَنْ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْئَةِ خُرَاسَانِيٍّ، فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ نَصَبَ لَهُ قِدْرًا فِيهَا لَحْمٌ عَلَى النَّارِ فَمَرَّ طَيْرٌ فَوَقَعَ فِيهَا فَمَاتَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَذَكَرُوا لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّحْمَ يُؤْكَلُ بَعْدَمَا يُغْسَلُ وَيُهْرَاقُ الْمَرَقُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِهَذَا نَقُولُ وَلَكِنْ هُوَ عِنْدَنَا عَلَى شَرِيطَةٍ، فَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا فَكَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ غَلَيَانِهَا لَمْ يُؤْكَلْ اللَّحْمُ وَلَا الْمَرَقُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ فِيهَا فِي حَالِ غَلَيَانِهَا فَمَاتَ فَقَدْ دَاخَلَتْ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ، وَإِذَا وَقَعَ فِي حَالِ سُكُونِهَا فَمَاتَ فَإِنَّ الْمَيْتَةَ وَسَّخَتْ اللَّحْمَ. فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثِينَ 1. هَذَا زِرَّيْنِ، بِالْفَارِسِيَّةِ، يَعْنِي الْمَذْهَبَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَ جَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِلَّةَ فَرْقِهِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْغَلَيَانِ وَحَالِ السُّكُونِ، وَهُوَ فَرْقٌ ظَاهِرٌ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الدَّجَاجَةِ تَقَعُ فِي قِدْرِ اللَّحْمِ وَهِيَ تُطْبَخُ فَتَمُوتُ فِيهَا، قَالَ: لَا أَرَى أَنْ آكُلَ تِلْكَ الْقِدْرَ; لِأَنَّ الْمَيْتَةَ قَدْ اخْتَلَطَتْ بِمَا كَانَ فِي الْقِدْرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُغْسَلُ اللَّحْمُ وَيُؤْكَلُ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ اللَّحْمُ حَتَّى يُغْسَلَ مِرَارًا وَيُغْلَى عَلَى النَّارِ حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي طَيْرٍ وَقَعَ فِي قِدْرٍ فَمَاتَ فَقَالَ: يُهْرَاقُ الْمَرَقُ وَيُؤْكَلُ اللَّحْمُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَالَ الْغَلَيَانِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْبَانَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ خَبَّابٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ قِدْرٌ عَلَى النَّارِ فَسَقَطَتْ فِيهَا دَجَاجَةٌ فَمَاتَتْ وَنَضِجَتْ مَعَ اللَّحْمِ، فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسِ فَقَالَ: اطْرَحْ الْمَيْتَةَ وَأَهْرِقْ الْمَرَقَ وَكُلْ اللَّحْمَ، فَإِنْ كَرِهْته فَأَرْسِلْ إلَيَّ مِنْهُ عُضْوًا أَوْ عُضْوَيْنِ. وَهَذَا أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حَالِ الْغَلَيَانِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَقَعَتْ فِيهِ بَعْدَ سُكُونِ الْغَلَيَانِ وَالْمَرَقُ حَارٌّ فَنَضِجَتْ فيه، والله سبحانه أعلم.

_ 1 قوله: "وعقد بيده ثلاثين" هو أن يضم باطن رأس إبهامه إلى باطن رأس سبابته من اليد اليمنى كهيئة الملتقط إبرة من الأرض، هذا هو المراد بعقد الثلاثين، وإنما فعله ابن المبارك بقصد الاستحسان لجواب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى. "لمصححه".

بَابُ مِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ وَلَبَنِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا طَاهِرَانِ لَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: يُكْرَهُ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَحَةُ إذَا كَانَتْ مَائِعَةً، فَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً فَلَا بَأْسَ. وَقَالُوا جَمِيعًا فِي الْبَيْضَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ: فَلَا بَأْسَ بِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ اللَّبَنُ فِي ضُرُوعِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا تُؤْكَلُ الْبَيْضَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: أَكْرَهُ أَنْ أُرَخِّصَ فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّبَنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْمَوْتِ; لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَيُؤْكَلُ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَلْبَانِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُحَرِّمُهُ مَوْتُ الشَّاةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِمَوْتِ الشَّاةِ وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ جُعِلَ فِي وِعَاءٍ مَيِّتٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ حُلِبَ مِنْ شَاةٍ حَيَّةٍ ثُمَّ جُعِلَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي ضَرْعِ الْمَيْتَةِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ لَا يُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ بِمَا حَدَثَ فِيهِ خِلْقَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ اللَّحْمِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُرُوقِ مَعَ مُجَاوَرَةِ الدَّمِ لِدَوَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ وَلَا غَسْلٍ لِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ لَا يُنَجِّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِمَا خُلِقَ فِيهِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فِي اقْتِضَائِهِ لَبَنَ الْحَيَّةِ وَلَبَنَ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هُمَا نَجِسَانِ مَعَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ، وَلَمْ تَكُنْ مُجَاوَرَتُهُ لَهُمَا مُوجِبَةً لَتَنْجِيسِهِ; لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخِلْقَةِ، كَذَلِكَ كَوْنُهُ فِي ضَرْعِ مَيْتَةٍ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ بِجُبْنَةٍ، فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَهَا بِالْعَصَا، فَقَالَ: "أَيْنَ يُصْنَعُ هَذَا؟ " فَقَالُوا: بِأَرْضِ فَارِسَ، فَقَالَ: "اُذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكُلُوا". وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ مَيْتَةٌ، وَقَدْ أَبَاحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْلَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مِنْ صَنْعَةِ أَهْلِ فَارِسَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا; إذْ ذَاكَ مَجُوسًا، وَلَا يَنْعَقِدُ الْجُبْنُ إلَّا بِإِنْفَحَةٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ. وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُبْنِ فَقَالَ: "ضَعِي السِّكِّينَ وَاذْكُرِي اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلِي" فَأَبَاحَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَكْلَ الْجَمِيعِ مِنْهُ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا صُنِعَ مِنْهُ بِإِنْفَحَةِ مَيْتَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَسَلْمَانَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إبَاحَةُ أَكْلِ الْجُبْنِ الَّذِي فِيهِ إنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَحَةَ طَاهِرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَيْتَةٍ. وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا طَهَارَةُ الْإِنْفَحَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَيْتَةٍ ثَبَتَ طَهَارَةُ لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْبَيْضَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ لِأَنَّهَا تَبِنْ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ يَجُوزُ أَكْلُهَا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ لَمَا أَبَاحَهَا إلَّا ذَكَاةُ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا، لَمَّا كَانَ شَرْطُ إبَاحَتِهَا الذَّكَاةُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الْأَصْلِ.

بَابُ شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا وَالْفِرَاءِ وَجُلُودِ السِّبَاعِ قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَمُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ. وَلَا بَأْسَ بِشَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا، وَلَا يَكُونُ مَيْتَةً لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا يُنْتَفَعُ بِعَصَبِ الْمَيْتَةِ وَلَا بِعَقِبِهَا" 1، وَلَا أَرَى بَأْسًا بِالْقَرْنِ وَالظِّلْفِ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ، وَلَا بَأْسَ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ وَلَا الشَّعْرِ وَلَا الصُّوفِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الشُّقْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ، وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَقَرْنِهَا إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْفِرَاءِ وَالْمَسَاتِقِ 2 قَالَ: "وفى الدِّبَاغُ عَنْكُمْ". وَرَوَى يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ هَارُونَ الْبُرْجُمِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفراء والجبن

_ 1 قوله "ولا بعقبها" العقب بمعنى العصب كما في النهاية فهو من عطف المرادف "لمصححه". 2 قوله "المساتق" جمع مستقة وهي فروة طويلة الكمين "لمصححه".

وَالسَّمْنِ فَقَالَ: "إنَّ الْحَلَالَ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَرَامَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا إبَاحَةُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ النَّصِّ عَلَى إبَاحَةِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي إبَاحَةِ الْفِرَاءِ والمساتق. وَالْآخَرُ: مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ بِتَحْرِيمِ وَلَا تَحْلِيلٍ فَهُوَ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ: "وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ". وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَحْرِيمُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِمَا، بَلْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5] وَالدِّفْءُ: مَا يُتَدَفَّأُ بِهِ مِنْ شَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَصُوفِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْجَمِيعِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْحَيِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] فَعَمَّ الْجَمِيعَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّى مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ. وَمَنْ حَظَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْمَيْتَةِ احْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، فَإِذَا كَانَ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْعِظَامُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَجْزَائِهَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا فَيُقَالُ لَهُ: إنَّمَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ. وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا" وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَأْكُولِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التَّحْرِيمُ، وَمِنْ حَيْثُ خَصَّصْنَا جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ بِالْإِبَاحَةِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَجَبَ تَخْصِيصُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَمَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمِ بِالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ خُرُوجُهُ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ بِالدَّبَّاغِ مُبِيحًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا حَلْقُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَنْهَا، بَلْ فِيهَا الْإِبَاحَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْجُلُودَ لَا تَخْلُو مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ وَمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ لَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَنَحْوَهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَأْلَمْ بِقَطْعِهَا، وَلَوْ

كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ لَتَأَلَّمَ بِقَطْعِهَا كَمَا يُؤْلِمُهُ قَطْعُ سَائِرِ أَعْضَائِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْعَظْمَ وَالْقَرْنَ وَالظِّلْفَ وَالرِّيشَ لَا حَيَاةَ فِيهَا، فَلَا يَلْحَقُهَا حُكْمُ الْمَوْتِ، وَوُجُودُ النَّمَاءِ فِيهَا لَا يُوجِبُ لَهَا حَيَاةً; لِأَنَّ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ يَنْمِيَانِ وَلَا حَيَاةَ فِيهِمَا وَلَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ" وَيَبِينُ مِنْهَا الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَلَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُمَا حُكْم الْمَوْتِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ بِذَكَاةِ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمَ إبَاحَةُ شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَرَاهِيَةُ الْمَيْتَةِ وَعِظَامِ الْفِيلِ، وَعَنْ طَاوُسٍ كَرَاهَةُ عِظَامِ الْفِيلِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى عَلَى رَجُلٍ فَرْوًا فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُهُ ذَكِيًّا لَسَرَّنِي أَنْ يَكُونَ لِي مِنْهُ ثَوْبٌ. وَذَكَرَ أَنَسٌ أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ قَلَنْسُوَةَ ثَعْلَبٍ فَنَزَعَهَا وَقَالَ: مَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ مِمَّا لَمْ يُذَكَّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ، فَكَرِهَهَا قَوْمٌ وَأَبَاحَهَا أَصْحَابُنَا وَمَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَمُطَرِّفٌ عَنْ عَمَّارٍ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ السِّبَاعِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ سِيرِينَ: لَا بَأْسِ بِلُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ. وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْفِرَاءِ: دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ "نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ" وَقَتَادَةُ عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ سُرُوجِ النُّمُورِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَعْنَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لُبْسِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِزِيِّ الْعَجَمِ، كَمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ 1 وَعَنْ الثِّيَابِ الْحُمْرِ". وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْعَجَمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَدِيثِ سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْفِرَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بها، وقوله عليه

_ 1 قوله "وعن لبس القسي" القسي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر يقال لها القس بفتح القاف "لمصححه".

السَّلَامُ: "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" وَقَوْلُهُ: "دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ" عَامٌّ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْعَجَمِ.

بَابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وَقَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي تَحْرِيمِهِ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الدِّمَاءِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الدَّمِ هُوَ الْمَسْفُوحُ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُهُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] خَاصٌّ فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ عَامٌّ فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ، فَوَجَبَ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَخُصُّهُ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] جَاءَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ سَائِرِ الدِّمَاءِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ بِهَذَا الْوَصْفِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} مُتَأَخِّرًا عَنْ قَوْلِهِ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] أَوْ أَنْ يَكُونَا نَزَلَا مَعًا. فَلَمَّا عَدِمْنَا تَارِيخَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِنُزُولِهِمَا مَعًا، فَلَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ تَحْرِيمُ الدَّمِ إلَّا مَعْقُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا. وَحَدَّثَنَا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] لَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْعُرُوقِ مَا اتَّبَعَ الْيَهُودُ. وَحَدَثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن قتادة في قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] قَالَ: حُرِّمَ مِنْ الدَّمِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا، وَأَمَّا اللَّحْمُ يُخَالِطُهُ الدَّمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الدَّمِ يَكُونُ فِي اللَّحْمِ وَالْمَذْبَحِ قَالَتْ: "إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَكْلِ اللَّحْمِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْفُوحٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ فِيهِ؟ وَلَيْسَ هُوَ بِمُحَرَّمٍ;

إذْ لَيْسَ هُوَ مَسْفُوحًا وَلِمَا وَصَفْنَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ لَيْسَ بِنَجَسٍ وَقَالُوا أَيْضًا: "إنَّ دَمَ السَّمَكِ لَيْسَ بِنَجَسِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِدَمِهِ". وَقَالَ مَالِكٌ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ: "إذَا تَفَاحَشَ غَسَلَهُ وَيَغْسِلُ دَمَ الذُّبَابِ وَدَمَ السَّمَكِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَفْسُدُ الْوُضُوءُ 1 إلَّا أَنْ تَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَمَّ الدِّمَاءَ كُلَّهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وَقَوْلُهُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] يُوجِبُ تَحْرِيمَ دَمِ السَّمَكِ لِأَنَّهُ مَسْفُوحٌ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ" فَلَمَّا أَبَاحَ السَّمَكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ إرَاقَةِ دَمِهِ، وَقَدْ تَلَقَّى الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْخَبَرَ بِالْقَبُولِ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ مِنْ غَيْر إرَاقَةِ دَمِهِ، وَجَبَ تَخْصِيصُ الْآيَةِ فِي إبَاحَةِ دَمِ السَّمَكِ; إذْ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا حَلَّ دُونَ إرَاقَةِ دَمِهِ كَالشَّاةِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ ذوات الدماء، والله أعلم.

_ 1 قوله: "الوضوء" بالفتح هو الماء الذي يتوضأ به. "لمصححه".

بَابُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] فَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْأُمَّةُ عَقَلَتْ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ مِثْلَ مَا عَقَلَتْ مِنْ تَنْزِيلِهِ، وَاللَّحْمُ وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ فَإِنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّحْمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَنْفَعَتِهِ وَمَا يُبْتَغَى مِنْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُرَادُ حَظْرُ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فِي الصَّيْدِ، وَخَصَّ الْقَتْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الصَّيْدُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فَخَصَّ الْبَيْعَ بِالنَّهْيِ; لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ مَا يَبْتَغُونَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ وَالْمَعْنِيُّ جَمِيعُ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ. وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْبَيْعِ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الصَّلَاةِ، كَذَلِكَ خَصَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِالنَّهْيِ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ وَحَظْرًا لِسَائِرِ أَجْزَائِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ خَاصًّا فِي لَحْمِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ لِلْخَرَزِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ الْخَرَزَ بِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا بَأْسَ أَنْ يُخَاطَ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَيَجُوزُ لِلْخَرَّازِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَلَا يَبِيعَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْخِنْزِيرِ لَحْمَهُ وَكَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الشَّعْرَ وَغَيْرَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّحْرِيمَ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا كَانَ فِيهِ الْحَيَاةُ مِنْهُ مِمَّا لَمْ يَأْلَمْ بِأَخْذِهِ مِنْهُ، فَأَمَّا الشَّعْرُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيِّ فَلَمْ يَلْحَقْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَمَا بَيَّنَّا فِي شَعْرِ الْمَيْتَةِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمُذَكَّى وَالْمَيْتَةِ فِي الشَّعْرِ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ مَنْ أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا أَجَازَهُ اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ عِنْدَهُمْ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ. وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنُوا إجَازَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْخَرَزِ دُونَ جَوَازِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لَمَّا شَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْعِلْمِ يُقِرُّونَ الْأَسَاكِفَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، فَصَارَ هَذَا عِنْدَهُمْ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَظُهُورُ الْعَمَلِ مِنْ الْعَامَّةِ فِي شَيْءٍ مَعَ إقْرَارِ السَّلَفِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ إبَاحَتَهُ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالُوا فِي إبَاحَةِ دُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لِمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَلَا مِقْدَارِ مُدَّةِ لُبْثِهِ فِيهِ; لِأَنَّ هَذَا كَانَ ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا فِي عَهْدِ السَّلَفِ مِنْ غَيْرِ مُنْكِرٍ بِهِ عَلَى فَاعِلِيهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الِاسْتِصْنَاعِ إنَّهُمْ أَجَازُوهُ لِعَمَلِ النَّاسِ، وَمُرَادُهُمْ فِيهِ إقْرَارُ السَّلَفِ الْكَافَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَتَرْكُهُمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَوَازِهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُؤْكَلُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ". وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ حِمَارَ الْمَاءِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَا يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ". قَالَ أَبُو بكر: ظاهر قوله: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] مُوجِبٌ لِحَظْرِ جَمِيعِ مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْمَاءِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَنْصَرِفُ هَذَا إلَى خِنْزِيرِ الْبَرِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِنْزِيرُ الْمَاءِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مُقَيَّدًا، وَاسْمُهُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ حِمَارُ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو خِنْزِيرُ الْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلْقَةِ خِنْزِيرِ الْبَرِّ وَصِفَتِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِلْقَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْمَاءِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَعَلَى خِلْقَتِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى خُصُوصِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلْقَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا يُسَمَّى حِمَارَ الْمَاءِ فَكَأَنَّهُمْ إنَّمَا أَجْرَوْا اسْمَ الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا لَيْسَ بِخِنْزِيرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُخَطِّئْهُمْ فِي التَّسْمِيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ خِنْزِيرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهُ حِمَارَ الْمَاءِ لَا يَسْلُبُهُ اسْمَ الْخِنْزِيرِ; إذْ جَائِزٌ أَنْ

يَكُونُوا سَمَّوْهُ بِذَلِكَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خِنْزِيرِ الْبَرِّ. وَكَذَلِكَ كَلْبُ الْبَرِّ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا; إذْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. بَابُ تَحْرِيم مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وَلَا خِلَافَ بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّبِيحَةُ إذَا أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ذَبَائِحُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَوْثَانِهِمْ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] وَأَجَازُوا ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا سَمَّى عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُهِلُّونَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ ومالك وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ". وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا إذَا سُمِّيَ عَلَيْهَا بِاسْمٍ غَيْرِ اللَّهِ; لِأَنَّ الْإِهْلَالَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هُوَ إظْهَارُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، وَلَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْمَسِيحِ وَبَيْنَ تَسْمِيَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْإِهْلَالُ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] وَعَادَةُ الْعَرَبِ فِي الذَّبَائِحِ لِلْأَوْثَانِ غَيْرُ مَانِعٍ اعْتِبَارَ عُمُومِ الْآيَةِ فِيمَا اقْتَضَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ وَمَيْسَرَةَ، أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "إذَا سَمِعْتُمْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلُوا، وَإِذَا لَمْ تَسْمَعُوهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ" وَهُوَ يُعْلَمُ مَا يَقُولُونَ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يَقُولُونَ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ إبَاحَةَ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يُهِلُّوا لِغَيْرِ اللَّهِ; إذْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالَ الْآيَتَيْنِ بِمَجْمُوعِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ مَا لَمْ يُهِلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ النَّصْرَانِيَّ إذَا سَمَّى اللَّهَ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا كَانَ إرَادَتُهُ كَذَلِكَ وَلَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ ذَبِيحَتِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُهِلٌّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إذَا أَظْهَرَ مَا يُضْمِرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إرَادَتِهِ الْمَسِيحَ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَنَا حُكْمَ الظَّاهِرِ; لِأَنَّ الْإِهْلَال هُوَ إظْهَارُ الْقَوْلِ، فَإِذَا أَظْهَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وَإِذَا أَظْهَرَ اسْمَ اللَّهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا حَمْلُهُ عَلَى اسْمِ الْمَسِيحِ عِنْدَهُ; لِأَنَّ حُكْمَ الْأَسْمَاءِ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى حَقَائِقِهَا وَلَا

تُحْمَلُ عَلَى مَا لَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَلَا يَسْتَحِقُّهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَيْنَا فِي اعْتِبَارِ إظْهَارِ الِاسْمِ دُونَ الضَّمِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ جَوَازِ اعْتِقَادِهِ لِلتَّشْبِيهِ الْمُضَادِّ لِلتَّوْحِيدِ؟ وَكَذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" وَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي الْقَوْمِ مُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ، وَلَمْ يُجْرِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَجْرَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ بَلْ حَكَمَ لَهُمْ فِيمَا يُعَامَلُونَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِحُكْمِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أُمُورِهِمْ دُونَ مَا بَطَنَ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ. وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ ذَكَاةِ النَّصْرَانِيِّ مُتَعَلِّقَةً بِإِظْهَارِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مَتَى أَظْهَرَ اسْمَ الْمَسِيحِ لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ، كَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَظْهَرُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمْ أَسْمَاءَ أَوْثَانِهِمْ والله أعلم.

بَابُ ذِكْرُ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الضَّرُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَطْلَقَ الْإِبَاحَةَ فِي بَعْضِهَا بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الْإِبَاحَةِ وَبِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ حَالٍ وُجِدَتْ الضَّرُورَةَ فِيهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ: {غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة {وَلا عَادٍ} فِي الْأَكْلِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَأَبَاحُوا لِلْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا أَبَاحُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ: "إذَا لَمْ يَخْرُجْ بَاغِيًا عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ". وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [المائدة: 3] يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ لِلْجَمِيعِ مِنْ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} . وَقَوْلُهُ: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ فِي الْأَكْلِ وَاحْتَمَلَ الْبَغْيُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالِاحْتِمَالِ، بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُوَاطِئُ مَعْنَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ

سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ بَلْ كَانَ سَفَرُهُ لِحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَاغِيًا عَلَى رَجُلٍ فِي أَخْذِ مَالِهِ أَوْ عَادِيًا فِي تَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ، لَمْ يَكُنْ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ مَانِعًا مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أن قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} لَمْ يُرِدْ بِهِ انْتِفَاءَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهُ مَخْصُوصٍ فَيُوجِبُ ذَلِكَ كَوْنَ اللَّفْظِ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْآيَةِ الْأُولَى بِهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ. وَمَتَى حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالتَّعَدِّي فِي الْأَكْلِ اسْتَعْمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ وَحَقِيقَتِهِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ وَوَرَدَ فِيهِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى عُمُومِهِ، وَالْآخَرُ: أَنَّا لَا نُوجِبُ بِهِ تَخْصِيصَ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [المائدة: 3] وَكَذَلِكَ: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مُجَانَبَةَ سَائِرِ الْآثَامِ حَتَّى يَكُونَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَصْلًا فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى إنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى تَرْكِ رَدِّ مَظْلِمَةِ دِرْهَمٍ أَوْ تَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ جَائِزٌ لَهُ الْأَكْلُ مَعَ كَوْنِهِ مُقِيمًا عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَعَاصِي بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا خَارِجًا عَلَى إمَامِ. وَقَدَ ثَبَتَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ إقَامَتَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي لَا تَمْنَعُ اسْتِبَاحَتَهُ لِلْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُرَادٍ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْمَأْثَمِ الَّذِي يَمْنَعُ الِاسْتِبَاحَةَ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ. وَهَذَا يُوجِبُ إجْمَالَ اللَّفْظِ وَافْتِقَارَهُ إلَى الْبَيَانِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى وُقُوفِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْآيَةِ وَجَبَ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهَا، وَجِهَةُ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهَا مَا وَصَفْنَا مِنْ إثْبَاتِ الْمُرَادِ بَغْيًا وَتَعَدِّيًا فِي الْأَكْلِ بِأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مِنْهَا إلَّا بِمِقْدَارِ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُزِيلُ خَوْفَ التَّلَفِ. وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ. بَلْ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَكْلِ زِيَادَةً عَلَى عِصْيَانِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْمُطِيعِ سَوَاءً فِي اسْتِبَاحَةِ الْأَكْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمُبَاحِ مِنْ الطَّعَامِ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ خَارِجًا فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ، وَالْمَيْتَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى فِي حَالَ الْإِمْكَانِ وَالسَّعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى اسْتِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ أَجَلْ، هُوَ كَمَا قُلْتَ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُبَاحٍ لَهُ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ; لِأَنَّ تَرْكَ التَّوْبَةِ لَا يُبِيحُ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ; وَهَذَا الْعَاصِي مَتَى تَرَكَ الْأَكْلَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ حَتَّى مَاتَ كَانَ مُرْتَكِبًا لِضَرْبَيْنِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ: أَحَدُهُمَا: خُرُوجُهُ

فِي مَعْصِيَةٍ، وَالثَّانِي: جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ. وَأَيْضًا فَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي لَا يَخْتَلِفَانِ فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ أَوْ يُحَرَّمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي هِيَ مُبَاحَةٌ لِلْمُطِيعِينَ هِيَ مُبَاحَةٌ لِلْعُصَاةِ كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ؟ وَكَذَلِكَ مَا حُرِّمَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِي تَحْرِيمِهِ حُكْمُ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْمَيْتَةُ مُبَاحَةً لِلْمُطِيعِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعُصَاةِ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ الْمُبَاحَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا رُخْصَةَ لِلْعَاصِي. قِيلَ لَهُ: قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُكَ إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فَرْضٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ وَالِاضْطِرَارُ يُزِيلُ الْحَظْرَ، وَمَتَى امْتَنَعَ الْمُضْطَرُّ مِنْ أَكْلِهَا حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُضْطَرِّ إلَى الْمَيْتَةِ غَيْرِ الْبَاغِي. فَقَوْلُ الْقَائِلِ إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: إنَّ إبَاحَةَ أَكْلِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْمَاءِ رَخْصَةٌ لِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَلَا يُطْلِقُ هَذَا أَحَدٌ يَعْقِلُ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ: فُرِضَ عَلَى الْمُضْطَرِّ إلَى الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا; وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْمَاءِ كَذَلِكَ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْخَطَإِ فَهُوَ قَوْلُكَ: إنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِلْعَاصِي وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فَاسِدَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُمْ رَخَّصُوا لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ إذَا كَانَ مَريِضًا، وَكَذَلِكَ يُرَخِّصُونَ لَهُ فِي السَّفَرِ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَيُرَخِّصُونَ لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا. وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ; فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا فَسَادُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ فِيهِ ضَمِيرٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] خَبَرًا له. وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَبَرٍ بِهِ يَتِمُّ الْكَلَامُ، إذْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الضَّرُورَة، وَخَبَرُهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ ضَمِيرُهُ وَهُوَ الْأَكْلُ، فَكَأَنَّ تَقْدِيرَهُ فَمَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَوْلُهُ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} على قول من يقول {غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة {وَلا عَادٍ} فِي الْأَكْلِ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ حَالًا لِلْأَكْلِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} "عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ"

فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ حَالًا لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَة قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةً لِلْأَكْلِ، وَعِنْدَ الْأَوَّلِينَ يَكُونُ صِفَةً لِلْأَكْلِ. وَالْحَذْفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالْحَذْفِ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَالْمَعْنَى: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَحَذَفَ "فَأَفْطَرَ". وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] وَمَعْنَاهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ وَإِنَّمَا جَازَ الْحَذْفُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمَحْذُوفِ وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ فِي الْأَكْلِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ لَا مَحْذُوفًا وَلَا مَذْكُورًا كَحَذْفِ الْأَكْلِ، فَحَمْلُهُ عَلَى مَا فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ بِأَنْ يَكُونَ حَالًا لَهُ فِيهِ وَصِفَةً أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَتَضَمَّنْهُ اللَّفْظُ لَا مَحْذُوفًا وَلَا مَذْكُورًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فَلَا ضَمِيرَ فِيهِ وَلَا حَذْفَ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ; إذْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَفْهُومَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَكُمْ وَهَذَا اللَّفْظُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الضَّمِيرِ. وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ هَهُنَا هُوَ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ. وَقَدْ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ تَأَوَّلَهَا عَلَى ضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي ضَرُورَةِ الْمَيْتَةِ مَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي تَرْكِ تَنَاوُلِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي ضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْهَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ، كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ بِأَنْ عَدِمَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا، كَمَنْ تَرَكَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَهُوَ وَاجِدُهُمَا حَتَّى مَاتَ فَيَمُوتُ عَاصِيًا لِلَّهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ; لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مُبَاحٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الْمُطِيعُ الْمُضْطَرُّ إلَى شُرَبِ الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. وَإِنَّمَا يَشْرَبُ مِنْهَا مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ; إذْ كَانَ يَرُدُّ عَطَشَهُ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَمَكْحُولٌ:

"لَا يَشْرَبُ; لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَشْرَبُ; لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا وَجُوعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِأَنَّهَا تَذْهَبُ بِالْعَقْلِ. قَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا ذُكِرَتْ الضَّرُورَةُ فِي الْمَيْتَةِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي الْخَمْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا لَا تُزِيلُ ضَرُورَةَ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ لَا مَعْنَى لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا تُمْسِكُ الرَّمَقَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَتُزِيلُ الْعَطَشَ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَلَغَنَا مَنْ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ دَهْرًا اكْتِفَاءً بِشُرْبِ الْخَمْرِ عَنْهُ، فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُ الْمَعْقُولِ الْمَعْلُومِ مِنْ حَالِ شَارِبِهَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ نُحِيلَ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ عَنْهَا وَنَقُولَ: إنَّ الضَّرُورَهْ لَا تَقَعُ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيَّ فِي ذَهَابِ الْعَقْلِ فَلَيْسَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا ذُكِرَتْ فِي الْمَيْتَةِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا فِي بَعْضِهَا مَذْكُورَةً فِي الْمَيْتَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَفِي بَعْضِهَا مَذْكُورَةٌ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَقَدْ فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 269] . وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} [الأعراف: 33] وَقَالَ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَالضَّرُورَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مُنْتَظِمَةٌ لِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَذِكْرُهُ لَهَا فِي الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ بِأَكْلِهَا وَخَوْفِ التَّلَفِ فِي تَرْكِهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهَا لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابٌ فِي مِقْدَارِ مَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيّ: لَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: يَأْكُلُ مِنْهَا مَا يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فَعَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ هِيَ خَوْفُ

الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ إمَّا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَمَتَى أَكَلَ بِمِقْدَارِ مَا يَزُولُ عَنْهُ الْخَوْفُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ فَقَدْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِسَدِّ الْجَوْعَةِ لِأَنَّ الْجُوعَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِتَرْكِهِ. وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: غَيْرُ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْأَكْلَ مِنْهَا فَوْقَ الشِّبَعِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ فِي الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: غَيْرَ بَاغٍ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا مِقْدَارَ الشِّبَعِ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالتَّعَدِّي وَاقِعَيْنِ فِي أَكْلِهِ مِنْهَا مِقْدَارَ الشِّبَعِ حَتَّى يَكُونَ لِاخْتِصَاصِهِ الْمَيْتَةَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَعَقْدِهِ الْإِبَاحَةَ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مِنْهَا إلَّا مِقْدَارَ زَوَالِ خَوْفِ الضَّرُورَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ مِقْدَارٌ مَا إذَا أَكَلَهُ أَمْسَكَ رَمَقَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ. ثُمَّ إذَا أَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَزَالَ خَوْفُ التَّلَفِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ. وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا زَالَ مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا; إذْ لَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ بِأَوْلَى بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ بَعْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ اللَّيْثِيِّ, أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إنَّا نَكُونُ بِالْأَرْضِ تُصِيبُنَا الْمَخْمَصَةُ فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟ قَالَ: "مَتَى مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجِدُوا بِهَا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا؟ " فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ الْمَيْتَةَ إلَّا إذَا لَمْ يَجِدُوا صَبُوحًا وَهُوَ شُرْبُ الْغَدَاءِ أَوْ غَبُوقًا وَهُوَ شُرْبُ الْعَشَاءِ أَوْ يَجِدُوا بَقْلًا يَأْكُلُونَهُ; لِأَنَّ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً أَوْ بَقْلًا فَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ الْمُبِيحَةُ لِلْمَيْتَةِ دُونَ حَالِ الْمُضْطَرِّ فِي كَوْنِهِ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّائِلِ بَيْنَ حَالِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي إبَاحَتِهِ بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ إبَاحَةَ الْمَيْتَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى حَالِ خَوْفِ الضَّرَرِ، والله أعلم.

بَابُ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ وَاجِبٌ سِوَى الزَّكَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الْآيَةَ. قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ} إنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حِينَ أَنْكَرَتْ نَسْخَ الْقِبْلَةِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِرَّ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ لَا فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ; إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ. وَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ الْآنَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، إذًا لِمَ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى غَيْرِهَا مَنْسُوخًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قِيلَ إنَّ فِيهِ حَذْفًا، وَمَعْنَاهُ: إنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ، كَقَوْلِ الخنساء:

تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ 1 حَتَّى إذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هي إقبال وإدبار عني مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً. وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} يَعْنِي أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ. قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْمَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَقِيلَ: إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْإِيتَاءِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَسَخِّطًا عِنْدَ الْإِعْطَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حُبَّ الْمَالَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمَلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ". وَحَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قَالَ: "أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَأْمَلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْر". وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ، وَإِنَّمَا فِيهَا حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَوَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّهَا مِنْ الْبِرِّ، وَهَذَا لَفْظٌ يَنْطَوِي عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، إلَّا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ، وَنَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فَلَمَّا عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: أَرَادَ بِهِ حُقُوقًا وَاجِبَةً فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ إذَا وَجَدَهُ ذَا ضُرٍّ شَدِيدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَدْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ التَّلَفُ فَيَلْزَمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ. وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: "إنَّ فِيهَا حَقًّا" فسئل

_ 1 غفلت "نسخة".

عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا وَمِنْحَةُ سَمِينِهَا". فَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" مَا يَلْزَمُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ الْفُقَرَاءِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِوَالِدَيْهِ وَذَوِي مَحَارِمِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ عَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طَعَامِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَقًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَا وَاجِبًا; إذْ لَيْسَ قَوْلُهُ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ" يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، إذْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ نَدْبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الضَّبِّيِّ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ". فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَائِرُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ فَإِنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَنُ السَّنَدِ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا إثْبَاتَ نَسْخِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً بِالزَّكَاةِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ الصَّدَقَاتِ صَدَقَاتٍ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْتَضِي لُزُومَ إخْرَاجِهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] وَنَحْوَ مَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِالزَّكَاةِ مِثْلَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُ مِنْ نَحْوِ الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرُوضٌ لَازِمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِالزَّكَاةِ. وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ تُنْسَخْ بِالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَهَا ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمْ تَنْسَخْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا فُرِضَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَهَا". فَهَذَا الْخَبَرُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نسخها; لأن

وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يَنْفِي بَقَاءَ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَف فِي أَنَّ "حم السَّجْدَةَ" مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا وَعِيدُ تَارِكِ الزَّكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 7] وَالْأَمْرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّم لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقُّ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ نَحْوَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّكَاة لَمْ تَنْسَخْهَا. وَالْيَتَامَى الْمُرَادُونَ بِالْآيَةِ هُمْ الصِّغَارُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ. وَالْمَسَاكِينُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَابْنُ السَّبِيلِ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الضَّيْفُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، كَمَا قِيلَ لِلطَّيْرِ الْإِوَزِّ: ابْنُ مَاءٍ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي بِهِ الطَّالِبِينَ لِلصَّدَقَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24- 25] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ أَتَى عَلَى فَرَسٍ" وَاَللَّهُ تعالى أعلم.

بَابُ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} هَذَا كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا مِنْ لَفْظِهِ، وَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْقَتْلَى؟ وَالْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْل مَا فَعَلَ بِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: "اقْتَصَّ أَثَرَ فُلَانٍ" إذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا

قَصَصاً} [الكهف: 64] وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أَيْ اتَّبِعِي أَثَرَهُ. وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} مَعْنَاهُ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، وَ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وَقَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً. وَمِنْهُ: الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ، يَعْنِي بِهَا الْمَفْرُوضَاتِ، فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ إيجَابَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذَا قَتَلُوا لِمَنْ قُتِلُوا مِنْ سَائِرِ الْمَقْتُولِينَ لِعُمُومِ لَفْظِ الْمَقْتُولِينَ. وَالْخُصُوصُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَاتِلِينَ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْقِصَاصُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ إلَّا وَهُمْ قَاتِلُونَ، فَاقْتَضَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ عَمْدًا بِحَدِيدَةٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لِشُمُولِ لَفْظِ الْقَتْلَى لِلْجَمِيعِ. وَلَيْسَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ فِي الْقَتْلَى بِمُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلَى مُؤْمِنِينَ; لِأَنَّ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ عُمُومِ اللَّفْظِ مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْقَتْلَى دُون بَعْضٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ فِي الْقَتْلَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ أَخًا لِلْمُسْلِمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ أَوَّلُ الْخِطَابِ قَدْ شَمِلَ الْجَمِيعَ فَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الْخُصُوصِ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَهُوَ عُمُومٌ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَمَا دُونَهَا، ثُمَّ عُطِفَ قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وَهَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ فِي الْمُطَلِّقِ لِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي إيجَابِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ مِنْ الْعِدَّةِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يُرِيدَ الْإِخْوَةَ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ لَا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} وأما قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْقَتْلَى; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَوَّلُ الْخِطَابِ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقْصُرَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} إنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَذِكْرِ الْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ الْعَرَبِ قِتَالٌ

وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْآخَرِ، فَقَالُوا: لَا نَرْضَى إلَّا أَنْ نَقْتُلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرَّ مِنْكُمْ، وَبِالْأُنْثَى مِنَّا الذَّكَرَ مِنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} مُبْطِلًا بِذَلِكَ مَا أَرَادُوهُ، وَمُؤَكِّدًا عَلَيْهِمْ فَرْضَ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ غَيْرَ الْقَاتِلِ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، وَرَجُلٌ أَخَذَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ". وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"، وَذِكْرَهُ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ لَمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرِّبَا مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَلَا نَفْيُ الرِّبَا عَمَّا عَدَاهَا؟ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ويدل على أن قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} غَيْرُ مُوجِبٍ لِتَخْصِيصِ عُمُومِ الْقِصَاصِ، وَلَمْ يَنْفِ الْقِصَاصَ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَمْ يَنْفِ مُوجِبَ حُكْمِ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْقَتْلَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْقِصَاصُ مَفْرُوضًا، وَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعَفْوِ وَبَيْنَ الْقِصَاصِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَجْعَلْهُ مَفْرُوضًا عَلَى الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَفْرُوضًا عَلَى الْقَاتِلِ لِلْوَلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَلَيْسَ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لَهُ، وَهَذَا لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي لَهُ الْقِصَاصُ مُخَيَّرًا فِيهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَالرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ اقْتِضَاءِ أَوَّلِ الْخِطَابِ إيجَابَ عُمُومِ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْقَتْلَى، وَأَنَّ تَخْصِيصَهُ الْحُرَّ بِالْحُرِّ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارِ بِحُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ دُونَ اعْتِبَارِ عُمُومِ ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ. وَنَظِيرُهَا مِنْ الْآيِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَامًّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] فَانْتَظَمَ ذَلِكَ جَمِيعَ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا وَجَعَلَ لِأَوْلِيَائِهِمْ سُلْطَانًا، وَهُوَ الْقَوَدُ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِذَلِكَ فِي الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ حُرًّا مُسْلِمًا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ قَوَدًا; لِأَنَّ مَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُرَادٌ فَكَأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا، فَلَفْظُ السُّلْطَانِ، وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى مُرَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} هُوَ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِهِ، ومقتضى لفظه.

وَنَظِيرُهَا أَيْضًا مِنْ الْآيِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ. وَهُوَ عُمُومٌ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْمَقْتُولِينَ. وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِذَلِكَ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ عَلَيْنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا عَلَيْنَا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْأَنْفُسِ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلِيُّهُ يَكُونُ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْقَتْلَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يَقْتَضِي عُمُومُهُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.

مَسْأَلَةٌ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ إلَّا فِي الْأَنْفُسِ وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ" وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي نَسْتَطِيعُ فِيهَا الْقِصَاصَ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ، وَالْعَبْدُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ، وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ". وَقَالَ اللَّيْث بْنُ سَعْدٍ: "إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْجَانِي اقْتُصُّ مِنْهُ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ"، وَقَالَ: "إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْحُرَّ فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَأْخُذُ بِهَا نَفْسَ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ فَيَكُونَ لَهُ، وَإِذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلِلْمَجْرُوحِ الْقِصَاصُ إنْ شَاءَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحِ، وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ". وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ، أَنَّ الْآيَةَ مَقْصُورَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتْلَى، وَلَيْسَ فِيهِمْ ذِكْرٌ لِمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْجِرَاحِ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ آيِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْقَتْلَى وَالْعُقُوبَةِ وَالِاعْتِدَاءِ يَقْتَضِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَمِنْ حَيْثُ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَجَبَ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ، وَالْآيَةُ لَمْ يُفَرِّقْ مُقْتَضَاهَا بَيْنَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلِ، فَهِيَ عُمُومٌ فيهما

جَمِيعًا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ; لِأَنَّ فِيهِ حَيَاةً لَنَا. وَذَلِكَ خِطَابٌ شَامِلٌ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ; لِأَنَّ صِفَةَ أُولِي الْأَلْبَابِ تَشْمَلُهُمْ جَمِيعًا، فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَمِيعِ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ بِحُكْمِهَا عَلَى بَعْضِ مَنْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمْعِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ فَهُوَ مُرَادٌ بِهِ، كَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْتُولًا; لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ إذَا كَانَ قَاتِلًا أَوْ مَقْتُولًا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ: "وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" وَهُوَ الْعَبْدُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ بِأَوَّلِ الْخِطَابِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ قَاتِلًا فَهُوَ مُرَادٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُ: "وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إذَا كَانَ قَاتِلًا، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إرَادَتَهُ إذَا كَانَ مَقْتُولًا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَدْنَاهُمْ عَدَدًا، هُوَ كَقَوْلِهِ: وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ فِي إيجَابِ اقْتِصَارِ حُكْمِ أَوَّلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ عَبْدُهُمْ، لَمْ يُوجِبْ تَخْصِيصَ حُكْمِهِ فِي مُكَافَأَةِ دَمِهِ لِدَمِ الْحُرِّ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ آخَرُ اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرًا، وَخَصَّ بِهِ الْعَبْدَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالسَّعْيِ بِذِمَّتِهِمْ. فَإِذَا كَانَ تَخْصِيصُ الْعَبْدِ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ تَخْصِيصَ حُكْمِ الْقِصَاصِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" يَقْتَضِي التَّمَاثُلَ فِي الدِّمَاءِ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِثْلًا لِلْحُرِّ. قِيلَ لَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلًا لَهُ فِي الدَّمِ; إذْ عَلَّقَ حُكْمَ التَّكَافُؤِ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَمَنْ قَالَ لَيْسَ بِمُكَافِئٍ لَهُ فَهُوَ خَارِجٌ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخَالِفٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا فِي إحْدَى ثَلَاثٍ: التَّارِكُ لِلْإِسْلَامِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ بِالنَّفْسِ". وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا حَكَى اللَّهُ مِمَّا كَتَبَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَحَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ بَاقٍ عَلَيْنَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَامًّا فِي سَائِرِ النُّفُوسِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ

قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: "الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ" فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إيجَابُ الْقَوَدِ فِي كُلِّ عَمْدٍ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: نَفَى بِهِ وُجُوبَ الْمَالِ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْمَالُ مَعَ الْقَوَدِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْقَوَدِ دُونَهُ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْعَبْدَ مَحْقُونُ الدَّمِ حَقْنًا لَا يَرْفَعُهُ مُضِيُّ الْوَقْتِ، وَلَيْسَ بِوَلَدٍ لِلْقَاتِلِ، وَلَا مِلْكٍ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْحُرُّ الْأَجْنَبِيَّ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا قَتَلَ حُرًّا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، كَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ الْحُرُّ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ. وَأَيْضًا فَمَنْ مَنَعَ أَنْ يُقَادَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، فَإِنَّمَا مَنَعَهُ لِنُقْصَانِ الرِّقِّ 1 الَّذِي فِيهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيمَا دُونَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَشَرَةً لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ، وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْمُسَاوَاةُ، كَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَحِيحَ الْجِسْمِ سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ قَتَلَ رَجُلًا مَفْلُوجًا مَرِيضًا مُدْنَفًا مَقْطُوعَ الْأَعْضَاءِ قُتِلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ مَعَ نُقْصَانِ عَقْلِهَا وَدِينِهَا، وَدِيَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ، وَأَنَّ الْكَامِلَ يُقَادُ مِنْهُ لِلنَّاقِصِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَتُؤْخَذُ النَّفْسُ الصَّحِيحَةُ بِالسَّقِيمَةِ. وَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ الْحَكَمِ، أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالَا: "مَنْ قَتَلَ عَبْدًا عَمْدًا فهو قود".

_ 1 قوله: "لنقصان الرق" إضافة النقصان إلى الرق بيانية أي النقصان هو الرق "لمصححه".

بَاب قَتْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَتْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، فَقَالَ قَائِلُونَ، وَهُمْ شَوَاذٌّ: يُقْتَلُ بِهِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُقْتَلُ بِهِ. فَمَنْ قَتَلَهُ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [المائدة: 45] عَلَى نَحْوِ مَا احْتَجَجْنَا بِهِ فِي قَتْلِ الحر بالحر، وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ". أَمَّا ظَاهِرُ الْآيِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْقِصَاصَ فِيهَا لِلْمَوْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وَوَلِيُّ الْعَبْدِ هُوَ

مَوْلَاهُ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَمَا يَمْلِكُهُ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ الْوَلِيَّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ وَارِثَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَا يَرِثُهُ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْوَارِثِ إنَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ إلَيْهِ، وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِغَيْرِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَيَنْتَقِلُ إلَى مَوْلَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ ابْنُ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؟ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمَتَى وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَوْلَاهُ دُونَهُ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى مَوْلَاهُ بِقَتْلِهِ إيَّاهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فَنَفَى بِذَلِكَ مِلْكَ الْعَبْدِ نَفْيًا عَامًّا عَنْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَجْزِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، وَالْمَوْلَى إذَا اسْتَحَقَّ مَا يَجِبُ لَهُ فَلَا يَجِبُ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ فِي هَذَا كَالْحُرِّ لِأَنَّ الْحُرَّ يَثْبُتُ لَهُ الْقِصَاصُ ثُمَّ مِنْ جِهَتِهِ يَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَمَنْ حُرِمَ مِيرَاثَهُ بِالْقَتْلِ لَمْ يَرِثْهُ الْقَوَدَ فَكَانَ الْقَوَدُ لِمَنْ يَرِثُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ دَمُ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْوَجْهِ كَمَالِهِ; لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ قَتْلَهُ، وَلَا الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ قَتْلَهُ، وَلَا الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِهِ وَلَكِنَّهُ وَلِيٌّ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِهِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، مِنْ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ دُونَ أَقْرِبَائِهِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَوَدَ بِهِ كَمَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ. فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَحَالَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَوَدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْلَى إذَا كَانَ هُوَ الْمُعْتَدِي بِقَتْلِ عَبْدِهِ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَدِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِقَتْلِ عَبْدِهِ وَإِتْلَافِ مِلْكِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُخَاطَبًا بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَقَّ لِمَنْ اُعْتُدِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يُقِيدُ الْإِمَامُ مِنْهُ كَمَا يُقِيدُ مِمَّنْ قَتَلَ رَجُلًا لَا وَارِثَ لَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَقُومُ الْإِمَامُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ الْقَوَدِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِمِيرَاثِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يُورَثُ فَيَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِقِيمَتِهِ عَلَى قَاتِلِهِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَدُونَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ الْحُرَّ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ لَوْ قُتِلَ خَطَأً كَانَتْ دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ فَكَذَلِكَ الْقَوَدُ لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْمَوْلَى لَمَا اسْتَحَقَّهُ الْإِمَامُ، وَلَكَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي

يَسْتَحِقُّهُ، وَيَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذَلِكَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَبَطَلَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَقْبُرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ صَفْوَانَ النَّوْفَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَاهُ سَنَةً، وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ فَنَفَى هَذَا الْخَبَرُ ظَاهِرَ مَا أَثْبَتَهُ خَبَرُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ظَاهِرِ الْآيِ وَمَعَانِيهَا مِنْ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَوَدَ لِلْمَوْلَى، وَمِنْ نَفْيِهِ لِمِلْكِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَلَوْ انْفَرَدَ خَبَرُ سَمُرَةَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْخَبَرِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَمَا جَازَ الْقَطْعُ بِهِ لِاحْتِمَالِهِ لِغَيْرِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ جَدَعَهُ أَوْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ هَدَّدَهُ بِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ" يَعْنِي عَبْدَهُ الْمُعْتَقَ الَّذِي كَانَ عَبْدَهُ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعَادَةِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبِلَالٍ حِينَ أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: "أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ"، وَقَدْ كَانَ حُرًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "اُدْعُوَا لِي هَذَا الْعَبْدَ الْأَبْظَرَ" 1 يَعْنِي شُرَيْحًا حِينَ قَضَى فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَالْمُرَادُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا" يَعْنِي الَّتِي كَانَتْ يَتِيمَةً. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ" مَا وَصَفْنَاهُ فِيمَنْ كَانَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ، وَزَالَ بِهَذَا تَوَهُّمُ مُتَوَهِّمٍ لَوْ ظَنَّ أَنَّ مَوْلَى النِّعْمَةِ لَا يُقَادُ بِمَوْلَاهُ الْأَسْفَلِ كَمَا لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ. وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَسْبِقَ إلَى ظَنِّ بَعْضِ النَّاسِ أَنْ لَا يُقَادَ بِهِ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَعَلَ حَقَّ مَوْلَى النِّعْمَةِ كَحَقِّ الْوَالِدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" فَجَعَلَ عِتْقَهُ لِأَبِيهِ كِفَاءً لِحَقِّهِ وَمُسَاوِيًا لِيَدِهِ عِنْدَهُ وَنِعْمَتِهِ لديه، والله أعلم.

_ 1 قوله: "الأبظر" هو الذي في شفته العليا طول مع نتوء "لمصححه".

بَابُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] فَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "لَا قِصَاصَ بَيْنَ

الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا فِي الْأَنْفُسِ"، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ بَيْنَهُمْ قِصَاصًا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: الْقِصَاصُ وَاقِعٌ فِيمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَنْفُسِ وَمَا دُونَهَا إلَّا أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: إذَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ عَقَلَهَا وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إذَا قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَتْهُ بِجِرَاحَةٍ قَالَ: وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا أَوْ جَرَحَهَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِامْرَأَةٍ أَقَادَهُمْ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا. وَاخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، فَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا نِصْفَ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِي امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا عَمْدًا قَالَ: تُقْتَلُ، وَتَرُدُّ نِصْفَ الدِّيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُرْسَلٌ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ رُوَاتِهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَتَانِ كَانَ سَبِيلُهُمَا أَنْ تَتَعَارَضَا، وَتَسْقُطَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. وَعَلَى أَنَّ رِوَايَةً الْحَكَمِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَسَائِرُ الْآي الْمُوجِبَةِ لِلْقَوَدِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الدِّيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَزِيدَ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ. حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَرْشُ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ: "يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ" فعفا القوم، فقال عليه السلام: "إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ الْقِصَاصُ دُونَ الْمَالِ فَلَا جَائِزٌ إثْبَاتُ الْمَالِ مَعَ الْقِصَاصِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُهُ مَعَ إعْطَاءِ الْمَالِ; لِأَنَّ الْمَالَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بَدَلًا مِنْ النَّفْسِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ قَتْلُ النَّفْس بِالْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَضِيَ أَنْ يُقْتَلَ، وَيُعْطَى مَالًا يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفْسَ بِالْمَالِ؟ فَبَطَل أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَوْقُوفًا عَلَى إعْطَاءٍ الْمَالِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ الْقَاتِلَةَ قُتِلَتْ، وَأُخِذَ

مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، فَقَوْلٌ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْآي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَيُوجِبُ زِيَادَةَ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً، وَعَلَيْهَا أَوْضَاحٌ لَهَا، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهَا. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ". وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَتْلُ جَمَاعَةِ رِجَالٍ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ مَعَ اسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ، وَشُهْرَتِهِ عَنْهُ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلِ مَالٍ، مَا قَدَّمْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ، الْمُسَاوَاة بَيْنَ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّقِيمَةِ، وَقَتْلِ الْعَاقِلِ بِالْمَجْنُونِ، وَالرَّجُلِ بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي النُّفُوسِ، وَأَمَّا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاة، وَاجِبٌ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ أَخْذِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ. وَكَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ أَصْحَابُنَا الْقِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ; لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَعْضَائِهَا غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ، وَيَدُ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ كَمَا قُطِعَتْ الْيَدُ الشَّلَّاءُ بِالصَّحِيحَةِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا لَا مِنْ جِهَةِ النَّقْصِ، فَصَارَ كَالْيُسْرَى لَا تُؤْخَذُ بِالْيُمْنَى، وَأَوْجَبَ أَصْحَابُنَا الْقِصَاصَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِتَسَاوِي أَعْضَائِهِمَا مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي أَحْكَامِهِمَا، وَلَمْ يُوجِبُوا الْقِصَاصَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ; لِأَنَّ تَسَاوِيَهُمَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ. كَمَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ; لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى عِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ أَعْضَاءَ الْعَبْدِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْجَانِي فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّفْسُ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فِي الْخَطَأ، وَتَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ فَفَارَقَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَاب قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُقْتَلُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "إنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَائِرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ يُوجِبُ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ شَيْءٌ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى

بِالْأُنْثَى} وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى خُصُوصِ أَوَّلِ الْآيَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ; لِاحْتِمَالِ الْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ عَطْفَ بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ حُكْمِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِنَا حُكْمَ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] يَقْتَضِي عُمُومُهُ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ; لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّنَا مَا لَمْ يَنْسَخْهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَصِيرُ حِينَئِذٍ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وهو قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلَى آخِرِهَا هُوَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إيجَابِهِ الْقِصَاصَ فِي السِّنِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي قَدَّنَا حِينَ قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ: "كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ"، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ السِّنُّ بِالسِّنِّ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَبَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مُوجِبِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَيْنَا، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْنَا شَرِيعَةُ مِنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِنَفْسِ وُرُودِهَا لَكَانَ قَوْلُهُ كَافِيًا فِي بَيَانِ مُوجَبِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ مِنْ حُكْمِهَا عَلَيْنَا مِثْلَ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ حُكْمِ الْآيَةِ لَنَا، وَثُبُوتُهُ عَلَيْنَا، وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ قَدْ أَلْزَمَنَا هَذَا الْحُكْمَ قَبْلَ إخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِمَّا شَرَّعَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ مَا لَمْ يُنْسَخْ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا، وَصَفْنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَجَبَ إجْرَاءُ حُكْمِهَا عَلَيْهِمَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وَقَدْ ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ انْتَظَمَ الْقَوَدَ، وَلَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصْ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ فَهُوَ عَلَيْهِمَا. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: "أَلَا، وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَوَلِيُّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَحَدِيثُ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ". وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "الْعَمْدُ قَوَدٌ". وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَقْتَضِي عُمُومُهَا قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ. وَرَوَى رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمَانِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ، وَقَالَ: "أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ". وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام مثله.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ، عَنْ عُثْمَانَ الْفَزَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ، عَنْ وَاسِطَ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجْلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةَ إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ ابْنِي، وَلِيَ بَيِّنَةٌ فَجَاءَ الشُّهُودُ فَشَهِدُوا، وَسَأَلَ عَنْهُمْ فَزُكُّوا، فَأَمَرَ بِالْمُسْلِمِ فَأَقْعِدَ، وَأُعْطِيَ الْحِيرِيُّ سَيْفًا وَقَالَ: أَخْرِجُوهُ مَعَهُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَلْيَقْتُلْهُ، وَأَمْكَنَّاهُ مِنْ السَّيْفِ، فَتَبَاطَأَ الْحِيرِيُّ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ: هَلْ لَكَ فِي الدِّيَةِ تَعِيشُ فِيهَا، وَتَصْنَعُ عِنْدَنَا يَدًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَغَمَدَ السَّيْفَ، وَأَقْبَلَ إلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: لَعَلَّهُمْ سَبُّوكَ وَتَوَاعَدُوكَ؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ، وَلَكِنِّي اخْتَرْتُ الدِّيَةَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَل عَلِيٌّ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَعْطَيْنَاهُمْ الَّذِي أَعْطَيْنَاهُمْ لِتَكُونَ دِمَاؤُنَا كَدِمَائِهِمْ، وَدِيَاتُنَا كَدِيَاتِهِمْ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْن مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْعَبَّادِيِّينَ 1، فَقَدِمَ أَخُوهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ يُقْتَلَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا جُبَيْرُ اُقْتُلْ فَجَعَلَ يَقُولُ: حَتَّى يَأْتِيَ الْغَيْظُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ لَا يُقْتَلَ، وَيُودَى. وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْكِتَابَ، وَرَدَ بَعْد أَنْ قُتِلَ، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَتَبَ أَنْ يَسْأَلَ الصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ حِينَ كُتِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابن إدريس، عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: "إذَا قَتَلَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قُتِلَ بِهِ". وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ مِهْرَانَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِيَهُودِيٍّ فَقُتِلَ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَابَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافَهُ. وَاحْتَجَّ مَانِعُو قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" رَوَاهُ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ. وَقِيلَ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ سِوَى الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَا عَهْدِي إلَّا كِتَابٌ فِي قِرَابِ سَيْفِي، وَفِيهِ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ"، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا

_ 1 قوله: "من العباديين" بكسر العين: فرقة من النصارى كانوا يسكنون في الحيرة "لمصححه".

عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ سِنَانِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ طَلْحَةَ بْن مُصَرِّفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ". وَلِهَذَا الْخَبَرِ ضُرُوبٌ مِنْ التَّأْوِيلِ كُلُّهَا تُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْآيِ وَالسُّنَنِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ بِذَحْلِ 1 الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَلَا إنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمَ بِالْكَافِرِ الَّذِي قَتَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: "كُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ" لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فِي حَدِيثٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّ عَهْدَ الذِّمَّةِ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ إلَى مُدَدٍ لَا عَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمِهِ. وَكَانَ قَوْلُهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" مُنْصَرِفًا إلَى الْكُفَّارِ الْمُعَاهَدِينَ; إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِمِّيٌّ يَنْصَرِفُ الْكَلَامُ إلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] وَقَالَ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَئِذٍ ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْحَرْبِ، وَمَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ: أَهْلُ عَهْدٍ إلَى مُدَّةٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَهْلُ ذِمَّةٍ، فَانْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الضَّرْبَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَفِي فَحْوَى هَذَا الْخَبَرِ وَمَضْمُونِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُعَاهَدِ دُونَ الذِّمِّيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا قَبْلَهُ، فَهُوَ إذًا مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرِ، وَضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ الْمُسْتَأْمَنِ هُوَ الْحَرْبِيُّ، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ "وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ الْمَبْدُوُّ قَتْلًا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا فِي الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ الضَّمِيرِ قَتْلًا مُطْلَقًا، إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْخِطَابِ ذِكْرُ قَتْلٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، ولا يقتل ذو

_ 1 الذحل بالذل المعجمة والحاء المهملة: طلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح، والذحل العداوة أيضا، "لمصححه".

عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِالْكَافِرِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا. وَلَوْ أَضْمَرْنَا قَتْلًا مُطْلَقًا كُنَّا مُثْبِتِينَ لِضَمِيرٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَكَانَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هُوَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ، كَانَ قَوْلُهُ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالذِّمِّيِّ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْعَهْدِ يَحْظُرُ قَتْلَهُ مَا دَامَ فِي عَهْدِهِ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، لَأَخْلَيْنَا اللَّفْظَ مِنْ الْفَائِدَةِ، وَحُكْمُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلُهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي الْفَائِدَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إلْغَاؤُهُ، وَلَا إسْقَاطُ حُكْمِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَهْدَ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْفِي قَتْلَ الْمُؤْمِنِ بِسَائِرِ الْكُفَّارِ. قِيلَ: هُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ قَدْ عَزَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ أَيْضًا إلَى الصَّحِيفَةِ. وَكَذَلِكَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَإِنَّمَا حَذَفَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الْعَهْدِ، فَأَمَّا أَصْلُ الْحَدِيثِ فَوَاحِدٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ مَرَّةً مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ذِي الْعَهْدِ، وَتَارَةً مَعَ ذِكْرِ ذِي الْعَهْدِ. وَأَيْضًا فَقَدْ وَافَقْنَا الشَّافِعِيَّ عَلَى أَنَّ ذِمِّيًّا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَوَدُ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ الْقِصَاصِ ابْتِدَاءً لَمَنَعَهُ إذَا طُرِئَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصِ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ إذَا قَتَلَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا وَرِثَ ابْنُهُ الْقَوَدَ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَمَنَعَ مَا عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَائِهِ كَمَا مَنَعَ ابْتِدَاءَ وُجُوبِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ، وَلَوْ جَرَحَهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ سَقَطَ الْقَوَدُ، فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ. فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقَتْلُ بَدِيًّا لَمَا وَجَبَ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَقَاءِ حَيَاةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الذِّمِّيِّ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ بَقَاءَهُ حِينَ حَقَنَ دَمَهُ بِالذِّمَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ كَمَا يُوجِبُهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُكَ عَلَى هَذَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الدَّمِ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ الدَّمِ إبَاحَةً مُؤَجَّلَةً، أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَتْرُكُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَنُلْحِقُهُ بِمَأْمَنِهِ وَالتَّأْجِيلُ لَا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ لَا يُخْرِجُهُ التَّأْجِيلُ عَنْ وُجُوبِهِ؟ وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ مَنَعَ الْقِصَاصَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" قَالُوا: وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ دَمِ الْكَافِرِ مُكَافِئًا لِدَمِ الْمُسْلِمِ. وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا; لِأَنَّ

قَوْلَهُ "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" لَا يَنْفِي مُكَافَأَةَ دِمَاءَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ إيجَابُ التَّكَافُؤِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ فَهَذِهِ كُلُّهَا فَوَائِدُ هَذَا الْخَبَرِ وَأَحْكَامُهُ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا إيجَابُ الْقَوَدِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَتَكَافُؤُ دِمَائِهِمَا، وَنَفْيٌ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إذَا قَتَلُوا الْقَاتِلَ أَوْ إعْطَاءِ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ قَتْلِهَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ. فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" قَدْ أَفَادَ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَهُوَ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذَّمَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ تَكَافُؤَ دِمَاءِ الْكُفَّارِ حَتَّى يُقَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ الْبَعْضِ إذَا كَانُوا ذِمَّةً لَنَا، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَكَافُؤَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا سَرَقَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَادَ مِنْهُ; لِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ مَالِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ فِي مَال مَوْلَاهُ، وَيُقْتَلُ بِهِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ; لِأَنَّ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ قَدْ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ ذَلِكَ حَدًّا لَا قَوَدًا، وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقَتْلِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ قَتْلِ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَعُمُومُهَا يُوجِبُ الْقَتْلَ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ كَانَ مَحْجُوجًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَاب قَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، فَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا يُقْتَلُ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ قَالَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوَّوْا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ: يُقَادُ الْجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ، وَكَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ، وَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ بِهِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ذَبَحَهُ قُتِلَ بِهِ، وَإِنْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ. وَالْحُجَّةُ لِمَنْ أَبَى قَتْلَهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ". وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ

قَوْلِهِ "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"، وَنَحْوِهِ فِي لُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ، وَكَانَ فِي حَيَّزِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "لَا يُقَادُ الْأَبُ بِابْنِهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ" فَأَضَافَ نَفْسَهُ إلَيْهِ كَإِضَافَةِ مَالِهِ، وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَنْفِي الْقَوَدَ كَمَا يَنْفِي أَنْ يُقَادَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ لِإِطْلَاقِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْمِلْكَ فِي الظَّاهِرِ، وَالْأَبُ وَإِنَّ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِابْنِهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ اسْتِدْلَالَنَا بِإِطْلَاقِ الْإِضَافَةِ; لِأَنَّ الْقَوَدَ يُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، وَصِحَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِهِ. وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ"، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ; فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ" فَسَمَّى وَلَدَهُ كَسْبًا لَهُ كَمَا أَنَّ عَبْدَهُ كَسْبُهُ، فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ قَتَلَ عَبْدَ ابْنِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ، كَذَلِكَ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ. وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ} [لقمان: 14 – 15] الْآيَةَ، فَأَمَرَ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَرَهُ بِالشُّكْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ. وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ قَتْلِهِ إذَا قَتَلَ وَلِيًّا لِابْنِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ; لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ بِقَتْلِ الِابْنِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِابْنِ الْمَقْتُولِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولُ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 2] وَلَمْ يُخَصِّصْ حَالًا دُونَ حَالٍ، بَلْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَمْرًا مُطْلَقًا عَامًّا. فَغَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ حَقِّ الْقَوَدِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ قَتْلَهُ لَهُ يُضَادُّهُ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي مُعَامَلَةِ وَالِدِهِ. وَأَيْضًا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ، وَكَانَ مُشْرِكًا مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ مَعَ قُرَيْشٍ يُقَاتِلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَوْ جَازَ لِلِابْنِ

قَتْلُ أَبِيهِ فِي حَالٍ لَكَانَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِذَلِكَ حَالَ مَنْ قَاتَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، إذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَالذَّمِّ وَالْقَتْلِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ، فَلَمَّا نَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَتْلِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَتْلَهُ بِحَالٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ لَمْ يُحَدَّ لَهُ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ لَمْ يُحْبَسْ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُضَادُّ مُوجَبَ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ مَالَ الِابْنِ لِأَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا يُجْعَلُ مَالُ الْعَبْدِ، وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يُحْكَمْ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ إلَّا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ مَالِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَكَانَ كَافِيًا فِي كَوْنِهِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يَخُصَّ آيَ الْقِصَاصِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَالِد غَيْرُ مُرَادٍ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِمَنْ شَارَكَ غَيْرَهُ فِي الْقَتْلِ، وَأَنَّ عَشَرَةً لَوْ قَتَلُوا رَجُلًا عَمْدًا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ قَاتِلًا لِلنَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا فِي الْحُكْمِ لِلنَّفْسِ يَلْزَمُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا يَلْزَمُ الْمُنْفَرِدَ بِالْقَتْلِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ، فَيَثْبُتُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ مَنْ أَتْلَفَ جَمِيعَ النَّفْسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فَالْجَمَاعَةُ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ لِلنَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَوْ قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلًا أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً، أَوْ أَحَدُهُمَا مَجْنُونٌ، وَالْآخَرُ عَاقِلٌ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِي حُكْمِ أَخْذِ جَمِيعِ النَّفْسِ، فَيَثْبُتُ لِجَمِيعِهِمَا حُكْمُ الْخَطَإِ، فَانْتَفَى مِنْهُمَا حُكْمُ الْعَمْدِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ حُكْمِ الْخَطَإِ لِلْجَمِيعِ، وَحُكْمُ الْعَمْدِ لِلْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ وَالصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْخَطَإِ لِلْجَمِيعِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْعَمْدِ لِلْجَمِيعِ وَجَبَ الْقَوَدُ فِيهِ؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِي النَّفْسِ وَوُجُوبِ الْقَوَدِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِيفَائِهِمَا جَمِيعًا، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ لِلنَّفْسِ الْمُتْلِفَةِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ أَنْ لَا يَثْبُتَ مَعَهُ قَوَدٌ عَلَى أَحَدٍ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ يُوجِبُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ يَنْفِي وُجُوبَ الْأَرْشِ لِشَيْءٍ منها.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّبِيِّ، وَالْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْعَاقِلِ، وَالْعَامِدِ، وَالْمُخْطِئِ يَقْتُلَانِ رَجُلًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبَا الْمَقْتُولِ فَعَلَى الْأَبِ وَالْعَاقِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَالْمُخْطِئُ وَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا اشْتَرَكَ الصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ فِي قَتْلِ رَجْلٍ قُتِلَ الرَّجُلُ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَى عَاقِلَتِهِمَا الدِّيَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَتَلَ رَجُلٌ مَعَ صَبِيِّ رَجُلًا فَعَلَى الصَّبِيِّ الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ إذَا قَتَلَا عَبْدًا، وَالْمُسْلِمُ وَالنَّصْرَانِيُّ إذَا قَتَلَا نَصْرَانِيًّا قَالَ: إنْ شَرَكَهُ قَاتِلٌ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَجِنَايَةُ الْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَصَّلَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، وَأَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْآخَرِ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَوَدِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَمْدًا، وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْآخَرِ لِحُصُولِ حُكْمِ الْخَطَإِ لِلنَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَطَأً وَعَمْدًا مُوجِبًا لِلْمَالِ وَالْقَوَدِ فِي حَالِ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مُتْلَفًا، وَبَعْضُهَا حَيًّا؟ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ حَيًّا مَيِّتًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. فَلَمَّا امْتَنَعَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ فِي حُكْمِ الْمُتْلِفِ لِجَمِيعِهَا، فَوَجَبَ بِذَلِكَ قِسْطُهَا مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَحْكُومًا لِلْجَمِيعِ بِحُكْمِ الْخَطَإِ. فَلَا جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُحْكَمَ بِهَا بِحُكْمِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا جَمِيعُ الدِّيَةِ. وَيُشْبِهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا الْوَاطِئَ لِجَارِيَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ; لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي نَصِيبِهِ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِعَدَمِ التَّبْعِيضِ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي رَجُلَيْنِ سَرَقَا مِنْ ابْنِ أَحَدِهِمَا: إنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمُشَارَكَتِهِ فِي انْتِهَاكِ الْحِرْزِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَطْعَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ تَعَلُّق حُكْمِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَامِدِ، وَالصَّحِيحِ وَالْبَالِغِ مُوجِبٌ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِقَضِيَّةِ اسْتِدْلَالِكَ بِالْآيِ الَّتِي تَلَوْتَ إذَا كَانَ قَاتِلًا لِجَمِيعِ النَّفْسِ مُتْلِفًا لِجَمِيعِ الْحَيَاةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ فِي حَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ. وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ الْعَامِدُونَ لِقَتْلِ رَجُلٍ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَوَدَ; إذْ كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ أَتْلَفَ الْجَمِيعَ مُنْفَرِدًا بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ قَتْلَ الْعَاقِلِ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ، وَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِمُشَارَكَةِ مَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُشَارِكَ الَّذِي لَا قَوَدَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَلَمَّا وَجَبَ فِيهِ الْأَرْشُ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ تَبْعِيضِهَا فِي حَالِ الْإِتْلَافِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ، وَمَا لَا قَوَدَ فِيهِ. ولما كان

الْوَاجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَوَدُ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ دُونَ جَمِيعِهَا، ثَبَتَ أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَوَجَبَ جَمِيعُ الدِّيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا جَمِيعًا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ لَأَقَدْنَا مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ مُنْفَرِدًا بِهِ؟ فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمُشَارِكِ الَّذِي لَا قَوَدَ عَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَأَنَّ النَّفْسَ قَدْ صَارَتْ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ; فَلِذَلِكَ انْقَسَمَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهِمْ. وَمِنْ حَيْثُ وَافَقْنَا الشَّافِعِيَّ فِي قَاتِلِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ; لِمُشَارَكَتِهِ فِي الْقَتْلِ مَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَأَيْضًا فَوَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْمَالِ وَالْقَوَدِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا فَوَجَبَ الْمَالُ انْتَفَى وُجُوبُ الْقِصَاصِ؟ وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ إذَا وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ سَقَطَ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ إذَا وَجَبَ بِهَا الضَّمَانُ سَقَطَ الْقَطْعُ عِنْدَنَا; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَّا مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْقَوَدِ وَالْحَدِّ، فَلَمَّا وَجَبَ الْمَالُ فِي مَسْأَلَتِنَا بِالِاتِّفَاقِ انْتَفَى بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِيمَا وَصَفْنَا أَوْلَى مِنْ إيجَابِهِ: أَنَّ الْقَوَدَ قَدْ يَتَحَوَّلُ مَالًا بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالْمَالُ لَا يَتَحَوَّلُ قَوَدًا بِوَجْهٍ، فَكَانَ مَا لَا يَنْفَسِخُ إلَى غَيْرِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِمَّا يَنْفَسِخُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَى الْآخَرِ، وَكَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِهِمَا مُسْقِطًا لَهُ عَنْ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْعَامِدِينَ إذَا قَتَلَا رَجُلًا ثُمَّ عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْآخَرَ يُقْتَلُ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَقُولُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيدَ مِنْ الْعَامِدِ إذَا شَارَكَهُ الْمُخْطِئُ; إذْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ لَا حَظَّ لَهَا فِي نَفْيِ الْقَوَدِ عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَوْ انْفَرَدَ، وَإِنْ كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِ قَاتِلَيْ الْعَمْدِ بِالْعَفْوِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ فِي الْمُخْطِئِ وَالْعَامِدِ لَمْ يَلْزَمْنَا فِي الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ. وَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ لِلْآخَرَيْنِ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَا يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ; إذْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ وَجَدَهُ مِنْهُمَا دُونَ مَنْ لَمْ يَجِدْ. وَأَيْضًا مَسْأَلَتُنَا فِي الْوُجُوبِ ابْتِدَاءً إذَا وَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ فَيَسْتَحِيلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ فِي الْحُكْمِ كَمُتْلِفٍ دُونَ الْآخَرِ، وَاسْتَحَالَ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ دُونَ شَرِيكِهِ. وَأَيْضًا فَالْوُجُوبُ حُكْمٌ غَيْرُ الِاسْتِيفَاءِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اعْتِبَارُ حَالِ الِاسْتِيفَاءِ بِحَالِ الْوُجُوبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الِاسْتِيفَاءِ تَائِبًا وَلِيًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى؟ وَجَائِزٌ أَنْ يَتُوبَ الزَّانِي فَيَكُونُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَاقِيًا عَلَيْهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُوبُ الْحَدِّ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ؟

فَمَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الْوُجُوبِ بِحَالِ الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُغْفِلٌ لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَتَى عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ حُكْمُ قَتْلِهِ فَصَارَ الْبَاقِي فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ بِقَتْلِهِ فَلَزِمَهُ الْقَوَدُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فَحُكْمُ فِعْلِهِ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهِ الْخَطَإِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِحَظْرِ دَمِ مَنْ شَارَكَهُ; إذْ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالنَّظَرِ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَمَّنْ شَارَكَهُ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، جَازَ أَنْ يَخُصَّ بِهِمَا مُوجِبَ حُكْمِ الْآيِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الْقِصَاصُ مِنْ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} [الإسراء: 33] وَ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ السُّنَنِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ وَلِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ عَامٌّ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَجَائِزٌ تَخْصِيصُهُ بِدَلَائِلِ النَّظَرِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي مَنْعِهِ إيجَابَ الْقَوَدِ عَلَى الْعَامِدِ إذَا شَارَكَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ، فَقَالَ: إنْ كُنْتَ رَفَعْتَ عَنْهُ الْقَتْلَ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا، وَأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ، فَهَلَّا أَقَدْتَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَتَلَ عَمْدًا مَعَ الْأَبِ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْ الْأَبِ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ. وَهَذَا تَرْكٌ لِأَصْلِهِ. قَالَ الْمُزَنِيّ: "قَدْ شَرَكَ الشَّافِعِيُّ مُحَمَّدًا فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; لِأَنَّ رَفْعَ الْقِصَاصِ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ شَرَكَهُمْ فِي الْعَمْدِ وَاحِدٌ".

مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ اطِّرَادُهَا وَلَا يَجِبُ انْعِكَاسُهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيُّ إلْزَامٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ; لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ عَكْسَ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَمْدُهُ خَطَأً أَنْ لَا يُفِيدَ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا، فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ عَمْدُهُ خَطَأً فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ بَلْ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلِيلِهِ; لِأَنَّهُ عَكْسُ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ اعْتَلَّ بِعَلَّةٍ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَعْكِسَهَا، وَيُوجِبَ مِنْ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا ضِدَّ مُوجِبِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا قُلْنَا: وُجُودُ الْغَرَرِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِجَوَازِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرَرِ؟ بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَمْنَعَ الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرَرِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ بَائِعُهُ، أَوْ شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا لَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ، أَوْ يَكُونَ مَجْهُولَ الثَّمَنِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُفْسِدَةِ لِعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ عِنْدَ زَوَالِ الْغَرَرِ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ دَلَالَة الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْعَقْدِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى ارْتِيَاضٍ بِنَظَرِ الْفِقْهِ.

وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ" وَقَتِيلُ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ وَالْمُخْطِئِ وَالْعَامِدِ هُوَ خَطَأُ الْعَمْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَّرَ قَتْلَ خَطَإِ الْعَمْدِ بِأَنَّهُ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، فَإِذَا اشْتَرَكَ مَجْنُونٌ مَعَهُ عَصًا وَعَاقِلٌ مَعَهُ سَيْفٌ فَهُوَ قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ لِقَضِيَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا قِصَاصَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ; لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا خَطَأٌ أَوْ عَمْدٌ أَوْ شِبْهُ عَمْدٍ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَتْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْحَيِّزَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْ الْخَطَإِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَقَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْقَاطَ الْقَوَدِ عَنْ مُشَارِكِهِ فِي الْقَتْلِ; لِأَنَّهُ قَتِيلُ خَطَأٍ أَوْ قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ دِيَةً مُغَلَّظَةً، وَمَتَى وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً انْتَفَى الْقَوَدُ بِالِاتِّفَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ" إذَا انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا. قِيلَ لَهُ: مُشَارَكَةُ غَيْرِهِ فِيهِ بِالسَّيْفِ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَقَتِيلَ خَطَأٍ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ كَانَ قَاتِلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَتِيلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَاشْتَمَلَ لَفْظُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَانْتَفَى بِهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَالَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ اخْتِلَافُ حُكْمِ مُشَارَكَةِ الْمَجْنُونِ لِلْعَاقِلِ وَالْمُخْطِئِ لِلْعَامِدِ، أَنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا، وَهُوَ مَجْنُونٌ ثُمَّ أَفَاقَ وَجَرَحَهُ أُخْرَى بَعْدَ الْإِفَاقَةِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْهُمَا، أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ خَطَأً ثُمَّ جَرَحَهُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ جَرَحَهُ، وَمَاتَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقَوَدِ، وَالْأُخْرَى مُوجِبَةٌ يُوجِبُ إسْقَاطَ الْقَوَدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِانْفِرَادِ الْجِرَاحَةِ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا عَنْ الْأُخْرَى حُكْمٌ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ، بَلْ كَانَ الْحُكْمُ لِلَّتِي لَمْ تُوجِبْ قَوَدًا، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَوْ انْفَرَدَ أَوْجَبَتْ جِرَاحَتُهُ الْقَوَدَ، وَالْأُخْرَى لَا تُوجِبُهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سُقُوطِهِ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ إيجَابِهِ لِحُدُوثِ الْمَوْتِ مِنْهُمَا، فَكَانَ حُكْمُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ مَا يُوجِبُهُ، وَالْعِلَّةُ فِيهَا مَوْتُهُ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِمَّا تُوجِبُ الْقَوَدَ، وَالْأُخْرَى مِمَّا لَا تُوجِبُهُ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: مَا قَسَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ بَدِيًّا، هُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالْعَامِدِ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ، كَمَا لَمْ تَخْتَلِفْ جِنَايَةُ الْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ ثُمَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ إذَا حَدَثَ الْمَوْتُ مِنْهُمَا. وَجِنَايَةُ الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ إذَا حَدَثَ الْمَوْتُ مِنْهُمَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ فِي الْحَالَيْنِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ جِنَايَةِ الصَّحِيحِ لمشاركة

الْمَجْنُونِ، وَحُكْمُ جِنَايَةِ الْعَامِدِ لِمُشَارَكَةِ الْمُخْطِئِ، وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ مَا يَجِبُ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْعَمْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إيجَابَ الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إلَّا الْقِصَاصُ، وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ عَفَا الْمُفْلِسُ عَنْ الْقِصَاصِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْوِصَايَةِ وَالدَّيْنِ مَنْعُهُ; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ بِالْعَمْدِ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَيًّا أَوْ بِمَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ مَيِّتًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ آيِ الْقُرْآنِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي اللَّفْظِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ تُوجِبُ نَسْخَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَحَظَرَ أَخْذَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِرِضَاهُ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ. وَبِمِثْلِهِ قَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" فَمَتَى لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ، وَلَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسُهُ فَمَالُهُ مَحْظُورٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَدَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ". وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا 1 أَوْ فِي زَحْمَةٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ أَوْ رِمِّيًّا تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَأٍ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدَيْهِ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ

_ 1 العميا بكسر العين والميم المشددة وفتح الياء المشددة بعدها ألف مقصورة، ومثله الرميا: ومعناه أن يوجد قتيل بين المترامين لا يتبين قاتله. "لمصححه".

السَّلَامُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ خِيَارٌ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْقَوَدِ دُونَهَا; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَيَقْتَصِرُ بِالْبَيَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْيِ التَّخْيِيرِ، وَمَتَى ثَبَتَ فِيهِ تَخْيِيرٌ بَعْدَهُ كَانَ نَسْخًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ الْآخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَلَا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ لَهُ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً هَكَذَا غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَحَدَّثَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى كَمَا حَدَّثَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ سَيِّئَ الْحِفْظِ كَثِيرَ الْخَطَإِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَاوُسٌ رَوَاهُ مَرَّةً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَرَّةً أَفْتَى بِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ، فَلَيْسَ إذًا فِي ذَلِكَ مَا يُوهِنُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فَقَالَ قَائِلُونَ: الْعَفْوُ مَا سَهُلَ وَمَا تَيَسَّرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مَا سَهُلَ مِنْ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ" يَعْنِي تَيْسِيرَ اللَّهِ وَتَسْهِيلَهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يَعْنِي الْوَلِيَّ إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ فَلْيَقْبَلْهُ وَلْيَتَّبِعْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، فَنَدَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَخْذِ الْمَالِ إذَا سَهُلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْفِيفٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، كَمَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] فَنَدَبَهُ إلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ نَدَبَهُ بِمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى قَبُولِ الدِّيَةِ إذَا بَذَلَهَا الْجَانِي; لِأَنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ عَفْوِ الْجَانِي بِإِعْطَاءِ الدِّيَةِ ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ، وَأَمَرَ الْجَانِيَ بِالْأَدَاءِ بِالْإِحْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْنَى فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ الْقِصَاصُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فِيمَا كَانَ كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ: بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ نَاسِخَةً لِمَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ حَظْرِ قَبُولِ الدِّيَةِ، وَأَبَاحَتْ لِلْوَلِيِّ قَبُولَ الدِّيَةِ إذَا بَذَلَهَا الْقَاتِلُ تَخْفِيفًا مِنْ اللَّهِ عَلَيْنَا وَرَحْمَةً بِنَا فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا

ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا مِنْ إيجَابِ التَّخْيِيرِ لَمَا قَالَ فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يُطْلَقُ إلَّا فِيمَا بَذَلَهُ غَيْرُهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: إذَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى كَانَ عِنْدَ جَوَازِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ امْتِنَاعِ قَبُولِ الدِّيَةِ ثَابِتٌ عَلَى مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن قتادة في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قَالَ: يَقُولُ مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الدِّيَةُ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ الْعَرَبِ قِتَالٌ فَقُتِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ: لَا نَرْضَى حَتَّى نَقْتُلَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَبِالرَّجُلِ الرَّجُلَيْنِ، وَارْتَفَعُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقَتْلُ بَوَاءٌ" أَيْ سَوَاءٌ فَاصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَاتِ، فَفَضَلَ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قَالَ سُفْيَانُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يَعْنِي: فَمَنْ فَضَلَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ بِالْمَعْرُوفِ. فَأَخْبَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ السَّبَبِ فِي نُزُولِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هَهُنَا الْفَضْلُ وَهُوَ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] يَعْنِي كَثُرُوا، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَعْفُوا اللِّحَى" فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ: فَمَنْ فَضَلَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَاتِ الَّتِي وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهَا فَلْيَتَّبِعْهُ مُسْتَحِقٌّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ فِي الدَّمِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ إذَا عَفَا بَعْضُهُمْ تَحَوَّلَ نَصِيبُ الْآخَرِينَ مَالًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ لَفْظِ الْآيَةِ يُوَافِقُهُ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَفْوِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ لَا عَنْ جَمِيعِهِ، فَيَتَحَوَّلُ نَصِيبُ الشُّرَكَاءِ مَالًا، وَعَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الْقَاتِلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِمْ بِإِحْسَانِ. وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ; لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَكُونُ مَعَ أَخْذِ الدِّيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ" فَأُثْبِتَ لَهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ: قَتْلٌ أَوْ عَفْوٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ مَالًا بِحَالٍ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا عَفَا عَنْ الدَّمِ لِيَأْخُذَ الْمَالَ كَانَ عَافِيًا وَيَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ فَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَافِيًا بِتَرْكِ الْمَالِ وَأَخْذِ الْقَوَدِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو الْوَلِيُّ مِنْ عَفْوِ قَتْلٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ لَا يُطْلِقُهُ أَحَدٌ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى

يَنْفِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْعَافِي بِتَرْكِ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ عَفَا لَهُ وَإِنَّمَا يُقَالَ لَهُ عَفَا عَنْهُ فَيَتَعَسَّفُ فَيُقِيمُ "اللَّامَ" مَقَامَ عَنْ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَنْ الدَّمِ فَيُضْمِرُ حَرْفًا غَيْرَ مَذْكُورٍ، وَنَحْنُ مَتَى اسْتَغْنَيْنَا بِالْمَذْكُورِ عَنْ الْمَحْذُوفِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ الْحَذْفِ. وَعَلَى أَنَّ تَأْوِيلَنَا هُوَ سَائِغٌ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ ضَمِيرٍ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى التَّسْهِيلِ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ بِإِعْطَائِهِ الْمَالَ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فَقَوْلُهُ: {مِنْ} تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيُوجِبُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ دَمِ أَخِيهِ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ هُوَ عَفْوٌ عَنْ جَمِيعِ الدَّمِ، وَتَرْكُهُ إلَى الدِّيَةِ، وَفِيهِ إسْقَاط حكم {مِنْ} ومن وجه آخر وهو قوله: {شَيْءٌ} . وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ لَا عَنْ جَمِيعِهِ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْجَمِيعِ لَمْ يُوفِ الْكَلَامَ حَظَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ; لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ الدَّمِ وَطُولِبَ بِالدِّيَةِ، فأسقط حكم قوله: {مِنْ} وقوله: {شَيْءٌ} وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى إلْغَاءِ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهَا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَمَتَى اُسْتُعْمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ مُوَافِقًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطٍ مِنْهُ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ نُزُولِهَا عَلَى السَّبَبِ، وَمَا فَضَلَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الدِّيَاتِ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ فَضَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فِيهِ التَّقَاضِي، وَذَلِكَ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةٍ وَشَيْءٌ مِنْهَا، فَتَنَاوَلَ اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّهُ إنْ سَهَّلَ لَهُ بِإِعْطَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَالْوَلِيُّ مَنْدُوبٌ إلَى قَبُولِهِ مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَدْ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا لِلْبَعْضِ بِأَنْ يَبْذُلَ بَعْضَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ كُلٍّ مِمَّا أَتْلَفَهُ. وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ الْإِخْبَارَ بِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ إيجَابِ حُكْمِ الْقَوَدِ، وَمَعَ أَخْذِ الْبَدَلِ، فَتَأْوِيلُنَا أَيْضًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَدُّ مُلَاءَمَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ الصُّلْحِ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَقَعُ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَذَكَرَ الْبَعْضَ، وَأَفَادَ بِهِ حُكْمَ الْكُلِّ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] نَصَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ بِعَيْنِهِ، وَأَرَادَ بِهِ مَا فَوْقَهُ، فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَفْوَ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ نَصِيبِهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُوَاطِئُ ظَاهِرَ الْآيَةِ لِوُقُوعِ الْعَفْوِ عَنْ الْبَعْضِ دُونَ الْجَمِيعِ. فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُصْرَفُ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِمَّنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ فَتَأْوِيلُهُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ غَيْرَ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ لِلْوَالِي الْعَفْوَ عَنْ الْجَمِيعِ، وَأَخْذِ الْمَالِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَعَانِي الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَنْ مُتَأَوِّلِيهَا مُرَادَةً بِالْآيَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا عَلَى سَبَبَ نَسْخٍ بِهَا مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَأُبِيحَ لَنَا بِهَا أَخْذُ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَيَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْدُوبًا إلَى الْقَبُولِ إذَا تَسَهَّلَ لَهُ الْقَاتِلُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ، وَمَوْعُودًا عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ، وَيَكُونُ السَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ حُصُولَ الْفَضْلِ مِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِي

الدِّيَاتِ، فَأُمِرُوا بِهِ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأُمِرَ الْقَاتِلُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمْ بِإِحْسَانٍ، وَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الدَّمِ إذَا عَفَا عَنْهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ، وَهِيَ مُرَادَةٌ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا تَأَوَّلَهُ الْمُخَالِفُونَ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ لِلْوَلِيِّ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا; إذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَأْوِيلَاتِ الْآخَرِينَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: "عَفَتِ الْمَنَازِلُ": إذَا تُرِكَتْ حَتَّى دُرِسَتْ، وَالْعَفْوُ عَنْ الذُّنُوبِ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا، فَيُفِيدُ ذَلِكَ تَرْكَ الْقَوَدِ إلَى الدِّيَةِ. قِيل لَهُ: إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَوْ تَرَكَ الدِّيَةَ، وَأَخَذَ الْقَوَدَ أَنْ يَكُونَ عَافِيًا; لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِأَخْذِ الدِّيَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى تَرْكُ الْمَالِ وَإِسْقَاطُهُ عَفْوًا، قَالَ اللَّهُ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فَأَطْلَقَ اسْمَ الْعَفْوِ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَالِ. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ امْتِنَاعُ إطْلَاقِ الْعَفْوِ عَلَى مَنْ آثَرَ أَخْذَ الْقَوَدِ وَتَرَكَ أَخْذَ الدِّيَةِ، فَكَذَلِكَ الْعَادِلُ عَنْ الْقَوَدِ إلَى أَخْذِ الدِّيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْعَافِي; إذْ كَانَ إنَّمَا اخْتَارَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا كَانَ الَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ حَقَّ الْوَاجِبِ لَهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ عِنْدَ فِعْلِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَانَ الْعِتْقُ هُوَ كَفَّارَتَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ مَا عَدَاهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَرْضِهِ؟ كَذَلِكَ هَذَا الْوَلِيُّ لَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ قَوَدٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْعَافِي لِتَرْكِهِ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ. فَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْعَفْوِ مُنْتَفِيًا عَمَّنْ ذَكَرْنَا لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَكَانَتْ الْمَعَانِي الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا أَوْلَى بِتَأْوِيلِهَا. ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو الْوَاجِبُ لِلْوَلِيِّ بِنَفْسِ الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ جَمِيعًا أَوْ الْقَوَدَ دُونَ الدِّيَةِ أَوْ أَحَدَهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ الْوَلِيُّ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَفِي إثْبَاتِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ، وَنَفْيٌ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ، وَمِثْلُهُ عِنْدَنَا يُوجِبُ النَّسْخَ، فَإِذَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُهُ، فَلَا جَائِزٌ لَهُ أَخْذُ الْمَالِ إلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قِبَلَ غَيْرِهِ حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءَهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى بَدَلٍ غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. وَعَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ مُخْطِئٌ فِي الْعِبَارَةِ حِينَ قَالَ: الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ; إذْ قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَوَدَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ الْمَالَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: "الْوَاجِبُ هُوَ الْمَالُ، وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْقَوَدِ بَدَلًا مِنْهُ" كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ، فَلَمَّا فَسَدَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ أَنَّ

الواجب هو المال، وله نقله إلى القود لِإِيجَابِهِ التَّخْيِيرَ. كَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ، وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْمَالِ; إذْ لَمْ يَنْفَكَّ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ إيجَابِ التَّخْيِيرِ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا كَتَبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصَ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَلَمْ يَقُلْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْمَالُ فِي الْقَتْلَى، وَلَا: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ أَوْ الْمَالُ فِي الْقَتْلَى. وَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقَوَدُ، وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْمَالِ إنَّمَا عَبَّرَ عَنْ التَّخْيِيرِ الَّذِي أَوْجَبَهُ لَهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا كَمَا تَقُولُ: إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ، وَلَهُمَا جَمِيعًا نَقْلُهُ إلَى الْمَالِ بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي جَوَازِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْمَالِ إسْقَاطٌ لِمُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ مِنْ الْقِصَاصِ. قِيلَ لَهُ: مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بَدِيًّا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ تَخْيِيرٍ لَهُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَغَيْرِهِ، وَتَرَاضِيهِمَا عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْبَدَلِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِتَرَاضِيهِمَا لَا يُؤْمَرُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمْلِكُ الْعَبْدَ وَالدَّارَ، وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ، وَلَيْسَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ نَفْيٌ لِمِلْكِ الْأَصْلِ لِمَالِكِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا مُوجِبًا لَأَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْخِيَارِ؟ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَمْلِكُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَيَمْلِكُ الْخُلْعَ، وَأَخْذَ الْبَدَلِ عَنْ الطَّلَاقِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إثْبَاتُ مِلْكِ الطَّلَاقِ لَهُ بَدِيًّا، عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي نَقْلِهِ إلَى الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَأْخُذَ الْمَالَ بَدِيًّا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَالٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ هُوَ الْقَوَدَ لَا غَيْرُ حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي قَدَّمْنَا إسْنَادَهُ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ حِينَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ" فَأَخْبَرَ أَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابِ هُوَ الْقِصَاصُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إثْبَاتُ شَيْءٍ مَعَهُ، وَلَا نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُ الْكِتَابِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا احْتِمَالَ الْآيَةِ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ تَأْوِيلِهَا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} مَعَ احْتِمَالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، كَانَ أَكْبَرُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} مُحْكَمٌ ظَاهِرُ الْمَعْنَى بَيِّنُ الْمُرَادِ لَا اشْتِرَاكَ فِي لَفْظِهِ، وَلَا احْتِمَالَ فِي تَأْوِيلِهِ. وَحُكْمُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ، وَيُرَدَّ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إلَى قَوْلِهِ: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ; لِأَنَّ وَصْفَهُ لِلْمُحْكَمِ بِأَنَّهُ أُمُّ الْكِتَابِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ; إذْ كَانَ أُمُّ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُ. ثُمَّ ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ، وَاكْتَفَى بِمَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ تَأْوِيلِهِ

مِنْ غَيْرِ رَدٍّ لَهُ إلَى الْمُحْكَمِ، وَحَمْلِهِ عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي مَعْنَاهُ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالزَّيْغِ فِي قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} مُحْكَمٌ. وَقَوْلَهُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} مُتَشَابِهٌ وَجَبَ حَمْلُ مَعْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لَهُ وَلَا إزَالَةٍ لِشَيْءٍ مِنْ حُكْمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِمَّا لَا يَنْفِي مُوجَبَ لَفْظِ الْآيَةِ مِنْ الْقِصَاصِ، مِنْ غَيْرِ مَعْنًى آخَرَ يُضَمُّ إلَيْهِ، وَلَا عُدُولَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] إذْ كَانَتْ النَّفْسُ مِثْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ الْقَوَدُ، فَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ هُوَ الْقَوَدَ، وَإِتْلَافَ نَفْسِهِ كَمَا أَتْلَفَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُتْلِفِ الْمَالِ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِالتَّرَاضِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَبِدَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ لِلْوَلِيِّ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقَوَدِ، وَأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ بِأَخْبَارٍ مِنْهَا: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يُودَى"، وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْكَعْبِيَّ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "أَلَا إنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَإِنِّي عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا" وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْعَرْجَاءِ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ بِخَبْلٍ يَعْنِي الْجِرَاحَ فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: بَيْنَ الْعَفْوِ أَوْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ". وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَا ذَكَرُوا لِاحْتِمَالِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَخْذَ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَالْمَعْنَى فِدَاءً بِرِضَى الْأَسِيرِ. فَاكْتَفَى بِالْمَحْذُوفِ عَنْ ذِكْرِهِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَالِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ". وَقَوْلُهُ: "أَوْ يُودَى" وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ: إنْ شِئْتَ فَخُذْ دَيْنَك دَرَاهِمَ، وَإِنْ شِئْتَ دَنَانِيرَ. وَكَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبِلَالٍ حِينَ أَتَاهُ بِتَمْرٍ: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ " فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْهُ بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: "لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ بِعْ تَمْرَكَ بِعَرْضٍ ثُمَّ خُذْ بِالْعَرْضِ هَذَا"، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ بِالْعَرْضِ بِغَيْرِ رِضَى الْآخَرِ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ الدِّيَةَ إبَانَةً عَمَّا نَسَخَهُ اللَّهُ عَمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ امْتِنَاعِ أَخْذِ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ، وَبِغَيْرِ رِضَاهُ تَخْفِيفًا عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَخْذُ الدِّيَةِ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَيَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ فِيهِ: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يُفَادِيَ". وَالْمُفَادَاةُ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَالْمُقَاتَلَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُشَاتَمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ أَخْذُ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ هُوَ الْقَوَدُ، وَلِلْوَلِيِّ نَقْلُهُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ فِي جَمِيعِهَا إثْبَاتَ التَّخْيِيرِ لِلْوَلِيِّ بِنَفْسِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدَ لَا غَيْرُ، وَإِنَّمَا لِلْوَلِيِّ نَقْلُهُ إلَى الدِّيَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَمَا يَنْقُلُ الدَّيْنَ إلَى الْعَرْضِ، وَالْعَرْضَ إلَى الدَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ مُوجِبٌ بِنَفْسِ الْقَتْلِ بَلْ الْوَاجِبُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقَوَدُ، وَالْقَائِلُ بِإِيجَابِ الْقَوَدِ بِالْقَتْلِ دُونَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُلَهُ الْوَلِيُّ إلَى الدِّيَةِ، مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْآثَارِ. وَقَدْ رَوَى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ"، وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ الْمَالَ أَوْ الْقِصَاصَ. وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا، فَدَفَعَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ ثُمَّ قَالَ: "أَتَعْفُو؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: "أَفَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ " قَالَ: لَا قَالَ: "أَمَا إنَّك إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ" فَمَضَى الرَّجُلُ فَلَحِقَهُ النَّاسُ فَقَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَا إنَّكَ إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ فَعَفَا عَنْهُ". فَاحْتَجَّ الْمُوجِبُونَ لِلْخِيَارِ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْمَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ بِرِضَى الْقَاتِلِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ حِينَ جَاءَتْ تَشْكُوهُ: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِضَى ثَابِتٍ قَدْ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْخَبَرِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يُلْزِمُ ثَابِتًا الطَّلَاقَ، وَلَا يُمَلِّكُهُ الْحَدِيقَةَ إلَّا بِرِضَاهُ. وَجَائِزٌ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ إلَى أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا عَلَى مَالٍ فَيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى رِضَى الْقَاتِلِ أَوْ فَسْخِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الدِّيَةَ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا فَعَلَ فِي قَتِيلِ الْخُزَاعِيِّ بِمَكَّةَ، وَكَمَا تَحَمَّلَ عَنْ الْيَهُودِ دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا بِخَيْبَرَ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ قَاتِلٌ كَمَا أَنَّهُ قَاتِلٌ، لَا أَنَّكَ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ; لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقًّا لَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَكَانَ آثِمًا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كُنْتَ مِثْلَهُ فِي الْمَأْثَمِ. وَالْآخَرُ: أَنَّكَ إذَا قَتَلْتَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَيْتَ حَقَّكَ مِنْهُ، وَلَا فَضْلَ لَكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْإِفْضَالِ بِالْعَفْوِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ

أَخْذَ الْمَالِ. قِيلَ لَهُ: وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ غَيْرَهُ إذَا خَافَ عَلَيْهِ التَّلَفَ، مِثْلَ أَنْ يَرَى إنْسَانًا قَدْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِالْقَتْلِ أَوْ خَافَ عَلَيْهِ الْغَرَقَ، وَهُوَ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ، أَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ، وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْجُوعِ، فَعَلَيْهِ إحْيَاؤُهُ بِإِطْعَامِهِ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ إعْطَاءُ الْمَالِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَعَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا إحْيَاؤُهُ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ إجْبَارُ الْوَلِيِّ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ إذَا بَذَلَهُ الْقَاتِلُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الْقِصَاصِ أَصْلًا; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْيَاءُ نَفْسِ الْقَاتِلِ فَعَلَيْهِمَا التَّرَاضِي عَلَى أَخْذِ الْمَالِ، وَإِسْقَاطِ الْقَوَدِ. وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي إذَا طَلَبَ الْوَلِيُّ دَارِهِ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ دِيَاتٍ كَثِيرَةً أَنْ يُعْطِيَهُ; لِأَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِيمَا يَلْزَمُهُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ إعْطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ بِذَلِكَ انْتِقَاضُ هَذَا الِاعْتِلَالِ وَفَسَادُهُ. وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيّ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى مَالٍ أَوْ مِنْ كَفَالَةٍ بِنَفْسٍ لَبَطَلَ الْحَدُّ وَالْكَفَالَةُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَمٍ عَمْدٍ عَلَى مَالٍ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ قُبِلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دَمَ الْعَمْدِ مَالٌ فِي الْأَصْلِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ الصُّلْحُ كَمَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْكَفَالَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ هَذَا الِاحْتِجَاجَ الْخَطَأُ وَالْمُنَاقَضَةُ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِالصُّلْحِ وَيَبْطُلُ الْمَالُ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَا تَبْطُلُ أَيْضًا، وَالْأُخْرَى: أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَأَمَّا الْمُنَاقَضَةُ فَهِيَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَالٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلْزِمَهَا مَالًا عَنْ طَلَاقٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا. وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْهُ إنَّ عَفْوَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الدَّمِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَالدَّيْنِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ فِي الْعَمْدِ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الدَّمُ مَالًا فِي الْأَصْلِ لَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ عِنْدَهُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ خِيَارًا بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] يُوجِبُ لِوَلِيِّهِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَخْذِ الْقَوَدِ وَالْمَالِ; إذْ كَانَ اسْمُ السُّلْطَانِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، نَحْوَ قَتِيلِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ، وَبَعْضُهُمْ يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] "إنَّهُ إنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ" فَلَمَّا احْتَمَلَ السُّلْطَانُ مَا وَصَفْنَا وَجَبَ إثْبَاتُ سُلْطَانِهِ فِي أَخْذِ الْمَالِ كَهُوَ فِي أَخْذِ الْقَوَدِ

لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَالٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ. وَلَمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ مُجْتَمِعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَكَمَا احْتَجَجْتُمْ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ بِقَوْلِهِ: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ، وَصَارَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَجَعَلْتُمُوهُ كَعُمُومِ لَفْظِ الْقَوَدِ، فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ الْمَالِ لِوُجُودِنَا مَقْتُولِينَ ظُلْمًا يَكُونُ سُلْطَانُ الْوَلِيِّ هُوَ الْمَالُ قِيلَ لَهُ: حَمْلُهُ عَلَى الْقَوَدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الدِّيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي كَانَ مُتَشَابِهًا يَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَهِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِالسُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا فِي الْآيَةِ الْمُحْكَمَةِ مِنْ ذِكْرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ. وَلَيْسَ مَعَكَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ فِي إيجَابِ الْمَالِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ بِمَعْنَى الِاسْمِ عَلَى الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِمَعْنَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى تَخْيِيرِهِ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ الْقَوَدِ فَلَمْ يَلْجَأْ إلَى أَصْلٍ لَهُ مِنْ الْمُحْكَمِ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ. وَفِي فَحْوَى الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: السَّرَفَ فِي الْقِصَاصِ بِأَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ أَنْ يُمَثِّلَ بِالْقَاتِلِ فَيَقْتُلَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ الْقَتْلِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: سُلْطَانًا الْقَوَدُ. وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوَدِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ انْتَفَتْ إرَادَةُ الْمَالِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادًا مَعَ الْقَوَدِ لَكَانَ الْوَاجِبُ هُمَا جَمِيعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ إرَادَتُهُمَا جَمِيعًا، وَكَانَ الْقَوَدُ لَا مَحَالَةَ مُرَادًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمَالَ، وَأَنَّ إيجَابَنَا لِلدِّيَةِ فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا لَيْسَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ تعالى أعلم.

بَاب الْعَاقِلَةِ هَلْ تَعْقِلُ الْعَمْدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَقَدْ قَدَّمْنَا تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّمِ، وَوُجُوبِ الْأَرْشِ لِلْبَاقِينَ، وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عَمْدٍ فِيهِ الْقَوَدُ فَهُوَ عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ، كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ،

وَكَالْجِرَاحَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْجَائِفَةِ، فَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ إذَا قَتَلَا أَنَّ عَلَى الْعَامِدِ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَالْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ، وَلَا يَمِينَ لَهُ كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهِ، وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ فِي مَالِ الْجَانِي فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُ ذَلِكَ مَالُهُ حُمِلَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مُتَعَمِّدَةً، وَلَهَا مِنْهُ أَوْلَادٌ فَدِيَتُهُ فِي مَالِهَا خَاصَّةً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مَالُهَا حُمِلَ عَلَى عَاقِلَتِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَسُقُوطَ الْقَوَدِ بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ يُوجِبُ الدِّيَةَ فِي مَالِ الْجَانِي; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَهُوَ يَعْنِي الْقَاتِلَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى عَفْوَ بعض الأولياء، ثم قال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي اتِّبَاعَ الْوَلِيِّ لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يَعْنِي أَدَاءَ الْقَاتِلِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهَ عَلَى التَّرَاضِي عَنْ الصُّلْحِ عَلَى مَالٍ فَفِيهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ، إذْ لَيْسَ لِلْعَاقِلَةِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُ الْوَلِيِّ وَالْقَاتِلِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَطِيبُ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: اصْطَلَحَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَا يَعْقِلُوا عَبْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّةِ قَتَادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُدْلِجِيِّ الَّذِي قَتَلَ ابْنَهُ: أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَاهَا إخْوَتَهُ، وَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْهَا شَيْئًا فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ لَمَّا كَانَ عَمْدًا، وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَلَمْ يُخَالِفْ عُمَرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا دُونَهَا إذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ.، وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَقْلٌ فِي عَمْدٍ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا: مَا كَانَ مِنْ صُلْحٍ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَشِيرَةُ إلَّا أَنْ تَشَاءَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ شَيْءٍ لَا يُقَادُ مِنْهُ فَهُوَ فِي مَالِ الْجَانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ: لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ صُلْحًا وَلَا عَمْدًا وَلَا اعْتِرَافًا. قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} فِيهِ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ حَيَاةً لِلنَّاسِ وَسَبَبًا لِبَقَائِهِمْ; لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ إنْسَانٍ رَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ. وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عُمُومًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ

وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِتَبْقِيَةِ الْجَمِيعِ، فَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ مَوْجُودَةٌ فِي هَؤُلَاءِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِهِمْ. وَتَخْصِيصُهُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِالْمُخَاطَبَةِ غَيْرُ نَافٍ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ; إذْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي حُكِمَ مِنْ أَجْلِهِ فِي ذَوِي الْأَلْبَابِ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِ لَهُمْ أَنَّ ذَوِي الْأَلْبَابِ هُمْ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يُخَاطَبُونَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ إلَى مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، وَيَزْدَجِرُونَ عَمَّا يُزْجَرُونَ عَنْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] هُوَ مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وَنَحْوِ قَوْلِهِ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وَهُوَ هُدًى لِلْجَمِيعِ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: 185] ؟ فَعَمَّ الْجَمِيعَ بِهِ. وَكَقَوْلِهِ: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] لِأَنَّ التَّقِيَّ هُوَ الَّذِي يُعِيذُ مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءُ الْجَمِيعِ. وَعَنْ غَيْرِهِ: الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَأَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ وَهُوَ كَلَامٌ سَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُقَلَاءِ، وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثُمَّ إذَا مَثَّلْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَجَدْتَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أن قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. وَالْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَهُوَ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ وَنُقْصَانِهَا عَمَّا حُكِيَ عَنْ الْحُكَمَاءِ قَدْ أَفَادَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقَتْلَ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ لِذِكْرِهِ الْقِصَاصَ، وَانْتَظَمَ مَعَ ذَلِكَ الْغَرَضَ الَّذِي إلَيْهِ أُجْرِيَ بِإِيجَابِهِ الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْحَيَاةُ. وَقَوْلَهُمْ: الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَقَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءُ الْجَمِيعِ وَالْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ إنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ; لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، بَلْ مَا كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا حُكْمَهُ. فَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ، وَمَجَازُهُ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ وَبَيَانٍ فِي أَنَّ أَيَّ قَتْلٍ هُوَ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. فَهَذَا كَلَامٌ نَاقِصُ الْبَيَانِ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ حُكْمِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِحُكْمِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ، أَلَا تَرَى أن قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أَقَلُّ حُرُوفًا مِنْ قَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ وَالْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ، وَأَنْفَى لِلْقَتْلِ؟ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فَضْلُ بَيَانِ قَوْلِهِ: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عَلَى قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ، وَأَنْفَى لِلْقَتْلِ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ تَكْرَارَ اللَّفْظِ، وَتِكْرَارُ الْمَعْنَى بِلَفْظِ غَيْرِهِ أَحْسَنُ فِي حَدِّ الْبَلَاغَةِ،

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَكْرَارُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ مِثْلُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] وَنَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا كَرَّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ بِلَفْظَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا، وَلَا يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي تَكْرَارِ اللَّفْظِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لَا تَكْرَارَ فِيهِ مَعَ إفَادَتِهِ لِلْقَتْلِ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ، إذْ كَانَ ذِكْرُ الْقِصَاصِ يُفِيدُ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِصَاصًا إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَهُ قَتْلٌ مِنْ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ؟ وَفِي قَوْلِهِمْ ذِكْرٌ لِلْقَتْلِ وَتِكْرَارٌ لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ فِي الْبَلَاغَةِ، فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ لِلْمُتَأَمِّلِ إبَانَةُ الْقُرْآنِ فِي جِهَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ; إذْ لَيْسَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ مَنْ جَمَعَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ مِثْلَ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

بَاب كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فَأَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيِ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِالْجَانِي أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ إلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إنْ قَتَلَهُ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِالنَّارِ أَوْ بِالتَّغْرِيقِ قَتَلَهُ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا قَتَلَهُ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: نَضْرِبُهُ مِثْلَ ضَرْبِهِ، وَلَا نَضْرِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْمُثْلَةَ وَيَقُولُونَ: السَّيْفُ يُجْزِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ غَمَسَهُ فِي الْمَاءِ فَإِنِّي لَا أَزَالُ أَغْمِسُهُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ.، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَبَسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ حُبِسَ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، كَانَ مَحْظُورًا عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِيفَاءُ زِيَادَةٍ عَلَى فِعْلِ الْجَانِي، وَمَتَى اسْتَوْفَى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالرَّضْخِ بِالْحِجَارَةِ وَالْحَبْسِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ

يَمُتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ أَوْ زَادَ عَلَى جِنْسِ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِدَاءُ الَّذِي زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلُ فِعْلِهِ سَوَاءً إنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَأَنْ يَقْتُلَهُ بِأَوْحَى وُجُوهِ الْقَتْلِ فَيَكُونَ مُقْتَصًّا مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ نَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ مَا جُعِلَ لَهُ. وَقَوْلُ مَالِكٍ بِتِكْرَارِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ زَائِدٌ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْقِصَاصِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ ثُمَّ يَقْتُلُهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَدْ اسْتَوْفَى فَقَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَدٍّ، وَمُجَاوَزَةٌ لِحَدِّ الْقِصَاصِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] . وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْقِصَاصِ هُوَ إتْلَافُ نَفْسٍ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ لِمِقْدَارِ الْفِعْلِ فَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ، فَلَا يَنْفَكُّ مُوجِبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخَالِفُونَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ لِمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْقِصَاصِ لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يَمْنَعُ أَنْ يُجْرَحَ أَكْثَرَ مِنْ جِرَاحَتِهِ أَوْ يُفْعَلَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ إذَا اجْتَهَدَ أَنَّهُ قَدْ وَضَعَ السِّكِّينَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ حَظٌّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقِصَاصُ عَلَى وَجْهٍ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَجَانٍ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ جِنَايَتِهِ؟ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا يُحَرِّقَهُ وَلَا يُغْرِقَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُهُ بِالْآيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ مُرَادًا ثَبَتَ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ إتْلَافُ نَفْسِهِ بِأَيْسَرِ وُجُوهِ الْقَتْلِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُهُ انْتَفَتْ إرَادَةُ التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالرَّضْخِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ; لِأَنَّ وُجُوبَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ يَنْفِي وُقُوعَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: اسْمُ الْمِثْلِ فِي الْقِصَاصِ يَقَعُ عَلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، وَعَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَلَهُ إنْ لَمْ يَمُتْ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ بَدِيًّا عَلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، فَيَكُونَ تَارِكًا لِبَعْضِ حَقِّهِ، وَلَهُ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الرَّضْخُ وَالتَّحْرِيقُ مُسْتَحِقًّا مَعَ قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقِصَاصَ، وَفِعْلَ الْمِثْلِ، وَمِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَاصَ لَا غَيْرُ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى يُنَافِي مَضْمُونَ اللَّفْظِ وَحُكْمَهُ. وَعَلَى أَنَّ الرَّضْخ بِالْحِجَارَةِ وَالتَّحْرِيقَ وَالتَّغْرِيقَ وَالرَّمْيَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِهِ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ هُوَ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فَلَيْسَ لِلرَّضْخِ حَدٌّ مَعْلُومٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ فِي مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ رَضْخِ الْقَاتِلِ

لِلْمَقْتُولِ، وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ وَالتَّحْرِيقُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْقِصَاصِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إتْلَافَ نَفْسِهِ بِأَوْحَى الْوُجُوهِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ فِي الْمُنَقِّلَةِ وَالْجَائِفَةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ عَلَى مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ الْجِنَايَةِ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ بِالرَّمْيِ وَالرَّضْخِ غَيْرُ مُمْكِنٍ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مَعْنَى الْإِيلَامِ، وَإِتْلَافِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي أَتْلَفَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْمِثْلُ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ: أَحَدُهُمَا إتْلَافُ نَفْسِهِ كَمَا أَتْلَفَ، فَيَكُونُ الْقِصَاصُ وَالْمِثْلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إتْلَافَ نَفْسٍ بِنَفْسٍ، وَالْآخَرُ: أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ، اسْتَعْمَلْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ فِي الْأَمْرَيْنِ; لِأَنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِيهِمَا، فَقُلْنَا: نَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ، وَإِلَّا اسْتَوْفَى الْمِثْلَ مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ النَّفْسِ قِيل لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ وَالْقِصَاصِ جَمِيعَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ بِالْمَقْتُولِ ثُمَّ يُقْتَلَ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ غَيْرَ مَجْمُوعٍ إلَى الْآخَرِ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ، وَهُوَ غَيْر مُنَافٍ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَأَمَّا إذَا جَمَعَهُمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْقِصَاصِ وَالْمِثْلِ بَلْ يَكُونُ زَائِدًا عَلَيْهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى يُضَادُّهَا، وَيَنْفِي حُكْمَهَا، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إرَادَةُ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الرَّضْخِ وَالتَّغْرِيقِ وَالْحَبْسِ وَالْإِجَاعَةِ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَازِبٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ"، وَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ حَوَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ مُرَادِ الْآيَةِ فِي ذِكْرِ الْقِصَاصِ وَالْمِثْلِ وَالْآخَرُ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عُمُومٍ يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْقَوَدِ بِغَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الْجِرَاحِ حَتَّى تَبْرَأَ"، وَهَذَا يَنْفِي قَوْلَ الْمُخَالِفِ لَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْجَانِي كَمَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِاسْتِثْنَائِهِ وَجْهٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ الِاسْتِثْنَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْجِرَاحَةِ مُعْتَبَرٌ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ حَالُهَا. فَإِنْ قِيلَ: يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، قِيلَ لَهُ: هَذَا قَوْلُ جُهَّالٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَى جَرْحِهِمْ، وَلَا تَعْدِيلِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقَةَ الْفُقَهَاءِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ، وَعَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيَّ قَدْ ذَكَر عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ أَحَبُّ إلَيَّ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ" فَأَوْجَبَ عُمُومُ لَفْظِهِ أَنَّ مَنْ لَهُ قَتْلُ غَيْرِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِأَحْسَنِ وُجُوهِ الْقَتْلِ، وَأَوْحَاهَا وَأَيْسَرِهَا، وَذَلِكَ يَنْفِي تَعْذِيبَهُ، وَالْمُثْلَةَ به.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانِ غَرَضًا", فَمَنَعَ بِذَلِكَ أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ رَمْيًا بِالسِّهَامِ. وَحُكِيَ أَنَّ الْقَسْمَ بْنَ مَعْنٍ حَضَرَ مَعَ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ بَعْضِ السَّلَاطِينِ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ؟ قَالَ: يُرْمَى فَيُقْتَلُ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالرَّمْيَةِ الْأُولَى؟ قَالَ: يُرْمَى ثَانِيًا. قَالَ: أَفَتَتَّخِذُهُ غَرَضًا، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانِ غَرَضًا؟ قَالَ شَرِيكٌ لَمْ تَمْرُقْ. فَقَالَ الْقَسْمُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا مَيْدَانٌ إنْ سَابَقْنَاكَ فِيهِ سَبَقْتَنَا، يَعْنِي الْبَذَاءَ، وَقَامَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ". وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: "مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا فِيهَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ". وَهَذَا خَبَرٌ ثَابِتٌ قَدْ تَلَقَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُثْلَةَ بِالْقَاتِلِ، وَقَوْلُ مُخَالِفِينَا فِيهِ الْمُثْلَةُ بِهِ، وَهُوَ يَثْنِي عَنْ مُرَادِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ، وَاسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَقْصُورًا عَلَى وَجْهِ الْمُثْلَةِ، وَيَسْتَعْمِلُ الْآيَةَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ مَعْنَى الْخَبَرِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا ثُمَّ نُسِخَ سَمْلُ الْأَعْيُنِ بِنَهْيِهِ عَنْ الْمُثْلَةِ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى آيَةِ الْقِصَاصِ مَحْمُولًا عَلَى مَا لَا مُثْلَةَ فِيهِ. وَاحْتَجَّ مُخَالِفُونَا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ صَبِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ". وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ ثَبَتَ كَانَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ الْمُثْلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَالْقَوَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَتَى، وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبَرَانِ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ كَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْيَهُودِيِّ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: عَدَا يَهُودِيٌّ عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا، وَرَضَخَ رَأْسَهَا فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ قَتَلَكِ; فُلَانٌ؟ " فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ لَا، ثُمَّ قَالَ: "فُلَانٌ؟ " يَعْنِي الْيَهُودِيَّ، قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ حَدًّا لَمَّا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَى وَجْهِ الْمُثْلَةِ كَمَا سَمَلَ الْعُرَنِيِّينَ ثُمَّ نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى قُتِلَ فَذَكَرَ فِي هَذَا

الْحَدِيثِ الرَّجْمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِصَاصٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِقُرْبِ مَحَالِّ الْيَهُودِ كَانَتْ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأُخِذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ حَرْبِيٌّ نَاقِضٌ لِلْعَهْدِ مُتَّهَمٌ بِقَتْلِ صَبِيٍّ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بِإِيمَاءِ الصَّبِيَّةِ وَإِشَارَتِهَا أَنَّهُ قَتَلَهَا; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ قَتْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَلَا مَحَالَةَ قَدْ كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ اسْتَحَقَّ بِهِ الْقَتْلَ لَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي عَلَى جِهَتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ إتْلَافُ نَفْسِهِ بِأَيْسَرِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ السَّيْفُ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْجَرَهُ خَمْرًا حَتَّى مَاتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجِرَهُ خَمْرًا، وَقُتِلَ بِالسَّيْفِ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مَعْصِيَةٌ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الْمُثْلَةُ مَعْصِيَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَاب الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {خَيْراً} أَرَادَ بِهِ مَالًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ حِينَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فرضا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] يَعْنِي فَرْضًا مُوَقَّتًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَهُ سَبْعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَصِيَّةَ فِي ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ الْوَصِيَّةَ فَمَنَعَهَا أَهْلُهَا، وَقَالُوا: لَهَا وَلَدٌ، وَمَالُهَا يَسِيرٌ، فَقَالَتْ: كَمْ وَلَدُهَا؟ قَالُوا: أَرْبَعَةٌ، قَالَتْ: فَكَمْ مَالُهَا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَكَأَنَّهَا عَذَرَتْهُمْ، وَقَالَتْ: مَا فِي هَذَا الْمَالِ فَضْلٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى خَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَوَى هَمَّامٌ عَنْ قتادة {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قَالَ: كَانَ يُقَالُ: خَيْرُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ فَإِنَّمَا تَأَوَّلُوا تَقْدِيرَ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِلْمَقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ الْمَالِ. وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ تَرَكَ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْعَادَةِ، وَكَانَ طَرِيقُ التَّقْدِيرِ فِيهَا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ لَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ التسمية، وأن

الْكَثِيرَ تَلْحَقُهُ، فَكَانَ طَرِيقُ الْفَصْلِ فِيهَا الِاجْتِهَادَ، وَغَالِبَ الرَّأْيِ مَعَ مَا كَانُوا عَرَفُوا مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ". وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا وَإِرْشَادًا. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ عَلَى الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بِأَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} فَلَمَّا قِيلَ فِيهَا {بِالْمَعْرُوفِ} وَإِنَّهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {بِالْمَعْرُوفِ} لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَالْآخَرُ: قَوْلُهُ: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، الثَّالِثُ: تَخْصِيصُهُ لِلْمُتَّقِينَ بِهَا وَالْوَاجِبَاتُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا; لِأَنَّ إيجَابَهَا بِالْمَعْرُوفِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا شَطَطَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ هَذَا الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وقَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] بَلْ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْوَاجِبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] وقال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [التوبة: 71] فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا بَلْ هُوَ يُؤَكِّدُ وُجُوبَهَا; إذْ كَانَ جَمِيعُ أَوَامِرِ اللَّهِ مَعْرُوفًا غَيْرَ مُنْكَرٍ. وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ ضِدَّ الْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُنْكَرُ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ هُوَ مُنْكَرٌ، وَالْمُنْكَرُ مَذْمُومٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ، فَإِذًا الْمَعْرُوفُ وَاجِبٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا; لِأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] وَلَا خِلَافَ بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ فَرْضٌ، فَلَمَّا جَعَلَ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَقَدْ أَبَانَ عَنْ إيجَابِهَا. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِيهِ اقْتِضَاءُ الْآيَةِ وُجُوبَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] نَفْيُ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُتَّقِينَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ، وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَّقِينَ، فَإِذًا عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ. وَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي إيجَابِهَا، وَتَأْكِيدِ فَرْضِهَا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} مَعْنَاهُ

فُرِضَ عَلَيْكُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، ثُمَّ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: {بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَلَا شَيْءَ فِي أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا حَقٌّ عَلَيْكَ وَتَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُ لِمُؤْمِنٍ يَبِيتُ ثَلَاثًا إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أيوب قال: سمعت نافعا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ". وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْغَازِي عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِهَا بَدِيًّا، فَقَالَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ: جَمِيعُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في هذه الْآيَةِ: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قَالَ: نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [البقرة: 233] . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قَالَ: "نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَرِثُ وَلَمْ يُنْسَخْ مَنْ لَا يَرِثُ". فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ: فِي أَحَدَيْهِمَا أَنَّ الْجَمِيعَ مَنْسُوخٌ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ مِمَّنْ يَرِثُ مِنْ الْأَقْرَبِينَ دُونَ مَنْ لَا يَرِثُ. وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عُمَارَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : "نَسَخَتْهَا الْفَرَائِضُ". وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَنُسِخَتْ عَمَّنْ

يَرِثُ وَجُعِلَتْ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ رَوَاهُ يُونُسُ وَأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِغَيْرِ ذِي الْقَرَابَةِ، وَلَهُ ذُو قَرَابَةٍ مِمَّنْ لَا يَرِثُهُ أَنَّ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ لِذِي الْقَرَابَةِ، وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ: يُرَدُّ كُلُّهُ إلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "لَا وَصِيَّةَ إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ". وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: "قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ وَاجِبَةً لِذِي الْقَرَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِجَمِيعِهِمْ، بَلْ كَانَ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لِلْأَبْعَدِينَ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ فَبَقِيَ الْأَبْعَدُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ أَوْ تَرْكِهَا". ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِنَسْخِهَا فِيمَا نُسِخَتْ بِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْهَا، وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] . وَقَالَ آخَرُونَ: نَسَخَهَا مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" رَوَاهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ"، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أُمَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَلَا إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَحَجَّاجَ بْنَ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ". وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ عَنْ ابْنِ عمر قال: "لا يجوز لوارث وصية". وهذا الْخَبَرُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. وَوُرُودُهُ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا هُوَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ، لِاسْتِقَامَتِهِ وَشُهْرَتِهِ فِي الْأُمَّةِ، وَتَلَقَّيْ الْفُقَهَاءُ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ، وَجَائِزٌ عِنْدَنَا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ، إذْ كَانَ فِي حَيِّزِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْآيَاتِ. فَأَمَّا إيجَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ لِلْوَرَثَةِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ مَعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَجَازَهَا لِلْوَارِثِ إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ؟ فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِوَاحِدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا آيَةُ الْمِيرَاثِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا جَعَلَ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُ أَنْ يُعْطَى قِسْطَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ يُعْطَى الْمِيرَاثَ بَعْدَهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَاب الرِّسَالَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَوَارِيثُ نَاسِخَةً لِلْوَصِيَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةٌ مَعَهَا، فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" اسْتَدْلَلْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَوَارِيثَ نَاسِخَةٌ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَعَ الْخَبَرِ الْمُنْقَطِعِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَعْطَى الْقَوْلَ بِاحْتِمَالِ اجْتِمَاعِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِذًا لَيْسَ فِي نُزُولِ آيَةِ الْمِيرَاثِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَلَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ مَنْسُوخَةً بِالْمِيرَاثِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالْخَبَرُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ، وَلَوْ وَرَدَ مِنْ جِهَةِ الِاتِّصَالِ وَالتَّوَاتُرِ لَمَا قَضَى بِهِ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثَابِتَةَ الْحُكْمِ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ; إذْ لَمْ يَرِدْ مَا يُوجِبُ نَسْخَهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سِتِّ مَمْلُوكِينَ أَعْتَقَهُمْ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. وَاَلَّذِي أَعْتَقَهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ إنَّمَا تَمْلِكُ مَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ الْعَجَمِ، فَأَجَازَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَوْ كَانَتْ تَبْطُلُ لِغَيْرِ قَرَابَةٍ بَطَلَتْ لِلْعَبِيدِ الْمُعْتَقِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةٍ لِلْمَيْتِ وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِهِ، فَأَمَّا اخْتِلَالُهُ فَقَوْلُهُ: إنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا تَمْلِكُ مَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ الْعَجَمِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَيَكُونُ أَقْرِبَاؤُهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ عَجَمًا، فَيَكُونُ الْعِتْقُ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمَرِيضُ وَصِيَّةً لِأَقْرِبَائِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَإِنَّمَا نَسَخَتْهَا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَارِثًا، فَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ فَلَيْسَ فِي إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ لِغَيْرِهِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ وَصِيَّتِهِ، وَأَمَّا انْتِقَاضُهُ عَلَى أَصْلِهِ فَإِيجَابُهُ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ بِخَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي عِتْقِ الْمَرِيضِ لِعَبِيدِهِ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ تَجْوِيزُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ، وَأَنَّهَا تَنْفُذُ عَلَى مَا أَوْصَى بِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَالزُّهْرِيِّ قَالُوا: "تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ حَيْثُ جَعَلَهَا". وَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ عَصْرِ التَّابِعِينَ عَلَى جَوَازِ الْوَصَايَا لِلْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ.

وَاَلَّذِي أَوْجَبَ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَنَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَأَجَازَهَا مُطْلَقَةً وَلَمْ يَقْصُرْهَا عَلَى الْأَقْرَبِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إيجَابُ نَسْخِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ قَدْ كَانَتْ فَرْضًا، وَفِي هَذِهِ إجَازَةُ تَرْكِهَا لَهُمْ، وَالْوَصِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ وَجَعْلٌ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ عَلَى سِهَامِ مَوَارِيثِهِمْ، وَلَيْسَ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا، وَقَدْ نَسَخَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَإِيجَابِ الْمَوَارِيثِ بَعْدَهَا الْوَصِيَّةَ الْوَاجِبَةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَيَكُونَ حُكْمُهَا ثَابِتًا لِمَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ يَقْتَضِي شُيُوعَهَا فِي الْجِنْسِ، إذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمُ النَّكِرَاتِ، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لَفْظُهَا لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُهَا إلَيْهَا; إذْ لَوْ أَرَادَهَا. لَقَالَ: "مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ" حَتَّى يَرْجِعَ الْكَلَامُ إلَى الْمُعَرَّفِ الْمَعْهُودِ مِنْ الْوَصِيَّةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَتْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى لَمَّا أَرَادَ الشُّهَدَاءَ الْمَذْكُورِينَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13] فَعَرَّفَهُمْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ; إذْ كَانَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الشُّهَدَاءَ. فَلَمَّا أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ جَائِزَةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ إلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ أَوْ لِلْقَاتِلِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي ثُبُوتِ ذَلِكَ نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَدَلَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَيْسُوا مِنْ الْأَقْرِبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَلِأَنَّهُمْ لَا يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ وَرَحِمِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَائِرُ الْأَرْحَامِ سِوَاهُمَا إنَّمَا يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ، فَالْأَقْرَبُونَ مَنْ يَقْرُبُ إلَيْهِ بِغَيْرِهِ، وَقَالَ: إنَّ وَلَدَ الصُّلْبِ لَيْسُوا مِنْ الْأَقْرَبِينَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ يُدْلِي بِرَحِمِهِ لَا بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَالِدَانِ مِنْ الْأَقْرَبِينَ، وَالْوَلَدُ أَقْرَبُ إلَى وَالِدِهِ مِنْ الْوَالِدِ إلَى وَلَدِهِ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْأَقْرَبِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ بَنِي فُلَانٍ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَدُهُ وَلَا وَالِدُهُ. وَيَدْخُلُ فِيهَا وَلَدُ الْوَلَدِ وَالْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُدْلِي إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ غَيْرِ مُدْلٍ بِنَفْسِهِ وَفِي مَعْنَى الْأَقْرِبَاءِ خِلَافٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ بِمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ"، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بِأَنْ لَا وَصِيَّةَ

لِوَارِثٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يُجِيزُوهَا. وَيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ إجَازَةَ الْوَرَثَةَ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ إجَازَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَيْسُوا بِوَرَثَةٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ لَهُمْ هَذِهِ السِّمَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، فَمَتَى أَجَازَ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ مَتَى أَجَازَتْ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هِبَةً مُسْتَأْنَفَةً مِنْ جِهَتِهِمْ فَتُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِ الْهِبَاتِ فِي شَرْطِ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَنَفْيِ الشُّيُوعِ فِيمَا يُقَسَّمُ، وَالرُّجُوعِ فِيهَا، بَلْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْجَائِزَةِ دُونَ الْهِبَاتِ مِنْ قِبَلِ مُجِيزِيهَا مِنْ الْوَرَثَةِ. وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ الَّتِي لَهَا مُجِيزٌ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَقَدَ الْوَصِيَّةَ عَلَى مَالٍ هُوَ لِلْوَارِثِ فِي حَالِ وُقُوعِ الْوَصِيَّةِ. وَجَعَلَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِيمَنْ عَقَدَ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ إجَارَةٍ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ مَالِكِهِ; إذْ كَانَ عَقَدًا لَهُ مَالِكٌ يَمْلِكُ ابْتِدَاءَهُ وَإِيقَاعَهُ، وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ; إذْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، كَمَا وَقَفَهَا النَّبِيَّ عَلَى إجَازَتِهِمْ إذَا أَوْصَى بِهَا لِوَارِثٍ فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا فِي ضِمْن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا أَجَازُوهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عن مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت، مثل الولد الذي قد بان عَنْ أَبِيهِ وَالْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَبَنَاتُهُ اللَّاتِي لَمْ يَبِنَّ مِنْهُ، وكل من في عياله، وإن كان قد احْتَلَمَ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ، وَمَنْ خَافَ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يُجِزْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ مِنْهُ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ إنْ صَحَّ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَرِيضِ يَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَذِنُوا لَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ اسْتَأْذَنَهُمْ فِي الصِّحَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إنْ شَاءُوا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذْنُهُمْ فِي حَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ بِحَقِّهِمْ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُ اللَّيْثِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوهُ فِي الْحَيَاةِ جَازَ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ" يَنْفِي

جَوَازَ الْوَصِيَّةِ فِي كُلِّ حَالِ، فَلَمَّا خُصَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ "إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ" وَهُمْ إنَّمَا يَكُونُونَ وَرَثَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ، فَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْجُمْلَةِ إجَازَتَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِ بَقِيَّةِ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّظَرُ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ; إذْ لَيْسُوا مَالِكِينَ لِلْمَالِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُمْ فِيهِ كَمَا لَا تَجُوزُ هِبَتُهُمْ وَلَا بَيْعُهُمْ، وَإِنْ حَدَثَ الْمَوْتُ بَعْدَهُ فَالْإِجَازَةُ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا تَقَعُ الْوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ الْإِجَازَةُ حُكْمُهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ وُقُوعِ الْوَصِيَّةِ، وَأَنْ لَا تَعْمَلَ الْإِجَازَةَ قَبْلَ وُقُوعِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ لِلْمَيِّتِ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا، فَالْوَرَثَةُ أَحْرَى بِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَمَّا أَجَازُوهُ، وَإِذَا جَازَ لَهُمْ الرُّجُوعُ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ ثَابِتًا فِي مَالِهِ بِالْمَرَضِ وَمِنْ أَجْلِهِ مُنِعَ ذَلِكَ فِي الْمَرَض عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا مُنِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمَرَضِ حَالَ الْمَوْتِ فِي بَابِ لُزُومِهِمْ حُكْمَ الْإِجَازَةِ إذَا أَجَازُوا. قِيلَ لَهُ: تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ جَائِزٌ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَسَائِرِ مَعَانِي التَّصَرُّفِ وَوُجُوهِهِ، وَإِنَّمَا نُسِخَ مِنْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْوَارِثِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ عُقُودَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ عِنْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي مَالِهِ؟ فَكَذَلِكَ إجَازَتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ كَلَا إجَازَةَ، كَمَا لَا يَعْمَلُ فَسْخَهُ فِي عُقُودِهِ. وَأَمَّا مَا فَرَّقَ بِهِ مَالِكٌ بَيْنَ مَنْ يَخْشَى ضَرَرًا مِنْ جِهَتِهِ فِي تَرْكِ الْإِجَازَةِ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَخْشَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَا مَعْنَى لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ خَشْيَةَ الضَّرَرِ مِنْ جِهَتِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ عُقُودِهِ، وَقَوْلُهُ: إذْ لَيْسَ يُكْسِبُهُ ذَلِكَ حُكْمُ الْمُكْرَهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا طَلَبَهُ مِنْهُ، وَقَالَ خَشِيتُ أَنْ تُقْطَعَ عَنِّي نَفَقَتُهُ، وَجِرَايَتُهُ بِتَرْكِ إجَابَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْهَبَهُ الْمَرِيضُ شَيْئًا فَوَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ مَا يَخَافُهُ بِتَرْكِ إجَابَتِهِ مُؤَثِّرًا فِي هِبَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْشَى مِنْ قِبَلِهِ ضَرَرًا. فَإِذًا لَا اعْتِبَارَ لِخَوْفِ الضَّرَرِ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ وَالْجِرَايَةِ فِي إيجَابِ الْعِتْقِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

بَابُ تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قِيلَ إنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} عَائِدَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَجَائِزٌ فِيهَا التَّذْكِيرُ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ، وَالْإِيصَاءَ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: {إِثْمُهُ} فَإِنَّمَا هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى التَّبْدِيلِ المدلول عليه

بقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} . وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الشَّاهِدَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ زَجْرَهُ عَنْ التَّبْدِيلِ، عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْوَصِيُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِمْضَائِهَا، وَالْمَالِكُ لِتَنْفِيذِهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَدْ أَمْكَنَهُ تَغْيِيرُهَا. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي سَائِرِ النَّاسِ; إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَصَرُّفَ لَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الشَّاهِدِ وَالْوَصِيِّ لِاحْتَالَ اللَّفْظِ لَهُمَا، وَالشَّاهِدُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَالْوَصِيُّ مَأْمُورٌ بِتَنْفِيذِهَا عَلَى حَسَبِ مَا سَمِعَهُ مِمَّا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَا: هِيَ الْوَصِيَّةُ تُصِيبُ الْوَلِيَّ الشَّاهِدَ.، وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْوَصِيَّةُ مَنْ سَمِعَ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ بَدَّلَهَا بَعْدَمَا سَمِعَهَا فَإِنَّمَا إثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مُرَادًا بِذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ وِلَايَةً وَتَصَرَّفَا إذَا رُفِعَ إلَيْهِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِإِمْضَائِهَا إذَا جَازَتْ فِي الْحُكْمِ مَنْهِيًّا عَنْ تَبْدِيلِهَا، وَفِيهَا الْأَمْرُ بِإِمْضَائِهَا وَتَنْفِيذِهَا عَلَى الْحَقِّ والصدق. وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} قَدْ اقْتَضَى جَوَازَ تَنْفِيذِ الْوَصِيِّ مَا سَمِعَهُ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُوصِي، كَانَ عَلَيْهَا شُهُودٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَهُوَ أَصْلٌ فِي كُلِّ مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَجَائِزٌ إمْضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمِ، وَلَا شَهَادَةِ شُهُودٍ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ مَتَى أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْوَصِيَّة فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ وَارِثٍ وَلَا حَاكِمٍ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ ذَلِكَ بَعْدَ السَّمَاعِ تَبْدِيلًا لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي. وقوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قَدْ حَوَى مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ كَانَتْ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَهِيَ لَا مَحَالَةَ مُضْمَرَةٌ فِيهِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ لِمَا انْتَظَمَ مِنْ الْكِنَايَةِ وَالضَّمِيرِ اللَّذَيْنِ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ مُظْهَرٍ مَذْكُورٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مُظْهَرٍ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ الْمُوصِي بِنَفْسِ الْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَأْثَمِ التَّبْدِيلِ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ تَعْذِيبَ الْأَطْفَالِ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَوْصَى بِقَضَائِهِ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ تَبِعَتْهُ فِي

الْآخِرَةِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْوَرَثَةِ قَضَاءَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَلْحَقُهُ تَبِعَةٌ وَلَا إثْمٌ، وَأَنَّ إثْمُهُ عَلَى مَنْ بَدَّلَهُ دُونَ مَنْ أَوْصَى بِهِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ فَمَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِهِ أَنَّهُ قَدْ صَارَ مُفَرِّطًا مَانِعًا مُسْتَحِقًّا لِحُكْمِ مَانِعِي الزَّكَاةِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَدْ تَحَوَّلَتْ فِي الْمَالِ حَسَبَ تَحَوُّلِ الدُّيُونِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَوْصَى بِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَنْجُو مِنْ مَأْثَمِهَا، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُبَدِّلُ لَهَا مُسْتَحِقًّا لِمَأْثَمِهَا. وَكَذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَوْتِ سُؤَالَ الرَّجْعَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] فَأُخْبَرْ بِحُصُولِ التَّفْرِيطِ وَفَوَاتِ الْأَدَاءِ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَدَاءُ بَاقِيًا عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ لَكَانُوا هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلَّوْمِ وَالتَّعْنِيفِ فِي تَرْكِهِ وَكَانَ الْمَيِّتُ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ التَّفْرِيطِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا مِنْ امْتِنَاعِ وُجُوبِ أَدَاءِ زَكَاتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَفْتَرِقُ حُكْمُ الْمُوصِي عِنْدَ اللَّهِ فِي حَالِ تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ أَوْ تَبْدِيلِهَا، وَهَلْ يَكُونُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الثَّوَابِ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ وَصِيَّة الْمُوصِي قَدْ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِحْقَاقَهُ الثَّوَاب عَلَى اللَّهِ بِوَصِيَّتِهِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ وُصُولَ ذَلِكَ إلَى الْمُوصَى لَهُ يَسْتَوْجِبَ مِنْهُ الشُّكْرَ لِلَّهِ وَالدُّعَاءَ لِلْمُوصِي، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ ثَوَابًا لِلْمُوصِي وَلَكِنَّ الْمُوصِي يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ دُعَاءِ الْمُوصَى لَهُ وَشُكْرِهِ لِلَّهِ تَعَالَى جَزَاءً لَهُ لَا لِلْمُوصِي، فَيَنْتَفِعُ الْمُوصِي بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: إذَا أُنْفِذَتْ الْوَصِيَّةُ، وَمَتَى لَمْ تَنْفُذْ كَانَ نَفْعُهُ مَقْصُورًا عَلَى الثَّوَابِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِوَصِيَّتِهِ دُونَ غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَمْ يُوصِ بِقَضَائِهِ وَقَضَاهُ الْوَرَثَةُ هَلْ يَبْرَأُ الْمَيِّتُ مِنْ تَبِعَتِهِ؟ قِيلَ لَهُ: امْتِنَاعُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْن قَدْ تَضَمَّنْ شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْآخَرُ: حَقُّ الْآدَمِيِّ; فَإِذَا اسْتَوْفَى الْآدَمِيُّ حَقَّهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ تَبِعَتِهِ وَبَقِيَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ مَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالضَّرَرِ بِتَأْخِيرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَبَقِيَ حَقُّ اللَّهِ، وَهُوَ الظُّلْمُ الْوَاقِعُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةٌ مِنْهُ فِيهِ، فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا، وَأَصَرَّ عَلَى مَنْعِهِ كَانَ مُكْتَسِبًا بِذَلِكَ الْمَأْثَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَقُّ اللَّهِ بِارْتِكَابِ نَهْيِهِ، وَالْآخَرُ: حَقُّ الْآدَمِيِّ بِظُلْمِهِ لَهُ وَإِضْرَارِهِ بِهِ؟ فَلَوْ أَنَّ الْآدَمِيَّ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ الْغَاصِبِ لِذَلِكَ لَكَانَ قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ وَبَقِيَ حَقُّ اللَّهِ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، فَإِذَا مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ كَانَتْ تَبِعَتُهُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ لاحقة به. وقوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَدَّلَ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ وَالْعَدْلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ جَوْرًا

فَالْوَاجِبُ تَبْدِيلُهَا وَرَدُّهَا إلَى الْعَدْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] فَإِنَّمَا تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ إذَا وَقَعَتْ عَادِلَةً غَيْرَ جَائِرَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا.

بَاب الشَّاهِدُ وَالْوَصِيُّ إذَا عَلِمَا الْجَوْرَ فِي الْوَصِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قتادة في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قَالَ: "هُوَ الرَّجُلُ يُوصِي فَيَجْنَفُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَرُدُّهَا الْوَلِيُّ إلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قَالَ: "هُوَ الْمُوصِي لِابْنِ ابْنِهِ يُرِيدُ لِبَنِيهِ". وَرَوَى الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأَبَاعِدِ وَيَتْرُكُ الْأَقَارِبَ قَالَ: يَجْعَلُ وَصِيَّتَهُ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ: لِلْأَقَارِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَبَاعِدِ الثُّلُثُ. وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأَبَاعِدِ قَالَ: يُنْتَزَعُ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ لِلْأَقَارِبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ فَقِيرٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْجَنَفُ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ، وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَنَفُ الْخَطَأُ" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَيْلَ عَنْ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْخَطَإِ، وَالْإِثْمُ مَيْلُهُ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ; وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُسْتَقِيمٌ. وَتَأَوَّلَهُ الْحَسَنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَلَهُ أَقْرِبَاءُ أَنَّ ذَلِكَ جَنَفٌ وَمَيْلٌ عَنْ الْحَقِّ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ عِنْدَهُ لِلْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. وَتَأَوَّلَهُ طَاوُسٌ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْوَصِيَّةُ لِلْأَبَاعِدِ فَتُرَدُّ إلَى الْأَقَارِبِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ مَنْ يُوصِي لِابْنِ ابْنَتِهِ يُرِيدُ ابْنَتَهُ. وَقَدْ نَسَخَ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} غَيْرَ مُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا; لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ غَيْرِ مُضَمَّنٍ بِمَا قَبْلَهُ، فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْوَصَايَا إذَا عَدَلَ بِهَا عَنْ جِهَةِ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، مُنْتَظِمَةً لِلْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي حَالِ بَقَاءِ وُجُوبِهَا، وَشَامِلَةً لِسَائِرِ الْوَصَايَا غَيْرِهَا; فَمَنْ خَافَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا عَنْ الْحَقِّ وَعُدُولًا إلَى الْجَوْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إرْشَادُهُ إلَى الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ. وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ

بَيْنَهُمْ} وَالْخَوْفُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَلَا يَكُونُ فِيهِ خَوْفٌ؟ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُوصِي مَا يَغْلِبُ مَعَهُ عَلَى ظَنَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْجَوْرَ وَصَرْفَ الْمِيرَاثِ عَنْ الْوَارِثِ، فَعَلَى مَنْ خَافَ ذَلِكَ مِنْهُ رَدُّهُ إلَى الْعَدْلِ وَيُخَوِّفُهُ ذَمِيمَ عَاقِبَةِ الْجَوْرِ أَوْ يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّلَاحِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى قوله: {فَمَنْ خَافَ} أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا جَوْرًا فَيَرُدُّهَا إلَى الْعَدْلِ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَلَمْ يَقُلْ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ وَلَا ذَكَرَ لَهُ فِيهِ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِ الدَّاخِلِينَ بَيْنَ الْخُصُومِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ أَنْ يَسْأَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ، فَيَسْبِقُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ إلَى ظَنِّ الْمُصْلِحِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لَهُ; وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، وَأَزَالَ ظَنَّ الظَّانِّ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قَالَ: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَعَدَ بِالثَّوَابِ عَلَى مِثْلِهِ فِي غَيْرِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114] . وَرُوِيَ فِي تَغْلِيظِ الْجَنَفِ فِي الْوَصِيَّةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ قال: حدثنا عبد الصمد بن حسان قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ" ثُمَّ قَرَأَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا وَمُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بن المغيرة عن داود بن أبي هند عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الإضرار فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إِسْحَاقَ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن أشعث عن شهر بن حوشب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُدَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ

الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ لَيَعْمَلَانِ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ" ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ هَهُنَا: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتى بلغ: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مَعَ مَا قَدَّمْنَا تُوجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ جَنَفًا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ مُوصٍ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْعَدْلِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَاذَا يَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي في قوله: {بَيْنَهُمْ} ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمُوصِي أَفَادَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَنَّ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ وَوَارِثًا تَنَازَعُوا، فَعَادَ الضَّمِيرُ إلَيْهِمْ بِفَحْوَى الْخِطَابِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ; وَأَنْشُدَ الْفَرَّاءُ: وَأَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيَّهُمَا يَلِينِي الْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي فَكَنَّى فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ عَنْ الشَّرِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَيْرِ وَحْدَهُ لِمَا فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْمَذْكُورِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ، وَهُمْ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالْوَارِثِ وَكُلِّ مَنْ وَقَفَ عَلَى جَوْرٍ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَطَإِ أَوْ الْعَمْدِ رَدَّهَا إلَى الْعَدْلِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} خَاصٌّ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَادِلَةِ دُونَ الْجَائِرَةِ. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ; لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْ الْمَيْلِ يَكُونُ فِي غَالِبِ ظَنِّ الْخَائِفِ. وَفِيهَا رُخْصَةٌ فِي الدُّخُولِ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ عَنْ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمْ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

بَابُ فَرْضِ الصِّيَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا فَرْضَ الصِّيَامِ بِهَذِهِ الآية; لِأَنَّ قَوْلَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] يَعْنِي فَرْضًا مُؤَقَّتًا. الصِّيَامُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] يَعْنِي صَمْتًا، فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْكَلَامِ صَوْمًا. وَيُقَالُ: خَيْلٌ صِيَامٌ إذَا كَانَتْ مُمْسِكَةً عَنْ الْعَلَفِ، وَ"صَامَتْ الشَّمْسُ نِصْفَ النَّهَارِ" لِأَنَّهَا مُمْسِكَةً عَنْ السَّيْرِ وَالْحَرَكَةِ، فَهَذَا حُكْمُ هَذَا اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ.

وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِلْكَفِّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَعَنْ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ مَعَ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ أَوْ الْفَرْضِ. وَهُوَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ عِنْدَ وُرُودِهِ; لِأَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْضُوعٌ لَمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً فِي اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفَرْضِ وَاسْتِقْرَارِ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ قَدْ عَقَلَ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ لَهُ فِيهَا بِتَوْقِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا. وقَوْله تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَرْوِيٌّ عَنْ السَّلَفِ; قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةَ: إنَّهُ كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمْ النَّصَارَى شَهْرُ رَمَضَان أَوْ مِقْدَارُهُ مِنْ عَدَدِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا حَوَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ الصَّوْمُ مِنْ الْعَتَمَةِ إلَى الْعَتَمَةِ وَلَا يَحِلُّ بَعْدَ النَّوْمِ مَأْكَلٌ وَلَا مَشْرَبٌ وَلَا مَنْكَحٌ، ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْنَا صِيَامُ أَيَّامٍ كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ صِيَامُ أَيَّامٍ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ فِي الْمِقْدَارِ بَلْ جَائِزٌ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَرَوَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ الصَّوْمَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصيام بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وَذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَدَّمْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْعَدَدِ أَوْ فِي صِفَةِ الصِّيَامِ أَوْ فِي الْوَقْتِ كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، وَلَوْ عَلِمْنَا وَقْتَ صِيَامِ مَنْ قَبْلَنَا وَعَدَدَهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ صِفَةَ الصِّيَامِ وَمَا حَظَرَ عَلَى الصَّائِمِ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى اسْتِعْمَالِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي احْتِذَاءِ صَوْمِ مَنْ قَبْلَنَا، وقد عقبه تعالى بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} وَذَلِكَ جَائِزٌ وُقُوعُهُ عَلَى قَلِيلِ الْأَيَّامِ وَكَثِيرِهَا، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} بَيَّنْ بِذَلِكَ عَدَدَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَوَقْتَهَا وَأَمَرَ بِصَوْمِهَا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ أن المراد بقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ، ثُمَّ نُسِخَ بِرَمَضَانَ. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِفْطَارِ لِمَنْ لَحِقَهُ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّوْمُ يَضُرُّ أَوْ لَا; إلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ غَيْرُ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا خَافَ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنُهُ وَجَعًا أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَفْطَرَ وَقَضَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ أَنَّ

الْمَرِيضَ إذَا أَصَابَهُ الْمَرَضُ وَشُقَّ عَلَيْهِ فِيهِ الصِّيَامُ فَيَبْلُغُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَ قَالَ مَالِكٌ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ عَلَى الْحَامِلِ إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهَا الصِّيَامُ الْفِطْرَ وَالْقَضَاءَ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مَرَضًا مِنْ الْأَمْرَاضِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَيُّ مَرَضٍ إذَا مَرِضَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ الْفِطْرُ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ أَفْطَرَ، فَأَمَّا إذَا أَطَاقَ وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ فَلَا يُفْطِرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا ازْدَادَ مَرَضُ الْمَرِيضِ شِدَّةً زِيَادَةً بَيِّنَةً أَفْطَرَ، وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً مُحْتَمَلَةً لَمْ يُفْطِرْ. فَثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْإِفْطَارِ لِلْمَرِيضِ مَوْقُوفَةً عَلَى زِيَادَةِ الْمَرَضِ بِالصَّوْمِ، وَأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْشَ الضَّرَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْإِفْطَارِ لِلْمَرِيضِ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ الضَّرَرِ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وَالصَّوْمَ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُخْصَتَهُمَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى خَوْفِ الضَّرَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدَيْهِمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الْإِفْطَارِ فِي مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِخَوْفِ الضَّرَرِ إذْ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ صَحِيحَتَانِ لَا مَرَضَ بِهِمَا. وَأُبِيحَ لَهُمَا الْإِفْطَارُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ. وَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسَافِرِ الْإِفْطَارَ، وَلَيْسَ لِلسَّفَرِ حَدٌّ مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ أَقَلِّهِ وَبَيْنَ مَا هُوَ دُونَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلسَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا فِي الشَّرْعِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَقَالَ آخَرُونَ: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلُّغَةِ فِي ذَلِكَ حَظٌّ; إذْ لَيْسَ فِيهَا حَصْرُ أَقَلِّهِ بِوَقْتٍ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُ; لِأَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعَادَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ الْعَادَةِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ تَحْدِيدُهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ; وَقَدْ قِيلَ إنَّ السَّفَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ الْكَشْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَفَرَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أَضَاءَ، وَسَفَرَتْ الرِّيحُ السَّحَابَ إذَا قَشَعَتْهُ وَالْمِسْفَرَةُ الْمِكْنَسَةُ; لِأَنَّهَا تُسْفِرُ عَنْ الْأَرْضِ بِكَنْسِ التُّرَابِ، وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ إذَا أَضَاءَ وَأَشْرَقَ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} يَعْنِي مُشْرِقَةً مُضِيئَةً; فَسُمِّيَ الْخُرُوجُ إلَى الْمَوْضِعِ الْبَعِيدِ سَفَرًا; لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَخْلَاقِ الْمُسَافِرِ وَأَحْوَالِهِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْنَى السَّفَرِ مَا وَصَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ وَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ فِي الْأَغْلَبِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَا يَكْشِفُهُ الْبَعِيدُ مِنْ أَخْلَاقِهِ، فَإِنْ اعْتَبَرَ بِالْعَادَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَسَافَةَ الْقَرِيبَةَ لَا تُسَمَّى سَفَرًا وَالْبَعِيدَةُ تُسَمَّى، إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ سَفَرٌ صَحِيحٌ فِيمَا يُتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. فَثَبَتَ أَنَّ الثَّلَاثَ سَفَرٌ وَمَا دُونَهَا لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ وَفَقْدِ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ بِتَحْدِيدِهِ. وَأَيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ تَقْتَضِي اعْتِبَارَ الثَّلَاثِ فِي كَوْنِهَا سَفَرًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُسَافِرَ

امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "يَوْمَيْنِ" فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُخْتَلِفَةُ قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَخْرُجُ امْرَأَةٌ مِنْ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَخْبَارِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ إنَّمَا هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ اخْتَلَفَتْ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى وَهُوَ الثَّلَاثُ; لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَمَا دُونَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ لِاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِيهِ. وَأَخْبَارُ ابْنِ عُمَرَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، فَهِيَ ثَابِتَةٌ وَفِيهَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ، وَلَوْ أَثْبَتْنَا ذِكْرَ أَخْبَارِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى اخْتِلَافِهَا لَكَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَتَضَادَّ، وَتَسْقُطَ كَأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ، وَتَبْقَى لَنَا أَخْبَارُ ابْنِ عُمَرَ فِي اعْتِبَارِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَخْبَارُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ مُتَعَارِضَةٍ; لِأَنَّا نُثْبِتُ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِيهَا مِنْ التَّوْقِيتِ، فَنَقُولُ: لَا تُسَافِرْ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً. قِيلَ لَهُ: مَتَى اسْتَعْمَلْتَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ أَلْغَيْتَ الثَّلَاثَ وَجَعَلْتَ وُرُودَهَا وَعَدَمَهَا بِمَنْزِلَةٍ، فَأَنْتَ غَيْرُ مُسْتَعْمِلٍ لِخَبَرِ الثَّلَاثِ مَعَ اسْتِعْمَالِكَ خَبَرَ مَا دُونَهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْتِعْمَالَ بَعْضِهَا وَإِلْغَاءَ الْبَعْضِ فَاسْتِعْمَالُ خَبَرِ الثَّلَاثِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ; وَأَيْضًا قَدْ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ مَعَ إثْبَاتِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِي الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهَا مَتَى أَرَادَتْ سَفَرَ الثَّلَاثِ لَمْ تَخْرُجْ الْيَوْمَ وَلَا الْيَوْمَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ لَمَّا حُدَّ الثَّلَاثُ فَمُبَاحٌ لَهَا الْخُرُوجُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ وَإِنْ أَرَادَتْ سَفَرَ الثَّلَاثِ، فَأَبَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَظْرَ مَا دُونَهَا مَتَى أَرَادَتْهَا. وَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الثَّلَاثِ فِي حَظْرِ الْخُرُوجِ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ثَبَتَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ اعْتَبَرَ فِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ الثَّلَاثَ اعْتَبَرَهَا فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ، وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ كَذَلِكَ قَدَّرَهُ فِي الْإِفْطَارِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ الثَّلَاثَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ وَمَا دُونَهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُهَا فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِ سَاعَةٍ مِنْ النَّهَارِ. وَأَيْضًا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْمَسْحِ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ مَوْرِدَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الْمُسَافِرِينَ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا

لِجَمِيعِ مَا اقْتَضَى الْبَيَانُ مِنْ التَّقْدِيرِ، فَمَا مِنْ مُسَافِرٍ إلَّا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ سَفَرُهُ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ سَفَرًا فِي الشَّرْعِ لَكَانَ قَدْ بَقِيَ مُسَافِرٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ حُكْمُهُ وَلَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا اقْتَضَى الْبَيَانُ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْبَيَانِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَمَا مِنْ مُسَافِرٍ إلَّا وَقَدْ انْتَظَمَهُ هَذَا الْحُكْمُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ فَلَيْسَ بِمُسَافِرٍ يَتَعَلَّقُ بِسَفَرِهِ حُكْمٌ، وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ سَفَرُ ثَلَاثِ وَأَنَّ مَا دُونَهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي إفْطَارِ وَلَا قَصْرٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ الِاتِّفَاقُ وَالتَّوْقِيفُ، فَلَمَّا عَدِمْنَا فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ الِاتِّفَاقَ وَالتَّوْقِيفَ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الثَّلَاثِ لِوُجُودِ الِاتِّفَاقِ فِيهِ أَنَّهُ سَفَرٌ يُبِيحُ الْإِفْطَارَ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ لُزُومُ فَرْضِ الصَّوْمِ هُوَ الْأَصْلُ وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ تَرْكُ الْفَرْضِ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ; لِأَنَّ الْفُرُوضَ يُحْتَاطُ لَهَا، وَلَا يُحْتَاطُ عَلَيْهَا; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ فِي أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ السَّلَفِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي ليلى عن معاذ بن جَبَلٍ قَالَ: أُحِيلَ الصِّيَامُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ثم أنزل الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا وَأَجْزَى عَنْهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الْأُخْرَى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ. وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَلْقَمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَافْتَدَى وَأَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، حَتَّى نزل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وَرُوِيَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ فَلِيُفْطِرْ وَلْيُطْعِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا صَاعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي كَانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَهُوَ شَابٌّ فَأَدْرَكَهُ الْكِبَرُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصُومَ مِنْ ضَعْفٍ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَ الطَّعَامَ فَيُفْطِرَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمِ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُهُ.

وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَأُ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ. وَرَوَى خَالِدُ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَالَ إنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَالَ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الْأُولَى مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَدَدًا إنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ بَدِيًّا نَزَلَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لِمَنْ يُطِيقُهُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ، وَإِنَّهُ نُسِخَ عَنْ الْمُطِيقِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ وَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ مَعَ الْقَضَاءِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَقْرَءُونَهَا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَاحْتَمَلَ هَذَا اللَّفْظُ مَعَانٍ، مِنْهَا: مَا بَيَّنَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرَادَ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ كَبِرُوا فَعَجَزُوا عَنْ الصَّوْمِ فَعَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنَّهُمْ يُكَلَّفُونَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ فِيهِ، وَهَمَ لَا يُطِيقُونَهُ لِصُعُوبَتِهِ، فَعَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ. وَمَعْنًى آخَرُ; وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ فَيُقَوَّمُ لَهُمْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ حُكْمِ تَكْلِيفِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَكْلِيفِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ قَائِمٌ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى أُقِيمَ التُّرَابُ مَقَامَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا مِنْهُ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ قَائِمٌ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي فِي بَابِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَا عَلَى وَجْهٍ لَزِمَهُ بِالتَّرْكِ، فَلَمَّا أَوْجَبَ تَعَالَى عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالْإِيَاسِ عَنْ الْقَضَاءِ أُطْلِقَ فِيهِ اسْمُ التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إذْ كَانَتْ الْفِدْيَةُ هِيَ مَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ. فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلَتَانِ إلَّا أَنَّ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَخْبَارِهِمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِ وَصِفَتِهِ بَدِيًّا، وَأَنَّ الْمُطِيقَ لِلصَّوْمِ مِنْهُمْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ; لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ شَاهَدُوهَا وَعَلِمُوا أَنَّهَا بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَيْهَا. وَفِي مَضْمُونِ الْخِطَابِ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا رِوَايَةٌ عَنْ السَّلَفِ فِي مَعْنَاهُ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْإِبَانَةِ عَنْ مُرَادِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَابْتَدَأَ تَعَالَى بِبَيَانِ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ إذَا أَفْطَرَا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ; إذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حُكْمِهِمَا وَبَيَانُ فَرْضِهِمَا بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لَهُمَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِمَا بِكِنَايَةٍ عَنْهُمَا مَعَ تَقْدِيمِهِ ذِكْرِهِمَا مَنْصُوصًا مُعَيَّنًا; وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُهُ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ. وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُقِيمُونَ الْمُطِيقُونَ لِلصَّوْمِ، أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الصَّوْمِ، فَكَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْهُ

بِإِطَاقَةِ الصَّوْمِ، وَهُوَ إنَّمَا رَخَّصَ لَهُ لِفَقْدِ الْإِطَاقَةِ وَلِلضَّرَرِ الْمَخُوفِ مِنْهُ؟ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ قَوْله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَلَيْسَ الصَّوْمُ خَيْرًا لِلْمَرِيضِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّوْمِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ لَمْ يُرَادَا بِالْفِدْيَةِ وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا، أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَالْقَضَاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ حِينَئِذٍ فِدْيَةً وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْفِدْيَةِ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} مَنْسُوخٌ بِمَا قَدَّمْنَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ كَانَ الصَّوْمَ، وَأَنَّهُ جُعِلَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْفِدْيَةِ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنْ الصَّوْمِ; لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ، وَلَوْ كَانَ الْإِطْعَامُ مَفْرُوضًا فِي نَفْسِهِ كَالصَّوْمِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَمَا كَانَ بَدَلًا كَمَا أَنَّ الْمُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ لَا يَكُونُ مَا كَفَّرَ بِهِ مِنْهَا بَدَلًا وَلَا فِدْيَةً عَنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ حُمِلَ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى ضَمِيرٍ، وَهُوَ وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ عَجَزُوا بِالْكِبَرِ مَعَ الْيَأْسِ عَنْ الْقَضَاءِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ ذَلِكَ إلَّا بِاتِّفَاقٍ أَوْ تَوْقِيفٍ. وَمَعَ ذَلِكَ فِيهِ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ فِي حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ إسْقَاطَ فَائِدَةِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} لِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْفَرْضِ، وَاَلَّذِينَ لَحِقَهُمْ فَرْضُ الصَّوْمِ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْهُ بِالْكِبَرِ سَوَاءً فِي حُكْمِهِ، وَيُحْمَلُ مَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ الصَّوْمِ الْمَيْئُوسَ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَسَقَطَ فَائِدَةُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ بِذِكْرِ الْإِطَاقَةِ حُكْمٌ وَلَا مَعْنًى. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: يُطَوَّقُونَهُ يَحْتَمِلُ الشَّيْخَ الْمَيْئُوسَ مِنْهُ الْقَضَاءُ مِنْ إيجَابِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ يُطَوَّقُونَهُ قَدْ اقْتَضَى تَكْلِيفَهُمْ حُكْمَ الصَّوْمِ مَعَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِ وَجَعَلَ لَهُمْ الْفِدْيَةَ قَائِمَةً مَقَامَ الصَّوْمِ; فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ إذَا كَانَ مَعْنَاهَا مَا وَصَفْنَا فَهِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بَلْ هِيَ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ; إذْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الشَّيْخَ الْمَيْئُوسَ مِنْهُ الْقَضَاءُ الْعَاجِزَ عَنْ الصَّوْمِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وكرمه.

ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ كُلَّ يَوْمٍ. وقال ربيعة ومالك: لا أرى عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَإِنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَتِهِ: وَعَلَى

الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ وَأَنَّهُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، فَلَوْلَا أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهَا مِنْ إيجَابِ الْفِدْيَةِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ تَأَوَّلَ قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا" وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ الَّذِي عَلَيْهِ الصِّيَامُ فَالشَّيْخُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْمَيِّتِ لِعَجْزِ الْجَمِيعِ عَنْ الصَّوْمِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ الشَّيْخُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْمَرِيضَ مُخَاطَبٌ بِقَضَائِهِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ الْقَضَاءِ، لِقَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَمَتَى لَمْ يَلْحَقْ الْعِدَّةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ رَمَضَانَ وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلَا يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حَمْلُ الْفَرْضِ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ فِي الْحَالِ، فَاخْتَلَفَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ السَّلَفِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَإِيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا لَا يَسَعُ خِلَافُهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَخُو خَطَّافٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُسْتَمْلِي قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يَقْضِهِ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ لِمِسْكِينٍ". وَإِذَا ثَبَت ذَلِكَ فِي الْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ إذَا مَاتَ ثَبَتَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عُمُومٌ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِ; لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَجَائِزٌ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِقْدَارَ فِدْيَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ مُوجِبِي الْفِدْيَةِ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ لَمْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَيْسِ بْنِ السَّائِبِ، الَّذِي كَانَ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ وَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ إطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ فِدْيَةِ الصَّوْمِ بِنِصْفِ صَاعٍ أَوْلَى مِنْهُ بِالْمُدِّ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْأَصْلِ قَدْ تَعَلَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا عَضَّدَهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ عَدَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَدْ اُخْتُلِفَ فِي ضَمِيرِ كِنَايَتِهِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الصَّوْمِ وَقَالَ آخَرُونَ: إلَى الْفِدْيَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ; لِأَنَّ مُظْهَرَهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَالْفِدْيَةُ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَالضَّمِيرُ إنَّمَا يَكُونُ لِمُظْهَرٍ مُتَقَدِّمٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْفِدْيَةَ مُؤَنَّثَةٌ وَالضَّمِيرُ فِي الْآيَةِ لِلْمُذَكَّرِ فِي قوله: {يُطِيقُونَهُ} . وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَا مُطِيقِينَ لَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُطِيقٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يفعله بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فَوَصَفَهُ بِالْإِطَاقَةِ مَعَ تَرْكِهِ لِلصَّوْمِ وَالْعُدُولِ عَنْهُ إلَى الْفِدْيَةِ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إذَا كَانَ الضَّمِيرُ هُوَ الْفِدْيَةُ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُطِيقًا لَهَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَعَدَلَ إلَى الصَّوْمِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُجَبِّرَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِ الْكُفَّارَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] . وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ; لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ، فَيَكُونُ حَثًّا عَلَى التَّطَوُّعِ بِالطَّاعَاتِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ بِزِيَادَةِ طَعَامِ الْفِدْيَةِ; لِأَنَّ الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّهُ كَبِرَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّوْمِ فَقَالَ: "يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ فَأَطْعِمُوا عَنِّي ثَلَاثًا". وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ فِيهِ مِنْ الصِّيَامِ أَوْ الْإِطْعَامِ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا فَهُوَ فَرْضٌ لَا تَطَوُّعَ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادَ الْآيَةِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ فَيَكُونُ الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ التَّطَوُّعُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ فِيمَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ مِنْ الْأَصِحَّاءِ الْمُقِيمِينَ غَيْرِ الْمَرْضَى وَلَا الْمُسَافِرِينَ وَلَا الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ هُوَ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ الصَّوْمُ بِخَيْرٍ لِمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ; لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتَّلَفِ بِالصَّوْمِ; وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ لَا تَخْلُوَانِ مِنْ أَنْ يَضُرَّ بِهِمَا الصَّوْمُ أَوْ بِوَلَدَيْهِمَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالْإِفْطَارُ خَيْرٌ لَهُمَا وَالصَّوْمُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمَا وَلَا بِوَلَدَيْهِمَا فَعَلَيْهِمَا الصَّوْمُ وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا

الْفِطْرُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا غَيْرُ دَاخِلَتَيْنِ فِي قَوْله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} عَائِدٌ إلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} عَائِدًا إلَى الْمُسَافِرِينَ أَيْضًا مَعَ عَوْدِهِ عَلَى الْمُقِيمِينَ الْمُخَيَّرِينَ بَيْن الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ خَيْرًا لِلْجَمِيعِ، إذْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُسَافِرِينَ يُمْكِنُهُمْ الصَّوْمُ فِي الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ الْمَشَقَّةُ; وَدَلَالَتُهُ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ تَطَوُّعًا أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ نِصْفِ صَاعٍ; لِأَنَّهُ فِي الْفَرْضِ كَذَلِكَ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا خَيَّرَهُ فِي الْفَرْضِ بَيْنَ صَوْمِ يَوْمٍ وَصَدَقَةِ نِصْفِ صَاعٍ جَعَلَ الصَّوْمَ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي التَّطَوُّعِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّق.

بَابُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَإِنَّهُمَا تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُرْضِعِ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَلَا يَقْبَلُ الصَّبِيُّ مِنْ غَيْرِهَا: فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِسْكِينًا، وَالْحَامِلُ إذَا أَفْطَرَتْ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا; وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرَا عَلَى الصَّوْمِ فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الْحَامِلَ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ; فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ إذَا أَفْطَرَتَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ بِلَا قَضَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ وَالْقَضَاءُ. وَالْحُجَّةُ لِأَصْحَابِنَا مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الواسطي قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد الْقَاسِمِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي؟ قَالَ: فَدَلَّنِي عَلَيْهِ، فَلَقِيتُهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبِلٍ لِجَارٍ لِي أُخِذَتْ، فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَدَعَانِي إلَى طَعَامِهِ فَقُلْتُ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: "إذًا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ" قَالَ: فَكَانَ يَتَلَهَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَلَا أَكُونُ أَكَلْت مِنْ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَانِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَطْرُ الصَّلَاةِ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسَافِرُ; إذْ لَا

خِلَافَ أَنَّ الْحَمْلَ وَالرَّضَاعَ لَا يُبِيحَانِ قَصْرَ الصَّلَاةِ. وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إخْبَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ هُوَ كَوَضْعِهِ عَنْ الْمُسَافِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ حُكْمِ الْمُسَافِرِ هُوَ بِعَيْنِهِ جَعْلُهُ مِنْ حُكْمِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ; لِأَنَّهُ عَطَفَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ ذِكْرِ شَيْءٍ غَيْرَهُ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ وَضْعِ الصَّوْمِ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ هُوَ فِي حُكْمِ وَضْعِهِ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ عَنْ الْمُسَافِرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ قَضَائِهِ بِالْإِفْطَارِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا; إذْ لَمْ يَفْصِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ يُرْجَى لَهُمَا الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْإِفْطَارُ لِلْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْوَلَدِ مَعَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَا كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ; فَإِنَّ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ وَذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضَ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْفِدْيَةِ; وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَوْقِيفًا; فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ فِيمَا حَكَوْا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهَا مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِمَنْ تَضَمَّنَهُ أَوَّلُ الْآيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ; لِأَنَّهُمَا إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ خَيْرًا لَهُمَا بَلْ مَحْظُورٌ عَلَيْهِمَا فِعْلُهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْشَيَا ضَرَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا الْإِفْطَارُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ تُرَادَا بِالْآيَةِ. وَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَالْقَضَاءِ أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الطَّعَامَ فِدْيَةً، وَالْفِدْيَةُ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ اجْتِمَاعُ الْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا وَجَبَ فَقَدْ قَامَ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ فَلَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ فِدْيَةً، وَإِنْ كَانَ فِدْيَةً صَحِيحَةً فَلَا قَضَاءَ; لِأَنَّ الْفِدْيَةَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَقَامَتْ مَقَامَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ وَالْإِطْعَامُ قَائِمَيْنِ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا قَائِمَيْنِ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّوْمِ لَكَانَ الْإِطْعَامُ بَعْضَ الْفِدْيَةِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعَهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى ذَلِكَ فِدْيَةً، وَتَأْوِيلُكَ يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَأَيْضًا إذَا كَانَ الْأَصْلُ الْمُبِيحُ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الْإِفْطَارَ وَالْمُوجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةَ هُوَ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ الَّذِينَ قَدَّمْنَا قَوْلَهُمَا أَنَّ الواجب

كَانَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ مِنْ فِدْيَةٍ أَوْ صِيَامٍ لَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى إيجَابِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ؟ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} حَذْفَ الْإِفْطَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إذَا أَفْطَرُوا فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا اقْتَصَرَ بِالْإِيجَابِ عَلَى ذِكْرِ الْفِدْيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ غَيْرِهَا مَعَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْصُوصِ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ; وَلَيْسَتَا كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فَهُمَا كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ. وَإِنَّمَا يَسُوغُ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِابْنِ عَبَّاسٍ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى إيجَابِ الْفِدْيَةِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ إذَا كَانَتَا إنَّمَا تَخَافَانَ عَلَى وَلَدَيْهِمَا دُونَ أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا تُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَيَتَنَاوَلَهُمَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: أُثْبِتَتْ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا. فَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ دُونَ الْقَضَاءِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا; إذْ هُمَا تُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَشَمِلَهُمَا حُكْمُ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمَ سَائِرِ الْمُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ فِي إيجَابِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، وَهُوَ لَا مَحَالَةَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ الصَّحِيحَ الْمُطِيقَ لِلصَّوْمِ; فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ; لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَيَّرَتَيْنِ; لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ تَخَافَا فَعَلَيْهِمَا الْإِفْطَارُ بِلَا تَخْيِيرٍ، أَوْ لَا تَخَافَا فَعَلَيْهِمَا الصِّيَامُ بِلَا تَخْيِيرٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْآيَةُ فَرِيقَيْنِ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا إيجَابَ الْفِدْيَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، وَفِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ إمَّا الصِّيَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ بِلَا تَخْيِيرٍ أَوْ الْفِدْيَةِ بِلَا تَخْيِيرٍ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُمَا لَفْظُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا

عَلَى وَلَدَيْهِمَا; لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُمَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَسْوِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَبَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ. قَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ كَانَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بَيَانٌ لِلْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ صَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فقد انتظم قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} نَسْخَ حُكْمَيْنِ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى: أَحَدُهُمَا: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَالْآخَرُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ السَّلَفِ، وإن كان قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} بيانا لقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فَقَدْ كَانَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ التَّخْيِيرُ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ إيجَابِهِ، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، لِاسْتِفَاضَةِ الرِّوَايَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . فَإِنْ قِيلَ: فِي فَحْوَى الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أن المراد بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ، وَلَوْ كان قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فَرْضًا مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْفَرْضِ مَعْنَى. قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ فَرْضٍ مُجْمَلًا مُضَمَّنًا بِحُكْمٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى مَوْقُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ، فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمَا أُرِيدَ مِنْهُ كَانَ الْحُكْمُ الْمُضَمَّنُ بِهِ ثَابِتًا مَعَهُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ حُكْمُهَا إذَا بُيِّنَ وَقْتُهَا وَمِقْدَارُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] فَاسْمُ الْأَمْوَالِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا عَلِقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَالصَّدَقَةُ مُجْمَلَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْبَيَانِ; فَإِذَا وَرَدَ بَيَانُ الصَّدَقَةِ كَانَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اسْمِ الْأَمْوَالِ سَائِغًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} مُتَأَخِّرًا فِي التَّنْزِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي التِّلَاوَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَاتِ وَتَرْتِيبُ مَعَانِيهَا: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} هي شهر

رَمَضَانَ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَنُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] مُؤَخَّرًا فِي اللَّفْظِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ. وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَذْكُورٌ مَعًا فكذلك قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَتْهُ قِصَةُ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَفِيهِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ; مِنْهَا: إيجَابُ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ، فَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} إلَى قَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لَاقْتَضَى ذَلِكَ لُزُومَ الصَّوْمِ سَائِرَ النَّاسِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَمَّا عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} بَيَّنَ أَنَّ لُزُومَ صَوْمِ الشَّهْرِ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ، مِنْهَا: مَنْ كَانَ شَاهِدًا يَعْنِي مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ، كَمَا يُقَالُ لِلشَّاهِدِ، وَالْغَائِبِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، فَكَانَ لُزُومُ الصَّوْمِ مَخْصُوصًا بِهِ الْمُقِيمُونَ دُونَ الْمُسَافِرِينَ. ثُمَّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُسَافِرِينَ; إذْ لَمْ يُذْكَرُوا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَوْمٍ وَلَا قَضَاءٍ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بَيَّنَ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ إذَا أَفْطَرُوا، هَذَا إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} الْإِقَامَةَ فِي الْحَضَرِ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى شَاهِدِ الشَّهْرِ أَيْ عَلِمَهُ، ويحتمل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} فَمَنْ شَهِدَهُ بِالتَّكْلِيفِ; لِأَنَّ الْمَجْنُونَ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي حُكْمِ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي انْتِفَاءِ لُزُومِ الْفَرْضِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ شُهُودِ الشَّهْرِ عَلَيْهِمْ، وَأَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18 – 171] لَمَّا كَانُوا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ سَمَّاهُمْ بُكْمًا عُمْيًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] يَعْنِي عَقْلًا; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَقْلِهِ فَكَأَنَّهُ لَا قَلْبَ لَهُ; إذْ كَانَ الْعَقْلُ بِالْقَلْبِ; فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ; إذْ كَانَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ فِي بَابِ سُقُوطِ حُكْمِهِ عَنْهُ. وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} غَيْرَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ

تَعْيِينُ فَرْضِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ كَوْنِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَأَنَّ الْمَجْنُونَ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

بَاب ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ: إذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَنْ بَلَغَ، وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: "فَإِنَّهُ يَقْضِي صِيَامَ تِلْكَ السِّنِينَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ". وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمَعْتُوهِ يُفِيقُ وَقَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الْمَجْنُونِ الَّذِي يُجَنُّ ثُمَّ يُفِيقُ أَوْ الَّذِي يُصِيبُهُ الْمِرَّةَ ثُمَّ يُفِيقُ: أَرَى عَلَى هَذَا أَنْ يَقْضِيَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: "وَمَنْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ كَذَلِكَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ; إذْ لَمْ يَكُنْ شَاهَدَ الشَّهْرَ، وَشُهُودُهُ الشَّهْرَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ". فَإِنْ قِيلَ: إذَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} شُهُودُهُ بِالْإِقَامَةِ وَتَرْكِ السَّفَرِ دُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ شُهُودِهِ بِالتَّكْلِيفِ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْإِقَامَةِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ جَائِزٌ إرَادَتُهُمَا مَعًا، وَكَوْنُهُمَا شَرْطًا فِي لُزُومِ الصَّوْمِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا; وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِالصَّوْمِ غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي تَرْكِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ" وَرَفْعُ الْقَلَمِ هُوَ إسْقَاطُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْجُنُونَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إذَا دَامَ بِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ إذَا دَامَ بِهِ الشَّهْرُ كُلُّهُ فِي سُقُوطِ فَرْضِ الصَّوْمِ. وَيُفَارَقُ الْإِغْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ بِالْإِغْمَاءِ إنْ طَالَ، وَفَارَقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَأَشْبَهَ الْإِغْمَاءُ النَّوْمَ فِي بَابِ نَفْيِ وِلَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمَجْنُونِ وَالتَّكْلِيفُ

زَائِلٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِالْإِغْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: الْإِغْمَاءُ وَإِنْ مَنَعَ الْخِطَابَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِهِ فَإِنَّ لَهُ أَصْلًا آخَرَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ جَائِزٌ سَائِغٌ. فَوَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهِ حَالَ الْإِغْمَاءِ; وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَرِيضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ. وَأَمَّا مَنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ، فَإِنَّمَا أَلْزَمُوهُ الْقَضَاءَ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ; إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ; إذْ لَا يخلو قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ أَوْ شُهُودَ جُزْءٍ مِنْهُ; وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَنَاقُضُ اللَّفْظِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّهِ كُلِّهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُضِيُّهُ شَرْطًا لِلُزُومِ صَوْمِهِ كُلِّهِ; لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنْ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ فِعْلُ الصَّوْمِ فِيهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّوْمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ جُزْءًا مِنْ الشَّهْرِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَوَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ إدْرَاكُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا صَوْمُ الْجُزْءِ الَّذِي أَدْرَكَهُ دُونَ غَيْرِهِ; إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْبَعْضَ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْت، مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ لَكَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اسْتِغْرَاقُ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ. فَلَمَّا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمِيعِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي إيجَابِ الْجَمِيعِ; إذْ كَانَ الشَّهْرُ اسْمًا لِجَمِيعِهِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَفَاقَ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَيَّامٌ مِنْ الشَّهْرِ، يَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُوجِبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ صَوْمَ الْمَاضِي مِنْ الْأَيَّامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُنْصَرِفًا إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَا صَوْمُهَا بِعَيْنِهَا، وَجَائِزٌ لُزُومُ الْقَضَاءِ مَعَ امْتِنَاعِ خِطَابِهِ بِالصَّوْمِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ تَكُنْ اسْتِحَالَةُ تَكْلِيفِهِمْ فِيهَا مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ؟ وَكَذَلِكَ نَاسِي الصَّلَاةِ وَالنَّائِمِ عَنْهَا، فإن

الْخِطَابَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُهُ فِي وَقْتِ التَّكْلِيفِ، وَالْآخَرُ: قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِفِعْلِهِ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ وَالنِّسْيَانِ وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ الْغُلَامِ يَبْلُغُ وَالْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ أَوْ الْكَافِرِ يُسْلِمُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: يَصُومَانِ مَا بَقِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ مَا مَضَى وَلَا قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْبُلُوغُ أَوْ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْغُلَامِ إذَا احْتَلَمَ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ: إنَّهُ يَقْضِي مَا مَضَى مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَقَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ لَهُمَا الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الِاحْتِلَامُ أَوْ الْإِسْلَامُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ، وَأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ، وَالصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ حُكْمَهُ. وَأَيْضًا الصِّغَرُ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَلُّمِ، وَلْيَعْتَادَهْ وَيُمَرَّنَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى بَلَغَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ وَلَا قَضَاءَ الصِّيَامِ الْمَتْرُوكِ فِي حَالِ الصِّغَرِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ الْقَضَاءَ فِيمَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلَوْ جَازَ إلْزَامُهُ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ لَجَازَ إلْزَامُهُ قَضَاءَ الصَّوْمِ لِلْعَامِ الْمَاضِي إذَا كَانَ يُطِيقُهُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ مَعَ إطَاقَتِهِ لِلصَّوْمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَدْرَكَ فِي بَعْضِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ لِلصَّوْمِ إلَّا عَلَى شَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وَمُنَافَاةِ الْكُفْرِ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ; وَلَيْسَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي يُفِيقُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فِي إلْزَامِهِ الْقَضَاءَ لِمَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ; لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ جُنَّ فِي صِيَامِهِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ; وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ صَوْمِهِ، وَأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِيهَا فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْكَافِرِ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَالصَّغِيرُ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِمَا مَضَى عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قبله" و "الإسلام

يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ". وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: يُمْسِكُ الْمُسْلِمُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ وَالصَّبِيُّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا مُفْطِرَانِ حَالَ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِالصِّيَامِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَا مَأْمُورَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ فِي مِثْلِهِ إذَا كَانَا مُفْطِرِينَ; وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ" وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ الْآكِلِينَ بِالْقَضَاءِ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُفْطِرِينَ; لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أَكَلُوا لَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ، فَاعْتَبَرْنَا بِذَلِكَ كُلَّ حَالٍ تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَهُوَ مُفْطِرٌ بِمَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِهِ كَيْفَ يَكُونُ حُكْمُهُ; فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْزَمُهُ بِهَا الصَّوْمُ أُمِرَ بِالْإِمْسَاكِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ; وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَالْمُسَافِرُ إذَا قَدِمَ، وَقَدْ أَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ، إنَّهُمَا مَأْمُورَانِ بِالْإِمْسَاكِ; إذْ لَوْ كَانَتْ حَالَ الطُّهْرِ وَالْإِقَامَةِ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِالصِّيَامِ، وَقَالُوا: لَوْ حَاضَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَمْ تُؤْمَرْ بِالْإِمْسَاكِ إذْ الْحَيْضُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ تُؤْمَرُ بِالصِّيَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَبَحْتَ لِمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ سَافَرَ أَنْ يُفْطِرَ; لِأَنَّ حَالَ السَّفَرِ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ سَافَرَ كَانَ مُبِيحًا لِلْإِفْطَارِ، قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلَ مَا قَدَّمْنَا عِلَّةً لِلْإِفْطَارِ وَلَا لِلصَّوْمِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً لِإِمْسَاكِ الْمُفْطِرِ، فَأَمَّا إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ وَحَظْرِهِ فَلَهُ شَرْطٌ آخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ حَوَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَحْكَامًا أُخَرَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا; مِنْهَا: دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَ لَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ صَوْمَهُ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَنْ عَلِمَهُ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازُ تَرْكِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ اللَّيْلِ; وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَا فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَمْ يَتَقَدَّمَ لَهُمَا نِيَّةُ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمَا أَنْ يَبْتَدِئَا الصِّيَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ; لِأَنَّهُمَا قَدْ شَهِدَا الشَّهْرَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ شُهُودَ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ. وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ: تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِصِيَامِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ أَنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِيهِ وَرَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا مَخْصُوصٍ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْفَرْضِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَفِيهَا حُكْمٌ آخَرُ: تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِفْطَارُ مَعَ كَوْنِ الْيَوْمِ مَحْكُومًا عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ. وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ هِشَامٍ، وَأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِيمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ: أَنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عن ابن

جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي رَجُلٍ رَأَى هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ النَّاسِ بِلَيْلَةٍ: لَا يَصُومُ قَبْلَ النَّاسِ وَلَا يُفْطِرُ قَبْلَهُمْ، أَخْشَى أَنْ يَكُونَ شُبِّهَ لَهُ. فَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي أَنَّهُ لَا يَصُومُ، وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ، وَإِنْ تَيَقَّنَ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ أَنَّهُ لَا يَصُومُ، وَأَمَّا عَطَاءٌ، فَإِنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبَاحَ لَهُ الْإِفْطَارَ إذَا جَوَّزَ عَلَى نَفْسِهِ الشُّبْهَةَ فِي الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَى حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تَخَيَّلَ لَهُ مَا ظَنَّهُ هِلَالًا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ الصَّوْمَ عَلَى مَنْ رَآهُ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَمَنْ رَآهُ مَعَ النَّاسِ. وَفِيهَا حُكْمٌ آخَرُ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِدُخُولِ الشَّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُهُ، وَيَحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قَالَ: فَإِنَّمَا أَلْزَم الْفَرْضَ عَلَى مَنْ عَلِمَ به; لأن قوله: {فَمَنْ شَهِدَ} بِمَعْنَى شَاهَدَ وَعَلِمَ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ، وَذَلِكَ كَنَحْوِ مَنْ يَصُومُ رَمَضَانَ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ يَصِيرُ إلَى الْيَقِينِ وَلَا اشْتِبَاهَ، كَالْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا صَامَ شَهْرًا فَإِذَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَقَالُوا: لَا يُجْزِئُ مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ; وَيُحْكَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْزِئُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْأَسِيرِ إذَا أَصَابَ عَيْنَ رَمَضَانَ: أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَ شَهْرًا بَعْدَهُ. وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ صَوْمَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَادِفَ عَيْنَ الشَّهْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا تَحَرَّى شَهْرًا وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ رَمَضَانَ ثُمَّ صَارَ إلَى الْيَقِين وَلَا اشْتِبَاهَ أَنَّهُ رَمَضَانَ أَنَّهُ يُجْزِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَحَرَّى وَقْتَ صَلَاةٍ فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَصَلَّى عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ الْوَقْتُ يُجْزِيهِ. وقَوْله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَإِنْ احْتَمَلَ الْعِلْمُ بِهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ جَوَازِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ وَمَنْعِ تَأْخِيرِهِ، وَأَمَّا نَفْيُ الْجَوَازِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ مِنْ مَنْعِ جَوَازِهِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ، وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِرَمَضَانَ الْقَضَاءَ; لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْ الشَّهْرَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ جَوَازِ صَوْمِهِ الْعِلْمَ بِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ شَرْطُ وُجُوبِ قَضَائِهِ الْعِلْمَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مَنْ وَصَفْنَا مَنْ فَقَدَ عِلْمَهُ بِالشَّهْرِ شَاهِدًا لَهُ فِي بَابِ لُزُومِهِ قَضَاءَهُ إذَا لَمْ يَصُمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ فِي بَابِ جَوَازِ صَوْمِهِ مَتَى صَادَفَ عَيْنَهُ وَأَيْضًا إذَا احْتَمَلَ قَوْله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أَنْ يَعْنِي بِهِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُجْزِيَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَهِدَ الشَّهْرُ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِلشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ جَوَازَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِدُخُولِهِ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ أَبَى جَوَازَهُ عِنْدَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السلام: "صوموا

لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" قَالُوا: فَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ صَوْمُهُ مَعَ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ شَعْبَانَ; إذْ كَانَ صَوْمُ شَعْبَانَ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ رَمَضَانَ. وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَهُ كَمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ; وَإِنَّمَا كَانَ مَحْكُومًا بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَرْطِ فَقْدِ الْعِلْمِ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَتَى عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ مَحْكُومٌ لَهُ بِهِ مِنْ الشَّهْرِ وَيَنْتَقِضُ مَا كُنَّا حَكَمْنَا بِهِ بَدِيًّا مِنْ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَكَانَ حُكْمُنَا بِذَلِكَ مُنْتَظَرًا مُرَاعًى، وَكَذَلِكَ يَكُونُ صَوْمُ يَوْمِهِ ذَلِكَ مُرَاعًى; فَإِنْ اسْتَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ. فَإِنْ قِيلَ: وُجُوبُ قَضَائِهِ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى جَوَازِهِ إذَا صَامَهُ; لِأَنَّ الْحَائِضَ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ وَلَمْ يَدُلُّ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْجَوَازِ قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ صَوْمِهِ فَقْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَانِعًا مِنْ لُزُومِ قَضَائِهِ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ; لِأَنَّك زَعَمْتَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِهِ كَوْنُهُ غَيْرَ شَاهِدٍ لِلشَّهْرِ وَغَيْرَ عَالِمٍ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ الشَّهْرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ حُكْمُ الْوُجُوبِ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ شَهِدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ حُكْمُ الْجَوَازِ إذَا صَامَ وَحُكْمُ الْقَضَاءِ إذَا أَفْطَرَ. وَأَمَّا الْحَائِضُ فَلَا يَتَعَلَّقَ عَلَيْهَا حُكْمُ تَكْلِيفِ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ شُهُودِهَا لِلشَّهْرِ وَعِلْمِهَا بِهِ; لِأَنَّهَا مَعَ عِلْمِهَا بِهِ لَا يُجْزِيهَا صَوْمُهُ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ مَعَ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِإِفْطَارِهَا; إذْ لَيْسَ لَهَا فِعْلٌ فِي الْإِفْطَارِ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ لَمْ يُجْزِهَا صَوْمُهَا. وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْحُكْمِ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِفْطَارُ; وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَنْ عُبَيْدَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ: إنْ شَاءَ أَفْطَرَ إذَا سَافَرَ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ فَعَلَيْهِ إكْمَالُ صَوْمِهِ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْآخَرِينَ إلْزَامُ فَرْضِ الصَّوْمِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُقِيمًا; لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ الْمُسَافِرِ عَقِيبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ سَافَرَ وَبَيْنَ مَنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي ابْتِدَائِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى حَالِ الْإِقَامَةِ دُونَ حَالِ السَّفَرِ بَعْدَهَا. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرُوا لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ أَقَامَ أَنْ يُفْطِرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَدْ كَانَ هَذَا مُسَافِرًا. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ بَرِئَ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِفْطَارُ بِقَضِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ; إذْ قَدْ حَصَلَ لَهُ اسْمُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ; فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَانِعًا مِنْ لُزُومِ صَوْمِهِ إذَا أَقَامَ أَوْ بَرِئَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ، وَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ بَقَاءِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، كَذَلِكَ قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} مَقْصُورٌ عَلَى حَالِ بَقَاءِ الْإِقَامَةِ، وَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ وَغَيْرُهُمْ إنْشَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ، وَصَوْمَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، وَإِفْطَارَهُ بَعْدَ صَوْمِهِ، وَأَمْرَهُ النَّاسَ بِالْإِفْطَارِ، مَعَ آثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى ذِكْرِ الْأَسَانِيدِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} مَقْصُورٌ عَلَى حَالِ بَقَاءِ الْإِقَامَةِ فِي إلْزَامِ الصوم وترك الإفطار. وقوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَحَوَاهُ مِنْ الْمَعَانِي بِمَا حَضَرَ، وَنَتَكَلَّمُ الْآنَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ في معنى قوله: {فَلْيَصُمْهُ} وَمَا حَوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَانْتَظَمَهُ مِنْ الْمَعَانِي، فَنَقُولُ: إنَّ الصَّوْمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: صَوْمٌ لُغَوِيٌّ وَصَوْمٌ شَرْعِيٌّ; فَأَمَّا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ فَأَصْلُهُ الْإِمْسَاكُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دَوَّنَ غَيْرِهِمَا، بَلْ كُلُّ إمْسَاكٍ فَهُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَوْمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم: 26] وَالْمُرَادُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ، يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِيبَهُ: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَخَيْلٌ صِيَامٌ يَلُكْنَ اللُّجُمَ وَقَالَ النَّابِغَةُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا وَتَقُولُ الْعَرَبُ: "صَامَ النَّهَارُ، وَصَامَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ قِيَامِ الظُّهْرَةِ" لِأَنَّهَا كَالْمُمْسِكَةِ عَنْ الْحَرَكَةِ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْس: فَدَعْهَا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا فَهَذَا مَعْنَى اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ يَتَنَاوَلُ ضَرْبًا مِنْ الْإِمْسَاكِ عَلَى شَرَائِطَ مَعْلُومَةٍ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهُ فِي اللُّغَةِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْسَانِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ خُلُوَّ الْإِنْسَانِ مِنْ الْمُتَضَادَّاتِ حَتَّى لَا يَكُونُ سَاكِنًا وَلَا مُتَحَرِّكًا وَلَا آكِلًا وَلَا تَارِكًا وَلَا قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا وَلَا مُضْطَجِعًا، وَهَذَا

مُحَالٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ; فَعَلِمْنَا أَنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِضَرْبٍ مِنْ الْإِمْسَاكِ دُونَ جَمِيعِ ضُرُوبِهِ. فَالضَّرْبُ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَشَرَطَ فِيهِ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَعَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ وَالِاسْتِقَاءِ عَمْدًا إذَا مَلَأَ الْفَمَ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُوجِبُ فِي الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ قَضَاءً، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِقَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ; وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ; لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى مَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا الْقَضَاءَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ جِرَاحَةِ جَائِفَةٍ أَوْ آمَّةٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الْحِجَامَةِ هَلْ هُوَ مِنْ الصَّوْمِ؟ فَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: الْحِجَامَةُ لَا تُفْطِرُهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُفْطِرْهُ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي بَلْعِ الْحَصَاةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُفْطِرُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا تُفْطِرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّائِمِ يَكُونُ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَيَأْكُلُهُ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ لَحْمٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ خُبْزٍ فَجَاءَ عَلَى لِسَانِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ وَهُوَ ذَاكِرٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إذَا دَخَل الذُّبَابُ جَوْفَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ; وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُنُبِ، فَقَالَ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَصَوْمُهُ تَامٌّ مَعَ الْجَنَابَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ مُسْتَحَبٌّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَكَانَ يَقُولُ: يَصُومَ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَصْبَحَ جُنُبًا وَقَالَ فِي الْحَائِضِ: "إذَا طَهُرَتْ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَتْ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ". فَهَذِهِ أُمُورٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْهُ صَوْمٌ، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَأَبَاحَ الْجِمَاعَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الصِّيَامِ إلَى اللَّيْلِ. وَفِي فَحْوَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَضْمُونِهِ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ بِاللَّيْلِ مِمَّا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَثَبَتَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ هُوَ مِنْ

الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ غَيْرِهَا لَيْسَ مِنْ الصَّوْمِ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلَالَتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ إمْسَاكًا وَلَا صَوْمًا - الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الصَّغِيرَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّوْمِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْكَافِرَ، وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ مِنْهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ. وَطُهْرُ الْمَرْأَةِ عَنْ الْحَيْضِ مِنْ شَرَائِطِ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالْإِقَامَةُ وَالصِّحَّةُ، وَإِنْ وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الثَّانِي. وَالْعَقْلُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَجْنُونِ فِي رَمَضَانَ. وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ سَائِرِ ضُرُوبِ الصَّوْمِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: صَوْمٌ مُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَنَذْرُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ. وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ، وَصَوْمٌ فِي الذِّمَّةِ. فَالصَّوْمُ الْمُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ فِيهِمَا تَرْكُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ إذَا نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَمَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِتَقْدِمَةِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، وَقَالَ زُفَرُ: يَجُوزُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكْفِي لِلشَّهْرِ كُلِّهِ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ بَلْعَ الْحَصَاةِ وَنَحْوِهَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا فِي الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِغِذَاءٍ وَلَا دَوَاءٍ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] قَدْ انْطَوَى تَحْتَهُ الْأَكْلُ، فَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَا أُكِلَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَلْعُ الْحَصَاةِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي إيجَابِ الْإِفْطَارِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَلْعِ الْحَصَاةِ صَدَرَ عَنْ الْآيَةِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا، فَاقْتَضَى إطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالصِّيَامِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دُخُولَ الْحَصَاةِ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ. فَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ فَهِيَ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِهِ فِي أَكْلِ الْحَصَاةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ سَائِرِ مَا يَأْكُلُهُ لَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا أَكَلَهُ عَمْدًا، وَأَمَّا السَّعُوطُ وَالدَّوَاءُ الْوَاصِلُ بِالْجَائِفَةِ أَوْ الْآمَّةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" فَأَمَرَهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَنَهَاهُ عَنْهَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا وَصَلَ بِالِاسْتِنْشَاقِ إلَى الْحَلْقِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ أَنَّهُ يُفْطِرُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِنَهْيِهِ عَنْهَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ مَعْنًى مَعَ أَمْرِهِ بِهَا فِي غَيْرِ الصَّوْمِ. وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ وُصُولُهُ مِنْ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَوْ مِنْ مُخَارِقِ الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ خِلْقَةٌ فِي بِنْيَةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وُصُولُهُ إلَى الجوف

وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ مَعَ إمْكَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ الذُّبَابُ وَالدُّخَانُ وَالْغُبَارُ يَدْخُلُ حَلْقَهُ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ بِإِطْبَاقِ الْفَمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ بِالْإِفْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ الْقَضَاءَ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا لَمْ يُوجِبْهُ; لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْصُوصًا، وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ إنْ وَصَلَ إلَى الْمَثَانَةِ أَفْطَرَ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِنَّهُمَا اعْتَبَرَا وُصُولَهُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ مُخَارِقِ الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ خِلْقَةٌ فِي بِنِيَّةِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا وَجْهُ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا دُونَ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْطِرَهُ الِاسْتِقَاءُ عَمْدًا، لِأَنَّ الْفِطْرَ فِي الْأَصْلِ هُوَ مِنْ الْأَكْلِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ الْجِمَاعِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهُ لَا يُفْطِرُهُ الِاسْتِقَاءُ عَمْدًا; لِأَنَّ الْإِفْطَارَ مِمَّا يَدْخُلُ، وَلَيْسَ مِمَّا يَخْرُجُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ، وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ، وَكَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَانَ خُرُوجُ الْقَيْءِ بِمَثَابَتِهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَلَا حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الْأَثَرِ وَالْأَثَرُ الثَّابِتُ هُوَ حَدِيثُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ". فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ فِي الْأَكْلِ نَاسِيًا، قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ الْخَبَرَيْنِ مَعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ هُوَ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ الْمُتَّفَقُ عَلَى ثَبْتِهِ وَصِدْقِهِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: رَوَى أَيْضًا حَفْصُ بْنُ غَيَّاثٍ عَنْ هِشَامٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ مَعْدَانَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ", قَالَ: فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَأَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ. وَرَوَى وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي مرزوق، عَنْ حُبَيْشٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مَاءً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَكُ صَائِمًا؟ فَقَالَ: "بَلَى وَلَكِنِّي قِئْتُ". وَإِنَّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الِاسْتِقَاءِ لِهَذِهِ الْآثَارِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْقَيْءَ لَا يُفْطِرُ; وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ

أَصْحَابِهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُفْطِرُ مَنْ قَاءَ وَلَا مَنْ احْتَلَمَ وَلَا مَنْ احْتَجَمَ". قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من أَصْبَحَ صَائِمًا فَذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَمْ يُفْطِرْ، وَمَنْ احْتَلَمَ فَلَمْ يُفْطِرْ، وَمَنْ احْتَجَمَ فَلَمْ يُفْطِرْ". فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ الْقَيْءَ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَأَنْ لَا يَسْقُطَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ، وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّضَادِّ اسْتَعْمَلْنَاهُمَا جَمِيعًا، وَلَمْ يُلْغَ أَحَدُهُمَا. وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ إذَا اسْتَقَاءَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ لَمْ يُفْطِرْهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقَيْءِ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ بِالْجُشَاءِ لَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ تَقَيَّأَ؟ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ وَخُرُوجِهِ; وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي تَقْدِيرِ مِلْءِ الْفَمِ: "هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهُ فِي الْفَمِ لِكَثْرَتِهِ فَيُسَمَّى حِينَئِذٍ قَيْئًا". وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهَا لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ، كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْعَرَقِ وَاللَّبَنِ; وَلِذَلِكَ لَوْ جُرِحَ إنْسَانٌ أَوْ اُفْتُصِدَ لَمْ يُفْطِرْهُ، فَكَانَتْ الْحِجَامَةُ قِيَاسَ ذَلِكَ; وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُلْحِقَ بِهِ إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ أَوْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَةِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ آثَارٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ وَالْحِجَامَةُ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يزيد بن أبي زياد، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ صَائِمًا مُحْرِمًا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحِجَامَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: "إذَا تَبَيَّغَ بِأَحَدِكُمْ الدَّمُ فَلْيَحْتَجِمْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَبِيبٍ أَبُو حِصْنٍ الْكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ عَنْ الْحَجَّاجِ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَغُشِيَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ كَرِهَهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود

قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: مَا كُنَّا نَدَعُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ إلَّا كَرَاهِيَةَ الْجَهْدِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ". وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ". قِيلَ لَهُ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةَ هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ النَّقْلِ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ، وَبَعْضُهُمْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ; وَمِثْلُ هَذَا الِاضْطِرَابِ فِي السَّنَدِ يُوهِنُهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَإِنَّ أَصْلَهُ عَنْ شَيْخِ مِنْ الْحَيِّ مَجْهُولٍ عَنْ ثَوْبَانَ; وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" إذَا أَشَارَ بِهِ إلَى عَيْنٍ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ الْإِفْطَارِ بِالْحِجَامَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجَامَةِ فِي مِثْلِهِ تَعْرِيفٌ لَهُمَا، كَقَوْلِكَ: أَفْطَرَ الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ، وَأَفْطَرَ زَيْدٌ; إذَا أَشَرْتَ بِهِ إلَى عَيْنٍ; فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ يُفْطِرُ، وَعَلَى أَنَّ كَوْنَهُ زَيْدًا يُفْطِرُهُ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" لَمَّا أَشَارَ بِهِ إلَى رَجُلَيْنِ بِأَعْيُنِهِمَا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَاهَدَهُمَا عَلَى حَالٍ تُوجِبُ الْإِفْطَارَ مِنْ أَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَخْبَرَهُ بِالْإِفْطَارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِلَّتِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَاهَدَهُمَا عَلَى غَيْبَةٍ مِنْهُمَا لِلنَّاسِ فَقَالَ إنَّهُمَا أَفْطَرَا، كَمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ" وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ إبْطَالُ ثَوَابِهِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ إفْطَارِ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي رَوَيْنَا فِيهَا ذِكْرَ تَارِيخِ الرُّخْصَةِ بَعْدَ النَّهْيِ. وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الْحِجَامَةِ كَانَ لِمَا يُخَافُ مِنْ الضَّعْفِ، كَمَا نَهَى عَنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ حِينَ رَأَى رَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمْ فِيمَنْ بَلَعَ شَيْئًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَاءِ الْمَاءِ الْبَاقِيَةِ فِي فَمِهِ بَعْدَ غَسْلِ فَمِهِ لِلْمَضْمَضَةِ، وَمَعْلُومٌ وُصُولُهَا إلَى جَوْفِهِ، وَلَا حُكْمَ لَهَا كَذَلِكَ وَالْأَجْزَاءُ الْبَاقِيَةُ فِي فَمِهِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا وَصَفْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ بِاللَّيْلِ سَوِيقًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو إذَا أَصْبَحَ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَحَدٌ بِتَقَصِّي إخْرَاجِهَا بِالْأَخِلَّةِ وَالْمَضْمَضَةِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ لَا حُكْمَ لَهَا. وَأَمَّا الذُّبَابُ الْوَاصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ إرَادَتِهِ، فَإِنَّمَا لَمْ يُفْطِرْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ غَيْرُ مُتَحَفَّظٍ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِطْبَاقِ الْفَمِ وَتَرْكِ الْكَلَامِ خَوْفًا مِنْ وُصُولِهِ إلَى جَوْفِهِ؟ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ يَدْخُلُ إلَى حَلْقِهِ فَلَا يُفْطِرُهُ. وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُوجِرَ مَاءً وَهُوَ صَائِمٌ مُكْرَهًا فَيُفْطِرُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَادَةِ فِي هَذَا تَأْثِيرٌ; وَإِنَّمَا بَيَّنَّا حُكْمَ

وُصُولِ الذُّبَابِ إلَى جَوْفِهِ مَعْلُومًا عَلَى الْعَادَةِ فِي فَتْحِ الْفَمِ بِالْكَلَامِ، وَمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَادَةِ مِمَّا يَشُقُّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ الْعِبَادِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87] . وَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ صِحَّةِ الصَّوْمِ، لِقَوْلِهِ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَأَطْلَقَ الْجِمَاعَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَصَادَفَ فَرَاغُهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعَ الْفَجْرِ أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ صِيَامِهِ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمَهُ ذَلِكَ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ" وَهُوَ يُوجِبُ الْجَنَابَةَ، وَحَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُومَنَّ يَوْمَهُ ذَلِكَ" إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ"، وَهَذَا مِمَّا يُوهِنُ خَبَرَهُ; لِأَنَّهُ قَالَ بَدِيًّا: مَا أَنَا قُلْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَقَدْ أَفْطَرَ مُحَمَّدٌ قَالَ ذَلِكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَأَفْتَى السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِفْطَارِ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ تَبَرَّأَ مِنْ عُهْدَتِهِ وَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا إنَّمَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الرُّجُوعُ عَنْ فُتْيَاهُ بِذَلِكَ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شَبَابَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْ الَّذِي كَانَ يُفْتِي مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُومُ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ خَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَارِضًا لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، بِأَنْ يُرِيدَ: مَنْ أَصْبَحَ عَلَى مُوجِبِ الْجَنَابَةِ بِأَنْ يُصْبِحَ مُخَالِطًا لِامْرَأَتِهِ وَمَتَى أَمْكَنَنَا تَصْحِيحُ الْخَبَرَيْنِ وَاسْتِعْمَالهمَا مَعًا اسْتَعْمَلْنَاهُمَا عَلَى مَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ. فَإِنْ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مُسْتَعْمَلَةَ فِيمَا وَرَدَتْ بِأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ; لِأَنَّهُمَا أَضَافَتَا ذَلِكَ إلَى فِعْلِهِ; وَخَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ عَقَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَتِهِ مُسَاوَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ; لِأَنَّهُ قَالَ حِينَ سَمِعَ رِوَايَةَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ رِوَايَةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ غَيْرُ مُعَارِضَةٍ لِرِوَايَتِي; إذْ كَانَتْ رِوَايَتُهُمَا مَقْصُورَةً عَلَى حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَتِي إنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ; فَهَذَا يُبْطِلُ

تَأْوِيلَكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَاوٍ لِلْأُمَّةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَفْرَدَهُ مِنْ الْجُمْلَةِ بتوقيف للأمة عليه بقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153 – 155] وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِمَّا تُعُبِّدْنَا فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، هِيَ مِنْ الصَّوْمِ الْمُرَادِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَهِيَ إذًا مِنْ الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ جَمِيعًا. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِإِمْسَاكٍ مِمَّا وَصَفْنَا، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ، وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالنِّيَّةُ وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ غَيْرُ حَائِضٍ، فَمَتَى عُدِمَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرَائِطِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُنْ صَوْمًا شَرْعِيَّا. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ وَالصِّحَّةُ فَهُمَا شَرْطُ صِحَّةِ لُزُومِهِ، وَوُجُودُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا يُنَافِي لُزُومَ الصَّوْمِ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَلَوْ صَامَا لَصَحَّ صَوْمُهُمَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ لُزُومِهِ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ" وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ. وَقَدْ يُؤْمَرُ بِهِ الْمُرَاهِقُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِيَعْتَادَهُ وَلِيُمَرَّنَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] قِيلَ فِي التَّفْسِير: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ" وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنَّمَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ فِعْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فَلَا يَصِحُّ لَهُ قِرْبَةٌ إلَّا عَلَى شَرْطِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا. وَأَمَّا الْعَقْلُ، فَإِنْ فُقِدَتْ مَعَهُ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ فَإِنَّمَا يُنْفَى عَنْهُ صِحَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْهُ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ عَزَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ صِحَّةَ صَوْمِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ قِبَلَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِأَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَصِحُّ الْقُرْبَةُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ لَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ شَرْطَ التَّقْوَى تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ كَوْنِهِ مُتَّقِيًا فِعْلَ الصَّوْمِ مِنْ الْمَفْرُوضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ; لِأَنَّ التَّقْوَى لَا تَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِتَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَالْقَصْدِ إلَيْهِ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَلَا يَكُونُ إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ إلَّا بِقَصْدِهِ بِهِ إلَيْهِ رَاغِبًا عَنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ. فَهَذِهِ أُصُولٌ فِي تَعَلُّقِ صِحَّةِ الْفُرُوضِ بالنيات.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَاتِ إيجَادُ النِّيَّةِ لَهَا; لِأَنَّهَا فُرُوضٌ مَقْصُودَةٌ لِأَعْيَانِهَا، فَكَانَ حُكْمُ الصَّوْمِ حُكْمَهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا. فَإِنْ قِيلَ: جَمِيعُ مَا اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلَى كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ وَفِي سَائِرِ الْفُرُوضِ يَلْزَمُكَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ; إذْ كَانَتْ فَرْضًا مِنْ الْفُرُوضِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ; لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا مَقْصُودًا لِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ غَيْرُهَا وَهِيَ شَرْطٌ فِيهِ، فَقِيلَ لَنَا: لَا تُصَلُّوا إلَّا بِطَهَارَةٍ، كَمَا قِيلَ: لَا تُصَلُّوا إلَّا بِطَهَارَةٍ مِنْ نَجَاسَةٍ، وَلَا تُصَلُّوا إلَّا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ; فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَفْرُوضَةً لِأَنْفُسِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْ إيجَادُ النِّيَّة لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ نَفْسَهَا لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لِغَيْرِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ مَفْرُوضَةً لِنَفْسِهَا صَحَّتْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ تُوجَدُ لَهَا؟ فَانْفَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْفُرُوضِ الْمَقْصُودَةِ لِأَعْيَانِهَا وَحُكْمُ مَا جُعِلَ مِنْهَا شَرْطًا لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَفْرُوضٍ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ شَرْطًا لِغَيْرِهَا، وَلَيْسَتْ أَيْضًا بِبَدَلٍ عَنْ سِوَاهَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا النِّيَّةُ; وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إيجَابُنَا النِّيَّةَ فِي التَّيَمُّمِ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ طَهُورًا إلَّا بِانْضِمَامِ النِّيَّةِ إلَيْهِ; إذْ لَيْسَ هُوَ طَهُورًا فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ فَشَرْطُ صِحَّتِهِ إيجَادُ النِّيَّةِ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ. وَشَبَّهَ زُفَرُ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالطَّهَارَةِ فِي إسْقَاطِ النِّيَّةِ لَهُمَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الطَّهَارَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي أَعْضَاءٍ بِعَيْنِهَا فَكَانَ الصَّوْمُ مُشْبِهًا لَهَا فِي كَوْنِهِ مَفْرُوضًا فِي وَقْتٍ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ لَهُ. وَهَذَا عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا لِلطَّهَارَةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الصَّوْمِ; إذْ جَعْلُ عِلَةِ الطَّهَارَةِ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الصَّوْمِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ. وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مُنْتَقَضَةٌ بِالطَّوَافِ; لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَلَوْ عَدَا رَجْلٌ خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ حَوَالِيَ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ طَائِفًا طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْقِي النَّاسَ هُنَاكَ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْوَاجِبِ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ فِي مَعْلُولِهَا مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَأَنْ لَا يُوجِبَ حُكْمَهَا فِيمَا لَيْسَتْ فِيهِ مَوْجُودَةً أَوْلَى. وَعَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مُخَالِفَةٌ لِلصَّوْمِ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهَا غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ لِغَيْرِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ، فَلَمْ تَجِبْ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِيهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُصَلِّ إلَّا، وَأَنْتَ طَاهِرٌ مِنْ الْحَدَثِ، وَمِنْ النَّجَاسَةِ، وَلَا تُصَلِّ إلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ. وَلَيْسَ شَرْطُ غَسْلِ النَّجَاسَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ النِّيَّةَ، كَذَلِكَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ; وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ مَقْصُودٌ لِعَيْنِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَوَجْبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ صِحَّتِهِ إيجَادَ النِّيَّةِ لَهُ. وَمَعْنًى آخَرُ; وَهُوَ أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّوْمَ عَلَى الصَّوْمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِنْهُ الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ، وَمِنْهُ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ. وَأَنَّ أَحَدَهُمَا

إنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ الْآخَرِ بِالنِّيَّةِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ شَرَائِطِهِ، وَمَتَى لَمْ تُوجَدْ لَهُ النِّيَّةُ كَانَ صَوْمًا لُغَوِيًّا لَا حَظَّ فِيهِ لِلشَّرَعِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ فِي يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ أَنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ صَوْمَ شَرْعٍ؟ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ مُشْبِهٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي جَوَازِ تَرْكِ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا بِالْإِمْسَاكِ دُونَ النِّيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَذَلِكَ. وَيَلْزَمُ زُفَرَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَيَّامًا فِي رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ صَائِمًا لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ، وَهَذَا إنْ الْتَزَمَهُ قَائِلٌ كَانَ قَائِلًا قَوْلًا مُسْتَشْنَعًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إيجَادِ النِّيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ إمَّا مِنْ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَ الزَّوَالِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَمِنْ حَيْثُ افْتَقَرَ إلَى نِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِثْلَهُ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِاللَّيْلِ مِنْ الصَّوْمِ، وَمَتَى خَرَجَ مِنْهُ احْتَاجَ فِي دُخُولِهِ فِيهِ إلَى نِيَّةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُعَيَّنًا مِنْ الصِّيَامِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، كَانَ وُجُوبُهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ كَأَنْ يَعْلَمَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ صَائِمًا، وَاسْتَغْنَى عَنْ نِيَّةِ الصِّيَامِ بِذَلِكَ; فَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا; فَصَامَ أَوَّلَ يَوْمٍ أَنَّهُ يُجْزِيهِ بَاقِيَ الْأَيَّامِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ; وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ: إذَا نَوَاهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ أَجْزَأَهُ. قَالَ: وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَهُ أَجْرُ مَا يَسْتَقْبِلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُحْتَاجُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ اللَّيْلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجْزِيهِ نِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي كُلُّ صَوْمٍ وَاجِبٍ رَمَضَانَ وَغَيْرَهُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَيُجْزِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ. فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اكْتَفَى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ افْتِقَارِ صَوْمِ الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَالدُّخُولُ فِي الصَّوْمِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْيَوْمِ الثَّانِي إيجَادَ النِّيَّةِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: يَكْتَفِي بِالنِّيَّةِ الْأُولَى، وَهِيَ نِيَّةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ كَمَا يَجْتَزِئُ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَوَّلِهَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ النِّيَّة لِكُلِّ رَكْعَةٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَخَلَّلُ رَكَعَاتِهَا صَلَاةٌ أُخْرَى غَيْرَهَا كَمَا لَا يَتَخَلَّلُ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامٌ مِنْ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلشَّهْرِ لَجَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهَا لِعُمْرِهِ كُلِّهِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَاحْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ لِأَوَّلِ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّيَّةُ لِسَائِرِ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِسَائِرِ عُمُرِهِ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِالصَّلَاةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا اُكْتُفِيَ فِيهَا بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَفْعُولٌ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ فَكَانَتْ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةً عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى تَرَكَ رَكْعَةً حَتَّى

خَرَجَ مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كُلُّهَا، وَأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِأَنْ أَفْطَرَ فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ صَوْمُ سَائِرِ الشَّهْرِ؟ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِفِعْلِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ أُخْرَى، إذْ النِّيَّةُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلدُّخُولِ فِيهَا، فَأَمَّا الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ اللَّيْلُ خَرَجَ مِنْ الصَّوْمِ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" فَاحْتَاجَ بَعْد الْخُرُوجِ مِنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى الدُّخُولِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ الْمُتَجَدِّدَةِ. وَإِنَّمَا أَجَازَ أَصْحَابُنَا تَرْكَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْل فِي كُلِّ صَوْمٍ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ إذَا نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِصَوْمِهِ وَوَاجِبٌ أَنْ يَجْزِيَهُ إذَا فَعَلَ، مَا أُمِرَ بِهِ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ الْآكِلِينَ بِالْقَضَاءِ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "أَصُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟ " قَالُوا: لَا قَالَ: "فَأَتِمُّوا يَوْمَكُمْ هَذَا وَاقْضُوا" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا; وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مَنْ أَكَلَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْآكِلِينَ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَأَمَرَ الْآكِلِينَ بِالْإِمْسَاكِ وَالْقَضَاءِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا بِالصَّوْمِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ الصَّوْمِ مَا كَانَ مَفْرُوضًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَجَائِزٌ تَرْكُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطُ صِحَّتِهِ إيجَادَ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ لَمَا أَمَرَهُمْ بِالصِّيَامِ وَلَكَانُوا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْآكِلِينَ فِي بَابِ امْتِنَاعِ صِحَّةِ صَوْمِهِمْ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ وُجُودَ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ لَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ تَرْكُ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ لَزِمَهُمْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ; فَلِذَلِكَ أَجْزَى لَهُ مَعَ تَرْكِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، وَأَمَّا بَعْدَ ثُبُوتِ فَرْضِ الصَّوْمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ نِيَّةٌ مِنْ اللَّيْلِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ إيجَادُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهَا مَانِعًا صِحَّتَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ كَانَ وُجُودُهُ مَانِعًا مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْفَرْضِ الْمُبْتَدَأِ فِي بَعْضِ النَّهَارَ وَحُكْمُ مَا تُقَدَّمَ فَرْضُهُ; فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآكِلِينَ بِالْإِمْسَاكِ وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ; لِأَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ تَارِكِي النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ بِالْقَضَاءِ، وَحَكَمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ صَوْمِهِمْ إذَا ابْتَدَءُوهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، ثَبَتَ

بِذَلِكَ أَنَّ إيجَادَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّوْمِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا يُوجِبُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ يُحْدِثُهَا بِالنَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَرْضُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ مَنْسُوخٌ بِرَمَضَانَ، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْمَنْسُوخِ عَلَى صَوْمٍ ثَابِتِ الْحُكْمِ مَفْرُوضٍ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ نُسِخَ فَرْضُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ دَلَالَتُهُ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ نَظَائِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ نُسِخَ وَلَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ؟ وَكَذَلِكَ قَدْ نُسِخَ فَرْضُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَلَمْ يُنْسَخْ سَائِرُ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ؟ وَلَمْ يَمْنَعْ نسخها من الاستدلال بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فِي إثْبَاتِ التَّخْيِيرِ فِي إيجَابِ الْقِرَاءَةِ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَزَلَ فِي شَأْنِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ يُجْزِي أَنْ يَنْوِيَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ، لِمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فَقَالَ: "مَنْ تَغَدَّى مِنْكُمْ فَلْيُمْسِكْ وَمَنْ لَمْ يَتَغَدَّ فَلْيَصُمْ! " وَالْغَدَاءُ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذِكْرُ الْغَدَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ بِالْغَدَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ جَوَازَ النِّيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي وَقْتٍ يُسَمَّى غَدَاةٌ، وَإِلَّا كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْأَكْلِ دُونَ ذِكْرِ الْغَدَاةِ لَوْ كَانَ حُكْمُ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً، فَلَمَّا أَوْجَبَ أَنْ يَكْسُوَ هَذَا اللَّفْظُ فَائِدَتَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَائِدَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ نِيَّتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. وَإِنَّمَا أَجَازُوا تَرْكَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن السُّلَمِيُّ الْبَلْخِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ وَلَمْ يَجْمَعَ لِلصَّوْمِ فَيَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينَا فَيَقُولُ: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ؟ " فَإِنْ كَانَ وَإِلَّا قَالَ: "فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ". فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَعْزِمْ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ فَقَدْ وُجِدَ غَيْرُ صَائِمٍ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْآكِلِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ صَوْمُ يَوْمِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا مَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ عَارِيًّا مِنْ نِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فِي مَنْعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ; فَكَذَلِكَ عَدَمُ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ مِنْ الصِّيَامِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ صَوْمِهِ، وَلَا يَكُونُ عَدَمُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْأَكْلِ فِيهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَأَيْضًا فَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ لَمْ يَكُنْ عُزُوبُ نِيَّتِهِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْطُ بَقَائِهِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ لَهُ; فَلِذَلِكَ جَازَ تَرْكُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ

النَّهَارِ لِبَعْضٍ مِنْ الصَّوْمِ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ صَوْمِهِ. وَلَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ أَكَلَ فِي آخِرِهِ كَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِصَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْأَكْلِ بِمَنْزِلَةِ عُزُوبِ النِّيَّةِ; فَاسْتَوَى حُكْمُ الْأَكْلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ وَاخْتُلِفَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ; فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ يَنْوِيَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، فَيَكُونَ مَا مَضَى مِنْ الْيَوْمِ مَحْكُومًا لَهُ بِحُكْمِ الصَّوْمِ كَمَا يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الصَّوْمِ مَعَ عُزُوبِ النِّيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لَهَا، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّوْمِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَوْمِ مَنْ نَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ نَامَ فَأَصْبَحَ نَائِمًا، وَأَنَّ صَوْمَهُ تَامٌّ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُقَارَنَةِ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِحَالِ الدُّخُولِ، وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ ثُمَّ اشْتَغَلَ عَنْهَا ثُمَّ تَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ إلَّا بِنِيَّةٍ يُحْدِثُهَا عِنْدَ إرَادَتِهِ الدُّخُولَ; فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطُ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لَهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَكَانَ شَرْطُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الدُّخُولِ فِي ابْتِدَائِهَا، وَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الصَّوْمِ بِالصَّلَاةِ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ صَوْمَ التَّطَوُّعِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَلَقِّي هَذَا الْخَبَرِ بِالْقَبُولِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الدُّخُولُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ إلَّا بِنِيَّةٍ تُقَارِنُهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ النِّيَّةِ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حَفْصَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ" وَكَانَ عُمُومُ ذَلِكَ يَقْتَضِي إيجَادُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِسَائِرِ ضُرُوبِ الصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي الصَّوْمِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ سَلَّمْنَاهَ لِلدَّلَالَةِ لَهُ وَخَصَّصْنَاهُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَاهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى ذَلِكَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ; لِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ، وَأَيُّ وَقْتٍ ابْتَدَأَ فِيهِ فَهُوَ وَقْتُ فَرْضِهِ، فَكَانَ كَسَائِرِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ. وَالْأَحْكَامُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إلْزَامُ صَوْمِ الشَّهْرِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاهِدًا لَهُ، وَشُهُودُ الشَّهْرِ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ: الْعِلْمُ بِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَاهَدْتُ كَذَا وَكَذَا; وَالْإِقَامَةُ فِي الْحَضَرِ، مِنْ قَوْلِكَ: مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ وَشَاهِدٌ وَغَائِبٌ; وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. ثُمَّ أَفَادَ مَنْ نَسْخِ فَرْضِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ كَانَ فَرْضًا غَيْرَ رَمَضَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِهِ، وَنُسِخَ بِهِ أَيْضًا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ لِلصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، وَأَفَادَ أَنَّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ صَوْمُهُ. وحكم

آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالشَّهْرِ بَعْدَمَا أَصْبَحَ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا فَبَرَأَ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، أَوْ مُسَافِرًا قَدِمَ; فَعَلَيْهِمْ صَوْمُهُ; إذْ هُمْ شَاهِدُونَ لِلشَّهْرِ. وَأَفَادَ أَنَّ فَرْضَ الصِّيَامِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَوْ لَيْسَ بِمُقِيمٍ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لَهُ. وَأَفَادَ تَعْيِينُ الشَّهْرِ لِهَذَا الْفَرْضِ حَتَّى لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لِمَنْ شَهِدَهُ. وَأَفَادَ أَنَّ مُرَادَهُ بَعْضُ الشَّهْرِ لَا جَمِيعُهُ فِي شَرْطِ لُزُومِ الصَّوْمِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِهِ وَالصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ فَعَلَيْهِمَا صَوْمُ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ. وَأَفَادَ أَنَّ مَنْ نَوَى بِصِيَامِهِ تَطَوُّعًا أَجْزَأهُ، لِوُرُودِ الْأَمْرِ مُطْلَقًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ وَلَا مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، فَاقْتُصِرَ جَوَازُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَهُ. وَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا صَامَ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالشَّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ; وَيَحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا مَنْ يَقُولُ: إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يُفْطِرْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . فَهَذَا الَّذِي حَضَرَنَا مِنْ ذِكْرِ فَوَائِدَ قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} وَلَا نَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِدَّةُ فَوَائِدَ غَيْرَهَا لَمْ يُحِطْ عِلْمُنَا بِهَا، وَعَسَى أَنْ نَقِفَ عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ أَوْ يَسَتَنْبِطَهَا غيرنا. وأما ما تضمنه قوله: {فَلْيَصُمْهُ} فَهُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرْنَا بِالْإِمْسَاكِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّوْمِ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ شَرَائِطِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ. بَابُ كَيْفِيَّةِ شُهُودِ الشَّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال تعالى: {سْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ، فَإِنْ رُئِيَ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي إيجَابِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ هِيَ شهود

الشَّهْرِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} عَلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُرَى فِيهَا الْهِلَالُ مِنْ الشَّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" فَقَالَ قَائِلُونَ: أَرَادَ بِهِ اعْتِبَارَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْقَمَرِ، لَوْ لَمْ يَحُلْ دُونَهُ سَحَابٌ وَقَتَرَةٌ وَرُئِيَ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِحُكْمِ الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَمَّا التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فَسَاقِطُ الِاعْتِبَارِ لَا مَحَالَةَ لِإِيجَابِهِ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَمَوَاضِعِهِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} فَعَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ عِبَادَةً تَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ عَسَى لَا يُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِمْ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْخَبَرِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكِنُ يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاقْدُرُوا لَهُ بِنَصٍّ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ" فَأَوْضَحَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَاقْدُرُوا" بِمَا سَقْطَ بِهِ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَدِّ ثَلَاثِينَ مَعَ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ، وَلَمْ يُوجِبْ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلٌ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَرَأَيْنَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صُومُوا رَمَضَانَ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ غَمَامَةٌ أَوْ ضَبَابَةٌ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ" فَأَوْجَبَ عَدَّ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَائِلِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ مِنْ سَحَابٍ أَوْ نَحْوِهِ. فَالْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَحِسَابِ الْمُنَجَّمِينَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بِخِلَافِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا

ثَلَاثِينَ" هُوَ أَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ، إلَّا أَنْ يُرَى قَبْلَ ذَلِكَ الْهِلَالُ، فَإِنَّ كُلَّ شَهْرٍ غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نَعُدَّهُ ثَلَاثِينَ. هَذَا فِي سَائِرِ الشُّهُور الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِينَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "مِنْ آجَرَ دَارِهِ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ أَنَّهُ يَكُونُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ وَشَهْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمَا يُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ مِنْ آخِرِ شَهْرٍ بِمِقْدَارِ نُقْصَانِهِ; لِأَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ابْتِدَاؤُهُ بِغَيْرِ هِلَالٍ فَاسْتَوْفَى لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَسَائِرُ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ غَيْرُهَا وَقَالُوا: لَوْ آجَرَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ لَكَانَتْ كُلُّهَا بِالْأَهِلَّةِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا تُقْبَلُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ شَهَادَةُ رَجُلٍ عَدْلٍ إذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا شَهَادَةُ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُوجِبُ خَبَرُهَا الْعِلْمَ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَدَّ فِي ذَلِكَ خَمْسِينَ رَجُلًا. وَكَذَلِكَ هِلَالُ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، فَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ يُقْبَلُ مِثْلُهُمَا فِي الْحُقُوقِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ: لَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إنْ شَهِدَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عَدْلٌ وَاحِدٌ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ فِيهِ، وَالِاحْتِيَاطُ وَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا شَاهِدَانِ، وَلَا أَقْبَلُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا عَدْلَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ شَهَادَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ; لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ قَدْ عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِطَلَبِ الْهِلَالِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَطْلُبَهُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَلَا عِلَةَ بِالسَّمَاءِ مَعَ تَوَافِي هِمَمِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى رُؤْيَتِهِ، ثُمَّ يَرَاهُ النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ وَلَا يَرَاهُ الْبَاقُونَ مَعَ صِحَّةِ أَبْصَارِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ عَنْهُمْ، فَإِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ دُونَ كَافَّتِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَالِطُونَ غَيْرُ مُصِيبِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا خَيَالًا فَظَنُّوهُ هِلَالًا أَوْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ; إذْ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ تَقْضِي الْعُقُولُ بِصِحَّتِهِ وَعَلَيْهِ مَبْنَى أَمْرُ الشَّرِيعَةِ، وَالْخَطَأُ فِيهِ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ إلَى إدْخَالِ الشُّبْهَةِ عَلَى الْأَغْمَارِ وَالْحَشْوِ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَسَبِيلُ ثُبُوتِهِ الِاسْتِفَاضَةُ وَالْخَبَرُ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ مِثْلِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، نَحْوُ إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ الْمَرْأَةِ وَالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ وَالْوُضُوءِ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْبَلْوَى عَامَّةً مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ إلَّا وَقَدْ بَلَّغَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَوَقَفَ الْكَافَّةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا عَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهَا تَرْكُ النَّقْلِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْوَاحِدِ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِنَقْلِهِ، وَهُمْ الْحُجَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولِ إلَيْهِمْ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهَا تَضْيِيعُ مَوْضِعِ الْحُجَّةِ; فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْهُ قَوْلٌ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ فَحَمَّلَهُ النَّاقِلُونَ الْأَفْرَادَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ظَنُّوهُ دُونَ الْوَجْهِ الْآخَرِ، نَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْيَدِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ". وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَبِتَضْيِيعِ هَذَا الْأَصْلِ دَخَلْتَ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْمٍ فِي انْتِحَالِهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ كَتَمَتْ ذَلِكَ، وَأَخْفَتْهُ; فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَرَدُّوا مُعْظَمَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَادَّعُوا فِيهِ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ لَهَا حَقِيقَةٌ وَلَا ثَبَاتٌ لَا مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْجَمَاعَاتِ وَلَا مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ، وَطَرَقُوا لِلْمُلْحِدِينَ أَنْ يَدَّعُوا فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَسَهَّلُوا لِلْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ السَّبِيلَ إلَى اسْتِدْعَاءِ الضَّعَفَةِ وَالْأَغْمَارِ إلَى أَمْرٍ مَكْتُومٍ زَعَمُوا حِينَ أَجَابُوهُمْ إلَى تَجْوِيزِ كِتْمَانِ الْإِمَامَةِ مَعَ عِظَمِهَا فِي النُّفُوسِ وَمَوْقِعِهَا مِنْ الْقُلُوبِ، فَحِينَ سَمَحَتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ وَضَعُوا لَهُمْ شَرَائِعَ زَعَمُوا أَنَّهَا مِنْ الْمَكْتُومِ، وَتَأَوَّلُوهَا تَأْوِيلَاتٍ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْإِمَامِ، فَسَلَخُوهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَدْخَلُوهُمْ فِي مَذْهَبِ الْخَرْمِيَّةِ فِي حَالٍ وَالصَّابِئِينَ فِي أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا صَادَفُوا مِنْ قَبُولِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ وَسَمَاحَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لَهُمْ مَا ادَّعُوهُ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مُجَوِّزَ كِتْمَانِ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَصْحِيحُ مُعْجِزَاتِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ; لِأَنَّ مِثْلَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَوْطَانِهِمْ إذَا جَازَ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُ أَمْرِ الْإِمَامَةِ فَجَائِزٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ; إذْ كَانَ مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ فَجَائِزٌ فِيهِ التَّوَاطُؤُ عَلَى وَضْعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ لَا نَأْمَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ بِمُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَاطِئِينَ عَلَى ذَلِكَ كَاذِبِينَ فِيهِ كَمَا تَوَاطَئُوا عَلَى كِتْمَانِ النَّصِّ عَلَى الْإِمَامِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّاقِلِينَ لِمُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ الَّذِينَ زَعَمَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ أَنَّهَا كَفَرْتَ، وَارْتَدَّتْ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتْمَانِهَا أَمْرَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَدُّوا مِنْهُمْ كَانُوا خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً، وَخَبَرُ هَذَا الْقَدْر مِنْ الْعَدَدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَلَا تَثْبُتُ بِهِ مُعْجِزَةٌ، وَخَبَرُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَهُمْ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمْ عِنْدَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَصَارَ صِحَّةُ النَّقْلِ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَدَدِ الْيَسِيرِ، فَلَزِمَهُمْ دَفْعُ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْطَالِ نُبُوَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ أَمْرُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ

التَّشْرِيقِ مِمَّا عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهِ; وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكُلُّ مَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَرْوِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَفِي هَذَا مَا يُبْطِلُ أَصْلَكَ الَّذِي بَنَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَمْ تَنْقُلْهُ حِينَ وَرَدَ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَفِي ذَلِكَ هَدْمُ قَاعِدَتِكَ أَيْضًا فِي اعْتِبَارِ نَقْلِ الْكَافَّةِ فِيمَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ مَنْ لَمْ يَضْبِطْ الْأَصْلَ الَّذِي بَنَيْنَا عَلَيْهِ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَة، وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا يَلْزَمُ الْكَافَّةَ وَيَكُونُونَ مُتَعَبَّدِينَ فِيهِ بِفَرْضٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُ وَلَا مُخَالَفَتُهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْإِمَامَةِ وَالْفُرُوضِ الَّتِي تَلْزَمُ الْعَامَّةَ، أَمَّا مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي أَنْ يَفْعَلُوا مَا شَاءُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى الْأَفْضَلِ مِمَّا خَيَّرَهُمْ فِيهِ; وَهَذَا سَبِيلُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي نَحْنُ مُخَيَّرُونَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا; فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ بَعْضِ الْأَخْبَارِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ مِنْهُ جَمِيعُ ذَلِكَ تَعْلِيمًا مِنْهُ وَجْهَ التَّخْيِيرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قَدْ وُقِفُوا عَلَيْهِ وَحُظِّرَ عَلَيْهِمْ مُجَاوَزَتُهُ وَتَرْكُهُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ عُمُومِ بَلْوَاهُمْ بِهِ، فَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمَنَا أَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلَوِيّ فَسَبِيلُ وُرُودِهِ أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ; وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَإِنَّ مِثْلَهُ يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ حَتَّى لَا يَرَاهُ مِنْهُمْ إلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ إذَا انْجَابَ عَنْهُ لَمْ يَسْتُرْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَهُ الْآخَرُونَ; فَلِذَلِكَ قُبِلَ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَإِنَّمَا قَبِلَ أَصْحَابُنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، لِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ مَرَّةً فَأَرَادُوا أَنْ لَا يَقُومُوا وَلَا يَصُومُوا، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْحَرَّةِ فَشَهِدَ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ وَشَهِدَ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ; فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ، فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَقُومُوا وَأَنْ يَصُومُوا. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَنْ يَقُومُوا، كَلِمَةٌ لَمْ يَقُلْهَا إلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَأَنَا بِحَدِيثِهِ أَتْقَنُ قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ،

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ يَلْزَمُ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ الِاسْتِفَاضَةِ فِيهِ وَجَبَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الِاسْتِفَاضَةُ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا يُقْبَلُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا عَاضَدَ الْقِيَاسُ مِنْ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ. وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، لِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرْنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ الْجَدَلِيُّ مِنْ جَدِيلَةِ قَيْسٍ، أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا فَسَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْحَارِثِ: مَنْ أَمِيرُ مَكَّةَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ لَقِيَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ: إنَّ فِيكُمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنِّي وَشَهِدَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى رَجُلٍ. قَالَ الْحُسَيْنُ: فَقُلْتُ لِشَيْخٍ إلَى جَنْبِي: مَنْ هَذَا الَّذِي أَوْمَأَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ; وَصَدَقَ، كَانَ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَقَالَ: بِذَلِكَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَوْلُهُ "أَمَرَنَا أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ" إنَّمَا هُوَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ لِوُقُوعِ اسْمِ النُّسُكِ عَلَيْهِمَا دُونَ صَوْمِ رَمَضَانَ; لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ مُطْلَقًا، وَقَدَ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَالذَّبْحَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تعالى: {رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فَجَعَلَ النُّسُكَ غَيْرَ الصِّيَامِ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النُّسُكَ يَقَعُ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ: "إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ"; فَسَمَّى الصَّلَاةَ نُسُكًا. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الذَّبْحَ نُسُكًا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام: 162] وَفِي قَوْلِهِ: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ "عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْسُكَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ عَدْلٍ" قَدْ انْتَظَمَ صَلَاةَ الْعِيدِ لِلْفِطْرِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الِاسْتِظْهَارَ بِفِعْلِ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِظْهَارِ بِتَرْكِهِ، فَاسْتَظْهِرُوا لِلْفِطْرِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيمَا لَا صَوْمَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ الْأَكْلِ فِي يَوْمِ الصَّوْمِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا تَرْكُ الِاسْتِظْهَارِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَدْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ،

فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتَهُ وَاعْتَبَرْتَ الِاسْتِظْهَارَ بِرَجُلَيْنِ فَلَسْتَ تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا يَوْمَ الْفِطْرِ، وَفِيهِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ وَضِدُّ الِاحْتِيَاطِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا حَظَرَ عَلَيْنَا الصَّوْمَ فِيهِ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ فَالصِّيَامُ فِيهِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ يَوْمُ الْفِطْرِ وَوَقَفْنَا بَيْنَ فِعْلِ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ كَانَ فِعْلُهُ أَحْوَطَ مِنْ تَرْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ بِشَهَادَةِ مَنْ يَقْطَعُ الْحُقُوقَ بِشَهَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ; لِأَنَّ الشَّاكَّ غَيْرُ شَاهِدٍ لِلشَّهْرِ; إذْ هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَصُومَهُ عَنْ رَمَضَانَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" فَحَكَمَ لِلْيَوْمِ الَّذِي غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُهُ بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُصَامَ شَعْبَانُ عَنْ رَمَضَانَ مُسْتَقْبَلًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْمَخْلَدِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ عَلِيٍّ الْقُرَشِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الدَّأْدَأَةِ. وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ لَا يُدْرَى مِنْ شَعْبَانَ هُوَ أَمْ مِنْ رَمَضَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَأُتِيَ بِشَاةٍ، فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ عَمَّارٌ: "مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِصِيَامِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ". وَمَعَانِي هَذِهِ الْآثَارِ مُوَافِقَةٌ لِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلَا يَرَى أَصْحَابُنَا بَأْسًا بِأَنْ يَصُومَهُ تَطَوُّعًا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَمَ بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ أَبَاحَ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْهِلَالِ يُرَى نَهَارًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا رَأَى الْهِلَالَ نَهَارًا فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي وَائِلٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِذَا رَآهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ; وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ

عَنْ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ ببلنجر فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ ضُحًى فَأَخْبَرْتُهُ، فَجَاءَ فَقَامَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُخَاطَبًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ مُرَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي خِطَابِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ حَالًا مِنْ حَالٍ، فَهُوَ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ رَأَى الْهِلَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ الْخِطَابُ بِإِتْمَامِ الصَّوْم بَلْ كَانَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ اللَّفْظِ، فَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لَدُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ صَوْمٌ يَسْتَقْبِلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ; وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِحَالَةُ الْأَمْرِ بِصَوْمِ يَوْمٍ مَاضٍ، وَالْآخَرُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ عَلَيْهِ صِيَامُ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الْأَيَّامِ. فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" إنَّمَا هُوَ صَوْمٌ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، فَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ لَزِمَهُ صَوْمُ مَا يَسْتَقْبِلُ دُونَ مَا مَضَى لِقُصُورِ مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَوْمٍ يَفْعَلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ. وَأَيْضًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" فَأَوْجَبَ بِذَلِكَ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِينَ لِكُلِّ شَهْرٍ يَخْفَى عَلَيْنَا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِيهِ، فَلَوْ اُحْتُمِلَ الْهِلَالُ الَّذِي رَأَى نَهَارًا اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ وَاحْتُمِلَ اللَّيْلَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ لِذَلِكَ جَاعِلُهُ فِي حُكْمِ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا رُؤْيَتُهُ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُعِدَّ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: لما قال صلى عليه السلام: "وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" اقْتَضَى ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِفْطَارِ أَيَّ وَقْتٍ رَأَى الْهِلَالَ فِيهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ مَزْجُورٌ عَنْ الْإِفْطَارِ لِرُؤْيَتِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ خَصَّصْنَاهُ مِنْهُ وَبَقِيَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِي رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ. قِيلَ لَهُ: مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَتُهُ لَيْلًا، بِدَلَالَةِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا تُوجِبُ لَهُ الْإِفْطَارَ; لِأَنَّهُ رَآهُ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ شَوَّالٍ وَمَا قَبْلَهْ مِنْ رَمَضَانَ لِحُصُولِ الْيَقِينِ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِفْطَارُ لِرُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لَا لِرُؤْيَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ، لِاسْتِحَالَةِ أَمْرِهِ بِالْإِفْطَارِ فِي وَقْتٍ قَدْ تَقَدَّمَ الرُّؤْيَةُ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ شَوَّالٍ، وَمَا قَبْلَهَا مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونُ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبَعْضَ يَوْمٍ.

وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّهْرِ بِأَحَدِ عَدَدَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ" وَقَوْلُهُ: "الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ" وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ فِي أَنَّ الشَّهْرَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، وَأَنَّ الشُّهُورَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ دُونَ أَنْ يَكُونَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَبَعْضَ يَوْمٍ، وَإِنَّمَا النُّقْصَانُ وَالزِّيَادَةُ بِالْكُسُورِ إنَّمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الشُّهُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ، نَحْوُ شُهُورِ الرُّومِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَرُبْعُ يَوْمٍ وَهُوَ شُبَاطُ إلَّا فِي السَّنَةِ الْكَبِيسَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ وَمِنْهَا مَا هُوَ ثَلَاثُونَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشُّهُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ. كَذَلِكَ فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ إلَّا ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِقَوْلِهِ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" إلَّا أَنْ يُرَى لَيْلًا، وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا لِإِيجَابِهِ كَوْنَ بَعْضِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ وَبَعْضُهُ مِنْ شَهْرٍ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" هُوَ الَّذِي قَالَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" وَرُؤْيَتُهُ نَهَارًا فِي مَعْنَى مَا قَدْ غُمِّيَ عَلَيْنَا لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ فِي كَوْنِهِ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَدَّهُ ثَلَاثِينَ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَنَدِهِ; فَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهِلَالِ الَّذِي قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلٌ مِنْ سَحَابٍ بِحُكْمِ مَا لَمْ يُرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلٌ مِنْ سَحَابٍ لَرُئِيَ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: "فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" مَعْنًى; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْعِلْمِ لَنَا بِأَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلًا مِنْ سَحَابٍ لَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" فَيَجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا لِعَدِّ ثَلَاثِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْيَأْسِ مِنْ وُقُوعِ عِلْمِنَا بِذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ اقْتَضَى هَذَا الْقَوْلُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا مَتَى عَلِمْنَا أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْهِلَالِ حَائِلًا مِنْ سَحَابٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَرَأَيْنَاهُ أَنْ نَحْكُمَ لِهَذَا الْيَوْمِ بِغَيْرِ حُكْمِ الرُّؤْيَةِ، فَاعْتِبَارُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِنْ اللَّيْلِ فِيمَا رَأَيْنَاهُ نَهَارًا أَوْلَى، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا الْيَوْمِ حُكْمَ مَا قَبْلَهُ وَيَكُونَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِنْ اللَّيْلِ، بَلْ هُوَ أَضْعَفُ أَمْرًا مِمَّا حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ سَحَابٌ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ وَهَذَا لَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِأَنَّهُ مِنْ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ بَلْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّا لَمْ نَرَهُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ مَعَ عَدَمِ الْحَائِلِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ للصواب.

بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} .

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَدْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامٍ مَنْكُورَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا إنْ شَاءَ أَوْ مُتَتَابِعًا; وَمَنْ شَرَطَ فِيهِ التَّتَابُعَ فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إيجَابُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ الصَّوْمَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعَ; إذْ هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ؟ وَالْآخَرُ: تَخْصِيصُهُ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فَكُلُّ مَا كَانَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ فَقَدْ اقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَ فِعْلِهِ، وَفِي إيجَابِ التَّتَابُعِ نَفْيُ الْيُسْرِ وَإِثْبَاتُ الْعُسْرِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. والوجه الثالث: قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَضَاءُ عَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَّا إكْمَالَ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ، فَغَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ قَالُوا: "إنْ شِئْتَ قَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا وَإِنْ شِئْتَ مُتَتَابِعًا". وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: اقْضِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا فَإِنْ فَرَّقْتَهُ أَجْزَأَكَ. وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ: لَا يُفَرَّقُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَأَنَّهُ إنْ فَرَّقَ أَجْزَأَهُ، كَمَا رَوَاهُ شَرِيكٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْتَهُ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ قَضَاءُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعٌ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسِ الْمَكِّيِّ قَالَ: كُنْت أَطُوفُ مَعَ مُجَاهِدٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ صِيَامِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَيُتَابِعُ؟ قُلْتُ: لَا فَضَرَبَ مُجَاهِدٌ فِي صَدْرِي وَقَالَ: إنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ مُتَتَابِعَاتٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: يُتَابِعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا أَحَبُّ إلَيْنَا، وَإِنْ فَرَّقَ أَجْزَأَهُ. فَحَصَلَ مِنْ إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ جَوَازُ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى حَمَّادٌ عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ أُمِّ هَانِئٍ أَوْ ابْنِ بِنْتِ أُمِّ هَانِئٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَهَا فَضْلَ شَرَابِهِ فَشَرِبَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ فَقَالَ: "إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَصُومِي يوما مكانه،

وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِيهِ" فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَضَاءِ يَوْمٍ مَكَانَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِاسْتِئْنَافِ الصَّوْمِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّتَابُعَ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ التَّفْرِيقِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لَأَرْشَدَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَبَيَّنَّهُ لَهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَفْسَهُ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَيَّامٍ مُتَجَاوِرَةٍ، وَلَيْسَ التَّتَابُعُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِقْبَالُ الصَّوْمِ وَجَازَ مَا صَامَ مِنْهُ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مُتَتَابِعًا فَقَضَاؤُهُ أَحْرَى بِأَنْ لَا يَكُونَ مُتَتَابِعًا، وَلَوْ كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لَكَانَ إذَا أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافَهُمَا؟. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَطَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرَ مَعْقُودِ بِشَرْطِ التَّتَابُعِ، وَقَدْ شَرَطْتُمْ ذَاكَ فِيهِ وَزِدْتُمْ فِي نَصِّ الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ "مُتَتَابِعَاتٍ" وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَالَ: كَمَا فِي قِرَاءَتِنَا "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ أُبَيٌّ يَقْرَؤُهَا: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ". وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا جَمِيعًا عَلَى الْفَوْرِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قَضَائِهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَفِي وُجُوبِ ذَلِكَ إلْزَامُ التَّتَابُعِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَوْنُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي شَيْءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ صَوْمُ أَوَّلِ يَوْمٍ فَصَامَهُ ثُمَّ مَرِضَ فَأَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ التَّتَابُعُ وَلَا اسْتِئْنَافُ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَ التَّتَابُعِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ الْمُهْلَةِ، وَأَنَّ التَّتَابُعَ لَهُ صِفَةٌ أُخْرَى غَيْرُهُ وَاَللَّهُ أعلم.

بَاب فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَصُومَ أَيَّ وَقْتٍ يَشَاءُ" وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ. وَاَلَّذِي عِنْدِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ لم يكن

قَضَاءُ رَمَضَانَ مُوَقَّتًا بِالسَّنَةِ لَمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ ثَانِي يَوْمِ الْفِطْرِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ بِالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِآخِرِ وَقْتِ وُجُوبِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِفَرْضٍ مَجْهُولٍ عِنْدَ الْمَأْمُورِ ثُمَّ يَلْحَقُهُ التَّعْنِيفُ وَاللَّوْمُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَهُمْ جَوَازُ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ، ثَبَتَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ مُوَقَّتٌ بِمُضِيِّ السَّنَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الظُّهْرِ لَمَّا كَانَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ مَعْلُومَيْنِ جَازَ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِفِعْلِهَا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَجَازَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُخَافُ فَوْتُهَا بِتَرْكِهَا; لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الَّذِي يَكُونُ مُفَرَّطًا بِتَأْخِيرِهَا مَعْلُومٌ. وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ تَأْخِيرِهِ فِي السَّنَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ; وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ كَانَ لِيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَا اُسْتُطِيعَ أَنْ أَقْضِيَهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: لَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ وَكَذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: اقْضِ رَمَضَانَ مَتَى شِئْتَ. فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى حَضَرَ رَمَضَانُ آخَرُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "يَصُومُ الثَّانِي عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ أَطْعَمَ مَعَ الْقَضَاءِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: كُلُّ يَوْمٍ مُدًّا، وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ بِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَلَا إطْعَامَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَإِذَا فَرَّطَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ وَمَرِضَ فِي الْآخَرِ حَتَّى انْقَضَى ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ: مُدًّا لِتَضْيِيعِهِ وَمُدًّا لِلصِّيَامِ، وَيُطْعِمُ عَنْ الْآخَرِ مُدًّا لِكُلِّ يَوْمٍ. وَاتَّفَقَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْلِهِ قَبْلَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ إذَا مَرِضَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ مَا قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرَى بَأْسًا بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيَشَانِيِّ قَالَ: جَمَعَنَا الْمَجْلِسُ بَطَرَابُلْسَ وَمَعَنَا وُهَيْبٍ بْنُ مَعْقِلٍ الْغِفَارِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ صَاحِبَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَمْرٌو: أَفْصِلُ

رَمَضَانَ، وَقَالَ الْغِفَارِيُّ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ رَمَضَانَ، فَقَالَ عَمْرٌو: نُفَرِّقُ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْبَغْلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَأُفَرِّقُ بَيْنَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا أَكَانَ يُجْزِيكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ جَوَازَ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إيجَابُ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ; رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَرِضْتُ رَمَضَانَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْتَمَرَّ بِكَ مَرَضُكَ أَوْ صَحَحْتَ فِيمَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: بَلْ صَحَحْت فِيمَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَدَعْهُ حَتَّى يَكُونَ فَقَامَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: ارْجِعْ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فَرَجَعَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: صُمْ رَمَضَانَيْنِ وَأُطْعِمْ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي رَجُلٍ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، قَالَ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَيُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَهُ فِي الْحَامِلِ أَنَّهَا تُطْعِمُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ; رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّ رَجُلًا اُحْتُضِرَ فَقَالَ لِأَخِيهِ: إنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ دَيْنًا وَلِلنَّاسِ عَلَيَّ دَيْنٌ فَابْدَأْ بِدَيْنِ اللَّهِ فَاقْضِهِ ثُمَّ اقْضِ دَيْنَ النَّاس، إنَّ عَلَيَّ رَمَضَانَيْنِ لَمْ أَصُمْهُمَا، فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا شَأْنُ الْبُدْنِ وَشَأْنُ الصَّوْمِ؟ أَطْعِمْ عَنْ أَخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَحَّ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ أَنَّهُ يَقُولُ: وَجَدْتُهُ يَعْنِي وُجُوبَ الْإِطْعَامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةَ مُخَالِفًا وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ، وَعَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ وَعَلَى أَنْ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ; لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ مَعَ الْقَضَاءِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ قَضَاءَ الْعِدَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْفِدْيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الْعِدَّةِ

فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَاجِبٌ بِالْآيَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ الْقَضَاءَ دُونَ الْفِدْيَةِ وَفِي بَعْضِهِ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ مَعَ دُخُولِهِمَا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَعْضِ السُّرَّاقِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْقَطْعُ وَزِيَادَةُ غُرْمٍ؟ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي عَشَرَةٍ وَبَعْضُهُمْ يُقْطَعُ فِيمَا دُونَهَا، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُرَادَيْنِ بِقَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَخْصُوصًا بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ دُونَ الْفِدْيَةِ وَبَعْضُهُمْ مُرَادٌ بِالْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيمَا وَصَفْنَا، فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْفِدْيَةِ قِيَاسًا وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ، فَإِنَّمَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَمَنْ مَاتَ مُفَرِّطًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، أَمَّا اجْتِمَاعُ الْفِدْيَةِ وَالْقَضَاءِ فَمُمْتَنِعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي بَابِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، فَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا أَظْهَرُ فِي إيجَابِهِ دُونَ الْقَضَاءِ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ جَمَعَهُمَا وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْفِدْيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّفْرِيقِ، وَلَوْ كَانَ تَأْخِيرُهُ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: تَشْبِيهُهُ إيَّاهُ بِالدَّيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْئًا غَيْرَ قَضَائِهِ، فَكَذَلِكَ مَا شَبَّهَهُ بِهِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَأْخِيرِهِ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ وَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُفَرِّطًا بِذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِالتَّفْرِيطِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّفْرِيطَ لَا يُلْزِمُهُ الْفِدْيَةُ إنَّمَا الَّذِي يُلْزِمُهُ الْفِدْيَةَ فَوَاتُ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِالْمَوْتِ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا كَانَ مُفَرِّطًا، وَإِذَا قَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُصُولَ التَّفْرِيطِ مِنْهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ. وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ أَنَّ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيَّ قَالَ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ أَنْ يَصُومَ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ، فَإِنْ تَرَكَ صِيَامَهُ فَقَدْ أَثِمَ وَفَرَّطَ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَعًا وَعَنْ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَخَالَفَ السُّنَنَ الَّتِي رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ; قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَصُمْ الْيَوْمَ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ فَمَاتَ فَكُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إنَّهُ آثِمٌ مُفَرِّطٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَسَّعًا لَهُ أَنْ يَصُومَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَزِمَهُ التَّفْرِيطُ إنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَوَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِثَمَنٍ مُوَافِقٍ، هَلْ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا

وَيَشْتَرِيَ غَيْرَهَا؟ فَقَالَ: لَا فَقُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقْ أَوَّلَ رَقَبَةٍ يَجِدُهَا، فَإِذَا وَجَدَ رَقَبَةً لَزِمَهُ الْفَرْضُ فِيهَا، وَإِذَا لَزِمَهُ فِي أَوَّلِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجِزْهُ غَيْرُهَا إذَا كَانَ وَاجِدًا لَهَا. فَقُلْتُ: فَإِنَّ اشْتَرَى رَقَبَةً غَيْرَهَا وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْأُولَى؟ فَقَالَ: لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ هَلْ يُجْزِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهَا؟ قَالَ: لَا فَقُلْتُ: لِأَنَّ الْعِتْقَ صَارَ عَلَيْهِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ: فَمَا تَقُولُ إنْ مَاتَتْ هَلْ يَبْطُلُ عَنْهُ الْعِتْقُ كَمَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا فَمَاتَتْ يَبْطُلُ نَذْرُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرَهَا; لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ فَقُلْتُ: وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرَهَا. فَقَالَ: عَمَّنْ تَحْكِي هَذَا الْإِجْمَاعَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَعَمَّنْ تَحْكِي أَنْتَ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ؟ فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ لَا يُحْكَى. فَقُلْتُ: وَالْإِجْمَاعُ الثَّانِي أَيْضًا لَا يُحْكَى وَانْقَطَعَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ دَاوُد مِنْ تَعْيِينِ فَرْضِ الْقَضَاءِ بِالْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ وَأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ فَوَجَدَهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّاهَا إلَى غَيْرِهَا خِلَافَ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، وَمَا ادَّعَاهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُفَرِّطًا إذَا مَاتَ، وَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى، فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُفَرِّطًا بِالْمَوْتِ; لِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ ثَانٍ وَقْتَ الْقَضَاءِ مُوَسَّعٌ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا بِتَأْخِيرِهِ إنْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، فَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا لَمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ إذَا مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ وَلَمْ يَقْضِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لُزُومُ الْفِدْيَةِ عَلَمًا لِلتَّفْرِيطِ; لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ يَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَقَوْلُ دَاوُد الْإِجْمَاعُ لَا يُحْكَى خَطَأٌ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ يُحْكَى كَمَا تُحْكَى النُّصُوصُ، وَكَمَا يُحْكَى الِاخْتِلَافُ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْمِعِينَ لَا يَحْتَاجُ إلَى حِكَايَةِ أَقَاوِيلِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُنْشَرَ الْقَوْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُمْ حُضُورٌ يَسْمَعُونَ وَلَا يُخَالِفُونَ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ; وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُحْكَى; لِأَنَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَا يُحْكَى فِيهِ أَقَاوِيلُ جَمَاعَتِهِمْ فَيَكُونُ مَا يَحْكِيهِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ حِكَايَةً صَحِيحَةً، وَمِنْهُ مَا يُحْكَى أَقَاوِيلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مُنْتَشِرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ مَعَ سَمَاعِ الْآخَرِينَ لَهَا وَتَرْكِ إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ، فَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعٌ يُحْكَى; إذْ كَانَ تَرْكُ الْآخَرِينَ إظْهَارَ النَّكِيرِ وَالْمُخَالَفَةِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَافَقَةِ; فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ وَالْفُقَهَاءِ يُحْكَيَانِ جَمِيعًا. وَإِجْمَاعٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا تَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا، فَهَذِهِ أُمُورٌ قَدْ عُلِمَ

اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُحْكَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ اعْتِقَادُهُ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ; فَإِنْ عُنِيَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مِثْلَهُ لَا يُحْكَى، وَقَدْ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا الضَّرْبَ أَيْضًا يُحْكَى لِعِلْمِنَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يُحْكَى عَنْهُمْ اعْتِقَادُهُمْ لِذَلِكَ وَالتَّدَيُّنُ بِهِ وَأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا ظَهَرَ لَنَا إسْلَامُ رَجُلٍ وَإِظْهَارُ اعْتِقَادِهِ الْإِيمَانَ أَنْ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ.

بَاب الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ يَسَّرَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا، وَلَوْ كَانَ الْإِفْطَارُ فَرْضًا لَازِمًا لَزَالَتْ فائدة قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وبين الصوم كقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْيُسْرُ فَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا نَعِيبُ عَلَى مَنْ صَامَ وَلَا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيُسْرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، فَلَوْلَا احْتِمَالُ الْآيَةِ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَقَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ وَلَا الصَّوْمَ، وَالْمُسَافِرُ شَاهِدٌ لِلشَّهْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِهِ وَحُضُورُهُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] الْمَعْنَى: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُضْمَرٌ فِيهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَتَى صَامَ أَجْزَأَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُفْطِرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الضَّمِيرُ بِعَيْنِهِ هُوَ مَشْرُوطٌ لِلْمُسَافِرِ كَهُوَ لِلْمَرِيضِ لِذِكْرِهِمْ جَمِيعًا فِي الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ، وَإِذَا كَانَ الْإِفْطَارُ مَشْرُوطًا فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ الْقَضَاءَ إذَا صَامَ فَقَدْ خَالَفَ حَكَمَ الْآيَةِ. وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ غَيْرَ شَيْءٍ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ شَوَاذٌّ مِنْ النَّاسِ لَا يُعَدُّونَ خِلَافًا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ

لِلْعِلْمِ "بِأَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ" وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، مِنْهُ حَدِيثُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَسَلَمَةُ بْنُ الْمُحَبِّقِ صِيَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى جَوَازَ صَوْمِ الْمُسَافِرِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَالُوا: فَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَالَيْنِ; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ، وَبِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"، وَبِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرٍ الْحِزَامِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى التَّيْمِيّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ"، وَبِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمَ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ". فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا، بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" فَإِنَّهُ كَلَامٌ خَرَجَ عَنْ حَالٍ مَخْصُوصَةٍ، فَهُوَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا; وَهِيَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُظَلَّلُ عَلَيْهِ وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ". فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ رَوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا حَكَى مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَسَاقَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ السَّبَبِ وَحَذَفَهُ بَعْضُهُمْ وَاقْتُصِرَ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُمْ صَامُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ إنَّهُ قَالَ لَهُمْ: "إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا! " فَكَانَتْ عَزِيمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَصُومُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَلِكَ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ; وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِلَّةُ أَمْرِهِ بِالْإِفْطَارِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ; لِأَنَّهُ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْجِهَادَ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ

فِعْلُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَرْضًا، فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ تَرْكُ الْفَرْضِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ أَبِيهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ بِحَدِيثٍ مَقْطُوعٍ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ حَالُ لُزُومِ الْقِتَالِ، مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ فِعْلِ الصَّوْمِ، فَكَانَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ; لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْجِهَادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع" فَإِنَّمَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ لِحُضُورِ الشَّهْرِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ إذَا صَامَهُ كَمَا لَمْ يَنْفِ جَوَازَ صَوْمِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ" وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَحَبُّ إلَيْنَا لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَجْزَأَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ أَفْضَلُ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَذَلِكَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ الْمُسَافِرِ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْإِفْطَارِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قيل له: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} خِطَابَا لِلْجَمِيعِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يكون قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} خِطَابًا لِجَمِيعِ مَنْ شَمِلَهُ الْخِطَابُ فِي ابْتِدَاءِ الْآيَةِ، غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْبَعْضِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ عَنْ الْفَرْضِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَقَالَ اللَّهُ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وَمَدَحَ قَوْمًا فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] فَالْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَقْدِيمِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا. وَأَيْضًا فِعْلُ الْفُرُوضِ فِي أَوْقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا إلَى غَيْرِهَا. وَأَيْضًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فَلْيُعَجِّلْ" فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْجِيلِ الْحَجِّ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْفَرَائِضِ الْمَفْعُولَةِ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلَ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَكْرَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ الْهُذَلِيُّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ يَأْوِي إلَى

شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ" وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ فِي السَّفَرِ ... " فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. فَأَمَرَهُ بِالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ، وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَصَامَ وَقَدِمَ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ إذَا أَفْطَرَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ مَرَّةً: لَا كَفَّارَةَ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَقَالَ: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي حَضَرِهِ ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِمَأْثَمٍ مَخْصُوصٍ كَالْحُدُودِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْحُدُودُ تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ كَانَتْ كَفَّارَةُ رَمَضَانَ بِمَثَابَتِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ مَتَى أَفْطَرَ فِي حَالِ السَّفَرِ فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْحَالِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ الْإِفْطَارَ فَأَشْبَهَ عَقْدَ النِّكَاحِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ فِي إبَاحَتِهِمَا الْوَطْءَ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُبِيحِينَ لِوَطْءِ الْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ فِي الْأَصْلِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ. وَإِنْ لَمْ يُبَحْ هَذَا الْوَطْءُ بِعَيْنِهِ، كَذَلِكَ السَّفَرُ وَإِنْ لَمْ يُبَحْ الْإِفْطَارَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ; إذْ كَانَ فِي الْأَصْلِ قَدْ جُعِلَ سَبَبَا لِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ; فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا أَفْطَرَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرهمَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ بَعْدَمَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ", وَذَلِكَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ جَوَازَ الْإِفْطَارِ فِيهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُفْطِرِ فِيهِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ أَشْبَهَ الصَّائِمَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ فِي صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِإِفْطَارِهِ فِيهِ; إذْ كَانَ لهبديا أَنْ لَا يَصُومَهُ، وَلَمْ يكن لزوم

إتْمَامِهِ بِالدُّخُولِ فِيهِ مُوجِبًا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ، فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا صَامَ ثُمَّ أَفْطَرْ، وَأَمَّا إذَا أَصْبَحَ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ فَهُوَ كَمَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُودِ الْحَالِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِفْطَارِ وَهِيَ حَالُ السَّفَرِ، كَوُجُودِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَإِنْ لَمْ يُبِحْ وَطْءَ الْحَائِضِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ابْتِدَاءِ النَّهَارِ تَرْكُ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ مُقِيمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ; إذْ كَانَ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي ابْتِدَاءِ النَّهَارِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ مِنْ الْحَالِ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مَا وَصَفْنَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَقَدِمَ ثُمَّ أَفْطَرْ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَصُومَ مُبْدِئًا فَأَشْبَهَ الصَّائِمَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ يُفْطِرُ ثُمَّ يَقْدَمُ مِنْ يَوْمِهِ وَالْحَائِضُ تَتَطَهَّرُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَيُمْسِكَانِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا: إنَّهُ يَصُومُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَيَقْضِي، وَلَوْ طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنَّهَا تَأْكُلُ وَلَا تَصُومُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ وَالْمُسَافِرُ يَقْدُمُ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ: إنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يُمْسِكُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ; وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُهُ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ عَنْ نَفْسِهِ خِلَافَ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَوْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْإِفْطَارَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَكُفُّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَقْضِي، فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكَلَ جُرْأَةً عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ غُمَّ عَلَيْهِ هِلَالُ رَمَضَانَ فَأَكَلَ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ، كَذَلِكَ الْحَائِضُ وَالْمُسَافِرُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَالَ الطَّارِئَةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِفْطَارِ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالصِّيَامِ، فَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُفْطِرُونَ أُمِرُوا بِالْإِمْسَاكِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَيْضًا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآكِلِينَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا وَصَفْنَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا أَكَلَ جُرْأَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ عَلَى وَصْفٍ، وَهَذَا الْآكِلُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمًا بِأَكْلِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةٌ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم بالصواب.

بَابٌ فِي الْمُسَافِرِ يَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ يَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ وَاجِبِ غَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَمَّا

نَوَى فَإِنْ صَامَهُ تَطَوُّعًا فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ تَطَوُّعٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ عَنْ رَمَضَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا فِي الْمُقِيمِ إذَا نَوَى بِصِيَامِهِ وَاجِبًا غَيْرَهُ أَوْ تَطَوُّعًا: إنَّهُ عَنْ رَمَضَانَ وَيَجْزِيهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي امْرَأَةٍ صَامَتْ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا فَإِذَا هُوَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: أَجْزَأَهَا وَقَالَا: مَنْ صَامَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ تَطَوُّعًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَجْزَى عَنْهُ وَقَالَ مَالِكُ وَاللَّيْثُ: مَنْ صَامَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ رَمَضَانُ لَمْ يَجْزِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ دَيْنًا وَلَا قَضَاءً لِغَيْرِهِ فِي رَمَضَانَ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَجْزِهِ لِرَمَضَانَ وَلَا لِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَبْتَدِئُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَلَامِ فِي الْمُقِيمِ يَصُومُ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا، فَنَقُولُ: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَلَمْ يُخَصِّصْ صَوْمًا، فَهُوَ عَلَى سَائِرِ مَا يَصُومُهُ مِنْ تَطَوُّعٍ أَوْ فَرْضٍ فِي كَوْنِهِ مُجْزِيًا عَنْ الْفَرْضِ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الصَّائِمُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا غَيْرَ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا عَمَّا نَوَى دُونَ رَمَضَانَ، أَوْ يَكُونَ مُلْغًى لَا حُكْمَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَصُمْ، أَوْ مُجْزِيًا عَنْ رَمَضَان; فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُهُ عَمَّا نَوَى وَكَوْنُهُ مُلْغًى مَانِعَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الصِّيَامُ خَيْرًا لَهُ بَلْ يَكُونُ وُقُوعُهُ عَنْ رَمَضَانَ خَيْرًا لَهُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُلْغًى، وَلَا عَمَّا نَوَى مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ثُمَّ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَمَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إضْمَارُ الْإِفْطَارِ فِيهِ، وَأَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا أَفْطَرَا، فَثَبَتْ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ صَامَ مِنْ الْمُقِيمِينَ وَلَمْ يُفْطِرْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ صِيَامَ الْجَمِيعِ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ إلَّا مَنْ أَفْطَرَ مِنْ الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" فَاقْتَضَى ظَاهِرُ ذَلِكَ جَوَازَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَ صَوْمَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَمَّا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْعَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَشْبَهَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَهُ أَجْزَأَ عَنْ الْفَرْضِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَمَّا نَوَاهُ فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ أَجْزَى عَنْ الْفَرْضِ لَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَهُ عَمَّا نَوَى كَصِيَامِ سَائِرِ الْأَيَّامِ يُجْزَى عَمَّا نَوَى. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ مُسْتَحَقَّةُ الْعَيْنِ لِهَذَا الْوَقْتِ إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ جَوَازَهَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ، قِيلَ لَهُ: وَقْتُ الظُّهْرِ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ لِفِعْلِهَا; لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا وَلِغَيْرِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، فَإِذَا كان فعل

التَّطَوُّعِ فِي أَوَّلِهِ لَا يُجْزِي عَنْ الْفَرْضِ كَذَلِكَ فِي آخِرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا نَوَى بِصَلَاتِهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضًا غَيْرَهُ كَانَ كَمَا نَوَى. وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ صَوْمَ عَيْنِ رَمَضَانَ لَا يُجْزِي عَنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ يَسْتَغْرِقُ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، وَالظُّهْرُ لَهَا وَقْتٌ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ كَانَ جَائِزًا لَهُ فِعْلُهَا فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" يَمْنَعُ جَوَازَ صَوْمِ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ; لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مُحْتَمِلًا لَمَعَانٍ مِنْ جَوَازٍ وَفَضِيلَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ، وَمَتَى تَنَازَعْنَا فِيهِ اُحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِهِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَإِنَّ خَصْمَنَا يُوَافِقُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا نَوَى مِنْ تَطَوُّعٍ وَلَا فَرْضِ غَيْرِهِ; لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا فَرْضًا غَيْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَكُونُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا عَمَّا نَوَى; فَحَصَلَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ قَوْلَهُ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى", غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ كَانَ صَائِمًا، وَمَنْ نَوَى الصَّلَاةَ كَانَ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ دُونَ فِعْلِهَا، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ وَالطَّاعَاتِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ; فَسَقَطَ احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ وَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِهِ، وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ فَالِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ سَاقِطٌ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" يَقْتَضِي جَوَازَ صَوْمِهِ إذَا نَوَاهُ تَطَوُّعًا، فَإِذَا جَازَ صَوْمُهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ لِاتِّفَاقِنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا نَوَى، فَوَجَبَ بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى", إنْ يَحْصُلْ لَهُ مَا نَوَى وَإِلَّا فَقَدْ أَلْغَيْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ رَأْسًا، وَأَيْضًا مَعْلُومٌ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى", مَا يَقْتَضِيهِ نِيَّتُهُ مِنْ ثَوَابِ فَرْضٍ أَوْ فَضِيلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ; وَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ وُقُوعَ الْفِعْلِ; لِأَنَّ الْفِعْلَ حَاصِلٌ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَالنِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُصَرِّفُ أَحْكَامَهُ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا مِنْ اسْتِحْقَاقِ ثَوَابِ الْفَرْضِ أَوْ الْفَضِيلَةِ أَوْ الْحَمْدِ أَوْ الذَّمِّ إنْ كَانَتْ النِّيَّةُ تَقْتَضِي حَمْدَهُ أَوْ ذَمَّهُ; وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَخْلُو الْقَوْلُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ حُكْمِ اللَّفْظِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ أَوْ بُطْلَانِهِ وَوَجَبَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ حُكْمُهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مَضْمُونُهُ مِنْ إفَادَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ حَمْدٍ أَوْ ذَمٍّ; فَإِذَا وَجَبَ اسْتِعْمَالٌ عَلَى

ذَلِكَ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْقُرْبِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ; ثُمَّ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَوَابُهُ مِثْلَ ثَوَابِ نَاوِي الْفَرْضِ أَنْ يَكُونَ أُنْقَصَ مِنْهُ، وَنُقْصَانُ الثَّوَابِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ عَنْ الْفَرْضِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ فَيُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا، رُبْعُهَا، خُمْسُهَا، عُشْرُهَا" فَأَخْبَرَ بِنُقْصَانِ الثَّوَابِ مَعَ الْجَوَازِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْ الْحَمْدِ وَالذَّمِّ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ". وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ يَنْوِي تَطَوُّعًا، أَنَّهُ يَجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَسْقَطَ نِيَّةَ التَّطَوُّع وَجَعَلَهَا لِلْفَرْضِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ عَلَى الْمُهْلَةِ وَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ فِي الْجَوَازَ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، فَتَرَكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَلَمْ يَلْجَأْ فِيهِ إلَى نَظَرٍ صَحِيحٍ يُعَضِّدُ مَقَالَتَهُ; وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَصْلِهِمْ اعْتِبَارَ مَا يَدْعُونَهُ ظَاهِرًا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ سَاقِطٌ، وَأَوْضَحْنَا عَنْ مَعْنَاهُ وَمُقْتَضَاهُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الْفَرْضِ; فَسَلِمَ لَنَا مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالنَّظَرِ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ هَذَا الْأَثَرُ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا صَامَ رَمَضَانَ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَّا نَوَى; لِأَنَّ فِعْلَ الصَّوْمِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَالِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ مَعَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَيَّامِ غَيْرَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَائِرُ الْأَيَّامِ جَائِزًا لِمَنْ صَامَهُ عَمَّا نَوَاهُ فَكَذَلِكَ حُكْمُ رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ مَتَى نَوَاهُ تَطَوُّعًا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ، وَهِيَ أَقْيَسُ الرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلِ: عَلَى هَذَا يَلْزَمَهُ أَنْ يُجْزِيَ صَوْمُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ بِأَنْ نَوَاهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْمُسَافِرِ؟ قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْمُسَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ الْقَوْلَ فِي الْمُسَافِرِ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ وَأَشْبَهَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إلَّا مَعَ خَشْيَةِ زِيَادَةِ الْعِلَّةِ وَالضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِالصَّوْمِ; فَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ لَا يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ، أَوْ أَنْ يَضُرَّهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الصَّوْمُ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ أَوْ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، فَمَتَى صَامَهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ; إذْ كَانَتْ إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ مُتَعَلِّقَةً بِخَشْيَةِ الضَّرَرِ، فَمَتَى

فَعَلَ الصَّوْمُ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فَأَجْزَى عَنْ صَوْمِ الشَّهْرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابٌ فِي عِدَدِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَذَكَر بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: إذَا صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا وَعَلَى الْمَرِيضِ الْمُفْطِرِ قَضَاءُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْضِي رَمَضَانَ بِالْأَهِلَّةِ. وَذَكَرَ عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَرِضَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ عَنْ غَيْرِ قَضَاءٍ: أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَنْ مَرِضُ رَمَضَانَ وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا: إنَّهُ يَصُومُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ مَرِضَ رَجُلٌ شَهْرَ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ شَهْرًا يَقْضِيهِ فَكَانَ هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أَفْطَرَ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى غَيْرِ اسْتِقْبَالِ شَهْرٍ أَتَمَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا إلَّا شَهْرًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَرَادَ الْمَرِيضُ الْقَضَاءَ، فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ شَهْرِ الصَّوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ سَوَاءٌ ابْتَدَأَ بِالْهِلَالِ أَوْ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ; وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَمَعْنَاهُ: فَعَدَدٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ; يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" يَعْنِي الْعَدَدَ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْعَدَدِ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِيهِ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ شَهْرًا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ; الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ" فَأَيُّ شَهْرٍ أَتَى بِهِ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَهْرٌ بِشَهْرٍ، قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى: فَشَهْرٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ وَإِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَوْجَبَ اسْتِيفَاءُ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يَعْنِي الْعَدَدَ; فَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَفْطَرَ فيه ثلاثين

فَعَلَيْهِ إكْمَالُ عَدَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى شَهْرٍ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَمَا كَانَ مُكْمِلًا لِلْعِدَّةِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ شَهْرَا بِشَهْرٍ وَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ إفْطَارَهُ بَعْضَ رَمَضَانَ يُوجِبُ قَضَاءَ مَا أَفْطَرَ بِعَدَدِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إفْطَارِ جَمِيعِهِ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِهِ. وَأَمَّا إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَأَهْلُ مِصْرٍ آخَرَ لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ أَصْحَابُنَا عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَضَاءَ يوم، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فَأَوْجَبَ إكْمَالَ عِدَّةِ الشَّهْرِ; وَقَدْ ثَبَتَ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ أَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُونَ يَوْمَا، فَوَجَب عَلَى هَؤُلَاءِ إكْمَالُهَا; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ، وَيُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَدْ أُرِيدَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ الْعِلْمُ بِهِ; لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ; فَلَمَّا صَحَّ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ، قِيلَ لَهُ: هُوَ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ بِمُضِيِّهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرُ قَدْ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ". وَاَلَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ قَدْ غُمَّ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُدُّوا ثَلَاثِينَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" يُوجِبُ اعْتِبَارَ رُؤْيَةِ كُلِّ قَوْمٍ فِي بَلَدِهِمْ دُونَ اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَكُلُّ قَوْمٍ رَأَوْا الْهِلَالَ فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ فِي الصِّيَامِ وَالْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِمْ وَأَنْ يُفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ انْتِظَارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُخَاطَبٌ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" عَامٌّ فِي أَهْل سَائِرِ الْآفَاقِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأَهْلِ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ اعْتِبَارُ رُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ وَجَبَ اعْتِبَارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، فَإِذَا صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَ غَيْرُهُمْ أَيْضًا لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ، فَعَلَى هَؤُلَاءِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ بِمَا يُوجِبُ صَوْمَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا الْمُحْتَجُّ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ الْآفَاقِ اعْتِبَارُ رُؤْيَتِهِمْ دُونَ انْتِظَارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّمَا يُوجَبُ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا تَكُونَ رُؤْيَةَ غيرهم مخالفة

لِرُؤْيَتِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَدَدِ، فَكُلِّفُوا فِي الْحَالِ مَا أَمْكَنَهُمْ اعْتِبَارُهُ وَلَمْ يُكَلَّفُوا مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ لَهُمْ غَيْرُهُ عَمِلُوا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ ضَبَابٌ وَشَهِدَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْهُ قَبَل ذَلِكَ، لَزِمَهُمْ الْعَمَلُ عَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ دُونَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا كُرَيْبٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، فَاسْتَهَلَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْنَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُهُ حَتَّى نُكْمِلَ الثَّلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوْ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لَا يَدُلَّ عَلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ جَوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَأَجَابَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَأَوَّلَ فِيهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" عَلَى مَا قَالُوا; بَلْ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا قُلْنَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فَلَمْ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ كَانَ بِمِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَصَامَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ قَالَ: لَا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَا أَهْلُ مِصْرِهِ، إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ قَدْ صَامُوا يَوْمَ الْأَحَدِ فَيَقْضُوهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُمْ صَامُوا لِرُؤْيَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا. وَمَسْأَلَتُنَا هِيَ فِي أَهْلِ بَلَدَيْنِ صَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِرُؤْيَةٍ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ يَحْتَجُّ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ قَالَ: "وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ". وَرَوَى أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَدَنِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ". قَالُوا: وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ كُلِّ قَوْمٍ يَوْمَ صَامُوا وَفِطْرُهُمْ

يَوْمَ أَفْطَرُوا. وَهَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ غَيْرُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ أَهْلَ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ صَوْمُ مَنْ صَامَ الْأَقَلَّ فِيمَا لَزِمَهُمْ فَهُوَ مُوجِبٌ صَوْمَ مَنْ صَامَ الْأَكْثَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَوْمًا لِلْجَمِيعِ وَيَلْزَمُ مَنْ صَامَ الْأَقَلَّ قَضَاءُ يَوْمٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ مَعَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَثَبَّتَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُثَبِّتْهُ الْآخَرُونَ. وَقَدْ تُكُلِّمَ أَيْضًا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَمِيعَ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى صَوْمِ يَوْمٍ فَهُوَ صَوْمُهُمْ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا احْتَاجُوا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ صَوْمُكُمْ يَوْمَ يَصُومُ بَعْضُكُمْ وَإِنَّمَا قَالَ صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَوْمَ الْجَمِيع وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِمَا عِنْدَهُ دُونَ مَا هُوَ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَمَنْ صَامَ يَوْمًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ شَيْءٌ; لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَهُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الْمُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْضًا. قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْيُسْرَ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْعُسْرَ الصَّوْمُ فِيهِ وَفِي الْمَرَضِ، وَيُحْتَمَلُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيُضِرُّهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي ظُلِّلَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ صَائِمٌ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"، فَأَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ اللَّه يُرِيدُ مِنْكُمْ مِنْ الصَّوْمِ مَا تَيَسَّرَ لَا مَا تَعَسَّرْ وَشَقَّ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَبَاحَ الصَّوْمَ فِيهِ لِمَنْ لَا يَضُرُّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَّبِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} غَيْرُ نَافٍ لِجَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَضُرُّ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُرِيدٍ مِنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَجْزَأَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ; لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ إثْبَاتُ الْعُسْرِ; وَلِأَنَّ لَفْظَ الْيُسْرِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي فِعْلِ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَكُلَّ مَنْ خَشِيَ ضَرَرَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى الصَّبِيِّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ; لِأَنَّ فِي احْتِمَالِ ضَرَرِ الصَّوْمِ وَمَشَقَّتِهِ ضَرْبًا مِنْ الْعُسْرِ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْعُسْرِ بِنَا; وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا". وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَا يَضُرُّ بِالْإِنْسَانِ وَيُجْهِدُهُ وَيَجْلِبُ لَهُ مَرَضًا أَوْ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْيُسْرِ، نَحْوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ وَلَا يَجِدُ زَادًا وَرَاحِلَةً فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْيُسْرَ. وَهُوَ دَالٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ إلَى الْقَابِلِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ

إثْبَاتِ الْعُسْرِ وَنَفْيِ الْيُسْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ إنَّمَا أُمِرَ بِفِعْلِهَا أَوْ أُبِيحَتْ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ نَفْيِ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا; لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قَدْ اقْتَضَى تَخْيِيرَ الْعَبْدِ فِي الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَضَاءَهُ مُتَفَرِّقًا أَوْلَى بِمَعْنَى الْيُسْرِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْعُسْرِ، وَهُوَ يَنْفِي أَيْضًا إيجَابَ التَّتَابُعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ، وَمَنْعِهِ التَّأْخِيرَ; لِأَنَّهُ يَنْفِي مَعْنَى الْيُسْرِ وَيُثْبِتُ الْعُسْرَ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهُ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ; لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ مَا لَا يُطِيقُ وَمَا لَيْسَ مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْسَرِ الْعُسْرِ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْعُسْرِ لِعِبَادِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الصَّوْمِ فَاعِلٌ لِمَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ مِنْهُ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ، وَأَهْلُ الْجَبْرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَوْ كُفْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ مُرِيدُهُ مِنْهُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ بِهَذَا مَا نَسَبُوهُ إلَيْهِ مِنْ إرَادَةِ الْمَعَاصِي، وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ لِيَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا لِيَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ; لِأَنَّ مُرِيدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْيُسْرِ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِلْعُسْرِ وَلِمَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ وَالْحَمْدَ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ وَأَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّهُ مَتَى غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْنَا إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَيَّ شَهْرٍ كَانَ، لِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَقَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" فَجَعَلَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِينَ عِنْدَ خَفَاءِ الْهِلَالِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، لِإِخْبَارِهِ أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَائِهِ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصِدُ إكْمَالَ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ فِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ مَعَ حُصُولِ إكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ شَيْءٌ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَّا إكْمَالُ الْعِدَّةِ وَقَدْ وُجِدَ، وَفِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَإِثْبَاتُ مَا لَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَقْصِدِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ تِسْعَةً وعشرين يوما، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}

وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ، فَالْقَائِلُ بِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ إذَا صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَأَهْلَ بَلَدٍ آخَرَ إذَا صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ أَنَّ عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا، لِقَوْلِهِ تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَقَدْ حَصَلَ عِدَّةُ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَعَلَى الْآخَرِينَ أَنْ يُكْمِلُوهَا كَمَا كَانَ عَلَى أُولَئِكَ إكْمَالُهَا; إذْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بَعْضًا مِنْ كُلٍّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا نَظَرُوا إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا لِلَّهِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ إذَا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى وَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَطَعَ التَّكْبِيرَ"، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ وَخَارِجَةَ بْنِ زِيدَ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ يَوْمَ الْعِيدِ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمُصَلَّى. وَرَوَى حَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَتَهُ يَوْمَ الْأَضْحَى فَلَمْ يَزَلْ يُكَبِّرُ حَتَّى أَتَى الْجَبَّانَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْمُصَلَّى فَيَسْمَعُ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَيَقُولُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ فَأَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: أَمَجَانِينُ النَّاسُ؟ فَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ التَّكْبِيرَ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عِنْدَهُ التَّكْبِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ الَّذِي يُكَبِّرُهُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ مَعَهُ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا نَظَرُوا إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَهْرِ بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَكْبِيرَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَجِيءَ الْمُصَلَّى; وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى تَكْبِيرِ يَوْمِ الْفِطْرِ. وَاخْتَلَفْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: يُكَبِّرُ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى الْعِيدِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكَبِّرُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَقَالَ عَمْرٌو: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ: نَعَمْ يُكَبِّرُ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي الْعِيدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الطَّرِيقِ وَلَا فِي الْمُصَلَّى، وَإِنَّمَا التَّكْبِيرُ الْوَاجِبُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ كَانَ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَنْ يُكَبِّرُوا فِي الطَّرِيقِ إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَأْتُوهُ، وَلَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ مَا حَكَاهُ الْمُعَلَّى

عَنْهُمْ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ: يُكَبِّرُ فِي خُرُوجِهِ إلَى الْمُصَلَّى فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا قَالَ مَالِكٌ: وَيُكَبِّرُ فِي الْمُصَلَّى إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، وَلَا يُكَبِّرُ إذَا رَجَعَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أُحِبُّ إظْهَارَ التَّكْبِيرِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَلَيْلَةَ النَّحْرِ وَإِذَا عَدَوْا إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حَتَّى يَفْتَتِحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَكْبِيرُ اللَّهِ هُوَ تَعْظِيمُهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: عَقْدُ الضَّمِيرِ، وَالْقَوْلُ، وَالْعَمَلُ، فَعَقْدُ الضَّمِيرِ هُوَ اعْتِقَادُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَزَوَالِ الشُّكُوكِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ فَالْإِقْرَارُ بِصِفَّاتِهِ الْعُلَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَسَائِرِ مَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَعِبَادَتُهُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ الْأَعْمَالِ بِالْجَوَارِحِ كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا بَعْدَ تَقْدِمَةِ الِاعْتِقَادِ لَهُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا، وَأَنْ يَتَحَرَّى بِجَمِيعِ ذَلِكَ مُوَافَقَةَ أَمْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء: 19] فَشَرَطَ بَدِيًّا تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ إرَادَةَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَهُوَ السَّعْيُ، وَعَقَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرِيطَةِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إلَى مَا يُؤَدِّينَا إلَى مَرْضَاتِهِ. وَإِذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا، وَقَدْ عَلِمْنَا لَا مَحَالَةَ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ سَائِرَ الْمَفْرُوضَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ مَبْنِيَّةٍ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ، ثَبَتَ أَنَّ التَّعْظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِإِكْمَالِ عِدَّةِ رَمَضَانَ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ إظْهَارُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ، ثُمَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرًا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا تَأَوَّلَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ التَّكْبِيرُ الْمَفْعُولُ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدُ بِهِ تَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْعِيدِ; كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَأَيَّهَا فَعَلَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَفَعْلَ مُقْتَضَاهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ النَّفَلَ، أَلَا تَرَى أَنَّا نُكَبِّرُ اللَّهَ أَوْ نُعَظِّمُهُ بِمَا نُظْهِرُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ نَفْلًا؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إظْهَارَ التَّكْبِيرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَمَنْ كَبَّرَ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ اسْتِبْرَاءً، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَتَى فَعْلَ أَدْنَى مَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا فَقَدْ وَافَقَ مُقْتَضَى الْآيَةِ، إلَّا أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَكْبِيرِهِمْ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ الْآيَةِ، فَالْأَظْهَرُ مِنْ

ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ لَا حَتْمًا وَاجِبًا. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ هُوَ أَوْلَى بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيّ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، وَعَنْ السَّلَفِ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ; إذْ كَانَتْ تَقْتَضِي تَحْدِيدَ تَكْبِيرٍ عِنْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَالْفِطْرَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَضْحَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَسْنُونًا فِي الْأَضْحَى فَالْفِطْرُ كَذَلِكَ; لِأَنَّ صَلَاتَيْ الْعِيدَيْنِ لَا تَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيهِمَا وَالْخُطْبَةِ بَعْدَهُمَا وَسَائِرِ سُنَنِهِمَا، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ التَّكْبِيرِ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِمَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ; لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ وَالْيُسْرِ وَلْيُكَبِّرُوهُ وَيَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ إلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْجَمِيعِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَفِعْلَ الشُّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْصِيهِ وَلَا يَشْكُرُهُ. فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَعْصِيَهُ وَلَا أَنْ يَتْرُكَ فُرُوضَهُ وَأَوَامِرَهُ، بَلْ أَرَادَ مِنْ الْجَمِيعِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَيَشْكُرُوهُ، وَمَعَ مَا دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فَاعِلَ مَا أُرِيدَ مِنْهُ مُطِيعٌ لِلْمُرِيدِ مُتَّبِعٌ لِأَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِلْمَعَاصِي لَكَانَ الْعُصَاةُ مُطِيعِينَ لَهُ، فَدَلَالَةُ الْعُقُولِ مُوَافِقَةٌ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

بَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ مِنْ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَأَنَّهُ كَانَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعَتَمَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى الْقَابِلَةِ رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّوْمِ الْأَوَّلِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ وَرَقَدَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ، وَرَوَى الضَّحَّاكُ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى نَامَ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَأَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَجَاءَ عُمَرُ وَقَدْ أَصَابَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا نَامَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وَنَسَخَ بِهِ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النوم.

وَالرَّفَثُ الْمَذْكُورِ هُوَ الْجِمَاعُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَلَمِ فِيهِ وَاسْمُ الرَّفَثِ يَقَعُ عَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْفَاحِشِ وَيُكَنَّى بِهِ عَنْ الْجِمَاعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197] إنَّهُ مُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ; قَالَ الْعَجَّاجُ: عَنْ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ نَفْسُهُ; لِأَنَّ رَفَثَ الْكَلَامَ غَيْرُ مُبَاحٍ، وَمُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ لَيْسَ لَهَا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ لَا فِيمَا سَلَفَ وَلَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِمَاعِ فَأُبِيحَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنُسِخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَظْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} بِمَعْنَى هُنَّ كَاللِّبَاسِ لَكُمْ فِي إبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَمُلَابَسَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ; قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهُ ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِاللِّبَاسِ السِّتْرُ; لِأَنَّ اللِّبَاسَ هُوَ مَا يَسْتُرُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اللَّيْلَ لِبَاسَا; لِأَنَّهُ يَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بِظَلَامِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَتَرَ صَاحِبَهُ عَنْ التَّخَطِّي إلَى مَا يَهْتِكُهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَفِّفًا بِالْآخَرِ مُسْتَتِرَا بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ذِكْرٌ لِلْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْخِطَابُ وَاعْتِدَادٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْنَا بِالتَّخْفِيفِ بِإِبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ وَاسْتِدْعَاءٌ لِشُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى قوله: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَسْتَأْثِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، كَقَوْلِهِ: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] يَعْنِي يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَخُونُهَا، وَسَمَّاهُ خَائِنًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ ضَرَرُهُ عَائِدًا عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُسْتَأْثِرِ لَهُ، فَهُوَ يُعَامِلُ نَفْسَهُ بِعَمَلِ الْخَائِنِ لَهَا، وَالْخِيَانَةُ هِيَ انْتِقَاصُ الْحَقِّ عَلَى جهة المساترة. وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْآخَرُ: التَّخْفِيفُ عَنْكُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلِمَ أَنْ لَنْ

تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: خَفَّفَ عَنْكُمْ، وَكَمَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَإِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] يَعْنِي تَخْفِيفَهُ; لِأَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا تَلْزَمُهُ التوبة منه. وقوله تعالى: {وَعَفَا عَنْكُمْ} يَحْتَمِلُ أَيْضًا الْعَفْوَ عَنْ الذَّنْبِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ بِخِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أَحْدَثُوا التَّوْبَةَ مِنْهُ عَفَا عَنْهُمْ فِي الْخِيَانَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا التَّوْسِعَةُ وَالتَّسْهِيلُ بِإِبَاحَةِ مَا أَبَاحَ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْعَفْوَ يُعَبَّرُ بِهِ فِي اللُّغَةِ عَنْ التَّسْهِيلِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ" يَعْنِي تسهيله وتوسعته. وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إبَاحَةٌ لِلْجِمَاعِ الْمَحْظُورِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، وَالْمُبَاشَرَةِ هِيَ إلْصَاقِ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ; قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمُ: هِيَ الْمُوَاقَعَةُ وَالْجِمَاعُ وَقَالَ فِي الْمُبَاشَرَةِ مَرَةً: هِيَ إلْصَاقُ الْجِلْدِ بِالْجِلْدِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُبَاشَرَةِ النِّكَاحُ، وَقَالَ مُجَاهِدً: الْجِمَاعُ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلّ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . وقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْوَلَدُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ مِثْلُهُ، وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ: "الرُّخْصَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الْجِمَاعَ، فَقَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْجِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرَارِ الْمَعْنَى فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، وَنَحْنُ مَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالَ كُلِّ لَفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إبَاحَةَ الْجِمَاعِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} عَلَى غَيْرِ الْجِمَاعِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ الْوَلَدَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، أَوْ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَهَا لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْجَمِيعِ، وَعَلَى أَنَّ الْكُلَّ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُنْتَظِمًا لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ وَلِاتِّبَاعِ رُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِطَلَبِ الْوَلَدِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَأْجُورًا عَلَى مَا يَقْصِدَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِطَلَبِ الْوَلَدِ عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَكَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا بِقَوْلِهِ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 2] . وَقَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وَنَظَائِرَ ذَلِكَ مِنْ الْإِبَاحَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّفْظِ مَقْصُورًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَلَا النَّدْبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قَالَ أَبُو بَكْرِ: قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ، رُوِيَ أَنَّ رِجَالًا مِنْهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَيَطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَتَبَيُّنِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، مِنْهُمْ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيس الْمَعْنِيُّ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قَالَ: أَخَذْتُ عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ فَوَضَعْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَتَبَيَّنْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ: "إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ طَوِيلٌ إنَّمَا هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" قَالَ عُثْمَانُ: إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} قَالَ: فَكَانَ رِجَالٌ إذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا لَهُ، فأنزل الله بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ قَوْلُهُ {مِنَ الْفَجْرِ} مُبَيَّنًا فِيهِ فَلَا إلْبَاسَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ حَقِيقَةُ الْخَيْطِ، لِقَوْلِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ} وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ قَبْلَ نزول قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَيْطَ اسْمٌ لِلْخَيْطِ الْمَعْرُوفِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضِ النَّهَارِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ كَانَ شَائِعًا فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمَنْ خُوطِبُوا بِهِ مِمَّنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَأَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا عَرَفُوا هَذِهِ اللُّغَةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ

الْعَرَبِ تَعْرِفُ سَائِرَ لُغَاتِهَا. وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عَرَفُوا ذَلِكَ اسْمًا لِلْخَيْطِ حَقِيقَةً وَلِبَيَاضِ النَّهَارِ وَسَوَادِ اللَّيْلِ مَجَازًا وَلَكِنَّهُمْ حَمَلُوا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْد ذَلِكَ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَزَالَ الِاحْتِمَالُ وَصَارَ الْمَفْهُومُ مِنْ اللَّفْظِ سَوَادَ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْمًا لِسَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَشْهُورًا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ; قَالَ أَبُو دَاوُد الْإِيَادِيُّ: وَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا ظُلْمَةٌ ... وَلَاحَ مِنْ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وَقَالَ آخَرُ فِي الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: قَدْ كَادَ يَبْدُو أَوْ بَدَتْ تُبَاشِرُهُ ... وَسِدْفُ الْخَيْطِ الْبَهِيمِ سَاتِرُهُ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِي اللِّسَانِ قَبَلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هُوَ الصُّبْحُ وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ اللَّيْلُ; قَالَ: وَالْخَيْطُ هُوَ اللَّوْنُ. فَإِنْ قِيلِ: كَيْفَ شَبَّهَ اللَّيْلَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصُّبْحَ إنَّمَا شُبِّهَ بِالْخَيْطِ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيلٌ أَوْ مُسْتَعْرِضٌ فِي الْأُفُقِ، فَأَمَّا اللَّيْلُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْطِ تَشَابُهٌ وَلَا مُشَاكَلَةٌ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْمَوْضِعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ فِيهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُسَاوٍ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْدَهُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَلَى الصَّائِمِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الَّذِي هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ" وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُلَازِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمْ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمْ الْأَحْمَرُ". فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ الْأَحْمَرَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفَجْرَ الْأَبْيَضَ الْمُعْتَرِضَ فِي الْأُفُقِ قَبْلَ ظُهُورِ الْحُمْرَةِ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ; وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "إنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ" وَلَمْ يَذْكُرْ الْحُمْرَةَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نَهَارًا إلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ"، قِيلَ لَهُ: لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ،

فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فَأَوْجَبَ الصَّوْمَ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِظُهُورِ الْخَيْطِ الَّذِي هُوَ بَيَاضُ الْفَجْرِ. وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ إنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ مُبِيحًا لِمَا حَظَرَتْهُ الْآيَةُ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ" فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَكْلُ نَهَارًا فِي الصَّوْمِ مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؟ وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْزُ الْأَكْلَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; فَكَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْهُ وَإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ بِذَلِكَ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ قُرْبَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَمَّاهُ نَهَارًا لِقُرْبِهِ مِنْهُ، كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي رُهْمٍ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: "هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ" فَسَمَّى السَّحُورَ غَدَاءً لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاءِ. كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي تَسَحَّرَ فِيهِ نَهَارًا لِقُرْبِهِ مِنْ النَّهَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ وَضَحَ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْقِيفِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصَّوْمِ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ، وَأَنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيلَ إلَى وَسَطِ السَّمَاءِ هُوَ مِنْ اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ ذَنَبَ السِّرْحَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ، فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَدَعُ الرَّجُلُ السَّحُورُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ أَحَبُّ إلَيَّ، فَإِنْ تَسَحَّرَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ: إنْ أَكَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ قَضَى يَوْمًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الشَّكِّ قَضَاءٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ وَيَرَى مَطْلَعَهُ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ لَيْسَ هُنَاكَ عِلَّةٌ فَلْيَأْكُلْ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ الْفَجْرُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وَقَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُرَى فِيهِ الْفَجْرُ أَوْ كَانَتْ مُقْمِرَةً وَهُوَ يَشُكُّ فِي الْفَجْرِ فَلَا يَأْكُلُ، وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ قَضَى، وَإِلَّا لَمْ يَقْضِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَبِهِ نَأْخُذُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الشَّكِّ فِي غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ وَرِوَايَةُ الْإِمْلَاءِ فِي كَرَاهِيَتِهِمْ الْأَكْلَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ مَحْمُولَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ; لِأَنَّهُ فَسَّرَ مَا أَجْمَلُوهُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ; وَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ لِيَنْظُرَا لَهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي الصَّوْمِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ طَلَعَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ، فَقَالَ: اخْتَلَفْتُمَا فَأَكَلَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَذَلِكَ فِي حَالٍ أَمْكَنَ فِيهَا الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ; وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فَأَبَاحَ الْأَكْلَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ، وَالتَّبَيُّنُ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا أُمِرُوا بِهِ فِي حَالٍ يُمْكِنُهُمْ فِيهَا الْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِطُلُوعِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَيْلَةً مُقْمِرَةً أَوْ لَيْلَةَ غَيْمٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُشَاهِدُ مَطْلِعَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ لِلصَّوْمِ; إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِحَالِ الطُّلُوعِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ; لِمَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ قَالَ: سَمِعْتَ أَبَا الْجَوْزَاءِ السَّعْدِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ وَلَا أَسْمَعُ أَحَدًا بَعْدَهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ; وَسَأَضْرِبُ فِي ذَلِكَ مَثَلًا: إنَّ اللَّهَ حَمَى حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْعَى حَوَلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ، وَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطُ الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُرَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: "وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ"، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَمْنَعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَحْظُورِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا. فَمَنْ شَكَّ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى تَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ مَا يَطْلُعُ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَبْرِئًا لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مُجْتَنِبًا لِلرِّيبَةِ غَيْرَ مُوَاقِعٍ لِحِمَى اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَعْمَلْنَا قَوْلَهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فِيمَنْ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ طُلُوعِهِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ; فَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَحِجَاجُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ، وَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَتَسَحَّرُ الرَّجُلُ مَا شَكَّ حَتَّى يَرَى الْفَجْرَ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: "إنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَلَا شيء عليه".

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَأْكُلُ شَاكًّا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُ بِحَالِ إمْكَانِ التَّبَيُّنِ فِي حَالِ طُلُوعِهِ أَوْ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ إغْفَالٌ مِنْهُ; لِأَنَّ ضَرِيرًا لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُعَرِّفُهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِالشَّكِّ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْبَحَ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَأْمَنُ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِالشَّكِّ، فَإِنْ أَجَازَ هَذَا وَأَلْغَى الشَّكَّ لَزِمَهُ إلْغَاءُ الشَّكِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى كُلِّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مِنْ وَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكِ الرَّيْبِ إلَى الْيَقِينِ وَمُخَالَفَةِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْءِ امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا وَنَسِيَهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمُطَلَّقَةَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِالشَّكِّ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ الْفَرْضِ فَلَا جَائِزٌ إلْزَامُهُ بِالشَّكِّ. وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْحِكَمِ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} نَسْخُ تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ أَوْ بَعْدَ النَّوْمِ. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ; لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ إنَّمَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجِمَاعِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُجَامِعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ إذَا صَادَفَ فَرَاغَهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعُ الْفَجْرِ يُصْبِحُ جُنُبًا، ثُمَّ حَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَفِيهَا حَثٌّ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} مَعَ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ وَاحْتِمَالِ الْآيَةِ لَهُ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَهُ لَمَا جَازَ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ وَفِيهَا النَّدْبُ إلَى التَّرَخُّصِ بِرُخْصَةِ اللَّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} فَثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِهِ فَهُوَ مِنْ النَّهَارِ. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الِاسْتِبَانَةُ وَالْيَقِينُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَحْظُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ الِاسْتِبَانَةِ مَعَ الشَّكِّ; وَهَذَا فِيمَنْ يَصِلُ إلَى الِاسْتِبَانَةِ وَقْتَ طُلُوعِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَصِلُ

إلَى ذَلِكَ لِسَاتِرٍ أَوْ ضَعْفِ بَصَرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْخِطَابِ لِمَا بَيَّنَّا آنِفًا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ وَوُرُودُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ الْإِطْلَاقِ إذَا كَانَ وُرُودُهُ بَعْدَ الْحَظْرِ، عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَنْدُوبًا وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى جِهَةِ السَّحُورِ وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ السَّحُورَ بَرَكَةٌ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أن فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِكُمْ وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحُورِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الزِّئْبَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نِعْمَ غَدَاءُ الْمُؤْمِنِ السَّحُورُ وَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ" فَنَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّحُورِ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ أَكَلَةُ السَّحُورِ، فَيَكُونَ مَنْدُوبًا إلَيْهَا بِالْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ الرُّخْصَةَ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا عَلَى وَجْهِ السَّحُورِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ وَاحِدٌ نَدْبًا وَإِبَاحَةً؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِظَاهِرِ السُّنَّةِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ إطْلَاقُ إبَاحَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ لَا تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ الْمُقَدَّرِ بِهَا، بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وَحَالُ التَّبَيُّنِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ فِيهَا وَلَا مُرَادَةٌ بِهَا; ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَجَعَلَ اللَّيْلَ غَايَةَ الصِّيَامِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ، وَقَدْ دَخَلَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَالْغَايَةُ مُرَادَةٌ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] قَدْ دَخَلْتَ الْغَايَةُ فِي الْمُرَادِ; وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي حَالٍ وَلَا تَدْخُلُ فِي أُخْرَى وَأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إسْقَاطِ حُكْمِهَا أَوْ إثْبَاتِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ عَطْفَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ

إبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَ إبَاحَتَهَا لَيْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي بَعْضُهَا إمْسَاكٌ وَبَعْضُهَا شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِمْسَاكِ صَوْمًا شَرْعِيًّا. وَفِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَصَّلَ مُفْطِرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ; لِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ ضَرْبٌ مِنْ الصِّيَامِ; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ بَعْدَ الْأَكْلِ صَوْمًا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَوْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} الْمُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ، قِيلَ لَهُ: هَذَا عِنْدَنَا صَوْمٌ شَرْعِيٌّ قَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَجْزِيهِ مِنْ فَرْضِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَالْإِتْمَامُ يُطْلَقُ فِيمَا قَدْ صَحَّ الدُّخُولُ فِيهِ، وَهُوَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْخِطَابُ بِالْإِتْمَامِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا أَصْبَحَ مُمْسِكًا عَمَّا يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ قَضَاءُ فَرْضٍ وَلَا تَطَوُّعٍ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَوْمٌ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ اتِّفَاقُ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مُمْسِكًا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيَجْزِيهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا مَضَى صَوْمًا يَتَعَلَّق بِهِ حُكْمُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ لَمَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الصَّوْمِ بِإِيجَادِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْوِيَ صِيَامًا تَطَوُّعًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالدُّخُولِ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} عَامٌّ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي الَّتِي يُرِيدُ النَّاسُ الصَّوْمَ فِي صَبِيحَتِهَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ على ليالي

صِيَامِ رَمَضَانَ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِلَا دَلَالَةٍ، وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثَبَتَ أَنَّهَا مُرَادَةٌ بِاللَّفْظِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} اقْتَضَى ذَلِكَ لُزُومَ إتْمَامِ الصَّوْمِ الَّذِي صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ تَطَوُّعًا كَانَ ذَلِكَ الصَّوْمُ أَوْ فَرْضًا، وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْ الْفَرْضِ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ; وَإِذَا لَزِمَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَإِتْمَامُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ وُجُوبُهُ، وَمَتَى أَفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ لَا يَمْنَعُ عِنْدَنَا اعْتِبَارَ عُمُومِ اللَّفْظِ; لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِلَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى السَّبَبِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الَّذِينَ اخْتَانُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى السَّبَبِ وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي سَائِرِ الصِّيَامِ كَهُوَ فِي سَائِر النَّاسِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ. فَصَارَ بِمَا وَصَفْنَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} عَلَى لُزُومِ الصَّوْمِ بِالدُّخُولِ فِيهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: مَنْ دَخَلَ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ أَوْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَأَفْسَدَهُ أَوْ عَرَضَ لَهُ فِيهِ مَا يُفْسِدُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ إذَا أَفْسَدَهُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَفْسَدَهُ هُوَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ مِنْهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ أَفْسَدَهُ مَا دَخَلَ فِيهِ تَطَوُّعٌ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنَا، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بشر بن مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ صُمْتُ يَوْمًا فَأُجْهِدْتُ فَأَفْطَرْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ فَأَمَرَانِي أَنْ أَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ. وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إذَا أَحْرَمَ بِهِمَا تَطَوُّعًا ثُمَّ أَفْسَدَهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُمَا، وَإِنْ أُحْصِرَ فِيهِمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَنْ تَابَعَهُمْ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يُوجِبُ الْقَضَاءَ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ; لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ الْإِيجَابَ بِالدُّخُولِ، وَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ بِعُذْرٍ أَوْ بغير

عُذْرٍ كَسَائِرِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كَالنُّذُورِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْقُرَبِ بِالدُّخُولِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ. ثُمَّ ذَمَّ تَارِكِي رِعَايَتِهَا بَعْدَ الِابْتِدَاعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ ابْتَدَعَ قُرْبَةً بِالدُّخُولِ فِيهَا أَوْ بِإِيجَابِهَا بِالْقَوْلِ أَنَّ عَلَيْهِ إتْمَامَهَا; لِأَنَّهُ مَتَى قَطَعَهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا فَلَمْ يَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَالذَّمُّ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَهَا بِالدُّخُولِ كَهُوَ بِالنَّذْرِ وَالْإِيجَابِ بِالْقَوْلِ. وَيُحْتَجُّ فِي مِثْلِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92] جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ عَهِدَ لِلَّهِ عَهْدًا أَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَفِ بِهِ وَيَقْضِيهِ; وَهُوَ عُمُومٌ فِي كُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي قُرْبَةٍ، فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ نَقْضِهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا لِأَنَّهُ مَتَى نَقَضَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ مَا مَضَى مِنْهَا بَعْدَ تَضَمُّنِ تَصْحِيحِهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ نَاقِضَةِ غَزْلِهَا بَعْدَ فَتْلِهَا بِقُوَاهَا، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَأَ فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بَدِيًّا فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ نَاقِضَةِ غَزْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَالْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] . قِيلَ لَهُ: نُزُولُهَا عَلَى سَبَبٍ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ عُمُوم لَفْظِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَقَلَّ مَا يَصِحُّ فِي الْفَرْضِ مِنْ الصَّوْمِ يَوْمٌ كَامِلٌ، وَفِي الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ، وَلَا تَصِحُّ النَّوَافِلُ وَلَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا حَسْبَ مَوْضُوعِهَا فِي الْفُرُوضِ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا; أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ مِثْلُ صَوْمِ الْفَرْضِ فِي لُزُومِ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؟ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ تَحْتَاجُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالسِّتْرِ إلَى مِثْلِ مَا شُرِطَ فِي الْفُرُوضِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ الْفَرْضِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا صَوْمُ بَعْضِ يَوْمٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ النَّفْلِ، فَمَتَى دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ فَقَدْ أَبْطَلَهُ وَأَبْطَلَ ثَوَابَ مَا فَعَلَهُ مِنْهُ; وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] يَمْنَعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَنْ إبْطَالِهِ; وَإِذْ أَلْزَمَهُ إتْمَامَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ مَعْذُورًا كَانَ فِي خُرُوجِهِ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه نَهَى عَنْ الْبُتَيْرَاءِ" وَهُوَ أَنْ يُوتِرَ الرَّجُلُ بِرَكْعَةٍ فَاقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ إيجَابَ إتْمَامِهَا، وَإِذَا وَجَبَ إتْمَامُهَا فَقَدْ لَزِمَتْهُ،

فَمَتَى أَفْسَدَهَا أَوْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الحجاج بن عمرو الأنصاري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ كُسِرَ أو عرج فقد حل وعليه الحج من قَابِلٍ" قَالَ عِكْرِمَةُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا: صَدَقَ فَصَارَتْ رُوَاتُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إلْزَامُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ ابْنِ الْهَادِ عَنْ زُمَيْلٍ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُهْدِيَ لِي وَلِحَفْصَةَ طَعَامٌ، وَكُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ فَاشْتَهَيْنَاهَا فَأَفْطَرْنَا، فَقَالَ: "لَا عَلَيْكُمَا صُومَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي التَّطَوُّعِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمَا عَنْ جِهَةِ صَوْمِهِمَا، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا، فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ". قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْأَكْبَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جُمَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ; وَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْمًا"، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَتَكَلَّمُونَ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَشْيَاءَ يَطْعَنُونَ بِهَا فِيهِ. أَحَدُهَا: مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتَ سُفْيَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَقِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: هُوَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ؟ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَيْسَ هُوَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مَا نَسِيتُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَنَا; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الزُّهْرِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ وَسَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ عُرْوَةَ; وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ. وَإِرْسَالُهُ لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَعْمَرٍ لَوْ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مَا نَسِيتُهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ; لِأَنَّ النِّسْيَانَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ كَجَوَازِهِ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمَرٌ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ، وَغَيْرُ مَعْمَرٌ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ عَنْهُ، فَلَا يُفْسِدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمَرٌ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ زُمَيْلٌ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ، وَيَطْعَنُونَ فِيهِ أَيْضًا بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِلزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ

عُرْوَةَ؟ قَالَ: إنَّمَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَجُلٌ بِبَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، وَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ بِهِ الْحَالُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُفْسِدُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ; وَمَا يَعْتَرِضُ بِهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْ مِثْلِ هَذَا لَا يُفْسِدُ الْحَدِيثَ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ رَوَى أَيْضًا خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَأَفْطَرَتَا، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا تَأْكُلَانِ فَقَالَ: "أَلَمْ تُصْبِحَا صَائِمَتَيْنِ؟ " قَالَتَا: بَلَى قَالَ: "اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا". وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ إلَيْنَا طَعَامٌ، فَأَعْجَبَنَا فَأَفْطَرْنَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَرَتْنِي حَفْصَةُ فَسَأَلَتْهُ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِيهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صُومَا يَوْمًا مَكَانَهُ" وَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَذَكَرَ نَحْوَهَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَطَوُّعًا، فَهَذِهِ آثَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ قَدْ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ، فِي بَعْضِهَا أَنَّهُمَا أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا لَمْ يَذْكُرْ التَّطَوُّعَ، وَفِي كُلِّهَا الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: "مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَإِنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ" وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَى الصَّائِمِ إذَا اسْتَقَاءَ عَمْدًا; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُتَنَفِّلِ وَبَيْنَ مَنْ يَصُومُ فَرْضًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ بِصَدَقَةٍ تَطَوُّعًا إذَا قَبَضَهَا مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ فِيهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقُرْبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِهَا، فَكَذَلِكَ الدَّاخِلُ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ تَطَوُّعًا غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ الْمَقْبُوضَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ; لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ بَاقِي أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّدَقَةِ، قِيلَ لَهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا كَذَلِكَ لَكَانَ كَمَا ذَكَرْتَ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ إبْطَالُ مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى

ذَلِكَ، وَمَتَى فَعَلَهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُ بَعْضِ النَّهَارِ دُونَ بَعْضٍ وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَصِحُّ لَهُ صَوْمُ بَقِيَّتِهِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ أَوَّلَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي بَاقِيهِ فَقَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ حُكْمِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَأْسًا وَأَبْطَلَ بِهِ حُكْمَ مَا فَعَلَهُ كَالرَّاجِعِ فِي الصَّدَقَةِ الْمَقْبُوضَةِ، فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ فِي صَدَقَةٍ مَقْبُوضَةٍ لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمُتَصَدِّقِ بِهَا عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ تَطَوُّعًا مَتَى أَفْسَدَهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَكَانَ الدُّخُولُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ فَسَادَهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْقُرَبِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ; إذْ هُوَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالْإِفْسَادِ، قِيلَ لَهُ: هَذَا الْفَرْقُ لَا يَمْنَعُ تَسَاوِيَهُمَا فِي جِهَةِ الْإِيجَابِ بِالدُّخُولِ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْمُحْرِمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِالدُّخُولِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ أَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءً أُحْصِرَ أَوْ أَفْسَدَهُ بِفِعْلِهِ; لِأَنَّ مَا قَدْ وَجَبَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي وُقُوعِ الْفَسَادِ فِيهِ بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْر فِعْلِهِ مِثْلُ النَّذْرِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. فَمَتَى اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا أُحْصِرَ وَتَعَذَّرَ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، وَعَلَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ قَضَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْخَصْمِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَعَ وُقُوعِ الْمَنْعِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ الَّتِي شَرْطُ صِحَّتِهَا إتْمَامُهَا وَكَانَ بَعْضُهَا مَنُوطًا بِبَعْضٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ حُكْمُ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ حِينَ نَاوَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤْرَهُ فَشَرِبَتْهُ ثُمَّ قَالَتْ: إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ; فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَاقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي". وَهَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ جَمِيعًا، فَأَمَّا اضْطِرَابُ سَنَدِهِ فَإِنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ يَرْوِيهِ مَرَّةً عَمَّنْ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ، وَمَرَّةً يَقُولُ هَارُونُ ابْنُ أُمِّ هَانِئٍ أَوْ ابْنُ ابْنَةِ أُمِّ هَانِئٍ، وَمَرَّةً يَرْوِيهِ عَنْ ابْنَيْ أُمِّ هَانِئٍ، وَمَرَّةً عَنْ ابْنِ أُمِّ هَانِئٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَهْلُنَا. وَمِثْلُ هَذَا الِاضْطِرَابِ فِي الْإِسْنَادِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ ضَبْطِ رُوَاتِهِ، وَأَمَّا اضْطِرَابُ الْمَتْنِ فَمِنْ قِبَلِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُّ

هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: فَجَاءَتْ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتْهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ أُمَّ هَانِئٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً فَقَالَ لَهَا: "أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا؟ " قَالَتْ: لَا قَالَ: "فَلَا يَضُرُّكِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا ... " فَذَكَر فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَضُرُّكِ" وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ; لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَضُرَّهَا; لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْإِفْطَارُ، أَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ وَرَأَتْ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّرْبِ، وَالْإِفْطَارَ أَوْلَى مِنْ الْمُضِيِّ فِيهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْدَةُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ ابْنُ أُمِّ هَانِئٍ وَكَانَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ يُحَدِّثُهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي ابْنَا أُمِّ هَانِئٍ قَالَ شُعْبَةُ: فَلَقِيتُ أَنَا أَفْضَلَهُمَا جَعْدَةَ فَحَدَّثَنِي عَنْ أُمِّ هَانِئٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَنَاوَلَتْهُ شَرَابًا فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ أَوْ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ" فَقُلْتُ لِجَعْدَةَ: سَمِعْتَهُ أَنْتَ مِنْ أُمِّ هَانِئٍ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَهْلُنَا وَأَبُو صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَرَوَاهُ سِمَاكٌ عَمَّنْ سَمِعَ أَمَّ هَانِئٍ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُتَطَوِّعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ". وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ هَارُونَ ابْنِ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَقَالَ فِيهِ: "إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَصُومِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَصُومِي وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي". وَلَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نَفْيُ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الصَّائِمَ بِالْخِيَارِ وَأَنَّهُ أَمِينُ نَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَا قَضَاءَ عَلَيْكِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مَتْنِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، وَلَوْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَنْفِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ، وَإِبَاحَةُ الْإِفْطَارِ تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ. وَقَوْلُهُ: "الصَّائِمُ أَمِينُ نَفْسِهِ، وَالصَّائِمُ بِالْخِيَارِ" جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ أَصْبَحَ مُمْسِكًا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ التَّطَوُّعَ أَوْ يُفْطِرَ; وَالْمُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ يُسَمَّى صَائِمًا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ: "مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ" وَمُرَادُهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: "الصَّائِم بِالْخِيَارِ، وَالصَّائِمُ أَمِينُ نَفْسِهِ" هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ "فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِ وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِ" فَإِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ مِنْ الرَّاوِي لِقَوْلِهِ: "لَا يَضُرُّكِ، وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي، وَالصَّائِمُ بِالْخِيَارِ"، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ الْقَضَاءِ بِمَا ذَكَرْتُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ إيجَابِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ

التَّأْوِيلِ مَعَ صِحَّةِ السَّنَدِ وَاتِّسَاقِ الْمَتْنِ، لَكَانَتْ الْأَخْبَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَضَاءِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُبِيحٌ وَالْآخَرُ حَاظِرٌ كَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، وَخَبَرُنَا حَاظِرٌ لِتَرْكِ الْقَضَاءِ، وَخَبَرُهُمْ مُبِيحٌ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْخَبَرَ النَّافِيَ لِلْقَضَاءِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْخَبَرَ الْمُوجِبَ لَهُ نَاقِلٌ عَنْهُ، وَالْخَبَرَ النَّاقِلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى وَارِدٌ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ تَارِيخُهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِقَابُ وَفِعْلَ الْمُبَاحِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِقَابُ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ خَبَرِ الْوُجُوبِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ النَّفْيِ. وَمِمَّا يُعَارِضُ خَبَرَ أُمِّ هَانِئٍ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ، مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ". قَالَ أَبُو دَاوُد رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ أَيْضًا، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ" فَهَذَانِ خَبَرَانِ يَحْظُرَانِ عَلَى الصَّائِمِ الْإِفْطَارَ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّائِمِ تَطَوُّعًا أَوْ مِنْ فَرْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ: "وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ" وَالصَّلَاةُ تُنَافِي الْإِفْطَارَ؟ وَفَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ الْمُفْطِرِ وَالصَّائِمِ; فَلَوْ جَازَ لِلصَّائِمِ الْإِفْطَارُ لَقَالَ: فَلْيَأْكُلْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءَ وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الْأَكْلَ، قِيلَ لَهُ: بَلْ هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهِيَ الَّتِي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَصَرْفُهُ إلَى الدُّعَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الدُّعَاءَ لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُفْطِرِ وَالصَّائِمِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ: "فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْم يَمْنَعُهُ مِنْ الْأَكْلِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ كَالسَّلَامِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ، فَلَمَّا مَنَعَهُ الْإِجَابَةَ وَقَالَ: "فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِ الْإِفْطَارِ فِي سَائِرِ الصِّيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَابِرٍ "أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بِالْإِفْطَارِ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ بَأْسًا" وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَّيْتَ رَكْعَةً وَاحِدَةً فَقَالَ: هُوَ التَّطَوُّعُ، فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ، قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ إيجَابَ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَابِرٍ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا فِيهِ إبَاحَةُ

الْإِفْطَارِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَكُونُ تَطَوُّعًا وَجَائِزٌ أَنْ يَقْطَعَهَا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ". فإن قيل: قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَةٍ، قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَلِكَ تَخْيِيرًا فِي الْقِرَاءَةِ لَا فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وَالتَّخْيِيرُ فِيهَا لَا يُوجِبُ تَخْيِيرًا فِي سَائِرِ أَرْكَانِهَا، فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الرَّكَعَاتِ; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْبَدَلُ إذَا اسْتَهْلَكَهَا فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ. وَمِنْ دَلَالَاتِ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} عَلَى الْأَحْكَامِ: أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ مُقِيمًا صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، بِدَلَالَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ سَافَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ وَبَيْنَ مَنْ أَقَامَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا، أَوْ أَكَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَهَذَا لَمْ يُتِمَّ الصِّيَامَ; لِأَنَّ الصِّيَامَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَهُوَ لَمْ يُمْسِكْ، فَلَيْسَ هُوَ إذًا صَائِمٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَكَمُ: "إنَّ صَوْمَهُ تَامٌّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ" هَذَا فِي الْمُتَسَحِّرِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَسَحِّرِ وَبَيْنَ مَنْ أَكَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ ثُمَّ عَلِمَ; قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالْأَكْلُ لَهُ مُبَاحٌ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَأَمَّا الَّذِي أَفْطَرَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَقَدْ كَانَ صَوْمُهُ يَقِينًا، فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُ الْإِفْطَارُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غُرُوبُ الشَّمْس، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَقْضِي فِي الْحَالَيْنِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ: يَمْضِي فِيهِ وَفِي الْفَرْضِ: يَقْضِي. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ أَفْطَرَ هُوَ وَالنَّاسُ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ: مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، وَاَللَّهِ لَا نَقْضِيهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ نَقْضِي يَوْمًا.، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يَقْضِي بِبُطْلَانِ صِيَامِهِ; إذْ لَمْ يُتْمِمْهُ; وَلَمْ تُفَصِّلْ الْآيَةُ بَيْنَ مَنْ أَكَلَ جَاهِلًا بِالْوَقْتِ أَوْ عَالِمًا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ فَالْأَكْلُ لَهُ مُبَاحٌ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو هَذَا الْأَكْلُ من

أَحَدِ حَالَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَمْكَنَهُ اسْتِبَانَةُ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْوُصُولُ إلَى عِلْمِهِ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَبِنْ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي تَأَمُّلِهِ وَتَرْكِ مُرَاعَاتِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ، فَإِذَا أَكَلَ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ; إذْ قَدْ كَانَ فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ الْوُصُولُ إلَى الْيَقِينِ وَالِاسْتِبَانَةُ، فَفَرَّطَ فِيهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَتَفْرِيطُهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْآكِلُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْفَجْرَ بِصِفَتِهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ أَوْ قَمَرٌ أَوْ ضَعْفُ بَصَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى الظَّنِّ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْيَقِينِ وَلَا يَأْكُلَ وَهُوَ شَاكٌّ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ الِاحْتِيَاطَ لِلصَّوْمِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَكَلَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ، فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُكَلَّفْ تَبَيُّنَ الْفَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كُلِّفَ مَا عِنْدَهُ، قِيلَ لَهُ: إذَا أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاتُهُ، فَمَتَى لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِلٌ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنْ غَفَلَ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ فِي حَالِ غَفْلَتِهِ، فَإِنَّ إبَاحَةَ الْأَكْلِ غَيْرُ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَهُمَا أَصْلٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ; وَاَلَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ أَوْ ظَنَّهُ قَدْ طَلَعَ مَعْذُورٌ فِي الْأَكْلِ، وَالْعُذْرُ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بِدَلَالَةِ مَا وَصَفْنَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَوْ غُمَّ عَلَيْهِمْ الْهِلَالُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَفْطَرُوا ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ، فَكَذَلِكَ مَنْ وَصَفْنَا أَمْرَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى مَضَى ثُمَّ عَلِمَ بِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فِي حَالِ الْإِفْطَارِ إلَّا عِلْمَهُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَهْلُهُ بِالْوَقْتِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ; فَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَغُرُوبُ الشَّمْسِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ النَّاسِي فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فِي حَالِ الْأَكْلِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ: هَذَا اعْتِلَالٌ فَاسِدٌ لِوُجُودِهِ فِيمَنْ غُمَّ عَلَيْهِ هِلَالُ رَمَضَانَ مَعَ إيجَابِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّهْرِ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْجَمِيعِ مَعَ جَهْلِهِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْآكِلِ نَاسِيًا: "الْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ" وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ; وَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَة يَنْفِي صِحَّةَ صَوْمِ النَّاسِي لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ الصَّوْمَ رَأْسًا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَكُنْ نِسْيَانُهُ مُسْقِطًا الْقَضَاءَ عَنْهُ؟

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَعْنَى قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا يَوْمًا فِي رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: قُلْتُ لِهِشَامٍ: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: وَبُدٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يُوجِبُ أَيْضًا إبْطَالَ صَوْمِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْأَكْلِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَكَذَلِكَ إبْطَالُ صَوْمِ مَنْ جُنَّ فَأَكَلَ فِي حَالِ جُنُونِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَتَمَّهُ إلَى اللَّيْلِ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلٌ يَحْظُرُهُ الصَّوْمُ فَهُوَ غَيْرُ مُتِمٍّ لِصَوْمِهِ إلَى اللَّيْلِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ الصَّوْمِ وَيَجِبُ بِهِ الْإِفْطَارُ، هُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا جَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَذَهَبَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا سقط القرص أفطر ولا خلاف في أنه إذا غابت الشمس فقد انقضى وقت الصوم وجاز للصائم الأكل والشرب والجماع وسائر ما حظره عليه الصوم. وقوله عليه السلام: "إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم", يوجب أن يكون مفطرا بغروب الشمس أكل أو لم يأكل لأن الصوم لا يكون بالليل ولذلك نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوصال لأنه يترك الطعام والشراب وهو مفطر والوصال أن يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل شيئا ولا يشرب فإنه أكل أو شرب في أي وقت كان شيئا قليلا فقد خرج من الوصال وقد روى ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تُوَاصِلُ فَقَالَ: "إنَّكُمْ لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي، إنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي; فَأَيُّكُمْ وَاصَلَ فَمِنْ السَّحَرِ إلَى السَّحَرِ". فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ سَحَرًا فَهُوَ غَيْرُ مُوَاصِلٍ، وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يُوَاصِلُ; لِأَنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيه، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قِيلَ لَهُ: إنَّك تُوَاصِلَ فَقَالَ: "إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" ومن الناس مَنْ يَقُولَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِإِبَاحَةِ الْوِصَالِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يُوَاصِلْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

بَابُ الِاعْتِكَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَمَعْنَى الِاعْتِكَافِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اللَّبْثُ، قَالَ اللَّهُ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] ، وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ: فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِي عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ مَعَ اللَّبْثِ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا فِي اللُّغَةِ; مِنْهَا الْكَوْنُ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهَا الصَّوْمُ، وَمِنْهَا تَرْكُ الْجِمَاعِ رَأْسًا وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَكُونُ مُعْتَكِفًا إلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي الصَّوْمِ إنَّهُ اسْمٌ لِلْإِمْسَاكِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ مَعَانٍ أُخَرُ لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِوُجُودِهَا. وَأَمَّا شَرْطُ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ، وَأَمَّا شَرْطُ كَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الِاعْتِكَافِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَجَعَلَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْكَوْنَ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ عَلَى أَنْحَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ نَاسًا عُكُوفًا بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ لَا تُعِيرُ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةَ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتَ وَحَفِظُوا وَنَسِيتَ، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ حُذَيْفَةَ; لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ هِيَ مَسَاجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. وَقَوْلٌ آخَرُ; وَهُوَ مَا رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْكَوْنَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي عُمُومِ الْمَسَاجِدِ وَخُصُوصِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا; وَلَمْ يَخْتَلِفْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجَمَاعَاتُ إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: لَا يَعْتَكِفُ أَحَدٌ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ فِي رِحَابَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يُبِيحُ الِاعْتِكَافَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى بَعْضِهَا فَعَلَيْهِ بِإِقَامَةِ

الدَّلَالَةِ، وَتَخْصِيصُهُ بِمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ مَنْ خَصَّهُ بِمَسَاجِدِ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدِي هَذَا" يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا، قِيلَ لَهُ: لَعَمْرِي إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْصِيصِهِ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ فِي حَالٍ وَالْمَسْجِدَيْنِ فِي حَالٍ دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِهِمَا كَمَا لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ جَوَازِ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي غَيْرِهِمَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْآيَةِ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَخْصِيصِهِمَا; وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي تَخْصِيصِ مَسَاجِدِ الْجُمُعَاتِ دُونَ مَسَاجِد الْجَمَاعَاتِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَكَمَا لَا تَمْتَنِعُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ الِاعْتِكَافُ فِيهَا، فَكَيْفَ صَارَ الِاعْتِكَافُ مَخْصُوصًا بِمَسَاجِدِ الْجُمُعَاتِ دُونَ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْضِعِ اعْتِكَاف النِّسَاءِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ: تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُعْجِبُهُ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُسَافِرُ يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شَاءُوا; لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ" فَأَخْبَرَ أَنَّ بَيْتَهَا خَيْرٌ لَهَا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِهَا فِي الِاعْتِكَافِ وَفِي الصَّلَاةِ، وَلَمَّا جَازَ لِلْمَرْأَةِ الِاعْتِكَافُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ" فَلَوْ كَانَتْ مِمَّنْ يُبَاحُ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَ اعْتِكَافُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلَ وَلَمْ يَكُنْ بُيُوتُهُنَّ خَيْرًا لَهُنَّ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ شَرْطُهُ الْكَوْنُ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَنْ يُبَاحُ لَهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا"، فَلَمَّا كَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَانَ اعْتِكَافُهَا كَذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلنِّسَاءِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ،

عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، قَالَتْ: وَإِنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَتْ: فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَمَرْتُ بِبِنَائِي فَضُرِبَ، قَالَتْ: وَأَمَرَ غَيْرِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ إلَى الْأَبْنِيَةِ فَقَالَ: "مَا هَذِهِ آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟ " قَالَتْ: ثُمَّ أَمَرَ بِبِنَائِهِ فَقُوِّضَ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَقُوِّضَتْ، ثُمَّ أَخَّرَ الِاعْتِكَافَ إلَى الْعَشْرِ الْأُوَلِ; يَعْنِي مِنْ شَوَّالٍ. وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِاعْتِكَافِ لِلنِّسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ: "آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟ " يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ، وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَنَقَضَ بِنَاءَهُ حَتَّى نَقَضْنَ أَبْنِيَتَهُنَّ. وَلَوْ سَاغَ لَهُنَّ الِاعْتِكَافُ عِنْدَهُ لَمَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ وَلَمَا جَوَّزَ لَهُنَّ تَرْكَهُ وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَرِهَ اعْتِكَافَ النِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَتْ فِيهِ: فَاسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ فَأَذِنَ لِي، ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ زَيْنَبُ فَأَذِنَ لَهَا، فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ رَأَى فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَةَ أَبْنِيَةٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالُوا: لِزَيْنَبِ وَحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَقَالَ: "آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟ " فَلَمْ يَعْتَكِفْ. فَأَخْبَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُنَّ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ انْصَرَفَ إلَى اعْتِكَافِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَبْنِيَتَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ حَتَّى تَرَكْنَ أَيْضًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ بَدِيًّا لَمْ يَكُنْ إذْنًا لَهُنَّ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ أَنَّ الْإِذْنَ بَدِيَّا انْصَرَفَ إلَى فِعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَتْ الْكَرَاهَةُ دَالَّةً عَلَى نَسْخِهِ وَكَانَ الْآخِرُ مِنْ أَمْرِهِ أَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْإِذْنِ لِأَنَّ النَّسْخَ عِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، قِيلَ لَهُ: قَدْ كُنَّ مُكِّنَّ مِنْ الْفِعْلِ لِأَدْنَى الِاعْتِكَافِ; لِأَنَّهُ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى أَنْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَ فِعْلَهُنَّ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ التَّمْكِينُ مِنْ الِاعْتِكَافِ، فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ النَّسْخِ بَعْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ إنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ حَيْثُ شَاءَ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ تَعَلُّقٌ بِالْجُمُعَةِ، وَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فِيمَنْ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ وَمَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي مَوْضِعِ الِاعْتِكَافِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ لَابِثَةً مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَكِفَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَكِفَةٍ، فَأَمَّا مَنْ سِوَاهَا فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَلَمْ يُخَصِّصْ مَنْ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَا يَخْتَلِفُ فِي

الِاعْتِكَافِ مَنْ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ وَمَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَافِلَةٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَمَا شَاءَ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَنْ دَخَلَ فِي الِاعْتِكَافِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، بِالْقَوْلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: هُوَ مُعْتَكِفٌ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي مِقْدَارِ لَبْثِهِ فِيهِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهُ يَوْمًا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدًا اعْتَكَفَ دُونَ عَشْرٍ، وَمَنْ صَنَعَ ذَلِكَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الِاعْتِكَافُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ" ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: "لَا اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ" أَيَّامٍ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: لَا أَسْتَحِبُّ أَنْ يَعْتَكِفَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامِ قَالَ أَبُو بَكْرِ: تَحْدِيدُ مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ وَهُمَا مَعْدُومَانِ، فَالْمُوجِبُ لِتَحْدِيدِهِ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: تَحْدِيدُ الْعَشَرَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَوَّالٍ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاعْتِكَافِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبِ عَلَى أَحَدٍ اعْتِكَافًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِلِاعْتِكَافِ عَلَى الْوُجُوبِ فَتَحْدِيدُ الْعَشَرَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِفِعْلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْفَ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ اعْتِكَافَ الْعَشَرَةِ جَائِزٌ وَنَفْيُ مَا دُونَهَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الِاعْتِكَافِ فَقَالَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَلَمْ يَحُدَّهُ بِوَقْتٍ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِمُدَّةٍ، فَهُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، والله أعلم.

بَابُ الِاعْتِكَافِ هَلْ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى الْبَيَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ قَالُوا: الْمُعْتَكِفُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ: مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَصُومَ. وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ; رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَقَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالُوا: إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَ أَيْضًا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ

وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: الِاعْتِكَافُ فِي رَمَضَانَ، وَالْجَوَارُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَمَنْ جَاوَرَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ الِاعْتِكَافُ اسْمًا مُجْمِلًا لِمَا بَيَّنَّا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ، فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِكَافِهِ فَهُوَ وَارِدٌ مَوْرِدَ الْبَيَانِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ; لِأَنَّ فِعْلَهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ" وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ، كَفِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمَّا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اعْتَكِفْ وَصُمْ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ بِإِسْنَادِهِ، نَحْوَهُ، وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الِاعْتِكَافِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَصُومَ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى لُزُومِهِ بِالنَّذْرِ. فَلَوْلَا مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصَّوْمِ لَمَا لَزِمَ بِالنَّذْرِ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَلَا يَصِيرُ وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرَبِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً وَإِنْ تُقُرِّبَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَبْثٌ فِي مَكَان فَأَشْبَهَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَالْكَوْنُ بِمِنًى لَمَّا كَانَ لَبْثًا فِي مَكَان لَمْ يَصِرْ قُرْبَةً إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةٌ، فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ الْإِحْرَامُ وَالْكَوْنُ بِمِنًى الرَّمْيُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ لَمَا صَحَّ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الصَّوْمِ فِيهِ، قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ اللَّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ خُرُوجُهُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلِلْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ كَوْنُ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ شَرْطًا فِيهِ، كَذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ وَصِحَّتُهُ بِاللَّيْلِ مَعَ عَدَمِ الصَّوْمِ غَيْرُ مَانِعٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ، وَكَذَلِكَ اللَّبْثُ بِمِنًى قُرْبَةٌ لِأَجْلِ الرَّمْيِ، ثُمَّ يَكُونُ اللَّبْثُ بِاللَّيْلِ بِهَا قُرْبَةً لِرَمْيٍ يَفْعَلُهُ فِي غَدٍ، كَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ بِاللَّيْلِ صَحِيحٌ بِصَوْمٍ يَسْتَقْبِلُهُ فِي غَدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ حَقِيقَةَ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ إلْصَاقُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ كَمَا كَانَ الْمَسِيسَ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ، وَحَقِيقَتُهُ الْمَسُّ بِالْيَدِ وَبِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَكَمَا قَالَ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ حَظَرَتْ الْجِمَاعَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَأَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا، وَجَبَ أَنْ تَنْتَفِيَ إرَادَةُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً مَجَازًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُبَاشَرَةِ الْمُعْتَكِفِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِشَهْوَةٍ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاشِرَهَا بِشَهْوَةٍ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ وَقَدْ أَسَاءَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إذَا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إنْ بَاشَرَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مِنْ الْوَطْءِ إلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِي الْمُبَاشَرَةِ هُوَ الْوَطْءُ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ بِالْيَدِ وَالْقُبْلَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، إنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الْمُبَاشَرَةُ النِّكَاحُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يُجَامِعُونَ وَهُمْ مُعْتَكِفُونَ حَتَّى نَزَلَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ النَّاسُ إذَا اعْتَكَفُوا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَبَاشَرَ أَهْلَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ مُرَادِ الْآيَةِ الْجِمَاعَ دُونَ اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِالْيَدِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٌ لِلْمُعْتَكِفِ، حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَكَانَتْ لَا مَحَالَةَ تَمَسُّ بَدَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَأَيْضًا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ بِمَعْنَى الصَّوْمِ فِي بَابِ حَظْرِ الْجِمَاعِ وَلَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مَانِعًا مِنْ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الِاعْتِكَافُ الْقُبْلَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ وَالْقُبْلَةُ لِشَهْوَةٍ مَحْظُورَتَيْنِ فِي الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُمَا فِي الِاعْتِكَافِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ فِي الصَّوْمِ إذَا حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ فَسَدَ الصَّوْمُ وَجَبَ أَنْ يَفْسُدَ الِاعْتِكَافُ; لِأَنَّ

الِاعْتِكَافَ وَالصَّوْمَ قَدْ جَرَيَا مَجْرًى وَاحِدًا فِي اخْتِصَاصِهِمَا بِحَظْرِ الْجِمَاعِ دُونَ دَوَاعِيهِ مِنْ الطِّيبِ وَدُونَ اللِّبَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُحْرِمُ إذَا قَبَّلَ بِشَهْوَةٍ لَزِمَهُ دَمٌ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، فَهَلَّا أَفْسَدْتَ الِاعْتِكَافَ بِمِثْلِهِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْإِحْرَامِ بِأَصْلٍ لِلِاعْتِكَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ مِنْ الطِّيبِ وَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ اللُّبْسُ وَالصَّيْدُ وَإِزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ يَحْظُرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافَ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلِاعْتِكَافِ، وَأَنَّ الْإِحْرَامَ أَكْبَرُ حُرْمَةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُحْرِمُ مَمْنُوعًا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالْمُبَاشِرَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِمْتَاعَ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَلَزِمَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ دَمٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ كَمَا لَا يَفْسُدُ إحْرَامُهُ، قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلْ مَا وَصَفْنَا عِلَّةً فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ حَتَّى يَلْزَمَنَا عِلَّتُهَا، وَإِنَّمَا أَفْسَدْنَا اعْتِكَافَهُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا أَفْسَدْنَا صَوْمَهُ، وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي إفْسَادِهِ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ وَسَائِرُ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللُّبْسَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ كُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا يُفْسِدُهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ؟ فَالْإِحْرَامُ فِي بَابِ الْبَقَاءِ مَعَ وُجُودِ مَا يَحْظُرُهُ أَكْبَرُ مِنْ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ; أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْظُرُهَا الصَّوْمُ يُفْسِدُهُ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَذَلِكَ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ؟ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الِاعْتِكَافَ إذَا حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ أَفْسَدَتْهُ كَمَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَمَتَى لَمْ يَحْدُثْ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إفْسَادِ الِاعْتِكَافِ كَمَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْمُعْتَكِفِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي اعْتِكَافٍ وَاجِبٍ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِشُهُودِ جِنَازَةٍ قَالُوا: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَحَدَّثَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَشَاغَلَ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ وَيَتَزَوَّجَ وَلَيْسَ فِيهِ صَمْتٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَعْرِضُ الْمُعْتَكِفُ لِتِجَارَةٍ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ يَشْتَغِلُ بِاعْتِكَافِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ بِصَنْعَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ وَبَيْعِ مَالِهِ أَوْ شَيْئًا لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ. وَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ خَفِيفًا; قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَكُونُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ، وَلَا بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ مَا لَمْ يَكُنِ الْوِقَاعُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَقُومُ الْمُعْتَكِفُ إلَى رَجُلٍ يُعَزِّيهِ بِمُصِيبَةٍ، وَلَا يَشْهَدُ نِكَاحًا يُعْقَدُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنْ لَوْ غَشِيَهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا، وَلَا يَقُومُ إلَى النَّاكِحِ فَيُهَنِّئَهُ، وَلَا يَتَشَاغَلُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَلَا يَكْتُبُ الْعِلْمَ فِي الْمَجْلِسِ وَكَرِهَهُ وَيَشْتَرِي وَيَبِيعُ إذَا كَانَ

خَفِيفًا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَمَا لَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَصْنَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَتَى أَهْلَهُ فَصَنَعَهُ، وَلَا يَدْخُلُ سَقْفًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَمَرُّهُ فِيهِ، وَلَا يَجْلِسُ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَلْيُوصِهِمْ بِحَاجَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ يَمْشِي، وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَبْتَاعُ، وَإِنْ دَخَلَ سَقْفًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُعْتَكِفُ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ طَرِيقُهُ أَوْ جَامَعَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَيَحْضُرُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَأْتِي الْجُمُعَةَ وَيَخْرُجُ لِلْوُضُوءِ وَيَدْخُلُ بَيْتَ الْمَرِيضِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ، وَلَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا". وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ قَالَا: لَا يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا وَلَا يُجِيبُ دَعْوَةً وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَتْبَعُ جِنَازَةً. فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الْمُعْتَكِفِ مَا وَصَفْنَا، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَعَامِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ وَيَبْتَاعَ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ", فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي حَظْرَ الْخُرُوجِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، مِمَّا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاعْتِكَافِ وَارِدٌ مَوْرِدَ الْبَيَانِ، وَفِعْلُهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَأَوْجَبَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِهِ حَظْرَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. وَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِذَلِكَ قَرَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَقَضَاءِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ; وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا هُوَ مُتَنَفِّلٌ بِإِيجَابِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ تَرْكَ شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِ، فَصَارَ حُضُورُهَا مُسْتَثْنًى مِنْ اعْتِكَافِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ في قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ دَوَامَ اللَّبْثِ فِيهِ؟ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ عَلَيْهِ وَعَلَّقَ بِهِ حَظْرَ الْجِمَاعِ إذَا كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى حَظْرِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ، قِيلَ له:

هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إلَى بَيْتِهِ وَيُجَامِعُ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ يُعَلَّقْ بِهِ حَظْرُهُ الْجِمَاعَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ وَمِنْ أَوْصَافِهِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ اللَّبْثَ فِي الْمَوْضِعِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ، فَاللَّبْثُ لَا مَحَالَةَ مُرَادٌ بِهِ وَإِنْ أُضِيفَ إلَيْهِ مَعَانٍ أُخَرُ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ لَهَا فِي اللُّغَةِ، كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ ثُمَّ نقل في الشرع إلى معان أخر لم يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ وَأَوْصَافِهِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ لِشُهُودِ الْجُمُعَةِ; إذْ كَانَتْ فَرْضًا، مَعَ مَا عَاضَدَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ السُّنَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُ شُهُودِ الْجِنَازَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ لَهُمَا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَمَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ، يَسْأَلُ عَنْهُ وَيَمْضِي", وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ مِنْ فِعْلِهَا، وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ فَيَنْصَرِفُ فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ وَالسَّعْيِ عَلَى عِيَالِهِ وَهُوَ مِنْ الْبِرِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَكَمَا لَا يُجِيبُهُ إلَى دَعْوَتِهِ كَذَلِكَ عِيَادَتُهُ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ; فَالْكِتَابُ وَالْأَثَرُ وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى الْهَيَّاجُ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُعْتَكِفُ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَنَّعَ رَأْسَهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ" قِيلَ لَهُ: هَذَا حَدِيثٌ مَجْهُولُ السَّنَدِ، لَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إنْ دَخَلَ سَقْفًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ فَتَخْصِيصُهُ السَّقْفَ دُونَ غَيْرِهِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّقْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفَضَاءِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ فِي الْفَضَاءِ وَالصَّحْرَاءِ لَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، فَكَذَلِكَ السَّقْفُ مِثْلُهُ، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ إحْضَارِ السِّلْعَةِ وَالْمِيزَانِ فَلَا بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْبَيْعَ بِالْقَوْلِ فَحَسْبُ لَا إحْضَارَ السِّلَعِ وَالْأَثْمَانِ; وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، فَهُوَ كَسَائِرِ كَلَامِهِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ" فَإِذَا كَانَ الصَّمْتُ مَحْظُورًا فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مَأْمُورٌ بِالْكَلَامِ، فَسَائِرُ مَا يُنَافِي الصَّمْتَ مِنْ مُبَاحِ الْكَلَامِ قَدْ انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفِيَّةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَار أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا، أَوْ قَالَ: شَرًّا" فَتَشَاغَلَ فِي اعْتِكَافِهِ بِمُحَادَثَةِ صَفِيَّةَ وَمَشَى مَعَهَا إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَا يَتَشَاغَلُ بِالْحَدِيثِ وَلَا يَقُومُ فَيَمْشِيَ إلَى أَمْلَاكٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ مُعْتَكِفًا فِي الْمَسْجِدِ فَيُنَاوِلُنِي رَأْسَهُ مِنْ خِلَالِ الْحُجْرَةِ فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ". وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ أَحْكَامًا: مِنْهَا: إبَاحَةُ غَسْلِ الرَّأْسِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهَا جَوَازُ الْمُبَاشَرَةِ وَاللَّمْسِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِلْمُعْتَكِفِ، وَمِنْهَا جَوَازُ غَسْلِ الرَّأْسِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ، وَغَسْلُ الرَّأْسِ إنَّمَا هُوَ لِإِصْلَاحِ الْبَدَنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَفْعَلَ مَا فِيهِ صَلَاحُ بَدَنِهِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ مَالِهِ، كَمَا أُبِيحَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِإِصْلَاحِ بَدَنِهِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فِسْقٌ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ". وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ; لِأَنَّ تَرْجِيلَ الرَّأْسِ مِنْ الزِّينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ فَغَسَلَهُ كَانَ غَاسِلًا لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَ فُلَانٍ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يَحْنَثُ إنْ أَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَغَسَلَهُ وَالْحَالِفُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ مَوْضِعَ الْمَغْسُولِ لَا الْغَاسِلِ; لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَكُونُ إلَّا وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَغْسُولِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فِي الْمَسْجِدِ: إنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَضْرُوبِ فِي الْمَسْجِدِ لَا الضَّارِبِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى طَهَارَةِ يَدِ الْحَائِضِ وَسُؤْرِهَا وَأَنَّ حَيْضَهَا لَا يَمْنَعُ طَهَارَةَ بَدَنِهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَيْسَ حَيْضُكِ فِي يَدِكِ"، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَاب مَا يُحِلُّهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَمَا لَا يُحِلُّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ} . وَالْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَقَوْلُهُ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] يَعْنِي بَعْضَكُمْ بَعْضًا، وَكَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أموالكم وأعراضكم

عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" يَعْنِي أَمْوَالَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَخْذُهُ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، وَالْآخَرُ: أَخْذُهُ مِنْ جِهَةٍ مَحْظُورَةٍ، نَحْوُ الثِّمَارِ وَأُجْرَةِ الْغِنَاءِ وَالْقِيَانِ وَالْمَلَاهِي وَالنَّائِحَةِ وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحُرِّ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَإِنْ كَانَ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْ مَالِكِهِ; وَقَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ حَظْرَ أَكْلِهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا. ثُمَّ قَوْلُهُ: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فِيمَا يُرْفَعُ إلَى الْحَاكِمِ فَيَحْكُمُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ لِيُحِلَّهَا، مَعَ عِلْمِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهُ فِي الظَّاهِرِ; فَأَبَانَ تَعَالَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهِ لَا يُبِيحُ أَخْذَهُ، فَزَجَرَ عَنْ أَكْلِ بَعْضِنَا لِمَالِ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَخْذُهُ; وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَاسْتَثْنَى مِنْ الْجُمْلَةِ مَا وَقَعَ مِنْ التِّجَارَةِ بِتَرَاضٍ مِنْهُمْ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ الْبَاطِلِ، وَهَذَا هُوَ فِي التِّجَارَةِ الْجَائِزَةِ دُونَ الْمَحْظُورَةِ. وَمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيِ أَصْلٌ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَهُ بِالْمَالِ لَا يُبِيحُ لَهُ أَخْذَ الْمَالِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَبِمِثْلِهِ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ وَالسُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ وَأَشْيَاءَ قَدْ دَرَسَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيِ فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحُجَّةٍ أَرَاهَا فَاقْتَطَعَ بِهَا قِطْعَةً ظُلْمًا فَإِنَّمَا يَقْتَطِعُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا إسْطَامًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ" فَبَكَى الرَّجُلَانِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَقِّي لَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا، وَلَكِنْ اذْهَبَا فَتَوَخَّيَا لِلْحَقِّ ثُمَّ اسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ". وَمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ مُوَاطِئٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَهُ بِالْمَالِ لَا يُبِيحُ لَهُ أَخْذَهُ وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ أُخَرَ، مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقْضِي بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ وَحْيٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيِ فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ". وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الَّذِي كُلِّفَ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الظَّاهِرُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفَ الْمُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مُصِيبٌ; إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ بِالظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْمُغَيَّبِ خِلَافَهُ وَلَمْ يُبِحْ مَعَ ذَلِكَ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَخْذُ مَا قَضَى لَهُ بِهِ؟ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ إنْسَانًا مَالًا وَيَأْمُرَ لَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسَعْ الْمَحْكُومَ لَهُ أَخْذُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ غَيْرِ إقْرَارٍ; لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يُقِرَّ بِالْحَقِّ

وَإِنَّمَا بَذَلَ مَالَهُ لِصَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصُّلْحِ وَأَنْ يَسْتَهِمَا عَلَيْهِ، وَالِاسْتِهَامُ هُوَ الِاقْتِسَامُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ وَاجِبَةٌ إذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ بِالْقِسْمَةِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَجَاهِيلِ أَيْضًا; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِجَهَالَةِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي قَدْ دَرَسَتْ ثُمَّ أَمَرَهُمَا مَعَ ذَلِكَ بِالتَّحْلِيلِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهَا مَوَارِيثُ قَدْ دَرَسَتْ لَكَانَ يَقْتَضِي قَوْلُهُ: "وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ" جَوَازَ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَجَاهِيلِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَجْهُولِ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَعْلُومِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ تَرَاضِي الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ قِبَلَ رَجُلٌ حَقٌّ فَوَهَبَهُ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيَعُودُ الْمِلْكُ إلَى الْوَاهِبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدَّ مَا وَهَبَهُ الْآخَرُ وَجَعَلَ حَقَّ نَفْسِهِ لِصَاحِبِهِ; وَلَمَّا لَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالدُّيُونِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْجَمِيعِ إذَا رَدَّ الْبَرَاءَةَ وَالْهِبَةَ فِي وُجُوبِ بُطْلَانِهِمَا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لِفُلَانٍ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ هِبَةٌ مِنْهُ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: الَّذِي لِي لَهُ إقْرَارًا; لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ إقْرَارًا لَجَازَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْتَاجَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الصُّلْحِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْقِسْمَةِ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ فِي مُوَافَقَةِ الْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَقِينًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَتَوَخَّيَا لِلْحَقِّ" أَيْ تَحَرَّيَا وَاجْتَهِدَا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ لِلصُّلْحِ إذَا رَأَى ذَلِكَ، وَأَنَّ لَا يَحْمِلَهُمَا عَلَى مُرِّ الْحُكْمِ; وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: "رُدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ لَهُمَا لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إلَّا دَعْوَاهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي لَك، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا إذْ فَعَلْتُمَا مَا فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا ثُمَّ تَحَالَّا". وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي حَظْرِ أَخْذِ مَا يَحْكُمُ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ; وَفِيهِمَا فَوَائِدُ أُخَرُ، مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي حديث زينب

بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ "أَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ; لِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ يَقْضِي بِمَا يَسْمَعُ; وَكَذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمُ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُهُ مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَاعْتِبَارِ لَفْظِهِمَا فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَيُوجِبُهُ وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ هَذَا: "اقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا" وَهَذَا الِاسْتِهَامُ هُوَ الْقُرْعَةُ الَّتِي يُقْرَعُ بِهَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ. وَاَلَّذِي وَرَدَ التَّنْزِيلُ مِنْ حَظْرِ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ إذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِحَقٍّ قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ فِيمَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَقَضَى لَهُ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُهُ وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخِ عَقْدٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ إذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِبَيِّنَةٍ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخِ عَقْدٍ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُبْتَدَأَ فَهُوَ نَافِذٌ وَيَكُونُ كَعَقْدٍ نَافِذٍ عَقَدَاهُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ شُهُودَ زُورٍ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ كَهُوَ فِي الْبَاطِنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنْ حَكَمَ بِفُرْقَةٍ لَمْ تَحِلَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا أَيْضًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ، ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْحَيِّ خَطَبَ امْرَأَةً وَهُوَ دُونَهَا فِي الْحَسَبِ، فَأَبَتْ أَنْ تُزَوَّجَهُ، فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَقَالَتْ: إنِّي لَمْ أَتَزَوَّجْهُ، قَالَ: قَدْ زَوَّجَكِ الشَّاهِدَانِ; فَأَمْضَى عَلَيْهِمَا النِّكَاحَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَكَتَبَ إلَيَّ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ يَرْوِيهِ عَنْ زَيْدٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجْلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِزُورٍ، فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ بَاعَ عَبْدًا بِالْبَرَاءَةِ، فَرَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتَهُ وَبِهِ دَاءٌ كَتَمْتَهُ؟ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ; فَرَدَّهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ، فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِفَضْلٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَجَازَ ابْنُ عُمَرَ بَيْعَ الْعَبْدِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ بَاطِنَ ذَلِكَ الْحُكْمِ خِلَافُ ظَاهِرٍ، وَأَنَّ عُثْمَانَ لَوْ عَلِمَ مِنْهُ مِثْلَ عِلْمِ ابْنِ عُمَرَ لَمَا رَدَّهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ فَسْخَ الْحَاكِمِ الْعَقْدَ يُوجِبُ عَوْدَهُ إلَى مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ" فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَكْرُوهَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ" وَلَمْ تَبْطُلْ الْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِلِعَانِهِمَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ الْمَرْأَةِ وَصِدْقِ الزَّوْجِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا

فِي أَنَّ الْعُقُودَ وَفَسْخَهَا مَتَى حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ مِمَّا لَوْ ابْتَدَأَ أَيْضًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَقَعَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْحَاكِمَ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ، وَلَوْ تَوَقَّفَ عَنْ إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ فَسْخِ عَقَدٍ لَكَانَ آثِمًا تَارِكًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ إنَّمَا كُلِّفَ الظَّاهِرَ وَلَمْ يُكَلَّفْ عِلْمَ الْبَاطِنِ الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَضَى الْحُكْمُ بِالْعَقْدِ صَارَ ذَلِكَ كَعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا حَكَمَ بِالْفَسْخِ صَارَ كَفَسْخٍ فِيمَا بَيْنَهُمَا; وَإِنَّمَا نَفَذَ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ إذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَاكِمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ عَبِيدٍ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ إذَا تَبَيَّنَ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهِ، قِيلَ لَهُ: إنَّمَا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرِّقَّ مَعْنًى يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ وَالْحَدُّ فِي الْقَذْفِ، فَجَازَ فَسْخُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِهِ وَالْخُصُومَةُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؟ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ لَا يَنْفُذَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ، لِوُجُودِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَصِحُّ إثْبَاتُهَا، مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْفِسْقُ وَجَرْحُ الشَّهَادَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ، فَلَيْسَ هُوَ مَعْنًى يَصِحُّ إثْبَاتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَلَا تُقْبَلْ فِيهِ الْخُصُومَةُ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ مَا أَمْضَاهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ أَلْزَمْنَا عَلَى الْعَقْدِ وَفَسْخِهِ الْحُكْمَ بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ وَلَمْ نُبِحْ لَهُ أَخْذَهُ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ; لِأَنَّ الْحَاكِمَ عِنْدَنَا إنَّمَا يُحْكَمُ لَهُ بِالتَّسْلِيمِ لَا بِالْمِلْكِ; لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِالْمِلْكِ لَاحْتِيجَ إلَى ذِكْرِ جِهَةِ الْمِلْكِ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشُّهُودِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جِهَةِ الْمِلْكِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالْحُكْمُ بِالتَّسْلِيمِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِنَقْلِ الْمِلْكِ; فَلِذَلِكَ كَانَ الشَّيْء بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ. وَقَوْلُهُ: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِالْمَالِ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ إذَا قَامَتْ بِأَنَّ لِأَبِيهِ الْمَيِّتِ عَلَى هَذَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَرَكَهَا الْمَيِّتُ مِيرَاثًا، أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْوَارِثِ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ ذَلِكَ; إذْ هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ذَمَّ الْعَالِمَ بِهِ إذَا أَخَذَهُ بِقَوْلِهِ: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْعُقُودِ وَفَسْخِهَا، اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِأَحَدِ وُجُوهِ الِاخْتِلَافِ نَفَذَ حُكْمُهُ وَقُطِعَ مَا أَمْضَاهُ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِي رَدِّهِ، وَوَسِعَ الْمَحْكُومَ لَهُ أَخْذُهُ وَلَمْ يَسَعْ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ منعه.

وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُمَا خِلَافَهُ، كَنَحْوِ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هِلَالًا فِي أَوَّلِ مَا يُرَى وَمَا قَرُبَ مِنْهُ لِظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَعْدَ خَفَائِهِ; وَمِنْهُ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ إظْهَارُ التَّلْبِيَةِ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ: ظُهُورُ حَيَاتِهِ بِصَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْإِهْلَالَ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَإِنَّ إهْلَالَ الْهِلَالِ مِنْ ذَلِكَ لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِذِكْرِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ وَأَظْهَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَهَلَّلَ وَجْهُهُ: إذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْبِشْرُ وَالسُّرُورُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ صَوْتٌ مَرْفُوعٌ؟ وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: وَإِذَا نَظَرْتَ إلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ يَعْنِي الظَّاهِرَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُسَمَّى هِلَالًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسَمَّى هِلَالًا لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ الشَّهْر، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسَمَّى لِثَلَاثِ لَيَالٍ ثُمَّ يُسَمَّى قَمَرًا، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يَحْجُرَ، وَتَحْجِيرُهُ أَنْ يَسْتَدِيرَ بِخُطَّةٍ دَقِيقَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يُبْهِرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ، فَإِذَا غَلَبَ ضَوْءُهُ سُمِّيَ قَمَرًا. قَالُوا: وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَكْثَرُ يُسَمُّونَهُ هِلَالًا لِابْنِ لَيْلَتَيْنِ. وَقِيلَ: إنَّ سُؤَالَهُمْ وَقَعَ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا، فَأَجَابَهُمْ: إنَّهَا مَقَادِيرُ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ فِي صَوْمِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَعِدَدِ نِسَائِهِمْ وَمَحَلِّ الدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، فَكَانَتْ هَذِهِ مَنَافِعَ عَامَّةً لِجَمِيعِهِمْ وَبِهَا عَرَفُوا الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ وَمَا لَا يُحْصِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي سَائِرِ الْأَهِلَّةِ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَفْعَالَ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الإحرام. وقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لَا يَنْفِي مَا قُلْنَا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فِيهِ ضَمِيرٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْحَجِّ أَشْهُرًا; لِأَنَّ الْحَجَّ هُوَ فِعْلُ الْحَاجِّ، وَفِعْلُ الْحَاجِّ لَا يَكُونُ أَشْهُرًا; لِأَنَّ الْأَشْهُرَ إنَّمَا هِيَ مُرُورُ الْأَوْقَاتِ، وَمُرُورُ الْأَوْقَاتِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ لَيْسَ بِفِعْلٍ لِلْحَاجِّ، وَالْحَجُّ فِعْلُ الْحَاجِّ; فَثَبَتَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرًا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ; ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ الضَّمِيرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْحَجِّ أَوْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صَرْفُهُ إلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّفْظِ

هَذَا الِاحْتِمَالُ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} بِهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إحْرَامَ الْحَجِّ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا فِيهَا إثْبَاتُ الْإِحْرَامِ فِيهَا; وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ الْإِحْرَامَ جَائِزٌ فِيهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَجَائِزٌ فِي غَيْرِهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى; إذْ لَيْسَ فِي إحْدَاهُمَا مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْأُخْرَى; وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا إحْرَامَهُ، إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ حَرْفِ الظَّرْفِ وَهُوَ فِي فَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: الْحَجُّ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ وَفِيهِ تَخْصِيصُ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ دُونَ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهُ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ إنَّ سَعْيَهُ ذَلِكَ لَا يُجْزِيهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُ; لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا تُجْزِي قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَى هَذَا يكون معنى قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أَنَّ أَفْعَالَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعْلُومَاتٌ. وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} عُمُومٌ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ لَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ الْمُوجِبَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أَهِلَّةً مَخْصُوصَةً بِأَشْهُرِ الْحَجِّ. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَهِلَّةُ فِي مَوَاقِيتِ النَّاسِ وَآجَالِ دُيُونِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَفِطْرِهِمْ مَخْصُوصَةً بِأَشْهُرِ الْحَجِّ دُونَ غَيْرِهَا; فَلَمَّا ثَبَتَ عُمُومُ الْمُرَادِ فِي سَائِرِ الْأَهِلَّةِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنْ مَوَاقِيتِ النَّاسِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ فِي الْحَجِّ; لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ لِمَوَاقِيتِ النَّاسِ هِيَ بِعَيْنِهَا الْأَهِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْحَجِّ، وَعَلَى أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ وَجَعَلْنَاهَا مَقْصُورَةَ الْمَعْنَى عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَتِهِ وَإِزَالَةِ حُكْمِهِ وَتَخْصِيصِ لَفْظِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ تُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ على معنى قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، فَلَمَّا وَجَبَ أَنْ يُوَفَّى كُلُّ لَفْظٍ حَقَّهُ مِمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ الْحُكْمِ وَالْفَائِدَةِ; وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى سَائِرِ الْأَهِلَّةِ وَأَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَسَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ بُلُوغِنَا إلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ إذَا وَجَبَتَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِمُضِيِّهَا لَهُمَا جَمِيعًا وَلَا تُسْتَأْنَفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِيَضًا وَلَا شُهُورًا غَيْرَ مُدَّةِ الْأُخْرَى; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخَصِّصْ إحْدَاهُمَا حِينَ جَعَلَهَا وَقْتًا لِجَمِيعِ النَّاسِ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَمُضِيُّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ هُوَ وَقْتٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِقَوْلِهِ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فَجَعَلَ الْعِدَّةَ حَقًّا لِلزَّوْجِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الْعِدَّةُ مُرُورَ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ وَقْتًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِمُضِيِّ مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلْعِدَّتَيْنِ; أَلَا

تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} قَدْ عُقِلَ مِنْ مَفْهُومِ خِطَابِهِ أَنَّهَا تَكُونُ مُدَّةً لِإِجَارَةِ جَمِيعِ النَّاسِ وَمَحَلًّا لِجَمِيعِ دُيُونِهِمْ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَخْتَصَّ لِنَفْسِهِ بِبَعْضِ الْأَهِلَّةِ دُونَ بَعْضٍ؟ كَذَلِكَ مَفْهُومُ الْآيَةِ فِي الْعِدَّةِ قَدْ اقْتَضَى مُضِيَّ مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِرَجُلَيْنِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ إذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهَا بِالْهِلَالِ وَكَانَتْ بِالشُّهُورِ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهَا بِالْأَهِلَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً، وَإِنْ كَانَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ وَأَنَّ لَا تَعْتَبِرَ عَدَدَ الْأَيَّامِ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهْرَ الصَّوْمِ مُعْتَبَرٌ بِالْهِلَالِ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يُرْجَعُ إلَى الْعَدَدِ عِنْدَ فَقْدِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَنَّ مُضِيَّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مُعْتَبَرٌ بِالْأَهِلَّةِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ دُونَ اعْتِبَارِ الثَّلَاثِينَ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ وَآجَالِ الدُّيُونِ، مَتَى كَانَ ابْتِدَاؤُهَا بِالْهِلَالِ كَانَ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الثَّلَاثِينَ; وَبِذَلِكَ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" بِالرُّجُوعِ إلَى اعْتِبَارِ الْعَدَدِ عِنْدَ فَقْدِ الرُّؤْيَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ وَيَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُهِلَّا بِالْعُمْرَةِ فَيَبْدُو لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَيَرْجِعُ وَلَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَابِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، فَيَفْتَحُ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ ثُمَّ يَقُومُ عَلَى حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرُ بِحَاجَتِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ فَدَخَل حُجْرَتَهُ، فَدَخَلَ فِي إثْرِهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّي أَحْمَسُ" قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا أَحْمَسُ يَقُولُ وَأَنَا عَلَى دِينِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: "أَنَّهُ كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أَحْرَمُوا نَقَبُوا فِي ظُهُورِ بُيُوتِهِمْ نَقْبًا يَدْخُلُونَ مِنْهُ وَيَخْرُجُونَ، فَنُهُوا عَنْ التَّدَيُّنِ بِذَلِكَ وَأُمِرُوا أَنْ يَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا". وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا الْبِرَّ مِنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ إتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا هُوَ مِمَّا شَرَعَهُ وَلَا نَدَبَ إلَيْهِ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَثَلًا أَرْشَدَنَا بِهِ إلَى أَنْ نَأْتِيَ الْأُمُورَ مِنْ مَأْتَاهَا الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ

وَنَدَبَ إلَيْهِ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ قُرْبَةٌ وَلَا نُدِبَ إلَيْهِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً وَلَا دِينًا بِأَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ مُتَقَرِّبٌ وَيَعْتَقِدَهُ دِينًا وَنَظِيرُهُ مِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نَهْيِهِ عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ، وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: "مَا شَأْنُهُ؟ " فَقِيلَ: إنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ; فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْفَيْءِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا صَوْمَ فِيهِ، فَنَهَى أَنْ يُعْتَقَدَ صَوْمُهُ وَتَرْكُ الْأَكْلِ فِيهِ قُرْبَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ أَصْلٌ فِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالنَّذْرِ وَلَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِالْإِيجَابِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ، نَحْوَ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْقُعُودِ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم.

بَابُ فَرْضِ الْجِهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 – 35] وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وَقَوْلِهِ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [آل عمران: 20] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزَّةٍ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّاءَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ" فَلَمَّا حَوَّلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَكُفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} [النساء: 77] . وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله عز وجل: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 5] وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وَقَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قَالَ: نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .

وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَوَّلِ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، فَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الْآيَةُ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي إبَاحَةِ قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ عَامَّةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ إلَى أَنْ أُمِرَ بِقِتَالِ الْجَمِيعِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ بِقِتَالِ الشَّمَامِسَةِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ الْقِتَالَ وَأَنَّ الرُّهْبَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ بِأَنْ لَا يُقَاتَلُوا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فَكَانَتْ الْآيَةُ عَلَى تَأْوِيلِهِ ثَابِتَةَ الْحُكْمِ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ، وَعَلَى قَوْلِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ كَفَّ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَتَدَيَّنُ بِالْقِتَالِ أَوْ لَا يَتَدَيَّنُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَنَّهُ فِي النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَمَنْ لَمْ يَنْصِبْ لَكَ الْحَرْبَ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فِي الْأَغْلَبِ لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ شَائِعَةٍ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ أَصْحَابِ الصَّوَامِع رَوَاهُ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ أُمِرَ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ وَالْكَفِّ عَمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] نَاسِخٌ لِمَنْ يَلِي، وَحُكْمُ الْآيَةِ كَانَ بَاقِيًا فِيمَنْ لَا يَلِيَنَا مِنْهُمْ، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِيَنَا دُونَ مَنْ لَا يَلِيَنَا، إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنْ التَّخْصِيصِ بِحَظْرِهِ الْقِتَالَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقَاتِلُونَا فِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فَرْضَ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:

216] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ، لَا يُقَاتَلُ فِي الْحَرَمِ إلَّا مَنْ قَاتَلَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ" فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ نَبْتَدِئَ فِيهَا بِالْقِتَالِ لِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ} [البقرة: 217] ، ثُمَّ نَسَخَ بِقَوْلِهِ {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَالْحَظْرُ بَاقٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أُظْفِرْنَا بِهِمْ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي قِتَالِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قَاتَلَنَا مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلُنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ مَحْظُورٌ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ قَتْلِ أَهْلِ الصَّوَامِعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الْأَمْرَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَنَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ دُونَ مَنْ كَفَّ عَنَّا مِنْهُمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} نَهْيًا عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} لِإِيجَابِهِ قَتْلَ مَنْ حُظِرَ قَتْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} إذْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَقَوْلُهُ: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِنْ مَكَّةَ إنْ أَمْكَنَكُمْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا آذَوْا الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانُوا مُخْرِجِينَ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فَرْضِهِ الْقِتَالَ بِإِخْرَاجِهِمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ; إذْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فيكون قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} عَامًّا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ إلَّا فِيمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إلَّا لِمَنْ قَاتَلَهُمْ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ حِينَئِذٍ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فثبت أن قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} فِيمَنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ.

وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ هَهُنَا الْكُفْرُ، وَقِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعْذِيبِ وَيُكْرِهُونَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ عَيَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ قَتَلَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَكَانَ مُشْرِكًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَالُوا: قَدْ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يَعْنِي كُفْرَهُمْ وَتَعْذِيبَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ مَأْثَمًا مِنْ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فإن المراد بقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] يَعْنِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ كُلَّهُمْ، وَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ حَظْرَ الْقَتْلِ بِمَكَّةَ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ فِيهَا، فَيُحْتَجُّ بِهَا فِي حَظْرِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ الْحَرْبِيِّ إذَا لَجَأَ إلَيْهَا وَلَمْ يُقَاتِلْ، وَيُحْتَجُّ أَيْضًا بِعُمُومِهَا فِيمَنْ قَتَلَ وَلَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ قَتَلَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ فِي حَظْرِ قَتْلِ الْجَمِيعِ، فَلَزِمَ بِمَضْمُونِ الْآيَةِ أَنْ لَا نَقْتُلَ مَنْ وَجَدْنَا فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ قَاتِلًا أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، فَحِينَئِذٍ يُقْتَلُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} . فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، قِيلَ لَهُ: إذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ، لَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي نَسْخِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، نَظِيرُهُ فِي حَظْرِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ جَانِيًا، قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْنًا مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادُ: مَنْ دَخَلَهُ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ أَنَّهُ يَأْمَنُ بِدُخُولِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] كُلّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ اللَّاجِئَ إلَى الْحَرَمِ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقَتْلِ يَأْمَنُ بِهِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْقَتْلُ بِمَصِيرِهِ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} إذَا كَانَ نَازِلًا مَعَ أَوَّلِ الْخِطَابِ عِنْدَ قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ مَذْكُورًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَسَقُ التِّلَاوَةِ وَنِظَامُ التَّنْزِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إثْبَاتُ تَارِيخِ الْآيَتَيْنِ وَتَرَاخِي نُزُولِ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى إلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ. وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا دَعْوَى نَقْلٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ; وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ،

تَأْوِيلًا مِنْهُ وَرَأْيًا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لَا مَحَالَةَ نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى النَّسْخِ لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ حَظْرُ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ إلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: "وَإِنَّمَا أُحِلَّ لِي الْقِتَالُ بِهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ"، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَئِذٍ حِينَ قَتَلَ رَجْلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٌ، ثُمَّ قَالَ: "إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ بِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ فِي الْحَرَمِ لِمَنْ لَمْ يَجْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ الذَّمِّ لِلْقَاتِلِ فِي الْحَرَمِ، وَالثَّانِي: قَدْ ذَكَرَ مَعَهُ قَتْلَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ قَتْلُ مَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلُ فَلَجَأَ، وَأَنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْحَرَمَ يَحْظُرُ قَتْلَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ. وَهَذِهِ الْآيُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا فِي حَظْرِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فِي أَنَّ دَلَالَتَهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى حَظْرِ الْقَتْلِ فَحَسْبُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حُكْمِ مَا دُونَ النَّفْسِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مَقْصُورٌ عَلَى حُكْمِ الْقَتْلِ; وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] وَقَوْلُهُ: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] ظَاهِرُهُ الْأَمْنُ مِنْ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ مَا سِوَاهُ فِيهِ بِدَلَالَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ} [آل عمران: 97] اسْمٌ لِلْإِنْسَانِ، وَقَوْلُهُ: {كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] رَاجِعٌ إلَيْهِ، فَاَلَّذِي اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَمَانَهُ هُوَ الْإِنْسَانُ لَا أَعْضَاؤُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِلنَّفْسِ فَمَا دُونَهَا، فَإِنَّمَا خَصَّصْنَا مَا دُونَهَا بِدَلَالَةٍ وَحُكْمُ اللَّفْظِ بَاقٍ فِي النَّفْسِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَأَنَّ دُخُولَهُ الْحَرَمِ لَا يَعْصِمُهُ مِنْ الْحَبْسِ، كَذَلِكَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ نَفْسًا مِنْ الْحُقُوقِ فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يَعْصِمُهُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يَعْنِي فَإِنْ انْتَهُوا عَنْ الْكُفْرِ

فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنِ انْتَهَوْا} شَرْطٌ يَقْتَضِي جَوَابًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَهُ تَوْبَةٌ; إذْ كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ مَأْثَمًا مِنْ الْقَتْلِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهُ وَيَغْفِرُ لَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} يُوجِبُ فَرْضَ قِتَالَ الْكُفَّارِ حَتَّى يَتْرُكُوا الْكُفْرَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْفِتْنَةُ هَهُنَا الشِّرْكُ. وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ كَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الْفِتْنَةُ. وَقِيلَ: إنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الِاخْتِبَارُ، وَالْكُفْرُ عِنْدَ الِاخْتِبَارِ إظْهَارُ الْفَسَادِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَهُوَ الِانْقِيَادُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْقِيَادُ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى: هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إذْ كَرَّ هُوَ الدِّينُ ... دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ ثُمَّ دَانَتْ بَعْدَ الرَّبَابِ وَكَانَتْ ... كَعَذَابِ عُقُوبَةِ الْأَقْوَالِ وَالْآخَرُ: الْعَادَةُ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي وَالدِّينُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الِانْقِيَادُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ وَالْعَادَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ جَرَى بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وَذَلِكَ صِفَةُ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَلَمْ يَدْخُلْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، لِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني كفرا {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وَدِينُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، لِقَوْلِهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19] . وَقَوْلُهُ: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} الْمَعْنَى: فَلَا قَتْلَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ. يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْقَتْلُ الْمَبْدُوءُ بِذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ} وَسَمَّى الْقَتْلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِكُفْرِهِمْ عُدْوَانًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ الظُّلْمِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً وَلَا سَيِّئَةً. قَوْله تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَهَيْتَ عَنْ قِتَالِنَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". وَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُغَيِّرُوهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَيُقَاتِلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} يَعْنِي إنْ اسْتَحَلُّوا مِنْكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ شَيْئًا فَاسْتَحِلُّوا مِنْهُمْ

مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا رَدَّتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مُحْرِمًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ مَكَّةَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَقَصَّهُ بِمَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ، فَيَكُونُ إخْبَارًا بِمَا أَقَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ بِشَهْرٍ مِثْلِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ مَعَ ذَلِكَ إبَاحَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إذَا قَاتَلَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ لَفْظًا وَاحِدًا لَا يَكُونُ خَبَرًا وَأَمْرًا، وَمَتَى حَصَلَ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ انْتَفَى الْآخَرُ. إلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا بِمَا عَوَّضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ فَوَاتِ الْعُمْرَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ شَهْرًا مِثْلَهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَكَانَتْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ الَّذِي أُبْدِلَ كَحُرْمَةِ الشَّهْرِ الَّذِي فات; فلذلك قال: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ثُمَّ عَقَّبَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَأَفَادَ أَنَّهُمْ إذَا قَاتَلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَسَمَّى الْجَزَاءَ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْجِنْسِ وَقَدْرُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُعْتَدِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الظَّالِمُ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} عُمُومٌ فِي أَنَّ مِنْ اسْتَهْلَكَ لِغَيْرِهِ مَالًا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ وَذَلِكَ الْمِثْلُ يَنْقَسِمُ إلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُهُ فِي جِنْسِهِ وَذَلِكَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ، وَالْآخَرُ: مِثْلُهُ فِي قِيمَتِهِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَجَعَلَ الْمِثْلَ اللَّازِمَ بِالِاعْتِدَاءِ هُوَ الْقِيمَةَ، فَصَارَ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي أَنَّ الْمِثْلَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْقِيمَةِ وَيَكُونُ اسْمًا لَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ إذَا كَانَ فِي وِزَانِهِ وَعُرُوضِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْجَزَاءِ، أَنَّ مَنْ اعْتَدَى عَلَى غَيْرِهِ بِقَذْفٍ لَمْ يَكُنِ الْمِثْلُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقْذَفَ بِمِثْلِ قَذْفِهِ بَلْ يَكُونُ الْمِثْلُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هُوَ جَلْدُ ثَمَانِينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَتَمَهُ بِمَا دُونَ الْقَذْفِ كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَذَلِكَ مِثْلٌ لِمَا نَالَ مِنْهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْمِثْلِ قَدْ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي وِزَانِهِ وَعُرُوضِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ طَرِيقِ الْجَزَاءِ. وَيُحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي أَنَّ مِنْ غَصْبِ سَاجَةٍ فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَنَاوَلَهَا اسْمُ الْمِثْلِ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْغَاصِبُ مُعْتَدِيًا بِأَخْذِهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا لِحَقِّ الْعُمُومِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا نَقَصْنَا بِنَاءَهُ وَأَخَذْنَاهَا بِعَيْنِهَا فَقَدْ اعْتَدَيْنَا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى. قِيلَ لَهُ: أَخْذُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ فَأَخَذَهَا لَمْ

يَكُنْ مُعْتَدِيًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ مِنْ مِلْكِهِ مِثْلَ مَا أَزَالَ أَوْ يُزِيلَ يَدَهُ عَنْ مِثْلِ مَا أَزَالَ عَنْهُ يَدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَأَمَّا أَخْذُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا فِيهِ أَخْذُ الْمِثْلِ. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ دُونَ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ وَالْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهَا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِاسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ. وَيَحْتَجُّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَهُ أَنَّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ، لِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ: قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، وَابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ الْإِسْلَامَ قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا فَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ; قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَأَخْبَرَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ: الْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الْيَأْسُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا يَجِدَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَتْلَفُ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقْتَحِمَ الْحَرْبَ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَوْمُ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَبُو أَيُّوبَ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِالسَّبَبِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا وَجَوَازُ اجْتِمَاعِهَا مِنْ غَيْرِ تَضَادٍّ وَلَا تَنَافٍ فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَحْمِلُ عَلَى حَلْبَةِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَهُوَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ

مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ وَلَكِنَّهُ يُجْزِئُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ فَيُقْتَلُونَ وَيُنْكُونَ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ وَلَا يَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُنْكَى غَيْرُهُ فِيهِمْ بِحَمْلَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْجُورًا; وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُرْهِبُ الْعَدُوَّ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ النِّكَايَةِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَاَلَّذِي قَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ; وَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْمَلُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعَدُوِّ; إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْلِفَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَائِدَةٍ عَلَى الدِّينِ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَلَفِ نَفْسِهِ مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الدِّينِ فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] وَقَالَ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ. وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنَّهُ مَتَى رَجَا نَفْعًا فِي الدِّينِ فَبَذَلَ نَفْسَهُ فِيهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقَتَلَهُ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ" وَذَمُّ الْجُبْنِ يُوجِبُ مَدْحَ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الدِّينِ وَإِنْ أَيْقَنَ فِيهِ بِالتَّلَفِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ الْعُمْرَةِ هِيَ فَرْضٌ أَمْ تَطَوُّعٌ قَالَ الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إتْمَامُهُمَا بُلُوغُ آخِرِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِمَا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ

وَعَطَاءُ: هُوَ إقَامَتُهُمَا إلَى آخِرِ مَا فِيهِمَا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ كَأَنَّهُمَا تَأَوَّلَا ذَلِكَ عَلَى الْأَمْرِ بِفِعْلِهِمَا، كَقَوْلِهِ لَوْ قَالَ حُجُّوا وَاعْتَمِرُوا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ قَالَا: إتْمَامُهُمَا إفْرَادُهُمَا وَقَالَ قَتَادَةَ إتْمَامُ الْعُمْرَةِ الِاعْتِمَارُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ في قوله تعالى: {وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قَالَ: لَا تُجَاوِزُ بِهَا الْبَيْتَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا تَطَوُّعٍ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قَالَ: مَا أَمَرَنَا بِهِ فِيهِمَا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ وَاجِبَةٌ وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ". وَاحْتَجَّ مِنْ أَوْجَبَهَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قَالُوا: وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ إتْمَامُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِمَا وَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَ بِابْتِدَاءِ فِعْلِهِمَا، فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، بِمَنْزِلَةِ عُمُومٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُشْتَمِلٍ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِمَا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي نَفْيَ النُّقْصَانِ عَنْهُمَا إذَا فُعِلَتْ; لِأَنَّ ضِدَّ التَّمَامِ هُوَ النُّقْصَانُ لَا الْبُطْلَانُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ لِلنَّاقِصِ إنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ وَلَا تَقُولُ مِثْلَهُ لِمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ إنَّمَا اقْتَضَى نَفْيَ النُّقْصَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ يَعْنِي الْأَبْلَغُ فِي نَفْيِ النُّقْصَانِ الْإِحْرَامُ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ. وَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لَا يَفْعَلُهُمَا نَاقِصَيْنِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَفْعَلُهُمَا نَاقِصَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لِجَوَازِ إطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى النَّوَافِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: لَا تَفْعَلْ الْحَجَّ التَّطَوُّعَ وَلَا الْعُمْرَةَ التَّطَوُّعَ نَاقِصَيْنِ وَلَا صَلَاةَ النَّفْلِ نَاقِصَةً؟ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ يَقْتَضِي نَفْيَ النُّقْصَانِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى وُجُوبِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْعُمْرَةَ التَّطَوُّعَ وَالْحَجَّ النَّفَلَ مُرَادَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِمَا نَاقِصَيْنِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهِمَا فِي الْأَصْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ لَفْظِ الْإِتْمَامِ إنَّمَا يُطْلَقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ; قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْإِتْمَامِ عَلَيْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إيجَابُ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِمَا، أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ النَّافِلَتَيْنِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِمَا بِالْآيَةِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَتِمُّوهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ لُزُومُ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ حَمْلُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِتَضَادِّ الْمَعْنَيَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِلْزَامَ بِالدُّخُولِ انْتَفَى أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِلْزَامَ قَبْلَ الدُّخُولِ؟

لِأَنَّ إلْزَامَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ نَافٍ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا بِالدُّخُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا تَلْزَمُ الدُّخُولَ وَإِنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ مُتَعَلِّقٌ لُزُومُهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ إيجَابِهِمَا بِالدُّخُولِ وَإِيجَابُهُمَا ابْتِدَاءً قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِمَا; فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَا: "الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ". وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَةَ، ثُمَّ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: "بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ" فَلَمَّا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَةَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ حَجًّا وَقَالَ لِلْأَقْرَعِ "الْحَجُّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ" انْتَفَى بِذَلِكَ وُجُوبُ الْعُمْرَةِ; إذْ كَانَتْ قَدْ تُسَمَّى حَجًّا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْمُطَّوِّعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ أَوَاجِبٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ" وَسَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: "لَا وَلَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ". وَرَوَاهُ أَيْضًا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مِثْلَ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ وَجَرِيرٌ وَأَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَابَ عَنْهَا لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ مَوْجُودَةٌ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَزِيَادَةٌ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ وُجُوبَهَا كَوُجُوبِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ بِأَوْلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي الْحَجِّ مِنْ الْحَجِّ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمْرَةِ; إذْ هُمَا جَمِيعًا وَاجِبَانِ، كَمَا لَا يُقَالُ دَخَلْتَ الصَّلَاةُ فِي الْحَجِّ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ الْحَجِّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ أَنْ يُحِلُّوا مِنْهُ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: "بَلْ لِلْأَبَدِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ عَمَلَ عُمْرَةٍ يَحْلُلُ بِهَا مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ كَمَا يَتَحَلَّلُ الَّذِي يَفُوتُهُ الحج

بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَهِيَ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ عَنْ فَرْضِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهَا فَرْضًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَفْرُوضَةً لَمَا قَالَ: "عُمْرَتُكُمْ هَذِهِ لِلْأَبَدِ" وَفِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ لَيْسَ بِعُمْرَةٍ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى تَحَلَّلَ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ الْفُرُوضَ مَخْصُوصَةٌ بِأَوْقَاتٍ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِوُجُودِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، فَلَوْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ فَرْضًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِوَقْتٍ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مَخْصُوصَةً بِوَقْتٍ كَانَتْ مُطْلَقَةَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا مَتَى شَاءَ، فَأَشْبَهَتْ الصَّلَاةَ التَّطَوُّعَ وَالصَّوْمَ النَّفَلَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْحَجَّ النَّفَلَ مَخْصُوصٌ بِوَقْتٍ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَلْزَمُ; لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ مِنْ شَرْطِ الْفُرُوضِ الَّتِي تَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ كَوْنَهَا مَخْصُوصَةٌ بِأَوْقَاتٍ، وَمَا لَيْسَ مَخْصُوصًا بِوَقْتٍ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّوَافِلِ مَخْصُوصًا بِوَقْتٍ وَبَعْضُهَا مُطْلَقٌ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ; فَكُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ فَهُوَ نَافِلَةٌ وَمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِوَقْتٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: مِنْهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ نَفْلٌ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ، مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بُحْتُرَ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَاحْتَجَّ مَنْ رَآهَا وَاجِبَةً بِمَا رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ". وَبِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ" وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَذَكَرَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا ثُمَّ قَالَ: "وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ". وَيَقُولُ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ: وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ قَالَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ اجْمَعْهُمَا. وَبِحَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ؟ قَالَ: "اُحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ واعتمر".

فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ فَهُوَ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْخَطَإِ، يُقَالُ احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَعَوَّلَ عَلَى حِفْظِهِ وَكَانَ سَيِّئَ الْحِفْظِ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا أَحْسَنُ مِنْ إسْنَادِ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَلَوْ تَسَاوَيَا لَكِنَّ أَكْبَرَ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَتَعَارَضَا فَيَسْقُطَا جَمِيعًا وَيَبْقَى لَنَا حَدِيثُ طَلْحَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ الَّذِي رَوَيْتُهُ فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ بِمُعَارِضٍ لِحَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ فِي إيجَابِهَا; لِأَنَّ حَدِيثَ الْحَجَّاجِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ نَاقِلٌ عَنْهُ، وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا نَافٍ وَالْآخَرُ مُثْبِتٌ فَالْمُثْبِتُ مِنْهُمَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُوجِبٍ; لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَقْتَضِي حَظْرَ تَرْكِهِ وَنَفْيُهُ لَا حَظْرَ فِيهِ وَالْخَبَرُ الْحَاظِرُ أَوْلَى مِنْ الْمُبِيحِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَجِبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ لَهِيعَةَ فِي إيجَابِهَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَ وُجُوبَ الْحَجِّ; إذْ كَانَ وُجُوبُهَا كَوُجُوبِ الْحَجِّ وَمَنْ خُوطِبَ بِهِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ مَعَ مَا فِي سَنَدِهِ مِنْ الضَّعْفِ وَمُعَارَضَةِ غَيْرِهِ إيَّاهُ. وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ وَرَدَتَا عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوُجُوبِ مُتَأَخِّرًا فِي التَّارِيخِ عَنْ خَبَرِ نَفْيِهِ لَبَيَّنَهُ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ، وَلَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ إنَّهَا تَطَوُّعٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّهَا وَاجِبَةٌ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا مَعَ عِلْمِهِ بِتَارِيخِهِمَا فَيُطْلِقُ الرِّوَايَةَ تَارَةً بِالْإِيجَابِ وَتَارَةً بِضِدِّهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَارِيخٍ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَرَدَا مُتَعَارِضَيْنِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ خَبَرُ الْمُثَبِّتِ وَالنَّافِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاعْتِبَارِ إذَا وَرَدَتْ الرِّوَايَتَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ وَقَوْلُهُ فَاعْتَمِرُوا فَإِنَّهُ عَلَى النَّدْبِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي قَدَّمْنَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَذَكَرَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا ثُمَّ قَالَ: "وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ" فَإِنَّ النَّوَافِلَ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِسْلَامَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ خَصْلَةً مِنْهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ. وَأَمَّا قَوْلُ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ لِعُمَرَ: وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ وَسُكُوتُ عُمَرَ عَنْهُ وَتَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ هُمَا مَكْتُوبَانِ عَلَيَّ وَلَمْ يَقُلْ مَكْتُوبَتَانِ عَلَى النَّاسِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَذَرَهُمَا فَصَارَا مَكْتُوبَيْنِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ تَأْوِيلًا مِنْهُ لِلْآيَةِ، وَفِيهَا مَسَاغٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عُمَرُ لِاحْتِمَالِهَا لَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ النَّكِيرَ; إذْ كَانَ الِاجْتِهَادُ سَائِغًا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْحَجِّ عَنْ أَبِيهِ وَقَوْلُهُ: "حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ" فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِهَا لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْإِيجَابِ; إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ وَلَا أَنْ يَعْتَمِرَ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِإِيجَابِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] لِأَنَّهَا خَيْرٌ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي إيجَابَ جَمِيعِ الْخَيْرِ. وَهَذَا يَسْقُطُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُحْتَاجُ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ فِعْلَ الْعُمْرَةِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا خَيْرٌ لِأَنَّ مَنْ لَا يَرَاهَا وَاجِبَةً فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَفْعَلَهَا عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَلَوْ فَعَلَهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَيْرًا، كَمَنْ صَلَّى تَطَوُّعًا وَاعْتَقَدَ فِيهِ الْفَرْضَ. وَآخَرُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] لَفْظٌ مُجْمَلٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُهُ بِوُرُودِ اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَهَذِهِ كُلُّهَا فُرُوضٌ مُجْمَلَةٌ؟ وَمَتَى انْتَظَمَ اللَّفْظُ مَا هُوَ مُجْمَلٌ فَهُوَ مُجْمَلٌ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْخَيْرَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَفْظُ جِنْسٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِغْرَاقُهُ، فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَقَوْلِكَ: إنْ شَرِبْتُ الْمَاءَ وَتَزَوَّجْتُ النِّسَاءَ فَإِذَا فَعَلَ أَدْنَى مَا يُسَمَّى بِهِ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ اللَّفْظِ. وَأَيْضًا فَقَدْ عَلِمْنَا مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيعَابِ الْكُلِّ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: افْعَلُوا بَعْضَ الْخَيْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فِي لُزُومِ الْأَمْرِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِأَنَّا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا يُتَطَوَّعُ بِهِ إلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْفَرْضِ، فَلَوْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ تَطَوُّعًا لَكَانَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْفَرْضِ. فَيُقَالُ لَهُ: الْعُمْرَةُ إنَّمَا هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَلِذَلِكَ أَصْلٌ فِي الْفَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يُوجَدُ طَوَافٌ وَسَعْيٌ مُفْرَدًا فَرْضًا غَيْرَ الْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ تَابِعًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ يُتَطَوَّعُ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الْفَرْضِ مُفْرَدًا، فَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ يُتَطَوَّعُ بِهَا إذَا كَانَتْ طَوَافًا وَسَعْيًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي الْفَرْضِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَطَوُّعًا مَا جَازَ أَنْ يُعْمَلَ مَعَ عَمَلِ الْحَجِّ، كَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا فَرْضٌ وَالْأُخْرَى تَطَوُّعٌ وَيُجْمَعُ بَيْنَ عَمَلِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَرْضٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فَاسِدَةٌ يَبْطُلُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: لَمَّا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجُزْ بَيْنَ صَلَاتَيْ فَرْضٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ; وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُجْمَعُ بَيْنَ عَمَلِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَإِنَّ الْأَرْبَعَ كُلَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ كَالْحَجِّ الْوَاحِدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى سَائِرِ أَرْكَانِهِ كَالطَّوَافِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ وَقَرَنَ مَعَهَا عُمْرَةً كَانَتْ الْعُمْرَةُ تَطَوُّعًا وَالْحَجُّ فَرْضًا فَقَدْ صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَانْتَقَضَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِجَوَازِ جَمْعِهَا إلَى الْحَجِّ عَلَى وُجُوبِهَا. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لَهَا مِيقَاتٌ كَمِيقَاتِ الحج دل على أنها فرض.

فَيُقَالُ لَهُ: إذَا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْفَرِيضَةِ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ لِلْعُمْرَةِ كَانَ لَهَا مِيقَاتٌ كَمِيقَاتِ الْحَجِّ وَهِيَ تَطَوُّعٌ، فَشَرْطُ الْمِيقَاتِ لَيْسَ بِدَلَالَةٍ عَلَى الْوُجُوبِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ التَّطَوُّعُ لَهُ مِيقَاتٌ كَمِيقَاتِ الْوَاجِبِ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْهُ وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ ادَّعَى دَعْوَى عَارِيَّةً مِنْ الْبُرْهَانِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُنْتَقِضٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَرَنَ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ مَعَ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ لَكَانَ عَلَيْهِ دَمٌ، فَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا نَافِلَتَانِ لَوَجَبَ الدَّمُ. قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْإِحْصَارُ الْمَنْعُ بِالْمَرَضِ أَوْ ذَهَابُ النَّفَقَةِ، وَالْحَصْرُ حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَيُقَالُ: أَحَصَرَهُ الْمَرَضُ وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ. وَحُكِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَجَازَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَقَالَا: هُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَا يُقَالُ فِي الْمَرَضِ حَصَرَهُ وَلَا فِي الْعَدُوِّ أَحْصَرَهُ. قَالَا: وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِهِمْ حَبَسَهُ: إذَا جَعَلَهُ فِي الْحَبْسِ، وَأَحْبَسَهُ: أَيْ عَرَّضَهُ لِلْحَبْسِ، وَقَتَلَهُ: أَوْقَعَ بِهِ الْقَتْلَ، وَأَقْتَلَهُ: أَيْ عَرَّضَهُ لِلْقَتْلِ، وَقَبَرَهُ: دَفَنَهُ فِي الْقَبْرِ، وَأَقْبَرَهُ: عَرَّضَهُ لِلدَّفْنِ فِي الْقَبْرِ; وَكَذَلِكَ حَصَرَهُ: حَبَسَهُ وَأَوْقَعَ بِهِ الْحَصْرَ، وَأَحْصَرَهُ: عَرَّضَهُ لِلْحَصْرِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا حَصْرَ إلَّا حَصْرُ عَدُوٍّ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ اللَّهُ بِكَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَيْسَ بِحَصْرٍ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَصْرَ يَخْتَصُّ بِالْعَدُوِّ وَأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُسَمَّى حَصْرًا; وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الِاسْمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحِلَّ وَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا; وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ظَنَّ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ مَعْنَى الِاسْمِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ مَعْنَى الْحُكْمِ، فَأَعْلَمَ أَنَّ اسْمَ الْإِحْصَارِ يَخْتَصُّ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ يَخْتَصُّ بِالْعَدُوِّ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: "الْعَدُوُّ وَالْمَرَضُ سَوَاءٌ يَبْعَثُ بِدَمٍ وَيَحِلُّ بِهِ إذَا نَحَرَ فِي الْحَرَمِ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ. وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ الْمَرِيضَ لَا يَحِلُّ وَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا إلَّا بِالْعَدُوِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: إنَّ الْمَرَضَ وَالْعَدُوُّ سَوَاءٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالطَّوَافِ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمَا مُوَافِقًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ اسْمَ الْإِحْصَارِ يَخْتَصُّ بِالْمَرَضِ، وَقَالَ اللَّهُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ

مُسْتَعْمَلًا فِيمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَهُوَ الْمَرَضُ، وَيَكُونَ الْعَدُوُّ دَاخِلًا فِيهِ بِالْمَعْنَى. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَجَازَ فِيهِمَا لَفْظَ الْإِحْصَارِ. قِيلَ لَهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةٌ فِي إثْبَاتِهِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَى الْمَرَضِ، وَإِنَّمَا أَجَازَهُ فِي الْعَدُوِّ، فَلَوْ وَقَعَ الِاسْمُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لَكَانَ عُمُومًا فِيهِمَا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْمَرِيضِ وَالْمَحْصُورِ بِالْعَدُوِّ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِحْلَالِ مِنْ الْإِحْرَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ الْعَدُوُّ قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ هُوَ: الْعَدُوَّ، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْحَصْرِ وَهُوَ يَخْتَصُّ بِالْعَدُوِّ إلَى الْإِحْصَارِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْمَرَضِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إفَادَةَ الْحُكْمِ فِي الْمَرَضِ لِيُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ; وَلَمَّا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بِالْإِحْلَالِ وَحَلَّ هُوَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حَصْرَ الْعَدُوُّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَكَانَ نُزُولُ الْآيَةِ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَلَوْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى تَخْصِيصَ الْعَدُوِّ بِذَلِكَ دُونَ الْمَرَضِ لَذَكَرَ لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ; وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ اسْمًا لِلْمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ نُزُولَهُ عَلَى سَبَبٍ مُوجِبًا لِلِاقْتِصَارِ بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ اعْتِبَارَ عُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ السَّبَبِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حَجَّاجِ الصَّوَّافِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَا: صَدَقَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ "فَقَدْ حَلَّ" فَقَدْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، كَمَا يُقَالُ: حَلَّتْ الْمَرْأَةُ لِلزَّوْجِ، يَعْنِي جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى حَمَّادُ وَابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْصَرِ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ: فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصَاصِ مِنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ الْعَدُوَّ أَنَّ عَلَيْهِ حَجًّا مَكَانَ حَجٍّ وَإِحْرَامًا مَكَانَ إحْرَامٍ. فَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ عِكْرِمَةَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمَا كَانَ قَالَ: يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ وَلَقَالَ: يَحِلُّ كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ. وَهَذَا الْقَائِلُ إنَّمَا غَلَطَ حِينَ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: حَلَّ وُقُوعُ الْإِحْلَالِ بِنَفْسِ الْإِحْصَارِ; وَلَيْسَ هُوَ كَمَا ظَنَّ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ كَمَا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِيمَا يُطْلِقُهُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَلَّتْ الْمَرْأَةُ لِلْأَزْوَاجِ يُرِيدُونَ بِهِ: قَدْ جَازَ لَهَا أَنْ تَحِلَّ بِالتَّزْوِيجِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْمُحْصَرَ بِالْعَدُوِّ لَمَّا جَازَ لَهُ الْإِحْلَالُ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَى

الْبَيْتِ وَكَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْمَرَضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ وَفِي حُكْمِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَتَعَذَّرْ وُصُولُهُ إلَى الْبَيْتِ بِمَنْعِ الْعَدُوِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ تَعَذُّرُ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مُوَافَقَةُ مُخَالِفِينَا إيَّانَا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا مَنَعَهَا زَوْجُهَا مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، جَازَ لَهَا الْإِحْلَالُ وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ مَعَ عَدَمِ الْعَدُوِّ; وَكَذَلِكَ مَنْ حُبِسَ فِي دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ; فَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِي كَوْنِ الْمَنْعِ مِنْهَا بِالْعَدُوِّ أَوْ الْمَرَضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَائِفَ جَائِزٌ لَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ أَوْ قَاعِدًا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا قَائِمًا كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ؟ فَكَذَلِكَ الْمُضِيُّ فِي الْإِحْرَامِ وَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لِمَرَضٍ كَانَ ذَلِكَ أَوْ لِخَوْفِ عَدُوٍّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إذَا كَانَ خَائِفًا أَوْ مَرِيضًا، وَكَذَلِكَ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ كَانَ مَرِيضًا، وَمَنْ لَا يَجِدُ مَا يَحْتَمِلُ بِهِ لِلْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا; لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْإِعْذَارِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِي بَابِ سُقُوطِ فَرْضِ الْمُضِيِّ عَلَى الْإِحْرَامِ وَجَوَازِ الْإِحْلَالِ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ تَعَذُّرُ الْفِعْلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} دَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مُرَادٍ بِذِكْرِ الْإِحْصَارِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرًا مَعَ كَوْنِهِ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَهُ لَكَانَ يَحِلُّ بِذَلِكَ الدَّمِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجَ إلَى فِدْيَةٍ. قِيلَ لَهُ: لما قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مَنَعَهُ الْإِحْلَالَ مَعَ وُجُودِ الْإِحْصَارِ إلَى وَقْتِ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ وَهُوَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ، فَأَبَانَ عَنْ حُكْمِ الْمَرِيضِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحَّلَهُ، وَأَبَاحَ لَهُ حَلْقَ الرَّأْسِ مَعَ إيجَابِ الْفِدْيَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَرَضٍ يَمْنَعُ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: "أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَلَمْ تَكُنْ هَوَامُّ رَأْسِهِ مَانِعَتَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُ فِي الْحَلْقِ وَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَرَضَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ إحْصَارٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا جَعَلَ الْمَرَضَ إحْصَارًا إذَا مَنَعَ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ، فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ حُكْمَ الْمَرِيضِ بِمَا وَصَفَ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَرَضِ إحْصَارًا. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى أَوَّلِ الْخِطَابِ، كَمَا عَادَ إلَيْهِ حُكْمُ الْإِحْصَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثم عطف عليه قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فَبَيَّنَ حُكْمَهُمْ إذَا أُحْصِرُوا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} يَعْنِي: أَيْ الْمُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ

وَالْعُمْرَةِ; فَبَيَّنَ حُكْمَهُمْ إذَا مَرِضُوا قَبْلَ الْإِحْصَارِ كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُمْ عِنْدَ الْإِحْصَارِ; فَلَيْسَ إذًا في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ لَا يَكُونُ إحْصَارًا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْعَدُوُّ الْمَخُوفُ; لِأَنَّ الْأَمْنَ يَقْتَضِي الْخَوْفَ. قِيلَ لَهُ: مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْنَ مِنْ ضَرَرِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ؟ وَلِمَ جَعَلْتَهُ مَخْصُوصًا بِالْعَدُوِّ دُونَ الْمَرَضِ وَالْأَمْنُ وَالْخَوْفُ مَوْجُودَانِ فِيهِمَا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} يَعْنِي: إذَا أَمِنْتَ مِنْ كَسْرِكَ وَوَجَعِكَ فَعَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ الْبَيْتَ. فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ أَنَّ الْمُحْصَرَ بِعَدُوٍّ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ، وَالْمَرَضُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي التَّقَدُّمِ وَالرُّجُوعِ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا أَحْرَى أَنْ يَكُونَ مُحْصَرًا لِتَعَذُّرِ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَعْذَرُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِلْخَوْفِ. وَيُقَالُ أَيْضًا: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ وَلَا التَّقَدُّمُ أَلَيْسَ جَائِزًا لَهُ الْإِحْلَالُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ انْتَقَضَتْ عِلَّتُكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا; وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُحْرِمَةِ إذَا مَنَعَهَا زَوْجُهَا وَالْمَحْبُوسِ إنَّهُمَا مُحْصَرَانِ وَجَائِزٌ لَهُمَا الْإِحْلَالُ وَحَالُ التَّقَدُّمِ وَالرُّجُوعِ لَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا مَمْنُوعَانِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لِلْخَائِفِ فِي الْقِتَالِ أَنْ يَتَحَيَّزَ إلَى فِئَةٍ فَيَنْتَقِلَ بِذَلِكَ مِنْ الْخَوْفِ إلَى الْأَمْنِ. فَيُقَالُ لَهُ: وَكَذَلِكَ قَدْ أَبَاحَ لِلْمَرِيضِ تَرْكَ الْقِتَالِ رَأْسًا بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} فَكَانَتْ رُخْصَةُ الْمَرِيضِ أَوْسَعَ مِنْ رُخْصَةِ الْخَائِفِ لِأَنَّ الْخَائِفَ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي تَرْكِ حُضُورِ الْقِتَالِ وَالْمَرِيضُ مَعْذُورٌ فِيهِ. وَإِنَّمَا عُذِرَ الْخَائِفَ أَنْ يَتَحَيَّزَ إلَى فِئَةٍ وَلَمْ يُعْذَرْ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ رَأْسًا، فَالْمَرِيضُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ فِي الْإِحْلَالِ مِنْ إحْرَامِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا قَالَ الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثُمَّ قَالَ فِي شَأْنِ الْمُحْصَرِ الْخَائِفِ مَا قَالَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ فَرْضُ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا عَنْ الْخَائِفِ. فَيُقَالُ لَهُ: الذي قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} هو الذي قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي الْخَائِفِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْخَائِفِ دُونَ غَيْرِهِ؟ وَقَدْ نَقَضْتَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقِكَ لِلْمَرْأَةِ الْإِحْلَالِ إذَا مَنَعَهَا زَوْجُهَا وَلَيْسَتْ بِخَائِفَةٍ، وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوسُ لَا يَخَافُ الْقَتْلَ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: جَعَلَ الْإِحْلَالَ رُخْصَةً لِلْخَائِفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَا يُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا جَعَلَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَاصًّا لَا يُشَبَّهُ بِهِ الْقُفَّازَيْنِ. فَيُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ

رُخْصَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الرُّخَصِ، فَإِذَا رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ وَجَبَ أَنْ لَا يُشَبَّهَ بِهِ غَيْرُهُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْخِرَقِ وَالْخَشَبِ، وَلَمَّا كَانَ حَلْقُ الرَّأْسِ مِنْ أَذَى رُخْصَةً وَجَبَ أَنْ لَا يُشَبَّهَ بِهِ الْأَذَى فِي الْبَدَنِ فِي إبَاحَةِ الْحَلْقِ وَالْفِدْيَةِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُشَبَّهَ بِالْخَائِفِ الْمَحْبُوسُ وَالْمَرْأَةُ إذَا مَنَعَهَا زَوْجُهَا; وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا يَنْقُضُ اعْتِلَالَهُ. فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالْإِحْصَارُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ سَوَاءٌ; وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْإِحْصَارَ يَكُونُ مِنْ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ وَأَنَّهُ لَا يُخْشَى الْفَوَاتُ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِغَيْرِ طَوَافٍ ثُمَّ قَضَاهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَذَلِكَ حُكْمٌ عَائِدٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وقَوْله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: "لَا يَكُونُ الْهَدْيُ إلَّا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَاةٌ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: الْهَدْيُ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: وَالْبُدْنَ مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السِّنِّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي فِي الْهَدْيِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا إلَّا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ فَإِنَّهُ يُجْزِي. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِي مِنْ الْهَدْيِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يُهْدِي الذُّكُورَ مِنْ الْإِبِلِ، وَيَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَيُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الصَّدَقَةُ وَإِنْ لَمْ يُهْدَ إلَى الْبَيْتِ; قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً" فَسَمَّى الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ هَدْيًا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ إهْدَاءَهُ إلَى الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ وَإِخْرَاجَهَا مَخْرَجَ الْقُرْبَةِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِي ثَوْبِي هَذَا أَوْ دَارِي هَذِهِ" أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَيْسَ مِنْ الْهَدْيِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَاخْتَلَفُوا فِيمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا; وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي دُخُولَ الشَّاةِ فِيهِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهَا; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] أَنَّ الشَّاةَ مِنْهُ وَأَنَّهُ يَكُونُ هَدْيًا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى غَنَمًا مَرَّةً". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كَانَ فِيمَا أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمٌ مُقَلَّدَةٌ". فَإِنْ قِيلَ: الرِّوَايَةُ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَدْيِ الْغَنَمِ لَا يَصِحُّ; لِأَنَّ الْقَاسِمَ قَدْ رَوَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى الْغَنَمَ مِمَّا يُسْتَيْسَرُ مِنْ الْهَدْيِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِهَا وَأَنَّ هَدْيَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ إذَا أَرَادَهُ وَقَلَّدَهُمَا، وَأَمَّا اعْتِبَارُ الثَّنِيِّ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ حِينَ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَتِهَا، فَقَالَ: عِنْدِي جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَقَالَ: "تُجْزِي عَنْكَ وَلَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" فَمَنَعَ الْجَذَعَ فِي الْأُضْحِيَّةِ; وَالْهَدْيُ مِثْلُهَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَإِنَّمَا أَجَازُوا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النبي عليه السلام أَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُضَحَّى بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ إذَا فُرِضَ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحُ الْمُخْتَصَرُ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ فِي دَمِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "يَجُوزُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَا يُجْزِي فِي الْوَاجِبِ". وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه جَعَلَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَتِلْكَ كَانَتْ وَاجِبَةً لِأَنَّهَا كَانَتْ عَنْ إحْصَارٍ. وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهَا عَنْ سَبْعَةٍ فِي التَّطَوُّعِ كَانَ الْوَاجِبُ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْجَوَازِ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ بَعْضُ الْهَدْيِ بِحَقِّ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْمُحْصَرِ أَيْنَ يَذْبَحُ الْهَدْيَ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَحِلُّ مَا هُوَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: هُوَ الْحَرَمُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مَحِلُّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ فَيَذْبَحُهُ وَيَحِلُّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَحِلَّ اسْمٌ لِشَيْئَيْنِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَقْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَكَانُ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَحِلَّ الدَّيْنِ هُوَ وَقْتُهُ الَّذِي تَجِبُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: "اشْتَرِطِي فِي الْحَجِّ وقولي:

مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" فَجَعَلَ الْمَحِلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِلْمَكَانِ. فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ هَدْيُ الْإِحْصَارِ فِي الْعُمْرَةِ مُوَقَّتًا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُرَادٌ بِالْآيَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَكَانَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانًا غَيْرَ مَكَانِ الْإِحْصَارِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِحْصَارِ مَحِلًا لِلْهَدْيِ لَكَانَ بَالِغًا مَحِلَّهُ بِوُقُوعِ الْإِحْصَارِ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إلَى بُطْلَانِ الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحَلِّ هُوَ الْحَرَمُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجْعَلُ مَوْضِعَ الْإِحْصَارِ مَحَلًّا لِلْهَدْيِ فَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْمَحِلَّ الْحَرَمَ، وَمَنْ جَعَلَ مَحِلَّ الْهَدْيِ مَوْضِعَ الْإِحْصَارِ أَبْطَلَ فَائِدَةَ الْآيَةِ وَأَسْقَطَ مَعْنَاهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] إلَى قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وَدَلَالَتُهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي الْمَحِلِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُهُ فِي سَائِرِ الْهَدَايَا، وَالْآخَرُ: مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الْمَحِلِّ الَّذِي أُجْمِلَ ذِكْرُهُ في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمَحِلَّ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْمَحِلَّ غَيْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فَجَعَلَ بُلُوغَ الْكَعْبَةِ مِنْ صِفَاتِ الْهَدْيِ، فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ دُونَ وُجُودِهِ فِيهِ. كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الظِّهَارِ وَفِي الْقَتْلِ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] فَقَيَّدَهُمَا بِفِعْلِ التَّتَابُعِ، لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُمَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي سَائِرِ الْهَدَايَا الَّتِي تُذْبَحُ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرَمِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِحْصَارِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْصَرِ دَمًا وَنَهَاهُ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَذْبَحُ هَدْيَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَبْحُهُ فِي الْحِلِّ جَائِزًا لَذَبَحَ صَاحِبُ الْأَذَى هَدْيَهُ عَنْ الْإِحْصَارِ وَحَلَّ بِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ فِدْيَةِ الْأَذَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ لَيْسَ بِمَحِلِّ الْهَدْيِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِيمَنْ لَا يَجِدُ هَدْيَ الْإِحْصَارِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا فِيمَنْ لَا يَجِدُ الدَّمَ; لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَّا وَهُوَ وَاجِدٌ لَهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ مَا يَجِدُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجِدُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَحِلَّ الْهَدْيِ هُوَ الْحَرَمُ دُونَ مَحِلِّ الْإِحْصَارِ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، لَمَّا اتَّفَقُوا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَنَّ مَحِلَّهُ الْحَرَمُ وَأَنَّهُ لَا يُجْزِي فِي

غَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ دَمٍ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقُ وُجُوبِهِمَا بِالْإِحْرَامِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ نَحَرُوا هَدْيَهُمْ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ بَالِغًا مَحِلَّهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّ مَحِلَّهُ الْحَرَمُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِحْصَارِ هُوَ الْحِلُّ مَحَلًّا لِلْهَدْيِ لَمَا قَالَ: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَنْعِهِمْ الْهَدْيَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لَهُ; وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ دَلِيلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ذَبَحُوا الْهَدْيَ فِي الْحِلِّ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا حَصَلَ أَدْنَى مَنْعٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ مُنِعُوا، وَلَيْسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَبَدًا مَمْنُوعًا; أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ مَنَعَ رَجُلًا حُقَّةً جَازَ أَنْ يُقَالَ: مَنَعَهُ حَقَّهُ كَمَا يُقَالُ حَبَسَهُ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَبَدًا مَحْبُوسًا؟ فَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ مَنَعُوا الْهَدْيَ بَدِيَّا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَرَمِ جَاءَ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَنَعُوا الْهَدْيَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ وَإِنْ أَطْلَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ بِصَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَطْلَقُوا لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْوُصُولَ إلَيْهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف: 63] وَإِنَّمَا مُنِعُوهُ فِي وَقْتٍ وَأَطْلَقُوهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ؟ فَكَذَلِكَ مُنِعُوا الْهَدْيَ بَدِيَّا، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ أَطْلَقُوهُ حَتَّى ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ. وَقِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْبُدْنَ لِيَذْبَحَهَا بَعْدَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] لِقُصُورِهِ عَنْ الْوَقْتِ الْمَقْصُودِ فِيهِ ذَبْحُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَحِلَّ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ الذَّبْحُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ أَوْ بِمِنًى، فَلَمَّا مَنَعَ ذَلِكَ أَطْلَقَ مَا فِيهِ مَا وَصَفْتُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، وَأَنَّ مَضْرِبَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي الْحِلِّ وَمُصَلَّاهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَرَمِ فَلَا مَحَالَةَ قَدْ كَانَ الذَّبْحُ مُمْكِنًا فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ حَتَّى آخُذَ بِهِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَأَذْبَحَهَا بِمَكَّةَ، فَفَعَلَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعَثَ مَعَهُ بَعْضَهُ وَنَحَرَ هُوَ بَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ وَقْتِ ذَبْحِ هَدْيِ الْإِحْصَارِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ مِمَّنْ أَبَاحَ

الْإِحْلَالَ بِالْهَدْيِ أَنَّ ذَبْحَ هَدْيِ الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ وَأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ مَتَى شَاءَ وَيَحِلَّ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مُحْصَرِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْعُمْرَةِ، فَحَلُّوا مِنْهَا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ مَتَى شَاءَ وَيَحِلَّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَذْبَحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يَقْتَضِي جَوَازَهُ غَيْرَ مُوَقَّتٍ، وَفِي إثْبَاتِ التَّوْقِيتِ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَالْمَحِلُّ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَحِلَّ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَقْتِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ مُرَادٌ بِذِكْرِ الْمَحِلِّ; فَإِذَا بَلَغَ الْحَرَمَ وَذَبَحَ جَازَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ شَرْطُ الْوَقْتِ زِيَادَةً فِيهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ لِمَا تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا فَوَاجِبٌ أَنْ يُجْزِيَ بِأَيِّهِمَا وُجِدَ لِأَنَّهُ جَعَلَ بُلُوغَ الْمَحِلِّ غَايَةَ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ وُجِدَ بِذَبْحِهِ فِي الْحَرَمِ. وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وَكَانَ هَذَا الْمَحِلُّ هُوَ الْحَرَمَ، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحِلَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ الْحَرَمُ. وَمِمَّا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ، أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عَائِدٌ إلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِمَا فِي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ لِلْحَجِّ هُوَ الْمَذْكُورُ لِلْعُمْرَةِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّوْقِيتَ لِلْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ; إذْ قَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْإِطْلَاقُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَالْمُرَادُ بِمَحِلِّهِ لِلْعُمْرَةِ هُوَ الْحَرَمُ دُونَ الْوَقْتِ، فَصَارَ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ فِيهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ ذَبْحِهِ فِي الْحَرَمِ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ فِي الْعُمْرَةِ، فَكَذَلِكَ هُوَ لِلْحَجِّ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْإِطْلَاقُ قَدْ تَنَاوَلَ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِلْحَجِّ; لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ الْوَقْتُ وَفِي بَعْضِهِ الْمَكَانُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فِي بَعْضِهِمْ سَارِقِ الْعَشَرَةِ وَفِي بَعْضِهِمْ سَارِقِ رُبْعِ دِينَارٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الحجاج بن عمرو الأنصاري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" وَمَعْنَاهُ: فَقَدْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وَالْعَرَجِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: "اشْتَرِطِي وَقُولِي: إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" وَمَعْنَى ذَلِكَ إعْلَامُهَا أَنَّ ذَلِكَ مَحِلُّهَا، بِدَلَالَةِ الْأُصُولِ أَنَّ مُوجِبَ الْإِحْرَامِ لَا يَنْتَفِي بِالشَّرْطِ ثُمَّ لَمْ يُوَقِّتْ الْمَحِلَّ. وَيُحْتَجُّ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي تَحَلَّلَ بِهَا عِنْدَ الْفَوَاتِ لَا وَقْتَ لَهَا إذَا وَجَبَتْ، كَذَلِكَ هَذَا الدَّمُ لَمَّا وَجَبَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ; لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ إحْلَالٌ عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ كعمرة الفوات. قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} هُوَ نَهْيٌ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ جَمِيعًا; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قَدْ اقْتَضَى حَظْرَ حَلْقِ بَعْضِنَا رَأْسَ بَعْضٍ وَحَلْقِ كُلِّ وَاحِدٍ رَأْسَ نَفْسِهِ، لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ، وَمَتَى فَعَلَهُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ فِي الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ لِأَنَّهُ عُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ عَلَيْهِ حَلْقٌ وَهَدْيٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيُحْتَجُّ فِيمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا لِمُوَاقَعَتِهِ الْمَحْظُورَ فِي تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الْهَدْيِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَرِ هَلْ عَلَيْهِ حَلْقٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا حَلْقَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: يَحْلِقُ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْحَلْقِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْمَرْأَةِ تُحْرِمُ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُحْرِمُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، أَنَّ لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا بِغَيْرِ حَلْقٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ بِهِمَا أَدْنَى مَا يَحْظُرَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ طِيبٍ أَوْ لُبْسٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُحْصَرِ لِأَنَّ هَذَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ، وَقَدْ جَازَ لِمَنْ يَمْلِكُ إحْلَالَهُمَا أَنْ يَحْلِلْهُمَا بِغَيْرِ حَلْقٍ، وَلَوْ كَانَ الْحَلْقُ وَاجِبًا وَهُوَ مُمْكِنٌ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّلَ الْعَبْدَ بِالْحَلْقِ وَالْمَرْأَةَ بِالتَّقْصِيرِ. وَأَيْضًا فَالْحَلْقُ إنَّمَا ثَبَتَ نُسُكًا مُرَتَّبًا عَلَى قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ نُسُكًا إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ; إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَلْقَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِنُسُكٍ; وَيُقَاسُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ أَنَّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجَ لَمَّا جَازَ لَهُمَا إحْلَالُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ بِغَيْرِ حَلْقٍ وَلَا تَقْصِيرٍ إذَا لَمْ يَفْعَلَا سَائِرَ الْمَنَاسِكِ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْحَلْقُ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِسَائِرِ الْمُحْصَرِينَ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِ حَلْقِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ حِينَ أَمَرَهَا بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ اسْتِيعَابِ أَفْعَالِهَا: "اُنْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَدَعِي الْعُمْرَةَ وَاغْتَسِلِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْحَلْقِ وَلَا بِالتَّقْصِيرِ حِينَ لَمْ تَسْتَوْعِبْ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ الإحلال من

إحْرَامِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْلَالُ بِالْحَلْقِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ مُرَتَّبٌ عَلَى قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ كَتَرْتِيبِ سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ سَائِرُ الْمَنَاسِكِ سَقَطَ الْحَلْقُ. وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَلْقَ مُرَتَّبٌ عَلَى قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ سَائِرُ الْمَنَاسِكِ سَقَطَ الْحَلْقُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَلْقُ إذَا وَجَبَ فِي الْإِحْرَامِ كَانَ نُسُكًا، وَقَدْ سَقَطَ عَنْ الْمُحْصَرِ سَائِرُ الْمَنَاسِكِ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْحَلْقُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ سَائِرُ الْمَنَاسِكِ لِتَعَذُّرِ فِعْلُهَا، وَالْحَلْقُ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ لَوْ أَمْكَنَهُ الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْي الْجِمَارِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ وَلَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا يَلْزَمُهُ الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا رَمْيُ الْجِمَارِ مَعَ إمْكَانِهِمَا لِأَنَّهُمَا مُرَتَّبَانِ عَلَى مَنَاسِكَ تَتَقَدَّمُهُمَا. كَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْحَلْقُ مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ أُخَرَ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ قَبْلَهُمَا نُسُكًا فَقَدْ سَقَطَ بِمَا ذَكَرْنَا اعْتِرَاضُ السَّائِلِ لِوُجُودِنَا مَنَاسِكَ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا، وَلَمْ تَلْزَمْهُ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ مُحْصَرًا. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ لِأَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَجَعَلَ بُلُوغَهُ مَحَلَّهُ غَايَةً لِزَوَالِ الْحَظْرِ، وَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْغَايَةِ بِضِدِّ مَا قَبْلَهَا، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ فَإِذَا بَلَغَ فَاحْلِقُوا وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَلْقِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ هِيَ ضِدَّ الْحَظْرِ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ ضِدُّهُ، فَلَيْسَتْ فِي صَرْفِهِ إلَى أَحَدِ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ارْتِفَاعَ الْحَظْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِفِعْلِ ضِدِّهِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ زَوَالُ الْحَظْرِ بَقَاءَ الشَّيْءِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ; أَلَا تَرَى أَنَّ زَوَالَ حَظْرِ الْبَيْعِ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَزَوَالَ حَظْرِ الصَّيْدِ بِالْإِحْلَالِ لَمْ يَقْتَضِ إيجَابَ الْبَيْعِ وَلَا الِاصْطِيَادَ وَإِنَّمَا اقْتَضَى إبَاحَتُهُمَا؟ وَيُحْتَجُّ لِأَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ" ثَلَاثًا، وَدَعَا لِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْصَارِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ، وَإِذَا كَانَ نُسُكًا وَجَبَ فِعْلُهُ كَمَا يَجِبُ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ لِغَيْرِ الْمُحْصَرِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْحَلْقُ وَالْإِحْلَالُ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْلَالِ تَوَقَّفُوا رَجَاءَ أَنْ يُمْكِنَهُمْ الْوُصُولُ وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ الْقَوْلَ; ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَذَلِكَ حَلَقَ بَعْضٌ وَقَصَّرَ بَعْضٌ، فَدَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَارِعَتِهِمْ إلَى أَمْرِهِ، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا

وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً فَقَالَ: "إنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا" وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ، فَاسْتَحَقُّوا مِنْ الثَّوَابِ بِعِلْمِهِمْ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْآخَرُونَ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَمَا جَرَى الْأَمْرُ فَقَدْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَلْقِ وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَدُعَاؤُهُ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ، وَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ كَرِهُوا الْحَلْقَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِهِ، لَيْسَ بِنَافٍ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى كَوْنِهِ نُسُكًا. فَإِنَّهُ يُقَالُ: قَدْ رَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَا فِيهِ: فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحِلُّوا وَانْحَرُوا" وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْحَلْقَ. فَنَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَيْنِ، فَنَقُولُ: مَا حَلَّ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَلَالٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحِلُّوا" وَقَوْلُهُ: "احْلِقُوا" الْمَقْصِدُ بِهِ الْإِحْلَالُ لَا تَعْيِينُهُ بِالْحَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ لِإِحْلَالِهِمْ وَائْتِمَارِهِمْ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ لِجَدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي مُتَابَعَةِ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ بَعْد إحْلَالِهِ مِنْ الْحَجِّ بِالْهَدْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ فِي شَأْنِ الْمُحْصَرَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إذَا حَلَّ بِالْهَدْيِ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ عَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَسَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ الْعُدْوَانُ حَجَّةً بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةً بِعُمْرَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ حَجَّةً وَعُمْرَةً إذَا أَحَلَّ بِالدَّمِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ إنَّمَا هِيَ الَّتِي تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ لِأَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَمَّا حَصَلَ حَجُّهُ فَائِتًا كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ لِلْفَوَاتِ، وَالدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْإِحْصَارِ إنَّمَا هُوَ لِلْإِحْلَالِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْعُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ عُمْرَةٌ يَقُومُ مَقَامُهَا دَمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ عُمْرَةٌ لَمْ يَنُبْ عَنْهُ دَمٌ لَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَلَا فِي حَالِ الْإِمْكَانِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ يَجْعَلُ الْعُمْرَةَ فَرِيضَةً لَا يَجْعَلُ الدَّمَ نَائِبًا عَنْهَا بِحَالٍ; فَلَمَّا كَانَ الْفَوَاتُ قَدْ أَلْزَمَهُ عَمَلَ عُمْرَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ عَنْهَا دَمٌ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا هُوَ لِلْإِحْلَالِ فَحَسْبُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ العمرة التي

تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ فِعْلُهَا قَبْلَ الْفَوَاتِ لِعَدَمِ وَقْتِهَا وَسَبَبِهَا، وَدَمُ الْإِحْصَارِ يَجُوزُ ذَبْحُهُ وَالْإِحْلَالُ بِهِ قَبْلَ الْفَوَاتِ، بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ مُخَالِفِينَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الدَّمَ هُوَ لِلْإِحْلَالِ لَا عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْعُمْرَةِ. وَلَا يَسُوغُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَجْعَلَا دَمَ الْإِحْصَارِ قَائِمًا مَقَامَ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْفَوَاتِ; لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: "الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ عَلَيْهِ مَعَ عُمْرَةِ الْفَوَاتِ هَدْيٌ" فَهَدْيُ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْعُمْرَةِ كَمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تُجِيزُ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ، وَالْهَدْيُ نَفْسُهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمُتْعَةِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ، فَجَازَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الصَّوْمِ عَلَى وَقْتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِلْمُحْصِرِ سَبَبٌ لِلُزُومِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ سَبَبَهُ إنَّمَا هُوَ طُلُوعُ الْفَجْر يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُمْ الدَّمُ مَقَامَ الْعُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ. وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الدَّمَ غَيْرُ قَائِمٍ مَقَامَ الْعُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُعْتَمِرُ وَهُوَ لَا يَخْشَى الْفَوَاتَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُوَقَّتَةِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاتِ وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ مَا يُخْشَى فَوْتُهُ وَحُكْمُ مَا لَا يُخْشَى فَوْتُهُ فِي لُزُومِ الدَّمِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأنصاري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: "من كسر أو عرج فقد حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عُمْرَةً، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً مَعَهُ لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَ وُجُوبَ قَضَاءِ الْحَجِّ. قِيلَ لَهُ: وَلَمْ يَذْكُرْ دَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحِلَّ إلَّا بِدَمٍ; وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ وَوُجُوبِ قَضَاءِ مَا يَحِلُّ فِيهِ. وَقَدْ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَقِيبَ ذِكْرِ حُكْمِ الْمُحْصَرِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أَرَادَ بِهِ الْعُمْرَةَ الَّتِي تَجِبُ بِالْإِحْلَالِ مِنْ الْحَجِّ إذَا جَمَعَهَا إلَى الْحَجِّ الَّذِي أَحَلَّ مِنْهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْمُحْصَرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: الْحَبْسُ حَبْسُ الْعَدُوِّ، فَإِنْ حُبِسَ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ حَلَّ مَكَانَهْ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ حَلَّ بِهِ وَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَلَا عُمْرَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَةٍ رَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارِ قَالَ: قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ هَدْيٌ حَسَبَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا حَجَّ وَلَا عُمْرَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَطَاءٍ قُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ هَدْيٌ وَلَا قَضَاءٌ إحْصَارِهِ؟ قَالَ: لَا; وَأَنْكَرَهُ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ لَعَمْرِي مُنْكَرَةٌ خِلَافَ نَصَّ التَّنْزِيلِ وَمَا وَرَدَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَالْآخَرُ: فَلْيُهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ; فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابُ الْهَدْيِ عَلَى الْمُحْصَرِ مَتَى أَرَادَ الْإِحْلَالَ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ جَائِزٌ لَهُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِ هَدْيِ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ بِإِيجَابِهِ وَمَعَ نَقْلِ إحْصَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِالذَّبْحِ وَالْإِحْلَالِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُحْصَرِ إذَا لَمْ يَحِلَّ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ وَوَصَلَ إلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْعُمْرَةِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ فِعْلُ الْحَجِّ بِالْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى حَرَامًا حَتَّى يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ شَاءَ تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامَ الْأَوَّلَ حَجًّا بَعْدَ الْفَوَاتِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَوْلَا أَنَّ إحْرَامَهُ قَدْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْعَلُ بِهِ حَجًّا لَمَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى حِينَ أَمْكَنَهُ فِعْلُ الْحَجِّ بِهِ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إحْرَامَهُ قَدْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْعَلُ بِهِ حَجَّا. وَأَيْضًا فَإِنَّ فَسْخَ الْحَجِّ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَعَلِمْنَا حِينَ جَازَ لَهُ الْإِحْلَالُ أَنَّ مُوجِبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ عَمَلُ الْعُمْرَةِ لَا عَمَلُ الْحَجِّ; لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ عَمَلُ الْحَجِّ فَجَعَلَهُ عُمْرَةً بِالْإِحْلَالِ لَكَانَ فَاسِخًا لِحَجِّهِ مَعَ إمْكَانِ فِعْلِهِ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ فَأَرَادَ بِمُتْعَةِ الْحَجِّ فَسْخَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ أُحْصِرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ أَوْ بِعُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءَ كَانَ الْإِحْصَارُ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ إذَا حَلَّ مِنْهُمَا بِالْهَدْيِ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَلَا يَرَيَانِ الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ وَيَقُولَانِ: إنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَحَلَّ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ وَلَا الْعُمْرَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ بِالدُّخُولِ، وَلَمَّا وَجَبَ بِالدُّخُولِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلِ إتْمَامِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورِ لِأَنَّ مَا قَدْ وَجَبَ لَا يُسْقِطُهُ الْعُذْرُ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ بِالْإِحْصَارِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّطَوُّعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ من

تَرَكَ مُوجِبَاتِ الْإِحْرَامِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ فِي تَرْكِ لُزُومِ حُكْمِهِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَذَرَ حَالِقَ رَأْسِهِ مِنْ أَذَى وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ إيجَابِ فِدْيَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي إحْرَامِ فَرِيضَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ; فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِحَجَّةٍ فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءَ، وَوَاجِبٌ أَيْضًا أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ إفْسَادِهِ إيَّاهُ بِالْجِمَاعِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ بِإِحْصَارِ، كَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ إيجَابِ كَفَّارَةٍ فِي الْجِنَايَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْإِحْرَامِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُحْصَرِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ أَنَّ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءَ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْفَوَاتِ، كَمَا يَلْزَمُهُ لَوْ قَصَدَ إلَى الْفَوَاتِ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ. وَالْمَعْنَى فِي اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالدُّخُولِ وَهُوَ مَوْجُودُ فِي الْمُحْصَرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قِصَّةُ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ وَهِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَتْ مُحْرِمَةً بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ" ثُمَّ لَمَّا فَرَغَتْ مِنْ الْحَجِّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، وَقَالَ: "هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ" فَأَمَرَهَا بِقَضَاءِ مَا رَفَضَتْهُ مِنْ الْعُمْرَةِ لِلْعُذْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْذُورَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُحْصِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْعُمْرَةِ وَقَضَوْهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَزِمَتْ بِالدُّخُولِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ لَمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَلَكَانَتْ تَكُونُ حِينَئِذٍ عُمْرَةً مُبْتَدَأَةً، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ بِالْإِحْلَالِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

بَابُ الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ هَدْيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ هَدْيًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَحِلُّ حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا فَيَذْبَحَ عَنْهُ وَقَالَ عَطَاءٌ يَصُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَيَحِلُ كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَبَدًا إلَّا بِهَدْيٍ، وَالْآخَرُ: إذَا لَمْ يَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ حَلَّ وَأَهْرَاقَ دَمًا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ الطَّعَامُ أَوْ صِيَامٌ إنْ لَمْ يَجِدْ وَلَمْ يَقْدِرْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ هَدْيِ أَوْ صِيَامٍ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَالْمَنْصُوصَاتُ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ فَلَمَّا كَانَ الدَّمُ مَذْكُورًا لِلْمُحْصَرِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ شَيْءٍ غَيْرَهُ قِيَاسًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَمُ جِنَايَةٍ عَلَى وَجْهِ الْكَفَّارَةِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ إثْبَاتُ الْكَفَّارَةِ قِيَاسًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ تَرْكَ المنصوص عليه

بعينه لأنه قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَمَنْ أَبَاحَ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحَلَّهُ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ إحْصَارُ أَهْلُ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ إنَّمَا إحْصَارُهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا أَمْكَنَهُمْ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَالْعُمْرَةُ إنَّمَا هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْخُرُوجَ إلَى عَرَفَاتٍ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، فَإِذَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُعْتَمِرِ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْمُحْرِمُ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مرض قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا مِنْ الْمُحْرِمِينَ مُحْصَرِينَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَرِينَ فَأَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَرٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ هَدْيَهُ مَحَلَّهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُحْصَرِينَ وَغَيْرِ الْمُحْصَرِينَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} عَنَى الْمَرَضَ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى لُبْسٍ أَوْ شَيْءٍ يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْأَذَى وَيَفْتَدِي. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} إنَّمَا هُوَ عَلَى أَذًى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضَ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَلْقٍ أَوْ تَغْطِيَةٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى فِي رَأْسِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَلْقٍ وَلَا إلَى اسْتِعْمَال بَعْضِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحَ فِي حَظْرِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ مُتَظَاهِرَةٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةٍ وَالْقَمْلُ تَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: "أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ. فَكَانَ كَثْرَةُ الْقَمْلِ مِنْ الْأَذَى الْمُرَادُ بِالْآيَةِ وَلَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحُ فِي رَأْسِهِ أَوْ خُرَّاجٌ فَاحْتَاجَ إلَى شَدِّهِ أَوْ تَغْطِيَتِهِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُهُ وَيَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ ذَلِكَ وَيَفْتَدِيَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} مَعْنَاهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ. قِيلَ لَهُ: الْحَلْقُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَإِنْ كَانَ مُرَادًا، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَهُوَ مُرَادٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اسْتِبَاحَةُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ لِلْعُذْرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وَكَانَ بِهِ أَذًى فِي بَدَنِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَلْقِ الشَّعْرِ كَانَ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ; إذْ كَانَ الْمَعْنَى مَعْقُولًا فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ; وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَصِيَامِ الْمُتْعَةِ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي مِقْدَارِهَا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ، فَمِنْهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن سهل بن أيوب قال: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلً أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا فَقَمِلَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَالَ: "هَلْ تَجِدُ نُسُكًا؟ " قَالَ: مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَرَوَاهُ صَالِحٌ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَقَالَ فِيهِ: "تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "اُنْسُكْ نَسِيكَةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ". فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَفِي خَبَرٍ سِتَّةُ آصُعٍ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً. ثُمَّ قَوْلُهُ: "ثَلَاثَةُ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ" يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحِنْطَةَ; لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُهُ وَالْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ مِنْهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّمْرِ سِتَّةُ آصُعٍ وَمِنْ الْحِنْطَةِ ثَلَاثَةُ آصُعٍ عَدَدُ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ سِتَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّ فِي أَخْبَارِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَنْسُكَ نَسِيكَةً، وَفِي بَعْضِهَا شَاةٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَدْنَاهُ شَاةً وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُخَيَّرُ بَيْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ يَبْتَدِئُ بِأَيِّهَا شَاءَ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ هَذَا حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْضِعِ الْفِدْيَةِ مِنْ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمَوْضِعٍ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ فِي أَيِّ مَوْضِعِ شَاءَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: الدَّمُ بِمَكَّةَ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ بْنُ أَنَسِ: الدَّمُ وَالصَّدَقَةُ وَالصِّيَامُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الصَّدَقَةُ وَالدَّمُ بِمَكَّةَ وَالصِّيَامُ حَيْثُ شَاءَ. فَظَاهِرُ قَوْلِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} يَقْتَضِي إطْلَاقُهَا حَيْثُ شَاءَ الْمُفْتَدِي غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمَوْضِعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْآي دَلَالَةٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج: 33] يَعْنِي الْأَنْعَامَ الَّتِي قَدَّمَ ذِكْرَهَا، ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَنْعَامَ الَّتِي تُهْدَى إلَى الْبَيْتِ; فَوَجَبَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلِّ هَدْيٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ لَا يُجْزِي فِي غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: قَوْله تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، فَصَارَ بُلُوغُ الْكَعْبَةِ صِفَةً لِلْهَدْيِ وَلَا يُجْزِئُ دُونَهَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ ذَبْحًا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْحَرَمِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَهَدْي الْمُتْعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: "أَوْ اذْبَحْ شَاةً" وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ مَكَانَا، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَوْضِعٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَبَعْضُهَا مِنْ الْحِلِّ وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَرْكَ ذِكْرَ الْمَكَانِ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمِينَ بِحُكْمِ تَعَلَّقَ الْهَدَايَا بِالْحَرَمِ لَمَّا كَانُوا يَرَوْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُ الْبُدْنَ إلَى الْحَرَمِ لِيَنْحَرَهَا هُنَاكَ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ ذَلِكَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ الْمَكَانِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا تَقْيِيدُهُ بِالْحَرَمِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ صَدَقَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ صَدَقَةً لَمْ تَجُزْ أَنْ تَكَوُّنَ مَخْصُوصَةً بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ خَارِجٌ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّ لِلْمَسَاكِينِ بِالْحَرَمِ فِيهَا حَقًّا كَالذَّبَائِحِ. قِيلَ لَهُ: الذَّبْحُ لَمْ يَتَعَلَّقْ جَوَازُهُ بِالْحَرَمِ لِأَجْلِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَهُمْ لَكَانَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍ لَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ قَدْ لَزِمَهُ إخْرَاجُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ تَكُنِ الْقُرْبَةُ فِيهَا إرَاقَةَ الدَّمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ كالصيام.

وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ وَمَا كَانَ أَوْ صَدَقَةٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اجْعَلْ الْفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْتَ. وَقَالَ طَاوُسٌ: النُّسُكُ وَالصَّدَقَةُ بِمَكَّةَ وَالصِّيَامُ حَيْثُ شِئْتَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا نَحَرَ عَنْ الْحُسَيْنِ بَعِيرًا، وَكَانَ قَدْ مَرِضَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَأُمِرَ بِحَلْقِهِ، وَنَحَرَ الْبَعِيرَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا وَقَسَمَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَاء. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى جَوَازَ الذَّبْحِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ اللَّحْمَ صَدَقَةً، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّمَتُّعِ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِحْلَالُ وَالتَّمَتُّعِ إلَى النِّسَاءِ، وَالْآخَرُ: جَمْعُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; وَمَعْنَاهُ الِارْتِفَاقُ بِهِمَا وَتَرْكُ إنْشَاءِ سَفَرَيْنِ لَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتُنْكِرُهَا أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَانَ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ; وَلِذَلِكَ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحُلُّوا بِعُمْرَةٍ عَلَى عَادَتِهِمْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إذَا بَرِئَ الدُّبُرُ وَعَفَا الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ رَابِعِهِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَحِلُّوا، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: "الْحِلُّ كُلُّهُ". فَمُتْعَةُ الْحَجِّ تَنْتَظِمْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا اسْتِبَاحَةُ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ بِالْإِحْلَالِ، وَإِمَّا الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى سَفَرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا لَا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُفْرِدُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَفَرًا. وَيُحْتَمَلُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا بِجَمْعِهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِمَا إذَا فُعِلَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ نَفْعٍ وَفَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِفَاعِلِهِمَا. وَالْمُتْعَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْقَارِنُ، وَالْمُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمُحْصِرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى لَهُ الْإِحْلَالَ وَلَكِنَّهُ يَمْكُثُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَيَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ فَوْتِ الْحَجِّ، وَفَسْخِ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ

الْهَدْيِ} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يَعْنِي الْحَاجِّ إذَا أُحْصِرَ فَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِهَدْيٍ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، فَإِنْ هُوَ تَمَتَّعَ بِهِمَا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ لِلتَّمَتُّعِ، وَإِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَوْ هَدْيَانِ وَسَفَرٌ يَعْنِي بِقَوْلِهِ سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَنَّ هَذَا الْمُحْصَرَ إنْ اعْتَمَرَ بَعْدَ إحْلَالٍ مِنْ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ وَهُوَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهُمَا فِي سَفَرَيْنِ; أَوْ هَدَيَانِ وَسَفَرٍ، يَعْنِي إذَا لَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ لِلتَّمَتُّعِ، وَالْهَدْيُ الْأَوَّلُ لِلْإِحْصَارِ، فَذَلِكَ هَدْيَانِ وَسَفَرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ بِجَمِيعِ الْآيَةِ الْمُحْصَرُ وَالْمُخَلَّى سَبِيلُهُ، يَعْنِي قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} قَالَ عَطَاءٌ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُتْعَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ تُسَمَّ مُتْعَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يَتَمَتَّعَ إلَى النِّسَاءِ. فَكَأَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ انْتَظَمَتْ الْأَمْرَيْنِ: مِنْ الْمُحْصَرِينَ إذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ الَّتِي لَزِمَتْ بِالْفَوَاتِ، وَمِنْ غَيْرِ الْمُحْصَرِينَ مِمَّنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ; فَكَانَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُحْصَرِينَ فَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُرَادَيْنِ بِهِ فَيُفِيدُ إيجَابَ عُمْرَةٍ بِالْفَوَاتِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ إذَا جَمَعَهُمَا مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَائِتِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ فَعَلَهُمَا فِي سَفَرَيْنِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُحْصَرِينَ وَغَيْرِهِمْ; وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ فِي الْمُحْصَرِينَ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِينَ فِي جَوَازِ التَّمَتُّعِ لَهُمْ وَبَيَانُ حُكْمِهِمْ إذَا تَمَتَّعُوا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْآيَةُ فِي فَحْوَاهَا خَاصَّةٌ فِي الْمُحْصَرِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الْمُحْصَرِينَ إذَا تَمَتَّعُوا كَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ. وَالْقَارِنُ وَاَلَّذِي يَعْتَمِرُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مُتَمَتِّعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَالْآخَرُ: حُصُولُ فَضِيلَةِ الْجَمْعِ; فَيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَفَرٍ أَوْ تَفْرِيقُهُمَا بِأَنْ يَفْعَلَ الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمُتْعَةِ رِوَايَاتٌ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي الِاخْتِلَافُ فِي إبَاحَتِهَا، وَإِذَا حَصَلَتْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ لَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ; فَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَبُو ذَرٍّ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ مالك بن

أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ مُحَمَّد بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ وَهُمَا يَتَذَاكَرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ سَعْدُ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي فَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ نَهَى عَنْهُ. قَالَ سَعْدٌ: صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِي قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُرَيَّ بْنَ كُلَيْبٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَقُلْتُ: إنَّ بَيْنَكُمَا لَشَرًّا أَنْتَ تَأْمُرُ بِهَا وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنْهَا فَقَالَ: مَا بَيْنَنَا إلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنْ خَيْرَنَا أَتْبَعُنَا لِهَذَا الدِّينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ لِمَعَانٍ أَحَدُهَا: الْفَضِيلَةُ لِيَكُونَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِهِ الْمَعْلُومَةِ لَهُ وَيَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشُّهُورِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَبَّ عِمَارَةَ الْبَيْتِ وَأَنْ يَكْثُرَ زُوَّارُهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشُّهُورِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَأَى إدْخَالَ الرِّفْقِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ بِدُخُولِ النَّاسِ إلَيْهِمْ فَقَدْ جَاءَتْ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَخْبَارٌ مُفَسَّرَةٌ عَنْهُ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَنْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَأَخْلِصُوا أَشْهُرَ الْحَجِّ لِلْحَجِّ وَاعْتَمِرُوا فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الشُّهُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ تَتِمَّ عُمْرَتُهُ إلَّا بِهَدْيٍ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَدْيٍ غَيْرِ وَاجِبِ. فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِجِهَةِ اخْتِيَارِهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إنَّمَا كَرِهَ عُمَرَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إرَادَةَ أَنْ لَا يَتَعَطَّلَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَجْهًا آخَرَ لِاخْتِيَارِهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ قَالَ: إنَّمَا نَهَى عُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ لِمَكَانِ أَهْلِ الْبَلَدِ لِيَكُونَ مَوْسِمَانِ فِي عَامٍ فَيُصِيبَهُمْ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا. فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ اخْتَارَهُ لِمَنْفَعَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ اخْتِيَارُ الْمُتْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يقول: "لو

اعْتَمَرْتُ ثُمَّ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ اعْتَمَرْتُ ثُمَّ حَجَجْتُ لَتَمَتَّعْتُ فَفِي هَذَا الْخَبَرِ اخْتِيَارُهُ لِلْمُتْعَةِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْمُتْعَةِ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اخْتِيَارِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَارَةً وَلِعِمَارَةِ الْبَيْتِ أُخْرَى. وَبَيْنَ الْفُقَهَاءِ خِلَافٌ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ الْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْقِرَانُ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْإِفْرَادُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ وَالْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعِ حَسَنَانِ. وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَأَنْ أَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي شَهْرٍ يَجِبُ عَلَيَّ فِيهِ الْهَدْيُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي شَهْرٍ لَا عَلَيَّ فِيهِ الْهَدْيُ. وَقَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ امْرَأَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَجْمَعَ مَعَ حَجِّهَا عُمْرَةً، فَقَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} مَا أَرَاهَا إلَّا أَشْهُرَ الْحَجِّ. وَلَا دَلَالَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْإِفْرَادَ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبَيَانَ عَنْ الْأَشْهُرِ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا التَّمَتُّعِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: تَمَامُ الْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ حَيْثُ ابْتَدَأْتَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إلَى الْحَجِّ لَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ نَاوِيًا الْعُمْرَةَ خَالِصَةً لَا يَخْلِطُهَا بِالْحَجِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ: تَمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَنَصَّ عَلَى الْإِحْرَامِ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَنَّ، لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا قَضَتْ بِحَظْرِ مُجَاوَرَتِهَا إلَّا مُحْرِمًا لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ، فَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْنَا عُمَّارًا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: أَحَلَقْتُمْ الشُّعْثَ وَقَضَيْتُمْ التَّفَثَ أَمَا إنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ مُدَرِكُمْ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى مَا تَأَوَّلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو ذَرٍّ أَنَّ الْأَفْضَلَ إنْشَاءُ الْعُمْرَةِ مِنْ أَهْلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ تَمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، فَأَرَادَ الْجِهَادَ، فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِالْحَجِّ; فَأَتَى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، فَفَعَلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبِّي بِهِمَا; إذْ مَرَّ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ فَسَمِعَهُمَا صُبَيٌّ فَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الخطاب

ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ شَيْئًا هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنْبَأَنِي أَبُو طَلْحَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ". قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرَّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يَقُولُ: قَالَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِتَحْرِيمِهِ". قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ"; قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتَ ابْنَ عُمَرَ بِذَلِكَ قَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ; قَالَ بَكْرٌ: فَلَقِيتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا يَعُدُّونَا إلَّا صِبْيَانَنَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ" وَسَمِعَهُ أَنَسٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ يَقُولُ: "لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ" وَكَانَ قَارِنًا، وَجَائِزٌ لِلْقَارِنِ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَتَارَةً. لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ، وَأُخْرَى: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ; فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَفْيٌ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ أَحَدُهَا مَعَ حَجَّةٍ الْوَدَاعِ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ حَجَّةً وَعُمْرَةً". وَرُوِيَ "عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ". وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوا حَجَّهُمْ عُمْرَةً، وَقَالَ: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً". وَقَالَ لِعَلِيٍّ: "بِمَاذَا أَهْلَلْتَ؟ " قَالَ: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَا أُحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ". فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَدْيُهُ هَدْيَ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ لَمَا مَنَعَهُ الْإِحْلَالَ لِأَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ لَا وَقْتَ لَهُ يَجُوزُ ذَبْحُهُ مَتَى شَاءَ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَدْيَهُ كَانَ هَدْيَ قِرَانٍ، وَلِذَلِكَ مَنَعَهُ الْإِحْلَالُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمَ النَّحْرِ. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُوجِبُ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا، وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا غَيْرَ مُعَارِضٍ لَهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وَزْنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقِرَانِ فِي الِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّيُوعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْإِفْرَادِ أَكْثَرُ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ" وَذَلِكَ لَا يَنْفِي كَوْنُهُ قَارِنًا; لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلْقَارِنِ أَنْ يَذْكُرَ الْحَجَّ وَحْدَهُ تَارَةً وَتَارَةً الْعُمْرَةَ وَحْدَهَا وَأُخْرَى يَذْكُرُهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ وَالِاحْتِمَالِ

لَكَانَ خَبَرَ الزَّائِدِ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَأَوْلَى الْأُمُورِ وَأَفْضَلُهَا الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَعَلَهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ لَهُمْ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَمِنْ الْإِفْرَادِ. وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ نُسُكٍ وَهُوَ الدَّمُ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ عِنْدَنَا دَمُ نُسُكٍ وَقُرْبَةٍ يُؤْكَلُ مِنْهُ كَالْأُضْحِيَّةِ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الدِّمَاءِ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَفْعَالُ إلَّا دَمَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّمَتُّعَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْحَجِّ لِلنَّفْعِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلِارْتِفَاقِ بِالْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ سَفَرٍ آخَرَ، وَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِالْآيَةِ، فَيَنْتَظِمُ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْجَمْعِ، وَالثَّانِي: الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ سَفَرٍ ثَانٍ. وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ مَخْصُوصٌ بِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَامَ، لِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَمَنْ كَانَ وَطَنُهُ الْمَوَاقِيتَ فَمَا دُونَهَا إلَى مَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فَإِنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمِ مُتْعَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ دَمُ جِنَايَةٍ; إذْ لَا مُتْعَةَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا التَّمَتُّعُ رُخْصَةٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا مَعْنَى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الْحَرَامِ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ إذَا تَمَتَّعُوا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِلَا هَدْيٍ. فَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ خِلَافَ مَا قَالُوهُ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَالْمُرَادُ الْمُتْعَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهَدْيَ لَقَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; لِأَنَّ اللَّامَ قَدْ تُقَامُ مُقَامُ عَلَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] وَمَعْنَاهُ: وَعَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصَرْفُهُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ مَعْنًى هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ حَقِيقَةً فَـ"عَلَى" حَقِيقَتُهَا خِلَافُ حَقِيقَةِ "اللَّامِ" فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهَا عَلَيْهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّمَتُّعَ لِأَهْلِ سَائِرِ

الْآفَاقِ إنَّمَا هُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِزَالَةُ الْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ فِي إنْشَاءِ سَفَرٍ لَكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَبَاحَ لَهُمْ الِاقْتِصَارَ عَلَى سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي جَمْعِهِمَا جَمِيعًا; إذْ لَوْ مُنِعُوا عَنْ ذَلِكَ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى مَشَقَّةٍ وَضَرَرٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ وَلَا ضَرَرَ فِي فِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اسْمَ التَّمَتُّعِ يَقْتَضِي الِارْتِفَاقَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَإِسْقَاطَ تَجْدِيدِ سَفَرٍ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ تَأْوِيلِهِ عَمَّنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ، وَهُوَ مُشْبِهٌ لِمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَإِنْ رَكِبَ لَزِمَهُ دَمٌ لِارْتِفَاقِهِ بِالرُّكُوبِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الدَّمَ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ وَدَمَ الْمُتْعَةِ يُؤْكَلُ مِنْهُ; فَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَمْنَعُ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ مُتْعَةٌ فَإِنْ فَعَلُوا وَحَجُّوا فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى النَّاسِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْهَدْيَ وَيَكُونُ هَدْيَ جِنَايَةٍ لَا نُسُكًا. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ السَّلَفُ مِنْهُمْ وَالْخَلْفُ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِأَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَهْرِ الْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا وَحَجَّ فِي عَامٍ قَابِلٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَعَادَ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ رَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ مَكَّةَ بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مُتْعَةً وَجَعَلَهَا لِسَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ إلْمَامَهُمْ بِأَهَالِيِهِمْ بَعْدَ الْعُمْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِحْلَالِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي مَنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ إلْمَامٌ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الدَّمَ بَدَلًا مِنْ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا فَعَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنِ الدَّمُ قَائِمًا مُقَامَ شَيْءٍ، فَلَا يَجِبُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلْمَامٌ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فَهْوَ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ لِأَنَّ مِيقَاتَهُ الْآنَ فِي الْحَجِّ مِيقَاتُ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ قَدْ صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَوْدِهِ إلَى أَهْلِهِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ يُنْشِئُ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ وَيَدْخُلُ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ أَوْ قَبْلَهُ، فَرَوَى قَتَادَةَ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ قَالَ: "عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ

وَالْحَكَمُ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُحِلُّ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْحَرَمَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، قَالَا: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُعْتَبَرُ الطَّوَافُ، فَإِنْ فَعَلَ أَكْثَرَ الطَّوَافِ فِي رَمَضَانَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ، وَإِنْ فَعَلَ أَكْثَرَهُ فِي شَوَّالٍ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ فِعْلَ الْأَكْثَرِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ فِي بَابِ امْتِنَاعِ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَمَّتْ عُمْرَتُهُ فِي رَمَضَانَ فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَبَقَاءُ الْإِحْرَامِ لَا حُكْمَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ حَلَّ مِنْهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؟ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَمْ تَتِمَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ اجْتِمَاعِ إحْرَامَيْهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَنَ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا بِاجْتِمَاعِ الْإِحْرَامَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِبَارُ فِعْلِ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ لَا مَعْنَى لَهُ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْإِحْرَامِ دُونَ أَفْعَالِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

بَابُ ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ عَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ: مِنْ دُونِ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُونَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَنَافِعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُمْ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ لَيْلَتَيْنِ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ، وَمَا كَانَ وَرَاءَهُ فَعَلَيْهِمْ الْمُتْعَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهَا إلَى مَكَّةَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَمَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ فَلَهُ الرُّجُوعُ وَدُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْمِيقَاتِ فَمَا دُونَهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِمْ فِي مَكَّةَ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ أَهْلُهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] وَلَيْسَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهُمْ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا حِينَ فُتِحَتْ، فَإِنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ وَبَنُو الدِّئْلِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خَارِجَ مَكَّةَ فِي الْحَرَمِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أَهْلُ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا

مَسِيرَةُ عَشْرِ لَيَالٍ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُمْ فِي حُكْمِهِمْ فِي بَابِ جَوَازِ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَفِي بَابِ أَنَّهُمْ مَتَى أَرَادُوا الْإِحْرَامَ أَحْرَمُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ إذَا أَرَادُوا الْإِحْرَامِ أَحْرَمُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ; فَيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ; وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَأْنِ الْبُدْنِ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مِنًى مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ مَنْحَرٌ". فَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ الْبَيْتِ مَا قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وَهِيَ مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا. فَهَاتَانِ الْمُتْعَتَانِ قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُمَا، وَهُمَا الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ. وَأَمَّا الْمُتْعَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّهَا عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ يُحْصَرَ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ بِمَرَضٍ أَوْ أَمْرٍ يَحْبِسُهُ فَيَقْدُمُ فَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَيَتَمَتَّعُ بِحَجَّةٍ إلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَيَحُجُّ، فَهَذَا الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ; فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يُحِلُّ وَلَكِنَّهُ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَذْبَحَ عَنْهُ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمَ يَحْلِقُ، وَيَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَقْدُمَ مَكَّةَ فَيَتَحَلَّلُ مِنْ حَجِّهِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ثم قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِيمَا أَبَاحَ مِنْ الْإِحْلَالِ بِالْحَلْقِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الْحَلْقَ لِلْإِحْلَالِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ; وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ حَلَقَ هُوَ وَحَلَّ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ عَمَلَ الْعُمْرَةِ الَّذِي يَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ لَيْسَ بِعُمْرَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلُ عُمْرَةٍ مَفْعُولٌ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وَلَيْسَ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ بِالْمُعْتَمِرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَهُوَ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ لِيَصِلَ بِهِ إلَى الْحَلْقِ يَوْمَ النَّحْرِ، سَوَاءٌ حَجَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَحُجَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُجَّ إلَّا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ لَكَانَ الْهَدْيُ قَائِمًا؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ; لِأَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْهَدْيُ فِيهِ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَالدَّمُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْإِحْصَارِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِوُجُودِ الْحَجِّ بَعْدَ الْعُمْرَةِ. وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ هِيَ الْإِحْلَالُ إلَى النِّسَاءِ، إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَمَّا الْمُتْعَةُ الرَّابِعَةُ فَهِيَ فَسْخُ الْحَاجِّ إذَا طَافَ لَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ; وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ بِذَلِكَ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ إلَّا أَحَلَّ" قَالَ: قُلْتُ: إنَّمَا هَذَا بَعْدَ الْمُعَرَّفِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَاهُ قَبْلُ وَبَعْدُ، قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ كَانَ يَأْخُذُ هَذَا؟

فَقَالَ: مِنْ أَمْرِ رَسُولٍ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحُلُّوا، وَمِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا حجاج عن شعبة عن قتادة قال: سمعت أَبَا حَسَّانَ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: قَالَ رَجْلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هَذِهِ الْفُتْيَا الَّتِي قَدْ شَعَّبْتَ النَّاسَ يَعْنِي: فَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ فِي الْفُتْيَا أَنَّهُ مَنْ طَافَ فَقَدْ حَلَّ؟ فَقَالَ: "سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ رُغِمْتُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِفَسْخِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْهُمْ هَدْيٌ وَلَمْ يُحِلَّ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: "إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَا أُحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ". ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَأَحْرَمُوا بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ إلَى مِنًى; وَهِيَ إحْدَى الْمُتْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ عَلَيْهِمَا مُتْعَةُ الْحَجِّ، وَمُتْعَةُ النِّسَاءِ. وَقَالَ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى فِي قِصَةِ نَهْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ هَذِهِ الْمُتْعَةِ قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَقَالَ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا حَلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. فَأَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُتْعَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا لِأُولَئِكَ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: "لَا بَلْ لَنَا خَاصَّةً". وَقَالَ أَبُو ذَرِّ: لَمْ يَكُنْ فَسْخُ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ إلَّا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ وَعُثْمَانَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إنْكَارُ فَسْخِ الْحَجِّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي قَوْلِ عُمَرَ "مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ". وَعِلْمُ الصَّحَابَةِ بِهَا مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا مِنْ نَسْخِهَا مِثْلَ عِلْمِهِ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا أَقَرُّوهُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِلْمُ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ النَّسْخِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُمْرَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: "هِيَ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي فَسَخُوا بِهَا الْحَجَّ كَانَتْ خَاصَّةً فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَإِنَّهُ مِمَّا حَدَّثَنَا بِهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَوْلُهُ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". يُفَسَّرُ تَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ هُوَ الْفَسْخَ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُهِلُّ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُحِلُّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ هُوَ الْمُتْعَةَ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ أَنْ يُفْرِدَ الرَّجُلُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحِلُّ مِنْهَا بِحَجٍّ مِنْ عَامِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُلْبِسٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِاللَّفْظِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَجَّ نَائِبٌ عَنْ الْعُمْرَةِ وَالْعُمْرَةُ دَاخِلَةٌ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ الْحَجَّ فَقَدْ كَفَاهُ عَنْ الْعُمْرَةِ، كَمَا تَقُولُ الْوَاحِدُ دَاخِلٌ فِي الْعَشَرَةِ يَعْنِي أَنَّ الْعَشَرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ وَمُوفِيَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمِهِ وَلَا ذِكْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قِصَّةِ إحْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: أَكَانُوا فَرَضُوا الْحَجَّ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُهِلُّوا أَوْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ؟ قَالَ: أَهَلُّوا بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَظَرُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ كَانَ إحْرَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدِيًّا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً" فَكَأَنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَبِهِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَهُوَ وَادِي الْعَقِيقِ فَقَالَ: صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة فِي عُمْرَةٍ" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَنْتَظِرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْوَادِيَ أُمِرَ بِحَجَّةٍ فِي عُمْرَةٍ; ثُمَّ أَهَلَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِذَلِكَ، فَجَازَ لَهُمْ مِثْلُهُ، فَلَمَّا أَحْرَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ إحْرَامُهُ صَحِيحًا وَكَانَ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ إحْرَامُ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى مَوْقُوفًا. وَنَزَلَ الْوَحْيُ وَأُمِرُوا بِالْمُتْعَةِ بِأَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَيُحِلُّوا وَيَعْمَلُوا عَمَلَ الْعُمْرَةِ وَيُحْرِمُوا بِالْحَجِّ، كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ يُحْرِمُ بِشَيْءٍ لَا يُسَمِّيهِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ عُمْرَةً إنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ الْحَجَّ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً; إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِانْتِظَارِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ وَجْهُ الْخُصُوصِ لِأُولَئِكَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ وَلَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُمْ لَهُ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ وَلَيْسَ لَهُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَسْخِ الْحَجِّ عَلَى حَالٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعًا، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدًا وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ، فَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا لَمْ يُحِلَّ مِمَّا أَحْرَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْضِيَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ. وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَحَلَّ مِنْ حَرَمِهِ

حَتَّى يَسْتَقْبِلَ حَجًّا. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ قَالَتْ: وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ; فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى وَأَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يُحِلَّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، مِثْلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إهْلَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ خِلَافُ ذَلِكَ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ وَنَحْنُ لَا نَرَى إلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا قَرُبْنَا أَوْ دَنَوْنَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً. قَالَتْ: فَأَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: جَاءَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ، وَقَوْلُ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ عَلَيْهِمَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ وَهُوَ يَعْنِي هَذِهِ الْمُتْعَةَ، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إنْكَارُهُ وَلَا الْخِلَافُ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَعَارَضَتْ أَخْبَارُ عَائِشَةَ لَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ تَسْقُطَ كَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهَا شَيْءٌ وَتَبْقَى الْأَخْبَارُ الْأُخَرُ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، وَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْهَدْيُ الْمَذْكُورَ هَهُنَا مِثْلُ الْهَدْيِ الْمَذْكُورِ لِلْإِحْصَارِ; وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَدْنَاهُ شَاةٌ، وَأَنَّ مَنْ شَاءَ جَعَلَهُ بَقَرَةً أَوْ بَعِيرًا فَيَكُونُ أَفْضَلَ. وَهَذَا الْهَدْيُ لَا يُجْزِي إلا يوم النحر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28 – 29] وَقَضَاءُ التَّفَثِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ لَا يَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمَّا رَتَّبَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَلَى ذَبْحِ هَذِهِ الْبُدْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا بُدُنُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْهَدَايَا لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَفْعَالُ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْحَرَهَا مَتَى شَاءَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ غَيْرُ مُجْزِئٍ

قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً" وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَارِنًا، وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ مَا سَاقَ الْهَدْيَ، وَلَوْ جَازَ ذَبْحُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَذَبَحَهُ وَحَلَّ كَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ، وَكَانَ لَا يَكُونُ مُسْتَدْرِكًا فِي الْمُسْتَدْبِرِ شَيْئًا قَدْ فَاتَهُ. وَقَالَ لِعَلِيٍّ حِينَ قَالَ أَهْلَلْتَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَإِنِّي لَا أُحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ" وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحَرَ بَدَنَةً يَوْمَ النَّحْرِ فَلَزِمَ اتِّبَاعَهُ وَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.

بَابُ صَوْمِ التَّمَتُّعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ أَنَّهُ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ: مِنْ حِينِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَلَا يَصُومُهُنَّ حَتَّى يُحْرِمَ قَالَ عَطَاءٌ: يَصُومُهُنَّ فِي الْعَشْرِ حَلَالًا إنْ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ; وَقَالَا: لَا يَصُومُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ قَالَ عَطَاءٌ: وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُنَّ إلَى الْعَشْرِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَسَى يَتَيَسَّرُ لَهُ الْهَدْيُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْبَابِنَا لِمَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ إذَا رَجَا وُجُودَ الْمَاءِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ صَوْمِهِنَّ فِي الْعَشْرِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ; وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ صَوْمَهُنَّ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَلَا يُجِيزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ هُوَ سَبَبُ التَّمَتُّعِ، قَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فَمَتَى وُجِدَ السَّبَبُ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ لِوُجُودِ النِّصَابِ وَتَعْجِيلِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِوُجُودِ الْجِرَاحَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُوبِ تَمَامِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ; لِأَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْهَدْيُ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ بِهِ مُوجِبًا لَهُ; إذْ كَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِتَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، ثَبَتَ جَوَازُهُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتَ سَبَبَا لِلْجَوَازِ لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ السَّبْعَةُ أَيْضًا لِوُجُودِ

السَّبَبِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ لَزِمَنَا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِنَا فِي جَوَازِهِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَلَزِمَكَ مِثْلُهُ فِي إجَازَتِكِ لَهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ; لِأَنَّكَ تُجِيزُ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَلَا تُجِيزُ السَّبْعَةَ. فَإِنْ قِيلِ: فَإِذَا كَانَ الصِّيَامُ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ وَالْهَدْيُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَيْفَ جَازَ الصَّوْمُ؟ قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ امْتِنَاعُ جَوَازِ ذَبْحِ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَحَدُهُمَا ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَالْآخَرُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمَا بِالنَّظَرِ سَاقِطٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّوْمَ يَقَعُ مُرَاعًى مُنْتَظَرٌ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَجِدَ الْهَدْيَ حَتَّى يُحِلَّ; فَإِذَا وُجِدَ الْمَعْنَيَانِ صَحَّ الصَّوْمُ عَنْ الْمُتْعَةِ، وَإِذَا عُدِمَ أَحَدُهُمَا بَطُلَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ وَصَارَ تَطَوُّعًا. وَأَمَّا الْهَدْيُ فَقَدْ رُتِّبَ عَلَيْهِ أَفْعَالٌ أُخَرُ مِنْ حَلْقٍ وَقَضَاءِ التَّفَثِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَلِذَلِكَ اُخْتُصَّ بِيَوْمِ النَّحْرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحَجِّ قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} مِنْ أَحَدِ مَعَانٍ: إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةٌ لِلْحَجِّ، وَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجًّا وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ; لِأَنَّهُ قَالَ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ". أَوْ أَنْ يُرِيدَ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِعْلَ الْحَجِّ الَّذِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَعْدُ الزَّوَالِ وَيَسْتَحِيلُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ; فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ وَبَقِيَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ بِوُجُودِ أَيِّهِمَا كَانَ لِمُطَابَقَتِهِ اللَّفْظَ فِي الْآيَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} مَعْلُومٌ أَنَّ جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ سَبَبِهِ لَا بِوُجُوبِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا عِنْدَ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خِلَافَ الْآيَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] لَا يَمْنَعُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْقَتْلِ لِوُجُودِ الْجِرَاحَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ تَعْجِيلِهَا لِوُجُودِ سَبَبِهَا وَهُوَ النِّصَابُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ تَعْجِيلِهِ لِأَجْلِ وُجُودِ سَبَبِهِ الَّذِي بِهِ جَازَ فِعْلُهُ فِي الْحَجِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ نَجِدْ بَدَلًا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْآيَةِ لِأَنَّ نَصَّ التَّنْزِيلِ قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ الْبَدَلُ كُلُّهُ عَلَى

وَقْتِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ، وَهَاهُنَا إنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الصِّيَامِ عَلَى وَقْتِ الْهَدْيِ وَهُوَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَالسَّبْعَةِ الَّتِي مَعَهَا غَيْرُ جَائِزٍ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فَإِنَّمَا أُجِيزَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ مَا يُحِلُّ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ وَهَدْيُ الْعُمْرَةِ يَصِحُّ إيجَابُهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّمَتُّعِ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ الْإِحْلَالِ إلَى أَنْ يَذْبَحَهُ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ الصِّيَامُ بَدَلًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ صَحَّ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ مَتَى بَعَثَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ خَرَجَ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَحْرَمًا قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِالسَّوْقِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْهُ إذَا لَمْ يَجِدْ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَصِحُّ هَدْيًا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. قِيلَ لَهُ قَبْلَ إحْرَامِ الْمُتْعَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْمُتْعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ وَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، فَلَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ مَعَهُ قَبْلَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْهَدْيِ فِي مَنْعِهِ الْإِحْلَالَ، فَلِذَلِكَ جَازَ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا صَحَّ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ أَنَّ سُنَّةَ الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ حِينَ أَحَلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَكُونُ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ الصَّوْمُ قَبْلَ ذَلِكَ.

بَابُ الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ وَلَمْ يَصُمْ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَطَاوُسٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا الْهَدْيُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ: يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَصُومُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَنْ غَيْرِ صَوْمِ الْمُتْعَةِ لَا مِنْ فَرْضٍ وَلَا مِنْ نَفْلٍ، فَلَمْ يَجُزْ صَوْمُهَا عَنْ الْمُتْعَةِ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْجَمِيعِ. وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ أَيَّامَ مِنًى، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهُنَّ عَنْ قَضَاءِ رمضان لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَكَانَ الْحَظْرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ قَاضِيًا عَلَى إطْلَاقِ الْآيَةِ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ

حُكْمُ صَوْمِ التَّمَتُّعِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَلَمْ يَكُنْ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الْحَجَّ فَائِتٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَهَذِهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ صَوْمُهُنَّ فِيهَا. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ قَاضٍ عَلَيْهِ وَمُخَصِّصٌ لَهُ كَمَا خَصَّ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} نَهْيُهُ عَنْ صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَا أَنَّهُ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَجْوَزَ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْحَجِّ بِقَوْلِهِ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ" فَقَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ; وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَصُومُ يَوْمَ النَّحْرِ مَعَ أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ، فَمَا لَمْ يُسَمَّ يَوْمُ الْحَجِّ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صَوْمُهَا أَحْرَى أَنْ لَا يَصُومَ فِيهَا; وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، إنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ هُوَ إذًا مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ، فَلَا يَكُونُ صَوْمُهَا صَوْمًا فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي صَوْمِهَا بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُجِيزُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَجَعَلَ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الْهَدْيَ وَنَقَلُهُ إلَى صَوْمٍ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ وَقَدْ فَاتَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الْهَدْيَ، كَقَوْلِهِ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ إلَّا عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَكْثَرُ مَا فِيهِ إيجَابُ فِعْلِهِ فِي وَقْتِ، فَلَا يُسْقِطُهُ فَوَاتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوضِ الْمَخْصُوصَةِ بِأَوْقَاتِهَا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فَوَاتُهَا مُسْقِطًا لَهَا. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ فَإِنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ يُسْقِطُهُ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الثَّانِي هُوَ غَيْرُ الْمَفْرُوضِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَلَوْلَا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا" لَمَا وَجَبَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ إذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْلَا قَوْلُهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لَمَا وَجَبَ قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَ فَوَاتِهِ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَمَّا كَانَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مَخْصُوصًا بِوَقْتٍ وَمَعْقُودًا بِصِفَةٍ وَهُوَ فِعْلُهُ فِي الْحَجِّ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَفِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ بِهِ لَمْ يَجُزْ إيجَابُ قَضَائِهِ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ. وَالثَّانِي: أن صوم

الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ جُعِلَ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ بَدَلًا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُقِيمَ غَيْرَ التُّرَابِ مُقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ مِثْلِ الدَّقِيقِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِمَا؟ كَذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ نُقِيمَ مَقَامَهُ صَوْمًا غَيْرَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ; لِأَنَّا لَمْ نُقِمْ الْقَضَاءَ بَدَلًا مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فُرُوضٌ أَلْزَمَهَا عِنْدَ الْفَوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ الظِّهَارِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَإِنْ مَسَّهَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْعِتْقِ، كَذَلِكَ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْحَجِّ فَإِنَّ فَوَاتَهُ فِيهِ لَا يُسْقِطُ وَلَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ إلَى الْهَدْيِ قِيلَ لَهُ: مِنْ قَبْلِ أَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ مَشْرُوطٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَسِيسِ قَائِمٌ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَالصِّفَةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا فِعْلُ الْبَدَلِ مَوْجُودَةٌ، فَلِذَلِكَ جَازَ، وَالْحَجُّ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ جَوَازُ الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ غَيْرُ مَوْجُودٌ لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ فَاتَ فَفَاتَ فِعْلُ الصَّوْمِ بِفَوَاتِهِ; وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي سُقُوطَهُ بِوُجُودٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهِ لَمَا أَجَزْنَاهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَأَظُنُّهُ مَذْهَبَ طَاوُسٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيُ الْمُظَاهِرِ عَنْ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمَسِيسِ حَتَّى يُكَفِّرَ; وَاَللَّهُ أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَمَا صَامَ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: "إذَا صَامَ يَوْمًا ثُمَّ أَيْسَرَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَيْسَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَلْيَصُمْ السَّبْعَةَ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَفَرْضُ الْهَدْيِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُحِلَّ أَوْ يَمْضِي أَيَّامَ النَّحْرِ الَّتِي هِيَ مَسْنُونَةٌ لِلْحَلْقِ، فَمَتَى وَجَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ وَبَطَلَ صَوْمُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَدْيَ مَشْرُوطٌ لِلْإِحْلَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحِلَّ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَمَتَى لَمْ يُحِلَّ حَتَّى وَجَدَ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ فِي إيجَابِهِ الْهَدْيَ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ وَبَعْدَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ مَشْرُوطٌ للإحلال قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ

الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 28] فَأَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ التَّفَثِ بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ; فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى وُقُوعُ الْإِحْلَالِ، فَإِنْ صَامَ رَجُلٌ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ لَمْ يَنْتَقِضْ صَوْمُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِطَ الْهَدْيُ ثُمَّ نُقِلَ عِنْدَ عَدَمِهِ إلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْمُظَاهِرِ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ; لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَلَا يَنْتَقِضُ حُكْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ مُرَاعًى، فَإِنْ تَمَّ وَفَرَغَ مِنْهُ فَقَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الْبَدَلِ وَأَجْزَى عَنْ أَصْلِ الْفَرْضِ، وَإِنْ وَجَدَ الْأَصْلَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِمَّا شُرِطَ لَهُ انْتَقَضَ حُكْمُهُ وَعَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ مُرَاعًى وَمُنْتَظَرٌ بِهَا آخِرُهَا لِأَنَّ مَا يُفْسِدُ آخِرُهَا يُفْسِدُ أَوَّلُهَا؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَظَرًا مُرَاعًى، وَكَذَلِكَ صَوْمُ الظِّهَارِ إذَا دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ مُرَاعًى مُنْتَظَرٌ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا انْتَقَضَ كُلُّهُ وَعَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ؟ كَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ وَهُوَ فِي الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ صَوْمُهُ عَنْ الظِّهَارِ وَيَعُودَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَجَدَ الْمَاءَ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ مُرَاعًى عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَجِدَ الْمَاء حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ الْفَرْضَ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّهُ إذَا ابْتَدَأَ بِصَوْمِ الظِّهَارِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الرَّقَبَةِ لِصِحَّةِ الْجُزْءِ الْمَفْعُولِ، وَكَذَلِكَ الدَّاخِلُ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْهَدْيِ; لِأَنَّ الْجُزْءَ الْمَفْعُولَ مِنْهُ قَدْ صَحَّ، وَفِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ إسْقَاطُ فَرْضِ الْأَصْلِ. قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّيَمُّمِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُرَاعًى، فَمَتَى وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بَطَل تَيَمُّمُهُ، وَاَلَّذِي فِي عُرُوضِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الدُّخُولِ دُخُولُهُ فِي الصَّوْمِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ; لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَسْقُطْ بِدُخُولِهِ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ وَلَا فِي صَوْمِ الظِّهَارِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ، بَلْ دُخُولُهُ مُرَاعًى مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى آخِرِهِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى أَفْسَدَ بَاقِي الصَّلَاةِ فَسَدَ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ بَاقِي صَوْمِ الظِّهَارِ فَسَدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فِي أَوَّل يَوْمٍ مِنْهُ فَسَدَ; فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْهَدْيِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ بِالِاتِّفَاقِ، فَقَوْلُهُ: لَمَّا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْجُزْءِ الْمَفْعُولِ مِنْ الْبَدَلِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْأَصْلِ خَطَأٌ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَقَعْ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَظِرًا بِهِ آخِرُهُ، فَإِنْ تَمَّ مَعَ عَدَمِ فَرْضِ الْأَصْلِ ثَبَتَ حُكْمُهُ، وَإِنْ وَجَدَ الْأَصْلَ قَبْلَ تَمَامِهِ بَطَلَ حُكْمُهُ وَعَادَ الْأَصْلُ إلَى فَرْضِهِ. وَمِنْ حَيْثُ حُكِمَ لِلْمُتَيَمِّمِ بِحُكْمِ الِانْتِظَارِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، وَجَبَ

أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْعُولَةَ بِهِ مُنْتَظَرٌ بِهَا الْفَرَاغُ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهُ; وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صَوْمِ التَّمَتُّعِ وَصَوْمِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهِ. وَقَالُوا جَمِيعًا فِي الصَّغِيرَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا: إنَّ عِدَّتَهَا الشُّهُورُ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ فِي وُجُوبِ انْتِظَارِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الشُّهُورِ فِي انْتِقَالِهَا إلَى الْحَيْضِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ مَسْحِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا وَتَسَاوَى حُكْمُ الْحَالَيْنِ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ وَلُزُومِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إذَا زَالَتْ اسْتِحَاضَتُهَا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَ دُخُولِهَا فِيهَا فِي اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْحَالَيْنِ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ لَهَا. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا، كَانَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَطَلَّقَهَا كَانَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْأَمَةِ، فَإِنْ عَتَقَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَجِبُ بِهِ عِدَّةٌ كَمَا حَدَثَ الْمَوْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَيَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَنْتَقِلَ عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ وَهُوَ وُجُودُ الْحَيْضِ كَمَا لَا يَجِبُ الْعِتْقُ كَمَا اقْتَضَاهُ اعْتِلَالُهُ. قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إنْ شَاءَ صَامَهُنَّ بِمَكَّةَ وَإِنْ شَاءَ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ: إنْ شَاءَ صَامَ فِي الطَّرِيقِ وَإِنْ شَاءَ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالشَّعْبِيُّ: يَصُومُهُنَّ إذَا رَجَعَ إلَى أهله. وقوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ مِنْ مِنًى وَلِلرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ، فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ الرُّجُوعَيْنِ وَهُوَ الرُّجُوعُ مِنْ مِنًى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ حَظَرَ صِيَامَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَبَاحَ السَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَقْتَ الَّذِي أَبَاحَ فِيهِ الصَّوْمَ بَعْدَ حَظْرِهِ وَهُوَ انْقِضَاءُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي قِيَامِهَا مُقَامَ الْهَدْيِ فِيمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ قَامَتْ مُقَامَ الْهَدْيِ فِي بَابِ جَوَازِ الْإِحْلَالِ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ صِيَامِ السَّبْعَةِ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ قَامَتْ مُقَامَ الْهَدْيِ فِي بَابِ اسْتِكْمَالِ الثَّوَابِ، فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ بِكَمَالِهَا هِيَ الْقَائِمَةُ مُقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ثَوَابِهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالثَّلَاثَةِ فِي جَوَازِ الْإِحْلَالِ بِهَا; وفي تلك أعظم الفوائد

فِي الْحَثِّ عَلَى فِعْلِ السَّبْعَةِ وَالْأَمْرُ بِتَعْجِيلِهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ لِاسْتِكْمَالِ ثَوَابِ الْهَدْيِ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أَزَالَ احْتِمَالَ التَّخْيِيرِ وَأَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى أَوْ إذْ كَانَتْ الْوَاوُ قَدْ تَكُونُ فِي مَعْنَى أَوْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَأْكِيدُهُ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى انْقِطَاعِ التَّفْصِيلِ فِي الْعَدَدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ 1: ثَلَاثٌ وَاثْنَتَيْنِ فَهُنَّ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إلَى شِمَامِ 2 وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا أَحَدَ أَقْسَامِ الْبَيَانِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبَيَانِ الْأَوَّلِ; وَلَمْ يَجْعَلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعَةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ وَلَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِيهِ، فَجَاعِلُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ مُغَفَّلٌ فِي قوله. قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَا هِيَ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهَا شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ قَائِلُونَ: وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُرَادُ مَنْ قَالَ وَذُو الْحِجَّةِ أَنَّهُ بَعْضُهُ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا مَحَالَةَ إنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ لَا فِي جَمِيعِهَا لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى شَيْءٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَقَالُوا: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ مُرَادُهُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ أَشْهُرَ الْحَجِّ كَانَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَهُ فِعْلَ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ اسْتِحْبَابُهُمْ لِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَحَجُّهُ فَائِتٌ. وَلَا تَنَازُعَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَجْوِيزِ إرَادَةِ الشَّهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، بقوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ" وَإِنَّمَا هِيَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ وَيَقُولُونَ: حَجَجْتُ عَامَ كَذَا وَإِنَّمَا الْحَجُّ فِي بَعْضِهِ، وَلَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا وَإِنَّمَا كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ وَذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ إذَا تَعَذَّرَ اسْتِغْرَاقُ الْفِعْلِ لِلْوَقْتِ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْهُ الْبَعْضَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الحجة وجه آخر، وهو شائع

_ 1 قوله: "قال الشاعر" وهو الفرزوق. 2 قوله: "إلى شمام" هكذا في ديوانه وهو الصحيح. فليراجع "لمصححه".

مُسْتَقِيمٌ، وَهُوَ يَنْتَظِمُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ; وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ كَانُوا يَنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَيَجْعَلُونَ صَفَرًا الْمُحَرَّمَ وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ عَلَى حَسْبَمَا يَتَّفِقُ لَهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُونَ فِيهَا الْقِتَالَ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّسِيءَ وَأَقَرَّ وَقْتَ الْحَجَّ عَلَى مَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يَعْنِي بِهَا هَذِهِ الْأَشْهُرَ الَّتِي ثَبَتَ وَقْتُ الْحَجِّ فِيهَا دُونَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ الشُّهُورِ وَتَأْخِيرِ الْحَجِّ وَتَقْدِيمِهِ. وَقَدْ كَانْ وَقْتُ الْحَجِّ مُعَلَّقًا عِنْدَهُمْ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَأْمَنُونَ فِيهَا وَارِدَيْنِ وَصَادِرِينَ، فَذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْهُرَ وَأَخْبَرَنَا بِاسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْحَجِّ وَحَظَرَ بِذَلِكَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا إلَى غَيْرِهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَرَخَّصَ فِيهِ وَأَبْطَلَ بِهِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِنْ حَظْرِ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَشْهُرَ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِيهَا هَذِهِ الْأَشْهُرُ، وَأَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِهَا ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ التَّمَتُّعِ; والله أعلم.

بَابُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَرَوَى مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَا يُحْرِمُ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَوَى مِثْلَهُ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : إنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ بَيْنَ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمَا رَوَاهُ مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا تُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ حَتْمًا وَاجِبًا. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنُ حَيٍّ: إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ جَعَلَهُ عُمْرَةً، فَإِذَا أَدْرَكَتْهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً مَضَى فِي الْحَجِّ وَأَجْزَأَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ عُمْرَةً.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ ذِكْرُ وَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَأَنَّ ذَلِكَ عُمُومٌ فِي كَوْنِ الْأَهِلَّةِ كُلِّهَا وَقْتًا لِلْحَجِّ. وَلَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِيقَاتًا لِأَفْعَالِ الْحَجِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازُهُ عِنْدَ سَائِرِ الْأَهِلَّةِ; وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى عُمُومُ جَمِيعِ الْأَهِلَّة فِيمَا جَعَلَهُ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ بَعْضَ الْأَهِلَّةِ دُونَ بَعْضٍ. فَمِنْ حَيْثُ انْتَظَمَ فِيمَا جَعَلَهُ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ جَمِيعًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهَا فِيمَا جَعَلَهُ لِلْحَجِّ مِنْهَا; إذْ هُمَا جَمِيعًا قَدْ انْطَوَيَا تَحْتَ لَفْظٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ وَالْحَجُّ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ بِالْإِحْرَامِ وَلَمْ يَكُنِ الْإِحْرَامُ هُوَ الْحَجُّ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَتَكُونُ الْأَهِلَّةُ الَّتِي هِيَ مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ شَوَّالًا وَذَا الْقِعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرِ هِيَ الَّتِي تَصِحُّ فِيهَا أَفْعَالُ الْحَجِّ لِأَنَّهُ لَوْ طَافَ وَسَعَى لِلْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَصِحّ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ لَفْظُ الْحَجِّ مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَهِلَّةُ نَفْسُهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ، وَفُرُوضُ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَهِلَّةَ لَيْسَتْ مِيقَاتًا لِلْوُقُوفِ وَلَا لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ; إذْ هُمَا غَيْرُ مَفْعُولَيْنِ فِي وَقْتِ الْهِلَالِ، فَلَمْ تَبْقَ الْأَهِلَّةُ مِيقَاتًا إلَّا لِلْإِحْرَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ فُرُوضِهِ; وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوضِ مُتَعَلِّقًا بِالْأَهِلَّةِ وَلَا كَانَتْ الْأَهِلَّةُ مِيقَاتًا لَهَا، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ ذِكْرِ الْأَهِلَّةِ وَزَوَالِ فَائِدَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ وَقْتِ الْوُقُوفِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْهِلَالِ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْهِلَالَ مِيقَاتٌ لَهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَنْتَ; لِأَنَّ الْهِلَالَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ، وَلَا يُسَمَّى بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ هِلَالًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْقَمَرِ لَيْلَةَ الْوُقُوفِ هِلَالًا؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْهِلَالَ نَفْسَهُ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ، وَأَنْتَ إنَّمَا تَجْعَلُ غَيْرَ الْهِلَالِ مِيقَاتًا، وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ حُكْمِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا جَعَلَ مَحَلَّ الدَّيْنِ هِلَالَ شَهْرِ كَذَا كَانَ الْهِلَالُ نَفْسُهُ وَقْتًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَوُجُوبِ أَدَائِهِ إلَيْهِ لَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيَّامِ؟ وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ إذَا عُقِدَتْ عَلَى الْأَهِلَّةِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُشْكِلُ مِثْلُهُ عَلَى ذِي فَهْمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْحَجَّ هُوَ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ بِالْإِحْرَامِ وَإِنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُسَمَّى حَجًّا فَإِنَّ الْإِحْرَامَ إذَا كَانَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَلَا يَصِحُّ حُكْمُهَا إلَّا بِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ

يُسَمَّى بِاسْمِهِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ سَبَبًا أَوْ مُجَاوِرَا; فَسُمِّيَ الْإِحْرَامُ حَجًّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ جَائِزًا إضْمَارُ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَعْنَى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وَلِإِحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَمَعْنَاهُ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَقَوْلُهُ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ اتَّقَى; وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِيَصِحَّ إثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ فِي جَعْلِهِ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ الْحَجِّ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ اسْمًا لِلْقَصْدِ وَإِنْ كَانَ فِي الشَّرْعِ قَدْ عَلَّقَ بِهِ أَفْعَالَ أُخَرَ يَصِحُّ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُسَمَّى الْإِحْرَامُ حَجَّا; لِأَنَّ أَوَّلَ قَصْدٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ هُوَ الْإِحْرَامُ، وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ حُكْمٌ، فَجَائِزٌ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُسَمَّى الْإِحْرَامُ حَجَّا; إذْ هُوَ أَوَّلُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} مُنْتَظِمًا لِلْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ لَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرَهُ. فَلَمَّا خُصَّتْ الْأَفْعَالُ بِأَوْقَاتٍ مَحْصُورَةٍ خَصَّصْنَاهَا مِنْ الْجُمْلَةِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي الْإِحْرَامِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَحُجُّ مَأْمُومَةً فِي قَعْرِهَا لَجَفُ يَعْنِي يَقْصِدُهَا لِيَعْرِفَ مِقْدَارَهَا. وَلَيْسَ يَجِبُ مِنْ حَيْثُ عُلِّقَ بِالْقَصْدِ أَفْعَالٌ أُخَرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَصْدُ اسْمَ الْحَجِّ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِهَا إسْقَاطُ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْإِمْسَاكِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَعَانٍ أُخَرَ مَعَهُ وَلَمْ يَسْقُطْ مَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْإِمْسَاكِ فِي صِحَّتِهِ؟ وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ اسْمُ اللُّبْثِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَعَانٍ أُخَرَ مَعَ اللُّبْثِ؟ فَكَانَ مَعْنَى الِاسْمِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مُعْتَبَرًا، وَإِنْ أُلْحِقَتْ بِهِ فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ أُخَرُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الِاسْمِ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِوُجُودِهَا. وَكَذَلِكَ الْحَجُّ لَمَّا كَانَ اسْمًا فِي اللُّغَةِ لِلْقَصْدِ ثُمَّ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَصْدِ مُتَعَلِّقًا بِالْإِحْرَامِ وَمَا قَبْلَهُ لَا حُكْمَ لَهُ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا سُمِّيَ بِهِ الطَّوَافُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَأَفْعَالُ الْمَنَاسِكِ، فَوَجَبَ بِحَقِّ الْعُمُومِ كَوْنُ الْأَهِلَّةِ كُلِّهَا مِيقَاتًا لِلْإِحْرَامِ. وَقَدْ اقْتَضَى الْعُمُومُ ذَلِكَ لِسَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَخْصِيصِهَا بِأَوْقَاتٍ مَحْصُورَةٍ دَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ فِي الْأَشْهُرِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَقَالَ آخَرُونَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ بعموم قوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ; وَإِذَا صَحَّ يَوْمُ النَّحْرِ جَازَ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ فِي جَوَازِهِ بَيْنَ يَوْمِ النَّحْرِ وَبَيْنَ سَائِرِ أَيَّامِ السَّنَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَنْ قَالَ عَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَشْرَ لَيَالٍ لَمْ يَجْعَلْ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْحَجُّ فَائِتًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.

قِيلَ لَهُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ عَشْرًا إنْ كَانَ مُرَادُهُ عَشْرَ لَيَالٍ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ، كَقَوْلِهِ في موضع: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} وَقَدْ أَرَادَ الْأَيَّامَ; أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بعينها: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فِي آخَرِينَ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ اسْتِيعَابَ الشُّهُورِ الثَّلَاثَةِ وَلَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الْإِحْرَامَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ ابْتِدَاءُ الْإِحْرَامِ فِيهِ، وَإِذَا صَحَّ فِيهِ صَحَّ فِي سَائِرِ أَيَّامِ السَّنَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَمَعْنَى فَرَضَ الْحَجَّ فِيهِنَّ إيجَابُهُ فِيهِنَّ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَفْعَالِ مُوجِبَةٌ بِهِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ لِلْفَرْضِ وَقْتًا وَإِنَّمَا وَقَّتَهُ لِلْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ لَا مَحَالَةَ غَيْرُ الْحَجِّ الَّذِي عَلَّقَهُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِأَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ وَأَلْزَمَهُ إيَّاهَا بِفَرْضٍ غَيْرِ مُوَقَّتٍ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ فِعْلُ إحْرَامِ الْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يُوجِبُ أَفْعَالَ الْمَنَاسِكِ. وَيَدُلُّكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَبْدَأَ حَجًّا بِنَذْرٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَجِّ فِي وَقْتِهِ الْمَشْرُوطِ وَإِنْ كَانَ إيجَابُهُ قَبْلَهُ. وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا كَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُوجِبًا لِصَوْمِ غَدٍ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ: إنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ فَرْضُهُ وَابْتِدَاءُ إحْرَامِهِ فِي غَيْرِهِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} إيجَابَ فِعْلِ الْحَجِّ بِفَرْضٍ قَبْلَهُنَّ أَوْ فِيهِنَّ; إذْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ الْفُرُوضَ فِي الْوَقْتَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّة حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ" وَذَلِكَ عَلَى الْإِحْرَامِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ: "هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ" وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي أَيِّ وَقْتٍ مَرَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ السَّنَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى بَقَاءِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِكَمَالِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لَا يَجُوزُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ

لَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى بِكَمَالِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَصِحُّ فِيهِ ابْتِدَاءُ الْإِحْرَامِ. وَفِي بَقَاءِ إحْرَامِهِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ابْتِدَائِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ مَحْصُورَةٌ بِأَوْقَاتٍ غَيْرِ جَائِزٍ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَوْمُ النَّحْرِ وَقْتًا لِلْإِحْرَامِ لَمَا جَازَ بَقَاؤُهُ فِيهِ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ مَحْصُورَةً بِوَقْتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْقَى الْجُمُعَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فِي وَقْتٍ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاؤُهَا فِيهِ؟ نَحْوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَتَبْطُلُ وَلَا يَبْقَى حُكْمُهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا لَا يَصِحُّ ابْتِدَاؤُهَا فِيهِ; فَكَذَلِكَ إحْرَامُ الْحَجِّ، لَوْ كَانَ مَحْصُورًا بِأَشْهُرِ الْحَجِّ لَمَا صَحَّ بَقَاؤُهُ بِكَمَالِهِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ مُخَالِفِينَا ابْتِدَاؤُهُ، فَلَمَّا صَحَّ بَقَاؤُهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ صَحَّ ابْتِدَاؤُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَفْعَالُهُ وَلَا يَصِحُّ إيقَاعُهَا فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا صَحَّ فِعْلُهُ فِيهَا; لِأَنَّ مُوجِبَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ مُتَرَاخٍ عَنْهُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ مُوَقَّتًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ مُوجِبُ أَفْعَالِهِ، كَمَا أَنَّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ مُوَقَّتًا كَانَ مُوجِبُهُ مِنْ فَرْضِهِ مُتَّصِلًا بِهِ وَلَمْ يَجُزْ تَرَاخِيهِ عَنْهُ. وَيُحْتَجُّ لِذَلِكَ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِأَنْ يَكُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ قَبْلَهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي كَوْنِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُوجِبِ الْإِحْرَامَيْنِ مِنْ الْأَفْعَالِ مُتَعَلِّقٌ بِوُقُوعِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الْإِحْرَامَيْنِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَمَا اسْتَوَى حُكْمُ أَفْعَالِهِمَا فِي صِحَّةِ وُقُوعِهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى تَجْوِيزَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِظَاهِرِ قَوْله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى جَوَازِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} حُكْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِضَمِيرٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ أَشْهُرًا; لِأَنَّ الْحَجَّ هُوَ فِعْلُ الْحَاجَّ وَالْأَشْهُرَ هِيَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ اللَّهِ هُوَ فِعْلَ الْعَبْدِ، فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِعْلَ الْحَجِّ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٌ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ نَفْيٌ لِجَوَازِ إحْرَامِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ فِعْلَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ وَأَنَّ الْإِحْرَامَ جَائِزٌ فِيهَا، وَلَيْسَ فِي تَجْوِيزِ الْإِحْرَامِ فِيهَا نَفْيٌ لِجَوَازِهِ فِي غيرها.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ أَفْعَالِهِ فِيهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِعْلُهَا فِي غَيْرِهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِيهَا، فَأَمَّا الْإِيجَابُ فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّفْظِ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَجْوِيزُ إحْرَامِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِجَوَازِهِ فِي غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ جَائِزًا فِي سَائِرِ السَّنَةِ فَلَا مَعْنَى لِتَوْقِيتِ الْأَشْهُرِ لَهُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ التَّوْقِيتِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِيهِ عِدَّةُ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مَخْصُوصَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ إنَّهُ لَوْ كَانَ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُعِيدُهُ؟ وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَتُّعَ إنَّمَا يَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَرَنَ وَدَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَطَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى وَمَضَى عَلَى قِرَانِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فَأَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ التَّمَتُّعِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِيهَا. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الشُّهُورِ، لَوَجَبَ أَنْ نَصْرِفَهُ إلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ دُونَ إحْرَامِهِ لِيَسْلَمَ لَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ فِي سَائِرِ الْأَهِلَّةِ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِحْرَامِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ قَوْلِهِ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَكُونُ مُسْتَعْمِلِينَ لَهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَهِلَّةَ وَقْتًا لِلْحَجِّ، وَمَتَى قَصَرْنَاهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُهُ بِالْأَهِلَّةِ وَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَوْقَاتٍ أُخَرَ غَيْرِهَا، مِثْلُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِلْوُقُوفِ وَيَوْمُ النَّحْرِ لِلطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ. وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ الْإِحْرَامَ وَأَفْعَالَهُ، وَمَتَى أَرَادَ الْأَفْعَالَ انْتَفَى الْإِحْرَامُ لِامْتِنَاعِ إرَادَتِهِمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَفْعَالُ الْمَنَاسِكِ وَالْآخَرُ سَبَبٌ لَهُ سُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَقِفْ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَحُجَّ وَمَتَى وَقَفَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَاجِّ؟ وَأَيْضًا لَمَّا قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ" وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْرِيفًا لِلْحَجِّ المذكور في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَتَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُ الْآيَةِ مَعَ الْخَبَرِ: الْحَجُّ الَّذِي هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ وَيَكُونُ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْأَشْهُرِ مَا قَدَّمْنَا. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ إرَادَةُ الْوَقْتِ لِلْإِحْرَامِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْهُرِ عَلَى النَّدْبِ وَقَوْلُهُ: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} عَلَى الْجَوَازِ، حَتَّى يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ حَظَّهُ مِنْ الْفَائِدَةِ وَقِسْطَهُ مِنْ الْحُكْمِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِحْرَامَ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمه عَلَى وَقْتِهِ، وَيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي فِيهَا تَوْقِيتُ الْعِبَادَاتِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَوَازَ الْحَجِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةُ الْحَجِّ; فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْقِيتِ الْمَذْكُورِ فِيهِ لِمَاذَا هُوَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَوْقِيتِ الْإِحْرَامِ بِالْأَشْهُرِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِيهَا عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْإِيجَابُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ لغيرها بقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ الْأَوَامِرِ الْمُوَقَّتَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّا سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ لَمْ تَلْزَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، مِنْ قَبْلِ أَنَّ تَقْدِيمَ إحْرَامِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا إنَّمَا لَمْ يَجُزْ مِنْ حَيْثُ اتَّصَلَتْ فُرُوضُهَا وَأَرْكَانُهَا بِالْإِحْرَامِ وَسَائِرُ فُرُوضِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ مُتَرَاخِيَةً عَنْ تَحْرِيمَتِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ حُكْمُ تَحْرِيمَتِهَا حُكْمُ سَائِرِ أَفْعَالِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازُ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي وَقْتٍ يَتَرَاخَى عَنْهُ سَائِرُ أَفْعَالِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ شَيْءٌ مِنْ فُرُوضِهِ عَقِيبَ إحْرَامِهِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيَّا عَنْ فِعْلِ الْإِحْرَامِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ لُزُومِهِ، وَكَوْنَ الصَّلَاةِ مَنْهِيَّا عَنْهَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدُّخُولِ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ مُحْدِثًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ عَامِدًا أَوْ عَارِيًّا وَهُوَ يَجِدُ ثَوْبًا، لَمْ يَصِحَّ دُخُولُهُ فِيهَا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهُوَ مُخَالِطٌ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لَابِسٌ ثِيَابًا، كَانَ إحْرَامُهُ وَاقِعًا وَلَزِمَهُ حُكْمُهُ مَعَ مُقَارَنَةِ مَا يُفْسِدُهُ; فَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ أَحْكَامِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ بَعْضِ فُرُوضِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا، مِثْلُ الْحَدَثِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ وَمَا جَرَى وَمَجْرَى ذَلِكَ. وَتَرْكُ بَعْضِ فُرُوضِ الْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ; لِأَنَّهُ لَوْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ اصْطَادَ لَمْ يُفْسِدُهُ مَعَ كَوْنِ تَرْكِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَرْضًا فِيهِ. وَأَيْضًا وَجَدْنَا مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ مَا يُفْعَلَ بِمَدِّ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَكُونُ مَفْعُولًا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاة يُفْعَلُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَصْلًا لِلْإِحْرَامِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ بَعْضُ فُرُوضِ الْحَجِّ مَفْعُولًا بَعْدَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَكُونَ ذَلِكَ وَقْتًا لَهُ، كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إحْرَامَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَكُونَ ذَلِكَ وَقْتًا; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمَا جَازَ تَأْخِيرُ شَيْءٍ مِنْ فُرُوضِهِ عنه كالصلاة.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ بِإِحْرَامِهِ ذَلِكَ حَجًّا فِي الْقَابِلِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ يُوجِبُ عُمْرَةَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ حَجًّا. قِيلَ لَهُ فَقَدْ جَازَ أَنْ يَبْقَى إحْرَامُهُ كَامِلًا بَعْدَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ، حَتَّى زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إنْ جَامَعَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ فَسَدَ حِجُّهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفْ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ; إذْ لَمْ يَكُنْ يَوْمُ النَّحْرِ عِنْدَهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ جَازَ إبْقَاءُ إحْرَامِهِ بِكَمَالِهِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ سُؤَالِ السَّائِلِ لَنَا وَاعْتِرَاضُهُ بِمَا ذَكَرَهُ; إذْ قَدْ جَازَ وُجُودُ إحْرَامٍ صَحِيحٍ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ ابْتِدَاءِ إحْرَامِ الْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ; إذْ قَدْ جَازَ بَقَاؤُهُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ وَالْفَسَادِ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ إحْرَامُ الْحَجِّ عَلَى مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَمُهُ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُحْرِمْ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهَا وَلَا فِي غَيْرِهَا; وَإِنْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ فَقَدْ جَازَ أَدَاءُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِذَا صَحَّ إحْرَامَهُ وَأَمْكَنَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِعُمْرَةٍ وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحْرَامِ الْحَجِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا إلَى الْحِلِّ لِأَجْلِ مَا لَزِمَهُ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ؟ إذْ كَانَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ الْحِلَّ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ عُمْرَةً لَأُمِرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِلِّ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ لَيْسَ بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامُ الْحَجِّ بَاقٍ مَعَ الْفَوَاتِ. وَأَيْضًا فَاَلَّذِي فَاتَهُ قَدْ لَزِمَهُ إحْرَامُ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى الْإِحْلَالِ مِنْهُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ فَهَلْ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ إنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ الْحَجُّ وَيَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْحَجِّ؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَقَدْ لَزِمَهُ فِي ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَزِمَهُ عُمْرَةٌ لَمْ يَعْقِدْهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ بَعْد الْإِحْرَامِ، وَهَذَا لَمْ يُحْرِمْ قَطُّ بِهِ، فَأَلْزَمَهُ عُمْرَةً لَا سَبَبَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى" فَإِذَا أَحْرَمَ وَنَوَى الْحَجَّ فَوَاجِبٌ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا نَوَى بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى".

قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فَمَنْ أَحْرَمَ وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قَالَ: التَّلْبِيَةَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَالَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ: لَا إحْرَامَ إلَّا لِمَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ مِنْ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} عَلَى مَنْ أَحْرَمَ لَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْإِحْرَامَ جَائِزًا بِغَيْرِ تَلْبِيَةٍ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقُولَ فَمَنْ أَحْرَمَ وَشَرَطَ الْإِحْرَامَ أَنْ يُلَبِّيَ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ جَوَازُ الدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ تَلْبِيَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مُقَامَهَا مِنْ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَوْقِهِ. وَأَصْحَابُنَا لَا يُجِيزُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَوْقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ قُرَادِ بْنِ أَبِي نُوحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ كَأَنَّهَا حَزِينَةٌ فَقَالَ: "مَا لَكِ؟ " فَقَالَتْ: لَا أَنَا قَضَيْتُ عُمْرَتِي وَأَلْفَانِي الْحَجُّ عَارِكًا، قَالَ: "ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَحُجِّي وَقُولِي مَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ فِي حَجِّهِمْ" وَذَلِكَ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ; لِأَنَّهَا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْوُجُوبِ وَيَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وَالتَّلْبِيَةُ مِنْ الْمَنَاسِكِ، وَقَدْ فَعَلَهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مُرْ أُمَّتَكَ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ" فَيُضَمَّنُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: فِعْلُ التَّلْبِيَةِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ فِي فِعْلِ التَّلْبِيَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةَ يَنْتَظِمَانِ أَفْعَالًا مُتَغَايِرَةً مُخْتَلِفَةً مَفْعُولَةً بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَشْبَهَتْ الصَّلَاةَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ أَفْعَالًا مُتَغَايِرَةً مُخْتَلِفَةً مَفْعُولَةً بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ شَرْطُ الدُّخُولِ فِيهَا الذِّكْرَ، كَذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ فِيهِمَا بِالذِّكْرِ، أَوْ مَا يَقُومُ مُقَامَهُ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قَلَّدَ بَدَنَةً وَسَاقَهَا وَهُوَ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَقَدْ رَوَى ابْنَا جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ". وَاخْتَلَفَ السَّلَف فِي ذَلِكَ فَقَالَ ابْن عُمَر: إذَا قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَقِيسِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا عَلَى أَنَّهُ قَلَّدَهَا وَسَاقَهَا، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُرِدْ الْإِحْرَامَ لَا يَكُونُ مُحْرِمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنِّي قَلَّدْتُ الْهَدْيَ فَلَا أَحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ" فَأَخْبَرَ أَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ وَسَوْقَهُ كَانَ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ الْإِحْلَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ التَّلْبِيَةِ فِي بَابِ الدُّخُولِ فِيهِ

كَمَا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ الْإِحْلَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ بِانْفِرَادِهِ لَا يُوجِبُ الْإِحْرَامَ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ وَيُقِيمُ فَلَا يُحْرِمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ" وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى تَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيَهُ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ. قَوْله تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ الرَّفَثِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ الْجِمَاعُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ التَّعْرِيضُ بِالنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي إحْرَامِهِ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ مُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ. قَالَ عَطَاءُ: الرَّفَثُ الْجِمَاعُ فَمَا دُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْفُحْشِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ الْجِمَاعُ فَمَا دُونَهُ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ: إنَّ أَصْلَ الرَّفَثِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِفْحَاشُ فِي الْقَوْلِ، وَبِالْفَرْجِ الْجِمَاعُ، وَبِالْيَدِ الْغَمْزُ لِلْجِمَاعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَ نَهْيُهُ عَنْ الرَّفَثِ فِي الْحَجِّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ جَمِيعِ مِنْ رُوِيَ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْجِمَاعَ مُرَادٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّفَثَ الْفُحْشُ فِي الْمَنْطِقِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ"، وَالْمُرَادُ فُحْشُ الْقَوْلِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالرَّفَثِ هُوَ التَّعْرِيضُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ فِي الْإِحْرَامِ، فَاللَّمْسُ، وَالْجِمَاعُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] عُقِلَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ السَّبِّ، وَالضَّرْبِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّفَثَ فِي شَأْنِ الصَّوْمِ فَقَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وَلَا خِلَاف أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَعُقِلَ مِنْهُ إبَاحَةُ مَا دُونَهُ، كَمَا أَنَّ حَظْرَهُ الرَّفَثَ فِي الْحَجِّ وَهُوَ التَّعْرِيضُ، وَالْمَسُّ قَدْ عُقِلَ بِهِ حَظْرُ مَا فَوْقَهُ مِنْ الْجِمَاعِ; لِأَنَّ حَظْرَ الْقَلِيلِ يَدُلَّ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ جِنْسِهِ. وَإِبَاحَةُ الْكَثِيرِ تَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْقَلِيلِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَمَرَرْنَا بِالرُّوَيْثَةِ فَإِذَا بِهَا شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو هَرِمٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لِلْمُحْرِمِ مِنْ امْرَأَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ قَالَ: فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنَّا إلَى امْرَأَتِهِ فَقَبَّلَهَا; فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِعَطَاءٍ فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ قَعَدَ عَلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ يَفْتِنُهُمْ بِالضَّلَالَةِ; ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي قَبَّلَ امْرَأَتَهُ: أَهْرِقْ دَمًا. وَهَذَا شَيْخٌ مَجْهُولٌ. وَمَا ذَكَرَهُ قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فِي إحْرَامِهِ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ

الْأَمْصَارِ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا حَظْرُ مُرَاجَعَةِ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَالتَّعْرِيضِ بِهِ، وَاللَّمْسِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ وَدَوَاعِيَهُ مَحْظُورَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَظْرِ التَّطَيُّبِ لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ، وَلِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْفُسُوقُ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْفُسُوقُ السِّبَابُ وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِدَالُ أَنْ تُجَادِلَ صَاحِبَكَ حَتَّى تَغِيظَهُ، وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قَالَ: قَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَشْهُرَ الْحَجِّ فَلَيْسَ فِيهَا شَكٌّ وَلَا خِلَافٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمُحْرِمُ مَنْهِيًّا عَنْ السِّبَابِ، وَالْمُمَارَاةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ وَعَنْ الْفُسُوقِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي، فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ الْأَمْرَ بِحِفْظِ اللِّسَانِ، وَالْفَرْجِ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مَحْظُورٌ مِنْ الْفُسُوقِ، وَالْمَعَاصِي. وَالْمَعَاصِي، وَالْفُسُوقُ وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى حَظْرِهَا فِي الْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ; وَلِأَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ عِقَابًا مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى مِنًى، فَكَانَ يُلَاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ وَقَالَ: "إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ غُفِرَ لَهُ" وَمَعْلُومٌ حَظْرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ الْيَوْمَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَعَاصِي، وَالْفُسُوقُ، وَالْجِدَالُ، وَالرَّفَثُ كُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ وَمُرَادٌ بِالْآيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ، أَوْ كَانَ مَحْظُورًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ; وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ إيَّاهَا بِحَالِ الْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا لِلْإِحْرَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى مَسْعُودٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" وَهَذَا مُوَافِقٌ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ الْمَعَاصِي، وَالْفُسُوقِ فِي الْحَجِّ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا; لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْفُسُوقِ، وَالْمَعَاصِي، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُحْدِثَ الْحَاجُّ تَوْبَةً مِنْ الْفُسُوقِ، وَالْمَعَاصِي حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قَدْ تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنْ مُمَارَاةِ صَاحِبِهِ وَرَفِيقِهِ وَإِغْضَابِهِ وَحَظْرِ الْجِدَالِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ; لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ وَأُبْطِلَ بِهِ النَّسِيءُ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ الْأَرْضَ" يَعْنِي عَوْدَ الْحَجِّ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي

جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ النَّفْيِ عَنْهَا; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا غَيْرَ مَفْعُولٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْأَمْرِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] وَ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا لَا يَتَزَوَّدُونَ فِي حَجِّهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الزَّادُ الْكَعْكُ، وَالزَّيْتُ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ قَوْمًا كَانُوا يَرْمُونَ بِأَزْوَادِهِمْ يَتَسَمَّوْنَ بِالْمُتَوَكِّلَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: تَزَوَّدُوا مِنْ الطَّعَامِ وَلَا تَطْرَحُوا كَلَّكُمْ عَلَى النَّاسِ وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَزَوَّدُوا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا احْتَمَلَتْ الْآيَةُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ زَادِ الطَّعَامِ وَزَادِ التَّقْوَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا; إذْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تَخْصِيصِ زَادٍ مِنْ زَادٍ. وَذَكَرَ التَّزَوُّدَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْحَجِّ; لِأَنَّهُ أَحَقُّ شَيْءٍ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِيهِ لِمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، كَمَا نَصَّ عَلَى حَظْرِ الْفُسُوقِ وَالْمَعَاصِي فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً فِي غَيْرِهِ، تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَإِخْبَارًا أَنَّهَا فِيهِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا; فَجَمَعَ الزَّادَيْنِ فِي مَجْمُوعِ اللَّفْظِ مِنْ الطَّعَامِ وَمِنْ زَادِ التَّقْوَى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ زَادَ التَّقْوَى خَيْرُهُمَا لِبَقَاءِ نَفْعِهِ وَدَوَامِ ثَوَابِهِ. وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَتَسَمَّوْنَ بِالْمُتَوَكِّلَةِ فِي تَرْكِهِمْ التَّزَوُّدَ، وَالسَّعْيَ فِي الْمَعَاشِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ; لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ خَاطَبَهُ بِالْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَة: هِيَ "الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ". وَاَللَّهُ الموفق.

بَابُ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الْحَجِّ، وَالتَّزَوُّدِ لَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي الْمُخَاطَبِينَ بِأَوَّلِ الْآيَةِ وَهُمْ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّزَوُّدِ لِلْحَجِّ وَأَبَاحَ لَهُمْ التِّجَارَةَ فِيهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: إنِّي رَجُلٌ أَكْرِي الْإِبِلَ إلَى مَكَّةَ أَفَيُجْزِي مِنْ حَجَّتِي؟ قَالَ: أَلَسْت تُلَبِّي فَتَقِفَ وَتَرْمِيَ الْجِمَارَ؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلْتَنِي، فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فَقَالَ: "أَنْتُمْ حَاجٌّ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرًا لِلنَّاسِ فِي

الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تُرِكُوا حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي آجَرْت نَفْسِي مِنْ قَوْمٍ عَلَى أَنْ أَخْدُمَهُمْ وَيَحُجُّونَ بِي، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ إلَّا شَيْئًا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: إنِّي أَكْرِي إبِلِي وَأَنَا أُرِدْ الْحَجَّ، أَفَيُجْزِينِي؟ قَالَ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَخِلَافُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فَهَذَا فِي شَأْن الْحَاجِّ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْخِطَابِ فِيهِمْ، وَسَائِرُ ظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُبِيحَةِ لِذَلِكَ دَالَّةٌ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وَقَوْلُهُ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] إلَى قَوْلِهِ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] وَلَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنْ الْمَنَافِعِ دُونَ غَيْرِهَا، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُ حَالَ الْحَجِّ. وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَمْنَعُ التِّجَارَةَ، وَعَلَى هَذَا أَمْرُ النَّاسِ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي مَوَاسِمِ مِنًى وَمَكَّةَ فِي أَيَّام الْحَجِّ; والله أعلم.

بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِهِ، فَلَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أَبَانَ بِذَلِكَ عَنْ فَرْضِ الْوُقُوفِ وَلُزُومِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْإِفَاضَةِ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوبِ، وَلَا تَكُونُ الْإِفَاضَةُ فَرْضًا إلَّا وَالْكَوْنُ بِهَا فَرْضًا حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا; إذْ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْإِفَاضَةِ إلَّا بِكَوْنِهِ قَبْلهَا هُنَاكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِ: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ، قَالُوا: وَذَلِكَ; لِأَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يُقَالُ لَهُمْ الْحُمْسُ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقِفُ سَائِرُ الْعَرَبِ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ

النَّاسُ} فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهَا أَنْ يَأْتُوا عَرَفَاتٍ فَيَقِفُوا بِهَا مَعَ النَّاسِ وَيُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. وَحُكِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قَالَ: {النَّاسُ} وَأَرَادَ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] وَكَانَ رَجُلًا وَاحِدًا. وَلِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ الْإِمَامَ الْمُقْتَدَى بِهِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَتَّبِعُ سُنَّتَهُ، جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَحْدَهُ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، وَالضَّحَّاكُ لَا يُزَاحِمُ بِهِ هَؤُلَاءِ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّاسَ هَاهُنَا وَأَمَرَ قُرَيْشًا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا قَلِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ; فَلِذَلِكَ قَالَ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وَ"ثُمَّ" يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَا مَحَالَةَ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ هِيَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا إفَاضَةٌ إلَّا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ; وَلِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} عَائِدٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْخِطَابُ بِذِكْرِ الْحَجِّ وَتَعْلِيمِ مَنَاسِكِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَأْمُورُونَ بِالْحَجِّ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فَيَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى صِلَةِ خِطَابِ الْمَأْمُورِينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] ، وَالْمَعْنَى: بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا لَكُمْ أَخْبَرْنَا كَمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ. وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] مَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] مَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكَ إنَّ ذِكْرَ عَرَفَاتٍ قَدْ تَقَدَّمَ في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وَجْهٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إيجَابِ الْوُقُوفِ، وَقَوْلَهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} هُوَ أَمْرٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدْ أَفَادَ بِهِ مِنْ إيجَابِ الْوُقُوفِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ قَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} إذْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} عَلَى فَرْضِ الْوُقُوفِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ اُقْتُصِرَ

على قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} لَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَقِفُ بِهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْوُقُوفَ بِهَا، فَيَكُونُ التَّارِكُونَ لِلْوُقُوفِ عَلَى جُمْلَةِ أَمْرِهِمْ فِي الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَاتٍ، فَأَبْطَلَ ظَنَّ الظَّانِّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا حَجَّ لَهُ، وَنَقَلَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلًا وَعَمَلًا. وَرَوَى بُكَيْر بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الدِّيلِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: "الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ الصُّبْحِ، أَوْ يَوْمَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ". وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضْرِسٍ الطَّائِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بِالْمُزْدَلِفَةِ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْل ذَلِكَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ: إذَا وَقَفَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، فَقَالَ سَائِرُهُمْ: إذَا وَقَفَ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إنْ لَمْ يَرْجِعْ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ بَطَل حَجُّهُ وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ; لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ فَرْضَ الْوُقُوفِ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَأَنَّ الْوُقُوفَ نَهَارًا غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَسْنُونٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَدَ حَجُّهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: "وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" فَحَكَمَ بِصِحَّةِ حَجِّهِ وَإِتْمَامِهِ بِوُقُوفِهِ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ مِنْ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} و"حَيْثُ" اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وَهُوَ عَرَفَاتٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "أَفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ" وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِلَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِلْوَقْتِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ وَقَفَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّا وَجَدْنَا سَائِرَ الْمَنَاسِكِ ابْتِدَاؤُهَا بِالنَّهَارِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ تَبَعًا، وَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْهَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ فَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ فَرْضَ الْوُقُوفِ بِاللَّيْلِ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَالْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَالرَّمْيَ، وَالذَّبْحَ، وَالْحَلْقَ كُلُّ ذَلِكَ مَفْعُولٌ بِالنَّهَارِ؟ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ بِاللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِلنَّهَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ وُقُوفَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَارًا إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَأَنَّهُ دَفَعَ مِنْهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ النَّهَارُ، وَوَقْتَ

الْغُرُوبِ هُوَ الدَّفْعُ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الدَّفْعُ هُوَ وَقْتَ الْفَرْضِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِلْفَرْضِ. وَأَيْضًا لَمَّا قِيلَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَنُقِلَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ" وَمِنْهَا: "إنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ" وَلِذَلِكَ أَطْلَقَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ وَقْتُ الْفَرْضِ فِيهِ، وَأَنَّ الْوُقُوفَ لَيْلًا إنَّمَا يَفْعَلهُ مَنْ وَقَفَ فَائِتًا; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمُ الْأَضْحَى، وَيَوْمُ الْفِطْرِ كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ وَاقِعَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَهَارًا وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ إلَيْهَا؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَنَّهُ يُفْعَلُ لَيْلًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ لِمَا فَاتَهُ، كَمَا يَرْمِي الْجِمَارَ لَيْلًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ لِمَا فَاتَهُ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ، وَالذَّبْحُ، وَالْحَلْقُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ، فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ عُرَنَةَ، وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ مُحَسِّرٍ". وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "ارْتَفَعُوا عَنْ وَادِي عَرَفَةَ، وَالْمِنْبَرِ عَنْ مُسِيلَةَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مَوْقِفٌ". وَلَمْ يَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْهَا إذَا صَارَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَمِنْ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ الطُّلُوعِ. وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ ابن عباس قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ وَلَا فِي إيضَاعِ الْإِبِلِ وَلَكِنْ سَيْرًا حَسَنًا جَمِيلًا، وَلَا تُوطِئُوا ضَعِيفًا وَلَا تُؤْذُوا مُسْلِمًا". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: "كَانَ سَيْرُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْفَعُ مِنْ عَرَفَاتٍ الْعَنَقَ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْوُقُوفِ بِجُمَعٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ وَتُسَمَّى جَمْعًا. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الذِّكْرَ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ اللَّتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَالذِّكْرُ الثَّانِي في قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} هُوَ الذِّكْرُ الْمَفْعُولُ عِنْدَ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ غَدَاةَ جَمْعٍ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الثَّانِي. وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى ذِكْرًا، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا" وَتَلَا عِنْدَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 214] فَسَمَّى الصَّلَاةَ ذِكْرًا، فَعَلَى هَذَا قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَأْخِيرَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إلى أن

تُجْمَعَ مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ: الصَّلَاةَ فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ" فَلَمَّا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ صَلَّاهَا مَعَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَالْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَاتِرَةٌ فِي جَمْعِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا تُجْزِيهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُجْزِيهِ. وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةَ يُمْنَعُ جَوَازُهَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ" وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الذِّكْرِ الْمَفْعُولِ فِي حَالِ الْوُقُوفِ بِجَمْعٍ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} هُوَ الذِّكْرُ فِي مَوْقِفِ جَمْعٍ، فَوَاجِبٌ أَنْ نَحْمِلَ الذِّكْرَ الْأَوَّلَ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى نَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الذِّكْرَيْنِ حَظَّهُ مِنْ الْفَائِدَةِ وَلَا يَكُونُ تَكْرَارًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} هُوَ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَالذِّكْرُ الْمَفْعُولُ بِجَمْعٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَمَتَى حُمِلَ عَلَى فِعْلِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِجَمْعٍ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مقتضاه من الوجوب، فوجب حمله عليه. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، هَلْ هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ أَمْ لَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ وَمَنْ فَاتَهُ فَلَا حَجَّ لَهُ كَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَجُّهُ تَامٌّ وَلَا يُفْسِدهُ تَرْكُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ فُرُوضِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ". وَقَالَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ" فَحَكَمَ بِصِحَّةِ حَجِّهِ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَعَهُ الْوُقُوفَ بِجَمْعِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَنَقَلَهُ النَّاسُ، قَائِلِينَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ ضَعَفَةَ النَّاسِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ لَيْلًا وَقَالَ لَهُمْ: "لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ". فَلَوْ كَانَ الْوُقُوفُ بِهَا فَرْضًا لَمَا رَخَّصَ لَهُمْ فِي تَرْكِهِ لِلضَّعْفِ، كَمَا لَا يُرَخِّصُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِأَجْلِ الضَّعْفِ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَقَفُوا لَيْلًا وَهُوَ وَقْتُ الْوُقُوف بِهَا، وَرَوَى سَالِمُ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ رَوَى حَدِيثَ تَقْدِيمِ ضَعَفَةِ النَّاسِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ: فَكَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَدْفَعُونَ قِيلَ لَهُ: وَقْتُ الْوُقُوف بِهَا بَعْد طُلُوع الْفَجْر، وَقَدْ نقل الناس وقوف النبي عليه السلام بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ

الْفَجْرِ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِالْوُقُوفِ حِينَ عَجَّلَهُمْ مِنْهَا لَيْلًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ الْوُقُوفِ لَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي تَرْكِهِ مَعَ إمْكَانِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ; وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ لَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا: إنَّ هَذَا وَقْتُ الْوُقُوفِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لِلذِّكْرِ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى مِنًى. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَنَّا وَجَدْنَا سَائِرَ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا وَقْتُهَا بِالنَّهَارِ، وَاللَّيْلُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَ الْوُقُوفَ بِهَا فَرْضًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ مُطْرَفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرَّسٍ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا، وَالْإِمَامُ وَاقِفٌ فَوَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَفَاضَ مَعَ النَّاسِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ فَلَا حَجَّ لَهُ"، وَبِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ، فَأَقْبَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ، فَقَالَ: "الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ وَمَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا قَبْلَ الصُّبْحِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ". فَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالذِّكْرِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُنَاكَ غَيْرُ مَفْرُوضٍ، فَإِنَّ تَرْكَهُ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْحَجِّ، وَلَيْسَ لِلْوُقُوفِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ هُوَ فِعْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ هُنَاكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُطْرَفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ خَمْسَةٌ مِنْ الرُّوَاةِ غَيْرُ مُطْرَفٍ، مِنْهُمْ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ وَسَيَّارُ وَغَيْرُهُمْ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرُوا فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَأَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَةَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَنَّهُ قَالَ فَلَا حَجَّ لَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَلِكَ الْوُقُوفُ. وَقَوْلُهُ: "فَلَا حَجَّ لَهُ" يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الْفَضْلِ لَا نَفْيَ الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ"، وَكَمَا رَوَى عُمَرُ "مَنْ قَدَّمَ نَفْلَهُ فَلَا حَجَّ لَهُ". وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِيهِ: "مَنْ وَقَفَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ

الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي شَرْطِ إدْرَاكِ الْحَجِّ، وَأَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى "مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا قَبْلَ الصُّبْحِ" وَهْمٌ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَهْمًا وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقُوفَهُ بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا بِالْوُقُوفِ بِهَا لَيْلًا؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ عَارَضَتْهُ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رُوِيَتْ مِنْ قَوْلِهِ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ ثُمَّ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ" وَسَائِرُ أَخْبَارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ" وَذَلِكَ يَنْفِي رِوَايَةَ مَنْ شَرَطَ مَعَهُ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَأَظُنُّ الْأَصَمَّ وَابْنَ عُلَيَّةَ الْقَائِلَيْنِ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَاحْتَجُّوا فِيهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْحَجِّ وُقُوفَانِ وَاتَّفَقْنَا عَلَى فَرْضِيَّةِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ فَرْضًا; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَهُمَا فِي الْقُرْآنِ; كَمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الرُّكُوعَ، وَالسُّجُودَ كَانَا فَرْضَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا قَوْلُكَ إنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مَذْكُورَيْنِ فِي الْقُرْآن كَانَا فَرْضَيْنِ فَإِنَّهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ فَرْضًا، وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْوُقُوفَ وَإِنَّمَا قَالَ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، وَالذِّكْرُ لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْوُقُوفُ فَرْضًا؟ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ. فَإِنْ كَانَ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذَا الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ; وَيُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَسَعَى، ثُمَّ طَافَ أَيْضًا يَوْمَ النَّحْرِ وَطَافَ لِلصَّدْرِ وَأَمَرَ بِهِ؟ فَهَلْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الطَّوَافِ كُلِّهِ حُكْمٌ وَاحِدٌ فِي بَابِ الْإِيجَابِ؟ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الطَّوَافِ نَدْبًا وَبَعْضُهُ وَاجِبًا، فَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْوُقُوفِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ بَعْضُهُ نَدْبًا وَبَعْضُهُ وَاجِبًا؟ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قَضَاءُ الْمَنَاسِك هُوَ فِعْلُهَا عَلَى تَمَامٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [النساء: 103] وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" يَعْنِي افْعَلُوهُ عَلَى التَّمَامِ. وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأَذْكَارُ الْمَفْعُولَةُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِ الْمَنَاسِك، كَقَوْلِهِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، عَلَى مَجْرَى قَوْلِهِمْ: "إذَا حَجَجْتَ فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَإِذَا أَحْرَمْتَ فَاغْتَسِلْ، وَإِذَا صَلَّيْتَ فَتَوَضَّأْ" وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وَإِنَّمَا هُوَ قَبْلَ الصَّلَاةِ; وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الْأَذْكَارَ الْمَسْنُونَةَ بِعَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ

وَعِنْدَ الرَّمْيِ، وَالطَّوَافِ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَيَذْكُرُونَ مَآثِرَهُمْ وَمَفَاخِرَ آبَائِهِمْ، فَأَبْدَلَهُمْ اللَّهُ بِهِ ذِكْرَهُ وَشُكْرَهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إلَّا بِالتَّقْوَى" ثُمَّ تَلَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَكَانَ خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى حَالٍ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي ذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ أَيَّام مِنًى وَالنَّفْر فِيهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ عَنْ بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ". وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَيَانٌ لِمُرَادِ الآية في قوله: {أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، إلَّا شَيْءٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْمَعْدُودَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَاذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَعْلُومَاتِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِي ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّحْرِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِرَمْيِ الْجِمَارِ الْمَفْعُولِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَاذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَعْلُومَاتُ: الْعَشْرُ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ أَيَّامُ التَّشْرِيقُ، وَالْمَعْدُودَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ التَّشْرِيقُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى: أَخْبَرْنَا عُمَارَةُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعْدُوَّاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ فَقَوْلُهُ: الْمَعْدُودَاتُ إنَّهَا أَيَّامُ الْعَشْرِ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ خَطَأٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَلَيْسَ فِي الْعَشْرِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمَيْنِ دُونَ الثَّلَاثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ، وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ، وَالْمَعْدُودَاتِ

أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ إلَى أَبِي يُوسُفَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبُو يُوسُفَ جَوَابَ كِتَابِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَذْهَبُ; لِأَنَّهُ قَالَ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28 – 34] ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَحْمَدَ الْقَارِي عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ; وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ: يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَحَصَلَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْقَارِي عَنْ مُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورُ وقَوْله تَعَالَى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28 - 34] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيَّامُ النَّحْرِ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ: لِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَقَوْلِهِ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، وَالْمَعْنَى: لِمَا هَدَاكُمْ. وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا أَيَّامَ الْعَشْرِ; لِأَنَّ فِيهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِيهِ الذَّبْحُ، وَيَكُونُ بِتَكْرَارِ السِّنِينَ عَلَيْهِ أَيَّامًا. وَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْمَعْلُومَات بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي بَابِ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ; لِأَنَّ وَصَفَهَا بِالْمَعْدُودَاتِ دَلَالَةُ التَّقْلِيلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْعَدَدِ إذَا أُرِيدَ بِهِ التَّقْلِيلُ; لِأَنَّهُ يَكُونُ نَقِيضَ كَثْرَةٍ; فَهُوَ كَقَوْلِك: قَلِيلٌ وَكَثِيرٌ; فَعُرِفَتْ الْمَعْدُودَاتُ بِالتَّقْلِيلِ، وَقِيلَ لِلْأُخْرَى مَعْلُومَاتٌ فَعُرِفَتْ بِالشُّهْرَةِ; لِأَنَّهَا عَشَرَةٌ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا إذَا رَمَى الْجِمَارَ وَيَنْفِرَ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِيهِ ثُمَّ يَنْفِرُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَنْفِرَ فَلَا يَنْفِرُ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنْ الْغَدِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إذَا رَمَى وَقْتَ الظُّهْرِ كُلَّهُ، فَإِنْ أَدْرَكَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِمِنًى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْفِرَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُصْبِحَ بِمِنًى فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ أَقَامَ بِمِنًى إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّفْرُ حَتَّى يَرْمِيَ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِإِقَامَتِهِ بِمِنًى إلَى أَنْ يُمْسِيَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي تَلِي الْيَوْمَ

الثَّانِيَ هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ حُكْمُهَا حُكْمُهُ، وَلَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ الَّذِي بَعْدَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ رَمَاهُ فِي لَيْلَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُؤَخِّرًا لَهُ عَنْ وَقْتِهِ؟ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا، فَكَانَ حُكْمُ اللَّيْلَةِ حُكْمَ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهَا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا حُكْمَ الَّذِي بَعْدَهَا; فَلِذَلِكَ قَالُوا: إنَّ إقَامَتَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِمِنًى إلَى أَنْ يُمْسِيَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهِ بِهَا نَهَارًا، وَإِذَا أَقَامَ حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَزِمَهُ الرَّمْيُ بِلَا خِلَافٍ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَجْوِيزِهِ رَمْيَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ; إذْ قَدْ صَارَ وَقْتًا لِلُزُومِ الرَّمْيِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِوُجُوبِهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ وَذُنُوبِهِ بِالْحَجِّ الْمَبْرُورِ; وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيلِ; وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ التَّأْخِيرُ. وَقَوْلُهُ: {لِمَنِ اتَّقَى} يَحْتَمِلُ لِمَنْ اتَّقَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ بِقَوْلِهِ: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وَإِنْ لَمْ يَتَّقِ فَغَيْرُ مَوْعُودٍ بِالثَّوَابِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ وَمَا يُبْدِيهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَأْكِيدِ مَا يُظْهِرُهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ مَا يُعْجِبُكَ ظَاهِرُهُ {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ضَمَائِرَهُمْ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ أَقْوَالِهِمْ، وَجَعَلَهُ عِبْرَةً لَنَا فِي أَمْثَالِهِمْ لِئَلَّا نَتَّكِلَ عَلَى ظَاهِرِ أُمُورِ النَّاسِ وَمَا يُبْدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا، فَلَا نَقْتَصِرُ فِيمَا أُمِرْنَا بِائْتِمَانِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْإِنْسَانِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءَ حَالِ مَنْ يُرَادُ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فِي أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ ظَاهِرَهُمْ حَتَّى يَسْأَلَ وَيَبْحَثَ عَنْهُمْ; إذْ قَدْ حَذَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَمْثَالَهُمْ فِي تَوْلِيَتِهِمْ عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} ؟ فَكَانَ ذِكْرُ التَّوَلِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى ظَاهِرِ مَا يُظْهِرُهُ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ لِحَالِهِ مِنْ غَيْرِ جهته.

قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وَهُوَ وَصْفٌ لَهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الْخُصُومَةِ، وَالْفَتْلِ لِلْخَصْمِ بِهَا عَنْ حَقِّهِ وَإِحَالَتِهِ إلَى جَانِبِهِ; وَيُقَالُ: لَدَّهُ عَنْ كَذَا إذَا حَبَسَهُ; وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ"، فَكَانَ مَعْنَى قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أَنَّهُ أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ خُصُومَةً. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} نَصَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْل الْإِجْبَارِ; لِأَنَّ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهُوَ لَا يُرِيدُهُ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ فَهُوَ لَا يُحِبُّهُ; فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَهَذَا يُوجِب أَنْ لَا يَفْعَل الْفَسَادَ; لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ مُرِيدًا لَهُ وَمُحِبًّا لَهُ; وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ فِعْلَ الظُّلْمِ; لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ مُرِيدًا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُرِيدُ. وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِكَوْنِ الْفِعْلِ هِيَ إرَادَتَهُ لَهُ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحِبَّ كَوْنَهُ وَلَا يُرِيدَ أَنْ يَكُونَ، بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ; وَهَذَا هُوَ التَّنَاقُضُ، كَمَا لَوْ قَالَ: "يُرِيدُ الْفِعْلَ وَيَكْرَهُهُ" لَكَانَ مُنَاقِضًا مُخْتَلًّا فِي كَلَامِهِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] ، وَالْمَعْنَى: "إنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلَاثًا وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ; وَكَرِهَ لَكُمْ الْقِيلَ وَالْقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"، فَجَعَلَ الْكَرَاهَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ مَا أَرَادَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ، كَمَا أَنَّ مَا كَرِهَهُ فَلَمْ يُرِدْهُ; إذْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِرَادَةِ كَمَا هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ نَقِيضًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِرَادَةِ، وَالْمَحَبَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. قَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فَإِنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْمَنِيعُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ; لِأَنَّ أَصْلَ الْعِزَّةِ الِامْتِنَاعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَرْضٌ عَزَازٌ، إذَا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً بِالشِّدَّةِ، وَالصُّعُوبَةِ. وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَالِمُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَزَلْ حَكِيمًا وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: مِنْ الْفِعْل الْمُتْقَن الْمُحْكَمِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَزَلْ حَكِيمًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا فَوَصْفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ، وَالسَّفَهَ، وَالْقَبَائِحَ وَلَا يُرِيدُهَا; لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَقْلِ; وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِرَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ

آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] . وَإِنَّمَا كَانَ مُتَشَابِهًا لِاحْتِمَالِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، وَإِتْيَانُ اللَّهِ وَاحْتِمَالُهُ أَنْ يُرِيدَ أَمْرَ اللَّهِ وَدَلِيلَ آيَاتِهِ، كَقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] فَجَمِيعُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ وَلَا الْمَجِيءُ وَلَا الِانْتِقَالُ وَلَا الزَّوَالُ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَدَلَالَاتِ الْحَدَثِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ مُحْكَمَةٍ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وَجَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا شَهِدَهُ مِنْ حَرَكَاتِ النُّجُومِ وَانْتِقَالِهَا وَزَوَالِهَا دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِهَا، وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] يَعْنِي فِي حَدَثِ الْكَوَاكِبِ، وَالْأَجْسَامِ; تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "جَاءَ رَبُّك" بِمَعْنَى جَاءَ كِتَابُهُ، أَوْ جَاءَ رَسُولُهُ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا مَجَازٌ، وَالْمُجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وَهُوَ يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وَهُوَ يَعْنِي، أَوْلِيَاءَ اللَّهِ. وَالْمَجَازُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، أَوْ فِيمَا لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْأُمُورُ كُلُّهَا قَبْلَ أَنْ يُمَلِّكَ الْعِبَادَ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ خَاصَّةً، ثُمَّ مَلَّكَهُمْ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ، ثُمَّ تَكُونُ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي الْآخِرَةِ إلَيْهِ دُونَ خَلْقِهِ، جَازَ أَنْ يَقُولَ: تُرْجَعُ إلَيْهِ الْأُمُورُ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53] يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ، لَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكِنْ إلَيْهِ ثُمَّ صَارَتْ إلَيْهِ، لَكِنْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ: وَمَا الْمَرْءُ إلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّهُ يَصِيرُ رَمَادًا لَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَمَادًا مَرَّةً ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ. قَوْله تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} الْآيَةَ، قِيلَ فِيهِ: إنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهُمْ قَلِيلُونَ فِي نَفْسِهِمْ، وَجَائِزٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ إطْلَاقُ اسْمِ الْأُمَّةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لِانْصِرَافِهِ

إلَى الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا. وَقَوْلُهُ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاوُسٍ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ قَبْلَنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، وَلِلْيَهُودِ غَدٌ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْوَهُ; إلَّا أَنَّهُ قَالَ: "هَدَانَا اللَّهُ لَهُ، يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ; وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي سَائِرَ الْحَقِّ الَّذِي هُدِيَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَحَدَهَا; وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ مَنْ يُبْدَأُ بِهِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الْآيَةَ. فَالسُّؤَالُ وَاقِعٌ عَنْ مِقْدَارِ مَا يُنْفَقُ، وَالْجَوَابُ صَدَرَ عَنْ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ مَعَ بَيَانِ مَنْ تُصْرَفُ إلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} فَذَاكَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ لِشُمُولِ اسْمِ الْخَيْرِ لِجَمِيعِ الْإِنْفَاقِ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَبَيَّنَ فِيمَنْ تُصْرَفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ فِي مَنْزِلَتِهِمْ بِالْقُرْبِ وَالْفَقْرِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا يَفْضُل عَنْ أَهْلِك، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَفْوُ الْفَضْلُ". فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ; وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قال عليه السلام: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى" وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَارٌ فِي التَّبْدِئَةِ بِالْأَقْرَبِ فِي النَّفَقَةِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ; أُمُّكَ وَأَبُوكَ وَأُخْتُكَ وَأَخُوكَ وَأَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ"; وَرَوَى مِثْلَهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ زَهْدَمٍ وَطَارِقٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ فِي الْإِنْفَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا، وَأَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عَامَّةٌ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، أَمَّا الْفَرْضُ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْوَالِدَيْنِ

وَلَا الْوَلَدَ، وَإِنْ سَفَلُوا لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهُمَا مَعَ فَرْضِ الزَّكَاةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ الْحُكْمُ بِنَسْخِهَا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الْآيَاتِ مَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ جَمِيعِهَا فِي أَحْكَامِهَا مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ نَسْخٍ لَهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا الْحُكْمُ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ النَّفَقَةَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْضُلُ; فَإِذَا كَانَ هُوَ وَعِيَالُهُ مُحْتَاجِينَ لَا يَفْضُلُ عَنْهُمْ شَيْءٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ مِنْ النَّفَقَةِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إذَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ; وَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ الصَّدَقَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ وَالْفُرُوضِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، أَوْلَى بِذَلِكَ، بقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} مَعَ بَيَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُرَادِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: "ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ وَأَدْنَاكَ فَأَدْنَاك" وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ نَفَقَةُ الْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَجَمِيعِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهَا ذَلِكَ، وَخَصَّصْنَا بَعْضَهَا مِنْ النَّفَقَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا الْأَقَارِبُ بِدَلَالَةٍ، وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُزَاحِمِ بْنِ زُفَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "دِينَارٌ أَعْطَيْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَعْطَيْتَهُ مِسْكِينًا، وَدِينَارٌ أَعْطَيْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، فَإِنَّ الدِّينَارَ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا". وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ مُزَاحِمِ بْنِ زُفَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً" فَهَذِهِ الْآثَارُ مُوَافِقَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْفَضْلُ عَنْ الْغِنَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: "الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ الْعَفْوُ مَا فَضَلَ فَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِيمَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ وَحَصَلَ بِهِ الْغِنَى، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ التَّطَوُّعَ، فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ

وَعِيَالِهِ، وَالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَفْضُلُ يَصْرِفُهُ إلَى الْأَجَانِبِ. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَسَائِرَ الصَّدَقَاتِ لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ الْعَفْوِ، وَالْفَاضِلِ عَنْ الغنى. قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} هَذَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْقِتَالِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} بِمَعْنَى فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 186] ثُمَّ لَا يَخْلُو الْقِتَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَعْهُودٍ قَدْ عَرَفَهُ الْمُخَاطَبُونَ، أَوْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى مَعْهُودٍ; لِأَنَّ الْأَلِفَ، وَاللَّامَ تَدْخُلَانِ لِلْجِنْسِ، أَوْ لِلْمَعْهُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ قِتَالًا قَدْ عَرَفُوهُ رَجَعَ الْكَلَامُ إلَيْهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَقَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] . فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِقِتَالٍ عَلَى وَصْفٍ، وَهُوَ أَنْ نُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ إذَا قَاتَلُونَا، فَيَكُونَ حِينَئِذٍ كَلَامًا مَبْنِيًّا عَلَى مَعْهُودٍ قَدْ عُلِمَ حُكْمُهُ مُكَرَّرٌ ذِكْرُهُ تَأْكِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا إلَى مَعْهُودٍ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ وُرُودِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنَا بِقِتَالِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ، وَمَا لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ فَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ. وَسَنُبَيِّنُ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ وَكَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ مَصِيرِنَا إلَى قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} مَعْنَاهُ: مَكْرُوهٌ لَكُمْ; أُقِيمَ فِيهِ الْمَصْدَرُ مَقَامَ المفعول، كقولك: "فلان رضى" أي: مرضي. وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَنَظِيرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مِثْلِهِ قَوْلُهُ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إلَّا أَنْ يُغْزَى، فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حُكْمُهُ بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ; وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ

ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا لَهُمْ إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَغْزُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ غَزَوْهُمْ بَعْدُ فِيهِ. قَالَ: فَحَلَفَ لِي مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، قَالَ: وَمَا نُسِخَتْ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ الْقِتَالَ جَائِزٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَالْأَوَّلُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ حَظْرِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ هُمْ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْعَيْبِ لِلْمُسْلِمِينَ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْمُسْلِمُونَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا كَيْفَ الْحُكْمُ فِيهِ". وَقِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ قَتْلُ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ مُشْرِكًا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَقَاءَ حَظْرِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَأَرَى الْمُشْرِكِينَ مُنَاقَضَةً بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ اسْتِعْظَامِهِمْ الْقَتْلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، مَعَ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْإِجْرَامِ وَمَعَ إخْرَاجِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْهُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ; لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْمَسْجِدَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِعِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ فِيهِ، فَجَعَلُوهُ لِأَوْثَانِهِمْ وَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْرَجُوا أَهْلَهُ مِنْهُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ; لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْكُفَّارِ، فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ أَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ هَذَا الْإِجْرَامِ أَوْلَى بِالْعَيْبِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَوْ لَمْ يَرِدْ غَيْرُهَا فِي تَحْرِيمِهَا لَكَانَتْ كَافِيَةً مُغْنِيَةً وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، وَالْإِثْمُ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِثْمَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إخْبَارِهِ بِأَنَّ فِيهَا إثْمًا حَتَّى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ كبير، تأكيدا لحظرها. وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَتِهَا; لِأَنَّ الْمُرَادَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا; وَإِنَّ فِي سَائِر الْمُحَرَّمَاتِ مَنَافِعَ لِمُرْتَكِبِيهَا فِي دُنْيَاهُمْ، إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ لَا تَفِي بِضَرَرِهَا مِنْ

الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِارْتِكَابِهَا. فَذِكْرُهُ لِمَنَافِعِهَا غَيْرُ دَالٍّ عَلَى إبَاحَتِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَكَّدَ حَظْرَهَا مَعَ ذِكْرِ مَنَافِعِهَا بِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} يَعْنِي أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِمَا مِنْ الْعِقَابِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ الْعَاجِلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْهُمَا. وَمِمَّا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُسْكِرْ مِنْهَا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُسْكِرُ مِنْهَا; لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرْضًا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، فَكُلُّ مَا أَدَّى إلَى الْمَنْعِ مِنْهَا فَهُوَ مَحْظُورٌ، فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مَمْنُوعَةً فِي حَالِ السُّكْرِ وَكَانَ شُرْبُهَا مُؤَدِّيًا إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، كَانَ مَحْظُورًا; لِأَنَّ فِعْلَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْفَرْضِ مَحْظُورٌ. وَمِمَّا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ مِمَّا لَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ذِكْرَ تَحْرِيمِهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 91] وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ إلَّا فِيمَا كَانَ مَحْظُورًا مُحَرَّمًا، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 91] وَذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي لُزُومَ اجْتِنَابِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَمَعْنَاهُ: فَانْتَهُوا. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي قوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ مِنْهَا; لِأَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ مَا يَلْحَقُ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالسُّكْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالْمُوَاثَبَةِ، وَالْقِتَال، فَإِذَا حَصَلَ الْمَأْثَمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ وَفَّيْنَا ظَاهِرَ الْآيَةِ مُقْتَضَاهَا مِنْ التَّحْرِيمِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ مِنْهَا. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ فِي مَضْمُونِ قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ضَمِيرُ شُرْبِهَا; لِأَنَّ جِسْمَ الْخَمْرِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَأْثَمَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَأْثَمُ مُسْتَحَقٌّ بِأَفْعَالِنَا فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الشُّرْبُ مُضْمَرًا كَانَ تَقْدِيرُهُ: فِي شُرْبِهَا وَفِعْلِ الْمَيْسِرِ إثْمٌ كَبِيرٌ، فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْهَا، وَالْكَثِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لَكَانَ مَعْقُولًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شُرْبُهَا، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَحْرِيمَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قَالَ: الْمَيْسِرُ: هُوَ الْقِمَارُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّة يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ. قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قَالَ: "كَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا

صَلَّوْا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، ثُمَّ إنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرِبُوهَا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَكَلَّمُوا بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، قَالَ: فَالْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ، وَالْأَنْصَابُ: الْأَوْثَانُ، وَالْأَزْلَامُ: كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ" فَنَزَلَتْ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا، إنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَتُذْهِبُ الْعَقْلَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَ الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: شُرِبَتْ الْخَمْرَ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْبَقَرَةِ وَبَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلَاةُ، فَإِذَا حَضَرَتْ تَرَكُوهَا، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] ، فَانْتَهَى الْقَوْمُ عَنْهَا فَلَمْ يَعُودُوا فِيهَا. فَمِنْ النَّاس مَنْ يَظُنّ أَنَّ قَوْلَهُ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لَمْ يَدُلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَالًّا لَمَا شَرِبُوهُ، وَلَمَا أَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَا سَأَلَ عُمَرُ الْبَيَانَ بَعْدُ. وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ عِنْدَنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ الْإِثْمَ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّمَا ذَهَبُوا عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ بِالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَرَامًا لَمَا أَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شُرْبِهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ عِلْمُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُرْبِهَا وَلَا إقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ بَعْد عِلْمِهِ. وَأَمَّا سُؤَالُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَيَانًا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ مَسَاغٌ، وَقَدْ عَلِمَ هُوَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّهُ سَأَلَ بَيَانًا يَزُولُ مَعَهُ احْتِمَالُ التَّأْوِيلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ النَّقْلِ فِي أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بِالْمَدِينَةِ وَيَتَبَايَعُونَ بِهَا مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، إلَى أَنْ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى. فَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَقُولُ: إنَّ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] ، وَقَدْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً قَبْلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ، بِقَوْلِهِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]

وَأَنَّ بَعْضَ مَنَافِعِهَا قَدْ كَانَ مُبَاحًا وَبَعْضَهَا مَحْظُورًا بِقَوْلِهِ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إلى أن أتم تحريمها بقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَقَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حُكْمِ الْآيَات مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيم. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: اسْمُ الْخَمْرِ فِي الْحَقِيقَةِ يَتَنَاوَلُ النِّيَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ. وَزَعَمَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَهُوَ خَمْرٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بَالِنِي الْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ إنْ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَمُشَبَّهٌ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَشْوَانَ فَقَالَ لَهُ: "أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ " فَقَالَ: مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: "فَمَاذَا شَرِبْتَ؟ " قَالَ: الْخَلِيطَيْنِ; قَالَ: فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلِيطَيْنِ. فَنَفَى الشَّارِبُ اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُسَمَّى خَمْرًا مِنْ جِهَةِ لُغَةٍ، أَوْ شَرْعٍ لَمَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ; إذْ كَانَ فِي نَفْيِ التَّسْمِيَةِ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا حُكْمٌ نَفْيُ الْحُكْمِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى حَظْرِ مُبَاحٍ وَلَا عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مُنْتَفٍ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ إلَّا مِنْ النِّيّ الْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَلِيطَانِ لَا يُسَمَّيَانِ خَمْرًا مَعَ وُجُودِ قُوَّةِ الْإِسْكَارِ مِنْهُمَا عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْمَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَيَدُلَّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَلَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ الْغَطَفَانِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَشْرِبَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: "حَرَامٌ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ". قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَلَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ قَطَنٍ عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا حَرَامٌ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ". وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بِشَرَابٍ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَسْمِيَتِهِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا مِنْ

الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ، لِقَوْلِهِ: "وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ". وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ هُوَ مَا يَحْدُثُ عِنْدَهُ السُّكْرُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى السُّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَمَا فَصَلَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْخَمْرِ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهَا قِيَاسًا وَلَا اسْتِدْلَالًا; إذْ عَلَّقَ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِعَيْنِ الْخَمْرِ دُونَ مَعْنَى فِيهَا سِوَاهَا، وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا; لِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ سَاغَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بِعَيْنِهِ، بَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ مَنْصُوبًا عَلَى بَعْضِ أَوْصَافِهِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي فُرُوعِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ تَابِعًا لِلْوَصْفِ جَارِيًا مَعَهُ فِي مَعْلُولَاتِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ لَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْخَمْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ، وَالْعِنَبَةِ". فَقَوْلُهُ: "الْخَمْرُ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ، وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَاسْتَوْعَبَ بِهِ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يُسَمَّى بِهِ إلَّا وَقَدْ اسْتَغْرَقَهُ ذَلِكَ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ يُسَمَّى خَمْرًا. ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، هَلْ جَمِيعُ الْخَارِجِ مِنْهُمَا مُسَمًّى بِاسْمِ الْخَمْرِ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ مُسَمًّى بِاسْمِ الْخَمْرِ; لِأَنَّ الْعَصِيرَ وَالدِّبْسَ، وَالْخَلَّ وَنَحْوَهُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهُ خَمْرًا، عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بَعْضُ الْخَارِجِ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ. وَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْخَبَرِ، فَاحْتَجْنَا إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْخَارِجِ مِنْهُمَا، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْهُمَا وَتَسْمِيَتِهِ بِاسْمِ الْخَمْرِ. وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْخَمْرَ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ" أَحَدَهُمَا; فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُمَا جَمِيعًا. فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ هُوَ أَوَّلُ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْهُمَا; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ" بَعْضَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا; لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ بَعْضِهَا خَمْرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ خَارِجٍ مِنْهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ; لِأَنَّ "مِنْ" يَعْتَوِرُهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ، مِنْهَا التَّبْعِيضُ، وَمِنْهَا الِابْتِدَاءُ، كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ مِنْ الْكُوفَةِ وَهَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعْنَى مِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ابْتِدَاءِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَذَاكَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَصِيرَ الْمُشْتَدَّ. وَالدِّبْسَ السَّائِلَ مِنْ النَّخْلِ إذَا اشْتَدَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ شَيْئًا إنَّهُ عَلَى رُطَبِهَا وَتَمْرِهَا وَدِبْسِهَا; لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا مِنْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا من الابتداء.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ اسْمِ الْخَمْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ إلَّا مَا وَصَفْنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ وَابْنُ عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ السُّكْرُ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ التَّمْرِ; لِأَنَّ تِلْكَ كَانَتْ أَشْرِبَتَهُمْ; وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَمَا يَشْرَبُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ إلَّا الْبُسْرَ، وَالتَّمْرَ وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْتُ سَاقِيَ عُمُومَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَكَانَ شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَلَمَّا سَمِعُوا أَرَاقُوهَا. فَلَمَّا نَفَى ابْنُ عُمَرَ اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ كَانَتْ شَرَابَ الْعِنَبِ النِّيءِ الْمُشْتَدِّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهَا غَيْرُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي الْخَمْرَ سَبِيئَةً وَلَمْ تَكُنْ تُسَمِّي بِذَلِكَ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ تَمْرِ النَّخْلِ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تُجْلَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْر بِلَادِهَا; وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَعْشَى: وَسَبِيئَةٍ مِمَّا يُعَتِّقُ بَابِلُ ... كَدَمِ الذبيح سلبتها جريالها وَتَقُولُ: سَبَأْتُ الْخَمْرَ، إذَا شَرَيْتَهَا; فَنَقَلُوا الِاسْمَ إلَى الْمَشْرِيِّ بَعْد أَنْ كَانَ الْأَصْلُ إنَّمَا هُوَ بِجَلْبِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ عَلَى عَادَتِهَا فِي الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ حُجَّةٌ فِيمَا قَالَ مِنْهَا فَقَالَ: دَعْ الْخَمْرَ تَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا لِمَكَانِهَا فَإِنْ لَا تَكُنْهُ أَوْ يَكُنْهَا فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا فَجَعَلَ غَيْرَهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَخًا لَهَا بِقَوْلِهِ: "رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا لِمَكَانِهَا" وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُسَمَّى خَمْرًا لَمَا سَمَّاهُ أَخًا لَهَا. ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: "فَإِنْ لَا تَكُنْهُ أَوْ يَكُنْهَا فَإِنَّهُ أَخُوهَا" فَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ هُوَ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بِمَا وَصَفْنَا وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَا بَلْوَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِشُرْبِ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ التَّمْرِ، وَالْبُسْرِ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهَا بِالْخَمْرِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بَلْوَاهُمْ بِالْخَمْرِ خَاصَّةً قَلِيلَةً لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا عَرَفَ الْكُلُّ مِنْ الصَّحَابَةِ تَحْرِيمَ النِّيّ الْمُشْتَدِّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ شُرْبُ النَّبِيذِ الشَّدِيدِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَخْلَافِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَعْرِفُونَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَلَا يُسَمُّونَهَا بِاسْمِ الْخَمْرِ، بَلْ يَنْفُونَهُ عَنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا

يَقَعُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا; لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ شَارِبِ الْخَمْرِ وَأَنَّ جَمِيعَهَا مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَعَرَفُوا تَحْرِيمَهُ كَمَعْرِفَتِهِمْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ; إذْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ تَحْرِيمِهَا أَمَسَّ مِنْهَا إلَى مَعْرِفَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِعُمُومِ بَلْوَاهُمْ بِهَا دُونَهَا، وَمَا عَمَّتْ الْبَلْوَى مِنْ الْأَحْكَامِ فَسَبِيلُ وُرُودِهِ نَقْلُ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَمْ يُعْقَلْ بِهِ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَلَا عُقِلَ الْخَمْرُ اسْمًا لَهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا خَمْرٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ" وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْخَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْرِ، وَالْعِنَبِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ"، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوُهُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ"، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "كُلُّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ حَيْثُ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا كَانَ خَمْرُنَا يَوْمَئِذٍ إلَّا الْفَضِيخَ، فَحِينَ سَمِعُوا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ أَهْرَاقُوا الْأَوَانِيَ وَكَسَرُوهَا. وَقَالُوا: فَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ خَمْرًا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَأَنَسٌ، وَعَقَلَتْ الْأَنْصَارُ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ الْفَضِيخِ وَهُوَ نَقِيعُ الْبُسْرِ; وَلِذَلِكَ أَرَاقُوهَا وَكَسَرُوا الْأَوَانِيَ، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَحُجَّتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالتَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ كَثِيرُهُ فَهُوَ خَمْرٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهَا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْأَسْمَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ حَقِيقَةً لِنَفْسِهِ وَعِبَارَةً عَنْ مَعْنَاهُ، وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مَا سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ مَجَازًا، فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَوَاجِبٌ اسْتِعْمَالُهُ حَيْثُمَا وُجِدَ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ; نَظِيرُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 26 – 27] فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْإِرَادَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَقِيقَةً. وَنَظِيرُ الضَّرْبِ الثَّانِي قَوْلُهُ: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْإِرَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِع مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] فَاسْمُ الْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُطْلِقَ فِيهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] فَأَطْلَقَ اسْمَ الْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَجَازًا; لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْصَرُ الْعِنَبُ لَا الْخَمْرُ. وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ

الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] فَاسْمُ الْقَرْيَةِ فِيهَا حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُنْيَانَ. ثُمَّ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] مَجَازٌ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَهْلَهَا. وَتَنْفَصِلُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِأَنَّ مَا لَزِمَ مُسَمَّيَاتِهِ فَلَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ بِحَالٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَمَا جَازَ انْتِفَاؤُهُ عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ فَهُوَ مَجَازٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا قُلْتَ: إنَّهُ لَيْسَ لِلْحَائِطِ إرَادَةٌ كُنْتَ صَادِقًا وَلَوْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ شَيْئًا، وَالْإِنْسَانُ الْعَاقِلُ لَيْسَتْ لَهُ إرَادَةٌ كَانَ مُبْطِلًا فِي قَوْلِهِ؟ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْعَصِيرَ لَيْسَ بِخَمْرٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النِّيَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ مَاء الْعِنَبِ لَيْسَ بِخَمْرٍ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَالشَّرْعِ. وَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مَعْنَى أَسْمَاءِ الْمَجَازِ لَا تَتَعَدَّى بِهَا مَوَاضِعَهَا الَّتِي سُمِّيَتْ بِهَا، فَلَمَّا وَجَدْنَا اسْمَ الْخَمْرِ قَدْ يَنْتَفِي عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ سِوَى النِّيّ الْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَمْرٍ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ انْتِفَاءِ اسْمِ الْخَمْرِ عَمَّا وَصَفْنَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِنَشْوَانَ فَقَالَ: "أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ " فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَمَاذَا شَرِبْتَ؟ قَالَ: شَرِبْتُ الْخَلِيطَيْنِ; فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلِيطَيْنِ يَوْمَئِذٍ. فَنَفَى اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَمْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ فَنَفَى اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ أَشْرِبَةِ تَمْرِ النَّخْلِ مَعَ وُجُودِهَا عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ" وَهُوَ أَصَحُّ إسْنَادًا مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ; فَنَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِمَا خَمْرًا، إذْ كَانَ قَوْلُهُ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ" اسْمًا لِلْجِنْسِ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ; فَهَذَا الْخَبَرُ مُعَارِضٌ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ أَصَحُّ إسْنَادًا مِنْهُ. وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ كَافِرٌ وَأَنَّ مُسْتَحِلَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ، فَكَيْفَ بِأَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَمْرٍ فِي الْحَقِيقَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ خَلَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا يُسَمَّى خَلَّ خَمْرٍ، وَأَنَّ خَلَّ الْخَمْرِ هُوَ الْخَلُّ الْمُسْتَحِيلُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ. فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا انْتِفَاءَ اسْمِ الْخَمْرِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ تَسْمِيَتُهَا بِاسْمِ الْخَمْرِ فِي حَالٍ فَهُوَ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ السُّكْرِ مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاوَلهَا إطْلَاقُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا تَحْتَ إطْلَاقِ أَسْمَاءِ الْحَقَائِقِ; فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ "الْخَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ" مَحْمُولًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا السُّكْرُ، فَسَمَّاهَا بِاسْمِ الْخَمْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ; لِأَنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ عَمَلَ الْخَمْرِ فِي تَوْلِيدِ السُّكْرِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ إنما

تَسْتَحِقُّهَا فِي حَالِ تَوْلِيدِهَا السُّكْرَ قَوْلُ عُمَرَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَقَلِيلُ النَّبِيذِ لَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ; لِأَنَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ هُوَ مَا غَطَّاهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَجَازٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْطَوِيَ تَحْتَ إطْلَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمَّى فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ رَكِبَهُ لِفَزَعٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا فَسَمَّى الْفَرَسَ بَحْرًا; إذْ كَانَ جَوَادًا وَاسِعَ الْخَطْوِ؟ وَلَا يُعْقَلُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْبَحْرِ عَلَى الْفَرَسِ الْجَوَادِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: فَإِنَّك شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ ... إذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ وَلَمْ تَكُنْ الشَّمْسُ اسْمًا لَهُ وَلَا الْكَوَاكِبُ اسْمًا لِلْمُلُوكِ. فَصَحَّ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَاءِ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهَا مَجَازًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَاب تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ كَهِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. وَيُقَال: إنَّ اسْمَ الْمَيْسِرِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ مَا جَزَّأْتَهُ فَقَدْ يَسَّرْتَهُ; يُقَال لِلْجَازِرِ: الْيَاسِرُ; لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ الْجَزُورَ، وَالْمَيْسِرُ الْجَزُورُ نَفْسُهُ إذَا تَجَزَّى. وَكَانُوا يَنْحَرُونَ جَزُورًا وَيَجْعَلُونَهُ أَقْسَامًا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ عَلَى عَادَةٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ نَظَرُوا إلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّمَةِ فَيَحْكُمُونَ لَهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ أَسْمَاءُ الْقِدَاحِ; فَسُمِّيَ عَلَى هَذَا سَائِرُ ضُرُوبِ الْقِمَارِ مَيْسِرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ، وَالْجَوْزِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنْ الْمَيْسِرِ" وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عن أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ حِلَاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ أَكَلْت كَذَا وَكَذَا بَيْضَةً فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَارْتَفَعَا إلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: هَذَا قِمَارٌ; وَلَمْ يُجِزْهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ الْقِمَارِ وَأَنَّ الْمُخَاطَرَةَ مِنْ الْقِمَارِ; قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: إنَّ الْمُخَاطَرَةَ قِمَارٌ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُخَاطِرُونَ عَلَى الْمَالِ، وَالزَّوْجَةِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا إلَى أَنْ وَرَدَ تَحْرِيمُهُ. وَقَدْ خَاطَرَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيقُ المشركين حين نزلت:

{الم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 -2] وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زِدْ فِي الْخَطَرِ وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ" ثُمَّ حُظِرَ ذَلِكَ وَنُسِخَ بِتَحْرِيمِ الْقِمَارِ. وَلَا خِلَافَ فِي حَظْرِهِ إلَّا مَا رَخَّصَ فِيهِ مِنْ الرِّهَانِ فِي السَّبَقِ فِي الدَّوَابِّ، وَالْإِبِل، وَالنِّصَالِ إذَا كَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ وَاحِدًا إنْ سَبَقَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْآخَرُ إنْ سُبِقَ. وَإِنْ شَرَطَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا أَخَذَ وَمَنْ سَبَقَ أَعْطَى فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنْ أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا إنْ سَبَقَ اسْتَحَقَّ، وَإِنْ سُبِقَ لَمْ يُعْطَ فَهَذَا جَائِزٌ، وَهَذَا الدَّخِيلُ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَلِّلًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ: "لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ". وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ". وَإِنَّمَا خَصَّ ذَلِكَ; لِأَنَّ فِيهِ رِيَاضَةً لِلْخَيْلِ وَتَدْرِيبًا لَهَا عَلَى الرَّكْضِ، وَفِيهِ اسْتِظْهَارٌ وَقُوَّةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} رُوِيَ أَنَّهَا الرَّمْيُ {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] يَقْتَضِي جَوَازَ السَّبَقِ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ. وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ وَهُوَ الْقِمَارُ يُوجِب تَحْرِيمَ الْقُرْعَةِ فِي الْعَبِيدِ يُعْتِقُهُمْ الْمَرِيضُ ثُمَّ يَمُوتُ; لِمَا فِيهِ مِنْ الْقِمَارِ وَإِحْقَاقِ بَعْضٍ، وَإِنْجَاحِ بَعْضٍ; وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِمَارِ بِعَيْنِهِ. وَلَيْسَتْ الْقُرْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ كَذَلِكَ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْتَوْفِي نَصِيبَهُ لَا يُحَقِّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ; والله أعلم.

بَابُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْيَتِيمُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ يَتِيمًا مِنْ الْأُمِّ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ، وَقَدْ يَكُونُ يَتِيمًا مِنْ الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأُمِّ; إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْيَتِيمُ مِنْ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِطْلَاقُ فِي الْيَتِيمِ مِنْ الْأُمِّ إذَا كَانَ الْأَبُ بَاقِيًا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْتَامِ إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْفَاقِدُونَ لِآبَائِهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَلَا يُطْلَق ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيُتْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ اسْمٌ لِلْمُنْفَرِدِ تَسْمِيَتُهُمْ لِلْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ عَنْ الزَّوْجِ يَتِيمَةً سَوَاءً كَانَتْ كَبِيرَةً، أَوْ صَغِيرَةً; قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى وَتُسَمَّى الرَّابِيَةُ يَتِيمَةً لِانْفِرَادِهَا عَمَّا حَوَالَيْهَا; قَالَ الشَّاعِر يَصِفُ نَاقَتَهُ: قَوْدَاءُ يَمْلِكُ رَحْلَهَا ... مِثْلُ الْيَتِيمِ مِنْ الْأَرَانِبِ يَعْنِي الرَّابِيَةَ. وَيُقَالُ: دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ; لِأَنَّهَا مُفْرَدَةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا. وَكِتَابٌ لِابْنِ الْمُقَفَّعِ في

مَدْحِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ يُسَمَّى الْيَتِيمَةُ; قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: وَكُثَيِّرُ عَزَّةَ يَوْمَ بَيْنٍ يَنْسُبُ ... وَابْنُ الْمُقَفَّعِ فِي الْيَتِيمَةِ يُسْهِبُ وَإِذَا كَانَ الْيَتِيمُ اسْمًا لِلِانْفِرَادِ كَانَ شَامِلًا لِمَنْ فَقَدَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ صَغِيرًا، أَوْ كَبِيرًا، إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَقْدِ الْأَبِ فِي حَالِ الصِّغَرِ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَضُمُّوا الْيَتَامَى إلَيْهِمْ وَتَحَرَّجُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} ، قَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّه لِأَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ فَقَالَ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاءِ: 6] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابْتَغُوا بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الصَّدَقَةُ"، وَيُرْوَى ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَعَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ: "دَفْعُ مَالِ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةٌ، وَالتِّجَارَةُ بِهِ". وَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الْأَحْكَامِ، أَحَدُهَا قوله: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ خَلْطِ مَالِهِ بِمَالِهِ، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَى إذَا كَانَ ذَلِكَ صَلَاحًا، وَجَوَازُ دَفْعِهِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، وَجَوَازُ أَنْ يَعْمَلَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً أَيْضًا. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ وَذَلِكَ بِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْيَتِيمُ أَكْثَرُ قِيمَةً مِمَّا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ; وَيَبِيعُ أَيْضًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِلْيَتِيمِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْإِصْلَاحِ لَهُ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَهُ تَزْوِيجَ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْإِصْلَاحِ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا فِيمَنْ كَانَ ذَا نَسَبٍ مِنْهُ دُونَ الْوَصِيِّ الَّذِي لَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفْسَهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْوِلَايَةَ فِي التَّزْوِيجِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهُ وَيَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا لَهُ فِيهِ صَلَاحٌ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَالْأَدَبِ وَيَسْتَأْجِرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْ يُؤَاجِرَهُ مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ الصِّنَاعَاتِ، وَالتِّجَارَاتِ وَنَحْوَهَا; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي حِجْرِهِ مِنْ ذَوِي

الرحم لمحرم فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ لِيَعْلَمَ الصِّنَاعَاتِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. وَقَالُوا إنَّهُ إذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَلِمَنْ هُوَ فِي حِجْرِهِ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الصَّلَاحِ. فَظَاهِرُ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَى جَمِيعَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} إنَّمَا عُنِيَ بِالْمُضْمَرِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْأَلونَكَ} الْقُوَّامُ عَلَى الْأَيْتَامِ الْكَافِلِينَ لَهُمْ، وَذَلِكَ يَنْتَظِمُ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ; لِأَنَّ لَهُ إمْسَاكَ الْيَتِيمِ وَحَفِظَهُ وَحِيَاطَتَهُ وَحَضَانَتَهُ. وَقَدْ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} سَائِرَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ، وَالتَّقْوِيمِ، وَالتَّأْدِيبِ. وَقَوْلُهُ: {خَيْرٌ} قَدْ دَلَّ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا إبَاحَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْيَتَامَى مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ الثَّوَابُ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ خَيْرًا وَمَا كَانَ خَيْرًا فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِهِ الثَّوَابُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ وَإِنَّمَا وَعَدَ بِهِ الثَّوَابَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِالتِّجَارَةِ وَلَا هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى تَزْوِيجِهِ; لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ النَّدْبُ والإرشاد. وقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فِيهِ إبَاحَةُ خَلْطِ مَالِهِ بِمَالِهِ، وَالتِّجَارَةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَهُ أَنْ يُخَالِطَ الْيَتِيمَ بِنَفْسِهِ فِي الصِّهْرِ، وَالْمُنَاكَحَةِ وَأَنْ يُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، أَوْ يُزَوِّجَ الْيَتِيمَةَ بَعْضَ وَلَدِهِ، فَيَكُونُ قَدْ خَلَطَ الْيَتَامَى بِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَاخْتَلَطَ هُوَ بهم فقد انتظم قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} إبَاحَةَ خَلْطِ مَالِهِ بِمَالِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَجَوَازَ تَزْوِيجِهِ بَعْضَ وَلَدِهِ وَمَنْ يَلِي عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ خَلَطَهُ بِنَفْسِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُخَالَطَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ خَلِيطُ فُلَانٍ إذَا كَانَ شَرِيكًا، وَإِذَا كَانَ يُعَامِلُهُ وَيُبَايِعُهُ وَيُشَارِيهِ وَيُدَايِنُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا. وَكَذَلِكَ يُقَالُ: قَدْ اخْتَلَطَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إذَا صَاهَرَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلْطَةِ الَّتِي هِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِيهَا. وَهَذِهِ الْمُخَالَطَةُ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ الْإِصْلَاحِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُهُ ذِكْرَ الْإِصْلَاحِ فِيمَا أَجَابَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمُخَالَطَةِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} . وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ انْتَظَمَتْ جَوَازَ خَلْطِهِ مَالَ الْيَتِيمِ بِمَالِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الْيَتِيمَ يَأْكُلهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ فِي

الْأَسْفَارِ فَيُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مَعْلُومًا فَيَخْلِطُونَهُ ثُمَّ يُنْفِقُونَهُ وَقَدْ يَخْتَلِفُ أَكْلُ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ فَهُوَ فِي مَالِ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ بِطِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ أَجْوَزُ; وَنَظِيرُهُ فِي تَجْوِيزِهِ الْمُنَاهَدَةَ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} [الكهف: 19] فَكَانَ الْوَرِقُ لَهُمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ: بِوَرِقِكُمْ فَأَضَافَهُ إلَى الْجَمَاعَةِ وَأَمْرَهُ بِالشِّرَاءِ لِيَأْكُلُوا جميعا منه. وقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قَدْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْمُشَارَكَةِ، وَالْخُلْطَةِ، عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمَا يَتَحَرَّى فِيهِ الْإِصْلَاحَ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِخْوَانُكُمْ} قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ; إذْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى مَعُونَةِ أَخِيهِ وَتَحَرِّي مَصَالِحِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" فَقَدْ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: {فَإِخْوَانُكُمْ} الدَّلَالَةَ عَلَى النَّدْبِ، وَالْإِرْشَادِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِمَا يَلِيهِ منه. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} يَعْنِي بِهِ لِضَيَّقَ عَلَيْكُمْ فِي التَّكْلِيفِ فَيَمْنَعُكُمْ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ، وَالتَّصَرُّفِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَأَمَرَكُمْ بِإِفْرَادِ أَمْوَالِكُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ لَأَمَرَكُمْ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ بِالتَّصَرُّفِ لَهُمْ وَطَلَبِ الْأَرْبَاحِ بِالتِّجَارَاتِ لَهُمْ; وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ وَأَبَاحَ لَكُمْ التَّصَرُّفَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ وَوَعَدَكُمْ الثَّوَابَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُلْزِمْكُمْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ فَيُضَيِّقُ عَلَيْكُمْ، تَذْكِيرًا بِنِعَمِهِ وَإِعْلَامًا مِنْهُ الْيُسْرَ، وَالصَّلَاحَ لِعِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِخْوَانُكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُمْ إخْوَانًا لَنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . وَاَللَّهُ تعالى أعلم.

بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قَالَ: ثُمَّ اسْتَثْنَى أَهْلَ الْكِتَابِ فَقَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] ، قَالَ: عَفَائِفُ غَيْرُ زَوَانٍ. فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَنْكِحُوا

الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَأَنَّ الْكِتَابِيَّاتِ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْهُنَّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَر أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِطَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَرِهَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة قَالَ: إنَّ اللَّه حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ شَيْئًا أَكْبَرَ أَوْ قَالَ: أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ: رَبُّهَا عِيسَى، أَوْ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ. فَكَرِهَهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَذْكُرْ التَّحْرِيمَ، وَتَلَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي الْآيَةَ وَلَمْ يَقْطَعْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى شِرْكٌ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّا بِأَرْضٍ يُخَالِطُنَا فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَنَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ وَنَأْكُلُ طَعَامَهُمْ؟ قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ وَآيَةَ التَّحْرِيمِ، قَالَ: إنِّي أَقْرَأُ مَا تَقْرَأُ فَنَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ وَنَأْكُلُ طَعَامَهُمْ، قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ وَآيَةَ التَّحْرِيمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عُدُولُهُ بِالْجَوَابِ بِالْإِبَاحَةِ، وَالْحَظْرِ إلَى تِلَاوَةِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاقِفًا فِي الْحُكْمِ غَيْرَ قَاطِعٍ فِيهِ بِشَيْءِ، وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ كَمَا يُكْرَهُ تَزَوُّجُ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ; حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَنَافِعِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ مَوْلَى عَفْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ يَقُولُ: إنَّ عُثْمَانَ تَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ عَلَى نِسَائِهِ; وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ نَافِعٍ: أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً وَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إلَيْهِ حُذَيْفَةُ: أَحَرَامٌ هِيَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرْ: لَا، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تُوَاقِعُوا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ إبَاحَةُ تَزْوِيجِ الْكِتَابِيَّاتِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ; وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ تَحْرِيمَ نِكَاحِهِنَّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ مُحَرَّمًا وَإِنَّمَا فِيهِ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ، كَمَا رُوِيَ كَرَاهَةُ عُمَرَ لِحُذَيْفَةَ تَزْوِيجَ الْكِتَابِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ. وَقَدْ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَحُذَيْفَةُ الْكِتَابِيَّاتِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لَظَهَرَ مِنْهُمْ نَكِيرٌ، أَوْ خِلَافٌ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ.

وقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} غَيْرُ مُوجِبٍ لِتَحْرِيمِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ; أَحَدِهِمَا: أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْمُشْرِكَاتِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكِتَابِيَّاتُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] وَقَالَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي اللَّفْظِ. وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى شُمُولِ الِاسْمِ لِلْجَمِيعِ، وَأَنَّهُ أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّعْظِيمِ، أَوْ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فَأَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمَا مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ. إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَاقْتَضَى عَطْفُهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ مَقْصُورًا عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُمُومًا فِي الْجَمِيعِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَأَنْ لَا تُنْسَخَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] إنَّمَا أَرَادَ بِهِ اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] : {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] . قِيلَ لَهُ: هَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ دَالٌّ عَلَى غَبَاوَةِ قَائِلِهِ، وَالْمُحْتَجِّ بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ إذَا أُطْلِقَ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، وَلَا يُعْقَلُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمَ إلَّا بِتَقْيِيدِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ذَكَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَدْ انْتَظَمَ ذَكَرُ الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي كُنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمْنَ وَمَنْ كُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فِي الْأَصْل; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْمُحْصَنَاتِ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِنَّ وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طلحة

قَالَ: أَرَادَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ وَقَالَ: "إنَّهَا لَا تُحْصِنُك" قَالَ: فَظَاهِرُ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. فَيُقَالُ: إنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَقْطُوعٌ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِمِثْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي إيجَابِ نَسْخِهِ وَلَا تَخْصِيصِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِحُذَيْفَةَ تَزْوِيجَ الْيَهُودِيَّةِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "إنَّهَا لَا تُحْصِنُك" وَنَفْيُ التَّحْصِينِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِفَسَادِ النِّكَاحِ; لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تُحْصِنُهُ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَيَجُوزُ نِكَاحُهُمَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَزْوِيجِ الْكِتَابِيَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَحِلُّ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا كَانُوا حَرْبًا قَالَ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قَالَ الْحَكَمُ: فَحَدَّثْت بِهِ إبْرَاهِيمَ فَأَعْجَبَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَأَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ، وَأَصْحَابُنَا يَكْرَهُونَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَرِهَ نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْن الْحَرْبِيَّاتِ، وَالذِّمِّيَّاتِ; وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ وَلَا فَسَادِهِ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْقِتَالِ عِلَّةً لِفَسَادِ النِّكَاحِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ نِكَاحُ نِسَاءِ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِوُجُوبِ الْقِتَالِ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ مَا كَرِهَهُ أَصْحَابُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] ، وَالنِّكَاحُ يُوجِبُ الْمَوَدَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبُ الْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ وَنَهَانَا عَنْ مُوَادَّةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، كَرِهُوا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إنَّمَا هُوَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي حَدٍّ وَنَحْنُ فِي حَدٍّ، وَكَذَلِكَ الْمُشَاقَّةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا فِي شِقٍّ وَنَحْنُ فِي شِقٍّ، وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلِذَلِكَ كَرِهُوهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ وَلَدَهُ يُنَشَّأُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَخْلَاقِ أَهْلِهَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْمُشْرِكِينَ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ".

فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قَاصِرًا لِحُكْمِهِ عَلَى الذِّمِّيَّاتِ مِنْهُنَّ دُونَ الْحَرْبِيَّاتِ؟ قِيلَ لَهُ: الْآيَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ النَّهْيَ عَنْ الْوِدَادِ، وَالتَّحَابِّ، فَأَمَّا نَفْسُ عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِلْمُوَادَّةِ، وَالتَّحَابِّ، فَنَفْسُ الْعَقْدِ لَيْسَ هُوَ الْمُوَادَّةَ، وَالتَّحَابَّ إلَّا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ فَاسْتَحْسَنُوا لَهُ غَيْرَهُنَّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ عَقِيبَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ حَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ الذِّمِّيَّاتِ، وَالْحَرْبِيَّاتِ مِنْهُنَّ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ عِلَّةً مُوجِبَةً لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ غَيْرُ جَائِز إبَاحَتُهُنَّ بِحَالٍ، فَلَمَّا وَجَدْنَا نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ نَزَلَ تَحْرِيمُهُنَّ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ دُعَاءُ الْكَافِرِينَ لَنَا إلَى النَّارِ. دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِعِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ; وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ نُوحٍ وَامْرَأَةُ لُوطٍ كَافِرَتَيْنِ تَحْتَ نَبِيَّيْنِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] فَأَخْبَرَ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِمَا مَعَ وُجُودِ الْكُفْرِ مِنْهُمَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ; وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فَجَعَلَهُ عَلَمًا لِبُطْلَانِ نِكَاحهنَّ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَجُرِّي مَجْرَى الْعِلَل الشَّرْعِيَّةِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَأْكِيدٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مِنْ الِاسْمِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ كَتَخْصِيصِ الِاسْمِ. وَإِذَا كَانَ قَوْله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] يَجُوز بِهِ تَخْصِيصُ التَّحْرِيمِ الَّذِي عَلَقَ بِالِاسْمِ، جَازَ أَيْضًا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلَل الشَّرْعِيَّةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المائدة: 91] فَذَكَر مَا يَحْدُثُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ وَأَجْرَاهَا مَجْرَى الْعِلَّة; وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إجْرَاؤُهَا فِي مَعْلُولَاتهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَعُقُودِ الْمُدَايَنَات لِإِرَادَةِ الشَّيْطَان إيقَاعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَنَا فِي سَائِرهَا وَأَنْ يَصُدَّنَا بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِي سَائِر مَا وُجِدَ فِيهِ بَلْ كَانَ مَقْصُورَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَذْكُور دُونَ غَيْره كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ

الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنْصُوص عَلَيْهَا مِنْهَا وَالْمُقْتَضَيَةِ وَالْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، فَوَجَبَ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مَقْصُورًا فِيمَا وَصَفْنَا عَلَى الْمُشْرِكَات مِنْهُنَّ دُونَ غَيْرهنَّ، وَيَكُونَ ذِكْرُ دُعَائِهِمْ إيَّانَا إلَى النَّارِ تَأْكِيدًا لِلْحَظْرِ فِي الْمُشْرِكَات غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ إلَى سِوَاهُنَّ; لِأَنَّ الشِّرْكَ وَالدُّعَاءَ إلَى النَّار هُمَا عَلَمًا تَحْرِيمِ النِّكَاح وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِيَّاتِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمُحَارِبِينَ كَانُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِئَلَّا يُمَكَّنَ بِهِمْ إلَى مَوَدَّةِ أَهَالِيهِنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى التَّقْصِيرِ مِنْهُمْ فِي قِتَالِهِمْ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُوَادِّينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِتَرْكِ قِتَالهمْ. إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ الْحَرْبِيَّاتِ لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى حُكْمِ مَعْلُولِ هَذِهِ الْعِلَّة بِمَا قَدَّمْنَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّة; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَزْوِيجِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ بَدَلًا مِنْ الْحُرَّة الْمُشْرِكَة الَّتِي تُعْجِبهُمْ وَيَجِدُونَ الطَّوْل إلَيْهَا; وَوَاجِدُ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّة الْمُشْرِكَة هُوَ وَاجِده إلَى الْحُرَّة الْمُسْلِمَة، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنهمَا فِي الْعَادَةِ فِي الْمُهُور، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} وَلَا يَصِحّ التَّرْغِيبُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَة وَتَرْكِ الْحُرَّة الْمُشْرِكَةِ إلَّا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى تَزْوِيجِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ. وَيَدُلُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ عَامٌّ فِي وَاجِدِ الطَّوْلِ وَغَيْرِ وَاجِدِهِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} فَأَبَاحَ نِكَاحَهَا لِمَنْ حُظِرَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ، فَكَانَ عُمُومًا فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مُوجِبًا لِجَوَازِ نكاح الأمة للفريقين.

بَابُ الْحَيْضِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَالْمَحِيضُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْحَيْضِ نَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَالْمَقِيلِ وَالْمَبِيتِ هُوَ مَوْضِعُ الْقَيْلُولَةِ وَمَوْضِعُ الْبَيْتُوتَةِ. وَلَكِنْ فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحِيضِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْحَيْضُ، لِأَنَّ الجواب ورد بقوله: {هُوَ أَذىً} وَذَلِكَ صِفَةٌ لِنَفْسِ الْحَيْضِ لَا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ. وَكَانَتْ مَسْأَلَةُ الْقَوْمِ عَنْ حُكْمِهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ يُجَاوِرُونَهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا يَجْتَنِبُونَ مؤاكلة

النِّسَاءِ وَمُشَارَبَتَهُنَّ وَمُجَالَسَتَهُنَّ فِي حَالِ الْحَيْضِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا حُكْمَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بقوله هذا: {هُوَ أَذىً} يَعْنِي أَنَّهُ نَجَسٌ وَقَذَرٌ. وَوَصْفُهُ لَهُ بِذَلِكَ قَدْ أَفَادَ لُزُومَ اجْتِنَابِهِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِلُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ، فَأَطْلَقَ فِيهِ لَفْظًا عَقَلُوا مِنْهُ الْأَمْرَ بِتَجَنُّبِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَى اسْمٌ يَقَعُ عَلَى النَّجَاسَاتِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَصَابَ نَعْلَ أَحَدِكُمْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهَا بِالْأَرْضِ وَلْيُصَلِّ فِيهَا فَإِنَّهُ لَهَا طَهُورٌ" فَسَمَّى النَّجَاسَةَ أَذًى، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذىً} الْإِخْبَارَ عَنْ حَالِهِ فِي تَأَذِّي الْإِنْسَانِ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِنَجَاسَتِهِ وَلُزُومِ اجْتِنَابِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَذًى نَجَاسَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] وَالْمَطَرُ لَيْسَ بِنَجَسٍ، وَقَالَ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران: 186] وَإِنَّمَا كَانَ الْأَذَى الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عِبَارَةً عَنْ النَّجَاسَةِ وَمُفِيدًا لِكَوْنِهِ قَذَرًا يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، لِدَلَالَةِ الْخِطَابِ عليه ومقتضى سؤال السائلين عنه. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ مِنْ الْحَائِضِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ، وَوَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَتْهُ عَائِشَةُ وَمَيْمُونَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ وَهُنَّ حُيَّضٌ فَوْقَ الْإِزَارِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَ الْفَرْجِ مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ بَعْدَ أَنْ يَجْتَنِبَ شِعَارَ الدَّمِ; فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَالَا: يَجْتَنِبُ مَوْضِعَ الدَّمِ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالضَّحَّاكِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لَهُ مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قَدْ انْتَظَمَ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى حَظْرِ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي لُزُومَ اجْتِنَابِهَا فِيمَا تَحْتَ الْمِئْزَرِ وَفَوْقَهُ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا بِمَا فَوْقَهُ سَلَّمْنَاهُ لِلدَّلَالَةِ، وَحُكْمُ الْحَظْرِ قَائِمٌ فِيمَا دُونَهُ; إذْ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ قَوْلُهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} وَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إلَّا مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاق سَأَلُوا عُمَرَ عَمَّا يَحِلُّ لزوج

الْحَائِضِ مِنْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَأَلْت عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لَك مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ لَك مَا تَحْتَهُ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، فَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ؟. وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَمَنْ أَبَاحَ لَهُ مَا دُونَ الْمِئْزَرِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُخْرِجُونَ الْحَائِضَ مِنْ الْبَيْتِ وَلَا يُؤَاكِلُونَهَا وَلَا يُجَامِعُونَهَا فِي بَيْتٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ". وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: "نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ" فَقَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: "لَيْسَتْ حَيْضَتُك فِي يَدِكِ" قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي الْحَيْضِ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ الْحَيْضِ فِي الطَّهَارَةِ وَفِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ رَأَى حَظْرَ مَا دُونَ مِئْزَرِهَا، أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَا كَانَتْ الْيَهُودُ تَفْعَلُهُ، فَأَخْبَرَ عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا إخْرَاجُهَا مِنْ الْبَيْتِ وَتَرْكُ مُجَالَسَتِهَا. وَقَوْلُهُ: "اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ" جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ النِّكَاحِ وَالْمُجَامَعَةِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَاضٍ عَلَيْهِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثَ أَنَسٍ إخْبَارًا عَنْ حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ، وَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَمَّا يَحِلُّ مِنْهَا إلَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ إتْيَانِ الْحَائِضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّؤَالُ فِي حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ عَقِيبَهَا لَاكْتَفَى بِمَا ذَكَرَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ". وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُؤَالَ عُمَرَ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ حَدِيثُ عُمَرَ وَحَدِيثُ أَنَسٍ لَكَانَ حَدِيثُ عُمَرَ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَظْرِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَفِي ظَاهِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْإِبَاحَةُ، وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ إذَا اجْتَمَعَا فَالْحَظْرُ أَوْلَى. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ عُمَرَ يَعْضُدُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَخَبَرُ أَنَسٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، وَمَا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ مِنْ الْأَخْبَارِ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا يَخُصُّهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ أَنَسٍ مُجْمَلٌ عَامٌّ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ إبَاحَةِ مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وَخَبَرُ عُمَرَ مُفَسِّرٌ فِيهِ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْمَوْضِعَيْنِ مِمَّا تَحْتَ الْإِزَارِ وَمَا فَوْقَهُ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ بَيَانِ مَعْنَى الْحَيْضِ وَمِقْدَارِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَيْضُ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مِنْ الدَّمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا: تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَحَظْرُ الْجِمَاعِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَاجْتِنَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً. فَإِذَا تَعَلَّقَ بِوُجُودِ الدَّمِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كَانَ لَهُ مِقْدَارُ مَا سُمِّيَ حَيْضًا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لَمْ يُسَمَّ حَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ تَرَى الدَّمَ فِي أَيَّامِهَا وَبَعْدَ أَيَّامِهَا عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ مَا فِي أَيَّامِهَا مِنْهُ حَيْضًا لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ، وَمَا بَعْدَ أَيَّامِهَا فَلَيْسَ بِحَيْضٍ لِفَقْدِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ وُجُودِهِ؟ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْحَامِلِ: إنَّهَا لَا تَحِيضُ، وَهِيَ قَدْ تَرَى الدَّمَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الدَّمُ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يُسَمَّ حَيْضًا، فَالْمُسْتَحَاضَةُ قَدْ تَرَى الدَّمَ السَّائِلَ دَهْرًا، وَلَا يَكُونُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ كَهَيْئَةِ الدَّمِ الَّذِي يَكُونُ مِثْلُهُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا فَالْحَيْضُ اسْمٌ لِدَمٍ يُفِيدُ فِي الشَّرْعِ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِهِ إذَا كَانَ لَهُ مِقْدَارٌ مَا; وَالنِّفَاسُ وَالْحَيْضُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَجِمَاعِ الزَّوْجِ وَاجْتِنَابِ مَا يَجْتَنِبهُ الْحَائِضُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِقْدَارَ مُدَّةِ الْحَيْضِ لَيْسَ هُوَ مِقْدَارَ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَالثَّانِي: أَنَّ النِّفَاسَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا فِي الْبُلُوغِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحُدُّ الْحَيْضَ بِأَنَّهُ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ الرَّحِمِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً فِي ابْتِدَائِهِ بِهَا، وَمَا تَعْتَادُهُ النِّسَاءُ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً فِي ابْتِدَائِهِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السِّنِّ أَوْ الِاحْتِلَامِ أَوْ الْإِنْزَالِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ بُلُوغُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِمَا وَصَفْنَا ثُمَّ رَأَتْ دَمًا، فَهُوَ حَيْضٌ إذَا رَأَتْهُ مِقْدَارَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بَالِغَةً فِي ابْتِدَائِهِ بِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَهُوَ حَيْضٌ وَالْمَشْهُورُ عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا وَقْتَ لِقَلِيلِ الْحَيْضِ، وَلَا لِكَثِيرِهِ. وَحَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِك أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا; حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجَزَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْحَيْضُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِذَا زَادَتْ فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ. وَقَدْ كَانَ

أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: إنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إلَى مَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ، حَدِيثُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ" فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ لِأَحَدٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الْحَيْضُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ إذَا ظَهَرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ فَهُوَ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ; وَقَدْ رُوِيَ مَا وَصَفْنَا عَنْ هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ، مِثْلُ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَفَرَائِضِ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَمِثْلُهُ مِقْدَارُ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَمِنْهُ مِقْدَارُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مَشْرُوطٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْقُعُودُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، فَمَتَى رُوِيَ عَنْ صَحَابِيٍّ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ قَوْلٌ فِي تَحْدِيدِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِثْبَاتِ مِقْدَارِهِ فَهُوَ عِنْدَنَا تَوْقِيفٌ; إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ الْحَيْضِ مُعْتَبَرًا بِعَادَاتِ النِّسَاءِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِيهِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ" فَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ وَأَثْبَتَهَا سِتًّا أَوْ سَبْعًا. فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْعَشَرَةِ فِي أَكْثَرِهِ وَبِالثَّلَاثِ فِي أَقَلِّهِ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْعَادَةِ عِنْدَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِينَا فِي الْأَقَلِّ الَّذِي لَا نَقْصَ عَنْهُ، وَفِي الْأَكْثَرِ الَّذِي لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى الْمَذْكُورِ مِنْ الْعَدَدِ. وَفِي قِصَّةِ حَمْنَةَ هُوَ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، لَيْسَ بِحَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي إثْبَاتِ التَّحْدِيدِ; فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَقَوْلُهُ لِحَمْنَةَ: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كما تحيض النساء فِي كُلِّ شَهْرٍ" يَصْلُحُ أَنْ يَكُونُ دَلِيلًا مُبْتَدَأً لِصِحَّةِ قَوْلِنَا، مِنْ قِبَلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: "كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ" لَمَّا كَانَ مُسْتَوْعِبًا لِجِنْسِ النِّسَاءِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ جَمِيعِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ حَيْضُ امْرَأَةٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ; فَلَوْلَا قِيَامُ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثًا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيْضَ أَقَلَّ مِنْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، فَلَمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى كَوْنِ الثَّلَاثِ حَيْضًا خَصَّصْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ وَبَقِيَ حُكْمُ مَا دُونِ الثَّلَاثِ مَنْفِيًّا بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ، وَيُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ: "مَا رَأَيْت نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْهُنَّ" فَقِيلَ: مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ فَقَالَ: "تَمْكُثُ إحْدَاهُنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: "اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّ سَوْدَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أُسْتَحَاضُ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْعُدَ أَيَّامَ حَيْضِهَا، فَإِذَا مَضَتْ تَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَصَلَّتْ. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: "دَعِي الصَّلَاةَ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي" وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ أَنَّهَا تُهْرَاقُ الدَّمَ، فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحَيُّضُهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلْتُصَلِّ". وَرَوَى شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ". وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: "تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا". وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي رَوَتْ قِصَّتَهَا أُمُّ سَلَمَةُ أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ مِنْهُ لَهَا عَنْ مِقْدَارِ حَيْضِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْحَيْضِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ; وَلَوْ كَانَ الْحَيْضُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمَا أَجَابَهَا بِذِكْرِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا" وَذَلِكَ لَفْظٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ; وَاسْمُ الْأَيَّامِ إذَا أُطْلِقَتْ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ يَقَعُ أَقَلُّهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرُهُ عَلَى عَشَرَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ يُضَافُ إلَيْهِ الْأَيَّامُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّهُ مَتَى تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَتْ إلَيْهِ الْأَيَّامُ فَإِنَّ اسْمَ الْأَيَّامِ لَا يَتَنَاوَلُ عَدَدًا مَحْصُورًا، نَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ أَيَّامُ السَّنَةِ فَلَا تَخْتَصُّ بِالثَّلَاثَةِ وَلَا بالعشرة; وقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} لَمْ تَخْتَصَّ بِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَلَمَّا أَضَافَهَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي قَدْ تَقَرَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، لَمْ تَخْتَصَّ بِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ. وَقَوْلُهُ: "تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَأَيَّامَ أَقْرَائِهَا" لَمْ يَتَقَدَّمْ عِنْدَ السَّامِعِينَ عَدَدُ أَيَّامِهَا، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْأَيَّامِ رَاجِعًا إلَيْهَا دُونَ مَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْعَدَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ اسْمَ الْأَيَّامِ قَدْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا وَقْتًا مُبْهَمًا، كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ اللَّيَالِي عَلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، وَلَا يُرَادُ بِهِ سَوَادُ اللَّيْلِ، فَإِذَا تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْأَيَّامُ فَذِكْرُ الْأَيَّامِ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الْمُبْهَمِ الَّذِي لَا يُرَادُ بِهِ عَدَدٌ; قَالَ الشَّاعِرُ:

لَيَالِيَ تَصْطَادُ الرِّجَالَ بِفَاحِمِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ سَوَادَ اللَّيْلِ دُونَ بَيَاضِ النَّهَارِ. وَقَالَ آخَرُ: وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْحِمَى ثُمَّ أَنْثَنِي ... عَلَى كَبِدِي مِنْ خَشْيَةٍ أَنْ تَصَدَّعَا وَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... إلَيْك وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَا وَلَمْ يُرِدْ بِذِكْرِ الْأَيَّامِ بَيَاضَ النَّهَارِ، وَلَا بِذِكْرِ الْعَشِيَّاتِ أَوَاخِرَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وَقْتًا قَدْ تَقَرَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَوَّلَ النَّهَارِ دُونَ آخِرِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَصْبَحَتْ عَاذِلَتِي مُعْتَلَّهْ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الصَّبَاحَ دُونَ الْمَسَاءِ. وَقَالَ لَبِيدٌ: وَأَمْسَى كَأَحْلَامِ النِّيَامِ نَعِيمُهُمْ ... وَأَيُّ نَعِيمٍ خِلْته لَا يُزَايِلُ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسَاءَ دُونَ الصَّبَاحِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وَقْتًا مُبْهَمًا. وَهَذَا أَشْهُرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ الشَّوَاهِدِ. فَلَمَّا انْقَسَمَ اسْمُ الْأَيَّامِ إلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، قُلْنَا فِيمَا تَقَرَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْأَيَّامُ فَمَعْنَاهُ الْوَقْتُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ حُكْمًا مُبْتَدَأً فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَصِحُّ إضَافَةُ الْأَيَّامِ إلَيْهِ، فَمَعْنَاهَا إذَا عُيِّنَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَفْهُومِ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ اسْمَ الْأَيَّامِ إذَا أُضِيفَ إلَى عَدَدٍ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَلَا يُفَارِقُ هَذَا الْعَدَدُ اسْمَ الْأَيَّامِ بِحَالٍ; لِأَنَّك إذَا قُلْت: أَحَدَ عَشَرَ لَمْ تَقُلْ أَيَّامًا، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقْت أَيَّامَ الشَّهْرِ فَقُلْت ثَلَاثِينَ، لَمْ يَحْسُنْ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَقُلْت: ثَلَاثِينَ يَوْمًا; فَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْأَيَّامِ مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ الْمُضَافِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا تُصْرَفُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ; لِأَنَّهُ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ جَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ اسْمُ الْأَيَّامِ بِحَالٍ، وَهُوَ إذَا عُيِّنَ عَدَدُهُ أُضِيفَتْ الْأَيَّامُ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: "دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ" فَجَعَلَ الْأَيَّامَ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ لِلْأَقْرَاءِ، وَهِيَ جَمْعٌ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، حَصَلَ لِكُلِّ يَوْمٍ قُرْءٌ. قِيلَ لَهُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " أَيَّامَ أَقْرَائِك", حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، مُرَادُهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِهِمَا بِقَوْلِهِ: "أَقْرَائِك" حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَذَلِكَ مَنْ لَا عَادَةَ لَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ: عند

مُضِيِّ كُلِّ حَيْضَةٍ; فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: "أَيَّامَ أَقْرَائِك" أَيَّامَ حَيْضِك. وَأَيْضًا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ الَّذِي ذَكَرْنَا: "أَيَّامَ مَحِيضِك" وَفِي غَيْرِهِ: "أَيَّامَ حَيْضِك" وَقَالَ: "فَلْتَدَعْ الصَّلَاةَ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ" وَقَالَ: "نُقْصَانُ دِينِهِنَّ تَمْكُثُ إحْدَاهُنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي" وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَقْرَاءَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَيْضَ، فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ أَيَّامًا وَأَنَّ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ فَلَيْسَ بِحَيْضٍ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ إلَى بَيَانِ حُكْمِ جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ. وَقَدْ حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنِ شُجَاعٍ قَالَ: حدثنا يحيى بن أبي بكير قال: حدثنا إسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، ذَكَرَتْ قِصَّتَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: "مُرِي فَاطِمَةَ فَلْتُمْسِكْ كُلَّ شَهْرٍ عَدَدَ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلْ" فَأَبَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مُرَادِهِ بِذِكْرِ الْأَقْرَاءِ وَأَنَّهَا حَيْضَةٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ; لِأَنَّهُ قَالَ: "تُمْسِكْ كُلَّ شَهْرٍ عَدَدَ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا" وَقَدْ أَخْبَرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ لِحَمْنَةَ: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى الْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ أَقُرَّاءَ، وَالْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ إنَّمَا هِيَ قُرْءٌ وَاحِدٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ اسْمًا لِجَمَاعَةِ حِيَضٍ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْقُرْءُ اسْمًا لِدَمِ الْحَيْضِ جَازَ أَنْ تُسَمَّى الْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ أَقْرَاءَ عَلَى أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَجْزَاءِ الدَّمِ، كَمَا يُقَالُ ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، يُرَادُ بِهِ الْعِبَارَةُ عَنْ كُلِّ قِطْعَةٍ مِنْهُ; وَقَالَ الشَّاعِرُ: جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلَاقُ ... شَرَاذِمُ يَضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقُ فَسَمَّى الْقَمِيصَ الْوَاحِدَ أَخْلَاقًا; لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعِبَارَةَ عَنْ كُلِّ قِطْعَةٍ مِنْهُ. كَذَلِكَ جَازَ أَنْ تُسَمَّى الْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ أَقْرَاءَ عِبَارَةً بِهَا عَنْ أَجْزَاءِ الدَّمِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اسْمَ الْأَيَّامِ قَدْ يَقَعُ عَلَى يَوْمَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمَيْنِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْأَيَّامِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا وَحَقِيقَتُهَا ثَلَاثَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَحُكْمُ اللَّفْظِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ صَرْفِهِ إلَى الْمَجَازِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مُدَّةَ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى إثْبَاتِ مِقْدَارِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، وَكَانَ طَرِيقُهَا التَّوْقِيفَ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ حِيَضٌ وَكَذَلِكَ الْعَشْرُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَفَوْقَ الْعَشْرِ، أَثْبَتْنَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ نُثْبِتْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ مِنْ تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ مَا تَرَى الدَّمَ وَإِنْ

كَانَتْ رُؤْيَتُهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ حَيْضٌ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ; لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَيْضِ بَدِيًّا، فَلَا يُنْقَضُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ نَقْضَهُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً. قِيلَ لَهُ: وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ إذَا رَأَتْهُ وَقْتَ صَلَاةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ وَقْتُ صَلَاةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَدُلَّ أَمَرْنَا إيَّاهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ وَقْتَ صَلَاةٍ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ وَقْتُ صَلَاةٍ، بَلْ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الدَّمِ مُرَاعًى مُنْتَظَرًا بِهِ اسْتِكْمَالَ مُدَّةِ الْحَيْضِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، كَذَلِكَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِهَا حِينَ وَعَظَهَا بِتَرْكِ الْكِتْمَانِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي قَبُولِ خَبَرِهَا إذَا أَخْبَرَتْ عَمَّا خَلَقَ اللَّهُ فِي رَحِمِهَا، وَنَحْنُ نَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَهَا فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا الْحُكْمُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِدَمِ حَيْضٍ أَوْ لَيْسَ بِحَيْضٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَيْهَا; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ مَخْلُوقًا فِي رَحِمِهَا فَنَرْجِعُ إلَى قَوْلِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ذَلِكَ مُنْتَظِمٌ دَلَالَةً عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ حَدَّ مِقْدَارَ أَقَلِّ الْحَيْضِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِقَلِيلِ الْحَيْضِ وَلَا لِكَثِيرِهِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ عَادَةَ نِسَائِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمِقْدَارِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ هُوَ الدَّمَ الْمَوْجُودَ مِنْهَا، فَيَجِبُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ لَا تَكُونَ فِي الدُّنْيَا مُسْتَحَاضَةً لِوُجُودِ الدَّمِ وَكَوْنِ جَمِيعِهِ حَيْضًا. وَقَدْ عَلِمْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُبَيْشٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ فَأَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ لِي فِي الْإِسْلَامِ حَظٌّ. وَاسْتُحِيضَتْ حَمْنَةُ سَبْعَ سِنِينَ; فَلَمْ يَقُلْ الشَّارِعُ لَهُمَا إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَيْضٌ، بَلْ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَيْضٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِمَا كَانَ مِنْهُ حَيْضًا مِقْدَارٌ مُوَقَّتٌ، وَهُوَ مَا أَخْبَرَ عَنْ مِقْدَارِهِ بِذِكْرِ الْأَيَّامِ. وَيَلْزَمُ أَيْضًا مَنْ لَا يَجْعَلُ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا، أَنْ يَجْعَلَ دَمَ الْمُبْتَدَأَةِ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا كُلَّهُ حَيْضًا وَإِنْ رَأَتْهُ سَنَةً لِفَقْدِ عَادَةِ الْحَيْضِ مِنْهَا وَوُجُودِ الدَّمِ فِي رَحِمِهَا. وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ النِّفَاسُ مِثْلَ الْحَيْضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ مَعْلُومٌ، فَكَذَلِكَ الْحَيْضُ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَثْبَتْنَا ذَلِكَ نِفَاسًا بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ نَقِسْ عَلَيْهِ الْحَيْضَ; إذْ لَيْسَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ الْمَقَايِيسَ. وَقَدْ احْتَجَّ الْفَرِيقَانِ مِنْ مُثْبِتِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الدَّمِ حَيْضًا وَمِمَّنْ قَدَّرَهُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ"; إذْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَوْقِيتٌ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَدْ تَنَاوَلَهُ الظَّاهِرُ فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ حَيْضًا حَتَّى يَعْتَزِلَهَا فِيهِ; إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْحَيْضِ وَلَا عَلَى مَعْنَاهُ وَصِفَتِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَيْضٌ حِينَئِذٍ أُجْرِيَ فِيهِ حُكْمُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَمَتَى اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَاهُ، وَدَعْوَى الْخَصْمِ لَا تَكُونُ دَلِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ بَيَّنَ الشَّارِعُ عَلَامَةَ دَمِ الْحَيْضِ وَصِفَتَهُ بِمَا يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ مَعَهُ، بِقَوْلِهِ: "دَمُ الْحَيْضِ هُوَ الْأَسْوَدُ الْمُحْتَدِمُ" فَمَتَى وُجِدَ الدَّمُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ حَيْضًا. قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي لَيْسَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ قَدْ يَكُونُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا أَوْ رَأَتْهُ وَهِيَ مُبْتَدَأَةٌ، وَقَدْ يُوجَدُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ أَيَّامِهَا أَوْ فِي أَيَّامِهَا، فَيَكُونُ مَا فِي أَيَّامِهَا مِنْهُ حَيْضًا وَمَا بَعْدَ أَيَّامِهَا اسْتِحَاضَةً; فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ وُجُودَ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَمًا لِلْحَيْضِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ وَهِيَ تُوجَدُ مَعَ عَدَمِهِ وَتُعْدَمُ مَعَ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا وَأَنَّ حَيْضَهَا أَبَدًا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهَا خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا، فَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ احْتَجَّ الْفَرِيقَانِ أَيْضًا مِنْ مُثْبِتِي مِقْدَارِ أَقَلِّ الْحَيْضِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَمِنْ نَافِي تَقْدِيرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} فَزَعَمَ مَنْ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمِقْدَارِ أَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الْحَيْضَ بِكَوْنِهِ أَذًى فَحَيْثُمَا وُجِدَ الْأَذَى فَهُوَ حَيْضٌ بِغَيْرِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيفِ، إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمِقْدَارِ، وَمَنْ قَالَ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ يَقُولُ: إنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْأَذَى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ حَيْضًا وَفِيمَا دُونَهُ، وَخَصَّصْنَا مَا دُونَهُ بِدَلَالَةٍ، فَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْحَيْضُ أَوَّلًا حَتَّى تَثْبُتَ هَذِهِ الصِّفَةُ وَهِيَ كَوْنُهُ أَذًى; لِأَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى وَلَمْ يَجْعَلْ الْأَذَى حَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَذًى حَيْضًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ حَيْضٍ أَذًى، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَجَاسَةٍ حَيْضًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ حَيْضٍ نَجَاسَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيْضُ حَتَّى يَكُونَ أَذًى. وَأَيْضًا مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَذَى اسْمَ الْمَحِيضِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ كُلَّ أَذًى حَيْضٌ; لِأَنَّ سَائِرَ ضُرُوبِ الْأَذَى لَيْسَتْ بِحَيْضٍ، فَيَحْصُلُ حِينَئِذٍ الْمُرَادُ أَذًى مُنْكَرًا إذْ يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، حَتَّى إذَا حَصَلَتْ لَنَا مَعْرِفَتُهُ حَكَمْنَا فِيهِ بِحُكْمِ الْحَيْضِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَذَى اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي، وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ جَعَلَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ما رأيت

ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب مِنْهُنَّ" فَقِيلَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ فَقَالَ: "تَمْكُثُ إحْدَاهُنَّ نِصْفَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي" قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيَكُونُ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا; لِأَنَّهُ أَقَلُّ الطُّهْرِ، فَيَكُونُ الْحَيْضُ نِصْفَ عُمْرِهَا; وَلَوْ كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُوجَدْ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي نِصْفَ عُمْرِهَا. فَيُقَالُ لَهُ: لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ نِصْفَ عُمْرِهَا وَإِنَّمَا رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: "شَطْرَ عُمْرِهَا" وَالْآخَرُ: "تَمْكُثُ إحْدَاهُنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي" فَأَمَّا ذِكْرُ نِصْفِ عُمْرِهَا فَلَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ. وَقَوْلُهُ: "شَطْرَ عُمْرِهَا" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النِّصْفَ; لِأَنَّ الشَّطْرَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَائِفَةَ وَبَعْضَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَإِنَّمَا أَرَادَ نَاحِيَتَهُ وَجِهَتَهُ، وَلَمْ يُرِدْ نِصْفَهُ. وَقَدْ بَيَّنَ مِقْدَارَ ذَلِكَ الشَّطْرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَمْكُثُ إحْدَاهُنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي" فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ دُونَ غَيْرِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ تَكُونُ حَائِضًا نِصْفَ عُمْرِهَا; لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ عُمْرِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنْ عُمْرِهَا وَهُوَ طُهْرٌ بِلَا حَيْضٍ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ بَعْدَ الْبُلُوغِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إلَى انْقِضَاءِ عُمْرِهَا وَكَانَ طُهْرُهَا مَعَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، لَمَا حَصَلَ الْحَيْضُ نِصْفَ عُمْرِهَا; فَعَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ يَكُونُ نصف عمرها.

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي أَقَلِّ مُدَّةِ الطُّهْرِ قَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ لَا يُوَقِّتُ فِيهِ شَيْئًا فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْهُ أَنَّ الطُّهْرَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَدْ يَكُونُ الطُّهْرُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى مِقْدَارِ طُهْرِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ طُهْرَ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهَا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ أَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّ الطُّهْرِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَاحْتَجَّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عَدْلَ كُلِّ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ شَهْرًا، وَالْحَيْضُ فِي الْعَادَةِ أَقَلُّ مِنْ الطُّهْرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَشَرَةً وَأَنْ يَكُونَ بَاقِي الشَّهْرِ طُهْرًا وَهُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ; لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الطُّهْرَ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهْرَ الْوَاحِدَ بَدَلًا مِنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطُّهْرُ أَكْثَرَ مِنْهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَمْنَةَ: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كما تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ" فَأَثْبَتَ السِّتَّ أَوْ السَّبْعَ حَيْضًا وَجَعَلَ فِي الشَّهْرِ طُهْرًا، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمَ جَمِيعِ

النِّسَاءِ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَمْ تَقُمْ عَلَى عَشَرَةٍ وَلَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ طُهْرًا صَحِيحًا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الطُّهْرُ مِنْ الْحَيْضِ يَلْزَمُ بِهِ الصَّلَوَاتُ، أَشْبَهَ الْإِقَامَةَ، فَلَمَّا كَانَ أَقَلُّ الْإِقَامَةِ عِنْدَنَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَمْ يَكُنْ لِأَكْثَرِهَا غَايَةٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطُّهْرُ مِنْ الْحَيْضِ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ مِقْدَارِ الطُّهْرِ التَّوْقِيتُ أَوْ الِاتِّفَاقُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ السَّلَفِ أَنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ طُهْرًا صَحِيحًا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهَا، وَقَفْنَا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ وَلَمْ نُثْبِتْ مَا دُونَهَا طُهْرًا لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ مِنْ تَقْدِيرِهِ الطُّهْرَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اتِّفَاقَ السَّلَفِ قَدْ سَبَقَهُ فِي كَوْنِ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَا يَكُونُ خِلَافًا عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: قَالَ عَطَاءٌ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَالَ مَالِكٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: خَمْسَةَ عَشَرَ وَفِي بَعْضِهَا: عَشَرَةً وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ. وَيَفْسُدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ مِقْدَارًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ وَلَا اتِّفَاقٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا هَذَا وَصْفُهُ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فَلَا مَعْنَى لَهُ وَلَا يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَقَامَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّهْرِ الْوَاحِدِ مَقَامَ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ غَيْرُ مَانِعِ وُجُودِ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَصَلَ لَهَا حَيْضَةٌ وَطُهْرٌ فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إيجَابُ اللَّهِ تَعَالَى شَهْرًا عَنْ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ عَلَى وُجُودِ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ فِي أَقَلَّ مِنْهُ وَجَازَ نُقْصَانُ الْحَيْضِ عَنْ عَشَرَةٍ حَتَّى تُسْتَوْفَى لَهَا حَيْضَةٌ وَطُهْرٌ فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِالْحَيْضِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا إذَا كَانَتْ بِالشُّهُورِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَنْقُصَ الطُّهْرُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَيْضَةِ عَشْرًا فَيَكُونُ أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطُّهْرَ قَدْ يَكُونُ هَذَا الْقَدْرَ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لا يكون أقل منه، والله أعلم.

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي الطُّهْرِ الْعَارِضِ فِي حَالِ الْحَيْضِ قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا فِيمَنْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا: إنَّ ذَلِكَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ الطُّهْرُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الدَّمَيْنِ وَالطُّهْرِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فُصِلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ، وَمَتَى كَانَ الطُّهْرُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ فَفُصِلَ بَيْنَهُمَا اُعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَيْضًا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا وَكَانَ الْآخَرُ مِنْهُمَا ثَلَاثًا

فَالْآخَرُ حَيْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ثَلَاثًا فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِحَيْضٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ رَأَتْ دَمًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُلْغَى أَيَّامُ الطُّهْرِ وَتُضَمُّ أَيَّامُ الدَّمِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِنْ دَامَ بِهَا ذَلِكَ اسْتَظْهَرَتْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى أَيَّامِ حَيْضِهَا، فَإِنْ رَأَتْ فِي خِلَالِ أَيَّامِ الِاسْتِظْهَارِ أَيْضًا طُهْرًا أَلْغَاهُ حَتَّى يَحْصُلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمُ الِاسْتِظْهَارِ، وَأَيَّامَ الطُّهْرِ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَيَكُونُ مَا جُمِعَ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَلَا يُعْتَدُّ بِأَيَّامِ الطُّهْرِ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ. فَإِذَا اسْتَظْهَرَتْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتَغْتَسِلُ كُلَّ يَوْمٍ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا مِنْ أَيَّامِ الطُّهْرِ; وَإِنَّمَا أُمِرَتْ بِالْغُسْلِ; لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي لَعَلَّ الدَّمَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهَا. وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَرَى الدَّمَ أَبَدًا سَائِلًا وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ، إنَّمَا تَرَاهُ فِي وَقْتٍ وَيَنْقَطِعُ فِي وَقْتٍ; وَلَا خِلَافَ أَنَّ انْقِطَاعَ دَمِهَا سَاعَةً وَنَحْوَهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ فِي وَقْتِ رُؤْيَةِ الطُّهْرِ وَانْقِطَاعِ الدَّمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ كَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي انْقِطَاعِهِ سَاعَةً وَنَحْوَهَا وَلِأَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِطُهْرٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْعَلُ الطُّهْرَ الصَّحِيحَ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ الطُّهْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ طُهْرُ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ الَّذِي بَيْنَ الدَّمَيْنِ طُهْرًا يُوجِبُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ حَيْضَةً تَامَّةً، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الطُّهْرِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضَةً تَامَّةً، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ وَيَصِيرَ مَعَ مَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الدَّمِ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، فَرُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعْتَدُّ بِالصُّفْرَةِ وَلَا بِالْكُدْرَةِ بَعْدَ الْغُسْلِ شَيْئًا. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُدْرَةِ، فَقَالَ جَمِيعُ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ: إنَّهَا حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا دَمٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَكُونُ الْكُدْرَةُ حَيْضًا إلَّا بَعْدَ الدَّمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتَا: لَا تُصَلِّي الْحَائِضُ حَتَّى تَرَى الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْكُدْرَةَ حَيْضٌ بَعْدَ الدَّمِ، فَلَمَّا كَانَ وُجُودُهَا عَقِيبَ الدَّمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُدْرَةَ مِنْ اخْتِلَاطِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهَا إذَا وُجِدَتْ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا دَمٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ الْمُعْتَادُ فِيهِ الدَّمُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْكُدْرَةَ مِنْ اخْتِلَاطِ أَجْزَاءِ الدَّمِ بِالْبَيَاضِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْوَقْتِ تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْمَرْأَةَ تَرَى الدَّمَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا وَبَعْدَهَا، فَيَكُونُ مَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا حَيْضًا وَمَا بَعْدَ أَيَّامِهَا

غَيْرَ حَيْضٍ وَكَانَ الْوَقْتُ عِلْمًا لِكَوْنِهِ حَيْضًا وَدَلَالَةً عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُدْرَة مِنْ أَجْزَاءِ دَمِ الْحَيْضِ وَأَنْ يَكُونَ حَيْضًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَيْضِ الْمُبْتَدَأَةِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ وَاسْتَمَرَّ بِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا عَشَرَةٌ مِنْهَا حَيْضٌ وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ. وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُمْ خِلَافٌ فِي الْأُصُولِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: تَأْخُذُ فِي الصَّلَاةِ بِالثَّلَاثِ أَقَلَّ الْحَيْضِ، وَفِي الزَّوْجِ بِالْعَشَرَةِ، وَلَا تَقْضِي صَوْمًا عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ الْعَشَرَةِ، وَتَصُومُ الْعَشْرَ مِنْ رَمَضَانَ وَتَقْضِي سَبْعًا مِنْهَا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: تَقْعُدُ مِثْلَ أَيَّامِ نِسَائِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: تَقْعُدُ مَا تَقْعُدُ نَحْوُهَا مِنْ النِّسَاءِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْضُهَا أَقَلُّ مَا يَكُونُ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، فَصَارَتْ مَحْكُومًا لَهَا بِحُكْمِ الْحَيْضِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَمِثْلُهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا لِوُقُوعِ الْحُكْمِ لَهَا بِذَلِكَ وَعَدَمِ عَادَتِهَا لِخِلَافِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُلَّ يَقُولُونَ: إنَّ الدَّمَ لَوْ انْقَطَعَ عَنْ الْعَشَرَةِ لَكَانَ كُلُّهُ حَيْضًا؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَشَرَةَ مَحْكُومٌ لَهَا فِيهَا لِحُكْمِ الْحَيْضِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَقْضُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا زَادَ عَلَى الْأَقَلِّ مَشْكُوكًا فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَكْثَرِ، لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُنْقَضَ مَا حَكَمْنَا بِهِ حَيْضًا بِالشَّكِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ لِلشَّهْرِ الَّذِي يُغَمُّ الْهِلَالُ فِي آخِرِهِ بِثَلَاثِينَ بِقَوْلِهِ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ يَقِينًا لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِضَائِهِ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ دُونَ الْعَشَرَةِ فَزَادَ الدَّمُ رُدَّتْ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُنَا لَهَا بَدِيًّا فِي الزِّيَادَةِ بِحُكْمِ الْحَيْضِ مَانِعًا مِنْ اعْتِبَارِ أَيَّامِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَتْ الدَّمَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَلَوْ دُونَ الثَّلَاثِ، فَإِنْ انْقَطَعَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ حَكَمْنَا بِأَنَّ مَا رَأَتْهُ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَإِنْ تَمَّ ثَلَاثًا كَانَ حَيْضًا. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الَّتِي كَانَ لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ فَإِنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ لَمْ يَقَعْ إلَّا مُرَاعًى مُعْتَبَرًا بِانْقِطَاعِهِ فِي الْعَشَرَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا" فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الزِّيَادَةِ مُرَاعَاةً، لِعِلْمِنَا بِأَنَّ لَهَا أَيَّامًا مَعْرُوفَةً. وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَيَّامٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ رُؤْيَتُهَا الدَّمَ فِي الْعَشَرَةِ غَيْرَ مُرَاعَاةٍ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ مَا رَأَتْهُ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الْعَشَرَةِ فَهُوَ كَالْعَادَةِ يَصِيرُ ذَلِكَ أَيَّامًا لَهَا فِي الْعَدَدِ وَالْوَقْتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ الَّذِي رَأَتْهُ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الْعَشْرِ مُرَاعًى بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يُحْكَمَ لَهَا فِيهِ بِحُكْمِ الْحَيْضِ; إذْ كَانَ مِثْلُهُ يَكُونُ حَيْضًا. وَأَمَّا مَنْ رَأَتْ الدَّمَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا وَحَكَمْنَا لَهَا فِيهِ بِحُكْمِ الْحَيْضِ فِي بَابِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ

الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، ثُمَّ انْقِطَاعُهُ دُونَ الثَّلَاثِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حَيْضًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مُرَاعًى فِي الِابْتِدَاءِ; لِعِلْمِنَا بِأَنَّ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ مِقْدَارًا مَتَى قَصُرَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ الدَّمُ الَّذِي رَأَتْهُ حَيْضًا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ مُرَاعًى. وَلَيْسَ لِمُبْتَدَأَةٍ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا لِلدَّمِ ثَلَاثًا حَالٌ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا دُونَهَا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسًا أَوْ سِتًّا فَكَانَتْ شَاكَّةً فِي السِّتَّةِ. وَقَالُوا جَمِيعًا: إنَّهَا تَأْخُذُ بِالْأَقَلِّ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ وَالرَّجْعَةُ، وَتَأْخُذُ فِي الْأَزْوَاجِ بِالْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا، وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدَأَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرًا لِمَسْأَلَتِنَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذِهِ قَدْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ تَيَقَّنَّا الْخَمْسَةَ وَشَكَكْنَا فِي السِّتَّةِ، فَاحْتَطْنَا لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَاحْتَطْنَا أَيْضًا فِي الْأَزْوَاجِ فَلَمْ نُبِحْهَا لَهُمْ بِالشَّكِّ، وَالْمُبْتَدَأَةُ لَيْسَ لَهَا أَيَّامٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا، فَمَا رَأَتْهُ مِنْ الدَّمِ الَّذِي يَكُونُ مِثْلُهُ حَيْضًا فَهُوَ حَيْضٌ وَلَا مَعْنَى لِرَدِّهَا إلَى أَقَلِّ الْحَيْضِ; إذْ لَيْسَ مَعَنَا دَلَالَةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَيَفْسُدُ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ لَيْسَ بِعَادَةٍ لَهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ الرَّدِّ إلَيْهِ، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ الْأَكْثَرِ لِوُقُوعِ الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ حَيْضًا وَعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَقْضِ هَذَا الْحُكْمِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّةَ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَدَلًا مِنْ الْحَيْضِ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ شَهْرًا. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَلَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فَوَاجِبٌ أَنْ تُسْتَوْفَى لَهَا حَيْضَةٌ وَطُهْرٌ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَلِأَكْثَرِ الْحَيْضِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَوْفَى لَهَا أَكْثَرُ الْحَيْضِ وَيَكُونَ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ طُهْرًا; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِقْدَارٌ مِنْ الطُّهْرِ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ بِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ الطُّهْرِ لِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ; أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا نَقَّصْت الْحَيْضَ مِنْ الْعَشَرَةِ احْتَجْت أَنْ تَزِيدَ مَا نَقَّصْته مِنْهَا فِي الطُّهْرِ؟ وَلَيْسَ زِيَادَةُ الطُّهْرِ بِأَنْ يَكُونَ سَبْعَةٌ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ وَيُجْعَلَ الْبَاقِي مِنْ الشَّهْرِ طُهْرًا. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اسْتِيفَاءِ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ فِي الشَّهْرِ لِهَذِهِ الْمُبْتَدَأَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمنة: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ" فَأَخْبَرَ أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةٌ وَطُهْرٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اعْتَبَرْت لَهَا سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمُبْتَدَأَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ عَادَةَ الْمَرْأَةِ الْمُخَاطَبَةِ بِذَلِكَ أَعْنِي سِتًّا أَوْ سَبْعًا فَلَا يُعْتَبَرُ بِهَا غَيْرُهَا; فَاسْتِدْلَالُنَا مِنْ الْخَبَرِ بِمَا وَصَفْنَا صَحِيحٌ; لِأَنَّا أَرَدْنَا إثْبَاتَ الْحَيْضَةِ وَالطُّهْرِ فِي الشَّهْرِ الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَقْعُدُ مِثْلَ حَيْضِ نِسَائِهَا فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ

يُرِدْ الْمُسْتَحَاضَةَ إلَى وَقْتِ نِسَائِهَا، وَإِنَّمَا رَدَّ وَاحِدَةً إلَى عَادَتِهَا فَقَالَ: "تَقْعُدُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا" وَأَمَرَ أُخْرَى أَنْ تَقْعُدَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، وَأَمَرَ أُخْرَى أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَقُلْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اُقْعُدِي أَيَّامَ نِسَائِك. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَيَّامَ نِسَائِهَا وَالْأَجْنَبِيَّاتِ وَمَنْ كَانَ دُونَ سِنِّهَا وَفَوْقَهَا سَوَاءٌ، وَقَدْ يَتَّفِقْنَ فِي السِّنِّ مَعَ اخْتِلَافِ عَادَاتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ، فَلَيْسَ لِنِسَائِهَا فِي ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ دُونَ غَيْرِهِنَّ. وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ يُوجِبُ إبَاحَةَ وَطْئِهَا; وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجَوِّزُ وَطْأَهَا إلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْحَائِضِ حَتَّى تَغْتَسِلَ إذَا كَانَتْ وَاجِدَةً لِلْمَاءِ أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَحَلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا إنْ كَانَتْ آخِرَ حَيْضَةٍ وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً ارْتَفَعَ حُكْمُ الْحَيْضِ بِمُضِيِّ الْعَشَرَةِ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةٍ جُنُبٍ فِي إبَاحَةِ وَطْءِ الزَّوْجِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ". وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ وَطْأَهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَانْقِطَاعِ دَمِهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَ"حَتَّى" تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِهَا، فَذَلِكَ عُمُومٌ فِي إبَاحَةِ وَطْئِهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَكَانَتْ هَذِهِ نِهَايَاتٌ لِمَا قُدِّرَ بِهَا، وَكَانَ حُكْمُ مَا بَعْدَهَا بخلافها، فكذلك قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} إذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ فَمَعْنَاهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ. وَقَالُوا: قَدْ قُرِئَ: "حَتَّى يَطَّهَّرْنَ" بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بِالتَّخْفِيفِ، فَيُرَادُ بِهِ انْقِطَاعُ الدَّمِ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ وَتَطَهَّرَتْ، إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا، كَمَا يُقَالُ: تَقَطَّعَ الْحَبْلُ وَتَكَسَّرَ الْكُوزُ، وَالْمَعْنَى: انْقَطَعَ وَانْكَسَرَ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فِعْلًا مِنْ الْمَوْصُوفِ بِذَلِكَ. وَاحْتَجَّ مَنْ حَظَّرَ وَطْأَهَا فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى تَغْتَسِلَ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فَشَرَطَ فِي إبَاحَتِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُ الدَّمِ، وَالْآخَرُ: الِاغْتِسَالُ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْغُسْلِ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَهَا وَقَعَدَ فِيهَا فَأَعْطِهِ دِينَارًا فَيُعْقَلُ بِهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدِّينَارِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدُّخُولِ وَالْقُعُودِ جَمِيعًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فَشَرَطَ الْأَمْرَيْنِ فِي إحْلَالِهَا لِلْأَوَّلِ،

فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِأَحَدِهِمَا كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} مَشْرُوطٌ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ الْمَعْنَيَانِ وَهُوَ الطُّهْرُ الَّذِي يَكُونُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَالِاغْتِسَالُ. قَالَ أَبُو بكر: قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} إذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّمَا هُوَ انْقِطَاعُ الدَّمِ لَا الِاغْتِسَالُ; لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ تَطْهُرْ، فَلَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ انْقِطَاعُ الدَّمِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْخُرُوجُ مِنْ الْحَيْضِ، وَإِذَا قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَمِنْ الْغُسْلِ لِمَا وَصَفْنَا آنِفًا فَصَارَتْ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ مُحْكَمَةً وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مُتَشَابِهَةً، وَحُكْمُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيُرَدَّ إلَيْهِ، فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَظَاهِرُهُمَا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ الَّذِي هُوَ خُرُوجٌ مِنْ الحيض وأما قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَتْهُ قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: "حَتَّى يَطْهُرْنَ" مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} وَيَكُونُ كَلَامًا سَائِغًا مُسْتَقِيمًا، كَمَا تَقُولُ لَا تُعْطِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ فَإِذَا دَخَلَهَا فَأَعْطِهِ وَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ الْغَايَةِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. وَإِذَا كَانَ لِلِاحْتِمَالِ فِيهِ مَسَاغٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَانَ وَاجِبًا حَمْلُ الْغَايَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ إبَاحَةُ وَطْئِهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْحَيْضِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: فِيهَا احْتِمَالٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : فَإِذَا حَلَّ لَهُنَّ أَنْ يَتَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ أَوْ التَّيَمُّمِ، كَقَوْلِهِ: "إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" مَعْنَاهُ: قَدْ حَلَّ لَهُ الْإِفْطَارُ، وَقَوْلِهِ: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" مَعْنَاهُ فَقَدْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا: إنَّهَا قَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَمَعْنَاهُ قَدْ حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: "إذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي" وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ تُزَلْ الْغَايَةُ عَنْ حَقِيقَتِهَا بِحَظْرِ الْوَطْءِ بَعْدَهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَإِنَّ الْغَايَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي وَهُوَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ الْوَاقِعَ بِالثَّلَاثِ، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الثَّانِي مَشْرُوطٌ لِذَلِكَ وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِالْوَطْءِ قَبْلَ طَلَاقِهِ إيَّاهَا، وَطَلَاقُ الزَّوْجِ الثَّانِي غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ بِالثَّلَاثِ، فَإِذًا لَا دَلِيلَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ، وَلَا عَلَى نَفْيِ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَإِنَّ الْآيَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا احْتَمَلَتْ مِنْ التَّأْوِيلِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُمْكِنُ استعمالهما، فنقول: إن قوله: {يَطْهُرْنَ} إذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِيمَنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا، فَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ اسْتِبَاحَةُ وَطْئِهَا بِمُضِيِّ الْعَشْرِ، وَقَوْلَهُ: يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَوْلَهُ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} مُسْتَعْمَلَانِ فِي الْغُسْلِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا

دُونَ الْعَشْرِ وَلَمْ يَمْضِ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ وَقْتِ الصَّلَاةِ يُبِيحُ وَطْأَهَا عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ عَلَى الْمَجَازِ، بَلْ هُمَا مُسْتَعْمَلَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْحَالَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَتْ الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ تُسْتَعْمَلَانِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ قِيلَ لَهُ: لَوْ جَعَلْنَاهُمَا كَالْآيَتَيْنِ كَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ وَرَدَتْ آيَتَانِ تَقْتَضِي إحْدَاهُمَا انْقِطَاعَ غَايَةِ الدَّمِ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَالْأُخْرَى تَقْتَضِي الْغُسْلَ غَايَةً لَهَا، لَكَانَ الْوَاجِبُ اسْتِعْمَالَهُمَا عَلَى حَالَيْنِ عَلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُقَرَّةً عَلَى حَقِيقَتِهَا فِيمَا اقْتَضَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِاسْتِعْمَالِهِمَا فِي حَالَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَلَوْ اسْتَعْمَلْنَاهُمَا عَلَى مَا يَقُولُ الْمُخَالِفُ كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ إحْدَى الْغَايَتَيْنِ; لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا وَإِنَّ طَهُرَتْ وَانْقَطَعَ دَمُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ فَلَوْ جَعَلْنَا ذَلِكَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً كَانَ سَائِغًا مُقْنِعًا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ كَانَ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ فَانْقَطَعَ دَمُهَا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَيَكُونُ حَيْضًا; إذْ لَيْسَ كُلُّ طُهْرٍ تَرَاهُ الْمَرْأَةُ يَكُونُ طُهْرًا صَحِيحًا; لِأَنَّ الْحَائِضَ تَرَى الدَّمَ سَائِلًا مَرَّةً وَمُنْقَطِعًا مَرَّةً، فَلَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَائِضًا فِيهِ وُقُوعُ الْحُكْمِ بِزَوَالِ الْحَيْضِ، فَقَالُوا: إنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ فِيمَنْ وَصَفْنَا حَالَهَا مُعْتَبَرٌ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا بِاغْتِسَالٍ فَيَزُولُ عَنْهَا حُكْمُ الْحَيْضِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِاسْتِبَاحَتِهَا الصَّلَاةَ وَذَلِكَ يُنَافِي حُكْمَ الْحَيْضِ، أَوْ بِمُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ، وَلُزُومُ فَرْضِهَا مُنَافٍ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَيْضِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْزَمَ الْحَائِضَ فَرْضُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا انْتَفَى حُكْمُ الْحَيْضِ وَثَبَتَ حُكْمُ الطُّهْرِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاغْتِسَالُ لَمْ يُمْنَعْ الْوَطْءُ، بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةٍ جُنُبٍ جَائِزٌ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَنَا مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي اعْتِبَارِ الِاغْتِسَالِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَقَدْ رَوَى عِيسَى الْخَيَّاطُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ الْخَبَرَ فَالْخَبَرَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالُوا: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا وُجُودُ الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِانْقِضَائِهِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا مَنَعَ مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ أَوْ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَأَمَّا مَعَ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْحَيْضِ وَزَوَالِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَقَدْ طَهُرَتْ لَا مَحَالَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ سَائِرِ الطَّاهِرَاتِ وَلَا تَأْثِيرَ لِوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا فِي مَنْعِ وَطْئِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا؟ فَإِنْ قِيلَ: إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَلُزُومُ الْغُسْلِ

يُنَافِي بَقَاءَ حُكْمِ الْحَيْضِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لُزُومُ الْغُسْلِ عَلَى الْحَائِضِ كَمَا قُلْت فِي لُزُومِ فَرْضِ الصَّلَاةِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الْغُسْلُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَيْضِ فَلُزُومُهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِحُكْمِهِ وَبَقَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَامَ لَمَّا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ تَحْرِيمِهِ الصَّلَاةُ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِانْتِهَائِهِ إلَى آخِرِهَا نَافِيًا لِبَقَاءِ حُكْمِهَا؟ وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ لَمَّا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ نَافِيًا لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ مَا لَمْ يَحْلِقْ؟ كَذَلِكَ الْغُسْلُ لَمَّا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ عَلَيْهَا مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ حُكْمِ الْحَيْضِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَيْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ آخَرُ يَخْتَصُّ لُزُومُهُ بِالطَّاهِرِ مِنْ النِّسَاءِ دُونَ الْحَائِضِ، فَفِي لُزُومِهَا نَفْيٌ لِحُكْمِ الْحَيْضِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لَمَّا احْتَمَلَ الْغُسْلَ صَارَ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْحَائِضِ الْغُسْلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ حَيْضِهَا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ إطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَهُوَ إبَاحَةٌ وَرَدَتْ بَعْدَ حَظْرٍ وَقَوْلُهُ: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "يَعْنِي فِي الْفَرْجِ" وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَجَنُّبِهِ فِي الْحَيْضِ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: "مِنْ قِبَلِ الطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ" وَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: "مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ دُونَ الْفُجُورِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا كُلُّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ جَمِيعَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ لِلصَّلَاةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُتَطَهِّرِينَ مِنْ الذُّنُوبِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ أَشْبَهُ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الطَّهَارَةِ، فَالْمُرَادُ بِهَا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ للصلاة في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فالأظهر أن يكون قوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} مَدْحًا لِمَنْ تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ لِلصَّلَاةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] وَرُوِيَ أَنَّهُ مَدَحَهُمْ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} الْحَرْثُ: الْمُزْدَرَعُ، وَجُعِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ. وَسَمَّى النِّسَاءَ حَرْثًا; لِأَنَّهُنَّ مُزْدَرَعُ الأولاد وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إبَاحَةَ الْوَطْءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ; لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَرْثِ.

وَاخْتُلِفَ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَكَانَ أَصْحَابُنَا يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيّ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَحَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكِيمِ، أَنَّهُ سَمِعَ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَا تَحْلِيلِهِ شَيْءٌ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ حَلَالٌ. وَرَوَى أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فِي دِينِي يَشُكُّ فِيهِ أَنَّهُ حَلَالٌ يَعْنِي وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، ثُمَّ قَرَأَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ وَمَا أَشُكُّ فِيهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَقُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: إنَّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي أَنُحَمِّضُ لَهُنَّ؟ فَقَالَ: وَمَا التَّحْمِيضُ؟ فَذَكَرْت الدُّبُرَ، قَالَ: وَيَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: فَأَشْهَدُ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُنِي عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّك تَذْكُرُ عَنْ سَالِمٍ أَنَّهُ قَالَ كَذَبَ الْعَبْدُ وَكَذَبَ الْعِلْجُ عَلَى أَبِي يَعْنِي نَافِعًا كَمَا كَذَبَ عِكْرِمَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: وَأَشْهَدُ عَلَى يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ يُحَدِّثُنِي عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ، إلَّا أَنَّ زَيْدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ لَا يُعْلَمُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: إنَّهُ قَدْ أَكْثَرَ عَلَيْك الْقَوْلَ أَنَّك تَقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَفْتَى أَنْ تُؤْتَى النِّسَاءُ فِي أَدْبَارِهِنَّ قَالَ نَافِعٌ: كَذَبُوا عَلَيَّ إنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ الْمُصْحَفَ يَوْمًا حتى بلغ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فَقَالَ: يَا نَافِعُ هَلْ تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْت: لَا قَالَ: إنَّا كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَجْبِي النِّسَاءَ، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذْنَ عَنْ الْيَهُودِ أَنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جَنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ; لِأَنَّ نَافِعًا قَدْ حُكِيَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ أَيْضًا: قَالَ ذَلِكَ نَافِعٌ يَعْنِي تَحْلِيلَ وَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ بَعْدَمَا كَبِرَ وَذَهَبَ عَقْلُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ إبَاحَةُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِقُبْحِهَا وَشَنَاعَتِهَا، وَهِيَ عَنْهُ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَنْدَفِعَ بِنَفْيِهِمْ عَنْهُ. وَقَدْ حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ قَالَ: كُنْت عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَسُئِلَ عَنْ النِّكَاحِ فِي الدُّبُرِ،

فَضَرَبَ بِيَدِهِ إلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: "السَّاعَةُ اغْتَسَلْت مِنْهُ". وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ. وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَيَتَأَوَّلُ فِيهِ قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165] مِثْلَ ذَلِكَ إنْ كُنْتُمْ تَشْتَهُونَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَحَاشُّ النِّسَاءِ حَرَامٌ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَهِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ، لِتَعَارُضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ. وَظَاهِرُ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِهِ رَوَاهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ كُلُّهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ". وَرَوَى عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى" يَعْنِي إتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَكِيمِ الْأَثْرَمِ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُدْبِرَةٌ جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً مَا كَانَ فِي الْفَرْجِ" وَرَوَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ". وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَالَ: "إنَّمَا يَعْنِي كَيْفَ شِئْت فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ". وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا". وَذَكَرَ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَقَالَ: هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ الْكُفْرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قَالَ: كَيْفَ شِئْت إنْ شِئْت عَزْلًا أَوْ غَيْرَ عَزْلٍ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ كَثِيرٍ الرِّيَاحِيِّ الْأَصَمُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا عِنْدَنَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ وَفِي الْحُرَّةِ إذَا أَذِنْت فِيهِ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَآخَرِينَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] يَقْتَضِي إبَاحَةَ وَطْئِهِنَّ فِي الدُّبُرِ، لِوُرُودِ الْإِبَاحَةِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ وَلَا مَخْصُوصَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ثُمَّ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَبَانَ بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ، وَلَمْ يُرِدْ إطْلَاقَ الْوَطْءِ بَعْدَ حَظْرِهِ إلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ، فَهُوَ مَقْصُورٌ

عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَاضٍ مَعَ ذَلِكَ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] كَمَا كَانَ حَظْرُ وَطْءِ الْحَائِضِ قَاضِيًا عَلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُرَتَّبَةً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ الْحَائِضِ. وَمَنْ يَحْظُرُ ذلك يحتج بقوله: {قُلْ هُوَ أَذىً} فَحَظَرَ وَطْءَ الْحَائِضِ لِلْأَذَى الْمَوْجُودِ فِي الْحَيْضِ وَهُوَ الْقَذَرُ وَالنَّجَاسَةُ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَاقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلُ حَظْرَ وَطْئِهِنَّ إلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ وَمَنْ يُبِيحُهُ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مَعَ وُجُودِ الْأَذَى هُنَاكَ وَهُوَ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ وَهُوَ نَجَسٌ كَنَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ وَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ وَيُجِيبُونَ أَيْضًا عَلَى تَخْصِيصِهِ إبَاحَةَ مَوْضِعِ الْحَرْثِ، بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى إبَاحَةِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلْوَلَدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى مَوْضِعِ الْوَلَدِ. وَيُجَابُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِبَاحَةِ مَقْصُورَةً عَلَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} إذْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، وَلَوْلَا قِيَامُ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ لَمَا جَازَ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلَكِنَّا سَلَّمْنَاهُ لِلدَّلَالَةِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْحَظْرِ فِيمَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الْآيَةَ. قَدْ قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُجْعَلَ يَمِينُهُ مَانِعَةً مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ قَالَ: قَدْ حَلَفْت فَيَجْعَلُ الْيَمِينَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، فَإِنْ حَلَفَ حَالِفٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَلْيَدَعْ يَمِينَهُ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] . وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ فِي يَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِهِ كَانَا فِيمَنْ خَاضَ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ، أَحَدُهُمَا مِسْطَحٌ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، أَنْ لَا يَصِلَهُمَا وَأَنْ لَا يُصِيبَا مِنْهُ خَيْرًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور: 22] فَكَسَا أَحَدَهُمَا وَحَمَلَ الْآخَرَ وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي السُّنَّةِ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا; لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَنْ لَا يُمْنَعَ بِيَمِينِهِ مِنْ فِعْلِ مَا هُوَ خَيْرٌ بَلْ يَفْعَلُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيَدَعُ يَمِينَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يكون قوله: {عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} يُرِيدُ بِهِ كَثْرَةَ الْحَلِفِ،

وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِذَالٌ لِاسْمِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ; لَأَنْ تَبَرُّوا فِي الْحَلِفِ بِهَا وَتَتَّقُوا الْمَأْثَمَ فِيهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ: مِنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلَهُ عُرْضَةً، يَقُولُ الْقَائِلُ: قَدْ جَعَلَنِي عُرْضَةً لِلَّوْمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَا تَجْعَلِينِي عُرْضَةَ اللَّوَائِمِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُكْثِرِي الْحَلِفِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] فَالْمَعْنَى: لَا تَعْتَرِضُوا اسْمَ اللَّهِ وَتَبْذُلُوهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ; لَأَنْ تَبَرُّوا إذَا حَلَفْتُمْ وَتَتَّقُوا الْمَأْثَمَ فِيهَا إذَا قَلَّتْ أَيْمَانُكُمْ; لِأَنَّ كَثْرَتَهَا تُبْعِدُ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَتُقَرِّبُ مِنْ الْمَآثِمِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْأَيْمَانِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِمَا فِي تَوَقِّي ذَلِكَ مِنْ الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ فَتَكُونُونَ بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ، لِقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَا مُتَضَادَّيْنِ، فَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ مُفِيدَةً لِحَظْرِ ابْتِذَالِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِرَاضِهِ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَقًّا كَانَ أَوْ بَاطِلًا، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ يَمِينَهُ عُرْضَةً مَانِعَةً مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ وَإِنْ لَمْ يُكْثِرْ، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُكْثِرَ الْيَمِينَ، وَمَتَى حَلَفَ لَمْ يَحْتَجِرْ بِيَمِينِهِ عَنْ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ طَاعَةً وَبِرًّا وَتَقْوَى وَإِصْلَاحًا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ". قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّغْوَ فِي مَوَاضِعَ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ، فَقَالَ تَعَالَى: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 11] يَعْنِي: كَلِمَةً فَاحِشَةً قَبِيحَةً. و {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} [الواقعة: 25] عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] يَعْنِي: الْكُفْرَ والكلام القبيح. وقال: {وَالْغَوْا فِيهِ} يَعْنِي: الْكَلَامَ الَّذِي لَا يُفِيدُ شَيْئًا لِيَشْغَلُوا السَّامِعِينَ عَنْهُ وَقَالَ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] يَعْنِي الْبَاطِلَ. وَيُقَالُ: لَغَا فِي كَلَامِهِ يَلْغُو، إذَا أَتَى بِكَلَامٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ مَعَانٍ عَنْ السَّلَفِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ يَرَاهُ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} : "أَنْ تَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ" وَهَذَا في معنى قوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ" وَرُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ عِنْدَنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي،

رَوَاهُ عَنْهَا عَطَاءٌ أَنَّهَا قَالَتْ: قَوْلُ الرَّجُلِ فَعَلْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَصَنَعْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الْحَرَامِ فَلَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِتَرْكِهِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُوَافِقٌ لِتَأْوِيلِ من تأول قوله: {عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أَنْ يَمْتَنِعَ بِالْيَمِينِ مِنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ أَوْ يُقْدِمَ بِهَا عَلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ. وَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمَّا عطف قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ} أَنَّ مُرَادَهُ مَا عَقَدَ قَلْبُهُ فِيهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةُ هِيَ عِقَابَ الْآخِرَةِ وَأَنْ لَا تَكُونَ الْكَفَّارَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْحِنْثِ; لِأَنَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِكَسْبِ الْقَلْبِ، لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْقَاصِدِ بِهَا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَتَسَاوِي حُكْمِ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ; فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ: مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْعِقَابِ بِقَصْدِهِ إلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي قَالَ الْقَاصِدُ بِهَا خِلَافَهَا إلَى الْكَذِبِ; فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا إلَى الْكَذِبِ وَهِيَ عَلَى الْمَاضِي وَيَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَسَمَّاهَا لَغْوًا مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ فِي إيجَابِ كَفَّارَةٍ وَلَا فِي اسْتِحْقَاقِ عُقُوبَةٍ; وَهِيَ الَّتِي رُوِيَ مَعْنَاهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى الْحَرَامِ فَلَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِتَرْكِهِ يَعْنِي بِهِ عِقَابَ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً إذَا حَنِثَ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كُلُّ يَمِينٍ لَيْسَ لَهُ الْوَفَاءُ بِهَا فَهِيَ لَغْوٌ لَا تَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْلَى الَّذِي قَدَّمْنَا. إلَّا أَنَّ سَعِيدًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَمَسْرُوقًا لَا يُوجِبُهَا وَإِنْ حَنِثَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنْهَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الضَّحَّاكِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ حِنْثُ النسيان.

بَابُ الْإِيلَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَلْفُ يَقُولُونَ: آلَى يُؤْلِي إيلَاءً وَأَلِيَّةً; قَالَ كَثِيرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ فَهَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ اُخْتُصَّ فِي الشَّرْعِ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ الَّذِي يُكْسِبُ الطَّلَاقَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، حَتَّى إذَا قِيلَ آلَى فُلَانٌ مِنْ امْرَأَتِهِ عُقِلَ بِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنَّمَا

يَكُونُ مُولِيًا إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ وَالْغَضَبِ. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ حَالَتْ دُونَ الْجِمَاعِ إيلَاءٌ; وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ. وَالثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ فِي الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ، نَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فَيَكُونُ مُولِيًا. وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: تَزَوَّجْت فَلَقِيت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ فِي حَلْقِهَا شَيْئًا قَالَ: تَاللَّهِ لَقَدْ خَرَجْت وَمَا أُكَلِّمُهَا قَالَ: عَلَيْك بِهَا قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَنَّ الْهِجْرَانَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ هُوَ الْإِيلَاءُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إنْ هَجَرَهَا فَهُوَ إيلَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَلِفَ. فَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ جِمَاعِهَا ضِرَارًا وَبَيْنَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الضِّرَارِ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجِمَاعَ حَقٌّ لَهَا وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنْ الْجِمَاعِ كَانَ مُولِيًا حَتَّى تَصِلَ إلَى حَقِّهَا مِنْ الْفُرْقَةِ; إذْ لَيْسَ لَهُ إلَّا إمْسَاكُهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ الصَّلَاحَ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ مُرْضِعَةً فَحَلَفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ، فَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ مَنْعَ حَقِّهَا وَلَا هُوَ غَيْرُ مُمْسِكٍ لَهَا بِمَعْرُوفٍ فَلَا يَلْزَمُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِيَمِينِهِ حُكْمُ الْفُرْقَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ اعْتَبَرَ الضِّرَارَ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُذْنِبًا يَقْتَضِي الْفَيْءَ غُفْرَانُهُ. وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ; لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ شَمِلَتْ الْجَمِيعَ، وَقَاصِدُ الضَّرَرِ أَحَدُ مَنْ شَمِلَهُ الْعُمُومُ، فَرَجَعَ هَذَا الْحُكْمُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي إيجَابِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَأَيْضًا سَائِرُ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الطَّلَاقِ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَتَعَلَّقَانِ بِالْيَمِينِ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا قَصَدَ ضِرَارَهَا بِيَمِينٍ عَلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} لَا خِلَافَ أَنَّهُ قَدْ أَضْمَرَ فِيهِ الْيَمِينَ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ جِمَاعِهَا مُولٍ، فَتَرْكُ الْجِمَاعِ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَأَثْبَتْنَاهُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى إضْمَارِهِ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يُضْمِرْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَيْءِ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ

الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هُوَ الْجِمَاعُ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّ الْهِجْرَانَ يُوجِبُ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا حَلَفَ ثُمَّ هَجَرَهَا مُدَّةَ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالْأَلِيَّةُ الْيَمِينُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهِجْرَانُهَا لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ، فَكَانَ يَهْجُرُهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إليها ولا يرى ذلك إيلاء. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي إذَا حَلَفَ عَلَيْهَا يَكُونُ مُولِيًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَكَمِ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ: أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا، إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ مُولٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ، وَإِنْ قَرِبَهَا فِي غَيْرِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ وَفِيهَا امْرَأَتُهُ وَمِنْ أَجْلِهَا حَلَفَ فَهُوَ مُولٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَالْإِيلَاءُ هُوَ الْيَمِينُ وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ تَرْكَ جِمَاعِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ لَا يُكْسِبُهُ حُكْمَ الْإِيلَاءِ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَضَتْ مُدَّةُ الْيَمِينِ كَانَ تَارِكًا لِجِمَاعِهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ التَّرَبُّصُ بِغَيْرِ يَمِينٍ; وَتَرْكُ جِمَاعِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْبَيْنُونَةِ، وَمَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُكْسِبُهُ حُكْمَ الْبَيْنُونَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ الْفُرْقَةِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ جِمَاعِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ فَلَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ إنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كُلُّ يَمِينٍ فِي زَوْجَةٍ يَمْنَعُ جِمَاعَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا يَحْنَثُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهَذِهِ الْيَمِينُ لَمْ تَمْنَعْهُ جِمَاعَهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى جِمَاعِهَا بِغَيْرِ حِنْثٍ بِأَنْ يَقْرَبَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَيْتِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ مُولٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى مَضَتْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ إيلَاؤُهُ دُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُولٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ

أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَجَعَلَ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَرَبُّصًا لِلْفَيْءِ فِيهَا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ التَّرَبُّصَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِهَا بِالْيَمِينِ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَكْسَبَهُ ذَلِكَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ الطَّلَاقَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَبَيْنَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا; إذْ لَيْسَ لَهُ تَرَبُّصُ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُولِيًا فِي حَلِفِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَقَلَّ مِنْهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا; لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَلِفِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا مَا دُونَهَا بِدَلَالَةٍ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَمَا فَوْقَهَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٍ لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُ الطَّلَاقِ بِهَا; لِأَنَّك تُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمُضِيِّهَا وَلَا إيلَاءَ هُنَاكَ. قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ; لِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِلْإِيقَاعِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ بَقَاءِ الْيَمِينِ فِي حَالِ وُقُوعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُضِيَّ الْحَوْلِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونَ الْحَوْلُ مَوْجُودًا فِي حَالِ الْوُجُوبِ بَلْ يَكُونُ مَعْدُومًا مُنْقَضِيًا؟ وَأَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَتْ هَذِهِ يَمِينًا مَعْقُودَةً؟ فَإِنْ كَلَّمَتْهُ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ، وَقَدْ انْحَلَّتْ فِيهَا الْيَمِينُ، وَبَطَلَتْ كَذَلِكَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُهُ وَالْيَمِينُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْفَيْءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] يَعْنِي حَتَّى تَرْجِعَ مِنْ الْبَغْيِ إلَى الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ أَمْرُ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ الْفَيْءُ الرُّجُوعَ إلَى الشَّيْءِ اقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا عَلَى وَجْهِ الضَّرَرِ ثُمَّ قَالَ لَهَا: قَدْ فِئْت إلَيْك وَقَدْ أَعْرَضْت عَمَّا عَزَمْت عَلَيْهِ مِنْ هِجْرَانِ فِرَاشِك بِالْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَاءَ إلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ عَاجِزًا. هَذَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا الْجِمَاعَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ آلَى وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ هِيَ رَتْقَاءُ أَوْ صَغِيرَةٌ أَوْ هُوَ مَجْبُوبٌ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فَاءَ إلَيْهَا بِلِسَانِهِ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعُذْرُ قَائِمٌ فَذَلِكَ فَيْءٌ صَحِيحٌ وَلَا تَطْلُقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا الْجِمَاعَ. وَقَالَ زُفَرُ: فَيْؤُهُ بِالْقَوْلِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا آلَى وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا تُجَامَعُ مِثْلُهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى تَبْلُغَ الْوَطْءَ، ثُمَّ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُذْ بَلَغَتْ الْوَطْءَ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُولِي إذَا وَقَفَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ ثُمَّ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ: "إنَّهُ إنْ

لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ ارْتِجَاعَهُ إيَّاهَا ثَابِتٌ عَلَيْهَا وَإِنْ مَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَفَ أَيْضًا". قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ مَالِكٌ: إنْ مَضَى الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ لَمْ يُوقَفْ حَتَّى يَبْرَأَ; لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ غَائِبٌ إنْ شَاءَ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ. وَقَالَ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ فِي الْمُولِي إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ: فَلْيَفِئْ بِلِسَانِهِ، يَقُولُ: قَدْ فِئْت إلَيْك، يَجْزِيهِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فَأَشْهَدَ عَلَى الْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَدْ فَاءَ، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ حَاضَتْ أَوْ طَرَدَهُ السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَى الْفَيْءِ وَلَا إيلَاءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إذَا مَرِضَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يُوقَفُ كَمَا يُوقَفُ صَحِيحٌ فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ، وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِحَّ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إذَا آلَى الْمَجْبُوبُ فَفَيْؤُهُ بِلِسَانِهِ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا إيلَاءَ عَلَى الْمَجْبُوبِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً فَآلَى مِنْهَا اُسْتُؤْنِفَتْ بِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَمَا تَصِيرُ إلَى حَالٍ يُمْكِنُ جِمَاعُهَا، وَالْمَحْبُوسُ يَفِيءُ بِاللِّسَانِ، وَلَوْ أَحْرَمَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا الْجِمَاعَ، وَلَوْ آلَى وَهِيَ بِكْرٌ فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَى افْتِضَاضِهَا أُجِّلَ أَجَلَ الْعِنِّينِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ كَانَ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا قَدْ فَاءَ; لِأَنَّ الْفَيْءَ الرُّجُوعُ إلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ قَدْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ وَطْئِهَا بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْيَمِينُ، فَإِذَا فَاءَ بِالْقَوْلِ فَقَالَ قَدْ فِئْت إلَيْك فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ إلَى ضِدِّهِ، فَتَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ; وَأَيْضًا لَمَّا تَعَذَّرَ جِمَاعُهَا قَامَ الْقَوْلُ فِيهِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْنُونَةِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ، أَمَّا الْإِحْرَامُ فَلِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْ الْوَطْءِ، وَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْمُولِي تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ الْحَيْضِ فِيهَا; وَاتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ فِي حَالِ إمْكَانِ الْجِمَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ إمْكَانِ وَطْئِهَا، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ إمْكَانِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَامِ وَالظِّهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ بِتَحْرِيمِهِ لَا بِالْعَجْزِ وَتَعَذُّرِهِ وَلِأَنَّ حَقَّهَا بَاقٍ فِي الْجِمَاعِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَبَانَهَا بِخُلْعٍ وَهُوَ مُولٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيمُ الْوَاقِعُ مُوجِبًا لِجَوَازِ فَيْئِهِ

بِالْقَوْلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا فِي هَذَا الْحَالِ بَطَلَ الْإِيلَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ لَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ فَوَاجِبٌ بَقَاؤُهَا; إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْفَيْءِ بِالْقَوْلِ فِي إسْقَاطِهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الْيَمِينِ، وَبُطْلَانُ الْإِيلَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ كَانَتْ الْيَمِينُ بَاقِيَةً لَوْ وَطِئَهَا حَنِثَ وَلَمْ يَلْحَقْهَا بِهَا طَلَاقٌ وَإِنْ تَرَكَ وَطْأَهَا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك لَمْ يَكُنْ إيلَاءً، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا كَانَتْ الْيَمِينُ بَاقِيَةً لَوْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، فَلَيْسَ بَقَاءُ الْيَمِينِ إذًا عِلَّةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، فَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا بِلِسَانِهِ، فَيَسْقُطُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَيَبْقَى حُكْمُ الْحِنْثِ بِالْوَطْءِ. وَإِنَّمَا شَرَطَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وُجُودَ الْعُذْرِ فِي الْمُدَّةِ كُلِّهَا، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْجِمَاعَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفَيْءَ بِالْقَوْلِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَطْءِ عِنْدَ عَدَمِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أُقِيمَ تَيَمُّمُهُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ كَانَ مَتَى وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَعَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ سَوَاءٌ كَانَ وُجُودُهُ لِلْمَاءِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي آخِرِهَا، كَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ تُبْطِلُ حُكْمَ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا فَاءَ بِالْقَوْلِ لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الْمُدَّةِ ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعُذْرُ قَائِمٌ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنْهَا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ عَلَى أَجْنَبِيَّةٍ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَيَكُونُ يَمِينُهُ بَاقِيَةً; إنْ قَرِبَهَا حَنِثَ وَإِنْ تَرَكَ جِمَاعَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ تَطْلُقْ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَفِئْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَالُوا: إنَّهَا تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ. وَاخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَرُوِيَ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا; وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ، قَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، فَقَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ; وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ: إنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَيَكُونُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً إذَا طَلَّقَ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا تَصِحُّ رجعته حتى

يَطَأهَا فِي الْعِدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ عَفَتْ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُدَّةِ كَانَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَطْلُبَ وَلَا يُؤَجِّلُ فِي الْجِمَاعِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ وَمَنْ تَابَعَهُمَا أَنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا اخْتِلَافُ السَّلَفِ، وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَهَا لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهَا; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ الْمُؤَوَّلِ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ; وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَالِمِينَ بِمَا يَحْتَمِلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَدْ كَانَ شَائِعًا مُسْتَفِيضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى تَوَسُّعِ الِاجْتِهَادِ فِي حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ احْتَجْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، فَوَجَدْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ قَالَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ قَبْلَ الْفَيْءِ إلَيْهَا فَسَمَّى تَرْكَ الْفَيْءِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ شَرْعًا أَوْ لُغَةً، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَحُجَّتُهُ ثَابِتَةٌ وَاعْتِبَارُ عُمُومِهِ وَاجِبٌ; إذْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْمُولِي أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إمَّا الْفَيْءُ وَإِمَّا عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَأَنَّهُ فَائِتٌ بِمُضِيِّهَا فَتَطْلُقُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَيْءُ بَاقِيًا لَمَا كَانَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ عَزِيمَةً لِلطَّلَاقِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْعَزِيمَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ، تَقُولُ: عَزَمْت عَلَى كَذَا أَيْ عَقَدْت قَلْبِي عَلَى فِعْلِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ أَوْلَى بِمَعْنَى عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ مِنْ الْوَقْفِ; لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي إيقَاعَ طَلَاقٍ بِالْقَوْلِ إمَّا أَنْ يُوقِعَهُ الزَّوْجُ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوَقْفِ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِتَرْكِهِ الْفَيْءَ فِيهَا أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ إيقَاعًا مُسْتَأْنَفًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ عَزِيمَةً، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَزِيدَ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} اقْتَضَى ذَلِكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ مِنْ فَيْءٍ أَوْ عَزِيمَةِ طَلَاقٍ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَالْفَيْءُ إنَّمَا هُوَ مُرَادٌ فِي الْمُدَّةِ مَقْصُورُ الْحُكْم عَلَيْهَا; والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ عَقِيبَ الْيَمِينِ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَيْءَ عَقِيبَ الْيَمِينِ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَيْءَ لِمَنْ لَهُ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْفَيْءِ مَقْصُورًا عَلَى الْمُدَّةِ ثُمَّ فَاتَ بِمُضِيِّهَا وَجَبَ حُصُولُ الطَّلَاقِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْفَيْءَ

وَالطَّلَاقَ جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ الْفَيْءِ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ فِيهَا، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ فَاءُوا فِيهَا وَكَذَلِكَ قُرِئَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ; فَحَصَلَ الْفَيْءُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَتَمْضِي الْمُدَّةُ بِفَوْتِ الْفَيْءِ، وَإِذَا فَاتَ الْفَيْءُ حَصَلَ الطَّلَاقُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} فَعَطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى التَّرَبُّصِ فِي الْمُدَّةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ مَشْرُوطٌ بَعْدَ التَّرَبُّصِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَأَنَّهُ مَتَى مَا فَاءَ فَإِنَّمَا عَجَّلَ حَقَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَعْجِيلُهُ كَمَنْ عَجَّلَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا. قِيلَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ الْفَيْءَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا صَحَّ وُجُودُهُ فِيهَا وَكَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا الْفَيْءِ إلَى فَيْءٍ بَعْدَ مُضِيِّهَا، فَلَمَّا صَحَّ الْفَيْءُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ بِالْآيَةِ، وَلِذَلِكَ بَطَلَ مَعَهُ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ. ثُمَّ قَوْلُك إنَّ الْمُرَادَ بِالْفَيْءِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْمُدَّةِ مَعَ قَوْلِك: إنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ صَحِيحٌ كَهُوَ بَعْدَهَا تَبْطُلُ مَعَهُ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُنَاقَضَةٌ مِنْك فِي اللَّفْظِ، كَقَوْلِك: إنَّهُ مُرَادٌ فِي الْمُدَّةِ غَيْرُ مُرَادٍ فِيهَا، وَقَوْلِك إنَّهُ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إذَا عَجَّلَهُ لَا يُزِيلُ عَنْك مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمُنَاقَضَةِ; لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يُخْرِجُهُ التَّأْجِيلُ مِنْ حُكْمِ اللُّزُومِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ; لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ مِلْكُهُ مِنْ الْأَثْمَانِ عَلَى وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَلْزَمُك إلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؟ وَالتَّأْجِيلُ الَّذِي ذَكَرْت لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ وَاجِبًا مِلْكًا لِلْبَائِعِ، وَمَتَى عَجَّلَهُ وَأَسْقَطَ الْأَجَلَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ; إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فَوَاتَ الْفَيْءِ يُوجِبُ الطَّلَاقَ، وَإِذَا كَانَ الْفَيْءُ مُرَادًا فِي الْمُدَّةِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُهُ فِيهَا مُوجِبًا لِلطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} فِيهِ ضَمِيرُ الْمُولِي الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ إيقَاعُ الْفَيْءِ عَقِيبَ الْيَمِينِ. وَدَلِيلٌ آخر، وهو قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَلَمَّا كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ وَاقِعَةً بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي تَرَبُّصِ الْأَقْرَاءِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ تَرَبُّصِ الْإِيلَاءِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّا لَوْ وَقَفْنَا الْمُولِي لَحَصَلَ التَّرَبُّصُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ، وَلَوْ غَابَ الْمُولِي عَنْ امْرَأَتِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تَرْفَعْهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تُطَالِبْ بِحَقِّهَا لَكَانَ التَّرَبُّصُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِوَقْتٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ وَاقِعَةً بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي تَرَبُّصِ الْأَقْرَاءِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْإِيلَاءِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ذِكْرُ التَّرَبُّصِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ وَاجِبَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَتَعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْبَيْنُونَةِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ فِي إحْدَاهُمَا بِمُضِيِّهَا كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذكرناه.

فَإِنْ قِيلَ: تَأْجِيلُ الْعِنِّينِ حَوْلًا بِالِاتِّفَاقِ، وَتَخْيِيرُ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فِي الْحَوْلِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْأَجَلِ; كَذَلِكَ مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إيجَابُ الْوَقْفِ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا يُوجِبُ زِيَادَةً فِيهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ تَقْدِيرُ أَجَلِ الْعِنِّينِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ; وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ يُؤَجَّلُ حَوْلًا هُمْ الَّذِينَ خَيَّرُوهَا بِمُضِيِّهِ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَلَمْ يُوقِعُوا الطَّلَاقَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّخْيِيرِ مَعَهَا، فَالزَّائِدُ فِيهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَجَلَ الْعِنِّينِ إنَّمَا يُوجِبُ لَهَا الْخِيَارَ بِمُضِيِّهِ، وَأَجَلُ الْمُولِي عِنْدَك إنَّمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفَيْءَ، فَإِنْ قَالَ: أَفِيءُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ الْعِنِّينُ: أَنَا أُجَامِعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِيَارِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِيلَاءُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْهُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ. قِيلَ لَهُ: وَلَيْسَ اللِّعَانُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْهُ، فَيَجِبُ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنْ لَا تُوقَعَ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ. وَلَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَصْلِنَا; لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الْفُرْقَةِ; إذْ كَانَ قَوْلُهُ لَا أَقْرَبُك يُشْبِهُ كِنَايَةَ الطَّلَاقِ; وَلَمَّا كَانَ أَضْعَفَ أَمْرًا مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إلَّا بِانْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَقُولُهُ; إذْ قَدْ وَجَدْنَا مِنْ الْكِنَايَاتِ مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ خَيَّرْتُك وَقَوْلُ: أَمْرُك بِيَدِك فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهَا. فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِيلَاءِ: إنَّهُ كِنَايَةٌ، إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ حَالًا مِنْ سَائِرِ الْكِنَايَاتِ، فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ دُونَ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ. فَأَمَّا اللِّعَانُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَاتِ; لِأَنَّ قَذْفَهُ إيَّاهَا بِالزِّنَا وَتَلَاعُنَهُمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْبَيْنُونَةِ بِحَالٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ مُخَالِفٌ لِلْإِيلَاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْإِيلَاءُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِغَيْرِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْفُرْقَةِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْعِنِّينَ أَيْضًا لِأَنَّ تَأْجِيلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَاكِمِ، وَالْإِيلَاءُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْفُرْقَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا مَسْمُوعًا وَهُوَ الطَّلَاقُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّمِيعَ لَا يَقْتَضِي مَسْمُوعًا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا وَلَا مَسْمُوعَ. وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَلَيْسَ هُنَاكَ قَوْلٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا وَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ" وَأَيْضًا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ

يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَامِعٌ لِمَا تَكَلَّمَ بِهِ عَلِيمٌ بِمَا أَضْمَرَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ يُثْبِتُونَ هُنَاكَ مَعَانِيَ أُخَرَ غَيْرَ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ، إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ فَيْءٍ أَوْ طَلَاقٍ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ مُطَالَبَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا وَقْفُ الْقَاضِي الزَّوْجَ عَلَى الْفَيْءِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُلْحِقَ بِالْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا وَلَا أَنْ نَزِيدَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَقَوْلُ مُخَالِفِينَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ وَلَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ، وَقَوْلُنَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهَا، فَكَانَ أَوْلَى. وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا حَكَمَ فِي الْإِيلَاءِ بِهَذَا الْحُكْمِ لِإِيصَالِ الْمَرْأَةِ إلَى حَقِّهَا مِنْ الْجِمَاعِ أَوْ الْفُرْقَةِ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَفِئْ أَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، فَإِذَا طَلَّقَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَإِنْ جَعَلَهُ بَائِنًا فَإِنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ بَائِنًا عِنْدَ أَحَدٍ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ جَعَلَهُ رَجْعِيَّا فَلَا حَظَّ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَتَى شَاءَ رَاجَعَهَا فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ كَمَا كَانَتْ، فَلَا مَعْنَى لِإِلْزَامِهِ طَلَاقًا لَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ بُضْعَهَا وَتَصِلُ بِهِ إلَى حَقِّهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يَصِحُّ رَجْعَتُهُ حَتَّى يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ فَقَوْلٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ فِيهِ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْنًى غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إذَا مَنَعَهُ الرَّجْعَةَ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ فَقَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا، وَهُوَ لَوْ رَاجَعَهَا لَمْ تَكُنْ رَجْعَةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ وَلَا تَقَعُ الرَّجْعَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْوَطْءِ، فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ سَائِرَ الْفُرَقِ الْحَادِثَةِ فِي الْأُصُولِ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، مِنْ ذَلِكَ فُرْقَةُ الْعِنِّينِ وَاخْتِيَارُ الْأَمَةِ وَرِدَّةُ الزَّوْجِ وَاخْتِيَارُ الصَّغِيرَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَصْرِيحٌ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إيلَاءِ الذِّمِّيِّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: إذَا حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَهُوَ مُولٍ، وَإِنَّ حَلَفَ بِصَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ كَانَ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ مُولِيًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ صَحِيحٌ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيلَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَلْزَمُهُ، فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ يَصِحَّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ; لأن

ذَلِكَ يَلْزَمُهُ كَمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ; وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَلَا يَلْزَمُهُ إذَا حَنِثَ; لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِإِيجَابِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ هَذِهِ الْقُرَبِ; لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا بِحَلِفِهِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ; إذْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْجِمَاعِ شَيْءٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ; وقَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يَقْتَضِي عُمُومَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَكِنَّا خَصَّصْنَاهُ بِمَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَهُ مُولِيًا وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ حُكْمَ; تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَعَلَّقَ عَلَى الْكَافِرِ كَهِيَ عَلَى الْمُسْلِمِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ إظْهَارَ الْكَافِرِ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ يُبِيحُ أَكْلَهَا كَالْمُسْلِمِ، وَلَوْ سَمَّى الْكَافِرُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ تُؤْكَلْ; فَثَبَتَ حُكْمُ تَسْمِيَتِهِ وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ فِي حُكْمِهَا، فَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ; لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَفَّارَةُ، وَالْآخَرُ: الطَّلَاقُ; فَثَبَتَ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِحَلِفِهِ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا; وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ; لِأَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا كَانَ هُوَ الْحَلِفَ وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا يَصِلُ إلَى جِمَاعِهَا إلَّا بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ صَدَقَةٍ يَلْزَمُهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُولِيًا كَحَلِفِهِ بِاَللَّهِ; لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ الْجَمِيعَ; إذْ كَانَ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ مُولٍ. فَصْلٌ وَمِمَّا تُفِيدُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ، فَقَالَ: لَمَّا حُكِمَ لِلْمُولِي بِأَحَدِ حُكْمَيْنِ مِنْ فَيْءٍ أَوْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ لَسَقَطَ الْإِيلَاءُ بِغَيْرِ فَيْءٍ وَلَا عَزِيمَةِ طَلَاقٍ; لِأَنَّهُ إنْ حَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ، وَمَتَى لَمْ يَلْزَمْ الْحَالِفَ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إسْقَاطُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

بَابُ الْأَقْرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرْءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى: هُوَ الْحَيْضُ وَقَالُوا: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ عِيسَى الْحَافِظِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ فَالْخَبَرَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالُوا: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ مَا لَمْ

تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ: إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا قَالَتْ عَائِشَةُ: الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَغْتَسِلَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: الْأَقْرَاءُ الْحَيْضُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدْ قَالُوا: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ يَذْهَبَ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْمُسْلِمَةِ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَ غَيْرَ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الذِّمِّيَّةُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ اغْتَسَلَتْ فَلَا تَنْتَظِرُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ شَيْئًا آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إذَا انْقَطَعَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَطَلَ الرَّجْعَةُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ الْغُسْلُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ، فَإِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ وُقُوعُ اسْمِ الْأَقْرَاءِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ الْحَيْضِ وَمِنْ الْأَطْهَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لَهُمَا لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِمَا; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَمَا يَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ الْمَعَانِي مِنْ الْعِبَارَاتِ، فَلَمَّا تَأَوَّلَهَا فَرِيقٌ عَلَى الْحَيْضِ وَآخَرُونَ عَلَى الْأَطْهَارِ عَلِمْنَا وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَدْ كَانَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ مُسْتَفِيضًا، وَلَمْ يُنْكِرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى مُخَالِفِيهِ فِي مَقَالَتِهِ، بَلْ سَوَّغَ لَهُ الْقَوْلَ فِيهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِمَعْنَيَيْنِ وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِيهِمَا، أَوْ مَجَازًا فِيهِمَا، أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ; فَوَجَدْنَا أَهْلَ اللُّغَةِ مُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: هُوَ اسْمٌ لِلْوَقْتِ; حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو عَمْرِو غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَعْنَى الْقُرْءِ لَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى الْوَقْتِ، وَقَدْ اسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا رُبَّ مَوْلًى حَاسِدٍ مُبَاغِضِ ... عَلَيَّ ذِي ضِغْنٍ وَضَبٍّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ يَعْنِي: وَقْتًا تَهِيجُ فِيهِ عَدَاوَتُهُ. وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلُوا قَوْلَ الْأَعْشَى: وَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا مُوَرَّثَةٌ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا

يَعْنِي: وَقْتَ وَطْئِهِنَّ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى الطُّهْرِ نَفْسِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ طُهْرِ نِسَائِك. وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَرِهْت الْعَقْرَ عَقَرَ بَنِي شَلِيلٍ ... إذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ يَعْنِي: لِوَقْتِهَا فِي الشِّتَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الضَّمُّ وَالتَّأْلِيفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: تُرِيك إذَا دَخَلْت عَلَى خَلَاءٍ ... وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونَ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا يَعْنِي: لَمْ تَضُمَّ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته، وقَرَوْت الْأَرْضَ إذَا جَمَعْت شَيْئًا إلَى شَيْءٍ وَسَيْرًا إلَى سَيْرٍ. وَيَقُولُونَ: مَا قَرَأَتْ النَّاقَةُ سَلًى قَطُّ أَيْ مَا اجْتَمَعَ رَحِمُهَا عَلَى وَلَدٍ قَطُّ. وَمِنْهُ: أَقْرَأَتْ النُّجُومُ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي الْأُفُقِ. وَيُقَالُ: أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ، فَهِيَ مُقْرِئٌ، ذَكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ وَهَذَا قَوْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ مِنْ اللُّغَةِ وَلَا هُوَ ثَابِتٌ عَمَّنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّوَاهِدِ مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ. ثُمَّ يَقُولُ: وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ الْوَقْتَ فَالْحَيْضُ أَوْلَى بِهِ; لِأَنَّ الْوَقْتَ إنَّمَا يَكُونُ وَقْتًا لِمَا يَحْدُثُ فِيهِ، وَالْحَيْضُ هُوَ الْحَادِثُ، وَلَيْسَ الطُّهْرُ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ عَدَمِ الْحَيْضِ، وَلَيْسَ هُوَ شَيْءٌ حَادِثٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ أَوْلَى بِمَعْنَى الِاسْمِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ الضَّمَّ وَالتَّأْلِيفَ فَالْحَيْضُ أَوْلَى بِهِ; لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ إنَّمَا يَتَأَلَّفُ وَيَجْتَمِعُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ فِي حَالِ الْحَيْضِ، فَمَعْنَاهُ أَوْلَى بِالِاسْمِ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَتَأَلَّفُ الدَّمُ وَيَجْتَمِعُ فِي أَيَّامِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَسِيلُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ. قِيلَ لَهُ: أَحْسَنْت إنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ الْقُرْءُ اسْمًا لِلدَّمِ، إلَّا أَنَّك زَعَمْت أَنَّهُ يَكُونُ اسْمًا لَهُ فِي حَالِ الطُّهْرِ وَقُلْنَا يَكُونُ اسْمًا لَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ، فَلَا مَدْخَلَ إذًا لِلطُّهْرِ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالْقُرْءِ; لِأَنَّ الطُّهْرَ لَيْسَ هُوَ الدَّمَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الطُّهْرَ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا مَعَ عَدَمِ الدَّمِ تَارَةً وَمَعَ وُجُودِهِ أُخْرَى عَلَى أَصْلِك؟ فَإِذًا الْقُرْءُ اسْمٌ لِلدَّمِ وَلَيْسَ بِاسْمٍ لِلطُّهْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ; لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُتَيَقَّنُ كَوْنُهُ فِي الرَّحِمِ فِي حَالِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ كَوْنُهُ فِي حَالِ الطُّهْرِ أَنْ نُسَمِّيَهُ بِاسْمِ الْقُرْءِ; لِأَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ سَيَلَانِهِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ. وَأَيْضًا فَمِنْ أَيْنَ لَك الْعِلْمُ بِاجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي حَالِ الطُّهْرِ وَاحْتِبَاسِهِ فِيهِ ثُمَّ سَيَلَانِهِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ؟ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ عَارٍ مِنْ دَلِيلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ، وَيَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] فاستأثر

تَعَالَى بِعِلْمِ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَلَمْ يُطْلِعْ عِبَادَهُ عَلَيْهِ، فَمِنْ أَيْنَ لَك الْقَضَاءُ بِاجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي حَالِ الطُّهْرِ ثُمَّ سَيَلَانِهِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ؟ وَمَا أَنْكَرْت مِمَّنْ قَالَ إنَّمَا يَجْتَمِعُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ وَيَسِيلُ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ لَا قَبْلَ ذَلِكَ وَيَكُونُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْك؟ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُجُودَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَمْ نَعْلَمْ وُجُودَهُ فِي وَقْتٍ قَبْلَهُ فَلَا يُحْكَمُ بِهِ لِوَقْتٍ مُتَقَدِّمٍ، وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ، فَلْيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ فِي الْحَقِيقَةِ وَأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الطُّهْرِ إنَّمَا هُوَ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ. وَإِنْ كَانَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ وَمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنْ حَقِيقَتِهَا كَافِيَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَتَهُ تَخْتَصُّ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ، فَنَقُولُ: لَمَّا وَجَدْنَا أَسْمَاءَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا بِحَالٍ وَوَجَدْنَا أَسْمَاءَ الْمَجَازَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْهَا فِي حَالٍ وَتَلْزَمَهَا فِي أُخْرَى، ثُمَّ وَجَدْنَا اسْمَ الْقُرْءِ غَيْرَ مُنْتَفٍ عَنْ الْحَيْضِ بِحَالٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ يَنْتَفِي عَنْ الطُّهْرِ; لِأَنَّ الطُّهْرَ مَوْجُودٌ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَيْسَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، عَلِمْنَا أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ لِلطُّهْرِ الَّذِي بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مَجَازٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْحَيْضِ كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ جَاوَرَ الْحَيْضَ سُمِّيَ بِهِ وَحِينَ لَمْ يُجَاوِرْهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا، فَلَوْ أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الِاحْتِمَالِ لَكَانَ الْحَيْضُ أَوْلَاهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَتْ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ بِقَوْلِهِ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا" وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: "فَإِذَا أَقْبَلَ قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إلَى الْقُرْءِ". فَكَانَ لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقُرْءَ الْحَيْضُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ إلَّا مَحْمُولًا عَلَيْهِ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا مَحَالَةَ نَزَلَ بِلُغَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَادَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي وَلَمْ يَرِدْ لُغَتُهُ بِالطُّهْرِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الطُّهْرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البصري قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ" قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: فَحَدَّثَنِي مُظَاهِرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: "وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ

ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: "تَطْلِيقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" فَنَصَّ عَلَى الْحَيْضَتَيْنِ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ مُخَالِفِينَا; لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِدَّتَهَا طُهْرَانِ وَلَا يَسْتَوْعِبُونَ لَهَا حَيْضَتَيْنِ; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ كَانَتْ عِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثَ حِيَضٍ. وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا فِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ صِحَّتَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِبْرَاءِ، فَلَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ دُونَ الطُّهْرِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ; إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضُوعٌ فِي الْأَصْلِ لِلِاسْتِبْرَاءِ أَوْ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَبَلِ; وَإِنْ كَانَ قَدْ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ; لِأَنَّ الْأَصْلَ لِلِاسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لِئَلَّا يُتَرَخَّصَ فِي الَّتِي قَارَبَتْ الْبُلُوغَ وَفِي الْكَبِيرَةِ الَّتِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَحِيضَ وَتَرَى الدَّمَ بِتَرْكِ الْعِدَّةِ، فَأَوْجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ الْعِدَّةَ احْتِيَاطًا لِلِاسْتِبْرَاءِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَأَوْجَبَ الشُّهُورَ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ; فَأَقَامَهَا مَقَامَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَيْضُ; كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ إلَى الصَّعِيدِ هُوَ الْمَاءُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ حَصَرَ الْأَقْرَاءَ بِعَدَدٍ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَهُ لِلْعِدَّةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وَاعْتِبَارُ الطُّهْرِ فِيهِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا بِكَمَالِهَا فِيمَنْ طَلَّقَهَا لِلسُّنَّةِ; لِأَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ أَنْ يُوقِعَهُ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، فَلَا بُدَّ إذَا كَانَ كَذَلِكَ مِنْ أَنْ يُصَادِفَ طَلَاقُهُ طُهْرًا قَدْ مَضَى بَعْضُهُ ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِطُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ، فَهَذَانِ طُهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّلَاثِ إذَا أَرَادَ طَلَاقَ السُّنَّةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْحَيْضُ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِكَمَالِهِ; وَلَيْسَ هَذَا كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُرْهَا بِعَدَدٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْأَقْرَاءُ مَحْصُورَةٌ بِعَدَدٍ لَا يَحْتَمِلُ الْأَقَلَّ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: رَأَيْت ثَلَاثَةَ رِجَالٍ وَمُرَادُك رَجُلَانِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَقُولَ: رَأَيْت رِجَالًا وَالْمُرَادُ رَجُلَانِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} مَعْنَاهُ عَمَلُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَمُرَادُهُ فِي بَعْضِهَا; لِأَنَّ عَمَلَ الْحَجِّ لَا يَسْتَغْرِقُ الْأَشْهُرَ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْهَا فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ. وَأَمَّا الْأَقْرَاءُ فَوَاجِبٌ اسْتِيفَاؤُهَا لِلْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارَ فَوَاجِبٌ أَنْ يُسْتَوْفَى الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ كَمَا يُسْتَغْرَقُ الْوَقْتُ كُلُّهُ، فَيَكُونُ جَمِيعُ أَوْقَاتِ الطُّهْرِ عِدَّةً إلَى انْقِضَاءِ عَدَدِهَا، فَلَمْ يَجُزْ

الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا دُونَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْحَيْضَ إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ عِنْدَ إيقَاعِ طَلَاقِ السُّنَّةِ. وَكَمَا لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ فِي عِدَّةِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} كَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ اثْنَتَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ فَبَقِيَّتُهُ قُرْءٌ تَامٌّ. قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ الثَّالِثِ إذَا كَانَ الْجُزْءُ مِنْهُ قُرْءًا تَامًّا. فَإِنْ قِيلَ: الْقُرْءُ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ أَوْ مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ، إلَّا أَنَّهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ مُعْتَدًّا بِهِ قُرْءًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ غَيْرُ مُرَادٍ بَقِيَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ خُرُوجُهَا مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ، وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُ الْقَائِلِ الْقُرْءُ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ أَوْ مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ قَوْلٌ يَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: هِيَ الْحَيْضُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الْأَطْهَارُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ أَوْ مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ; فَقَوْلُ الْقَائِلِ بِمَا وَصَفْت خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ بِخِلَافِهِ، فَهُوَ سَاقِطٌ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ حَقِيقَتِهِ مَا يُوجِبُ احْتِمَالَ خُرُوجِهَا مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ أَوْ مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ، فَيَفْسُدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ ادَّعَى مَعْنًى لِاسْمٍ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ مِنْهَا عَلَيْهِ أَوْ رِوَايَةٍ عَنْ أَهْلِهَا فِيهِ، فَلَمَّا عَرِيَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ دَلَالَةِ اللُّغَةِ وَرِوَايَةٍ فِيهَا سَقَطَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْءُ اسْمًا لِلِانْتِقَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سُمِّيَ بِهِ فِي الْأَصْلِ غَيْرُهُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ; إذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ مَوْضُوعٍ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يُسَمَّ شَيْءٌ مِنْ ضُرُوبِ الِانْتِقَالِ بِهَذَا الِاسْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ لَهُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهَا مِنْ الطُّهْرِ إلَى الْحَيْضِ قُرْءًا ثُمَّ انْتِقَالُهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ قُرْءًا ثَانِيًا ثُمَّ انْتِقَالُهَا مِنْ الطُّهْرِ الثَّانِي إلَى الْحَيْضِ قُرْءًا ثَالِثًا، فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ; إذْ لَيْسَ بِحَيْضٍ عَلَى أَصْلِك اسْمُ الْقُرْءِ بِالِانْتِقَالِ مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ دُونَ الِانْتِقَالِ مِنْ الطُّهْرِ إلَى الْحَيْضِ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِيهِ، إلَّا أَنَّ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ مَنَعَتْ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْت مِمَّنْ قَالَ لَك إنَّ الْمُرَادَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ لَمْ يُعْتَدَّ بِانْتِقَالِهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ فِيهِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَحُكْمُ اللَّفْظِ بَاقٍ بَعْدَ

ذَلِكَ فِي سَائِرِ الِانْتِقَالَاتِ مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ؟ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الِانْفِصَالُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَتَعَارَضَا سَقَطَا وَزَالَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُ خُرُوجِهَا مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ خُرُوجِهَا مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ; لِأَنَّ فِي انْتِقَالِهَا مِنْ طُهْرٍ إلَى حَيْضٍ دَلَالَةً عَلَى بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَبَلِ، وَخُرُوجُهَا مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ الْمَرْأَةُ فِي آخِرِ حَيْضِهَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: وَمُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءِ مُغِيلِ يَعْنِي أَنَّ أُمَّهُ لَمْ تَحْبَلْ بِهِ فِي بَقِيَّةِ حَيْضِهَا. فَيُقَالُ لَهُ: قَوْلُك: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ بِهِ فِي بَقِيَّةِ حَيْضِهَا قَوْلٌ خَطَأٌ; لِأَنَّ الْحَبَلَ لَا يُجَامِعُهُ الْحَيْضُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ" فَجَعَلَ وُجُودَ الْحَيْضِ عِلْمًا لِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَبَلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَمْلَ وَالْحَيْضَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَتَى حَمَلَتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَائِضٌ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ، وَلَا يَكُونُ الدَّمُ الْمَوْجُودُ مَعَ الْحَبَلِ حَيْضًا وَإِنَّمَا يَكُونُ دَمَ اسْتِحَاضَةٍ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُك إنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بَرَاءَةِ رَحِمِهَا قَوْلٌ خَطَأٌ. وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا فَإِنَّهُ مِنْ الْعَجَائِبِ، وَمَا عِلْمُ هَذَا الشَّاعِرِ الْجَاهِلِ بِذَلِكَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 37] يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ ذَلِكَ دُونَ خَلْقِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، مَعَ دَلَالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى انْتِفَاءِ اجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا; لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ إنَّمَا هِيَ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَبَلِ، وَالطُّهْرُ لَا اسْتِبْرَاءَ فِيهِ; لِأَنَّ الْحَمْلَ طُهْرٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ الَّتِي هِيَ عِلْمٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَبَلِ; إذْ لَيْسَ فِي الطُّهْرِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَقْرَاءِ اسْتِبْرَاءٌ أَنَّهَا لَوْ رَأَتْ الدَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ هِيَ الْحَبَلُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لِذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إنَّمَا هِيَ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ الْحَبَلِ، وَالِاسْتِبْرَاءُ مِنْ الْحَبَلِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ لِلصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ طُهْرٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِاسْتِبْرَاءٍ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنَّ الطُّهْرَ مُقَارِنٌ لِلْحَبَلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَقَعُ بِمَا يُقَارِنُهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِمَا يُنَافِيهِ وَهُوَ الْحَيْضُ، فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَبَلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ دُونَ الْأَطْهَارِ. وَاحْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَطْهَارَ بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ حِينَ طَلَّقَ ابْنُهُ امْرَأَتَهُ حَائِضًا: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيَدَعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ". قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهَا بِالْأَطْهَارِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ: "فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي

أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ دُونَ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وَذَلِكَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحْصَى هُوَ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِي الطَّلَاقَ. فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك "فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنَّ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ" فَإِنَّ اللَّامَ قَدْ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لِحَالٍ مَاضِيَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" يَعْنِي لِرُؤْيَةٍ مَاضِيَةٍ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] يَعْنِي الْآخِرَةَ؟ فَاللَّامُ هَهُنَا لِلِاسْتِقْبَالِ وَالتَّرَاخِي; وَيَقُولُونَ: تَأَهَّبَ لِلشِّتَاءِ; يَعْنِي وَقْتًا مُسْتَقْبَلًا مُتَرَاخِيًا عَنْ حَالِ التَّأَهُّبِ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَتَى تَنَاوَلَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَيْسَ فِي مُقْتَضَاهُ وُجُودُهُ عَقِيبَ الْمَذْكُورِ بِلَا فَصْلٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَوَجَدْنَا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ فِيهِ ذِكْرُ حَيْضَةٍ مَاضِيَةٍ وَالْحَيْضَةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ مَعْلُومَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيَدَعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى الْحَيْضَةِ الْمَاضِيَةِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا هِيَ الْحَيْضُ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً; إذْ هِيَ مَعْلُومٌ كَوْنُهَا عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ، فَلَيْسَ الطُّهْرُ حِينَئِذٍ بِأَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْحَيْضِ; لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ طُهْرًا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ طُهْرًا قَبْلَهُ; وَلَكِنَّ الطُّهْرَ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا وُجُودُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إذَا طَلَّقَهَا فِيهِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ جَازَ عِنْدَك رُجُوعُ الْكَلَامِ إلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ بِاللَّفْظِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ تَحِيضَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ، فَلَيْسَ إذًا فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ هُوَ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَحَاضَتْ عَقِيبَ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ أَنَّ عِدَّتَهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَيْضَ دُونَ الطُّهْرِ بِمُقْتَضَى لَفْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ ذِكْرُ حَيْضٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا طُهْرٍ، فَإِذَا حَاضَتْ عَقِيبَ الطَّلَاقِ كَانَ ذَلِكَ عِدَّتَهَا. ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ فِي اعْتِبَارِ الْحَيْضِ بَيْنَ وُجُودِهِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ وَمُتَرَاخِيًا عَنْهُ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ هُوَ الْمُعْتَدَّ بِهِ مِنْ الْأَقْرَاءِ دُونَ الطُّهْرِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَيْضَةُ الْمَاضِيَةُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بِالْخَبَرِ; لِأَنَّ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ مِنْ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ عِدَّةً. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ جَازَ أَنْ يُسَمِّيَهَا عِدَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَسَمَّاهُ زَوْجًا قَبْلَ النِّكَاحِ. وَيَلْزَمُ مُخَالِفَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَنَا; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطُّهْرَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الطُّهْرَ الَّذِي بَعْدَ الطَّلَاقِ فَقَدْ سَمَّى الطُّهْرَ الَّذِي قَبْلَهُ عِدَّةً; لِأَنَّهُ بِهِ تَعْتَدُّ عِنْدَك، فَمَا أَنْكَرْت أَنْ تُسَمَّى الْحَيْضَةُ الَّتِي قَبْلَ

الطَّلَاقِ عِدَّةً إذْ كَانَتْ بِهَا تَعْتَدُّ؟ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] فَإِنَّ الْإِحْصَاءَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ; لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ فَالْإِحْصَاءُ يَلْحَقُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الَّذِي يَلِي الطَّلَاقَ هُوَ الطُّهْرَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْإِحْصَاءِ، فَأَوْجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْأَمْرُ بِالْإِحْصَاءِ إلَيْهِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْإِحْصَاءَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى أَشْيَاءَ ذَوِي عَدَدٍ، فَأَمَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ قَبْلَ انْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِإِحْصَائِهِ، فَإِذًا لُزُومُ الْإِحْصَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْأَقْرَاءِ مُتَرَاخِيًا عَنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ حِينَئِذٍ الطُّهْرُ لَا يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْحَيْضِ; إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْإِحْصَاءِ تَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا وَتَلْحَقُهُمَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فَيَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ إنَّهَا لَوْ حَاضَتْ عَقِيبَ الطَّلَاقِ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا بِالْحَيْضِ لِلُزُومِ الْإِحْصَاءِ عَقِيبَهُ، وَاَلَّذِي يَلِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْحَيْضُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِدَّةُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] مَعْنَاهُ: فِي عِدَّتِهِنَّ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ كَتَبَ لِغُرَّةِ الشَّهْرِ، مَعْنَاهُ: فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَهَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ فِي هِيَ ظَرْفٌ، وَاللَّامُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَلَى مَعَانٍ فَلَيْسَ فِي أَقْسَامِهَا الَّتِي تَتَصَرَّفُ عَلَيْهَا وَتَحْتَمِلُهَا كَوْنُهَا ظَرْفًا، وَالْمَعَانِي الَّتِي تَنْقَسِمُ إلَيْهَا لَامُ الْإِضَافَةِ خَمْسَةٌ: مِنْهَا لَامُ الْمِلْكِ، كَقَوْلِك: لَهُ مَالٌ وَلَامُ الْفِعْلِ كَقَوْلِك لَهُ كَلَامٌ وَلَهُ حَرَكَةٌ وَلَامُ الْعِلَّةِ كَقَوْلِك قَامَ; لِأَنَّ زَيْدًا جَاءَهُ، وَأَعْطَاهُ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُ وَلَامُ النِّسْبَةِ كَقَوْلِك لَهُ أَبٌ وَلَهُ أَخٌ وَلَامُ الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِك لَهُ عِلْمٌ وَلَهُ إرَادَةٌ وَلَامُ الِاسْتِغَاثَةِ كَقَوْلِك يَا لَبَكْرٍ وَيَا لَدَارِمٍ وَلَامُ كَيْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا} [الأنعام: 113] وَلَامُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] فَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَنْقَسِمُ إلَيْهَا هَذِهِ اللَّامُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ; وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] مَعْنَاهُ: فِي عِدَّتِهِنَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ مَوْجُودَةً حَتَّى يُطَلِّقَهَا فِيهَا، كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ طَلَّقَهَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ شَيْءٌ; فَبَانَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَتَنَاقُضُهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ الطُّهْرُ الَّذِي مَسْنُونٌ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ، أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي الطُّهْرِ لَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَا تَعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ بِكَوْنِهِ جَمِيعًا مِنْ حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِإِيقَاعِ طَلَاقِ السُّنَّةِ فِي وَقْتِ الطُّهْرِ بِكَوْنِهِ عِدَّةً مُحْصَاةً مِنْهَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَكَانَتْ مُعْتَدَّةً عَقِيبَ الطَّلَاقِ، وَنَحْنُ مُخَاطَبُونَ بِإِحْصَاءِ

عِدَّتِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِلُزُومِ الْإِحْصَاءِ وَلَا لِوَقْتِ طَلَاقِ السُّنَّةِ بِكَوْنِهِ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَائِلُ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَ اعْتِرَاضِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ: وَقَدْ اعْتَبَرْتُمْ يَعْنِي أَهْلَ الْعِرَاقِ مَعَانِيَ أُخَرَ غَيْرَ الْأَقْرَاءِ، مِنْ الِاغْتِسَالِ أَوْ مُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْعِدَّةَ بِالْأَقْرَاءِ وَلَيْسَ الِاغْتِسَالِ وَلَا مُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ. فَيُقَالُ لَهُ: لَمْ نَعْتَبِرْ غَيْرَ الْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ انْقِضَاءَ الْحَيْضِ وَالْحُكْمِ بِمُضِيِّهِ إلَّا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ لِمَنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ: وَهُوَ الِاغْتِسَالُ وَاسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ، فَتَكُونُ طَاهِرًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَعُظَمَاءِ السَّلَفِ مِنْ بَقَاءِ الرَّجْعَةِ إلَى أَنْ تَغْتَسِلَ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُهَا فَرْضُهَا، فَيَكُونُ لُزُومُ فَرْضِ الصَّلَاةِ مُنَافِيًا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَيْضِ. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي مُضِيِّ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَوُقُوعِ الطُّهْرِ مِنْهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي شَيْءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّ أَيَّامَهَا إذَا كَانَتْ عَشَرَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِمُضِيِّ الْعَشَرَةِ اغْتَسَلَتْ أَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ؟ لِحُصُولِ الْيَقِينِ بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ; إذْ لَا يَكُونُ الْحَيْضُ عِنْدَنَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ، فَالْمُلْزِمُ لَنَا ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَيْضِ مُغْفَلٌ فِي إلْزَامِهِ وَاضِعٌ لِلْأَقْرَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَفْرَدْنَا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كِتَابًا وَاسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ هَهُنَا كِفَايَةٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَمُرَادُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُرَّةِ دُونَ الْأَمَةِ، وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ; وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ: أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ طَلَاقَ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تعالى في قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} هُوَ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ اُؤْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا. وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قَالَ: "الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْحَيْضُ وَالْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ، أَحَدُهُمَا: "الْحَمْلُ" وَقَالَ الْآخَرُ: "الْحَيْضُ". وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَحْلَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا لَمْ تَسْتَكْمِلْ الْحَيْضَ; وَقَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا وَعَظَهَا بِتَرْكِ الْكِتْمَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي وُجُودِ الْحَيْضِ أَوْ عَدَمِهِ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَبَلِ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ فِي رَحِمِهَا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهَا فِيهِ مَقْبُولٌ لَمَا وُعِظَتْ بِتَرْكِ الْكِتْمَانِ وَلَا كِتْمَانَ لَهَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَالَتْ أَنَا حَائِضٌ لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا، وَأَنَّهَا إذَا قَالَتْ قَدْ طَهُرْت حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ حِضْت فَقَالَتْ قَدْ حِضْت طَلُقَتْ وَكَانَ قَوْلُهَا كَالْبَيِّنَةِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سَائِرِ الشُّرُوطِ إذَا عُلِّقَ بِهَا الطَّلَاقُ، نَحْوَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ كَلَّمْت زَيْدًا فَقَالُوا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَتُصَدَّقُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا قَبُولَ قَوْلِهَا فِي الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ مَعْنًى يَخُصُّهَا وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، فَجُعِلَ قَوْلُهَا كَالْبَيِّنَةِ; فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا تَعَلَّقَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْحَيْضِ فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ فِيهِ. وَقَالُوا: لَوْ قَالَ لَهَا عَبْدِي حَرٌّ إنْ حِضْت فَقَالَتْ قَدْ حِضْت لَمْ تُصَدَّقْ; ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِي غَيْرِهَا أَعْنِي عِتْقَ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ قَوْلَهَا كَالْبَيِّنَةِ فِي الْحَيْضِ فِيمَا يَخُصُّهَا مِنْ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَمِنْ إبَاحَةِ وَطْئِهَا أَوْ حَظْرِهِ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَخُصُّهَا وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ فَلَا تُصَدَّقُ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَصْدِيقِ الْمُؤْتَمَنِ فِيمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] لَمَّا وَعَظَهُ بِتَرْكِ الْبَخْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيهِ لَمَا كَانَ مَوْعُوظًا بِتَرْكِ الْبَخْسِ، وَهُوَ لَوْ بَخَسَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا كَتَمَ أَوْ أَظْهَرَ كَانَ الْمَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ فِيمَا كَتَمَ وَفِيمَا أَظْهَرَ، لِدَلَالَةِ وَعْظِهِ إيَّاهُ بِتَرْكِ الْكِتْمَانِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهَا. وَذَلِكَ كُلُّهُ أَصْلٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ اُؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ، كَالْمُودَعِ إذَا قَالَ: قَدْ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ قَدْ رَدَدْتهَا، وَكَالْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَسَائِرِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى الْحُقُوقِ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ثُمَّ قَوْله تَعَالَى عَطْفًا عَلَيْهِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 282] فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِأَمَانَةٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمَانَةً لَمَا عَطَفَ الْأَمَانَةَ عَلَيْهِ; إذْ كَانَ الشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} إنَّمَا هُوَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى الْحَبَلِ دُونَ الْحَيْضِ; لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَكُونُ حَيْضًا إذَا سَالَ وَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ فِي الرَّحِمِ; لِأَنَّ الْحَيْضَ هُوَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالدَّمِ الْخَارِجِ فَمَا دَامَ فِي الرَّحِمِ فَلَا حُكْمَ لَهُ وَلَا مَعْنًى لِاعْتِبَارِهِ وَلَا ائْتِمَانِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا

صَحِيحٌ إذْ الدَّمُ لَا يَكُونُ حَيْضًا إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الرَّحِمِ; وَلَكِنْ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ; لِأَنَّ وَقْتَ الْحَيْضِ إنَّمَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِهَا; إذْ لَيْسَ كُلُّ دَمٍ سَائِلٍ حَيْضًا وَإِنَّمَا يَكُونُ حَيْضًا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ نَحْوَ الْوَقْتِ وَالْعَادَةِ وَبَرَاءَةِ الرَّحِمِ عَنْ الْحَبَلِ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهَا فَهِيَ إذَا قَالَتْ قَدْ حِضْت ثَلَاثَ حِيَضٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ لَمْ أَرَ دَمًا وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ قَدْ أَسْقَطْت سُقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا; وَإِنَّمَا التَّصْدِيقُ مُتَعَلِّقٌ بِحَيْضٍ قَدْ وُجِدَ وَدَمٌ قَدْ سَالَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِلَوْنِ الدَّمِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اُخْتُصَّتْ هِيَ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهَا دُونَنَا; لِأَنَّهَا وَإِيَّانَا مُتَسَاوُونَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَلْوَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ بِلَوْنِهِ مِنْ لَوْنِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَأَنَّهُمَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ; فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْحَيْضَ بِلَوْنِ الدَّمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا عِنْدَ سُقُوطِ اعْتِبَارِ لَوْنِ الدَّمِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ وَقْتَ الْحَيْضِ وَالْعَادَةَ فِيهِ وَمِقْدَارَهُ وَأَوْقَاتِ الطُّهْرِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهَا; إذْ لَيْسَ كُلُّ دَمٍ حَيْضًا، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْحَمْلِ النَّافِي لِكَوْنِ الدَّمِ حَيْضًا وَإِسْقَاطُ سُقْطٍ، كُلُّ ذَلِكَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى قَوْلِهَا; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ وَلَا نَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا; فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهَا. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ مَقْبُولٌ فِي وُجُودِ الْحَيْضِ، وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا إذَا كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ سِنًّا تَحِيضُ مِثْلُهَا وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ قَالَ صَبِيٌّ مُرَاهِقٌ "قَدْ احْتَلَمْت" لَمْ يُصَدَّقْ فِيهِ حَتَّى يُعْلَمَ الِاحْتِلَامُ أَوْ بُلُوغُ سِنٍّ يَكُونُ مِثْلُهُ بَالِغًا فِيهَا. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَيْضَ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهَا لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَوْقَاتِ وَالْعَادَةِ وَالْمَعَانِي الَّتِي لَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ; لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ بِأَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرَ خُرُوجِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِوَقْتٍ وَلَا عَادَةٍ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِيهِ حَتَّى نَعْلَمَ يَقِينًا صِحَّةَ مَا قَالَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَمَّا كَانَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ شَاهَدَ الدَّمَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَيْضِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهَا; إذْ كَانَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَعْلَمُهُ هِيَ دُونَنَا. وَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَلَا يَشْتَبِهُ فِيهِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَلَى أَحَدٍ شَاهَدَهُ وَهُوَ يُدْرَكُ وَيُعْلَمُ مِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ مِنْهُ بِغَيْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ نَحْتَجْ فِيهِ إلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي النَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ، فَعَلَيْهَا أَنْ لَا تَكْتُمَ; وَمَنْ يُؤْمِنُ ومن

لَا يُؤْمِنُ فِي هَذَا النَّهْيِ سَوَاءٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2] وَقَوْلِ مَرْيَمَ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] . قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} قَدْ تَضَمَّنَ ضُرُوبًا مِنْ الْأَحْكَامِ، أَحَدُهَا: أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ وَلَا يُبْطِلُهَا وَإِخْبَارٌ بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَهُ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ بَعْلًا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ التَّوَارُثِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً; لِأَنَّهُ قَالَ: {فِي ذَلِكَ} يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الثَّلَاثَةِ قُرُوءٍ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ إبَاحَةَ هَذِهِ الرَّجْعَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى حَالِ إرَادَةِ الْإِصْلَاحِ وَلَمْ يُرِدْ بِهَا الْإِضْرَارَ بِهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} . فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَا قَدْ زَالَ عَنْهُ مِلْكُهُ، فَأَمَّا فِيمَا هُوَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِرَدِّهَا إلَى مِلْكِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ زَوَالُ النِّكَاحِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمَانِعِ مِنْ زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَسَمَّاهُ رَدًّا; إذْ كَانَ رَافِعًا لِحُكْمِ السَّبَبِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَهُوَ مُمْسِكٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ; لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الرَّجْعَةُ الْمُوجِبَةُ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ الَّتِي لَوْ لَمْ تَكُنْ الرَّجْعَةُ لَكَانَتْ مُزِيلَةً لِلنِّكَاحِ. وَهَذِهِ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَانَتْ إبَاحَتُهَا مَعْقُودَةً بِشَرِيطَةِ إرَادَةِ الْإِصْلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا مُضَارًّا فِي الرَّجْعَةِ مُرِيدًا لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا أَنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً إذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ لَمَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ بِفِعْلِهَا. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْعُمُومِ فِي مُسَمَّيَاتٍ ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا يَشْمَلُهُ فِي غَيْرِ مَا خُصَّ بِهِ الْمَعْطُوفُ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَفِيمَا دُونَهَا لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} حُكْمٌ خَاصٌّ فِيمَنْ كَانَ طَلَاقُهَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} عَلَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ

حُسْناً} [العنكبوت: 8] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [العنكبوت: 8] وَذَلِكَ خَاصٌّ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عُمُومَ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَحَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ مثله بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ الْحَقِّ مُفَسَّرًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِهَا وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] وَكَانَتْ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ حُقُوقِهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فَجَعَلَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهَا صَدَاقَهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فَجَعَلَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا إذَا أَرَادَ فِرَاقَهَا وَكَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ; لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِبْدَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فَجَعَلَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ تَرْكُ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا; وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهَا الْقَسْمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ نِسَائِهِ; لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَلَيْهِ وَطْأَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] يَعْنِي: لَا فَارِغَةً فَتَتَزَوَّجُ وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ; إذْ لَمْ يُوَفِّهَا حَقَّهَا مِنْ الْوَطْءِ، وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يُمْسِكَهَا ضِرَارًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} إذَا كَانَ خِطَابًا لِلزَّوْجِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهَا إذَا لَمْ يَمِلْ إلَيْهَا أَنْ لَا يَعْضُلَهَا عَنْ غَيْرِهِ بِتَرْكِ طَلَاقِهَا. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إثْبَاتَهَا لَهَا. وَمِمَّا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] فَقِيلَ فِيهِ: "حِفْظُ مَائِهِ فِي رَحِمِهَا وَلَا تَحْتَالُ فِي إسْقَاطِهِ" وَيَحْتَمِلُ: حِفْظُ فِرَاشِهَا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ: حَافِظَاتٌ لِمَا فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ مَالِ

أَزْوَاجِهِنَّ وَلِأَنْفُسِهِنَّ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] قَدْ أَفَادَ ذَلِكَ لُزُومَهَا طَاعَتَهُ; لِأَنَّ وَصْفَهُ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ فِي نَفْسِهَا وَتَرْكَ النُّشُوزِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَحَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ بَعْضُهَا مُوَاطِئٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَبَعْضُهَا زَائِدٌ عَلَيْهِ، مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيِّ وَغَيْرُهُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ: "لَا تَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْهَا الْوِزْرُ" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ؟ قَالَ: "لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَصُومُ يَوْمًا إلَّا بِإِذْنِهِ". وَرَوَى مِسْعَرٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي مَالِك وَنَفْسِهَا" ثُمَّ قَرَأَ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ التَّفْرِيقِ إذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِهَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُنَّ مِنْ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَبِيحَ بُضْعَهَا مِنْ غَيْرِ نَفَقَةٍ يُنْفِقُهَا عَلَيْهَا. وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ الْبُضْعِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّ الْبُضْعَ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِهَا; لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْبُضْعَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَبَدَلُهُ هُوَ الْمَهْرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمَا اسْتَحَقَّتْ التَّفْرِيقَ بِالْآيَةِ; لِأَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَفْضِيلَهُ عَلَيْهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَأَنْ يَسْتَبِيحَ بُضْعَهَا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَفَقَتِهَا. وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَتْ النَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهَا نَفْسَهَا فِي بَيْتِهِ فَقَدْ أَوْجَبْنَا لَهَا عَلَيْهِ مِثْلَ مَا أَبَحْنَا مِنْهَا لَهُ وَهُوَ فَرْضُ النَّفَقَةِ وَإِثْبَاتُهَا فِي ذِمَّتِهِ لَهَا، فَلَمْ تَخْلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ إيجَابِ الْحَقِّ لَهَا كَمَا أَوْجَبْنَاهُ لَهُ عليها.

وَمِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ إيجَابُ مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا; لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا بُضْعَهَا بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا تَسْلِيمَ نَفْسِهَا إلَيْهِ، فَعَلَيْهِ لَهَا مِثْلُ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ الْبُضْعِ هُوَ قِيمَتُهُ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَقَدْ عُقِلَ بِهِ وُجُوبُ قِيمَةِ مَا يَسْتَمْلِكَهُ عَلَيْهِ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَذَلِكَ مِثْلُ الْبُضْعِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وقَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شَطَطَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: "لَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا وَلَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ" وَقَوْلُهُ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا وَلَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ" فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا أَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ لَهَا; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ شَرَطَ نَفْيَ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَشْرِطْ فِي إيجَابِهِ لَهَا مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الرَّجُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا بِأَنْ جُعِلَ قَيِّمًا عَلَيْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَسْتَحِقُّ لَهُ التَّفْضِيلُ عَلَيْهَا. وَمِمَّا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهَا مَا أَلْزَمَهَا اللَّهُ مِنْ طَاعَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] وَمِنْ دَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ مَا أَبَاحَهُ لِلزَّوْجِ مِنْ ضَرْبِهَا عِنْدَ النُّشُوزِ وَهِجْرَانِ فِرَاشِهَا. وَمِنْ وُجُوهِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهَا مَا مَلَكَ الرَّجُلُ مِنْ فِرَاقِهَا بِالطَّلَاقِ وَلَمْ تَمْلِكْهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا سِوَاهَا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ مَا دَامَتْ فِي حِبَالِهِ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ. وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْمِيرَاثِ عَلَى قِسْمِهَا. وَمِنْهَا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى حَيْثُ يُرِيدُ الزَّوْجُ وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ اتِّبَاعُهَا فِي النَّقْلَةِ وَالسُّكْنَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرُوبٌ أُخَرُ مِنْ التَّفْضِيلِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا، مِنْهَا حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ"، وَحَدِيثُ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ عَنْ حَفْصِ ابْنِ أَخِي أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلُحَ لِبَشَرٍ أَنْ يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا; وَاَلَّذِي

نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ لَحَسَتْهُ لَمَا أَدَّتْ حَقَّهُ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ". وَفِي حَدِيثِ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ عَنْ عَمَّةٍ لَهُ: أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ " فَقَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: "فَأَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ؟ " قَالَتْ: مَا آلُوهُ إلَّا مَا عَجَزْت عَنْهُ، قَالَ: "فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُك أَوْ نَارُك". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ يَوْمًا وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ" وَحَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ أَنْ يَصُمْنَ إلَّا بِإِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ دَلَالَةُ الْكِتَابِ تُوجِبُ تَفْضِيلَ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا عَقْدُ النِّكَاحِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عِدَّةُ النِّسَاءِ فِي الطَّلَاقِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَقِيَ نِسَاءٌ لَمْ تَنْزِلْ عِدَّتُهُنَّ بَعْدُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالْحُبْلَى فَنَزَلَتْ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] إلَى قَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فَجَعَلَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثَ حِيَضٍ، ثُمَّ نَسَخَ مِنْهَا الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَنُسِخَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْقُرُوءِ امْرَأَتَانِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] فَهَذِهِ الْعَجُوزُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فَهَذِهِ الْبِكْرُ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ الْحَيْضُ مِنْ أَمْرِهَا فِي شَيْءٍ. وَنُسِخَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْقُرُوءِ الْحَامِلُ فَقَالَ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَهَذِهِ أَيْضًا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرُوءِ فِي شَيْءٍ، إنَّمَا أَجَلُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِدَّةِ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَالْحُبْلَى، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا خُصُوصَ الْآيَةِ وَأَنَّ الْحُبْلَى لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا مَعَ جَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بِهَا، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ; لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَشْتَرِطَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ بَعْدَ بُلُوغِهَا وَإِنْ طَلُقَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَأَمَّا الْآيِسَةُ فَقَدْ عُقِلَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهَا لَمْ تُرَدْ بِهَا; لِأَنَّ الْآيِسَةَ هِيَ الَّتِي لَا يُرْجَى لَهَا حَيْضٌ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا مُرَادُ الْآيَةِ بِحَالٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ عَامَّةً فِي اقْتِضَائِهَا إيجَابَ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَأَنَّهُ نُسِخَ مِنْهَا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا.

وَهَذَا مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَنُسِخَ عَنْ الثَّلَاثَةِ قُرُوءٍ امْرَأَتَانِ وَهِيَ الْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ النَّسْخِ فِي الْآيَةِ وَأَرَادَ بِهِ التَّخْصِيصَ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إطْلَاقُ لَفْظِ النَّسْخِ وَمُرَادُهُمْ التَّخْصِيصُ، فَإِنَّمَا أَرَادَ قَتَادَةُ بِذِكْرِ النَّسْخِ فِي الْآيِسَةِ التَّخْصِيصَ لَا حَقِيقَةَ النَّسْخِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ إلَّا فِيمَا اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ وَثَبَتَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْآيِسَةُ مُرَادَةً بِعِدَّةِ الْأَقْرَاءِ مَعَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِهَا مِنْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّخْصِيصَ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ وَجْهًا عَلَى بُعْدٍ عِنْدَنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ قَتَادَةَ أَنَّ الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً تُسَمَّى آيِسَةً، وَأَنَّ عِدَّتَهَا مَعَ ذَلِكَ الْأَقْرَاءُ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ فِيهَا; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا مِنْ الْآيِسَاتِ تَكُونُ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْآيِسَةِ وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً; وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. فَإِنْ كَانَ إلَى هَذَا ذَهَبَ فِي مَعْنَى الْآيِسَةِ فَهَذِهِ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بِالْأَقْرَاءِ; لِأَنَّهَا يُرْجَى وُجُودُهَا مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَنُسِخَ مِنْ الثَّلَاثَةِ قُرُوءٍ الْحَامِلُ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا جَائِزٌ سَائِغٌ; لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِأَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ ثَلَاثُ حِيَضٍ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ وَهِيَ حَامِلٌ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَنُسِخَ بِالْحَمْلِ. إلَّا أَنَّ أَبِي بْنَ كَعْبٍ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْحَامِلَ لَمْ. تَكُنْ مُرَادَةً بِعِدَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَمْ تَنْزِلْ فِي الْحَامِلِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ; وَلَيْسَ يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا فِيمَا قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَوُرُودُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ لَهُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، إلَّا أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ النَّسْخِ وَالْمُرَادُ التَّخْصِيصُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ فَلَا يَضِيقُ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِنَا حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} لَمْ يَرِدْ إلَّا خَاصًّا فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْحَيْضِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَأَنَّ الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْحَامِلَ لَمْ يَرِدْنَ قَطُّ بِالْآيَةِ; إذْ لَيْسَ مَعَنَا تَارِيخٌ لِوُرُودِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَا عُلِمَ بِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا ثُمَّ نَسْخِهِ بَعْدَهُ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مَعًا وَتَرَتَّبَتْ أَحْكَامُهَا عَلَى مَا اقْتَضَاهَا مِنْ اسْتِعْمَالِهَا وَبُنِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَا رَوَى الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ عَطِيَّةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ كَانَ أَحَقَّ بِرَدِّهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] إلَى قَوْلِهِ: {جَمِيلاً} . وَعَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قال: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} ، فَنُسِخَ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا فَقَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَرُوِيَ فِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى مَالِكٌ عن

هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ إلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا آوِيك إلَيَّ وَلَا تَحِلِّينَ مِنِّي أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمئِذٍ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ. وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وَقَالَ: فِي الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ قَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ لِكُلِّ مَرَّةٍ قُرْءٌ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانَ قَبْلَهَا فَجَعَلَ اللَّهُ حَدَّ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا، فَجَعَلَهُ أَحَقَّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَطْلُقْ ثلاثا.

بَابُ عَدَدِ الطَّلَاقِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذُكِرَتْ فِي مَعْنَاهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِلطَّلَاقِ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُ الطَّلَاقِ، فَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمَا الثَّالِثَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ بَيَانٌ لِمَا يَبْقَى مَعَهُ الرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ; فَإِنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ مَعَهُ الرَّجْعَةَ عَقِيبَهُ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْمُبَاحِ مِنْهُ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَمَحْظُورٌ، وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا أَوْقَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ عَقِيبَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ وَبَيَانُ حُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِيقَاعِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ الرَّجْعَةِ، أَنَّهُ قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ لَا مَحَالَةَ; لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ مَعًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ طَلَّقَهَا مَرَّتَيْنِ، كَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ; حَتَّى يُفَرِّقَ الدَّفْعَ، فَحِينَئِذٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظِ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالتَّطْلِيقَتَيْنِ مِنْ بَقَاءِ الرَّجْعَةِ، لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْمَرَّتَيْنِ; إذْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إذَا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَهُ لِلْمَرَّتَيْنِ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِإِيقَاعِهِ مَرَّتَيْنِ وَنَهْيٌ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَتَيْنِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ مَتَى أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ اثْنَتَيْنِ وَبَيَانُ حُكْمِ الرَّجْعَةِ إذَا طَلَّقَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَوْعِبًا لِلْمَعْنَيَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا هُوَ فِي صيغة الخبر

وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مُخْبَرُهُ على ما أخبر به; لأن أخبار الله لَا تَنْفَكُّ مِنْ وُجُودِ مُخْبَرَاتهَا; فَلَمَّا وَجَدْنَا النَّاسَ قَدْ يُطَلِّقُونَ الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثَ مَعًا، وَلَوْ كان قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} اسْمًا لِلْخَبَرِ لَاسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَا تَحْتَهُ، ثُمَّ وَجَدْنَا فِي النَّاسِ مَنْ يُطَلِّقُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ وَأَنَّهُ تَضَمَّنَ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا الْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ مَتَى أَرَدْنَا الْإِيقَاعَ، أَوْ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَسْنُونِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْهُ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ; إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ طَلِّقُوا مَرَّتَيْنِ مَتَى أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى النَّدْبِ بِدَلَالَةٍ، وَيَكُونُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى وَالتَّشَهُّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَمَسْكُنٌ وَخُشُوعٌ" فَهَذِهِ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَعَلَى أَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمَسْنُونِ مِنْ الطَّلَاقِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى حَظْرِ جَمْعِ الِاثْنَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِ; لِأَنَّ قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} مُنْتَظِمٌ لِجَمِيعِ الطَّلَاقِ الْمَسْنُونِ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ مَسْنُونِ الطَّلَاقِ إلَّا وَقَدْ انْطَوَى تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ، فَإِذَا مَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ فَهُوَ مُطَلِّقٌ لِغَيْرِ السُّنَّةِ. فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّ مَسْنُونَ الطَّلَاقِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَعْدَادِ الثَّلَاثِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا. وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ اثْنَتَيْنِ فِي مَرَّتَيْنِ. وَمِنْهَا أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فِي الْحَيْضِ وَقَعَتَا; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِوُقُوعِهِمَا. وَمِنْهَا أَنَّهُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ مَا شَاءُوا مِنْ الْعَدَدِ ثُمَّ يُرَاجِعُونَ، فَقُصِرُوا عَلَى الثَّلَاثِ وَنُسِخَ بِهِ مَا زَادَ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِ الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَقْتِ الْمَسْنُونِ فِيهِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقَ الْعِدَّةِ, فَقَالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: "مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ إنَّمَا طَلَاقُ الْعِدَّةِ أَنْ تُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا وَقَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا" فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ; فَكَانَ طَلَاقُ السُّنَّةِ مَعْقُودًا بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدَدُ، وَالْآخَرُ: الْوَقْتُ. فَأَمَّا الْعَدَدُ فَأَنْ لَا يَزِيدَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْوَقْتُ فَأَنْ يطلقها طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ لِذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَحْسَنُ الطَّلَاقِ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْجِمَاعِ ثُمَّ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً قَبْلَ الْجِمَاعِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَبَلَغَنَا

عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَأَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً. وَقَالَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ قَبْلَ الْجِمَاعِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، لَكِنَّهُ إنْ لَمْ يُرِدْ رَجْعَتَهَا تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيّ: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَهِيَ طَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا مَعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَنَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، فَنَقُولُ: إنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ الَّتِي تَلَوْنَا ظَاهِرَةٌ فِي بُطْلَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ; لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْأَمْرَ بِإِيقَاعِ الِاثْنَتَيْنِ فِي مَرَّتَيْنِ، فَمَنْ أَوْقَعَ الِاثْنَتَيْنِ فِي مَرَّةٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهَا; وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ لَنَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَاتِ قَدْ تَنَاوَلَهُنَّ هَذَا الْعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَوَجَبَ بِحَقِّ الْعُمُومِ حَظْرُ الطَّلَاقِ الْمُوجِبِ لِتَحْرِيمِهَا، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ فِي إبَاحَةِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ وَإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ لَاقْتَضَتْ الْآيَةُ حَظْرَهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ الطَّلَاقَ ابْتِدَاءً لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ. مِنْهَا قَوْله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ; فَلَمْ يُبِحْ الطَّلَاقَ الْمُبْتَدَأَ لِذَوَاتِ الْعَدَدِ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ. وَحُكْمُ الطَّلَاقِ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَلَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهُ مَسْنُونًا إلَّا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وَبِهَذَا الْوَصْفِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" وَأَقَلُّ أَحْوَالِ هَذَا اللَّفْظِ حَظْرُ خِلَافِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَا مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الْمُبْتَدَأِ مَقْرُونًا بِمَا يُوجِبُ الرَّجْعَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذَلِكَ، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:

أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ". فَذَكَرَ سَالِمٌ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ وَنَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَ أَوْ أَمْسَكَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ. وَرَوَى يُونُسُ وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ قَالَ: "إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ"; وَالْأَخْبَارُ الْأُوَلُ أَوْلَى لِمَا فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ إنَّمَا وَرَدَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا سَاقَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ وَحَذَفَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الزِّيَادَةِ إغْفَالًا أَوْ نِسْيَانًا، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ ذِكْرِ الْحَيْضَةِ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ وَذَكَرَهُ مَرَّةً مَقْرُونًا بِهَا; إذْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ الْقَوْلِ مِنْهُ فِي حَالَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالَيْنِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِيهِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ. وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِتَارِيخِ الْخَبَرَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَشَارَ الْجَمِيعُ مِنْ الرُّوَاةِ إلَى قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ; فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ وَجَبَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا فَالْوَاجِبُ الْحُكْمُ بِهِمَا مَعًا وَلَا يُحْكَمُ بِتَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَالْغَرْقَى وَالْقَوْمُ يَقَعُ عَلَيْهِمْ الْبَيْتُ، وَكَمَا نَقُولُ فِي الْبَيْعَيْنِ مِنْ قِبَلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ: إذَا قَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ وَلَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا فَكَذَلِكَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِمَا مَعًا; إذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا تَارِيخٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ إلَّا مَقْرُونًا بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ ذَكَرَ الزِّيَادَةَ وَأَثْبَتَهَا وَأَمَرَ بِاعْتِبَارِهَا بِقَوْلِهِ: "مُرْهُ فَلْيَدَعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا إنْ شَاءَ" لِوُرُودِهَا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ; فَإِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً فِي وَقْتٍ وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ حَذْفُ الزِّيَادَةِ وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ وَوَجَبَ بَقَاءُ حُكْمِ الزِّيَادَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ وَأَمَرَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ الْمُوقَعَةِ فِي الْحَيْضِ وَبَيْنَ الْأُخْرَى الَّتِي أَمَرَهُ بِإِيقَاعِهَا بِحَيْضَةٍ وَلَمْ يُبِحْ لَهُ إيقَاعَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ، ثَبَتَ إيجَابُ الْفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَهُ بِإِيقَاعِهَا فِي الطُّهْرِ وَنَهَاهُ عَنْهَا فِي الْحَيْضِ فَقَدْ أَمَرَهُ أَيْضًا بِأَنْ لَا يُوقِعَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ جَازَ لَهُ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَقَدْ خَالَفَ بِذَلِكَ مَا أَرَدْت تَأْكِيدَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُصُولِ، وَمَنْعَهُ مِنْ إيقَاعِ التَّطْلِيقَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ وَإِنْ رَاجَعَهَا حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِحَيْضَةٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى غَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً بِمَا لَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زُرَيْقٍ: أَنَّ عَطَاءَ الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِتَطْلِيقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الْقُرْأَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ إنَّك قَدْ أَخْطَأْت السُّنَّةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ" فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ فَرَاجَعْتهَا وَقَالَ: "إذَا هِيَ طَهُرَتْ فَطَلِّقْ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ أَمْسِكْ" فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا أَكَانَ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: "لَا، كَانَتْ تَبِينُ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً"، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِكَوْنِ الثَّلَاثِ مَعْصِيَةً. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ ذَكَرَ الطُّهْرَ الَّذِي هُوَ وَقْتٌ لِإِيقَاعِ طَلَاقِ السُّنَّةِ: "ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ" وَلَمْ يُخَصِّصْ ثَلَاثًا مِمَّا دُونَهَا، كَانَ ذَلِكَ إطْلَاقًا لِلِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ مَعًا. قِيلَ لَهُ: لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إيجَابِهِ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ" عَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهَا، لِاسْتِحَالَةِ إرَادَتِهِ نَسْخَ مَا أَوْجَبَهُ بَدِيًّا مِنْ إيجَابِهِ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَمَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ مِنْ حَظْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ: قَدْ أَبَحْت لَكُمْ هَذَا النَّابَ مِنْ السِّبَاعِ وَقَدْ حَظَرْته عَلَيْكُمْ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْعَبَثِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: "ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ" مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا فَلَوْ خَلَا هَذَا اللَّفْظُ مِنْ دَلَالَةِ حَظْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَمَا دَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ لِوُرُودِهِ مُطْلَقًا عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ" لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ; وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوَامِرِ: أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَإِنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْأَكْثَرِ بِدَلَالَةٍ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ طَلِّقْ امْرَأَتِي أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ إيقَاعُهُ بِالْأَمْرِ إنَّمَا هُوَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا أَكْثَرُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَ

اثْنَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى أَرَدْت اثْنَتَيْنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَلْيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ" لَمْ يَقْتَضِ إلَّا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةٍ. فَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَظْرِ جَمْعِ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ بِمِثْلِهِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَهِيَ طَاهِرٌ فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى; وَقَالَ إبْرَاهِيمُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَرَوَى زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ فَلْيُطَلِّقْ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا رَاجَعَهَا وَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى فَكَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَصَابُوا حَدَّ الطَّلَاقِ مَا نَدِمَ أَحَدٌ عَلَى امْرَأَةٍ يُطَلِّقُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا، فَإِذَا بَدَا لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا رَاجَعَهَا وَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا خَلَّى سَبِيلَهَا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ رَادُّهَا إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَك مَخْرَجًا، عَصَيْت رَبَّك وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ قَبْلَ عِدَّتِهِنَّ وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي ثَلَاثًا؟ فَقَالَ: أَثِمْت بِرَبِّك وَحَرُمَتْ عَلَيْك امْرَأَتُك، وَأَبُو قِلَابَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَ: لَا أَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا قَدْ حُرِجَ، وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يُنَكِّلُونَ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَقْعَدٍ وَاحِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ حَظْرُ جَمْعِ الثَّلَاثِ، وَلَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، فَصَارَ إجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعَبْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ جَمْعُ الثَّلَاثِ مَحْظُورًا لَمَا فَعَلَهُ، وَتَرْكُهُمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ سَائِغًا لَهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْت وَلَا فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جُوِّزَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ; وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ رَوَاهَا جَمَاعَةٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن

عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمَاضُرَ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ: إنْ أَخْبَرْتنِي بِطُهْرِك لَأُطَلِّقَنَّك فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ شَبِيهًا بِهَذَا، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ أَبَا حَفْصٍ بْنَ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَهَا، وَأَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَنَفَرًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَإِنَّهُ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً يَسِيرَةً فَقَالَ: "لَا نَفَقَةَ لَهَا" وَسَاقَ الْحَدِيثَ. فَيَقُولُ الْمُحْتَجُّ لِإِبَاحَةِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ مَعًا بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَهَذَا خَبَرٌ قَدْ أُجْمِلَ فِيهِ مَا فُسِّرَ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حدثنا يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ أَبِي حَفْصٍ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَّ أَبَا حَفْصٍ بْنِ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ، فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا أُجْمِلَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ; وَالْأَوَّلُ فِيهِ ذِكْرُ الثَّلَاثِ وَلَمْ يَذْكُرْ إيقَاعَهُنَّ مَعًا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَرَّقَهُنَّ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مَحْظُورٌ. فَإِنْ قِيلَ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} عَلَى حَظْرِ جَمْعِ الِاثْنَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: إنَّهُ مِنْ حَيْثُ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْت فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَفْرِيقُهُمَا فِي طُهْرَيْنِ وَفِيهِ إبَاحَةُ تَطْلِيقَتَيْنِ فِي مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ تَفْرِيقِ الِاثْنَتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ جَازَ جَمْعُهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ اعْتِبَارٌ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ حُكْمِ اللَّفْظِ وَرَفْعِهِ رَأْسًا وَإِزَالَةِ فَائِدَتِهِ، وَكُلُّ قَوْلٍ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا صَارَ مُسْقِطًا لِفَائِدَةِ اللَّفْظِ وَإِزَالَةِ حُكْمِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قَدْ اقْتَضَى تَفْرِيقَ الِاثْنَتَيْنِ وَحَظْرَ جَمْعِهِمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِهِ، وَإِبَاحَتُك لَتَفْرِيقِهِمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي إلَى إبَاحَةِ جَمْعِهِمَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حُكْمِ اللَّفْظِ; وَمَتَى حَظَرْنَا تَفْرِيقَهُمَا وَجَمْعَهُمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَأَبَحْنَاهُ فِي طُهْرَيْنِ، فَلَيْسَ فِيهِ رَفْعُ حُكْمِ اللَّفْظِ، بَلْ فِيهِ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ،

فَلَمْ يُؤَدِّ قَوْلُنَا بِالتَّفْرِيقِ فِي طُهْرَيْنِ إلَى رَفْعِ حُكْمِهِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَخْصِيصَهُ; إذْ كَانَ اللَّفْظُ مُوجِبًا لِلتَّفْرِيقِ; وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ التَّفْرِيقَ فَرَّقَهُمَا فِي طُهْرَيْنِ، فَخَصَّصْنَا تَفْرِيقَهُمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ مَعَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ اللَّفْظِ; وَمَتَى أَبَحْنَا التَّفْرِيقَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ أَدَّى ذَلِكَ إلَى رَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ وَتَرْكُهُ سَوَاءً; وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ حِينَ لَاعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ لِعَانِهِمَا قَالَ: كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا. قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ مَعًا، دَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَصِحُّ لِلشَّافِعِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ; لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ كَانَتْ وَقَعَتْ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ فَبَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقٌ، فَكَيْفَ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهَا طَلَاقًا لَمْ يَقَعْ وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُهُ عَلَى مَذْهَبِك؟ قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسَنَّ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ وَمَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّطْلِيقَاتِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الطَّلَاقِ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إيقَاعَهَا بِالطَّلَاقِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ سُنَّةُ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ إلَّا وَاحِدَةً، وَهُوَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَالْأَوْزَاعِيُّ; فَإِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الثَّلَاثِ فِي الْأَطْهَارِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَفِي ذَلِكَ إبَاحَةٌ لِإِيقَاعِ الِاثْنَتَيْنِ; وَلَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْمَعُهُمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِمَا فِي الطُّهْرَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ في قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أَنَّهُ لِلثَّالِثَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَخْيِيرٌ لَهُ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] قَدْ انْتَظَمَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ لِلْعِدَّةِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ لِأَوْقَاتِ الْعِدَّةِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "يُطَلِّقُهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ". وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَوْقَاتَ الْأَطْهَارِ تَنَاوَلَ الثَّلَاثَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قَدْ عُقِلَ مِنْهُ تَكْرَارُ فِعْلِ الصَّلَاةِ لِدُلُوكِهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ; كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ أَوْقَاتِ الْأَطْهَارِ اقْتَضَى تَكْرَارَ الطَّلَاقِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ لَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ; لِأَنَّهَا طَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ طُهْرًا لَمْ يُوقِعْ فِيهِ طَلَاقًا، جَازَ إيقَاعُهُ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ

رَاجَعَهَا جَازَ لَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ لَهُ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا، لِوُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ جَازَ إيقَاعُهُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ; إذْ لَا حَظَّ لِلرَّجْعَةِ فِي إبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَلَا فِي حَظْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ فِي إبَاحَتِهِ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي قَبْلَ الرَّجْعَةِ كَمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُرَاجِعْ. فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ; لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يُبِينَهَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ بِأَنْ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: 231] وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ إذَا رَاجَعَهَا أَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي إبَاحَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ إذَا رَاجَعَ، وَحَظْرِهِمَا إذَا لَمْ يُرَاجِعْ. قِيلَ لَهُ: فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَوَائِدُ بِتَعَجُّلِهَا لَوْ لَمْ يُوقِعْ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةُ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ، وَهُوَ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ بِإِيقَاعِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَيَسْقُطَ مِيرَاثُهَا مِنْهُ لَوْ مَاتَ وَيَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ، فَلَمْ يَخْلُ فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مِنْ فَوَائِدَ وَحُقُوقٍ تَحْصُلُ لَهُ، فَلَمْ تَكُنْ لَغْوًا مُطْرَحًا، وَجَازَ مِنْ أَجْلِهَا إيقَاعُ مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا فِي أَوْقَاتِ السُّنَّةِ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَوْ رَاجَعَهَا. وَبِاَللَّهِ التوفيق.

بَابُ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَمْلُوكَيْنِ خَارِجَانِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ نُقْصَانَ الطَّلَاقِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، وَأَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً فَطَلَاقُهَا اثْنَتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ يَعْنُونَ أَنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ عَبْدًا فَطَلَاقُهُ اثْنَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَطَلَاقُهُ ثَلَاثٌ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ أَمَةً; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَيُّهُمَا رَقَّ نَقَصَ الطَّلَاقُ بِرِقِّهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَدْ رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَمْرُ إلَى الْمَوْلَى فِي الطَّلَاقِ أَذِنَ لَهُ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ غُلَامًا كَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: ارْجِعْهَا لَا أُمَّ لَك فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ. فَأَبَى، فَقَالَ: هِيَ لَك فَاِتَّخِذْهَا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى طَلَاقَهُ وَاقِعًا لَوْلَاهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ ارْجِعْهَا وَقَوْلُهُ: هِيَ لَك يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الغلام حرا;

لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ رِقَّهُمَا يُنْقِصُ الطَّلَاقَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْعَبْدِ شَيْئًا، وَيَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ مُعَتِّبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا حَسَنٍ مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ اسْتَفْتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فِي مَمْلُوكٍ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ أُعْتِقَا بَعْدَ ذَلِكَ، هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَدْ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لِعُمَرَ: مَنْ أَبُو حَسَنٍ هَذَا؟ لَقَدْ تَحَمَّلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَبُو حَسَنٍ هَذَا رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاثْنَتَيْنِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِالنِّسَاءِ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَنَدِهِ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي نُقْصَانِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، فَصَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ; لِأَنَّ مَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَهُوَ عِنْدَنَا فِي مَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ الشَّارِعُ فِي قَوْلِهِ: "وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" بَيْنَ مَنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِهَا دُونَ الزَّوْجِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ نَقْصَ الطَّلَاقِ كَمَا يُوجِبُ نَقْصَ الْحَدِّ، ثُمَّ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي نُقْصَانِ الْحَدِّ بِرِقِّ مَنْ يَقَعُ بِهِ دُونَ مَنْ يُوقِعُهُ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ نُقْصَانُ الطَّلَاقِ بِرِقِّ مَنْ يَقَعُ بِهِ دُونَ مَنْ يُوقِعُهُ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا إذَا كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا فِي أَطْهَارٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَمْ يُمْكِنْهُ إيقَاعُ الثَّالِثَةِ بِحَالٍ؟ فَلَوْ كَانَ مَالِكًا لِلْجَمِيعِ لَمَلَكَ التَّفْرِيقَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ كَمَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلثَّلَاثِ إذَا كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً. والله أعلم.

ذِكْرُ الْحِجَاجِ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ مَعًا مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قَدْ أَبَانَ عَنْ حُكْمِهِ إذَا أَوْقَعَ اثْنَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ; وَقَدْ

بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ، فَإِذَا كَانَ فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ الْحُكْمُ بِجَوَازِ وُقُوعِ الِاثْنَتَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِهِمَا لَوْ أَوْقَعَهُمَا مَعًا; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَحَكَمَ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالثَّالِثَةِ بَعْدَ الِاثْنَتَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ إيقَاعِهِمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَطْهَارٍ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِإِيقَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَهُ مِنْ مَسْنُونٍ أَوْ غَيْرِ مَسْنُونٍ وَمُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدَّمْت بَدِيًّا فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَيَانُ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعًا خِلَافُ الْمَسْنُونِ عِنْدَك، فَكَيْفَ تَحْتَجُّ بِهَا فِي إيقَاعِهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُبَاحِ وَالْآيَةُ لَمْ تَتَضَمَّنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا مِنْ إيقَاعِ الِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِغَيْرِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ وَالْمَسْنُونَ تَفْرِيقُهَا فِي الْأَطْهَارِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْآيَةِ جَمِيعَ ذَلِكَ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ طَلِّقُوا ثَلَاثًا فِي الْأَطْهَارِ وَإِنْ طَلَّقْتُمْ جَمِيعًا مَعًا وَقَعْنَ كَانَ جَائِزًا؟ فَإِذَا لَمْ يَتَنَافَ الْمَعْنَيَانِ وَاحْتَمَلَتْهُمَا الْآيَةُ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَيْهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَقَدْ بَيَّنَ الشَّارِعُ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ إنْ أَرَادَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ، وَمَتَى خَالَفَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا تَقْتَضِيَانِهِ مِنْ أَحْكَامِهِمَا، فَنَقُولُ: إنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ طَلَّقَ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ وَجَمَعَ الثَّلَاثَ وَقَعْنَ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قوله تعالى: {لطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} إذ ليس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] نَفْيٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى; عَلَى أَنَّ فِي فَحْوَى الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الطَّلَاقِ لِلْعِدَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِهَا إذَا طَلَّقَ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 2] فَلَوْلَا أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ وَقَعَ مَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ بِإِيقَاعِهِ وَلَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ بِطَلَاقِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِهَا إذَا طَلَّقَ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ كَانَ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا أَوْقَعَ إنْ لَحِقَهُ نَدَمٌ وَهُوَ الرَّجْعَةُ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ قَالَ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ وَقَدْ طَلَّقَ ثَلَاثًا: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَك مَخْرَجًا، عَصَيْت رَبَّك وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ

أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: "لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَصَابُوا حَدَّ الطَّلَاقِ مَا نَدِمَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ". فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ عَاصِيًا فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ مَعًا لَمْ يَقَعْ; إذْ لَيْسَ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَأْمُورُ بِهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لَمْ يَقَعْ إذَا جَمَعَهُنَّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا كَوْنُهُ عَاصِيًا فِي الطَّلَاقِ فَغَيْرُ مَانِعٍ صِحَّةَ وُقُوعِهِ لِمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ وُقُوعِهِ، فَكَوْنُهُ عَاصِيًا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ حُكْمِهِ، وَالْإِنْسَانُ عَاصٍ لِلَّهِ فِي رِدَّتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَمْنَعْ عِصْيَانُهُ مِنْ لُزُومِ حُكْمِهِ وَفِرَاقِ امْرَأَتِهِ، وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ مُرَاجَعَتِهَا ضِرَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} فَلَوْ رَاجَعَهَا وَهُوَ يُرِيدُ ضِرَارَهَا لَثَبَتَ حُكْمُهَا وَصَحَّتْ رَجْعَتُهُ. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ، فَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يُطَلِّقُ لِغَيْرِهِ وَعَنْهُ يُعَبِّرُ، وَلَيْسَ يُطَلِّقُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُ مَا يُوقِعُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامِهِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِمَا يُوقِعُهُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إيقَاعُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ; إذْ كَانَتْ أَحْكَامُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ دُونَهُ، لَمْ يَقَعْ مَتَى خَالَفَ الْأَمْرَ، وَأَمَّا الزَّوْجُ فَهُوَ مَالِكُ الطَّلَاقِ وَبِهِ تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهُ وَلَيْسَ يُوقِعُ لِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِلثَّلَاثِ; وَارْتِكَابُ النَّهْي فِي طَلَاقِهِ غَيْرُ مَانِعِ وُقُوعِهِ كَمَا وَصَفْنَا فِي الظِّهَارِ وَالرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ وَسَائِرِ مَا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ؟ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الزَّوْجِ فِي مِلْكِهِ لِلثَّلَاثِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَهُنَّ مَعًا وَقَعَ; إذْ هُوَ مُوقِعٌ لِمَا مَلَكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا سَنَدَهُ حِينَ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا أَكَانَ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا، كَانَتْ تَبِينُ وَيَكُونُ مَعْصِيَةً" وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا أَرَدْت بِالْبَتَّةِ؟ " قَالَ: وَاحِدَةً، قَالَ: "اللَّهَ؟ " قَالَ: اللَّهَ قَالَ: "هُوَ عَلَى مَا أَرَدْت" فَلَوْ لَمْ تَقَعْ الثَّلَاثُ إذَا أَرَادَهَا لَمَا اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ مَا أَرَادَ إلَّا وَاحِدَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ; فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ تُوجِبُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ مَعًا وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً. وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ خَشِنًا، وَكَانَ يَقُولُ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ تُرَدُّ إلَى الْوَاحِدَةِ; وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابن عباس قَالَ طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ طَلَّقْتهَا؟ " فَقَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا; قَالَ: "فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ; قَالَ: "فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْت" قَالَ: فَرَجَعْتهَا. وَبِمَا رَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدُّ إلَى الْوَاحِدَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مُنْكَرَانِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إيَاسٍ وَالنُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، كُلُّهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا: أَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ أَبِي الصَّهْبَاءِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرَ: لَوْ أَجَزْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ ثَلَاثًا فَأَجَازَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَيَّاشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ يُوجِبُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً; وَزَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ خِلَافُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إذَا طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ، وَاحْتَجَّ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عُرْوَةَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ قَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ طَلَّقَ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ: "إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ". قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ فَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ; مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: قُلْت رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ: تَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا" قَالَ: قُلْت: فَيَعْتَدُّ بِهَا؟ قَالَ: "فَمَهْ؟ أَرَأَيْت إنْ عَجِزَ وَاسْتَحْمَقَ" فَهَذَا خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا، ولو

لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ وَاقِعًا لَمَا احْتَاجَ إلَى الرَّجْعَةِ وَكَانَتْ لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا; إذْ كَانَتْ الرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَوْ صَحَّ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُبِنْهَا مِنْهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ وَلَمْ تَقَعْ الزَّوْجِيَّةُ. قَوْله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَقَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} اقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِمْسَاكِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا الْإِمْسَاكُ إنَّمَا هُوَ الرَّجْعَةُ; لِأَنَّهُ ضِدُّ الطَّلَاقِ، وَقَدْ كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُوجِبُهُ التَّفْرِقَةُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَسَمَّى اللَّهُ الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بِهَا بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَرَفَعَ حُكْمَ الْبَيْنُونَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ إمْسَاكًا عَلَى وَصْفٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْرُوفٍ، وَهُوَ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْسُنُ وَيَجْمُلُ فَلَا يَقْصِدُ بِهِ ضِرَارَهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ الرَّجْعَةَ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَمَتَى رَاجَعَ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ كَانَ عَاصِيًا، فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فَلَوْلَا صِحَّةُ الرَّجْعَةِ لَمَا كَانَ لِنَفْسِهِ ظَالِمًا بها. وفي قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ الرَّجْعَةِ بِالْجِمَاعِ; لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ النِّكَاحِ إنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ وَتَوَابِعُهُ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لَا يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَى النِّكَاحِ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ، فَيَكُونُ بِالْجِمَاعِ مُمْسِكًا لَهَا، وَكَذَلِكَ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ لِلشَّهْوَةِ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ; إذْ كَانَتْ صِحَّةُ عَقْدِ النِّكَاحِ مُخْتَصَّةً بِاسْتِبَاحَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَمَتَى فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بعموم قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} . وأما قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثَّالِثَةُ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ; وَمَرَدُّهُ الظَّاهِرُ أَيْضًا، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ "قَالَ: التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَصَحُّ; إذْ لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ثَابِتًا، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ سَائِرَ الْمَوَاضِعِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِيهَا عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، مِنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ

بِمَعْرُوفٍ} وَالْمُرَادُ بِالتَّسْرِيحِ تَرْكُ الرَّجْعَةِ، إذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يرد "فأمسكوهن بمعروف أو طلقوهن" وَاحِدَةً أُخْرَى وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إيقَاعًا مُسْتَقْبَلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَرْكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى: أَنَّ الثَّالِثَةَ مَذْكُورَةٌ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَإِذَا كَانَتْ الثَّالِثَةُ مَذْكُورَةً فِي صَدْرِ هَذَا الْخِطَابِ مُفِيدَةً لِلْبَيْنُونَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَجَبَ حَمْلُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ، وَهِيَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِالِاثْنَتَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ بَيَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَنَسْخُ مَا كَانَ جَائِزًا مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِلَا عَدَدٍ مَحْصُورٍ، فَلَوْ كَانَ قَوْله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هُوَ الثَّالِثَةُ لَمَا أَبَانَ عَنْ الْمَقْصِدِ فِي إيقَاعِ التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ; إذْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمَا دَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ الْمُحَرِّمَةِ لَهَا إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَإِنَّمَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هُوَ الثَّالِثَةُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ هُوَ الثَّالِثَةُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} عَقِيبَ ذَلِكَ هِيَ الرَّابِعَةُ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، قَدْ اقْتَضَى طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا بَعْدَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هُوَ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} مُنْتَظِمٌ لِمَعَانٍ: مِنْهَا تَحْرِيمُهَا عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، مُفِيدٌ فِي شَرْطِ ارْتِفَاعِ التَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا; لِأَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الْوَطْءُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذِكْرُ الزَّوْجِ يُفِيدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا مِنْ الْإِيجَازِ وَاقْتِصَارٍ عَلَى الْكِنَايَةِ الْمُفْهِمَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّصْرِيحِ. وَقَدْ وَرَدَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ فِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأهَا الثَّانِي، مِنْهَا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك" وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرَا قِصَّةَ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ. وَهَذِهِ أَخْبَارٌ قَدْ تَلَقَّاهَا النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، فَهِيَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إلَّا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِنَفْسِ عَقْدِ النِّكَاحِ دُونَ الْوَطْءِ". وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا تَابَعَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ شَاذٌّ.

وقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْمُوقَعُ بِالثَّلَاثِ، فَإِذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ارْتَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمُوقَعُ وَبَقِيَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَحْتَ زَوْجٍ كَسَائِرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، فَمَتَى فَارَقَهَا الثَّانِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} مُرَتَّبٌ عَلَى مَا أَوْجَبَ مِنْ الْعِدَّةِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيِ الْحَاظِرَةِ لِلنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} نَصٌّ عَلَى ذِكْرِ الطَّلَاقِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي إبَاحَتِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الطَّلَاقِ وَأَنَّ سَائِرَ الْفُرَقِ الْحَادِثَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ نَحْوِ مَوْتٍ أَوْ رِدَّةٍ أَوْ تَحْرِيمِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ نَفْسُهُ هُوَ الطَّلَاقُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيِّ; لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّرَاجُعَ إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ. وَفِيهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ نَذْكُرُهَا عِنْدَ ذِكْرِنَا لِأَحْكَامِ الْخُلْعِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَ الثَّالِثَةِ; لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ فِي الْمَعْنَى بِذِكْرِ الِاثْنَتَيْنِ وَإِنْ تَخَلَّلَهُمَا ذِكْرُ الْخُلْعِ، وبالله التوفيق.

بَابُ الْخُلْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَحَظَرَ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا عَلَى الشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعُقِلَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُ مَا لَمْ يُعْطِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا أَعْطَاهَا، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] قَدْ دَلَّ عَلَى حَظْرِ مَا فَوْقَهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قَالَ طَاوُسٌ: يَعْنِي فِيمَا افْتَرَضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: وَاَللَّهِ لَا أَغْتَسِلُ لَك مِنْ جَنَابَةٍ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إلَّا أَنْ يَخَافَا مَعْنَاهُ: إلَّا أَنْ يَظُنَّا. وَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ، أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْعَرَاءِ فَإِنَّنِي أَخَافُ ... إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَقَالَ آخَرُ: أَتَانِي كَلَامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ... وَمَا خِفْت يَا سَلَّامُ أَنَّك عَائِبِي يَعْنِي: مَا ظَنَنْت. وَهَذَا الْخَوْفُ مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَيِّئَ

الْخُلُقِ أَوْ جَمِيعًا، فَيُفْضِي بِهِمَا ذَلِكَ إلَى تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِيمَا أَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فِي قَوْله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبْغِضًا لِلْآخَرِ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالْمُجَامَلَةِ، فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي تَقْصِيرِهِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَفِيمَا أَلْزَمَ الزَّوْجَ مِنْ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فَإِذَا وَقَعَ أَحَدُ هَذَيْنِ وَأَشْفَقَا مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لَهُمَا حَلَّ الْخُلْعُ. وَرَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَاتٌ إذَا قَالَتْهُنَّ الْمَرْأَةُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدْيَةَ: إذَا قَالَتْ لَهُ لَا أُطِيعُ لَك أَمْرًا وَلَا أَبَرُّ لَك قَسَمًا وَلَا أَغْتَسِلُ لَك مِنْ جَنَابَةٍ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدْيَةَ مِنْ امْرَأَتِهِ إلَّا أَنْ تَعْصِيَهُ وَلَا تَبَرَّ لَهُ قَسَمًا، وَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ قِبَلِهَا حَلَّتْ لَهُ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا الْفِدْيَةَ وَأَبَتْ أَنْ تُعْطِيَهُ بَعَثَا حَكَمَيْنِ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَرْكُهَا إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَسُوءُ خُلُقِهَا، فَتَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أَبَرُّ لَك قَسَمًا وَلَا أَطَأُ لَك مَضْجَعًا وَلَا أُطِيعُ لَك أَمْرًا، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مِنْهَا الْفِدْيَةُ وَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا وَيُخَلِّي سَبِيلَهَا وَإِنْ كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهَا ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يَقُولُ: إنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ فَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْت بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ تُرِيدُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْخُلْعَ، قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، قُلْت لَهُ: يَقُولُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قَالَ: هَذِهِ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْت إذَا كَانَتْ لَهُ ظَالِمَةً مُسِيئَةً فَدَعَاهَا إلَى الْخُلْعِ أَيَحِلُّ لَهُ؟ قَالَ: لَا، إمَّا أَنْ يَرْضَى فَيُمْسِكَ وَإِمَّا أَنْ يُسَرِّحَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] الْآيَةَ، مَا يُوجِبُ نَسْخَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَةُ الْحُكْمِ عَلَى حَالٍ مَذْكُورَةٍ فِيهَا، فَإِنَّمَا حُظِرَ الْخَلْعُ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ وَأَرَادَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ غَيْرَهَا، وَأَبَاحَهُ إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ تَكُونَ مُبْغِضَةً لَهُ أَوْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ أَوْ كَانَ هُوَ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَلَا يَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ

الْإِضْرَارَ بِهَا لَكِنَّهُمَا يَخَافَانِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَتَوْفِيَةِ مَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ; وَهَذِهِ الْحَالُ غَيْرُ تِلْكَ، فَلَيْسَ فِي إحْدَاهُمَا مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَا يُوجِبُ نَسْخَهَا وَلَا تَخْصِيصَهَا أَيْضًا; إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا وَرَدَتْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] إذَا كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنَّمَا حُظِرَ عَلَيْهِمْ أَخْذُ شَيْءِ مِنْ مَالِهَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ قَاصِدًا لِلْإِضْرَارِ بِهَا، إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو قِلَابَةَ: يَعْنِي أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا عَلَى زِنًا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَحِلُّ إلَّا مِنْ النَّاشِزِ. فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ نَسْخٌ، وَجَمِيعُهَا مُسْتَعْمَلٌ; والله أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِيمَا يَحِلُّ أَخْذُهُ بِالْخُلْعِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا أَعْطَاهَا وَلَوْ بِعِقَاصِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا وَلَا يَزْدَادُ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَجُوزُ الْمُبَارَأَةُ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى إضْرَارٍ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إذَا عُلِمَ أَنَّ زَوْجَهَا أَضَرَّ بِهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهَا قَضَى عَلَيْهَا الطَّلَاقَ وَرَدَّ عَلَيْهَا مَالَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَيَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَتْهُ عَلَى الْخُلْعِ إذَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مِنْهُ لَهَا وَعَنْ اللَّيْثِ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي رَجُلٍ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مَرِيضَةٌ: إنْ كَانَتْ نَاشِزَةً كَانَ فِي ثُلُثِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَاشِزَةً رُدَّ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنَّ خَالَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عَلَى جَمِيعِ مَا أَصْدَقَهَا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهَا نُشُوزٌ أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَالتَّعْطِيلُ لِحَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَانِعَةً مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا حَلَّتْ الْفِدْيَةُ لِلزَّوْجِ، وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا وَتَأْخُذُ الْفِرَاقَ بِهِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخُلْعِ آيَاتٍ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء: 20] فَهَذَا يَمْنَعُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ شَيْئًا. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَأَبَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخْذَ عِنْدَ خَوْفِهِمَا تَرْكَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ بُغْضِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَسُوءِ خُلُقِهَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، فَيُبَاحُ لَهُ أَخْذُ مَا أَعْطَاهَا وَلَا يَزْدَادُ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ أَخْذِ الْجَمِيعِ وَلَكِنْ مَا زَادَ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَحُظِرَ بِهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، قِيلَ فِيهَا إنَّهَا هِيَ الزِّنَا، وَقِيلَ فِيهَا إنَّهَا النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، وَهَذِهِ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا فِي مَوَاضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إبَاحَةَ أَخْذِ الْمَهْرِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَالَ الْخُلْعِ، فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] وَقَالَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مُقْتَضَى أَحْكَامِهَا، فَقُلْنَا: إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، أَوْ خَافَا لِسُوءِ خُلُقِهَا أَوْ بُغْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ لَا يُقِيمَا، جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا لَا يَزْدَادُ. وَكَذَلِكَ {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إلَّا أَنْ تَنْشُزَ فَيَجُوزَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَخْذُ مَا أَعْطَاهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] فَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الْخُلْعِ، بَلْ فِي حَالِ الرِّضَا بِتَرْكِ الْمَهْرِ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا بِهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّهُ لَمَّا جَازَ أَخْذُ مَالِهَا بِغَيْرِ خُلْعٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْخُلْعِ" خَطَأٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى الْمَوْضِعَيْنِ، فِي أَحَدِهِمَا بِالْحَظْرِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ

يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَفِي الْآخَرِ بِالْإِبَاحَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ خُلْعٍ جَازَ فِي الْخُلْعِ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُلْعِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ الشَّمَّاسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ; قَالَ: "مَا شَأْنُك؟ " قَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ: "هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ" فَذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتٍ: "خُذْ مِنْهَا" فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا. وَرُوِيَ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ، فِي بَعْضِهَا "خَلِّ سَبِيلَهَا" وَفِي بَعْضِهَا: "فَارِقْهَا". وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، لِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي سَمِينَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ امْرَأَتَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرُدِّينَ إلَيْهِ مَا أَخَذْت مِنْهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الزِّيَادَةَ لِهَذَا الْخَبَرِ وَخَصُّوا بِهِ ظَاهِرَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَخْصِيصُ هَذَا الظَّاهِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ قِبَلِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِمَعَانٍ وَالِاجْتِهَادُ سَائِغٌ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ وُجُوهٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] مُحْتَمِلٌ لِمَعَانٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوهِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِهِ، جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَاهُ الْمُرَادِ بِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا خَلَعَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، أَوْ خَلَعَهَا عَلَى مَالٍ وَالنُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا أَعْطَتْهُ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرِ مُجْبَرَةٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ". وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى

فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا مِثْلَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، فَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ جَوَازَ الْعَقْدِ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ الْعِتْقُ عَلَى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، كَانَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمَّا جَازَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ بَدَلُ الْبُضْعِ كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تَضْمَنَهُ الْمَرْأَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا; لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ فِي الْحَالَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِقَالَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُك: إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِعَقْدٍ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ مُبْتَدَأٌ كَهُوَ لَوْ لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ بَدَلٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَقَلَّ مِمَّا أَعْطَاهَا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْإِقَالَةُ غَيْرُ جَائِزَةٍ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ الْخُلْعُ حَتَّى يَعِظَهَا، فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا، فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا حَجَرَهَا فَإِنْ اتَّعَظَتْ ارْتَفَعَا إلَى السُّلْطَانِ فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا فَيَرُدَّانِ مَا يَسْمَعَانِ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِّقَ فَرَّقَ وَإِنَّ رَأَى أَنْ يَجْمَعَ جَمَعَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ فِي آخَرِينَ: أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ دُونَ السُّلْطَانِ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ زِيَادٌ أَوَّلَ مَنْ رَدَّ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي جَوَازِهِ دُونَ السُّلْطَانِ; وَكِتَابُ اللَّهِ يُوجِبُ جَوَازَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] فَأَبَاحَ الْأَخْذَ مِنْهَا بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " فَقَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ لِلزَّوْجِ: "خُذْهَا وَفَارِقْهَا" يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخُلْعُ إلَى السُّلْطَانِ شَاءَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَبَيَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ لَمْ يَسْأَلْهُمَا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وَلَا خَاطَبَ الزَّوْجَ بِقَوْلِهِ "اخْلَعْهَا" بَلْ كَانَ يَخْلَعُهَا مِنْهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، وَإِنْ أَبَيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، كَمَا لَمَّا كَانَتْ فُرْقَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إلَى الْحَاكِمِ، لَمْ يَقُلْ لِلْمُلَاعِنِ خَلِّ سَبِيلَهَا بَلْ فَرِّقْ بَيْنَهُمَا، كَمَا رَوَى سَهْلُ بن سعد: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ"، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا" وَلَمْ يَرْجِعْ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ

جَوَازُ الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ; فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ: أَنَّ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ طَاوُسًا عَنْ الْخُلْعِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ; فَقُلْت: لَا تَزَالُ تُحَدِّثُنَا بِشَيْءٍ لَا نَعْرِفُهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ جَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا بَعْدَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَخُلْعٍ. وَيُقَالُ: هَذَا مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ طَاوُسٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَإِ مَعَ جَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَصَلَاحِهِ يَرْوِي أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً، مِنْهَا أَنَّهُ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا كَانَتْ وَاحِدَةً وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَدَدَ النُّجُومِ بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ. قَالُوا: وَكَانَ أَيُّوبُ يَتَعَجَّبُ مِنْ كَثْرَةِ خَطَإِ طَاوُسٍ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلْعُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ قَالَ: فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ، فَجَمَعَ نَاسًا مِنْهُمْ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ وَقَالَ: إنَّمَا سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَلِكَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَوْحِ بْنِ جَنَاحٍ قَالَ: سَمِعْت زَمْعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: " جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً " وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ حِينَ نَشَزَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ: "خَلِّ سَبِيلَهَا" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "فَارِقْهَا" بَعْدَمَا قَالَ لِلْمَرْأَةِ: "رُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ" فقالت: قَدْ فَعَلَتْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَالَ لَامْرَأَتِهِ قَدْ فَارَقْتُك أَوْ قَدْ خَلَّيْت سَبِيلَك وَنِيَّتُهُ الْفُرْقَةُ، أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خُلْعَهُ إيَّاهَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ كَانَ طَلَاقًا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك عَلَى مَالٍ أَوْ قَدْ جَعَلْت أَمْرَك إلَيْك بِمَالٍ كَانَ طَلَاقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا قَدْ خَلَعْتُك بِغَيْرِ مَالٍ يُرِيدُ بِهِ الْفُرْقَةَ كَانَ طَلَاقًا، كَذَلِكَ إذَا خَلَعَهَا بِمَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ فَتَكُونُ فَسْخًا لَا بَيْعًا مُبْتَدَأً. قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ مَالٍ وَعَلَى أَقَلَّ مِنْ الْمَهْرِ، وَالْإِقَالَةُ لَا تَجُوزُ بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا كَالْإِقَالَةِ لَمَا جَازَ إلَّا بِالْمَهْرِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِهِ بِغَيْرِ مَالٍ وَبِأَقَلَّ مِنْ الْمَهْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ بِمَالٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُك عَلَى هذا المال.

وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} إلَى أَنْ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَأَثْبَتَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخُلْعِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ; إذْ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَكَانَتْ هَذِهِ رَابِعَةً; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخُلْعِ. وَهَذَا لَيْسَ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ; لأن قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أَفَادَ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ إذَا أَوْقَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْخُلْعِ وَأَثْبَتَ مَعَهُمَا الرَّجْعَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَهُمَا إذَا كَانَتَا عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ وَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِمَا وَالْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا أَخْذُ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فَعَادَ ذَلِكَ إلَى الِاثْنَتَيْنِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ تَارَةً وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْخُلْعِ أُخْرَى; فَإِذًا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ بَعْدَ الِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ الرَّابِعَةُ بَعْدَ الْخُلْعِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ; لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَتَرْتِيبَ أَحْكَامِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَحَصَلَتْ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الْخُلْعِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ وُقُوعِهَا وَحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ أَبَدًا إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخَلْعِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَأَبَاحَ لَهُمَا التَّرَاجُعَ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ بِشَرِيطَةِ زَوَالِ مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَوْفِ لِتَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَنْدَمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَيُحِبُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعُودَ إلَى الْأُلْفَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّالِثَةَ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ الْخُلْعِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِالظَّنِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تعالى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} عائد على قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} دُونَ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} خِطَابٌ مُبْتَدَأٌ بَعْدَ ذِكْرِ الِاثْنَتَيْنِ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَيْهِمَا; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْفِدْيَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى الْفِدْيَةِ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْتِيبُهُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِمَا وَتَرْكُ عَطْفِهِ عَلَى مَا يَلِيهِ إلا

بِدَلَالَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ، كَمَا تَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِلَفْظِ التَّخْصِيصِ إنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ; أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ عَائِدٌ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ؟ إذْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَلِيهِنَّ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، مَعَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْت مِنْ عَطْفِ قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} على قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} دُونَ مَا يَلِيهِ فِي الْفِدْيَةِ; لِأَنَّك لَا تَجْعَلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا يَلِيهِ مِنْ الْفِدْيَةِ وَتَجْعَلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ دُونَ مَا تَوَسُّطٍ بَيْنَهُمَا مِنْ ذِكْرِ الْفِدْيَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَجْعَلُهُ عَطْفًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِدْيَةِ وَمِمَّا تَقَدَّمَهَا مِنْ التَّطْلِيقَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفِدْيَةِ، فَيَكُونُ مُنْتَظِمًا لِفَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا جَوَازُ طَلَاقِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ بِتَطْلِيقَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى: بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ إذَا أَوْقَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفِدْيَةِ. وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ الْمُضَارَّةِ فِي الرَّجْعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ وَالْإِشْرَافُ عَلَيْهِ لَا حَقِيقَتُهُ; لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعِدَّةُ، وَبُلُوغَهُ هُوَ انْقِضَاؤُهَا، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ الْعِدَّةِ بِالْأَجَلِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَمَعْنَاهُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} وَقَالَ: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْآجَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيِ هِيَ الْعِدَدُ; وَلِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وَالْمُرَادُ مُقَارَبَتُهُ دُونَ انْقِضَائِهِ; وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَمَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَقَارَبْتُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا فَطَلِّقُوا لِلْعِدَّةِ; وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءَتَهُ; وَقَالَ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَدْلُ بَعْدَ الْقَوْلِ، وَلَكِنْ قَبْلَهُ، يَعْزِمُ عَلَى أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا عَدْلًا. فَعَلَى هَذَا ذَكَرَ بُلُوغَ الْأَجَلِ وَأَرَادَ بِهِ مُقَارَبَتَهُ دُونَ وُجُودِ نِهَايَتِهِ; وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُقَارَبَةَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَحْوَالٍ بَقَاءِ النِّكَاحِ; لِأَنَّهُ قَرَنَ إلَيْهِ التَّسْرِيحَ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَجَمْعُهُمَا فِي الْأَمْرِ وَالتَّسْرِيحِ إنَّمَا لَهُ حَالٌ وَاحِدُ لَيْسَ يَدُومُ، فَخَصَّ حَالَ بُلُوغِ الْأَجَلِ بِذَلِكَ لِيَنْتَظِمَ الْمَعْرُوفُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الْمُرَادُ بِهِ الْمُرَاجَعَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وقوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} مَعْنَاهُ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَأَبَاحَ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ، وَأَبَاحَ التَّسْرِيحَ أَيْضًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِأَنْ لَا يَقْصِدَ مُضَارَّتَهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِالْمُرَاجَعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفِرَاقِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يُمَتِّعَهَا عِنْدَ الْفِرْقَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُعْسَرِ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَيَّرَهُ بَيْنَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ; وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، فَمَتَى عَجَزَ عَنْهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ، فَيُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ وَالْمُحْتَجِّ بِهِ; لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ يُمْسِكُهَا بِمَعْرُوفٍ; إذْ لَمْ يُكَلَّفْ الْإِنْفَاقَ فِي هَذَا الْحَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُعْسَرَ غَيْرُ مُمْسِكٍ بِالْمَعْرُوفِ; إذْ كَانَ تَرْكُ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ ذَمَّا، وَالْعَاجِزُ غَيْرُ مَذْمُومٍ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ، وَلَوْ كَانَ الْعَاجِزُ عَنْ النَّفَقَةِ غَيْرَ مُمْسِكٍ بِمَعْرُوفٍ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ وَفُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنْ النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ نِسَائِهِمْ غَيْرَ مُمْسِكِينَ بِمَعْرُوفٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْمُمْتَنِعَ مِنْهُ غَيْرُ مُمْسِكٍ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْعَاجِزِ دُونَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزُ مُمْسِكٌ بِمَعْرُوفٍ وَالْقَادِرُ غَيْرُ مُمْسِكٍ؟ وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ: هُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِالْمُرَاجَعَةِ إذَا قَارَبَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتَهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ، فَإِذَا قَارَبَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ بِإِمْسَاكِهَا بِمَعْرُوفٍ وَنَهَاهُ عَنْ مُضَارَّتِهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} دَلَّ عَلَى وُقُوعِ الرَّجْعَةِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا مُضَارَّتَهَا، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا وَصَارَتْ رَجْعَتُهُ لَغْوًا لَا حُكْمَ لَهَا.

وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} رُوِيَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ فَقَالَ كُنْت لَاعِبًا فَهُوَ جَادٌّ" فَأَخْبَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَعِبَ الطَّلَاقِ وَجِدِّهِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ الرَّجْعَةُ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ عَقِيبَ الْإِمْسَاكِ أَوْ التَّسْرِيحِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمَا; وَقَدْ أَكَّدَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بَيَّنَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ مَاهَك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "أَرْبَعٌ وَاجِبَاتٌ عَلَى كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِنَّ: الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ". وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثٌ لَا يُلْعَبُ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالصَّدَقَةُ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "إذَا تَكَلَّمْت بِالنِّكَاحِ فَإِنَّ النِّكَاحَ جِدُّهُ وَلَعِبُهُ سَوَاءٌ، كَمَا أَنَّ جِدَّ الطَّلَاقِ وَلَعِبَهُ سَوَاءٌ". وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ; وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي إيقَاعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ; لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ فِيهِ، وَكَانَا إنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مَعَ قَصْدِهِمَا إلَى الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ إرَادَةِ أَحَدِهِمَا لِإِيقَاعِ حُكْمِ مَا لَفَظَ بِهِ وَالْآخِرُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِإِيقَاعِ حُكْمِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِهِ، وَكَانَ الْمُكْرَهُ قَاصِدًا إلَى الْقَوْلِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ لَمْ يَكُنْ لِفَقْدِ نِيَّةِ الْإِيقَاعِ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِهِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَرْطَ وُقُوعِهِ وُجُودُ لَفْظِ الْإِيقَاعِ مِنْ مُكَلَّفٍ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية. قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْبُلُوغِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْعَضْلُ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَالْآخَرُ الضِّيقُ; يُقَالُ: "عَضَلَ الْفَضَاءُ بِالْجَيْشِ" إذَا ضَاقَ بِهِمْ، وَالْأَمْرُ الْمُعْضِلُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ، وَدَاءٌ عُضَالٌ: مُمْتَنِعٌ. وَفِي التَّضْيِيقِ يُقَالُ: "عَضَلْت عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ" إذَا ضَيَّقْت، و "عَضَلَتْ الْمَرْأَةُ بِوَلَدِهَا" إذَا عَسَرَ وِلَادُهَا، وَأَعْضَلَتْ; وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُمْتَنِعَ يَضِيقُ فِعْلُهُ وَزَوَالُهُ وَالضِّيقُ مُمْتَنِعُ أَيْضًا. وَرُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ صَعْبَةٍ فَقَالَ: "زَبَّاءُ ذَاتُ وَبَرٍ لَا تَنْسَابُ وَلَا تَنْقَادُ، وَلَوْ نَزَلَتْ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ لَأَعْضَلَتْ بِهِمْ". وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} مَعْنَاهُ: لَا تَمْنَعُوهُنَّ أَوْ لَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ وُجُوهٍ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ إذَا عَقَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِغَيْرِ وَلِيِّ وَلَا

إذْنِ وَلِيِّهَا: أَحَدُهَا إضَافَةُ الْعَقْدِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إذْنِ الْوَلِيِّ. وَالثَّانِي: نَهْيُهُ عَنْ الْعَضْلِ إذَا تَرَاضَى الزَّوْجَانِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْلَا أَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ مَنْعَهَا عَنْ النِّكَاحِ لَمَا نَهَاهُ عَنْهُ كَمَا لَا يُنْهَى الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَالْمُرَاسَلَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الْعَضْلِ مُنْصَرِفًا إلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَنْعِ; لِأَنَّهَا فِي الْأَغْلَبِ تَكُونُ فِي يَدِ الْوَلِيِّ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَلِيُّ مَنْهِيًّا عَنْ الْعَضْلِ إذَا زَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ كُفُوٍ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْ الرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِيمَا قَدْ نُهِيَ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ; وَإِذَا اخْتَصَمُوا إلَى الْحَاكِمِ فَلَوْ مَنَعَ الْحَاكِمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ ظَالِمًا مَانِعًا مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ مَنْعُهُ، فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَيْضًا فِي الْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي فَسْخِهِ فَيَنْفُذُ وَيَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَلِيَّ عَنْ الْعَضْلِ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ إذَا عَقَدَهُ غَيْرُ الْوَلِيِّ. قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْرُوفَ مَهْمَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَجُوزَ عَقْدُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيٍ مُوجِبِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ; وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَشْرُوطَ فِي تُرَاضِيهِمَا لَيْسَ هُوَ الْوَلِيُّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْأَبْدَالَ، فَإِنَّمَا انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى مِقْدَارِ الْمَهْرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا لَا نَقْصَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إنَّهَا إذَا نُقِصَتْ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا". وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} قَدْ حَوَى الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: إضَافَتُهُ عَقْدَ النِّكَاحِ إلَيْهَا فِي قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، والثاني: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فَنَسَب التَّرَاجُعَ. إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ. وَمِنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَجَازَ فِعْلُهَا فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْوَلِيِّ، وَفِي إثْبَاتِ شَرْطِ الْوَلِيِّ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ نَفْيٌ لِمُوجِبِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ وَأَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا بِإِذْنِهَا. قِيلَ

لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ اللَّفْظِ فِي اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ لَا يَحْصُلُ لَهَا بِهِ فِعْلٌ فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ; وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الِاخْتِيَارَ مَعَ الْعَقْدِ بِقَوْلِهِ: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَقْدِ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا بِغَيْرِ وَلِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا كُفُوًا وَتَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا" وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ "وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَيْرَ كُفُوٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ أَيْضًا وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا". وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمَا جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَإِنْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ جَازَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ وَالزَّوْجُ كُفُوٌ أَجَازَهُ الْقَاضِي" وَإِنَّمَا يَتِمُّ النِّكَاحُ عِنْدَهُ حِينَ يُجِيزُهُ الْقَاضِي; وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُوًا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: "لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَلَيْسَ الْوَالِدَةُ بِوَلِيٍّ وَلَا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ وَلِيَّهَا رَجُلًا إلَّا قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا كَانَتْ امْرَأَةً مُعْتَقَةً أَوْ مِسْكِينَةً أَوْ دَنِيَّةً لَا خَطَرَ لَهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَخْلِفَ رَجُلًا وَيُزَوِّجُهَا، وَيَجُوزُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا مَالُ وَغِنًى وَقَدْرٌ فَإِنَّ تِلْكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا إلَّا الْأَوْلِيَاءُ أَوْ السُّلْطَانُ" قَالَ: وَأَجَازَ مَالِكٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ وَهُوَ مِنْ فَخِذِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَيْهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ: "إنْ غَيْرُهُ أَحْسَنَ مِنْهُ يُرْفَعُ أَمْرُهَا إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ كَانَ كُفُؤًا أَجَازَهُ وَلَمْ يَفْسَخْهُ" وَذَلِكَ فِي الثَّيِّبِ، وَقَالَ فِي السَّوْدَاءِ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ: "إنَّهُ جَائِزٌ"، قَالَ: "وَالْبِكْرُ إذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيٍّ وَالْوَلِيُّ قَرِيبٌ حَاضِرٌ فَهَذَا الَّذِي أَمْرُهُ إلَى الْوَلِيِّ يَفْسَخُهُ لَهُ السُّلْطَانُ إنْ رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا، وَالْوَلِيُّ مِنْ قِبَلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ الَّذِي أَنْكَحَهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ عَقْدِهَا تَقْضِي بِصِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ" قَالَ أَبُو دَاوُد: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا". فَقَوْلُهُ: "لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ" يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الْوَلِيِّ فِي الْعَقْدِ، وَقَوْلُهُ: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا" يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِي مَنْعِهَا الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهَا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" وَقَوْلُهُ لِأُمِّ الصَّغِيرِ: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي" فَنَفَى بِذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَهَا حَقٌّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ أَرَبٍ" فَقَامَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا، فَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا هَلْ لَهَا وَلِيٌّ أَمْ لَا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْوَلِيَّ فِي جَوَازِ عَقْدِهَا. وَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: مَا أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ; فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِك شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُنِي" فَقَالَتْ لِابْنِهَا وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ: قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَلِيَّهَا وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] قِيلَ لَهُ: هُوَ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَا; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهَا حِينَ قَالَتْ لَهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ "وَمَا عَلَيْك مِنْ أَوْلِيَائِك وَأَنَا أَوْلَى بِك مِنْهُمْ" بَلْ قَالَ: "مَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يَكْرَهُنِي"؟ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لَهُنَّ فِي النِّكَاحِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الرَّجُلِ إذَا كَانَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا كَانَتْ جَائِزَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا وَجَبَ جَوَازُ عَقْدِ نِكَاحِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الرَّجُلِ مَا وَصَفْنَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَجْنُونًا غَيْرَ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهُ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ ابْنِ أُبَيٍّ أَخِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مَعْقِلٍ: أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَأَبَى عَلَيْهَا مَعْقِلٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا مَعْقِلًا وَأَمَرَهُ بِتَزْوِيجِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ النَّقْلِ، لِمَا فِي سَنَدِهِ مِنْ الرَّجُلِ الْمَجْهُولِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ سِمَاكٌ. وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَنْفِ دَلَالَةَ

الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِهَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَعْقِلًا فَعَلَ ذَلِكَ فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَبَطَلَ حَقُّهُ فِي الْعَضْلِ. فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ طَلَّقَ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ عَضْلَهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِلْأَزْوَاجِ وَلِسَائِرِ النَّاسِ; وَالْعُمُومُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ". وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ"، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا". فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَغَيْرُ ثَابِتٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا عِلَلَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ; وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا" وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى الْأَمَةِ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا. وَقَوْلُهُ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ" لَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ; لِأَنَّ هَذَا عِنْدَنَا نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَلِيُّ نَفْسِهَا كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ وَلِيُّ نَفْسِهِ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى مَنْ يَلِي عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ وَالتَّصَرُّفَ عَلَى نَفْسِهَا فِي مَالِهَا فَكَذَلِكَ فِي بُضْعِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَمَحْمُولٌ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِحُضُورِ الْمَرْأَةِ مَجْلِسَ الْإِمْلَاكِ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِعْلَانِ النِّكَاحِ، وَلِذَلِكَ يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ، فَكُرِهَ لِلْمَرْأَةِ حُضُورُ ذَلِكَ الْمَجْمَعِ; وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: "الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَنْكِحُ نَفْسَهَا" مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: "كَانَ يُقَالُ الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَنْكِحُ نَفْسَهَا". وَعَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خَطَأٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا نَفْسَهَا لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَطْءُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ، فَإِنْ حَمَلْته عَلَى أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَهَذَا أَيْضًا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا; لِأَنَّ مَنْ لَا يُجِيزُهُ إنَّمَا يَجْعَلُهُ نِكَاحًا فَاسِدًا يُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إذَا وَطِئَ; وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وجل: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} يَعْنِي إذَا لَمْ تَعْضُلُوهُنَّ; لِأَنَّ الْعَضْلَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَقْدِ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الباقي بن قانع قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هُرْمُزٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".

بَابُ الرَّضَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مَخْبَرُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَالِدَاتِ مَنْ لَا يُرْضِعُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ وَأَمْرُهَا بِهِ; إذْ قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّ الرَّضَاعِ لِلْأُمِّ وَإِنْ أَبَى الْأَب، أَوْ تَقْدِيرُ مَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّضَاعَ شَاءَتْ الْأُمُّ أَوْ أَبَتْ، وَأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ فِي أَنْ تُرْضِعَ أَوْ لَا تُرْضِعَ; فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إذَا أَبَى اسْتِرْضَاعَ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ لِلْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو بَعْدَ ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} مِنْ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ مُطَلَّقَاتٍ كُنَّ أَوْ غَيْرَ مُطَلَّقَاتٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ مَقْصُورَ الْحُكْمِ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَائِرَ الْأُمَّهَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْهُنَّ وَالْمُزَوَّجَاتِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ لِلْمُزَوَّجَاتِ مِنْهُنَّ هِيَ نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَكِسْوَتُهَا لَا لِلرَّضَاعِ; لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَجْتَمِعُ لَهَا نَفَقَتَانِ إحْدَاهُمَا لِلزَّوْجِيَّةِ وَالْأُخْرَى لِلرَّضَاعِ; وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَنَفَقَةُ الرَّضَاعِ أَيْضًا مُسْتَحَقَّةٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِالرَّضَاعِ، وَلَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ زَوْجَةً وَلَا مُعْتَدَّةً مِنْهُ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فَتَكُونُ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَتَكُونُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ مَعًا، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهُمَا مَعًا، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ لِلرَّضَاعِ شَيْئًا مَعَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ. فَقَدْ حَوَتْ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ وَلَدِهَا فِي

الْحَوْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ لَهُ غَيْرُهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَلْزَمُ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ إنَّمَا هُوَ سَنَتَانِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُشَارِكُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ لِلْأُمِّ وَهُمَا جَمِيعًا وَارِثَانِ، ثُمَّ جَعَلَ الْأَبَ أَوْلَى بِإِلْزَامِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي اخْتِصَاصِ الْأَبِ بِإِلْزَامِ النَّفَقَةِ دُونَ غَيْرِهِ. كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الزَّمْنَى يَخْتَصُّ هُوَ بِإِيجَابِهِ عَلَيْهِ دُونَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وقوله تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لِشُمُولِ الْآيَةِ لِسَائِرِ الْوَالِدَاتِ مِنْ الزَّوْجَاتِ والمطلقات. وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ فِي إعْسَارِهِ وَيَسَارِهِ; إذْ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ إلْزَامُ الْمُعْسِرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُهُ، وَلَا إلْزَامُ الْمُوسِرِ الشَّيْءَ الطَّفِيفَ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ مَعَ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَقِيبَ ذَلِكَ: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} ، فَإِذَا اشْتَطَّتْ الْمَرْأَةُ وَطَلَبَتْ مِنْ النَّفَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ لِمِثْلِهَا لَمْ تُعْطَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَصَّرَ الزَّوْجُ عَنْ مِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكُسْوَتِهَا; لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ هِيَ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَسْوِيغِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; إذْ لَا تَوَصُّلَ إلَى تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا مِنْ جِهَةِ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِالْعَادَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَادَةِ فَسَبِيلُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ; إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا نُقْصَانَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ حَالِهِ فِي إعْسَارِهِ وَيَسَارِهِ وَمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ وَالْإِمْكَانِ بِقَوْلِهِ: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} وَاعْتِبَارُ الْوُسْعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} يُوجِبُ بُطْلَانَ قَوْلِ أَهْلِ الْإِجْبَارِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَإِكْذَابٌ لَهُمْ فِي نِسْبَتِهِمْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ مِنْ السفه والعبث علوا كبيرا. قَوْله تَعَالَى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "هُوَ الْمُضَارَّةُ فِي الرَّضَاعِ". وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَا: "إذَا قَامَ الرَّضَاعُ عَلَى شَيْءٍ خيرت الأم".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَعْنَاهُ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا بِأَنْ لَا تُعْطَى إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَهُ بِمِثْلِ مَا تُرْضِعُهُ بِهِ الْأَجْنَبِيَّةُ، بَلْ تَكُونُ هِيَ أَوْلَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَجَعَلَ الْأُمَّ أَحَقَّ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَ بِمِثْلِ مَا تُرْضِعُ بِهِ غَيْرُهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُضَارَّهَا فَيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهَا; وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَجَعَلَهَا أَوْلَى بِالرَّضَاعِ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فَلَمْ يُسْقِطْ حَقَّهَا مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا عِنْدَ التَّعَاسُرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا لَا تُضَارُّ بِوَلَدِهَا إذَا لَمْ تَخْتَرْ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِأَنْ يُحْضِرَ الظِّئْرَ إلَى عِنْدِهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِهَا; وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَلَمَّا كَانَتْ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْمُضَارَّةِ فِي نَزْعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَاسْتِرْضَاعِ غَيْرِهَا، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِرْضَاعِ غَيْرِهَا إذَا رَضِيَتْ هِيَ بِأَنْ تُرْضِعَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَهِيَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ لَمْ تُرْضِعْ أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى إحْضَارِ الْمُرْضِعَةِ حَتَّى. تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ مُضَارًّا لَهَا بِوَلَدِهَا. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مَا دَامَ صَغِيرًا، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّضَاعِ بَعْدَمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَضَانَةِ; لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْأُمِّ بَعْدَ الرَّضَاعِ كَهِيَ قَبْلَهُ، فَإِذَا كَانَتْ فِي حَالِ الرَّضَاعِ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَهَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ حَقًّا لَهَا; وَفِيهِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّ أَرْفَقُ بِهِ وَأَحْنَى عَلَيْهِ. وَذَلِكَ فِي الْغُلَامِ عِنْدَنَا إلَى أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ، وَفِي الْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ; لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا بَلَغَ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّأْدِيبِ وَيَعْقِلُهُ فَفِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالْأَبُ مَعَ ذَلِكَ أَقْوَمُ بِتَأْدِيبِهِ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ". فَمَنْ كَانَ سِنُّهُ سَبْعًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ; لِأَنَّهُ يَعْقِلُهَا; فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدَبِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمِهِ. وَفِي كَوْنِهِ عِنْدَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الصَّغِيرِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَا ضَرَر عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا عِنْدَ الْأُمِّ إلَى أَنْ تَحِيضَ، بَلْ كَوْنُهَا عِنْدَهَا أَنْفَعَ لَهَا; لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى آدَابِ النِّسَاءِ، وَلَا تَزُولُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَنْهَا إلَّا بِالْبُلُوغِ; لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا عِنْدَهَا; فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ، فَإِذَا بَلَغَتْ احْتَاجَتْ إلَى التَّحْصِينِ وَالْأَبُ أَقُومُ بِتَحْصِينِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِهَا.

وَبِمِثْلِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيًّا اخْتَصَمَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ، وَكَانَتْ خَالَتُهَا تَحْتَ جَعْفَرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ادْفَعُوهَا إلَى خَالَتِهَا فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ" فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَالَةَ أَحَقَّ مِنْ الْعَصَبَةِ كَمَا حَكَمَتْ الْآيَةُ بِأَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مِنْ الْأَبِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ ذَوَاتَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِمْسَاكِ الصَّبِيِّ وَحَضَانَتِهِ مِنْ حَضَانَةِ الْعَصَبَةِ مِنْ الرِّجَالِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ. وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ الْخَالَةَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْعَصَبَةِ، وَسَمَّاهَا وَالِدَةً، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّبِيِّ فَلَهَا هَذَا الْحَقُّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ; إذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَقُّ مَقْصُورًا عَلَى الْوِلَادَةِ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَثَدْي سِقَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي فَقَالَ: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي"، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُخَيَّرُ الْغُلَامُ إذَا أَكَلَ وَشَرِبَ وَحْدَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْأَبَ كَانَ أَوْلَى بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الْأُمَّ كَانَ عِنْدَهَا". وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: "اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت". وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَيَّرَ صَبِيًّا بَيْنَ أَبَوَيْهِ. فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا; لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غُلَامًا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا وَقَالَ: "لَوْ قَدْ بَلَغَ هَذَا يَعْنِي أَخًا لَهُ صَغِيرًا لَخَيَّرْتُهُ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ كَبِيرًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً خَاصَمَتْ زَوْجَهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إنَّهُ طَلَّقَنِي وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَ مِنِّي ابْنِي وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَهِمَا عَلَيْهِ" فَقَالَ: مَنْ يُحَاجُّنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا غُلَامُ هَذِهِ أُمُّك وَهَذَا أَبُوك فَاخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت" فَأَخَذَ الْغُلَامُ بِيَدِ أُمِّهِ; وَقَوْلُ الْأُمِّ "قَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا. وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لِلصَّغِيرِ فِي سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَبَوَيْنِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: "لَا يُخَيَّرُ الْغُلَامُ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا شَرَّ الْأَمْرَيْنِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ يَخْتَارُ اللَّعِبَ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ تَعَلُّمِ الْأَدَبِ وَالْخَيْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَبَ أَقْوَمُ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَنَّ فِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ ضَرَرًا عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ يُنَشَّأُ عَلَى أَخْلَاقِ النِّسَاءِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَضَارِّ نَهْيُ الرَّجُلِ أَنْ يُضَارَّهَا بِوَلَدِهَا وَنَهْيُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ تُضَارَّ بِوَلَدِهِ. وَالْمُضَارَّةُ مِنْ جِهَتِهَا قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا فِي النَّفَقَةِ فَأَنْ تَشْتَطَّ عَلَيْهِ وَتَطْلُبَ فَوْقَ حَقِّهَا، وَفِي غَيْرِ النَّفَقَةِ أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالْإِلْمَامِ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَغْتَرِبَ بِهِ وَتُخْرِجَهُ عَنْ بَلَدِهِ فَتَكُونَ مُضَارَّةً لَهُ بِوَلَدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنْ لَا يُطِيعَهُ وَتَمْتَنِعَ مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَهُ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ يَنْطَوِي عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هُوَ عَطْفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، وَهِيَ حَرْفُ الْجَمْعِ، فَكَانَ الْجَمِيعُ مَذْكُورًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ، وَالنَّهْيُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مُضَارَّةِ الْآخَرِ عَلَى مَا اعْتَوَرَهَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا. ثُمَّ قال الله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} يَعْنِي النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَأَنْ لَا يُضَارَّهَا وَلَا تُضَارَّهُ; إذْ كَانَتْ الْمُضَارَّةُ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ كَمَا تَكُونُ فِي غَيْرِهَا، فَلَمَّا قَالَ عَطْفًا عَلَى ذَلِكَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا عَلَى الْوَارِثِ جَمِيعَ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحَسَنِ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قَالُوا: "النَّفَقَةُ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ: "عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضَارَّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُمَا "عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضَارَّ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا النَّفَقَةَ وَاجِبَةً عَلَى الْوَارِثِ; لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ كَمَا تَكُونُ فِي غَيْرِهَا، فَعَوْدُهُ عَلَى الْمُضَارَّةِ لَا يَنْفِي إلْزَامَهُ النَّفَقَةَ; وَلَوْلَا أَنَّ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ مَا كَانَ لَتَخْصِيصِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُضَارَّةِ فَائِدَةٌ; إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُضَارَّةُ فِي النَّفَقَةِ وَفِي غَيْرِهَا قَوْله تَعَالَى عَقِيبَ ذَلِكَ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَّةَ قَدْ انْتَظَمَتْ الرَّضَاعَ وَالنَّفَقَةَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْعَصَبَاتِ"، وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ; لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِهَا الْعَصَبَاتُ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْلِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "النَّفَقَةُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ لَا يُضَارَّهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى عَلَى الْوَارِثِ النَّفَقَةَ; لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ تَكُونُ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا نَفَقَةَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا الْأَبَ خَاصَّةً وَلَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ وَعَلَى ابْنِ الِابْنِ لِلْجَدِّ، وَتَجِبُ عَلَى الِابْنِ لِلْأَبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ وَالْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ يَقْضِيَانِ بِفَسَادِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فِي النَّفَقَةِ وَالْمُضَارَّةِ، وَغَيْرُ جَائِزٌ لِأَحَدٍ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْأَخَ وَالْعَمَّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا النَّفَقَةُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَجَبَ عَلَى مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فَذَكَرَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِذَلِكَ، لَوْلَاهُ لَمَا أَبَاحَهُ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذُكِرَ فِيهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] وَلَا يَسْتَحِقَّانِ النَّفَقَةَ. قِيلَ لَهُ: هُوَ مَنْسُوخٌ عَنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ ذَوَى الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَوْجَبُوا النَّفَقَةَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ إذَا كَانَ وَارِثًا قِيلَ لَهُ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِيهِ وَخَصَّصْنَاهُ بِدَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} مُوجِبًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ، فَالْوَاجِبُ إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمَا مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْمُرَادُ "وَعَلَى الْوَارِث غَيْرِ الْأَبِ" وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَبِ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ بِإِيجَابِ جَمِيعِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْأُمِّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْأَبَ مَعَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَ مَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي خِطَابٍ; إذْ كَانَ النَّسْخُ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ. وَذَكَرَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ مَوْلُودٌ وَأَبُوهُ مَيِّتٌ أَوْ مَعْدُومٌ فَعَلَى أُمِّهِ أَنْ تُرْضِعَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} فَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِسُقُوطِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ، فَإِنْ انْقَطَعَ لَبَنُهَا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ فَلَمْ تَفْعَلْ وَخَافَتْ عَلَيْهِ الْمَوْتَ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ لَا مِنْ جِهَةِ مَا عَلَى الْأَبِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إعَانَةَ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَهُ. وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ كَلَامِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الِاخْتِلَافِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَوْجَبَ الرَّضَاعَ عَلَى الْأُمِّ لِقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ

قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، فَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهَا الرَّضَاعَ بِحِذَاءِ مَا أَوْجَبَ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إلْزَامُهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ لُزُومَ النَّفَقَةِ لِلْأَبِ بَدَلًا مِنْ الرَّضَاعِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَنَافِعُ فِي الْحُكْمِ حَاصِلَةً لِلْأَبِ مِلْكًا بِاسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ عَلَيْهِ، فَاسْتَحَالَ إيجَابُهَا عَلَى الْأُمِّ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ بِإِلْزَامِهَا بَدَلَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ بِهِ الرَّضَاعَ حَقَّا لَهَا; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى الرَّضَاعِ إذَا أَبَتْ وَكَانَ الْأَبُ حَيَّا; وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ عَلَى إيجَابِ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا فِي حَالِ فَقْدِ الْأَبِ، وَهُوَ لَمْ يَقْتَضِ إيجَابَهُ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إنْ انْقَطَعَ لَبَنُهَا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ. وَهَذَا أَيْضًا مُنْتَقَضٌ; لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الرَّضَاعِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهَا لِلْوَلَدِ فِي حَالِ فَقْدِ الْأَبِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ، كَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ اسْتِرْضَاعُهُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنَافِعُ الرَّضَاعِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهَا فِي مَالِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهَا الرَّضَاعَ; وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ لُزُومِهَا مَنَافِعَ الرَّضَاعِ وَبَيْنَ لُزُومِ ذَلِكَ فِي مَالِهَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا؟ ثُمَّ نَاقَضَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهَا نَفَقَتَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الرَّضَاعِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّضَاعِ وَبَيْنَ النَّفَقَةِ بَعْدَ الرَّضَاعِ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ نَفَقَةِ الصَّغِيرِ; فَمِنْ أَيْنَ أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا؟ وَلَوْ جَازَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَبِ، حَتَّى يُقَالَ: إنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُ إنَّمَا هُوَ نَفَقَةُ الرَّضَاعِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِلصَّغِيرِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا لِلرَّضَاعِ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ وَخَافَتْ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُلْزِمُهَا ذَلِكَ لَوْ خَافَتْ عَلَيْهِ الْمَوْتَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَكَيْفَ خَصَّهَا بِإِلْزَامِهَا ذَلِكَ دُونَ جِيرَانِهَا وَدُونَ سَائِرِ النَّاسِ؟ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ وَتَشَهٍّ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِدَلَالَةٍ وَلَا مُسْتَنِدٍ إلَى شُبْهَةٍ. وَقَدْ حُكِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ إلَّا عَلَى الْأَبِ لِلِابْنِ وَعَلَى الِابْنِ لِلْأَبِ، وَلَا يُوجِبُهَا لِلْجَدِّ عَلَى ابْنِ الِابْنِ. وَهُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا لَا نَعْلَمُ عَلَيْهِ مُوَافِقًا; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يَرُدُّهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وَالْجَدُّ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ; لِأَنَّهُ أَبٌ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَهُوَ مَأْمُورٌ بِمُصَاحَبَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ الصُّحْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ تَرْكُهُ جَائِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى سَدِّ جَوْعَتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

آبَائِكُمْ} [النور: 61] فَذَكَرَ بُيُوتَ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْتَ الِابْنِ وَلَا ابْنِ الِابْنِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" فَأَضَافَ إلَيْهِ مِلْكَ الِابْنِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ بَيْتَ الِابْنِ وَاقْتَصَرَ عَلَى إضَافَةِ الْبُيُوتِ إلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بُيُوتَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ مَالُ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْك فِي أَكْلِ مَالِ نَفْسِك; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] هِيَ بُيُوتُ الْأَبْنَاءِ وَأَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ; إذْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا جَمِيعًا كَمَا ذَكَرَ سَائِرَ الْأَقْرِبَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ مُوجِبُو النَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "هِيَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا". وَلِذَلِكَ أَوْجَبُوا النَّفَقَةَ عَلَى الْخَالِ وَالْمِيرَاثَ لِابْنِ الْعَمِّ; لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَالْخَالُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَارِثًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُدْرَى مَنْ يَرِثُهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الصَّبِيُّ يَرِثُ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ مِنْ يَحْجُبُ مَنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ، ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَانَ أَوْ غَيْرَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ"، فَيُوجِبُهَا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ دُونَ الْخَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ زَوْجِهَا الصَّغِيرِ وَهِيَ مِمَّنْ يَرِثُهُ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ شَرْطٌ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو تَوْقِيتُ الْحَوْلَيْنِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرًا لِمُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ; فَلَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَوْلَيْنِ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَا تَقْدِيرًا لِمُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الْفِصَالُ الَّذِي عَلَّقَهُ بِإِرَادَتِهِمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْفِصَالُ مُعَلَّقًا بِتَرَاضِيهِمَا وَتَشَاوُرِهِمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِهَةِ تَوْقِيتِ نِهَايَةِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُمَا رَضَاعٌ. وَقَدْ رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ

ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثُمَّ قَالَ: "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ منهما وتشاور فلا حرج إن أرادا أن يَفْطِمَاهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَهُ". فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} عَلَى مَا قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَظَاهِرُهُ الِاسْتِرْضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ذِكْرِ الْفِصَالِ الَّذِي عَلَّقَهُ بِتَرَاضِيهِمَا، فَأَبَاحَهُ لَهُمَا وَأَبَاحَ لِلْأَبِ الِاسْتِرْضَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ لَهُمَا الْفِصَالَ إذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحُ الصَّبِيِّ. وَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَوْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ تَوْقِيتٌ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ فِي الْحُكْمِ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ وَيُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ; والله أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي وَقْتِ الرَّضَاعِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ كَرَضَاعِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ تَرْوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَة: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْك" وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ; وَأَبَى سَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَقُلْنَ: لَعَلَّ هَذِهِ كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَة مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ". فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا لِسَالِمٍ كَمَا تَأَوَّلَهُ سَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَصَّ أَبَا زِيَادِ بْنِ دِينَارٍ بِالْجَذَعَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانِكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ". فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الصِّغَرِ وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَسُدُّ اللَّبَنُ فِيهَا جَوْعَتَهُ وَيَكْتَفِي فِي غِذَائِهِ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ; وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ بِامْرَأَتِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَوَضَعَتْ فَتَوَرَّمَ ثَدْيُهَا، فَجَعَلَ يَمُجُّهُ وَيَصُبُّهُ، فَدَخَلَ فِي بَطْنِهِ جَرْعَةٌ مِنْهُ، فَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فَقَالَ: "بَانَتْ مِنْك" فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرَهُ فَفَصَلَ، فَأَقْبَلَ بِالْأَعْرَابِيِّ إلَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ:

"أَرَضِيعًا تَرَى هَذَا الْأَشْمَطَ إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ" فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: "لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ"; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ; إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ "لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ" وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَأَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ حَقٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ" وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ إلَّا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ يَرْوِيهِ عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ "أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ" وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ، وَهُوَ مَا رَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ" وَقَدْ رَوَى حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: "إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ" وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الرَّضَاعِ فِي الْكَبِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا. فَإِذَا ثَبَتَ شُذُوذُ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ رَضَاعَ الْكَبِيرِ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ وبالله التوفيق. وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مُدَّةِ. ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "مَا كَانَ مِنْ رَضَاعٍ فِي الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُمَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ فَهُوَ يُحَرِّمُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ". وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: "مَا دَامَ يَجْتَزِئُ بِاللَّبَنِ وَلَمْ يُفْطَمْ فَهُوَ رَضَاعٌ، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُ سِنِينَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يُحَرِّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَا يُحَرِّمُ بَعْدَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ مُحَرِّمٌ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "الرَّضَاعُ حَوْلَانِ وَشَهْرٌ أَوْ شَهْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى إرْضَاعِ أُمِّهِ إيَّاهُ إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْحَوْلَيْنِ وَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ" قَالَ: "وَإِنْ فَصَلْته قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَأَرْضَعَتْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَهُوَ فَطِيمٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ رَضَاعًا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَغْنَى قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ الرَّضَاعِ فَلَا يَكُونُ مَا أُرْضِعَ بَعْدَهُ رَضَاعًا". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا فُطِمَ لِسَنَةٍ وَاسْتَمَرَّ فِطَامُهُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ رَضَاعٌ، وَلَوْ أُرْضِعَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يُفْطَمْ لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ أَقَاوِيلُ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فصال"،

وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ: "لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ فِي الصِّغَرِ". وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ اعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ; لِأَنَّ عَلِيًّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْفِصَالِ، وَعُمَرَ وَابْنُهُ بِالصِّغَرِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا كَانَ فِي الثَّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ فِي الثَّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ" فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَبِمَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ، وَهُوَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ". فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَذْهَبِهِمْ اعْتِبَارُ الْحَوْلَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ" وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْحَوْلَيْنِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَوْلَانِ تَوْقِيتًا لَمَا قَالَ: "الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ" وَلَقَالَ: الرَّضَاعَةُ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْحَوْلَيْنِ وَذَكَرَ الْمَجَاعَةَ وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللَّبَنَ إذَا كَانَ يَسُدُّ جَوْعَتَهُ وَيَقْوَى عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَالرَّضَاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ ذَلِكَ صِحَّةَ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. وَفِي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ" وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا فُصِلَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "الرَّضَاعَةُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ" دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ تَوْقِيتِ الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةِ الرَّضَاعِ لِدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُ: "لَسْت أَثِقُ بِصِحَّةِ النَّقْلِ فِيهِ" وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] فَإِنْ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَرَضَاعُهُ حَوْلَانِ كَامِلَانِ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ فَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَكْمِلَةُ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بِالْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا; وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ اعْتَبَرَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ الصِّبْيَانِ تَخْتَلِفُ فِي الْحَاجَةِ إلَى الرَّضَاعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى نَفْيِ الرَّضَاعِ لِلْكَبِيرِ وَثُبُوتِ الرَّضَاعِ لِلصَّغِيرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ، وَلَمْ يَكُنْ الْحَوْلَانِ حَدًّا لِلصَّغِيرِ; إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يُسَمِّيَهُ صَغِيرًا وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْلَانِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ لِمُدَّةِ الرَّضَاعِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: "الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ" وَقَالَ: "الرَّضَاعَةُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ" فَقَدْ اعْتَبَرَ مَعْنًى تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ الصِّغَارِ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُمْ قَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ بِمُضِيِّ الْحَوْلَيْنِ؟ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ مِقْدَارُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ; لِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ بَيْنَ الْحَالِ الَّتِي يَكْتَفِي فِيهَا بِاللَّبَنِ فِي غِذَائِهِ وَيَنْبُتُ عَلَيْهِ لَحْمُهُ، وَبَيْنَ الِانْتِقَالِ إلَى الْحَالِ الَّتِي يَكْتَفِي فِيهَا بِالطَّعَامِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ

اللَّبَنِ; وَكَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ اجْتِهَادٌ فِي التَّقْدِيرِ; وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَائِلِ بِهَا سُؤَالٌ نَحْوُ تَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيتٌ، وَتَقْدِيرِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مُطَالَبَةُ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُهُ فِيهِ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ: "إنَّهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّ الْمَالَ لَا يُدْفَعُ إلَى الْبَالِغِ الَّذِي لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ إلَّا بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً" فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي طَرِيقُ إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ فِيهَا الِاجْتِهَادُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَلَا بُدَّ مِنْ جِهَةٍ يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ اعْتِبَارُ هَذَا الْمِقْدَارِ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ اعْتِبَارَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دُونَ سَنَةٍ تَامَّةٍ عَلَى مَا قَالَ زُفَرُ؟ قِيلَ لَهُ: أَحَدُ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] ثُمَّ قَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَعُقِلَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابَيْنِ كَوْنُ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ حَوْلَيْنِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَنَا الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلَا يَخْرُجُ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوْلَيْنِ، كَذَلِكَ الْفِصَالُ لَا يَخْرُجُ مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قَدْ انْتَظَمَتْهُمَا الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: لَمَّا كَانَ الْحَوْلَانِ هُمَا الْوَقْتُ الْمُعْتَادُ لِلْفِطَامِ وَقَدْ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الِانْتِقَالِ مِنْ غِذَاءِ اللَّبَنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَى غِذَاءِ الطَّعَامِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، كَمَا كَانَتْ مُدَّةُ انْتِقَالِ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ إلَى غِذَاءِ الطَّعَامِ بِالْوِلَادَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ تَمَامُ الرَّضَاعِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ رَضَاعٌ. قِيلَ لَهُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِتْمَامِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقَوْله تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ؟ فَجَعَلَ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ لَمْ تَمْتَنِعْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْحَوْلَيْنِ لِلرَّضَاعِ غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" وَلَمْ تَمْتَنِعْ زِيَادَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى أَكْثَرَ منهما، لإثباته

الرَّضَاعَ بِتَرَاضِيهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَلَمَّا ثَبَتَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِهِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا اعْتَبَرَتْ الْفِطَامَ عَلَى مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ فِي الْحَوْلَيْنِ فِي حَالِ اسْتِغْنَاءِ الصَّبِيِّ عَنْ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ، بِدَلَالَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ" وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِمَّا يَدُلُّ كُلُّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْفِطَامِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَالِ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فِي حَاجَتِهِ إلَى اللَّبَنِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ; لِأَنَّ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ"؟ قِيلَ لَهُ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ" فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ أَصْلُ الْحَدِيثِ وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْحَوْلَيْنِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَحْدَهُ. وَأَيْضًا لَوْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَيْضًا: لَا رَضَاعَ عَلَى الْأَبِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ; عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْحَوْلَانِ هُمَا مُدَّةُ الرَّضَاعِ وَبِهِمَا يَقَعُ الْفِصَالُ لَمَا قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَا تَوْقِيتًا لِلْفِصَالِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُهُ لِلْفِصَالِ مَنْكُورًا فِي قَوْله تَعَالَى: {فِصَالاً} وَلَوْ كَانَ الْحَوْلَانِ فِصَالًا لَقَالَ "الْفِصَالَ" حَتَّى يَرْجِعَ ذِكْرُ الْفِصَالِ إلَيْهِمَا; لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ مُشَارٌ إلَيْهِ، فَلَمَّا أَطْلَقَ فِيهِ لَفْظَ النَّكِرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: تَعْلِيقُهُ الْفِصَالَ بِإِرَادَتِهِمَا، وَمَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ لَا يُعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ وَالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُرَ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى صَلَاحِ أَمْرِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِمَا لَا مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ وَالْحَقِيقَةِ وَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى تُرَاضِيهِمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْطِمَهُ دُونَ الْآخَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} فَأَجَازَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا وَتَشَاوُرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ نَسْخٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، رَوَى شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله

تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ عِنْدَهُ كَانَ رَضَاعُ الْحَوْلَيْنِ وَاجِبًا ثُمَّ خُفِّفَ وَأُبِيحَ الرَّضَاعُ أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَ قَوْلِ قَتَادَةَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عباس في قوله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثُمَّ قَالَ: "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ منهما وتشاور فلا حرج إن أرادا أن يَفْطِمَا قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَهُمَا" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرِ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وَالتَّرَبُّصُ بِالشَّيْءِ الِانْتِظَارُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] يَعْنِي يَنْتَظِرُ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] فَأَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ هَذِهِ الْمُدَّة عَنْ الْأَزْوَاجِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} ؟ وَقَدْ كَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا: مِنْهَا تَوْقِيتُ الْعِدَّةِ سَنَةً، وَمِنْهَا: أَنَّ نَفَقَتَهَا وَسُكْنَاهَا كَانَتْ فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً بِقَوْلِهِ تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} . وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ الْخُرُوجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَنَسَخَ مِنْهَا مِنْ الْمُدَّةِ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَنَسَخَ أَيْضًا وُجُوبَ نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا فِي التَّرِكَةِ بِالْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} مِنْ غَيْرِ إيجَابِ نَفَقَةٍ وَلَا سُكْنَى، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ الْإِخْرَاجِ، فَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ قَائِمٌ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَقَدْ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في هذه الآية يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] قال: كان لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا سَنَةً، فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، فَجَعَلَ لَهُنَّ الرُّبُعَ أَوْ الثُّمُنَ مِمَّا تَرَكَ الزَّوْجُ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى

الْوَرَثَةُ". قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ أَنَّ بِنْتًا لَهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تُكَحِّلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" قَالَ حُمَيْدٌ: فَسَأَلْت زَيْنَبَ: وَمَا رَمْيُهَا بِالْبَعْرَةِ؟ فَقَالَتْ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا عَمَدَتْ إلَى شَرِّ بَيْتٍ لَهَا فَجَلَسَتْ فِيهِ سَنَةً، فَإِذَا مَرَّتْ سَنَةٌ خَرَجَتْ فَرَمَتْ بِبَعْرَةٍ مِنْ وَرَائِهَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، وَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَقَالَتْ فِيهِ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِدَّةَ الْحَوْلِ مَنْسُوخَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَأَخْبَرَ بِبَقَاءِ حَظْرِ الطِّيبِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ. وَعِدَّةُ الْحَوْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَعِدَّةُ الشُّهُورِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا نَاسِخَةٌ لَهَا; لِأَنَّ نِظَامَ التِّلَاوَةِ لَيْسَ هُوَ عَلَى نِظَامِ التَّنْزِيلِ وَتَرْتِيبِهِ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَوْلِ مَنْسُوخَةٌ بِعِدَّةِ الشُّهُورِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَأَنَّ وَصِيَّةَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَنْسُوخَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا. وَاخْتَلَفُوا فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَيْضًا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْضًا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةً فِي غير الحامل. وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: فَقَالَ عَلِيٌّ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ". وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي آخَرِينَ: "عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ "أَنَّ عِدَّتَهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَتَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَهِيَ تَرَى الدَّمَ". وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} يُوجِبُ الشُّهُورَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] يُوجِبُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ; فَجَمَعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِمَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَجَعَلَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ مُضِيِّ الشُّهُورِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَ بَعْدَ قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . فَحَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى

عَنْهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا عَقِيبَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ، لِاعْتِبَارِ الْجَمِيعِ بِالْحَمْلِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا جَمِيعًا: "إنَّ مُضِيَّ الشُّهُورِ لَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا" فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] مُسْتَعْمَلًا عَلَى مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ اعْتِبَارُ الشُّهُورِ مَعَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ خَاصَّةً فِي غَيْرِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ غَيْرِ الْحَوَامِلِ، وَأَنَّ الْأَقْرَاءَ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ مَعَ الْحَمْلِ فِي الْحَامِلِ، بَلْ كَانَتْ عِدَّةُ الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ وَضْعَ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ ضَمَّ الْأَقْرَاءِ إلَيْهَا. وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ وَالْأَقْرَاءُ مَجْمُوعَيْنِ عِدَّةً لَهَا بِأَنْ لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا هِيَ الْحَمْلُ غَيْرُ مَضْمُومٍ إلَيْهِ الشُّهُورُ. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده قال: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِينَ نَزَلَتْ {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فِي الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ قَالَ: "فِيهِمَا جَمِيعًا". وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ. وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بِعَكَكٍ: "أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تَتَزَوَّجَ". وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ لَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ مع ما عضده من ظاهر الكتاب. وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةً فِي الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيمَا نَعْلَمُهُ وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْأَصَمِّ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ "إنَّهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ" وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ; لِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ مِنْ الْحَيْضِ وَالشُّهُورِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" وَهَذَا خَبَرٌ قَدْ تَلَقَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي تَنْصِيفِ عِدَّةِ الْأَمَةِ، فَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ عِنْدَنَا. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِمَوْتِهِ وَبَلَغَهَا الْخَبَرُ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: "عِدَّتُهَا مُنْذُ يَوْمِ يَمُوتُ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَ" وَهُوَ قَوْلُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ فِي آخَرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو: "مِنْ يَوْمَ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ فِي الْمَوْتِ، وفي

الطَّلَاقِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَ" وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ فَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ يَمُوتُ، وَإِذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَمِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ". وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ الْمَوْتِ فَأَمَرَهَا بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ وَبِالطَّلَاقِ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ فِيهِمَا مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ; وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا وَقْتَ بُلُوغِ الْخَبَرِ، كَذَلِكَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا سَبَبَا وُجُوبِ الْعِدَّةِ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ هِيَ فِعْلُهَا فَيُعْتَبَرُ فِيهَا عِلْمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُضِيُّ الْأَوْقَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِلْمِهَا بِذَلِكَ وَبَيْنَ جَهْلِهَا بِهِ. وَأَيْضًا لَمَا كَانَتْ الْعِدَّةُ مُوجَبَةٌ عَنْ الْمَوْتِ كَالْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمِيرَاثِ وَقْتُ الْوَفَاةِ لَا وَقْتُ بُلُوغِ خَبَرِهَا، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ الْعِدَّةُ وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهَا حُكْمُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَمَا لَا يَخْتَلِفُ فِي الْمِيرَاثِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْعِلْمِ أَنْ تَجْتَنِبَ مَا تَجْتَنِبُهُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْخُرُوجِ وَالزِّينَةِ إذَا عَلِمَتْ، فَإِذَا لَمْ تَعْلَمَ فَتَرْكُ اجْتِنَابِ مَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْمَوْتِ فَلَمْ تَجْتَنِبْ الْخُرُوجَ وَالزِّينَةَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ. قَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ذَكَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ: "إنَّهُ إنَّ وَجَبَتْ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ اعْتَدَّتْ بِالْأَهِلَّةِ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا، وَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ وَجَبَتْ فِي بَعْضِ شَهْرٍ لَمْ تَعْمَلْ عَلَى الْأَهِلَّةِ وَاعْتَدَّتْ تِسْعِينَ يَوْمًا فِي الطَّلَاقِ وَفِي الْوَفَاةِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا". وَذَكَرَ أَيْضًا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، قَالَ: "إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ وَجَبَتْ فِي بَعْضِ شَهْرٍ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ أَيَّامًا، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِمَا يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَهِلَّةِ شُهُورًا، ثُمَّ تُكْمِلُ الْأَيَّامَ الْأُوَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا; وَإِذَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ اعْتَدَّتْ بِالْأَهِلَّةِ"; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْإِجَارَةِ مِثْلُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِجَارَةِ. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ زُفَرَ فِي الْإِيلَاءِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ "أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِكُلِّ شَهْرٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا نَاقِصًا أَوْ تَامًّا" قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "تَعْتَدُّ بِالْأَيَّامِ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَا تَنْظُرُ إلَى نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَلَا إلَى تَمَامِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا عَلَى مَا حَكَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يوسف عن

أَبِي حَنِيفَةَ فِي عِدَّةِ الشُّهُورِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مُدَّةِ الْعِدَدِ وَأَجَلِ الْإِيلَاءِ وَالْأَيْمَانِ وَالْإِجَارَاتِ إذَا عُقِدَتْ عَلَى الشُّهُورِ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْأَهِلَّةُ فِي سَائِرِ شُهُورِهِ سَوَاءً كَانَتْ نَاقِصَةً أَوْ تَامَّةً، وَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَائِرَ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ ثُمَّ يُكْمِلُ الشَّهْرَ الْآخَرَ بِالْأَيَّامِ مَعَ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَهْرٍ ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ بِالْهِلَالِ، وَاحْتَجْنَا إلَى اعْتِبَارِهِ، فَوَاجِبٌ اعْتِبَارُهُ بِالْهِلَالِ نَاقِصًا كَانَ أَوْ تَامًّا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَشَعْبَانَ; وَكُلُّ شَهْرٍ لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ بِالْأَهِلَّةِ فَهُوَ ثَلَاثُونَ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ بِالْهِلَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْهِلَالِ وَجَبَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ آخِرِ الْمُدَّةِ، وَسَائِرُ الشُّهُورِ لَمَّا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا بِالْأَهِلَّةِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِهَا. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ سَائِرَ الشُّهُورِ بِالْأَيَّامِ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْهِلَالِ وَجَبَ اسْتِيفَاءُ هَذَا الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَيَكُونُ انْقِضَاؤُهُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ يَكُونُ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الشُّهُورِ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ هَذَا الشَّهْرُ مِنْ أَحَدِ الشُّهُورِ وَيُجْعَلَ مَا بَيْنَهُمَا شُهُورًا بِالْأَهِلَّةِ لِأَنَّ الشُّهُورَ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ أَيَّامُهَا مُتَّصِلَةً مُتَوَالِيَةً، فَوَجَبَ اسْتِيفَاءُ شَهْرٍ كَامِلٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُنْذُ أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً فَيَقَعُ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي بَعْضِ الشَّهْرِ الثَّانِي، فَتَكُونُ الشُّهُورُ وَأَيَّامُهَا مُتَوَالِيَةً مُتَّصِلَةً. وَمَنْ يَعْتَبِرُ الْأَهِلَّةَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الشُّهُورِ بَعْدَ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ اسْتَقْبَلَ الشَّهْرَ الَّذِي يَلِيهِ بِالْهِلَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاؤُهُ بِالْهِلَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ أَنَّهَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحْرَمَ وَصَفَرَ وَرَبِيعَ الْأَوَّلَ وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعِ الْآخِرِ، فَاعْتُبِرَ الْهِلَالُ فِيمَا يَأْتِي مِنْ الشُّهُورِ دُونَ عَدَدِ الْأَيَّامِ، فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْمُدَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعَشْراً} ظَاهِرُهَا أَنَّهَا اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ مُرَادَةٌ مَعَهَا، وَلَكِنْ غُلِّبَتْ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ شُهُورِ الْأَهِلَّةِ بِاللَّيَالِيِ مُنْذُ طُلُوعِ الْأَهِلَّةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهَا اللَّيْلَ غُلِّبَتْ اللَّيَالِي وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ، وَلَوْ ذَكَرَ جَمْعًا مِنْ الْأَيَّامِ أَفَادَتْ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران: 41] وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم: 10] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، فَاكْتَفَى تَارَةً بِذِكْرِ الْأَيَّامِ عَنْ اللَّيَالِي وَتَارَةً بِذِكْرِ اللَّيَالِي عَنْ الْأَيَّامِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ" وَفِي لَفْظٍ

آخَرَ: "تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَدَدَيْنِ إذَا أُطْلِقَ أَفَادَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْعَدَدَانِ مِنْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ فِي قَوْله تَعَالَى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7] ؟ وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ "صُمْنَا عَشْرًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ" فَيُعَبِّرُونَ بِذِكْرِ اللَّيَالِي عَنْ الْأَيَّامِ; لِأَنَّ عَشْرًا لَا تَكُونُ إلَّا لِلَّيَالِيِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ فِيهَا إلَّا التَّذْكِيرُ؟ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: أَقَامَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تَضِيفَ وَتَجْأَرَا فَقَالَ "ثَلَاثًا" وَهِيَ اللَّيَالِي، وَذَكَرَ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ فِي الْمُرَادِ. وَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا كَانَ قَوْله تعالى {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} مُفِيدًا لِكَوْنِ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الِاعْتِبَارِ، وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ زَائِدَةً عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعَدَدِ وَارِدًا بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ.

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَنْتَقِلُ الْمَبْتُوتَةُ وَلَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَنْ بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ، وَتَخْرُجُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالنَّهَارِ وَلَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا، وَلَا تَخْرُجُ الْمُطَلَّقَةُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا مِنْ عُذْرٍ; وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تَنْتَقِلُ الْمُطَلَّقَةُ الْمَبْتُوتَةُ وَلَا الرَّجْعِيَّةُ وَلَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَلَا يَخْرُجْنَ بِالنَّهَارِ، وَلَا يَبِتْنَ عَنْ بُيُوتِهِنَّ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَمْ يَكُنْ الْإِحْدَادُ فِي سُكْنَى الْبُيُوتِ فَتَسْكُنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَيَّ بَيْتٍ كَانَتْ فِيهِ جَيِّدًا أَوْ رَدِيًّا، وَإِنَّمَا الْإِحْدَادُ فِي الزِّينَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] فَحَظَرَ خُرُوجَهَا وَإِخْرَاجَهَا فِي الْعِدَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبِينَةٍ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْعُذْرِ، فَأَبَاحَ خُرُوجَهَا لِعُذْرٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْعِدَّةِ الْأُولَى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ثُمَّ نَسَخَ مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، فَبَقِيَ حُكْمُ هَذِهِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْخُرُوجِ; إذْ لَمْ يَرِدْ لَهَا نَسْخٌ وَإِنَّمَا النَّسْخُ فِيمَا زَادَ. وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِع إلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا قَتَلَهُ عَبْدٌ لَهُ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ" قَالَتْ: فَخَرَجْت حَتَّى إذَا كُنْت فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي فَقَالَ: "كَيْفَ قُلْت؟ " فَرَدَدْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْت مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، قَالَتْ: فَقَالَ: "اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ" قَالَتْ: فَاعْتَدَدْت فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْته، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُ ذَلِكَ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهِ فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ: إنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِي مَنْزِلِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي إيجَابِ الْمِيرَاثِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْكَوْنِ فِي الْمَنْزِلِ، وَقَدْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا نَفْيُ الْآخَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْضًا بِسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نَسْخِ الْحَوْلِ وَإِيجَابِ الْمِيرَاثِ; لِأَنَّ عِدَّةَ الْفُرَيْعَةَ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَقَدْ نَهَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّقْلَةِ. وَمَا رَوَيْنَا مِنْ قِصَّةِ الْفُرَيْعَةِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ الْكَوْنِ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ يَوْمَ الْوَفَاةِ وَالنَّهْيُ عَنْ النَّقْلَةِ، وَالثَّانِي جَوَازُ الْخُرُوجِ، إذْ لَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ، وَلَوْ كَانَ الْخُرُوجُ مَحْظُورًا لَنَهَاهَا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَعُثْمَانُ، أَنَّهُمْ قَالُوا: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ وَلَا تَبِيتُ عَنْ بَيْتِهَا". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اُسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَآمَتْ نِسَاؤُهُمْ وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ، فَأَتَيْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: نَبِيتُ عِنْدَ إحْدَانَا؟ فَقَالَ: "تَزَاوَرْنَ بِالنَّهَارِ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَلْتَأْوِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ إلَى بَيْتِهَا". وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، مِنْهُمْ عَلِيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةُ; وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ. قِيلَ لَهُ: الْمَعْنَى "فَإِذَا خَرَجْنَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ" كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَوْ خَرَجَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ "فَإِذَا خَرَجْنَ بَعْدَ

انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ" وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ حَظْرُ الِانْتِقَالِ بَاقِيًا عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهِنَّ وَحَظْرٌ عَنْ خُرُوجِهِنَّ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. وَخَالَفَتْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَنَفَقَةَ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى زَوْجِهَا فَهِيَ مُسْتَغْنِيَةٌ عن الخروج، والله أعلم.

ذِكْرُ إحْدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ عَلَيْهَا اجْتِنَابَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ، مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَحَكَاهُ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ; وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْت عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرِهِ، فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" قَالَتْ زَيْنَبُ: وَدَخَلْت عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْت أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ" قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْت لِزَيْنَبِ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بعد ما شاءت من طيب أو غيره. فَحَظَرَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاكْتِحَالَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَخْبَرَ بِالْعِدَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَدُّ إحْدَاهُنَّ وَمَا تَجْتَنِبُهُ مِنْ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ، ثُمَّ قَالَ: "إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ" فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ مُعْتَدٌّ بِهَا الْعِدَّةَ الَّتِي كَانَتْ سَنَةً فِي اجْتِنَابِ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْر قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي بَدِيلٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةَ وَلَا الْحِلْيَةَ وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَكْتَحِلُ". وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةَ وَلَا الْحُلِيَّ وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَكْتَحِلُ". وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ زَوْجِهَا: "لَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ". قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} الْآيَةَ. قَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَرْبَعَةَ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: الْحَوْلُ، وَقَدْ نُسِخَ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا; وَالثَّانِي: نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ فَقَدْ نُسِخَ بِالْمِيرَاثِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا لَهَا عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ لِأَزْوَاجِهِمْ كَمَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَنُسِخَتْ بِالْمِيرَاثِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وَمِنْهَا الْإِحْدَادُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنْ الْآيَةِ، فَحُكْمُهُ بَاقٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا انْتِقَالُهَا عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَحُكْمُهُ بَاقٍ فِي حَظْرِهِ، فَنُسِخَ مِنْ الْآيَةِ حُكْمَانِ وَبَقِيَ حُكْمَانِ، وَلَا نَعْلَمُ آيَةً اشْتَمَلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ فَنُسِخَ مِنْهَا اثْنَانِ وَبَقِيَ اثْنَانِ غَيْرَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} مَنْسُوخًا; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّكْنَى الْوَاجِبَةَ فِي مَالِ الزَّوْجِ فَقَدْ نُسِخَ كَوْنُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ، فَصَارَ حَظْرُ الْإِخْرَاجِ مَنْسُوخًا. إلَّا أَنَّ قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ السُّكْنَى فِي مَالِ الزَّوْجِ، وَالثَّانِي حَظْرُ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ; لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ إخْرَاجِهَا فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مَأْمُورَةٌ بِاللُّبْثِ، فَإِذَا نُسِخَ وُجُوبُ السُّكْنَى فِي مَالِ الزَّوْجِ بَقِيَ حُكْمُ لُزُومِ اللُّبْثِ فِي الْبَيْتِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي نَفَقَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "نَفَقَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: "الْحَامِلُ إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَنَفَقَتُهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ". وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَقْضُونَ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا فَنَفَقَتُهَا مِنْ نُصِبْ وَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَمِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى فِي مَالِ الْمَيِّتِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "هِيَ فِي مَالِ الزَّوْجِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "نَفَقَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا وَلَهَا

السُّكْنَى إنْ كَانَتْ الدَّارُ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِسُكْنَاهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ بِكِرَاءٍ فَأَخْرَجُوهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سُكْنَى فِي مَالِ الزَّوْجِ" هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ; وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: "لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَلَهَا السُّكْنَى إنْ كَانَتْ الدَّارُ لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهِيَ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى مِنْ الْغُرَمَاءِ وَتُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ وَيُشْتَرَطُ السُّكْنَى عَلَى الْمُشْتَرِي". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إنْ كَانَتْ حَامِلًا أُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ أُنْفِقَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ نَصِيبِهِ" هَذِهِ رِوَايَةُ الْأَشْجَعِيِّ عَنْهُ; وَرَوَى عَنْهُ الْمُعَافَى أَنَّ نَفَقَتَهَا مِنْ حِصَّتِهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمَرْأَةِ يَمُوتُ زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ: "فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ حَتَّى تَضَعَ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ: "فَإِنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ وَلَدَتْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَظِّ وَلَدِهَا، وَإِنْ لَمْ تَلِدْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا يُتْبَعُ بِهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: "لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى" وَالْآخَرُ: "لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَخْلُو نَفَقَةُ الْحَامِلِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى حَسَبِ وُجُوبِهَا بَدِيًّا حِينَ كَانَتْ عِدَّتُهَا حَوْلًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ، أَوْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى حَسَبِ وُجُوبهَا لِلْمُطْلَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ، أَوْ تَجِبُ لِلْحَامِلِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ; لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يَصِحُّ أَيْضًا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ حَالًا فَحَالًا عَلَى حَسَبِ مُضِيِّ الْأَوْقَاتِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِ، وَلَا يَجُوزُ إيجَابُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَبِيلَهَا أَنْ يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ عَلَى الزَّوْجِ وَيُثْبِتَهَا فِي ذِمَّتِهِ وَتُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ ذِمَّةٌ فَتَثْبُتُ فِيهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ إذَا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ; إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَيْنٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهَا فِي مَالِ الْوَرَثَةِ وَلَا فِي مَالِ الزَّوْجِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ يَخْلُ إيجَابُ النَّفَقَةِ لَهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا مُتَعَلِّقًا بِكَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ لِأَجْلِ الْحَمْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إيجَابَهَا لِأَجْلِ الْعِدَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يَجُوزُ إيجَابُهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ; لِأَنَّ الْحَمْلَ نَفْسَهُ لَا يَسْتَحِقُّ نَفَقَتَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ; إذْ هُوَ مُوسِرٌ مِثْلُهُمْ بِمِيرَاثِهِ، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَيْفَ تَجِبُ لَهُ فِي حَالِ الْحَمْلِ؟ فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي

أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْخِطْبَةِ إنَّهَا الذِّكْرُ الَّذِي يُسْتَدْعَى بِهِ إلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَالْخُطْبَةُ بِالضَّمِّ: الْمَوْعِظَةُ الْمُتَّسِقَةُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ التَّأْلِيفِ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: إنَّ الْخُطْبَةَ مَا لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ كَالرِّسَالَةِ، وَالْخِطْبَةُ لِلْحَالِ نَحْوَ الْجِلْسَة وَالْقِعْدَةِ. وَقِيلَ فِي التَّعْرِيضِ: إنَّهُ مَا تَضَمَّنَ الْكَلَامُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لَهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا أَنَا بِزَانٍ; يُعَرِّضُ بِغَيْرِهِ أَنَّهُ زَانٍ; وَلِذَلِكَ رَأَى عُمَرُ فِيهِ الْحَدَّ وَجَعَلَهُ كَالتَّصْرِيحِ. وَالْكِنَايَةُ الْعُدُولُ عَنْ صَرِيحِ اسْمِهِ إلَى ذِكْرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يَعْنِي الْقُرْآنَ; فَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ أَنْ يَقُولَ لَهَا إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَمْرِهَا وَأَمْرِهَا، يُعَرِّضُ لَهَا بِالْقَوْلِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إنِّي بِك لَمُعْجَبٌ وَإِنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَلَا تُفَوِّتِينَا نَفْسَك". وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةِ بِنْتِ قَيْسٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ: "لَا تُفَوِّتِينَا بِنَفْسِك" ثُمَّ خَطَبَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ: إنَّك لَكَرِيمَةٌ وَإِنَّى فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا، أَوْ نَحْوُ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ". وَقَالَ عَطَاءٌ: "هُوَ أَنْ يَقُولَ: إنَّك لَجَمِيلَةٌ وَإِنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنْ قَضَى اللَّهُ شَيْئًا كَانَ". فَكَانَ التَّعْرِيضُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يَدُلُّ فَحَوَاهُ عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهَا وَلَا يُخْطِبُهَا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} : "أَنْ يَقُولَ إنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أن نجتمع". وقوله تعالى: {وْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي أَضْمَرْتُمُوهُ مِنْ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ وَإِضْمَارَ نِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إفْصَاحٍ بِهِ. وَذَكَرَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ احْتَجَّ فِي نَفْيِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ التَّعْرِيضَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ، كَذَلِكَ لَا يُجْعَلُ التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ كَالتَّصْرِيحِ. قَالَ إسْمَاعِيلُ: فَاحْتَجَّ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ; إذْ التَّعْرِيضُ بِالنِّكَاحِ قَدْ فُهِمَ بِهِ مُرَادُ الْقَائِلِ، فَإِذَا فُهِمَ بِهِ مُرَادُهُ وَهُوَ الْقَذْفُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْقَاذِفِ. قَالَ: وَإِنَّمَا يُزِيلُ الْحَدَّ عَنْ الْمُعَرِّضِ بِالْقَذْفِ مَنْ يُزِيلُهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بِتَعْرِيضِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ; إذْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ. قَالَ: وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِ هَذَا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ جَائِزٌ مُبَاحٌ كَمَا أُبِيحَ التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ بِالنِّكَاحِ. قَالَ: وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ التَّعْرِيضُ بِالنِّكَاحِ دُونَ التَّصْرِيحِ; لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْهُمَا وَيَقْتَضِي خِطْبَتُهُ جَوَابًا مِنْهَا، وَلَا يَقْتَضِي التَّعْرِيضُ جَوَابًا فِي الْأَغْلَبِ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ خَصْمِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ صَحِيحٌ وَنَقْضُهُ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ وَاضِحُ الْفَسَادِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى نَفْيِ

الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ أَنَّهُ لَمَّا حَظَرَ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبَةَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ صَرِيحًا وَأُبِيحَ لَهُ التَّعْرِيضُ بِهِ، اخْتَلَفَ حُكْمُ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ التَّصْرِيحِ وَغَيْرُ جَائِزٍ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا خَالَفَ اللَّهُ بَيْنَ حُكْمِهِمَا فِي خِطْبَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحُدُودَ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَهِيَ فِي حُكْمِ السُّقُوطِ، وَالنَّفْيُ آكَدُّ مِنْ النِّكَاحِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّعْرِيضُ فِي النِّكَاحِ كَالتَّصْرِيحِ وَهُوَ آكَدُّ فِي بَابِ الثُّبُوتِ مِنْ الْحَدِّ، كَانَ الْحَدُّ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِالتَّعْرِيضِ مِنْ حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَطَبَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالتَّعْرِيضِ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ النِّكَاحِ فَكَانَ تَعْرِيضُهُ بِالْعَقْدِ مُخَالِفًا لِلتَّصْرِيحِ، فَالْحَدُّ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِالتَّعْرِيضِ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا لَا يَثْبُتُ بِالتَّعْرِيضِ وَيَثْبُتُ بِالتَّصْرِيحِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، فَكَانَ الْحَدُّ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ وَاضِحَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي سَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ مُغْنِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا; وَإِنْ أَرَدْنَا رَدَّهُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا كَانَ سَائِغًا، وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ حُكْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ كَالْقَذْفِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالتَّعْرِيضِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِالْإِفْصَاحِ وَالتَّصْرِيحِ كَمَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ "إنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ; لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مُرَادُهُ كَمَا عُرِفَ بِالتَّصْرِيحِ" فَإِنِّي أَظُنُّهُ نَسِيَ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ إذْ كَانَ الْمُرَادُ مَفْهُومًا مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِمَفْهُومِ الْمُرَادِ فَذَلِكَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْخِطْبَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِيهَا، فَإِذَا كَانَ نَصُّ التَّنْزِيلِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ اُنْتُقِضَ هَذَا الْإِلْزَامُ وَصَحَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ "إنَّ مَنْ أَزَالَ الْحَدَّ عَنْ الْمُعَرِّضِ بِالْقَذْفِ فَإِنَّمَا أَزَالَهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِتَعْرِيضِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ لِغَيْرِهِ" فَإِنَّهَا وَكَالَةٌ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ الْخَصْمِ وَقَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ; وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُتَعَلِّقٌ بِإِرَادَتِهِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ عِنْدَ خُصُومِهِ بِالْإِفْصَاحِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَاَلَّذِي يُحِيلُ بِهِ خَصْمُهُ مِنْ أَنَّهُ أَزَالَ الْحَدَّ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مُرَادَهُ، وَلَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يَعْتَمِدُونَهُ. وَأَمَّا إلْزَامُهُ خَصْمَهُ أَنْ يُبِيحَ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ كَمَا يُبِيحُ التَّعْرِيضَ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ كَلَامُ رَجُلٍ غَيْرِ مُتَثَبِّتٍ فِيمَا يَقُولُهُ وَلَا نَاظِرٍ فِي عَاقِبَةِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ حُكْمُ إلْزَامِهِ لَهُ، فَنَقُولُ: إنَّ خَصْمَهُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ لَمْ يَجْعَلْ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً لِلْإِبَاحَةِ حَتَّى يَلْزَمَ عَلَيْهِ إبَاحَةُ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى إيجَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ، فَأَمَّا الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَمَوْقُوفَانِ عَلَى دَلَالَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ "إنَّمَا أُجِيزَ التَّعْرِيضُ بِالنِّكَاحِ دُونَ التَّصْرِيحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْهُمَا وَيَقْتَضِي خِطْبَتُهُ جَوَابًا مِنْهَا وَلَا يَقْتَضِي التَّعْرِيضُ جَوَابًا فِي الْأَغْلَبِ" فَإِنَّهُ كَلَامٌ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُنْتَقَضٌ; وَذَلِكَ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالنِّكَاحِ وَالتَّصْرِيحَ بِهِ لَا يَقْتَضِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا جَوَابًا; لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا انْصَرَفَ إلَى خِطْبَتِهَا لَوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْجَوَابَ كَمَا لَا يَقْتَضِي التَّعْرِيضَ، وَلَمْ يَجُزْ الْخِطَابُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْعَقْدِ الْمُقْتَضِي لِلْجَوَابِ حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ فَقَدْ بَانَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ فِي نَفْيِ اقْتِضَاءِ الْجَوَابِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي فَرَّقَتْ الْآيَةُ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا الْعَقْدُ الْمُقْتَضِي لِلْجَوَابِ فَإِنَّمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} وَإِنْ كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الْعَقْدِ نَفْسِهِ فَقَدْ اقْتَضَاهُ نَهْيُهُ عَنْ الْإِفْصَاحِ بِالْخِطْبَةِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، كَدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] عَلَى حَظْرِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ. وَأَمَّا وَجْهُ انْتِقَاضِهِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعُقُودَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلْجَوَابِ لَا تَصِحُّ بِالتَّعْرِيضِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارَاتُ لَا تَصِحُّ بِالتَّعْرِيضِ وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِ جَوَابًا مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَا يَقْتَضِي مِنْ ذَلِكَ جَوَابًا وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ; فَعَلِمْت أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: "مُوَاعَدَةُ السِّرِّ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا عَهْدًا أَوْ مِيثَاقًا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَلَا تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَمُحَمَّدٌ وجابر بن زيد: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} "الزِّنَا". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ يَقُولُ سَأُسِرُّهُ وَلَا يُعْلِمُ بِهِ، أَوْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَيَقُولُ لَا يَعْلَمُ بِدُخُولِي حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْمُعَانَى كُلِّهَا; لِأَنَّ الزِّنَا قَدْ يُسَمَّى سِرًّا; قَالَ الْحُطَيْئَةُ: وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ الْقِصَاعِ وَأَرَادَ بِالسِّرِّ الزِّنَا، وَصَفَهُمْ بِالْعِفَّةِ عَنْ نِسَاءِ جِيرَانِهِمْ. قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ حِمَارَ الْوَحْشِ وَأَتَانَهُ لَمَّا كَفَّ عَنْهَا حِينَ حَمَلَتْ: قَدْ أَحْصَنَتْ مِثْلَ دَعَامِيصِ الرَّنَقْ ... أَجِنَّةٌ فِي مستكنات الحلق فعف عن أسرارها بعد العسق

يَعْنِي: بَعْدَ اللَّزُوقِ، يُقَالُ: عَسِقَ بِهِ إذَا لَزِقَ بِهِ وَأَرَادَ بِالسِّرِّ هَهُنَا الْغَشَيَانَ; وَعَقْدُ النِّكَاحِ نَفْسُهُ يُسَمَّى سِرًّا كَمَا يُسَمَّى بِهِ الْوَطْءُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ وَالْعَقْدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسَمَّى نِكَاحًا؟ وَلِذَلِكَ سَاغَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ وَعَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ لِمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَأَظْهَرُ الْوُجُوهِ وَأَوْلَاهَا بِمُرَادِ الْآيَةِ مَعَ احْتِمَالِهَا لِسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ وَأَخْذُ الْعَهْدِ عَلَيْهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ; لِأَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ إنَّمَا هُوَ فِي عَقْدٍ يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ التَّصْرِيحُ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ حَظْرُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِعَيْنِهِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى لَمْ نَسْتَفِدْهُ إلَّا بِالْآيَةِ، فَهُوَ مُرَادٌ بِهَا. وَأَمَّا حَظْرُ إيقَاعِ الْعَقْدِ فِي الْعِدَّةِ فَمَذْكُورٌ بِاسْمِهِ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي نَسَقِ الْخِطَابِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ التَّعْرِيضِ وَبِالْإِفْصَاحِ دُونَ الْكِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْكِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ بقوله {سِرّاً} هُوَ الَّذِي قَدْ أَفْصَحَ بِهِ فِي الْمُخَاطَبَةِ. وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الزِّنَا فِيهِ بُعْدٌ; لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ بِالزِّنَا مَحْظُورَةٌ فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرِهَا; إذْ كَانَ تَحْرِيمُ اللَّهِ الزِّنَا تَحْرِيمًا مُبْهَمًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ وَلَا مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ تَخْصِيصِهِ حَظْرَ الْمُوَاعَدَةِ بِالزِّنَا بِكَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وقَوْله تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بِالتَّزْوِيجِ لِرَغْبَتِكُمْ فِيهِنَّ وَلِخَوْفِكُمْ أَنْ يَسْبِقَكُمْ إلَيْهِنَّ غَيْرُكُمْ. وَأَبَاحَ لَهُمْ التَّوَصُّلَ إلَى الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ دُونَ الْإِفْصَاحِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ التَّوَصُّلِ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَتَاهُ بِلَالٌ بِتَمْرٍ جَيِّدٍ فَقَالَ: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ " فَقَالَ: لَا، إنَّمَا نَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَكُمْ بِعَرَضٍ ثُمَّ اشْتَرُوا بِهِ هَذَا التَّمْرَ" فَأَرْشَدَهُمْ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ التَّمْرِ الْجَيِّدِ. وَلِهَذَا الْبَابِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وقَوْله تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] وَأَبَاحَ لَهُمْ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُبِحْ لَهُمْ لَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يُوَاقِعُ الْمَحْظُورَ عَنْهُ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ أَصْلَ الْعُقْدَةِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّدُّ، تَقُولُ: عَقَدَتْ الْحَبْلَ وَعَقَدْت الْعَقْدَ، تَشْبِيهًا لَهُ بِعَقْدِ الْحَبْلِ فِي التَّوَثُّقِ; وقَوْله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} مَعْنَاهُ: وَلَا تَعْقِدُوهُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ أَنْ تَعْقِدُوهُ فِي الْعِدَّةِ; وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ لَا تَعْزِمُوا بِالضَّمِيرِ عَلَى إيقَاعِ الْعَقْدِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ; لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ إضْمَارَ عَقْدٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} وَالْإِكْنَانُ فِي النَّفْسِ هُوَ الْإِضْمَارُ فِيهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، إنَّمَا تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنْ إيقَاعِ الْعَقْدِ فِي الْعِدَّةِ وَعَنْ الْعَزِيمَةِ عَلَيْهِ فِيهَا. وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يَعْنِي بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى بَيَانٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَهَا بِأَنْ قَالَ: "لَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ" فَعَقَلَتْ مِنْ مَفْهُومِ خِطَابِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي حُكْمِ مِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فِي عِدَّتِهَا فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا وَقَالَ: لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا، وَجَعَلَ الصَّدَاقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفَشَا ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَبَلَغَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَالُ الصَّدَاقِ وَبَيْتِ الْمَالِ؟ إنَّهُمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَى السُّنَّةِ. قِيلَ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهَا؟ قَالَ: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا جَلْدَ عَلَيْهِمَا وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا مِنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ تُكْمِلُ الْعِدَّةَ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ يَكُونُ خَاطِبَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَشْعَثَ مِثْلَهُ، وَقَالَ فِيهِ: "فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ تُزَوَّجَهَا الْآخَرُ إنْ شَاءَ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا" قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَالزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الزِّنَا لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ أَحْرَى أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ جمع

بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَدَخَلَ بِهِمَا، لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عَنْ عَقْدٍ كَانَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالتَّحْرِيمُ غَيْرُ وَاقِعٍ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُوجِبُ الزِّنَا وَالْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا عِنْدَكُمْ كَاَلَّذِي يَطَأُ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِسَبِيلٍ; لِأَنَّ كَلَامَنَا إنَّمَا هُوَ فِي وَطْءٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ نَفْسِهَا، فَأَمَّا وَطْءٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ غَيْرِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ وَطْءٍ عِنْدَنَا زِنًا كَانَ أَوْ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ أَوْ مُبَاحًا، وَأَنْتَ لَمْ تَجِدْ فِي الْأُصُولِ وَطْئًا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ، فَكَانَ قَوْلُك خَارِجًا عَنْ الْأُصُولِ وَعَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ أَيْضًا; لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مَهْرٌ حَصَلَ لَهَا مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَذْهَبُ عُمَرَ فِي جَعْلِ مَهْرِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ; إذْ قَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ، يُشْبِهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا، قُدِّمَتْ إلَيْهِ مَشْوِيَّةً، فَلَمْ يَكَدْ يُسِيغُهَا حِينَ أَرَادَ الْأَكْلَ مِنْهَا فَقَالَ: "إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ" فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى". وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهَا صَارَتْ لَهُمْ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِهَا; لِأَنَّهَا حَصَلَتْ لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ وَلَمْ يَكُونُوا قَدْ أَدَّوْا الْقِيمَةَ إلَى أَصْحَابِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ مَهْرَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالزُّهْرِيُّ: "الصَّدَاقُ لَهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ" وَفِي اتِّفَاقِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عَالِمَةً بِكَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ وَلِذَلِكَ جَلَدَهَا عُمَرُ وَجَعَلَ مَهْرَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا خَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ; فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ سَوَاءً كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِهِ; وَهَذَا يَشْهَدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ وَطِئَ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِنِكَاحٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِدَّةِ إذَا وَجَبَتْ مِنْ رَجُلَيْنِ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَإِنَّ عِدَّةً وَاحِدَةً تَكُونُ لَهُمَا جَمِيعًا، سَوَاءً كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالشُّهُورِ" وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "تَعْتَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ عِدَّةً مُسْتَقْبَلَةً". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يَقْتَضِي كَوْنَ عِدَّتِهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَوَطِئَهَا رَجُلٌ بِشُبْهَةٍ; لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ; وَلَوْ

أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كُنَّا زَائِدِينَ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُطَلَّقَةٍ قَدْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ تُوطَأْ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 89] لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا هِيَ بِمُضِيِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَهِلَّةِ وَالشُّهُورِ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ وَقْتًا لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشُّهُورُ وَالْأَهِلَّةُ وَقْتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ لَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ الثَّانِي; لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ لَا تَمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ تَتْلُوهَا عِدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ قَبْلَ بُلُوغِهَا مَوْضِعَ الِاعْتِدَادِ مِنْ الثَّانِي فَلَا تَلْزَمُهَا عِدَّةٌ مِنْ الثَّانِي، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُعْتَدَّةً مِنْهُ لَمَا مُنِعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا; لِأَنَّ عِدَّةً تَجِبَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَرْفَعُ عَقْدًا مَاضِيًا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَيْضَ إنَّمَا هُوَ اسْتِبْرَاءٌ لِلرَّحِمِ مِنْ الْحَبَلِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَوَطِئَهَا الثَّانِي بِشُبْهَةٍ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِبْرَاءُ; وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ حَمْلِ الْأَوَّلِ غَيْرَ اسْتِبْرَاءٍ مِنْ حَمْلِ الثَّانِي، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَأَبَانَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ بِشُبْهَةٍ، أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّتَيْنِ عِدَّةٌ مِنْ الْوَطْءِ وَتَعْتَدُّ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْعِدَّةِ الْأُولَى مِنْ الْعِدَّتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا حَقٌّ وَاجِبٌ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْأَوَّلُ وَاجِبٌ لِرَجُلَيْنِ. قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَالرَّجُلَيْنِ; لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إذَا وَجَبَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَوَاجِبٌ إيفَاؤُهُمَا إيَّاهُ جَمِيعًا كَوُجُوبِهِمَا لِرَجُلَيْنِ فِي لُزُومِ تَوْفِيَتِهِمَا إيَّاهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي آجَالِ الدُّيُونِ وَمَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْإِجَارَاتِ وَمُدَدِ الْإِيلَاءِ فِي أَنَّ مُضِيَّ الْوَقْتِ الْوَاحِدِ يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ فَتَكُونُ الشُّهُورُ الَّتِي لِهَذَا هِيَ بِعَيْنِهَا لِلْآخَرِ؟ وَقَدْ رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ فِي الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي الْعِدَّةِ "أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْهُمَا" وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عِدَّةً وَاحِدَةً مِنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ الْآخَرِ". قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ الْآخَرِ عدة مستقبلة،

فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَعْنَاهُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ لِيُوَافِقَ حَدِيثَ أَبِي الزِّنَادِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مُتْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} تَقْدِيرُهُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً; أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا; لَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا الْمَفْرُوضَ لَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: "مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً" وَقَدْ تَكُونُ "أَوْ" بِمَعْنَى "الْوَاوِ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] مَعْنَاهُ: "وَلَا كَفُورًا". وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وَالْمَعْنَى: "وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط وَأَنْتُمْ مَرْضَى وَمُسَافِرُونَ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] مَعْنَاهُ: "وَيَزِيدُونَ" فَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ وَهِيَ فِي النَّفْيِ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهَا عَلَيْهِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] مَعْنَاهُ: "وَلَا كَفُورًا" لِدُخُولِهَا عَلَى النَّفْيِ. وَقَالَ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] "أَوْ" فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَيَكُونُ شَرْطُ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا مِنْ عَدَمِ الْمَسِيسِ وَالتَّسْمِيَةِ جَمِيعًا بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي الْحَيْضِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْمَدْخُولِ بِهَا، لِإِطْلَاقِهِ إبَاحَةَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ مِنْهُ بِحَالِ الطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ"، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ مِثْلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إلَّا الَّتِي تَطْلُقُ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا صَدَاقٌ وَلَمْ تُمَسَّ فَحَسْبُهَا نِصْفُ مَا فُرِضَ لَهَا"، وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ: "تُخَيَّرُ الَّتِي تَطْلُقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَى الْمُتْعَةِ". وَقَالَ شُرَيْحٌ وَقَدْ سَأَلُوهُ فِي مَتَاعٍ فَقَالَ: "لَا نَأْبَى أَنْ نَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ" فَقَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، فَقَالَ: "لَا نَأْبَى أَنْ نَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ". وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْمُتْعَةِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: "لَا، عَلَى الْمُتَّقِينَ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ فِي كِتَابِ الْبَيْعَةِ: "وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ

الْمَتَاعَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَاجِبًا وَلَكِنَّهَا تَخْصِيصٌ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٌ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا فَرَضَ الرَّجُلُ وَطَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمَتَاعُ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: "الْمُتْعَةُ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا، وَاَلَّتِي قَدْ فُرِضَ لَهَا لَيْسَ لَهَا مُتْعَةٌ". وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى لِلْمُطْلَقَةِ مُتْعَةً وَاجِبَةً إلَّا لِلَّتِي أُنْكِحَتْ بِالْعِوَضِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "مُتْعَتَانِ إحْدَاهُمَا يَقْضِي بِهَا السُّلْطَانُ وَالْأُخْرَى حَقٌّ عَلَى الْمُتَّقِينَ: مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ وَلَمْ يَدْخُلْ أَخَذَ بِالْمُتْعَةِ; لِأَنَّهُ لَا صَدَاقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ طَلَّقَ بَعْدَمَا يَدْخُلُ أَوْ يَفْرِضُ فَالْمُتْعَةُ حَقٌّ عَلَيْهِ"، وَعَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ فِيهَا. وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا وَزُفَرَ قَالُوا: "الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُمَتِّعُهَا وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، إلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ زَعَمَ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ تَجِبْ الْمُتْعَةُ وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو الزِّنَادِ: "الْمُتْعَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا" وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَبَيْنَ مَنْ سُمِّيَ لَهَا وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "لَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى الْمُتْعَةِ سَمَّى لَهَا أَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخَلْ، وَإِنَّمَا هِيَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَا يُجْبَرَ عَلَيْهَا". قَالَ مَالِكٌ: "وَلَيْسَ لِلْمُلَاعَنَةِ مُتْعَةٌ عَلَى حَالٍ مِنْ الْحَالَاتِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَلِكُلِّ زَوْجَةٍ إذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ يَتِمُّ بِهِ، إلَّا الَّتِي سَمَّى لَهَا وَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَبْدَأُ بِالْكَلَامِ فِي إيجَابِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ نَعْقُبُهُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَوْجَبَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الدَّلَالَةَ عَلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى النَّدْبِ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِ الْإِيجَابِ آكَدُ مِنْ قَوْلِهِ "حَقًّا عَلَيْهِ". وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهِ; إذْ جَعَلَهَا مِنْ شَرْطِ الْإِحْسَانِ، وعلى كل

أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} قَدْ دَلَّ قَوْلُهُ "حَقَّا عَلَيْهِ" عَلَى الْوُجُوبِ، وقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] قَدْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَمْرٌ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لَهُمْ، وَمَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فَهُوَ مِلْكُهُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، كَقَوْلِك "هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ". فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا خَصَّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ فِي إيجَابِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَأَنَّهَا نَدْبٌ; لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ وَالْمُحْسِنُونَ وَغَيْرُهُمْ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ تَأْكِيدًا لِوُجُوبِهَا، وَلَيْسَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ نَفْيًا لِإِيجَابِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وَهُوَ هُدًى لِلنَّاسِ كَافَّةً، وقَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: 183] فَلَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] مُوجِبًا; لَأَنْ لَا يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ; كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} و {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} غَيْرُ نَافٍ أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُوجِبُهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالْآيَةِ وَنُوجِبُهَا عَلَى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَبَهَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ أَوْجَبَهَا عَلَى غَيْرِهِمْ. وَيَلْزَمُ هَذَا السَّائِلَ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا نَدْبًا أَيْضًا; لِأَنَّ مَا كَانَ نَدْبًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ تَخْصِيصُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فِي الْإِيجَابِ وَيَكُونُونَ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءً. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يُخَصِّصْ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ الصَّدَاقِ وَسَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَات عِنْدَ إيجَابِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُتْعَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ لَفْظُ الْإِيجَابِ مَوْجُودًا فِي الْجَمِيعِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمُ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ ثُمَّ تَخْصِيصُهُ بَعْضَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَقَّ بِذِكْرِ التَّقْوَى، وَالْإِحْسَانِ إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ، وَوُجُوهُ التَّأْكِيدِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَكُونُ ذُكِرَ بِتَقْيِيدِ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِتَخْصِيصِ لَفْظِ الْأَدَاءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَالرَّهْنِ بِهِ; فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ عَلَى نَفْيِ الْإِيجَابِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّا وَجَدْنَا عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَابِ الْبَدَلِ إنْ كَانَ مُسَمًّى، فَالْمُسَمَّى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَمَهْرُ الْمِثْلِ، ثُمَّ كَانَتْ حَالُهُ إذَا كَانَ فِيهِ تَسْمِيَةٌ أَنَّ الْبُضْعَ

لَا يَخْلُو مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ لَهُ مَعَ وُرُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفَارَقَ النِّكَاحُ بِهَذَا الْمَعْنَى سَائِرَ الْعُقُودِ; لِأَنَّ عَوْدَ الْمَبِيعِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ يُوجِبُ سُقُوطَ الثَّمَنِ كُلِّهِ، وَسُقُوطُ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْ بُضْعِهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ بَدَلٍ مَا وَهُوَ نِصْفُ الْمُسَمَّى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وُرُودُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَالْمُتْعَةُ هِيَ بَعْضُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَتَجِبُ كَمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا هِيَ أَثْوَابٌ. قِيلَ لَهُ: الْمُتْعَةُ أَيْضًا عِنْدَنَا دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ لَوْ أَعْطَاهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا بَعْضُ مَهْرِ الْمِثْلِ يَسُوغُ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ; لِأَنَّهُ يَقُولُ: "إذَا رَهَنَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ مَحْبُوسًا بِهَا، إنْ هَلَكَ هَلَكَ بِهَا" وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهَا بَعْضَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَكِنَّهُ أَوْجَبَهَا بِمُقْتَضَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَخْلُو مِنْ بَدَلٍ مَعَ وُرُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ وَبَيْنَ عَدَمِهَا; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حُصُولُ مِلْكِ الْبُضْعِ لَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَوُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ كَوُجُوبِ الْمُسَمَّى فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُهُمَا فِي وُجُوبِ بَدَلِ الْبُضْعِ عِنْدَ وُرُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ قَائِمَةً مَقَامَ بَعْضِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَعْضَهُ، كَمَا تَقُومُ الْقِيَمُ مَقَامَ الْمُسْتَهْلَكَاتِ. وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سُمِّيَ لَهَا أَنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ: "هُوَ مُتْعَتُهَا" فَكَانَتْ الْمُتْعَةُ اسْمًا لِمَا يُسْتَحَقُّ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَامَتْ مَقَامَ بَعْضِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ عِوَضٌ مِنْ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ لَا يَجِبُ لَهُ عِوَضٌ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ وَإِنْ قَامَ مَقَامَهُ، كَمَا لَا نَقُولُ إنَّ قِيَمَ الْمُسْتَهْلَكَاتِ أَبْدَالٌ لَهَا بَلْ كَأَنَّهَا هِيَ حِينَ قَامَتْ مَقَامَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ بَدَلِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ؟ وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ مُسْتَهْلِكٌ كَانَ لَهُ أَخْذُ الْقِيمَةِ مِنْهُ; لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهَا هُوَ، عَلَى مَعْنَى الْعِوَضِ; فَكَذَلِكَ الْمُتْعَةُ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ كَمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى مِنْ الْبُضْعِ مَعَ الطَّلَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ لَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِالْمَرْأَةِ كَمَا يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِحَالِهَا دُونَ حَالِ الزَّوْجِ، فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِبَارَ الْمُتْعَةِ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ

بَدَلًا مِنْ الطَّلَاقِ; لِأَنَّ الْبُضْعَ يَحْصُلُ لَهَا بِالطَّلَاقِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَ مَا يَحْصُلُ لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك: "فِي اعْتِبَارِ حَالِهِ دُونَ حَالِهَا" فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَأَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: "يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا" وَلَيْسَ فِيهِ خِلَافُ الْآيَةِ; لِأَنَّا نَسْتَعْمِلُ حُكْمَ الْآيَةِ مَعَ ذَلِكَ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ; وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: "يُعْتَبَرُ حَالُهُ دُونَ حَالِهَا" وَمَنْ قَالَ بِهَذَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ هَذَا السَّائِلِ أَيْضًا; لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَحْصُلُ الْبُضْعُ لِلزَّوْجِ إمَّا بِالدُّخُولِ وَإِمَّا بِالْمَوْتِ الْقَائِمِ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي اسْتِحْقَاقِ كَمَالِ الْمَهْرِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فِي اعْتِبَارِهَا بِأَنْفُسِهَا، وَأَمَّا الْمُتْعَةُ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ عِنْدَنَا إلَّا فِي حَالِ سُقُوطِ حَقٍّ مِنْ بُضْعِهَا لَسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ حَالِ الْمَرْأَةِ; إذْ الْبُضْعُ غَيْرُ حَاصِلٍ لِلزَّوْجِ بَلْ حَصَلَ لَهَا بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ حُكْمِ الدُّخُولِ، فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ حَالُهُ دُونَهَا، وَأَيْضًا لَوْ سَلَّمْنَا لَك أَنَّهَا لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا; لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ، بِدَلَالَةِ أَنَّ بَدَلَ الْبُضْعِ هُوَ الْمَهْرُ وَقَدْ مَلَكَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَالدُّخُولُ وَالِاسْتِمْتَاعُ إنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ بَدَلًا وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا، وَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَبِيهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَالْإِنْفَاقُ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا، وَالزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ وَهُنَّ وَاجِبَاتٌ; فَالْمُسْتَدِلُّ بِكَوْنِهَا غَيْرَ بَدَلٍ عَنْ شَيْءٍ عَلَى نَفْيِ إيجَابِهَا مُغَفَّلٌ. وَأَيْضًا فَاعْتِبَارُهَا بِالرَّجُلِ وَبِالْمَرْأَةِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي تَقْدِيرِهَا، وَالْكَلَامُ فِي التَّقْدِيرِ لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِيجَابِ; وَلَا بِنَفْيِهِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً بِحَالِ الرَّجُلِ فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ; إذْ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِحَالِ الرَّجُلِ; إذْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ مِنْهُ فِي حَالِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَلَمَّا قَدَّرَهَا بِحَالِ الرَّجُلِ وَلَمْ يُطْلِقْهَا فَيُخَيَّرُ الرَّجُلُ فِيهَا، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا; وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ دَلِيلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ أَيْضًا: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْمُقْتِرَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَإِذَا لَمْ تَلْزَمْهُ لَمْ تَلْزَمْ الْمُوسِرَ، وَمَنْ أَلْزَمَهَا الْمُقْتِرَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ; لِأَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ لَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ إيجَابَهَا عَلَيْهِ; إذْ لَا مَالَ لَهُ فَيُعْتَبَرُ قَدَرُهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَجْعَلَهَا دَيْنًا عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُخَاطَبًا بِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ إغْفَالٌ مِنْهُ لِمَعْنَى الْآيَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ "عَلَى الْمُوسِعِ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ وَعَلَى الْمُقْتِرِ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ" وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَلِلْمُقْتِرِ قَدَرٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَجِدَ فَيُسَلِّمَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ

رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ. وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ; لِأَنَّ لَهُ ذِمَّةً تَثْبُتُ فِيهَا النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى إذَا وَجَدَهَا أَعْطَاهَا، كَذَلِكَ الْمُقْتِرُ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ، وَكَسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَتَكُونُ الذِّمَّةُ كَالْأَعْيَانِ; أَلَا تَرَى أَنَّ شِرَاءَ الْمُعْسِرِ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ جَائِزٌ وَقَامَتْ الذِّمَّةُ مَقَامَ الْعَيْنِ فِي بَابِ ثُبُوتِ الْبَدَلِ فِيهَا؟ فَكَذَلِكَ ذِمَّةُ الزَّوْجِ الْمُقْتِرِ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ يَصِحُّ إثْبَاتُ الْمُتْعَةِ فِيهَا كَمَا تَثْبُتُ فِيهَا النَّفَقَاتُ وَسَائِرُ الدُّيُونِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ فِيهِ مَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا صَدَاقَ لَهَا لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ; لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَنْ سَكَتَ عَنْ التَّسْمِيَةِ وَبَيْنَ مِنْ شَرَطَ أَنْ لَا صَدَاقَ، فَهِيَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَزَعَمَ مَالِكٌ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَقَدْ قَضَتْ الْآيَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا كَانَ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ شَرْطُهُ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْمَدْخُولِ بِهَا; لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً بَعْدَ الدُّخُولِ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَحِقَّ مَعَهُ الْمُتْعَةَ. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَسْتَحِقُّهَا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ إذَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّهُ مَعَ وُجُوبِ بَعْضِ الْمَهْرِ، فَأَنْ لَا تَسْتَحِقَّهُ مَعَ وُجُوبِ جَمِيعِهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا وَجَبَتْ الْمُتْعَةُ حِينَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ أَوْلَى. قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْتَحِقَّهَا إذَا وَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِوُجُوبِهَا عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْهُ; وَأَيْضًا فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّتْهَا عِنْدَ فَقْدِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ لِعِلَّةِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَخْلُو مِنْ بَدَلٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ وَجَبَتْ الْمُتْعَةُ، وَلَمَّا اسْتَحَقَّتْ بَدَلًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَحِقَّهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِهِنَّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْمَتَاعَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، قَالَ الله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31 – 32] وَقَالَ تَعَالَى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران: 197] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 39] وَقَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ:

إنَّمَا نِعْمَةُ قَوْمٍ مُتْعَةٌ ... وَحَيَاةُ الْمَرْءِ ثَوْبٌ مُسْتَعَارُ فَالْمُتْعَةُ وَالْمَتَاعُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَنَحْنُ فَمَتَى أَوْجَبْنَا لِلْمُطْلَقَاتِ شَيْئًا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ مَهْرٍ أَوْ نَفَقَةٍ فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْآيَةِ، فَمُتْعَةُ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى وَاَلَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا عَلَى قِدْرِ حَالِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلِلْمَدْخُولِ بِهَا تَارَةً الْمُسَمَّى وَتَارَةً مَهْرُ الْمِثْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُتْعَةٌ; وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إذَا أَوْجَبْنَا لَهَا ضَرْبًا مِنْ الْمُتْعَةِ أَنْ نُوجِبَ لَهَا سَائِرَ ضُرُوبِهَا; لأن قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} إنَّمَا يَقْتَضِي أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. فإن قيل: قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} يَقْتَضِي إيجَابَهُ بِالطَّلَاقِ وَلَا يَقَعُ عَلَى مَا اسْتَحَقَّتْهُ قَبْلَهُ مِنْ الْمَهْرِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَقُولَ "وَلِلْمُطْلَقَاتِ الْمُهُورُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً لَهُنَّ قَبْلَ الطَّلَاقِ" فَلَيْسَ فِي ذِكْرِ وُجُوبِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَا يَنْفِي وُجُوبَهُ قَبْلَهُ; إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ ذِكْرُ وُجُوبِهِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ فَائِدَةُ وُجُوبِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ إعْلَامَنَا أَنَّ مَعَ الطَّلَاقِ يَجِبُ الْمَتَاعُ; إذْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الطَّلَاقَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ، فَأَبَانَ عَنْ إيجَابِهِ بَعْدَهُ كَهُوَ قَبْلَهُ. وَأَيْضًا إنْ كَانَ الْمُرَادُ مَتَاعًا وَجَبَ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: إمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، أَوْ الْمُتْعَةُ، أَوْ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالطَّلَاقِ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُسَمَّى مَتَاعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فَسَمَّى النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى الْوَاجِبَتَيْنِ لَهَا مَتَاعًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مَعَ الْمَهْرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَلَوْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ تَجِبُ مَعَ الْمَهْرِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَوَجَبَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ، إذْ كَانَتْ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ الطَّلَاقِ، فَكَانَ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمَهْرِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ وَالْمَهْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا وَلَا تُوجِبُونَهَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ انْتِفَاءُ وُجُوبِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ وُجُوبِهَا بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْمُتْعَةَ بَعْضُ مَهْرِ الْمِثْلِ، إذْ قَامَ مَقَامَ بَعْضِهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهَا وَاجِبَةً بِالْمَهْرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ; فَلِذَلِكَ صَحَّتْ بِبَعْضِهِ بَعْدَهُ; وَأَنْتَ فَلَسْت تَجْعَلُ الْمُتْعَةَ بَعْضَ الْمَهْرِ، فَلَمْ يَخْلُ إيجَابُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ أَوْ مِنْ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ مَعَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَوَاجِبٌ أَنْ تَسْتَحِقَّهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ اسْتَحَالَ وُجُوبُهَا عَنْ الطَّلَاقِ فِي حَالِ حُصُولِ الْبُضْعِ لَهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم.

ذِكْرُ تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} وَإِثْبَاتُ الْمِقْدَارِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ فِي الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبُ الظَّنِّ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ أَيْضًا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي مِقْدَارِهَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارُهَا بِيَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ ذَلِكَ; فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْعَادَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَيَّرُ، وَجَبَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْعَادَاتِ فِي الْأَزْمَانِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَدِّيًا إلَى اجْتِهَادٍ رَأَيْنَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: "يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا" وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ فِي كِتَابِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ فِي تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ بِشَيْئَيْنِ: حَالِ الرَّجُلِ بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: فَلَوْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ عَارِيًّا مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ وَالْأُخْرَى دَنِيَّةٌ مَوْلَاةٌ ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ تَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَةِ، فَتَجِبُ لِهَذِهِ الدَّنِيَّةِ كَمَا تَجِبُ لِهَذِهِ الشَّرِيفَةِ; وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. قَالَ: وَيَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ دُونَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا عَظِيمَ الشَّأْنِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً دَنِيَّةً مَهْرُ مِثْلِهَا دِينَارٌ، أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا; إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْئًا دِينَارٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَتْهُ الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَتَسْتَحِقُّ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِلْمُطْلَقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ دُونَهَا يُؤَدِّي إلَى مُخَالَفَةِ مَعْنَى. الْكِتَابِ وَدَلَالَتِهِ وَإِلَى خِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَادَاتِ سَقَطَ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَالِهَا مَعَهُ. وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلَانِ مُوسِرَانِ أُخْتَيْنِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا: بِامْرَأَتِهِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا; وَطَلَّقَ الْآخَرُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ لَهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ أُخْتِهَا فَيَكُونُ مَا تَأْخُذُهُ الْمَدْخُولُ بِهَا أَقَلَّ مِمَّا تَأْخُذُهُ الْمُطَلَّقَةُ، وَقِيمَةُ الْبُضْعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الْمَهْرِ، فَيَكُونُ الدُّخُولُ مُدْخِلًا عَلَيْهَا ضَرَرًا وَنُقْصَانًا فِي الْبَدَلِ; وَهَذَا مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ مَعَهُ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا وَكَانَتْ مُتْعَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ

نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهَا لَا تُجَاوِزُ بِهَا نِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَكُونُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُتْعَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمُسَمَّى. لَهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ التَّسْمِيَةِ مَعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْطِيَهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ; وَلَمَّا كَانَ الْمُسَمَّى مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى. وَلَمْ يُقَدِّرْ أَصْحَابُنَا لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ، وَقَالُوا: "هِيَ عَلَى قَدْرِ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ" وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ، وَالْإِزَارُ هُوَ الَّذِي تَسْتَتِرُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الْخُرُوجِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَعْلَى الْمُتْعَةِ الْخَادِمُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ النَّفَقَةُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ الْكِسْوَةُ". وَرَوَى إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي مُجَلَّزٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَر: أَخْبِرْنِي عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَخْبَرَنِي عَلَى قَدْرِي فَإِنِّي مُوسِرٌ أَكْسُو كَذَا أَكْسُو كَذَا; فَحَسِبْت ذَلِكَ فَوَجَدْته قِيمَةَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَرَوَى عَمْرو عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "لَيْسَ فِي الْمُتْعَةِ شَيْءٌ يُوَقَّتُ عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ" وَكَانَ حَمَّادٌ يَقُولُ: "يُمَتِّعُهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا". وَقَالَ عَطَاءٌ: "أَوْسَعُ الْمُتْعَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "كِسْوَتُهَا فِي بَيْتِهَا دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَجِلْبَابٌ". وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانَ مِنْهُمْ مِنْ يُمَتِّعُ بِالْخَادِمِ وَالنَّفَقَةِ وَمِنْهُمْ مِنْ يُمَتِّعُ بِالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ مَتَّعَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "أَفْضَلُ الْمُتْعَةِ خِمَارٌ وَأَوْضَعُهَا ثَوْبٌ". وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ عَنْهَا فَقَالَ: "لَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ". وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ كُلُّهَا صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادِ آرَائِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْوَشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَقَادِيرُ مَعْلُومَةٌ فِي النُّصُوصِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} قِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الْحَزُّ فِي الْقِدَاحِ عَلَامَةً لَهَا تُمَيِّزُ بَيْنَهَا، وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي قِسْمِ الْمَاءِ عَلَى خَشَبٍ أَوْ جَصٍّ أَوْ حِجَارَةٍ يَعْرِفُ. بِهَا كُلُّ ذِي حَقٍّ نَصِيبَهُ مِنْ الشُّرْبِ، وَقَدْ سُمِّيَ الشَّطُّ الَّذِي تَرْفَأُ فِيهِ السُّفُنُ فُرْضَةً لِحُصُولِ الْأَثَرِ فِيهِ بِالنُّزُولِ إلَى السُّفُنِ وَالصُّعُودِ مِنْهَا، ثُمَّ صَارَ اسْمُ الْفَرْضِ فِي الشَّرْعِ وَاقِعًا عَلَى الْمِقْدَارِ وَعَلَى مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ; وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} مَعْنَاهُ "أَنْزَلَهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْك أَحْكَامَهُ وَتَبْلِيغَهُ" وقَوْله تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ

الْمَوَارِيثِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَعْنَى الْإِيجَابِ لِمَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ الَّتِي بَيَّنَهَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ; وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الْمُرَادُ بِالْفَرْضِ هَهُنَا تَقْدِيرُ الْمَهْرِ وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْعَقْدِ، وَمِنْهُ فَرَائِضُ الْإِبِلِ وَهِيَ الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا عَلَى اعْتِبَارِ أَعْدَادِهَا وَأَسْنَانِهَا، فَسَمَّى التَّقْدِيرَ فَرْضًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالْحَزِّ الْوَاقِعِ فِي الْقِدَاحِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَا كَانَ مُقَدَّرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} تَسْمِيَةُ الْمِقْدَارِ فِي الْعَقْدِ، أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ فُرِضَ لَهَا وَطَلُقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ عَلَى نَفْيِ التَّسْمِيَةِ كَانَ الثَّانِي عَلَى إثْبَاتِهَا، فَأَوْجَبَ اللَّهُ لَهَا نِصْفَ الْمَفْرُوضِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ سُمِّيَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا" وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: "لَهَا نِصْفُ الْفَرْضِ" ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَهَا نِصْفُ الْفَرْضِ" وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَنَّ مُوجَبَ هَذَا الْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَدْ اقْتَضَى وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ وُجُوبَ الْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَمَّا تَرَاضَيَا عَلَى تَسْمِيَةٍ لَمْ يَنْتَفِ مُوجَبُ الْعَقْدِ مِنْ الْمُتْعَةِ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ كَمَا لَمْ يَكُنْ مَهْرُ الْمِثْلِ مُسَمًّى فِيهِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِهِ، فَلَمَّا كَانَ وُرُودُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُول مُسْقِطًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ بَعْد وُجُوبِهِ; إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَفْرُوضِ بَعْدَهُ; إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالدُّخُولِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا لَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ، فَلَمَّا كَانَ الْمَهْرُ بَدَلًا مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ وَلَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ الْبُضْعَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمَهْرُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِيمَا قَدْ مَلَكَهُ وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِهِ لَا يُلْزِمُهُ بَدَلًا; أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ بَدْلًا بِالتَّصَرُّفِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِمَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ اسْتَحَقَّتْهُ بِالْعَقْدِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا بِمَا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ؟ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهِ، وَلَوْ خَاصَمْته إلَى الْقَاضِي لَقَضَى به لها،

وَالْقَاضِي لَا يَبْتَدِئُ إيجَابَ مَهْرِ لَمْ تَسْتَحِقَّهُ كَمَا لَا يَبْتَدِئُ إيجَابَ سَائِرِ الدُّيُونِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً. وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ قَدْ اسْتَحَقَّتْ مَهْرَ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ وَمَلَكَتْهُ عَلَى الزَّوْجِ حَسَبَ مِلْكِهَا لِلْمُسَمَّى لَوْ كَانَتْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ لَمَا سَقَطَ كُلُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا لَا يَسْقُطُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَسْقُطْ كُلُّهُ; لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَعْضُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَهِيَ بِإِزَاءِ نِصْفِ الْمُسَمَّى لِمَنْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ اسْتَبَاحَ الزَّوْجُ الْبُضْعَ، قَالَ: "لِأَنَّ الزَّوْجَ بِإِزَاءِ الزَّوْجَةِ كَالثَّمَنِ بِإِزَاءِ الْمَبِيعِ" فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ; لِأَنَّ الْوَطْءَ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ كَمَا اسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْلِيمَ عَلَيْهَا; إذْ مَا اسْتَبَاحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِزَاءِ مَا اسْتَبَاحَهُ الْآخَرُ، فَمِنْ أَيْنَ صَارَ الزَّوْجُ مَخْصُوصًا بِإِيجَابِ الْمَهْرِ إذَا دَخَلَ بِهَا؟ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا بِالْمَهْرِ إذَا لَمْ تَسْتَحِقَّ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ، وَوَاجِبٌ أَيْضًا أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ; لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ جِهَتِهِ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ كَمَا صَحَّ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ كَمَا لَا يَلْزَمُهَا لَهُ شَيْءٌ; وَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُقَوَّمَ الْبُضْعُ عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ وَبِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنْهَا لِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ بُضْعِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا عَقَلَتْ الْأُمَّةُ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بَدَلًا مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ، يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ حِينَ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي خَطَبَ إلَيْهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ: "قد ملكتها بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ فِي مَعْنَى الْمَالِكِ لِبُضْعِهَا. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْعَقْدِ يُسْقِطُهُ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُهُ مَعَ مَهْرِ الْمِثْلِ; وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَهُ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا أُلْحِقَ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ، فَمِنْ حَيْثُ بَطَلَ الْعَقْدُ بَطَلَ مَا أُلْحِقَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ثُبُوتُهُ كَانَ بِالْعَقْدِ وَلَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: "إنَّ الْمُسَمَّى قَدْ بَطَلَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ حَسَبَ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ" وَكَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "هَذَا مُتْعَتُهَا". وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْمَهْرَ قَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَإِذَا سَمَّى دِرْهَمَيْنِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ. وَهَذَا لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى مَا قَالُوا وَذَلِكَ; لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الدِّرْهَمَيْنِ عِنْدَنَا تسمية

الْعَشَرَةِ; لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الْعَقْدِ، وَتَسْمِيَةٌ لِبَعْضِهَا تَسْمِيَةٌ لِجَمِيعِهَا، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ كَانَ إيقَاعُهُ لِنِصْفِ تَطْلِيقَةٍ إيقَاعًا لِجَمِيعِهَا; وَاَلَّذِي قَدْ فَرَضَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ قَدْ فَرَضَ الْعَشَرَةَ عِنْدَنَا، فَيَجِبُ نِصْفُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ، وَنَحْنُ نُوجِبُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ ثُمَّ نُوجِبُ الزِّيَادَةَ إلَى تَمَامِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ بدلالة أخرى; والله أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسِيسِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "إذَا أَغْلَقَ بَابًا وَأَرْخَى سِتْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ". وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا" وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ. وَرَوَى فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَإِنْ قَعَدَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا"، وَالشَّعْبِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مُرْسَلٌ; وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْل قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إذَا فَرَضَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمَتَاعُ". فَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ "فَرَضَ" يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَقَوْلَهُ "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ" يُرِيدُ قَبْلَ الْخَلْوَةِ; لِأَنَّهُ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْخَلْوَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنْهُ، فَأَوْجَبَ لَهَا الْمُتْعَةَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرٌ: "الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ; وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ أَوْ رَتْقَاءَ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إذَا لَمْ يَطَأْهَا، وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ". وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ: "لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا إذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا جَاءَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا خَلَا بِهَا وَقَبَّلَهَا وَكَشَفَهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا فَلَا أَرَى لَهَا إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ فَلَهَا الْمَهْرُ إلَّا أَنْ تَضَعَ لَهُ مَا شَاءَتْ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا قَبَّلَهَا وَلَمَسَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا، أَوْ أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا أَوْ أَغْلَقَ بَابًا فَقَدْ تَمَّ الصَّدَاقُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا خَلَا بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ; إذْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ ادَّعَتْ الدُّخُولَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذَا أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا

فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى طَلَّقَ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فَأَوْجَبَ إيفَاءَ الْجَمِيعِ، فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 20 - 21] فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20 - 21] وَالثَّانِي: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "الْإِفْضَاءُ الْخَلْوَةُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ" وَهُوَ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ اسْمٌ لِلْخَلْوَةِ; فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ الْخَلْوَةِ; وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مَمْنُوعًا فِيهَا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ; لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ مِنْ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا بِنَاءَ فِيهِ وَلَا حَاجِزَ يَمْنَعُ مِنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ، فَأَفَادَ بِذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ عَلَى وَصْفٍ وَهِيَ الَّتِي لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِمْتَاعِ; إذْ كَانَ لَفْظُ الْإِفْضَاءِ يَقْتَضِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25] وقَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] يَعْنِي مُهُورَهُنَّ. وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِيتَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنِ شَاذَّانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ وَنَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ" وَهُوَ عِنْدَنَا اتِّفَاقُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ; لِأَنَّ حَدِيثَ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يُثْبِتُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ طَرِيقِ فِرَاسٍ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: "قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ". وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الوطء أو

التَّسْلِيمُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَجْبُوبِ مَعَ عَدَمِ الْوَطْءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْوَطْءِ; إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَطْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَتْ صِحَّتُهُ بِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ كَانَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهَا التَّسْلِيمُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَمْ يَصِحَّ عَلَيْهَا الْعَقْدُ؟ وَإِذَا كَانَتْ صِحَّةُ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةً بِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ مِنْ جِهَتِهَا فَوَاجِبٌ أَنْ تَسْتَحِقَّ كَمَالَ الْمَهْرِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ بِحُصُولِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ قِبَلِهَا هُوَ التَّسْلِيمُ وَوُقُوعُ الْوَطْءِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَعَجْزُهُ وَامْتِنَاعُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَخْلُوِّ بِهَا: "لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، مَا ذَنْبُهُنَّ إنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ؟ " وَأَيْضًا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا وَخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ، كَذَلِكَ الْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ. وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهَا إذَا كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ حَائِضًا أَوْ مَرِيضَةً أَنَّ ذَلِكَ لَا تَسْتَحِقُّ بِهِ كَمَالَ الْمَهْرِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هُنَاكَ تَسْلِيمًا آخَرَ صَحِيحًا تَسْتَحِقُّ بِهِ كَمَالَ الْمَهْرِ; إذْ لَيْسَ ذَلِكَ تَسْلِيمًا صَحِيحًا; وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ تَسْتَحِقَّ كَمَالَ الْمَهْرِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبَ الْعِدَّةِ بِوُجُودِ الْمَسِيسِ وَهُوَ الْوَطْءُ; إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْمَسِّ بِالْيَدِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَتَأَوَّلَهُ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى الْخَلْوَةِ; فَلَيْسَ يَخْلُو هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوهَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ فِي الشَّرْعِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا لَيْسَ بِاسْمٍ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ اسْمًا لَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَهُمْ حُجَّةٌ فِيهَا; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاللُّغَةِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَأَسْمَاءُ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا; وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ الْخَلْوَةِ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْمَسِّ بِالْيَدِ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْجِمَاعِ وَبَعْضُهُمْ، عَلَى الْخَلْوَةِ، وَمَتَى كَانَ اسْمًا لِلْجِمَاعِ كَانَ كِنَايَةً عَنْهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ; وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخَلْوَةُ سَقَطَ اعْتِبَارُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَسُّ بِالْيَدِ، وَوَجَبَ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِهِ; وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلَالَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْخَلْوَةُ دُونَ الْجِمَاعِ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ لَا يَخُصَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ وَالسُّنَّةِ. وَأَيْضًا لَوْ اعْتَبَرْنَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَوْ خَلَا بِهَا وَمَسَّهَا بِيَدِهِ أَنْ تَسْتَحِقَّ كَمَالَ الْمَهْرِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْمَسِّ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُ بِهَا وَمَسَّهَا بِيَدِهِ خَصَّصْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ; وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجِمَاعَ، فَلَيْسَ يمتنع أن يقوم مقامه

مَالِكٍ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي جَوَازِهَا فِي الْمُشَاعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، كَانَ الْكَلَامُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَجُبَيْرِ بْنُ مُطْعِمٍ وَنَافِعُ بْن جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَنَافِعٌ: "هُوَ الزَّوْجُ" وَكَذَلِكَ قَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، قَالُوا: "عَفْوُهُ أَنْ يُتِمَّ لَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ" قَالُوا: وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هُوَ الزَّوْجُ" وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "رَضِيَ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَأَمَرَ بِهِ، وَإِنْ عَفَتْ فَكَمَا عَفَتْ، وَإِنْ ضَنَّتْ وَعَفَا وَلِيُّهَا جَازَ وَإِنْ أَبَتْ". وَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ: "هُوَ الْوَلِيُّ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ بِكْرٌ جَازَ عَفْوُ أَبِيهَا عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : اللَّاتِي قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا الْأَبَ وَحْدَهُ، لَا وَصِيَّ وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لِأَبِي الْبِكْرِ أَنْ يَضَعَ مِنْ صَدَاقِهَا عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا عَفْوُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ لَهُ مُبَارَأَةُ زَوْجِهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْ أَبِيهَا لَهَا، فَكَمَا لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أَنْ يَضَعَ شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ النِّكَاحِ كَذَلِكَ لَا يَعْفُو عَنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مُبَارَأَتَهُ عَلَيْهَا جَائِزَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} مُتَشَابِهٌ لَاحْتِمَالِهِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَأَوَّلَهُمَا السَّلَفُ عَلَيْهِمَا، فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَةٌ لَا احْتِمَالَ فِيهَا لِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَتْهُ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إلَيْهَا; لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ، وَذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُصُولِ; وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ للأب

هِبَةُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ; لِأَنَّهُ مَالُهَا. وَقَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَلِيِّ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ فِي هِبَةِ مَالِهِ; فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ خَارِجًا عَنْهَا وَجَبَ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مُوَافَقَتِهَا; إذْ لَيْسَ ذَلِكَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ لَاحْتِمَالِهِ لِلْمَعَانِي، وَمَا لَيْسَ بِأَصْلِ فِي نَفْسِهِ فَالْوَاجِبُ رَدُّهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ وَاعْتِبَارُهُ بِهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَوُجِدَ نَظَائِرُهُمَا فِي الْأُصُولِ لَكَانَ فِي مُقْتَضَى اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ الْوَلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْوَلِيَّ بِحَالٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعُقْدَةُ مَوْجُودَةً وَهِيَ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَأَمَّا عُقْدَةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا فِي يَدِ أَحَدٍ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عُقْدَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي يَدِ الْوَلِيِّ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ وَقَدْ كَانَتْ الْعُقْدَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ بِحَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْوَلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بِيَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ بِأَنْ يُرِيدَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَالْوَلِيُّ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَلَا هِيَ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ، فَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ الْوَلِيِّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التلاوة: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَنَدَبَهُ إلَى الْفَضْلِ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَلَيْسَ فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ إفْضَالٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إفْضَالٌ. وَفِي تَجْوِيزِ عَفْوِ الْوَلِيِّ إسْقَاطُ مَعْنَى الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَة، وَجَعَلَهُ تَعَالَى بَعْد الْعَفْوِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى، وَلَا تَقْوَى لَهُ فِي هِبَةِ مَالِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَمْ يَقْصِدْ إلَى الْعَفْوِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ سِمَةَ التَّقْوَى. وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ، وَعَفْوُهُ وَتَكْمِيلُ الْمَهْرِ لَهَا جَائِزٌ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا; وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُرَادًا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُرَادًا بِهَا; لِأَنَّ السَّلَفَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا الزَّوْجِ، وَإِمَّا الْوَلِيِّ; وَإِذْ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُرَادٌ وَجَبَ أَنْ تَمْتَنِعَ إرَادَةُ الْوَلِيِّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ النَّدْبِ إلَى الْفَضْلِ وَإِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ التَّقْوَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مَخْصُوصًا بِهِ الْمَالِكُ دُونُ مَنْ يَهَبُ مَالَ الْغَيْرِ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ أَنْ تَلْحَقَ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لِلْوَلِيِّ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْخِتَانُ. قِيلَ: أَغْفَلْت مَوْضِعَ الْحِجَاجِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلثَّوَابِ وَالْفَضْلِ بِالتَّبَرُّعِ بِمَالِ الْغَيْرِ، فَعَارَضْتنَا بِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي مَالِهِ

فَأَخْرَجَهُ عَنْهُ وَلِيٌّ وَهُوَ الْأَبُ، وَنَحْنُ نُجِيزُ لِلْوَصِيِّ وَلِغَيْرِ الْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ هَذِهِ الْحُقُوقَ وَلَا نُجِيزُ عَفْوَهُمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ وَإِخْرَاجِ مَا لَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِهَا. وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ احْتَجَّ لِمَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الزَّوْجَ لَقَالَ "إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ" لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ رَاجِعًا إلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلَى ذِكْرِ مَنْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالصِّفَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّوْجَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْكَلَامُ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ إيجَابَ الْأَحْكَامِ تَارَةً بِالنُّصُوصِ، وَتَارَةً بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ عَلَيْهِ، وَتَارَةً بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ لِلْمَعَانِي وَهُوَ فِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ وَبِهِ أَوْلَى، وَتَارَةً بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً يُحْتَاجُ فِي الْوُصُولِ إلَى الْمُرَادِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ; وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ "لَوْ أَرَادَ الزَّوْجَ لَقَالَ أَوْ يَعْفُوَ حَتَّى يَرْجِعَ الْكَلَامُ إلَى الزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَمَا عَدَلَ عَنْهُ إلَى لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ" خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَيُقَالُ لَهُ: لَوْ أَرَادَ الْوَلِيَّ لَقَالَ "الْوَلِيُّ" وَلَمْ يُورِدْ لَفْظًا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: "إنَّ الْعَافِيَ هُوَ التَّارِكُ لِحَقِّهِ، وَهِيَ إذَا تَرَكَتْ النِّصْفَ الْوَاجِبَ لَهَا فَهِيَ عَافِيَةٍ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ فَإِنَّ الزَّوْجَ إذَا أَعْطَاهَا شَيْئًا غَيْرَ وَاجِبٍ لَهَا لَا يُقَالُ لَهُ عَافٍ وَإِنَّمَا هُوَ وَاهِبٌ" وَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ ضَعِيفٌ; لِأَنَّ الَّذِينَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى الزَّوْجِ قَالُوا: إنَّ عَفْوَهُ هُوَ إتْمَامُ الصَّدَاقِ لَهَا وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَعَانِي اللُّغَةِ وَمَا تَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَفْوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ هُوَ قَوْلُهُ "قَدْ عَفَوْت" وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ تَكْمِيلُ الْمَهْرِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ تَمْلِيكُ الْمَرْأَةِ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الطَّلَاقِ إيَّاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ لَوْ كَانَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَكَانَ حُكْمُ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَالنَّدْبُ الْمَذْكُورُ فِيهَا قَائِمًا فِيهِ، وَيَكُونُ عَفْوُ الْمَرْأَةِ أَنْ تُمَلِّكَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا بِأَنْ تَقُولَ "قَدْ عَفَوْت" وَلَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ؟ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَقُولَ "قَدْ عَفَوْت" لَكِنْ بِتَمْلِيكٍ مُبْتَدَأٍ عَلَى حَسَبِ مَا تَجُوزُ التَّمْلِيكَاتُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ وَاسْتَهْلَكَتْهُ كَانَ عَفْوُ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إبْرَاءَهَا مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ كَانَ عَفْوُهَا إبْرَاءَهُ مِنْ الْبَاقِي، فَكُلُّ عَفْوٍ أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ فَمِثْلُهُ يُضَافُ إلَى الزَّوْجِ. وَيُقَالُ: فَمَا تَقُولُ فِي عَفْوِ الْوَلِيِّ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هُوَ فَإِنَّا نَجْعَلُ عَفْوَ الزَّوْجِ عَلَى مِثْلِهَا، فَالِاشْتِغَالُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا يُجْدِي نَفْعًا; لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي لَفْظِ الْعَفْوِ وَالْعُدُولُ عَنْهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ، إلَّا أَنِّي ذَكَرْتُهُ إبَانَةً عَنْ اخْتِلَالِ قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ وَلَجَأَهُمْ إلَى تَزْوِيقِ الْكَلَامِ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ.

وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ "إنَّ الْبِكْرَ إذَا عَفَتْ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْبِكْرِ والثيب في قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَابْتِدَاءُ خِطَابِهِ حِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} عَامًّا فِي الْأَبْكَارِ وَالثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عَامًّا فِي الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمَا، وَتَخْصِيصُ الثَّيِّبِ بِجَوَازِ الْعَفْوِ دُونَ الْبِكْرِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ. وقَوْله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفْعَهَا إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ اشْتَرَتْ بِهَا مَتَاعًا، أَنْ يَكُونَ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ وَتَضْمَنُ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ; وَقَالَ مَالِكٌ: "يَأْخُذُ الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَتَاعِ الَّذِي اشْتَرَتْهُ" وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا وَلَا هُوَ قِيمَةٌ لَهُ؟ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأُصُولِ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْأَلْفَ وَاشْتَرَى بِهَا مَتَاعًا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ سَبِيلٌ، وَكَانَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْبَائِعِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفًا مِثْلَهَا. فَالنِّكَاحُ مِثْلُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا; إذْ لَمْ يَقَعْ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْمَتَاعِ كَمَا لَمْ يَقَعْ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأَلْفِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَذِكْرِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فِيهِ أَمْرٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَتَأْكِيدُ وُجُوبِهَا بِذِكْرِ الْمُحَافَظَةِ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ الْمَعْهُودَاتُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَذَلِكَ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهَا إشَارَةً بِهَا إلَى مَعْهُودٍ. وَقَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ الْقِيَامَ بِهَا وَاسْتِيفَاءَ فُرُوضِهَا وَحِفْظَ حُدُودِهَا وَفِعْلَهَا فِي مَوَاقِيتِهَا وَتَرْكَ التَّقْصِيرِ فِيهَا; إذْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ. وَأَكَّدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِإِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ مَعَ ذِكْرِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ وَأَوْلَاهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ عَنْ الْجُمْلَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى غَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الظُّهْرُ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ وَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إلَّا الصَّفُّ أَوْ الصَّفَّانِ وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: "فَكَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَوَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ". قَالَ زيد بن

ثَابِتٍ: "وَإِنَّمَا سَمَّاهَا وُسْطَى; لِأَنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى "أَنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّ فِي مُصْحَفِهِنَّ: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ". وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" وَقَرَأْتهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} . فَأَخْبَرَ الْبَرَاءُ أَنَّ مَا فِي مُصْحَفِ هَؤُلَاءِ مِنْ ذِكْرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَنْسُوخٌ. وَقَدْ رَوَى عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَاتَلْنَا الْأَحْزَابَ فَشَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَ الَّذِينَ شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى نَارًا" قَالَ عَلِيٌّ: "كُنَّا نَرَى أَنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ". وَرَوَى عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ" وَكَذَلِكَ رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ "أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ" وَكَذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: "الْمَغْرِبُ". وَقِيلَ إنَّمَا سُمِّيَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ الْوُسْطَى; لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَصَلَاتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ إنَّ أَوَّلَ الصَّلَوَاتِ وُجُوبًا كَانَتْ الْفَجْرَ وَآخِرَهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، فَكَانَتْ الْعَصْرُ هِيَ الْوُسْطَى فِي الْوُجُوبِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْوُسْطَى الظُّهْرُ يَقُولُ; لِأَنَّهَا وُسْطَى صَلَاةِ النَّهَارِ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَمَنْ قَالَ الصُّبْحُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي سَوَادٍ مِنْ اللَّيْلِ وَبَيَاضٍ مِنْ النَّهَارِ" فَجَعَلَهَا وُسْطَى فِي الْوَقْتِ. وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا كَانَ لَهَا وُسْطَى; لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ سِتًّا. فَيُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَتْ الْوُسْطَى الْعَصْرَ فَوَجْهُهُ مَا قِيلَ إنَّهَا وُسْطَى فِي الْإِيجَابِ، فَإِنْ كَانَتْ الظُّهْرَ فَلِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ الَّتِي هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهَا وُسْطَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَلَيْسَ الْوِتْرُ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً; لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ فَرْضًا; إذْ كَانَ الْفَرْضُ هُوَ أَعْلَى فِي مَرَاتِبِ الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فَرْضَ الْوِتْرِ زِيَادَةٌ وَرَدَتْ بَعْدَ فَرْضِ الْمَكْتُوبَاتِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ إلَى صَلَاتِكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ" وَإِنَّمَا سُمِّيت وُسْطَى قَبْلَ وُجُوبِ الْوِتْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْقُنُوتِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ إنَّهُ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ. وَرُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ أَقَاوِيلُ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : "مُطِيعِينَ". وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

"الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ" وَقَرَأَ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ" يَعْنِي الْقِيَامَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْقُنُوتُ السُّكُوتُ وَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ". وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الْقُنُوتِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُدِيمَ الطَّاعَةِ قَانِتًا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَطَالَ الْخُشُوعَ وَالسُّكُوتَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ فَاعِلُو الْقُنُوتِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِيهِ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ" وَالْمُرَادُ بِهِ: أَطَالَ قِيَامَ الدُّعَاءِ. وَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ شِبْلٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا رَجَعْت سَلَّمْت عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ قَضَى أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ". وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "كُنَّا نَرُدُّ السَّلَامَ فِي الصَّلَاةِ فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيُّ عَنْ ابْنِ عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَلَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ". فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ حَظْرُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ حَظَرَهُ; وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَظْرِهِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: "يَجُوزُ فِيهَا لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَلَامُ السَّهْوِ لَا يُفْسِدُهَا. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَفْسَدُوا الصَّلَاةَ بِوُجُودِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَقَعَ أَوْ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَلَوْنَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَظْرِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ لَوْ لَمْ تَرِدْ الرِّوَايَةُ بِسَبَبِ نُزُولهَا، لَيْسَ فِيهَا فَرْقٌ بَيْنَ الْكَلَام الْوَاقِعِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ وَبَيْنَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ إصْلَاحُ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يُقْصَدْ; وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَظْرِهِ فِيهَا لَمْ يُفَرِّقْ فِيهَا بَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ إصْلَاحُ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ مِنْهُ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّهْيُ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَامِدِ دُونَ النَّاسِي لِاسْتِحَالَةِ نَهْيِ النَّاسِي. قِيلَ لَهُ: حُكْمُ النَّهْيِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى النَّاسِي كَهُوَ عَلَى الْعَامِدِ. وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ، فِي الْمَأْثَمِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ فَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الصَّلَاةِ وَإِيجَابُ قَضَائِهَا

فَلَا يَخْتَلِفَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسِيَ بِالْأَكْلِ وَالْحَدَثِ وَالْجِمَاعِ فِي الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْعَامِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ إيجَابِ الْقَضَاءِ وَإِفْسَادِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي حُكْمِ الْمَأْثَمِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ حُكْمُ النَّهْيِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ إيجَابِ الْقَضَاءِ مُعَلَّقًا بِالنَّاسِي كَهُوَ بِالْعَامِدِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي حُكْمِ الْمَأْثَمِ وَالْوَعِيدِ. فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ الْإِصْلَاحُ لِلصَّلَاةِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إصْلَاحُهَا، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: "إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ" وَحَقِيقَتُهُ الْخَبَرُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إخْبَارًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا كَلَامُ النَّاسِ; فَلَوْ بَقِيَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْكَلَامِ لَكَانَ قَدْ صَلُحَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ كَلَامُ النَّاسِ فَلَيْسَ بِصَلَاةٍ لِيَكُونَ مُخْبَرُهُ خَبَرًا مَوْجُودًا فِي سَائِرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ ضِدَّ الصَّلَاحِ هُوَ الْفَسَادُ وَهُوَ يَقْتَضِيهِ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ فِيهَا ذَلِكَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ إذَا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ صَلُحَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ إفْسَادٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْخَبَرِ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا مِنْ مُخَالِفِينَا الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، ثُمَّ قَامَ إلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدِّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، قَالَ: وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَفِي النَّاسِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ، فَقَامَ رَجُلٌ طَوِيلُ الْيَدَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّيهِ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيت أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ لَهُ: "لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ الصَّلَاةُ" فَقَالَ: بَلْ نَسِيت فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ " قَالُوا: نَعَمْ فَجَاءَ فَصَلَّى بِنَا الرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. فَأَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِمَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْكَلَامِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الْبِنَاءِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبي حَازِمٍ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا فَقَالَ: صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سِنِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَخَرَجَ خَلْفَهُ وَقَدْ فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ. قَالُوا: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَعْدَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَسْخَ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ كَانَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ مَحْظُورًا; لِأَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِنَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ بَعْدَ حَظْرِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ.

وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: "إنَّمَا لَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ; لِأَنَّهُ كَانَ لِإِصْلَاحِهَا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لِأَنَّهُ وَقَعَ نَاسِيًا". فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ كَانَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ نَسْخِ الْكَلَامِ لَكَانَ مُبِيحًا لِلْكَلَامِ فِيهَا نَاسِخًا لِحَظْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ أَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عن أبي حازم عن سهل بن سعد، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَابَهُ فِي صَلَاتِهِ شَيْءٌ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، إنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" فَمَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقَوْمِ تَسْبِيحٌ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ التَّسْبِيحَ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلَّمَهُمْ التَّسْبِيحَ ثُمَّ يُخَالِفُونَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانُوا خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ التَّسْبِيحِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَظَهَرَ فِيهِ النَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهِمْ التَّسْبِيحَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى الْكَلَامِ الْمَحْظُورِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا قَبْلَ حَظْرِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ حَظْرِ الْكَلَامِ بَدِيًّا مِنْهُ ثُمَّ أُبِيحَ الْكَلَامُ ثُمَّ حُظِرَ بِقَوْلِهِ: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" وَقَدْ كَانَ نَسْخُ الْكَلَامِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَ هَذَا قَبْلَ بَدْرٍ، ثُمَّ اُسْتُحْكِمَتْ الْأُمُورُ بَعْدَهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرَقْمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "سَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ إشَارَةً", وَقَالَ: "كُنَّا نَرُدُّ السَّلَامَ فِي الصَّلَاةِ فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ". وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ أَصَاغِرِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ مَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "وَمَا عِلْمُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِنَّمَا كَانَا غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ". وَكَانَ قُدُومُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَبَشَةِ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْد الرَّحْمَنِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْحَبَشَةِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ بَعْدَمَا أَثْخَنَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَبْدٌ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِحَظْرِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعُمْرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَالَ: "كَانَ إسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَمَا قُتِلَ ذُو الْيَدَيْنِ"

ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ كَانَ قَبْلَ إسْلَامِهِ; لِأَنَّ إسْلَامَهُ كَانَ عَامَ خَيْبَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَشْهَدْ تِلْكَ الْقِصَّةَ وَإِنْ حَدَّثَ بِهَا، كَمَا قَالَ الْبَرَاءُ: "مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْنَاهُ، وَلَكِنَّا سَمِعْنَا وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "وَاَللَّهِ مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا وَلَا يَتَّهِمُ بَعْضُنَا بَعْضًا". وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا أَنَا قُلْت مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَهُوَ جُنُبٌ فَلْيُفْطِرْ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ قَالَهُ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ ثُمَّ لَمَّا أُخْبِرَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمَهُ ذَلِكَ قَالَ: "لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا إنَّمَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ". فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِهِ أَنَّهُ قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ". قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، كَمَا رَوَى مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا وَإِيَّاكُمْ كُنَّا نُدْعَى بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ" إنَّمَا يَعْنِي أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حَظْرُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُتَقَدِّمًا لِبَدْرٍ لَمَا شَهِدَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ; لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرَ السِّنِّ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ خَرَجَ إلَى مُؤْتَةَ، وَمِثْلُهُ لَا يُدْرِكُ قِصَّةً كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ. قِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرَقْمَ قَدْ شَهِدَ إبَاحَةَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُبِيحَ بَعْدَ الْحَظْرِ ثُمَّ حُظِرَ، فَكَانَ آخِرُ أَمْرِهِ الْحَظْرَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَدْ شَهِدَ إبَاحَةَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ حَظْرِهِ ثُمَّ حُظِرَ بَعْدَ ذَلِكَ; إلَّا أَنَّ إخْبَارَهُ عَنْ قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ; لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَهَا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ أَرَقْمَ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ "كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ" إخْبَارًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ: "قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَكَمَا قَالَ الْحَسَنُ: "خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ" وَهُوَ لَمْ يَكُنْ بِهَا يَوْمئِذٍ، إنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ فِي حَالِ إبَاحَةِ الْكَلَامِ أَنَّ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَدَ إلَى جِذْعٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّ سُرْعَانَ النَّاسِ خَرَجُوا فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: صَدَقَ وَبَعْضُ هَذَا الْكَلَامِ كَانَ عَمْدًا وَبَعْضُهُ كَانَ لِغَيْرِ إصْلَاحِ الصَّلَاةِ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَالِ إبَاحَةِ الْكَلَامِ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ في

ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي حَالِ إبَاحَةِ الْكَلَامِ بَدِيَّا قَبْلَ حَظْرِهِ فَلَا حُجَّةَ لِلْمُخَالِفِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَظْرِ الْكَلَامِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أُبِيحَ بَعْدَ الْحَظْرِ ثُمَّ حُظِرَ فَكَانَ آخِرُ أَمْرِهِ الْحَظْرَ وَنُسِخَ بِهِ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" كَانَ بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ; إذْ لَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ التَّسْبِيحِ، وَلَكَانَ الْقَوْمُ لَا يُخَالِفُونَهُ إلَى الْكَلَامِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَظْرِ الْكَلَامِ وَالْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيحِ نَاسِخٌ لِحَظْرِ الْكَلَامِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَلِفًا فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَظْرِ; لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ مَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا خَاصٌّ وَالْآخَرُ عَامٌّ وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَامِّ وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ كَانَ الْخَبَرُ الْمُتَّفَقُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ حَدَثِ السَّاهِي وَالْعَامِدِ، فَهَلَّا فَرَّقْتُمْ بَيْنَ سَهْوِ الْكَلَامِ وَعَمْدِهِ قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ فَارِغٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ حَدَثِ السَّاهِي وَالْعَامِدِ فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ سَبْقِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَمَّا لَوْ سَهَا فَحَكَّ قُرْحَةً وَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ أَوْ تَقَيَّأَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ سَلَامِ السَّاهِي وَالْعَامِدِ وَهُوَ كَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَلَامِ فِيهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا السَّلَامُ ضَرْبٌ مِنْ الذِّكْرِ مَسْنُونٌ بِهِ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا قَصَدَ إلَيْهِ عَامِدًا فَسَدَتْ بِهِ الصَّلَاةُ كَمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا فِي آخِرِهِ، وَإِذَا كَانَ سَاهِيًا فَهُوَ ذِكْرٌ مِنْ الْأَذْكَارِ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذِكْرًا; لِأَنَّهُ سَلَامٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمُصَلِّينَ، وَهُوَ لَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، أَوْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ; فَلَمَّا كَانَ ضَرْبًا مِنْ الْأَذْكَارِ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ "السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ" وَإِذَا كَانَ مِثْلُهُ قَدْ يُوجَدُ فِي الصَّلَاةِ ذِكْرًا مَسْنُونًا لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا لَهَا إذَا وَقَعَ مِنْهُ نَاسِيًا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ" وَمَا أُبِيحَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْكَلَامِ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهِ فَلَا تُفْسَدُ بِهِ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْخَبَرُ، وَإِنَّمَا أَفْسَدْنَا بِهِ الصَّلَاةَ إذَا تَعَمَّدَ لَا مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ الْمَحْظُورِ فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَسْنُونٌ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا عَمَدَ لَهُ فَقَدْ قَصَدَ الْوَجْهَ الْمَسْنُونَ فَقَطَعَ صَلَاتَهُ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ تَرْكُ الْكَلَامِ فِيهَا وَمَتَى تَعَمَّدَ الْكَلَامَ لَمْ تَكُنْ صَلَاةً عِنْدَ الْجَمِيعِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَى إصْلَاحِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْكَلَامِ فِيهَا مُخْرِجًا لَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً شَرْعِيَّةَ;

كَالطَّهَارَةِ لَمَّا كَانَتْ مِنْ شَرْطِهَا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ فُرُوضِهَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ فِيهَا; لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ اسْمًا شَرْعِيًّا وَكَانَ صِحَّةُ هَذَا الِاسْمِ لَهَا مُتَعَلِّقَةً بِشَرَائِطَ مَتَى عُدِمَتْ زَالَ الِاسْمُ، وَكَانَ مِنْ شُرُوطِهَا تَرْكُ الْكَلَامِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ فِيهَا يَسْلُبُهَا اسْمَ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِلصَّلَاةِ فَلَمْ نُجِزْهُ. فَإِنْ أَلْزَمُونَا عَلَى ذَلِكَ الصِّيَامَ وَمَا شُرِطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ وَتَعَلُّقِ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ، فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْقِيَاسَ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَوْلَا الْأَثَرُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الْأَكْلِ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا" وَإِذَا سَلَّمُوا الْقِيَاسَ فَقَدْ اسْتَمَرَّتْ الْعِلَّةُ وَصَحَتْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} الْآيَةَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ اسْتِيفَاءِ فُرُوضِهَا وَالْقِيَامِ بِحُدُودِهَا لِاقْتِضَاءِ ذِكْرِ الْمُحَافَظَةِ لَهَا. وَأَكَّدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِإِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ فَائِدَةِ ذِكْرِ التَّأْكِيدِ لَهَا، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَاشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ السُّكُوتِ وَالْخُشُوعِ فِيهَا وَتَرْكِ الْمَشْيِ وَالْعَمَلِ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي حَالِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حَالَ الْخَوْفِ وَأَمَرَ بِفِعْلِهَا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} قَوْلُهُ: {فَرِجَالاً} جَمْعُ رَاجِلٍ; لِأَنَّك تَقُولُ: رَاجِلٌ وَرِجَالٌ، كَتَاجِرٍ وَتِجَارٍ; وَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ. وَأَمَرَ بِفِعْلِهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ رَاجِلًا وَلَمْ يَعْذُرْ فِي تَرْكِهَا، كَمَا أَمَرَ الْمَرِيضَ بِفِعْلِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَعَلَى جُنُبٍ، وَأَمَرَهُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ رَاكِبًا فِي حَالِ الْخَوْفِ إبَاحَةً لِفِعْلِهَا بِالْإِيمَاءِ; لِأَنَّ الرَّاكِبَ إنَّمَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ لَا يَفْعَلُ فِيهَا قِيَامًا وَلَا رُكُوعًا وَلَا سُجُودًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: "فَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا" قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ الْخَوْفُ دُونَ الْقِتَالِ، فَإِذَا خَافَ وَقَدْ حَضَرَهُ الْعَدُوُّ جَازَ لَهُ فِعْلُهَا كَذَلِكَ، وَلَمَّا أَبَاحَ لَهُ فِعْلَهَا رَاكِبًا لِأَجْلِ الْخَوْفِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ مِنْ الرُّكْبَانِ وَبَيْنَ مَنْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَهَا تَضَمَّنَتْ الدَّلَالَةَ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْبَالِهَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِفِعْلِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ أَمْكَنَهُ اسْتِقْبَالُهَا وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِقْبَالُهَا فَجَائِزٌ لَهُ فِعْلُهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا. وَيَدُلُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَبَاحَ تَرْكَهَا حِينَ أَمَرَهُ بِفِعْلِهَا رَاكِبًا، فَتَرْكُ الْقِبْلَةِ أَحْرَى بِالْجَوَازِ; إذْ كَانَ فِعْلُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ آكَدُ مِنْ الْقِبْلَةِ; فَإِذَا جَازَ تَرْكُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَتَرْكُ الْقِبْلَةِ أَحْرَى بِالْجَوَازِ.

فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَأَمَرَ بِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُمْكِنُ فِعْلُهَا: قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى كَانَ هَوِيٌّ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَضَاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ بَعْدَ تَقْدِيمِ تَأْكِيدِ فُرُوضِهَا; لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ثُمَّ زَادَهَا تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأَمَرَ فِيهَا بِالدَّوَامِ عَلَى الْخُشُوعِ وَالسُّكُونِ وَالْقِيَامِ، وَحَظَرَ فِيهَا التَّنَقُّلَ مِنْ حَالٍ إلَّا إلَى حَالٍ هِيَ الصَّلَاةُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ; وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ فِعْلُهَا عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَبَيَّنَ حُكْمَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي حَالِ الْخَوْفِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} فَأَمَرَ بِفِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ فِي تَرْكِهَا. وَلَمْ يَذْكُرْ حَالَ الْقِتَالِ; إذْ لَيْسَ جَمِيعُ أَحْوَالِ الْخَوْفِ هِيَ أَحْوَالُ الْقِتَالِ; لِأَنَّ حُضُورَ الْعَدُوِّ يُوجِبُ الْخَوْفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِتَالٌ قَائِمٌ، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِفِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَالَ الْقِتَالِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ; لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِالْقِتَالِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْقِتَالِ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى" وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُنَا إنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْقِتَالِ يُفْسِدُهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ جَمِيعًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا كَانَ لِلْقِتَالِ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّتَهَا وَيُنَافِيهَا. وَيَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْخَائِفَ تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ مَاشٍ وَإِنْ كَانَ طَالِبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} . وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمَشْيِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالطَّالِبُ غَيْرُ خَائِفٍ; لِأَنَّهُ إنْ انْصَرَفَ لَمْ يَخَفْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ ذَلِكَ لِلْخَائِفِ، وَإِذَا كَانَ مَطْلُوبًا فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا إذَا خَافَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْخَوْفِ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُمْكِنِ مِنْ رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حَالَ الْأَمْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [النساء: 103] وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وقَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ

مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمُخَاطَبَةُ مِنْ عِنْدِ قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} الأمر بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَاسْتِيفَاءَ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا وَحِفْظَ حُدُودِهَا; وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} تَضَمَّنَ إيجَابَ الْقِيَامِ فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ الْقُنُوتُ اسْمًا يَقَعُ عَلَى الطَّاعَةِ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ طَاعَةً وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلهَا غَيْرُهَا; لِأَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ فَأَفَادَ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِيهَا وَعَنْ الْمَشْيِ وَعَنْ الِاضْطِجَاعِ وَعَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكُلِّ فِعْلٍ لَيْسَ بِطَاعَةٍ، لِمَا تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنْ الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْقُنُوتِ الَّذِي هُوَ الدَّوَامُ عَلَيْهَا; وَاقْتَضَى أَيْضًا الدَّوَامَ عَلَى الْخُشُوعِ وَالسُّكُونِ; لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْطَوِي عَلَيْهِ وَيَقْتَضِيهِ، فَانْتَظَمَ هَذَا اللَّفْظُ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ جَمِيعَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَذْكَارِهَا وَمَفْرُوضِهَا وَمَسْنُونِهَا، وَاقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ لَيْسَ بِطَاعَةٍ فِيهَا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ والمعين.

بَابُ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ فَمَاتُوا فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ اللَّهُ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ الطَّاعُونِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "فَرُّوا مِنْ الْقِتَالِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ فِرَارَهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . وَإِذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُوَقَّتَةً مَحْصُورَةً لَا يَقَعُ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ عَمَّا قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَالْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ; وَكَذَلِكَ الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ وَالْإِيمَانُ بِالنُّجُومِ، كُلُّ ذَلِكَ فِرَارٌ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي لَا مَحِيصَ لِأَحَدٍ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ". وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِير عَنْ سَعِيد بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَإِنْ تَكُنْ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ فَهِيَ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ

بِأَرْضٍ لَسْتُمْ بِهَا فَلَا تَهْبِطُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا عَنْهُ". وَرُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فِي الطَّاعُونِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إلَى الشَّامِ، حَتَّى إذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ التُّجَّارُ فَقَالُوا: الْأَرْضُ سَقِيمَةٌ; فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرَ: لَوْ غَيْرُك يَقُولُهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدِيبَةٌ أَلَسْت إنْ رَعَيْت الْخَصِيبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْت الْجَدِيبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ وَانْصَرَفَ فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ النَّهْيُ عَنْ الْخُرُوجِ عَنْ الطَّاعُونِ فِرَارًا مِنْهُ وَالنَّهْيُ عَنْ الْهُبُوطِ عَلَيْهِ أَيْضًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُقَدَّرَةً مَحْصُورَةً لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِهَا، فَمَا وَجْهُ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُخُولِ أَرْضٍ بِهَا الطَّاعُونُ وَهُوَ قَدْ مَنَعَ الْخُرُوجَ مِنْهَا بَدِيًّا لِأَجْلِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِهَا وَبَيْنَ الْبَقَاءِ فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا وَجْهُ النَّهْيِ أَنَّهُ إذَا دَخَلَهَا وَبِهَا الطَّاعُونُ فَجَائِزٌ أَنْ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ وَأَجَلُهُ بِهَا، فَيَقُولُ قَائِلٌ: لَوْ لَمْ يَدْخُلْهَا مَا مَاتَ; فَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ دُخُولِهَا لِئَلَّا يُقَالَ هَذَا; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَعَسَى يَمُوتُ فِيهَا بِأَجَلِهِ فَيَقُولُ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ: لَوْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَمُتْ. وَقَدْ أَصَابَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حِينَ قَالَ: يَقُولُونَ لِي لَوْ كَانَ بِالرَّمْلِ لَمْ تَمُتْ ... بُثَيْنَةُ وَالْأَنْبَاءُ يُكَذَّبُ قِيلُهَا وَلَوْ أَنَّنِي اسْتَوْدَعْتهَا الشَّمْسَ لَاهْتَدَتْ ... إلَيْهَا الْمَنَايَا عَيْنُهَا وَدَلِيلُهَا وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ" مَعَ قَوْلِهِ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ" لِئَلَّا يُقَالَ إذَا أَصَابَ الصَّحِيحَ عَاهَةٌ بَعْد إيرَادِ ذِي عَاهَةٍ عَلَيْهِ: إنَّمَا أَعْدَاهُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النُّقْبَةَ تَكُونُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَتَجْرَبُ لَهَا الْإِبِلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ ". وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ اسْتَفْتَحَ مِصْرًا فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هُنَا طَاعُونًا; فَدَخَلَهَا وَقَالَ: مَا جِئْنَا إلَّا لِلطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا جَهَّزَ الْجُيُوشَ إلَى الشَّامِّ شَيَّعَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَفْنِهِمْ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ". فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلُونَ: لَمَّا

رَآهُمْ عَلَى حَالِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْبَصَائِرِ الصَّحِيحَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ خَشِيَ عَلَيْهِمْ الْفِتْنَةَ، وَكَانَتْ بِلَادُ الشَّامِ بِلَادَ الطَّاعُونِ مَشْهُورٌ ذَلِكَ بِهَا، أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَرَجُوا عَلَيْهَا قَبْل أَنْ يَفْتَتِنُوا بِالدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ" يَعْنِي عِظَمَ الصَّحَابَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهِ سَيَفْتَحُ الْبِلَادَ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَرَجَا أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُحِبَّ أَبُو عُبَيْدَةَ الْخُرُوجَ مِنْ الشَّامِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: لَمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ وَهُوَ بِهَا قَالَ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا حَظًّا مِنْهُ وَلَمَّا طُعِنَ فِي كَفِّهِ أَخَذَ يُقَبِّلُهَا وَيَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي بِهَا كَذَا وَكَذَا وَقَالَ: لَئِنْ كُنْت صَغِيرًا فَرُبَّ صَغِيرٍ يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، يَتَمَنَّى الطَّاعُونَ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أُمَّتَهُ الَّذِينَ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِمْ الْبِلَادَ وَيُظْهِرُ بِهِمْ الْإِسْلَامَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخِ; لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَاتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، فَكَذَلِكَ يُحْيِيهِمْ فِي الْقَبْرِ وَيُعَذِّبُهُمْ إذَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هُوَ أَمْرٌ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهُوَ يُحْمَلُ; إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ السَّبِيلِ الْمَأْمُورِ بِالْقِتَالِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} إنَّمَا هُوَ اسْتِدْعَاءٌ إلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ بِأَلْطَفِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ; وَسَمَاهُ قَرْضًا تَأْكِيدًا لِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِ; إذْ لَا يَكُونُ قَرْضًا إلَّا وَالْعِوَضُ مُسْتَحَقٌّ بِهِ. وَجَهِلَتْ الْيَهُودُ ذَلِكَ أَوْ تَجَاهَلَتْ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَسْتَقْرِضُ مِنَّا، فَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ مَعْنَاهُ وَوَثِقُوا بِثَوَابِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَبَادَرُوا إلَى الصَّدَقَاتِ; فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِنَّا مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا؟ وَإِنَّ لِي أَرْضَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْعَالِيَةِ وَالْأُخْرَى بِالسَّافِلَةِ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْت خَيْرَهُمَا صَدَقَةً. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ وِرَاثَةً لِإِنْكَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ وَلَا الْمُلْكِ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ لَا بِالنَّسَبِ. وَدَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّسَبِ مَعَ الْعِلْمِ وَفَضَائِلِ النَّفْسِ وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ; لِأَنَّ

اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ اخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ لِعِلْمِهِ وَقُوَّتِهِ وَإِنْ كَانُوا أَشْرَفَ مِنْهُ نَسَبًا. وَذِكْرُهُ لِلْجِسْمِ هَهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ فَضْلِ قُوَّتِهِ; لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ جِسْمًا فَهُوَ أَكْثَرُ قُوَّةً; وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ عِظَمَ الْجِسْمِ بِلَا قُوَّةٍ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْقِتَالِ، بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَا قُوَّةٍ فَاضِلَةٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ النَّهْرِ إنَّمَا هُوَ الْكَرْعُ فِيهِ وَوَضْعُ الشَّفَةِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حُظِرَ الشُّرْبُ وَحُظِرَ الطَّعْمُ مِنْهُ إلَّا لِمَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة فِيمَنْ قَالَ: "إنْ شَرِبْت مِنْ الْفُرَاتِ فَعَبْدِي حَرٌّ" أَنَّهُ عَلَى أَنْ يَكْرَعَ فِيهِ، وَإِنْ اغْتَرَفَ مِنْهُ أَوْ شَرِبَ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ حَظَرَ عَلَيْهِمْ الشُّرْبَ مِنْ النَّهْرِ وَحَظَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْعَمَ مِنْهُ وَاسْتَثْنَى مِنْ الطَّعْمِ الِاغْتِرَافَ، فَحَظْرُ الشُّرْبِ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ لَيْسَ بِشُرْبٍ مِنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] . وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ; لِأَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ. وَقِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، كَانُوا يَهُودًا فَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ إكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ فِيهِ: أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ حَرْبٍ إنَّهُ أَسْلَمَ مُكْرَهًا; لِأَنَّهُ إذَا رَضِيَ وَصَحَّ إسْلَامُهُ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أَمْرٌ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ فِي سَائِرِ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96] وقَوْله تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] فَكَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا عَانَدُوهُ بَعْدَ الْبَيَانِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِقِتَالِهِمْ، فَنَسَخَ ذَلِكَ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِقِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا أَذْعَنُوا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَدَخَلُوا فِي حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَفِي ذِمَّتِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ

أَوْ السَّيْفَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ; لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُشْرِكٍ إلَّا وَهُوَ لَوْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ; وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي سَائِرِ مَنْ انْتَحَلَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ حِينَ قَالَ: "مَنْ تَهَوَّدَ مِنْ الْمَجُوسِ أَوْ النَّصَارَى أَجْبَرْته عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ" وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ; لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِأَنْ لَا نُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ عُمُومٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ قَدْ كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى الدِّينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، فَمَا وَجْهُ إكْرَاهِهِمْ عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أُكْرِهُوا عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى اعْتِقَادِهِ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَصِحُّ مِنَّا الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا كَانَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقِتَالِ دُونَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَكَانَتْ الدَّلَائِلُ مَنْصُوبَةً لِلِاعْتِقَادِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مَعًا; لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلِ مِنْ حَيْثُ أَلْزَمْتهمْ اعْتِقَادَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ اقْتَضَتْ مِنْهُ إظْهَارَهُ وَالْقِتَالُ لِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ، مِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَسَمَاعَهُ الْقُرْآنَ وَمُشَاهَدَتَهُ لِدَلَائِلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَرَادُفِهَا عَلَيْهِ تَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَتُوَضِّحُ عِنْدَهُ فَسَادَ اعْتِقَادِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي نَسْلِهِمْ مِنْ يُوقِنُ وَيَعْتَقِدُ التَّوْحِيدَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلُوا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي أَوْلَادِهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكَرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ: إنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُتْرَكُ وَالرُّجُوعَ إلَى دِينِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إنْ رَجَعَ إلَى دِينِهِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِيهِ مُكْرَهًا دَالًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَهُ; لِمَا وَصَفْنَا مِنْ إسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ من المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا" فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظْهَارَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْقِتَالِ إسْلَامًا فِي الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا لِلشُّبْهَةِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ أَسِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ فَأَسْلَمَ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا، وَلَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ مُزِيلًا عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يُحْظِرُ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْظُورًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْلِمًا فِي الْحُكْمِ وَأَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ; وَلَا يَكُونُ حُكْمُ الذِّمِّيِّ فِي هَذَا حُكْمَ الْحَرْبِيِّ; لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ يَجُوزُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِإِبَائِهِ الدُّخُولَ فِي الذِّمَّةِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. قِيلَ لَهُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ لِمَنْ يَجُوزُ إجْبَارُهُ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَسَائِرَ مَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ جَدِّهِ وَهَزْلِهِ. ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ بَعْد ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مُبَاحًا كَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ أَكْرَهْ رَجُلًا عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، ثَبَتَ حُكْمُهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ ظَالِمًا فِي إكْرَاهِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَكَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقِ عِنْدَنَا، كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْرِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ إيتَاءَ اللَّهِ الْمُلْكَ لِلْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَاتِّسَاعِ الْحَالِ، وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء: 18] فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْمُلْكِ جَائِزٌ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ، وَأَمَّا الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَدْبِيرُ أُمُورِ النَّاسِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ; لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَزَوَاجِرَهُ إنَّمَا هِيَ اسْتِصْلَاحٌ لِلْخَلْقِ فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِصْلَاحُهُمْ بِمَنْ هُوَ عَلَى الْفَسَادِ مُجَانِبٌ لِلصَّلَاحِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمِنَ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَلَى أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأُمُورِ دِينِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] . وَكَانَتْ مُحَاجَّةُ الْمَلِكِ الْكَافِرِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ النُّمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ، أَنَّهُ دَعَاهُ إلَى اتِّبَاعِهِ وَحَاجَّهُ بِأَنَّهُ مَلِكٌ يَقْدِرُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. فَعَدَلَ عَنْ مَوْضِعِ احْتِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى مُعَارَضَتِهِ بِالْإِشْرَاكِ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ حَقِيقَةِ الْمَعْنَى; لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاجَّهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِرَاعِ، فَجَاءَ الْكَافِرُ بِرَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَقَالَ قَدْ أَمَتُّهُ وَخَلَّى الْآخَرَ وَقَالَ قَدْ أَحْيَيْته; عَلَى سَبِيلِ مَجَازِ الْكَلَامِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ; لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اخْتِرَاعِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. فَلَمَّا قَرَّرَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَعَجَزَ الْكَافِرُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَوْرَدَ زَادَهُ حِجَاجًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ مُعَارَضَتُهُ وَلَا إيرَادُ شُبْهَةٍ يُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَقَدْ كَانَ الْكَافِرُ عَالِمًا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ، لَكِنَّهُ أَرَادَ التَّمْوِيهَ عَلَى أَغْمَارِ أَصْحَابِهِ

كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتْ السَّحَرَةُ عِنْدَ إلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَصَا وَتَلَقُّفِهَا جَمِيعَ مَا أَلْقَوْا مِنْ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ التَّمْوِيهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} ; يَعْنِي تَوَاطَأْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ مُوسَى قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى إذَا اجْتَمَعْتُمْ أَظْهَرْتُمْ الْعَجْزَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا مَوَّهَ بِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَدَعْهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا رَامَ حَتَّى أَتَاهُ بِمَا لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ بِحَالٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ، فَقَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فَانْقَطَعَ وَبُهِتَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَلْجَأَ إلَى مُعَارَضَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ. وَفِي حِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا أَلْطَفُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ بُرْهَانٍ لِمَنْ عَرَفَ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا صَابِئِينَ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا فِي حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ الشَّمْسُ وَيُسَمُّونَهَا وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَالشَّمْسُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إلَهٌ، وَكَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْبَارِي جَلَّ وَعَزَّ وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ وَسَائِرُ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَ الْكَوَاكِبِ أَنَّ لَهَا وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ حَرَكَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ وَهِيَ حَرَكَتُهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا لِنَفْسِهَا، وَالْأُخْرَى تَحْرِيكُ الْفُلْكِ لَهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةُ تَدُورُ عَلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً، وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَهَا; فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّك تَعْتَرِفُ أَنَّ الشَّمْسَ الَّتِي تَعْبُدُهَا وَتُسَمِّيهَا إلَهًا لَهَا حَرَكَةُ قَسْرٍ لَيْسَ هِيَ حَرَكَةَ نَفْسِهَا بَلْ هِيَ بِتَحْرِيكِ غَيْرِهَا لَهَا يُحَرِّكُهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، وَاَلَّذِي أَدْعُوك إلَى عِبَادَتِهِ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فِي الشَّمْسِ، وَلَوْ كَانَتْ إلَهًا لَمَا كَانَتْ مَقْسُورَةً وَلَا مُجْبَرَةً. فَلَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ دَفْعَ هَذِهِ الْحِجَاجِ بِشُبْهَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ إلَّا قَوْلَهُ: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} وَهَاتَانِ الْحَرَكَتَانِ الْمُتَضَادَّتَانِ لِلشَّمْسِ وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ لَا تُوجَدَانِ لَهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ ذَلِكَ فِي جِسْمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَخَلَّلَ إحْدَاهَا سُكُونٌ فَتُوجَدَ الْحَرَكَةُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ لَا تُوجَدُ فِيهِ الْأُولَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَاغَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِانْتِقَالُ عَنْ الْحِجَاجِ الْأُوَلِ إلَى غَيْرِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بَلْ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرْدَفَهُ بِحِجَاجٍ آخَرَ كَمَا أَقَامَ اللَّهُ الدَّلَائِلَ عَلَى تَوْحِيدِهِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَكُلُّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَائِلُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَ نَبِيَّهُ بِضُرُوبٍ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَوْ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ كَافِيَةً مُغْنِيَةً.

وَقَدْ حَاجَّهُمْ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِجَاجِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ أَرَادَ تَقْرِيرَ قَوْمِهِ عَلَى صِحَّةِ اسْتِدْلَالِهِ وَبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} . وَكَانَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا فِي هَيَاكِلِهِمْ وَعِنْدَ أَصْنَامِهِمْ عِيدًا لَهُمْ، فَقَرَّرَهُمْ لَيْلًا عَلَى أَمْرِ الْكَوْكَبِ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَأُفُولِهِ وَحَرَكَتِهِ وَانْتِقَالِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ إلَهًا لِمَا ظَهَرَتْ فِيهِ مِنْ آيَاتِ الْحَدَثِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْقَمَرِ، ثُمَّ لَمَّا أَصْبَحَ قَرَّرَهُمْ عَلَى مِثْلِهِ فِي الشَّمْسِ حَتَّى قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ كَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ; وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمُحَاجَّةِ فِي الدِّينِ وَاسْتِعْمَالِ حُجَجِ الْعُقُولِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِل اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحْجُوجَ الْمُنْقَطِعَ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ الْحُجَّةِ وَتَرْكُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ. وَتَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْحِجَاجَ فِي إثْبَاتِ الدِّينِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَاجُّهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَحْجُوجِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أُلْزِمَ مِنْ الْحِجَاجِ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَخْرَجًا صَارَ إلَى مَا يَلْزَمُهُ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ سَبِيلُهُ أَنْ يُقْبَلَ بِحُجَّتِهِ; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إلَّا بِظُهُورِ حُجَّةِ الْحَقِّ وَدَحْضِ حُجَّةِ الْبَاطِلِ وَإِلَّا فَلَوْلَا الْحُجَّةُ الَّتِي بَانَ بِهَا الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ لَكَانَتْ الدَّعْوَى مَوْجُودَةً فِي الْجَمِيعِ فَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ وَأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ مَا نَصَبَ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَوْحِيدِهِ; لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إنَّمَا حَاجُّوا الْكُفَّارَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِصِفَةٍ تُوجِبُ التَّشْبِيهَ وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِأَفْعَالِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَيْهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا وَقَدْ أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: "عِنْدِي أَنِّي لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ". وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وَقَدْ كَانُوا لَبِثُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِيمَا أَخْبَرُوا عَمَّا عِنْدَهُمْ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: "عِنْدَنَا فِي ظُنُونِنَا أَنَّنَا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ". وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ فِي إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيَتْ؟ فَقَالَ: "لَمْ تُقْصَرْ وَلَمْ أَنْسَ" وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ فِي ظَنِّهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهَا. فَهَذَا كَلَامٌ سَائِغٌ جَائِزٌ غَيْرُ مَلُومٍ عَلَيْهِ قَائِلُهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَظَنِّهِ لَا عَنْ حَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ; وَلِذَلِكَ عَفَا اللَّهُ عَنْ الْحَالِفِ بِلَغْوِ الْيَمِينِ، وَهُوَ فِيمَا رُوِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِمَنْ سَأَلَ: هَلْ كَانَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ

عَلَى مَا عِنْدَهُ: لَا وَاَللَّهِ أَوْ يَقُولُ: بَلَى وَاَللَّهِ وَإِنْ اتَّفَقَ مُخْبِرُهُ عَلَى خِلَافِهِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ عَقِيدَتِهِ وَضَمِيرِهِ; وَاَللَّهُ الموفق.

بَابُ الِامْتِنَانِ بِالصَّدَقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الصَّدَقَاتِ إذَا لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً لِلَّهِ عَارِيَّةً مِنْ مَنٍّ وَأَذًى فَلَيْسَتْ بِصَدَقَةٍ; لِأَنَّ إبْطَالَهَا هُوَ إحْبَاطُ ثَوَابِهَا فَيَكُونُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ; وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَكُونُ سَبِيلُهُ وُقُوعَهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَشُوبَهُ رِيَاءٌ وَلَا وَجْهَ غَيْرُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] فَمَا لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْبِ فَغَيْرِ مُثَابٍ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الَّتِي شَرَطَهَا أَنْ تُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ; لِأَنَّ أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَيْهَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةَ لِدَلَائِلِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا". وَرَوَى عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} قَالَ: هُوَ الْمُتَصَدِّقُ يَمُنُّ بِهَا، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لِيَحْمَدْ اللَّهَ إذْ هَدَاهُ لِلصَّدَقَةِ. وَعَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قَالَ: "يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ" وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "تَصْدِيقًا وَيَقِينًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "ثِقَةً مِنْ أَنْفُسِهِمْ". وَالْمَنُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُتَصَدِّقُ: قَدْ أَحْسَنْت إلَى فُلَانٍ وَنَعَشْتُهُ وَأَغْنَيْتُهُ; فَذَلِكَ يُنَغِّصُهَا عَلَى الْمُتَصَدَّقِ بِهَا عَلَيْهِ. وَالْأَذَى قَوْلُهُ: أَنْتَ أَبَدًا فَقِيرٌ وَقَدْ بُلِيت بِك وَأَرَاحَنِي اللَّهُ مِنْك; وَنَظِيرُهُ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ تَعْيِيرٌ لَهُ بِالْفَقْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: رَدًّا جَمِيلًا وَمَغْفِرَةً قِيلَ فِيهَا سَتْرُ الْخُلَّةِ عَلَى السَّائِلِ، وَقِيلَ الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى; لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَأْثَمَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَرَدِّ السَّائِلِ بِقَوْلٍ جَمِيلٍ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ; فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَرْكَ الصَّدَقَةِ بِرَدٍّ جَمِيلٍ

خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَامْتِنَانٌ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء: 28] وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.

بَابُ الْمُكَاسَبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . فِيهِ إبَاحَةُ الْمَكَاسِبِ وَإِخْبَارٌ أَنَّ فِيهَا طَيِّبًا. وَالْمَكَاسِبُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إبْدَالُ الْأَمْوَالِ وَإِرْبَاحُهَا، وَالثَّانِي إبْدَالُ الْمَنَافِعِ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إبَاحَتِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، نَحْوُ قَوْله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مَنْ يَتَّجِرُ وَيُكْرِي وَيَحُجُّ مَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي إبْدَالِ الْمَنَافِعِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَالَ شُعَيْبٌ عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ". وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أَنَّهُ مِنْ التِّجَارَاتِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ; لأن قوله تعالى: {مَا كَسَبْتُمْ} يَنْتَظِمُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَهُوَ عُمُومٌ فِي أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ; وَلَمَّا وَرَدَ الْبَيَانُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَقَادِيرِ الْوَاجِبَاتِ فِيهَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَالٍ اخْتَلَفْنَا فِي إيجَابِ الْحَقِّ فِيهِ، نَحْوُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ. وَيُحْتَجُّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ يَنْفِي إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ، وَيُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا فِي إيجَابِ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَفِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ; لِأَنَّ قوله تعالى: {أَنْفِقُوا} الْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} يَعْنِي: تَتَصَدَّقُونَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّدَقَةُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ; لِأَنَّ الْفَرْضَ إذَا أُخْرِجَ عَنْهُ الرَّدِيءَ كَانَ الْفَضْلُ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُؤَدَّى. وَهَذَا عِنْدَنَا يُوجِبُ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّفْلِ مِنْ وُجُوهٍ:

أحدها أن قوله: {أَنْفِقُوا} أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ، وَقَوْلَهُ: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ; إذْ لَا يَخْتَصُّ النَّهْيُ عَنْ إخْرَاجِ الرَّدِيءِ بِالنَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ، وَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ فَضْلِ مَا بَيْنَ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ; لِأَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَعْتَرِضُ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي إيجَابِ الصَّدَقَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ دَلَّتْ الدَّلَالَةُ مِنْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ غَيْرِ الرَّدِيءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ، لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ صَرْفَ حُكْمِ الْآيَةِ عَنْ الْإِيجَابِ إلَى النَّدْبِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخِطَابَ بِالْإِيجَابِ ثُمَّ يَعْطِفَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ فِي بَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ عُمُومُهُ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِ ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الْخُصُوصِ وَصَرْفَهُ عَنْ الْعُمُومِ; وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} عُمُومٌ فِي إيجَابِهِ الْحَقَّ فِي قَلِيلِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ فِي سَائِرِ الْأَصْنَافِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا. وَيُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي إيجَابِهِ الْعُشْرَ فِي قَلِيلِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ فِي سَائِرِ الْأَصْنَافِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا مِمَّا تُقْصَدُ الْأَرْضُ بِزِرَاعَتِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الدُّيُونِ إذَا اقْتَضَاهَا صَاحِبُهَا لَا يَتَسَامَحُ بِالرَّدِيءِ عَنْ الْجَيِّدِ إلَّا عَلَى إغْمَاضٍ وَتَسَاهُلٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ; إذْ رَدُّهَا إلَى الْإِغْمَاضِ فِي اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إغْمَاضٌ; إذْ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَهُ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَوْعَيْنِ مِنْ التَّمْرِ: الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ. قَالَ: وَكَانَ نَاسٌ يُخْرِجُونَ شَرَّ ثِمَارِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ فَنَزَلَتْ: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} : لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى لَمَا أَخَذَهُ إلَّا عَلَى إغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ. وَقَالَ: لَيْسَ فِي أَمْوَالِهِمْ خَبِيثٌ وَلَكِنَّهُ الدِّرْهَمُ الْقِسِيُّ وَالزَّيْفُ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ قَالَ: لَوْ كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ لَمْ تَأْخُذْ الدِّرْهَمَ الْقِسِيَّ وَالزَّيْفَ وَلَمْ تَأْخُذْ مِنْ الثَّمَرِ إلَّا الْجَيِّدَ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، تَجَوَّزُوا فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا، وَهُوَ مَا كَتَبَهُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ وَقَالَ فِيهِ: "وَلَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ ولا ذات عوار"1 رواه

_ 1 عوار بفتح العين وضمها: العيب لمصححه.

الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} إلَّا أَنْ تَحُطُّوا مِنْ الثَّمَنِ. وَعَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: "إلَّا أَنْ تَتَسَاهَلُوا فِيهِ". وَقِيلَ: "لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا بِوَكْسٍ فَكَيْفَ تُعْطُونَهُ فِي الصَّدَقَةِ". هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ فِي الْهَدِيَّةِ إلَّا بِإِغْمَاضٍ وَلَا يَقْبِضُونَهُ مِنْ الْجَيِّدِ إلَّا بِتَسَاهُلٍ وَمُسَامَحَةٍ وَلَا يَبِيعُونَ بِمِثْلِهِ إلَّا بِحَطٍّ وَوَكْسٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَدَّى مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دُونَ الْوَاجِبِ فِي الصِّفَةِ، فَأَدَّى عَنْ الْجَيِّدِ رَدِيًّا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْفَضْلِ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ الَّذِي بَيْنَهُمَا". وَقَالُوا جَمِيعًا فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ: "إنَّ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْفَضْلِ". فَيَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ لِمُحَمَّدٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّدِيءُ مِنْهُ; وقَوْله تَعَالَى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ لَا يُغْمِضَ فِيهِ وَلَا يَتَسَاهَلَ وَيُطَالِبَ بِحَقِّهِ مِنْ الْجَوْدَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَدَاءَ الْفَضْلِ حَتَّى لَا يَقَعُ فِيهِ إغْمَاضٌ; لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ نَفَى الْإِغْمَاضَ فِي الصَّدَقَةِ بِنَهْيِهِ عَنْ إعْطَاءِ الرَّدِيءِ فِيهَا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف فَإِنَّهُمَا قَالَا: "كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ فَإِنَّ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ حُكْمُهُمَا سَوَاءٌ فِي حَظْرِ التَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى دَيْنًا عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ فَأَنْفَقَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ رَدِيئًا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ وَأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَضْلِ لَا يَغْرَمُهُ؟ " وَإِنَّمَا يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ "إنَّهُ يَغْرَمُ مِثْلَ مَا قَبَضَ مِنْ الْغَرِيمِ وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ" وَغَيْرُ مُمْكِنٍ مِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا، فَلَوْ غَرِمَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُتَصَدِّقِ بِرَدِّ الْجَيِّدِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ إعْطَاءُ الْفَضْلِ. وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَصَدِّقَ عَنْ قَصْدِ الرَّدِيءِ بِالْإِخْرَاجِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْجَيِّدِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ حُكْمُ مَا أَعْطَى حُكْمَ الْجَيِّدِ فِيمَا وَصَفْنَا أَجْزَأَ عَنْهُ; وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِخْرَاجِ الْفَضْلِ فِيهِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ وَيُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْ إخْرَاجَ الرَّدِيءِ مِنْ الْجَيِّدِ إلَّا بِمِقْدَارِ قِيمَتِهِ مِنْهُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجَ الْفَضْلِ; إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ رِبًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اقْتِضَاءِ الرَّدِيءِ عَنْ الْجَيِّدِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَ الْإِغْمَاضَ فِي الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا جَوَازُ اقْتِضَاءِ الزُّيُوفِ الَّتِي أَقَلُّهَا غِشٌّ وَأَكْثَرُهَا فِضَّةٌ عَنْ الْجِيَادِ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَثَمَنِ الصَّرْفِ اللَّذَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُمَا غَيْرَهُمَا، وَدَلَّ

عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّدِيءِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْجَيِّدِ. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفِضَّةِ الْجَيِّدَةِ بِالرَّدِيئَةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ; لِأَنَّ مَا جَازَ اقْتِضَاءُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ جَازَ بَيْعُهُ بِهِ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ" إنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْوَزْنِ لَا فِي الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرَهُ مَعَهُ; وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اقْتِضَاءِ الْجَيِّدِ عَنْ الرَّدِيءِ بِرِضَا الْغَرِيمِ كَمَا جَازَ اقْتِضَاءُ الرَّدِيءِ عَنْ الْجَيِّدِ; إذْ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ حُكْمٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً" قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "قَضَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَنِي". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالُوا: "لَا بَأْسَ إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ سُودًا أَنْ يَقْبِضَهُ بِيضًا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ". وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ "أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ إذَا أَقْرَضَ دَرَاهِمَ أَنْ يَأْخُذَ خَيْرًا مِنْهَا". وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَهُ إذَا رَضِيَ الْمُسْتَقْرِضُ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ خَيْرًا مِنْهَا إذَا لَمْ يَرْضَ صَاحِبُهُ. قَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} قَدْ قِيلَ إنَّ الْفَحْشَاءَ تَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: وَالْمُرَادُ بِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْبُخْلُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبَخِيلَ فَاحِشًا وَالْبُخْلَ فُحْشًا وَفَحْشَاءَ; قَالَ الشَّاعِرُ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ يَعْنِي مَالَ الْبَخِيلِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَمُّ الْبَخِيلِ وَالْبُخْلِ. قَوْلُهُ عَزَّ وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ فَإِظْهَارُهَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تَلْحَقَهُ تُهْمَةٌ". وَعَنْ الْحَسَنِ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَقَتَادَةَ: "الْإِخْفَاءُ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ أَفْضَلُ". وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إظْهَارِ الصَّدَقَةِ كَمَا مَدَحَ عَلَى إخْفَائِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَوْكُولِ أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِهَا مِنْ نَفْلٍ أَوْ فَرْضٍ دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا أَخْذُهُ إلَى الْإِمَامِ. إلَّا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَمِيعَهَا; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ هُنَا لِلْجِنْسِ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفَةٌ إلَى الْفُقَرَاءِ، وَأَنَّهَا إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْفَقْرِ لَا غَيْرِهِ، وَأَنَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَصْنَافِ مَنْ تُصْرَفُ إلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] إنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا صَدَقَةً بِالْفَقْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَصْنَافَ لِمَا يَعُمُّهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْفَقْرِ دُونَ مَنْ لَا يَأْخُذُهَا صَدَقَةً مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً

وَإِنَّمَا تَحْصُلُ فِي يَدِ الْإِمَامِ صَدَقَةً لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ يُصْرَفُ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْعَامِلِينَ مَا يُعْطَوْنَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَدَقَةٍ لَكِنْ عِوَضًا مِنْ الْعَمَلِ وَلِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِيُسْتَمَالُوا بِهِ إلَى الْإِيمَانِ. وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُمْ إذَا أَعْطَوْا الْفُقَرَاءَ مِنْ صَدَقَةِ الْمَوَاشِي سَقَطَ حَقُّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِهَا; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ هَهُنَا اسْمٌ لِلْجِنْسِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا عِنْدَنَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُعْطِي فَلَيْسَ فِيهِ سُقُوطُ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ; وَلَيْسَ كَوْنُهَا خَيْرًا نَافِيًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ; إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَهُمْ وَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ فَيَتَضَاعَفُ الْخَيْرُ بِأَخْذِهَا ثَانِيًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَنَّ إظْهَارَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ إخْفَائِهَا، كَمَا قَالُوا فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهَا فِي الْجَمَاعَاتِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَلِيُصَلُّوهَا ظَاهِرِينَ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرُوضِ لِئَلَّا يُقِيمَ نَفْسَهُ مَقَامَ تُهْمَةٍ فِي تَرْكِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ. قَالُوا: فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، لِأَنَّ سِتْرَ الطَّاعَاتِ النَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنْ إظْهَارِهَا; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ: أَحَدُهُمْ رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَمْ تَعْلَمْ شِمَالُهُ مَا تَصَدَّقَتْ بِهِ يَمِينُهُ" وَهَا إنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَامِلَ إذَا جَاءَ قَبْلَ أَنْ تُؤَدَّى صَدَقَةُ الْمَوَاشِي فَطَالَبَهُ بِأَدَائِهَا أَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ، فَصَارَ إظْهَارُ أَدَائِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَرْضًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ إعْطَاءِ الْمُشْرِكِ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْخِطَابِ وَمَا جَاءَ فِي نَسَقِهِ يَدُلُّ عَلَى أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إنَّمَا مَعْنَاهُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} فَدَلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ فِي ذَلِكَ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ مِنْ ذَكَرِ الصَّدَقَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ إبَاحَةُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ; رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي

الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ". وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: "كَرِهَ النَّاسُ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَدْرِي هَذَا مِنْ كَلَامِ مَنْ هُوَ، أَعْنِي قَوْلَهُ "فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ" وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَاتِ الْمَوَاشِي دُونَ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ "فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ" لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْآيَةِ; لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَتَصَدَّقُوا. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ نَاسٌ لَهُمْ أَنْسَابٌ وَقَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، فَكَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِمْ وَيَرُدُّونَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "هُمْ الْأُسَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ". وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ قَالَا هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ; لِأَنَّ الْأَسِيرَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ إلَّا مُشْرِكًا. وَنَظِيرُهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، فَأَبَاحَ بِرَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ لَنَا، وَالصَّدَقَاتُ مِنْ الْبِرِّ، فَاقْتَضَى جَوَازَ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَيْهِمْ. وَظَوَاهِرُ هَذِهِ الْآيِ تُوجِبُ جَوَازَ دَفْعِ سَائِرِهَا إلَيْهِمْ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَصَّ مِنْهَا الزَّكَوَاتِ وَصَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَكُلَّ مَا كَانَ أَخْذُهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ" وَقَالَ لِمُعَاذٍ "أَعْلِمْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" فَكَانَتْ الصَّدَقَاتُ الَّتِي أَخْذُهَا إلَى الْإِمَامِ مَخْصُوصَةً مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "كُلُّ صَدَقَةٍ لَيْسَ أَخْذُهَا إلَى الْإِمَامِ فَجَائِزٌ إعْطَاؤُهَا أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَمَا كَانَ أَخْذُهَا إلَى الْإِمَامِ لَا يُعْطَى أَهْلُ الذِّمَّةِ" فَيُجِيزُ إعْطَاءَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ أَهْلَ الذِّمَّة. فَإِنْ قِيلَ: فَزَكَاةُ الْمَالِ لَيْسَ أَخْذُهَا إلَى الْإِمَامِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى أَهْلَ الذِّمَّةِ؟ قِيلَ: أَخْذُهَا فِي الْأَصْلِ إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُهَا، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا

كَانَ عُثْمَانُ قَالَ لِلنَّاسِ: "إنَّ هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بِقِيمَةِ مَالِهِ" فَجَعَلَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وُكَلَاءَ لَهُ فِي أَدَائِهَا وَلَمْ يُسْقِطْ فِي ذَلِكَ حَقَّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلُّ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ دَفْعُهَا إلَى الكفار قياسا على الزكاة. قوله تعالى: {لْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: النَّفَقَةَ الْمَذْكُورَةَ بَدِيًّا، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: "الْمُرَادُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ". وقَوْله تَعَالَى: {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قِيلَ إنَّهُمْ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ التَّصَرُّفَ فِي التِّجَارَةِ خَوْفَ الْعَدُوِّ مِنْ الْكُفَّارِ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، لِأَنَّ الْإِحْصَارَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ التَّصَرُّفِ لِمَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ مَخَافَةٍ، فَإِذَا مَنَعَهُ الْعَدُوُّ قِيلَ أَحَصَرَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْجَاهِلُ بِحَالِهِمْ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ هَيْئَتِهِمْ وَبِزَّتِهِمْ يُشْبِهُ حَالَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ظَنَّهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ; لِأَنَّ مَا يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْفَقْرِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: بَذَاذَةُ الْهَيْئَةِ وَرَثَاثَةُ الْحَالِ، وَالْآخَرُ: الْمَسْأَلَةُ; عَلَى أَنَّهُ فَقِيرٌ فَلَيْسَ يَكَادُ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ إلَّا لِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ حُسْنِ الْبِزَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغِنَى فِي الظَّاهِرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ ثِيَابُ الْكِسْوَةِ ذَاتُ قِيمَةٍ كَثِيرَةٍ لَا تَمْنَعهُ إعْطَاءَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ ظَاهِرِ حَالِ مُشْبِهٍ لِأَحْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ الْجِسْمِ جَائِزٌ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِعْطَاءِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَكَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُونُوا مَرْضَى وَلَا عميانا. وقوله عز وجل: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} فَإِنَّ السِّيمَا الْعَلَامَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "الْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّخَشُّعُ". وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "هُوَ عَلَامَةُ الْفَقْرِ" وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] يَعْنِي عَلَامَتُهُمْ. فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} مَا يَظْهَرُ فِي وَجْهِ الْإِنْسَانِ مِنْ كُسُوفِ الْبَالِ وَسُوءِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ بِزَّتُهُمْ وَثِيَابُهُمْ وَظَاهِرُ هَيْئَتِهِمْ حَسَنَةً جَمِيلَةً; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ عَلَمًا يَسْتَدِلُّ بِهِ إذَا رَآهُمْ عَلَيْهِ عَلَى فَقْرِهِمْ; وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا بِظُهُورِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ أَوْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ بَذَاذَةِ هيئتهم.

مطلب في جواز الاستدلال بالسيما والأماراة وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ السِّيمَا حَظًّا فِي اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ يَظْهَرُ ذلك عليه،

وَقَدْ اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ أَمْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي إسْلَامٍ أَوْ كُفْرٍ، أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى سِيمَاهُ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ سِيمَا أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ شَدِّ زُنَّارٍ أَوْ عَدَمِ خِتَانٍ وَتَرْكِ الشَّعْرِ عَلَى حَسَبِ مَا يَفْعَلُهُ رُهْبَانُ النَّصَارَى، حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ وَلَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا أَهْلِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; فَإِنْ كَانَ فِي مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ الْكُفْرِ; فَجَعَلُوا اعْتِبَارَ سِيمَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَوْضِعِهِ الْمَوْجُودِ فِيهِ، فَإِذَا عَدِمْنَا السِّيمَا حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ; وَكَذَلِكَ اعْتَبَرُوا فِي اللَّقِيطِ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26 - 27] فَاعْتَبَرَ الْعَلَامَةَ; وَمِنْ نَحْوِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وَإِخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَطَّخُوا قَمِيصَهُ بِدَمٍ جَعَلُوهُ عَلَامَةً لِصِدْقِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] . وقَوْله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إلْحَاحًا وَإِدَامَةً لِلْمَسْأَلَةِ; لِأَنَّ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا وَإِدَامَتُهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ الْمَسْأَلَةَ رَأْسًا؟ قِيلَ لَهُ: فِي فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِ الْمُخَاطَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَسْأَلَةِ رَأْسًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} فَلَوْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ إلْحَافًا لَمَا حَسِبَهُمْ أَحَدٌ أَغْنِيَاءَ، وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {مِنَ التَّعَفُّفِ} لِأَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ الْقَنَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ". وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيِ أَنَّ ثِيَابَ الْكِسْوَةِ لَا تَمْنَعُ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَسْكَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْفَرَسِ وَالْخَادِمِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاجَةً مَاسَّةً فَهُوَ غَيْرُ غَنِيٍّ بِهَا; لِأَنَّ الْغِنَى هُوَ مَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذَا فَضَلَ عَنْ مَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ وَأَثَاثِهِ وَخَادِمِهِ وَفَرَسِهِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ". وَقَالَ مَالِكٌ فِي رواية ابن

الْقَاسِمِ: "يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا". وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ "أَنَّهُ لَا يُعْطَى مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا". وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: "مَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَا يَقُوتُهُ أَوْ يَكْفِيهِ سَنَةً فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُعْطَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ حَتَّى يُخْرِجَهُ ذَلِكَ مِنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى حَدِّ الْغِنَى كَانَ ذَلِكَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لَا تَجِبُ، وَلَا أَحُدُّ فِي ذَلِكَ حَدًّا" ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيعُ; وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَاضِلًا عَمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: "مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ عِدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ سَأَلَ إلْحَافًا" فَدَلَّ ذِكْرُهُ لِهَذَا الْمِقْدَارِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى الْغِنَى وَيُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَسْأَلَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ" ثُمَّ قَالَ: "فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَهَا شَيْءٌ" فَجَعَلَ حَدَّ الْغِنَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا دُونَ غَيْرِهَا; وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ هَذَا الْقَدْرَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَنْ مَلَكَ هَذَا الْمِقْدَارَ وَأَمَرَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ، وَجَعَلَ الْفَقِيرَ الَّذِي يُرَدُّ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ هَذَا الْقَدْرَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو كَبْشَةَ السَّلُولِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ظَهْرُ غِنَاهُ؟ قَالَ: "أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ". وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْته يَقُولُ لِرَجُلٍ: "مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا" وَالْأُوقِيَّةُ يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَسْأَلُ عَبْدٌ مَسْأَلَةً وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ إلَّا جَاءَتْ شَيْنًا أَوْ كُدُوحًا أَوْ خُدُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ؟ قَالَ: "خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ" وَهَذِهِ وَارِدَةٌ فِي كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ; وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ تَرْكَ الْمَسْأَلَةِ لِمَنْ يَمْلِكُ مَا يُغَدِّيه أَوْ يُعَشِّيه; إذْ قَدْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الصُّفَّةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَدَاءٍ وَلَا عَشَاءٍ، فَاخْتَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَمْلِكُ هَذَا الْقَدْرَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ وَالتَّعَفُّفَ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ لِيَصِلَ ذَلِكَ إلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ. وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ سَبِيلَ اسْتِبَاحَةِ الصَّدَقَةِ لَيْسَتْ سَبِيلَ الضَّرُورَةِ إلَى الْمَيْتَةِ; إذْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ لَا تَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالصَّدَقَةِ تَحِلُّ

بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ احْتَاجَ وَلَمْ يَخَفْ الْمَوْتَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُبِيحُ لَهَا الْفَقْرَ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُخْتَلِفَةً فِي اسْتِعْمَالِ حُكْمِهَا وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مُخْتَلِفَةٌ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَا فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ مَعَهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ الْحُكْمِ، وَمَا عَدَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلْمَسْأَلَةِ أَوْ مَنْسُوخَةً بِخَبَرِنَا إنْ كَانَ المراد بها تحريم الصدقة.

بَابُ الرِّبَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَصْلُ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ لِزِيَادَتِهَا عَلَى مَا حَوَالَيْهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ مِنْ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمُرْتَفِعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ "أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ" إذَا زَادَ عَلَيْهِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى النَّسَاءَ رِبًا فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ" يَعْنِي الْحَيَوَانَ. وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا: "إنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ"، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّبَا قَدْ صَارَ اسْمًا شَرْعِيًّا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَمَا خَفِيَ عَلَى عُمَرَ; لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَسْمَاءِ اللُّغَةِ; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً رِبًا وَهُوَ رِبًا فِي الشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا صَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُجْمَلَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْبَيَانِ، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمَنْقُولَةُ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ لَمَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ، نَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ; فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ إلَّا فِيمَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ أَنَّهُ مُسَمًّى فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ مُرَادِ اللَّهِ بِالْآيَةِ نَصًّا وَتَوْقِيفًا. وَمِنْهُ مَا بَيَّنَهُ دَلِيلًا، فَلَمْ يَخْلُ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفهُ وَتَفْعَلُهُ إنَّمَا كَانَ فَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اُسْتُقْرِضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ مُتَفَاضِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. هَذَا كَانَ الْمُتَعَارَفَ الْمَشْهُورَ بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] فَأَخْبَرَ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ إنَّمَا كَانَتْ رِبًا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ; لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْمُقْرِضِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] إخْبَارًا عَنْ الْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ مِنْ شَرْطِ الزِّيَادَةِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً; فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّبَا الَّذِي كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَأَبْطَلَ ضُرُوبًا أُخَرَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَسَمَاهَا ربا، فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا لِشُمُولِ الِاسْمِ عَلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَكُنْ تَعَامُلُهُمْ بِالرِّبَا إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَرْضِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ مَعَ شَرْطِ الزِّيَادَةِ. وَاسْمُ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالثَّانِي: التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَعْتَبِرُ مَعَ الْجِنْسِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا، وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ الْأَكْلَ مَعَ الْجِنْسِ; فَصَارَ الْجِنْسُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عِنْدَ انْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَالثَّالِثُ: النَّسَاءُ، وَهُوَ عَلَى ضُرُوبٍ: مِنْهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَسَاءً سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ مِنْ الْمَوْزُونِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا بَيْعُ ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ نَسَاءً لِوُجُودِ الْجِنْسِ; وَمِنْهَا: وُجُودُ الْمَعْنَى الْمَضْمُومِ إلَيْهِ الْجِنْسُ فِي شَرْطِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَلَوْ بَاعَ حِنْطَةً بِجِصٍّ نَسَاءً لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ الْكَيْلِ، وَلَوْ بَاعَ حَدِيدًا بِصُفْرٍ نَسَاءً لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ الْوَزْنِ، والله تعالى الموفق.

وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الشَّرْعِيِّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ قَالَ عُمَرُ: "إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ" وَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ رِبًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا. فَجُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ النَّسَاءُ وَالتَّفَاضُلُ عَلَى شَرَائِطَ قَدْ تَقَرَّرَ مَعْرِفَتُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالشَّعِيرُ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا" وَذَكَرَ التَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَسَمَّى الْفَضْلَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ رِبًا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسٍ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ" فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ يَقَعُ عَلَى التَّفَاضُلِ تَارَةً وَعَلَى النَّسَاءِ أُخْرَى. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا" وَيَذْهَبُ فِيهِ إلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ; ثُمَّ لَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَعَنْ قَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ النَّسَاءُ فِي الْجِنْسَيْنِ، كَمَا رَوَى فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مثلا

بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدِ" وَذَكَرَ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ، ثُمَّ قَالَ: "بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ" وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ" فَمَنَعَ النَّسَاءَ فِي الْجِنْسَيْنِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَأَبَاحَ التَّفَاضُلَ; فَحَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا. وَمِنْ الرِّبَا الْمُرَادِ بِالْآيَةِ شِرَى مَا يُبَاعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رِبًا حَدِيثُ يُونُسُ بْنَ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: إنِّي بِعْت زَيْدَ بْنَ أَرَقْمَ جَارِيَةً لِي إلَى عَطَائِهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ؟ فَقَالَتْ: بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت أَبْلَغِي زِيدَ بْنَ أَرَقْمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ. فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَقَالَتْ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فَدَلَّتْ تِلَاوَتُهَا لَآيَةِ الرِّبَا عِنْدَ قَوْلِهَا "أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي" أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهَا مِنْ الرِّبَا، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَكَمِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: سَأَلْته عَنْ رَجُلٍ بَاعَ طَعَامًا مِنْ رَجُلٍ إلَى أَجَلٍ فَأَرَادَ الَّذِي اشْتَرَى الطَّعَامَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَقْدٍ مِنْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: هُوَ رِبًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ شِرَاءَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ شِرَاءَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ جَائِزٌ، فَسَمَّى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ذَلِكَ رِبًا. وَقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِي آخَرِينَ: "إنْ بَاعَهُ بِنَقْدٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ لَمْ يَشْتَرِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ جَازَ; وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَبْضَ الثَّمَنِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ. فَدَلَّ قَوْلُ عَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ ذَلِكَ رِبًا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يُسَمِّيَاهُ رِبًا إلَّا تَوْقِيفًا; إذْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَلَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَأَسْمَاءُ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَاَللَّهُ تعالى أعلم بالصواب.

وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ" وَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" إلَّا أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بِمِقْدَارِ الْمَجْلِسِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَهُمَا دَيْنٌ بِدَيْنٍ، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جَائِزٌ وَهُمَا دَيْنَانِ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بطل.

وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الَّذِي تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَهُ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَيُصَالِحُهُ مِنْهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ فَلَا يَجُوزُ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ: يَكُونُ لِي عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ فَأَقُولُ عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْك؟ فَقَالَ: "هُوَ رِبًا". وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِذَلِكَ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ إيَّاهُ رِبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ إنَّمَا كَانَ قَرْضًا مُؤَجَّلًا بِزِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ بَدَلًا مِنْ الْأَجَلِ، فَأَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَرَّمَهُ وَقَالَ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} حَظَرَ أَنْ يُؤْخَذَ لِلْأَجَلِ عِوَضٌ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٌ فَوَضَعَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَهُ فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَطَّ بِحِذَاءِ الْأَجَلِ، فَكَانَ هَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا الَّذِي نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٌ فَقَالَ لَهُ: أَجِّلْنِي وَأَزِيدُك فِيهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ; لَا يَجُوزُ; لِأَنَّ الْمِائَةَ عِوَضٌ مِنْ الْأَجَلِ، كَذَلِكَ الْحَطُّ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ; إذْ جَعَلَهُ عِوَضًا مِنْ الْأَجَلِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأَبْدَالِ عَنْ الْآجَالِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ: "إنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ بَاطِلٌ فَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَطَّ بِحِذَاءِ الْأَجَلِ، وَالْعَمَلِ فِي الْوَقْتَيْنِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ" فَلَمْ يُجِزْهُ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْأَجَلِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. وَمَنْ أَجَازَ مِنْ السَّلَفِ إذَا قَالَ عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْك فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَجَازُوهُ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ عَنْهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَيُعَجِّلَ الْآخَرُ الْبَاقِيَ بِغَيْرِ شَرْطٍ; وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ قَدْ يَكُونُ رِبًا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، وَأَنَّ النَّسَاءَ قَدْ يَكُونُ رِبًا فِي الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ" وَقَوْلِهِ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ قَدْ يَكُونُ رِبًا بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَقَوْلِهِ: "إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ" وَتَسْمِيَةُ عُمَرَ إيَّاهُ رِبًا وَشِرًى مَا بِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَشَرْطُ التَّعْجِيلِ مَعَ الْحَطِّ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا فِي أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا النَّصِّ مَعْنِيٌّ بِهِ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي

غَيْرِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِنْسِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَأَنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ هُمْ شُذُوذٌ عِنْدَنَا لَا يُعَدُّونَ خِلَافًا: إنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَصْنَافِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا التَّوْقِيفُ دُونَ تَحْرِيمِ غَيْرِهَا. وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ دَلَائِلُ مِنْ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ فَحَوَى الْخَبَرِ قَوْلُهُ: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ" فَأَوْجَبَ اسْتِيفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ بِالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ وَبِالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي التَّحْرِيمِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ مَضْمُومًا إلَى الْجِنْسِ. وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ الْآيَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَكْلِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . وقَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران: 130] فَأَطْلَقَ اسْمَ الرِّبَا عَلَى الْمَأْكُولِ; قَالُوا: فَهَذَا عُمُومٌ فِي إثْبَاتِ الرِّبَا فِي الْمَأْكُولِ. وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ وُجُوهٍ; أَحَدُهَا: مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَالِ لَفْظِ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ وَافْتِقَارِهِ إلَى الْبَيَانِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ، إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَثْبُتَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ رِبًا حَتَّى يُحَرِّمَهُ بِالْآيَةِ وَلَا يَأْكُلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ إثْبَاتُ الرِّبَا فِي مَأْكُولٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ الْمَأْكُولَاتِ فِيهَا رِبًا، وَنَحْنُ قَدْ أَثْبَتْنَا الرِّبَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ، وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْآيَةِ. وَلَمَا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ كَمَا بَطَلَ بَيْعُ أَلْفٍ بِأَلْفٍ إلَى أَجَلٍ، فَجَرَى الْأَجَلُ الْمَشْرُوطُ مَجْرَى النُّقْصَانِ فِي الْمَالِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ كَمَا لَا يَجُوزُ قَرْضُ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ; إذْ كَانَ نُقْصَانُ الْأَجَلِ كَنُقْصَانِ الْوَزْنِ، وَكَانَ الرِّبَا تَارَةً مِنْ جِهَةِ نُقْصَانِ الْوَزْنِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ نُقْصَانِ الْأَجَلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ الْقَرْضُ فِي ذَلِكَ كَالْبَيْعِ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُفَارَقَتُهُ فِي الْقَرْضِ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي بَيْعِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَكُونُ الْأَجَلُ نُقْصَانًا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَإِنَّ تَرْكَ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي أَحَدِ الْمَالَيْنِ; وَإِنَّمَا بَطَلَ الْبَيْعُ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ نُقْصَانِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ الصِّنْفَانِ وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي وُجُوبِ التَّقَايُضِ فِي الْمَجْلِسِ أَعْنِي الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ مَعَ جَوَازِ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِقَبْضِهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَرْكَ الْقَبْضِ مُوجِبٌ

لِلنُّقْصَانِ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ سِنِينَ جَازَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ حَالَّةٍ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ حَالَّةٍ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ يُوجِبُ نَقْصًا فِي الثَّمَنِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نُقْصَانِ الْوَزْنِ فِي الْحُكْمِ; فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّشْبِيهُ بَيْنَ الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا صَحِيحٌ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالُ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّأْجِيلِ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ، فَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَرْضَ لَمَّا كَانَ تَبَرُّعًا لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا، أَشْبَهَ الْهِبَةَ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْهِبَةِ. وَقَدْ أَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْجِيلَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: "مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ" فَأَبْطَلَ التَّأْجِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْمِلْكِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ عَارِيَّتُهَا وَعَارِيَّتُهَا قَرْضُهَا; لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ; إذْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَعَارَهُ دَرَاهِمَ فَإِنَّ ذَلِكَ قَرْضٌ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا اسْتِئْجَارَ الدَّرَاهِمِ; لِأَنَّهَا قَرْضٌ، فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهَا; فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْأَجَلُ فِي الْعَارِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَرْضِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ عَارِيَّةٌ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ الْهِجْرِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَدْرُونَ أَيُّ الصَّدَقَةِ خَيْرٌ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ الْمِنْحَةُ أَنْ تَمْنَحَ أَخَاك الدَّرَاهِمَ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ، أَوْ لَبَنَ الشَّاةِ" وَالْمِنْحَةُ هِيَ الْعَارِيَّةُ; فَجَعَلَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ عَارِيَّتَهَا; أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ"؟ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فِي الْعَارِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَرْضِ. وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ التَّأْجِيلَ فِي الْقَرْضِ وبالله التوفيق ومنه الإعانة.

بَابُ الْبَيْعِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عُمُومٌ فِي إبَاحَةِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِمَالٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ فِي مَفْهُومِ اللِّسَانِ; ثُمَّ مِنْهُ جَائِزٌ وَمِنْهُ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي جَوَازِ بَيْعٍ أَوْ فَسَادِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ; لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى حَظْرِ كَثِيرٍ مِنْ الْبِيَاعَاتِ، نَحْوُ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَجَاهِيلِ وَعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ; وَقَدْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ يُوجِبُ جَوَازَ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ مِنْهَا بِدَلَائِلَ، إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَهَا غَيْرُ مَانِعٍ اعْتِبَارَ عُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ فِيمَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِعُمُومِهِ عَلَى جَوَازِ البيع الموقوف

لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَالْبَيْعُ اسْمٌ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ وُقُوعَ الْمِلْكِ بِهِ لِلْعَاقِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمَعْقُودَ عَلَى شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَمْ يُوجِبْ مِلْكًا؟ وَهُوَ بَيْعٌ وَالْوَكِيلَانِ يَتَعَاقَدَانِ الْبَيْعَ وَلَا يملكان. وقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} حُكْمُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْوَقْفِ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ، فَمِنْ الرِّبَا مَا هُوَ بَيْعٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِبَيْعٍ وَهُوَ رِبَا أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ الْقَرْضُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الْأَجَلُ وَزِيَادَةُ مَالٍ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ. وَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا أَوْجَبَ تَخْصِيصَ مَا هُوَ رِبًا مِنْ الْبِيَاعَاتِ مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَظَنَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا أَنَّهُ يُوجِبُ إجْمَالَ لَفْظِ الْبَيْعِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ مَا لَا يُسَمَّى رِبًا مِنْ الْبِيَاعَاتِ فَحُكْمُ الْعُمُومِ جَارٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوُقُوفُ فِيمَا شَكَكْنَا أَنَّهُ رِبًا أَوْ لَيْسَ بِرِبًا، فَأَمَّا مَا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبًا فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} حِكَايَةً عَنْ الْمُعْتَقِدِينَ لِإِبَاحَتِهِ مِنْ الْكُفَّارِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى وَجْهِ الرِّبَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَرْبَاحِ الْمُكْتَسَبَةِ بِضُرُوبِ الْبِيَاعَاتِ، وَجَهِلُوا مَا وَضَعَ اللَّهُ أَمْرَ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا; فَذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَى جَهْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي، وَيُحْتَجُّ فِيمَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا مُتَسَاوِيَةً أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ وُرُودِ اللَّفْظِ لُزُومُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَحُقُوقِهِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْمِلْكِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ بَقَاءَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ تَرْكِ التَّقَايُضِ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْمُرَادُ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ. وَيُحْتَجُّ أَيْضًا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: مَا اقْتَضَاهُ مِنْ إبَاحَةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَالْآخَرِ إبَاحَةِ أَكْلِهِ لِمُشْتَرِيهِ قَبْلَ قَبْضِ الْآخَرِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ انْزَجَرَ بَعْدَ النَّهْي فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنْ الْمَقْبُوضِ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ; لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ حَظْرَ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ وَإِبْطَالَهُ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَبْطَلَ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مِنْهُ مَقْبُوضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَبْطَلَ مِنْهُ مَا بَقِيَ مِمَّا لَمْ يُقْبَضْ، وَلَمْ يُبْطِلْ الْمَقْبُوضَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِإِبْطَالِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُ وَأَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ وَلَا زِيَادَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ وَقَالَ جَابِرٌ بِعَرَفَاتٍ "إنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" فَكَانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاطِئًا لِمَعْنَى الْآيَةِ فِي إبْطَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَإِمْضَائِهِ مَا كَانَ مَقْبُوضًا. وَفِيمَا رُوِيَ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا طَرَأَ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ كَالْمَوْجُودِ فِي حَالِ وُقُوعِهِ، وَمَا طَرَأَ بَعْدَ الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ الْعَقْدِ لَمْ يُوجِبْ فَسْخَهُ وَذَلِكَ نَحْوُ النَّصْرَانِيِّينَ إذَا تَبَايَعَا عَبْدًا بِخَمْرٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ بَطَلَ الْعَقْدُ; وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مُسْلِمٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَمَا أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يُقْبَضْ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ; وَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ مَقْبُوضَةً ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحْرَمَا لَمْ يُبْطِلْ الْبَيْعَ كَمَا لَمْ يُبْطِلْ اللَّهُ الرِّبَا الْمَقْبُوضَ حِين أَنْزَلَ التَّحْرِيمَ; فَهَذَا جَائِزٌ فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يُبْطِلَ الْبَيْعَ، وَلِلْمُشْتَرِي اتِّبَاعُ الْجَانِي مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَبِيعِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَبِيعُ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فَحَسْبُ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسُقُوطَ الْقَبْضِ فِيهِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ; وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَبْطُلُ وَالثَّمَنُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ". وَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ مِنْ تَمَامِ الْبَيْعِ وَأَنَّ سُقُوطَ الْقَبْضِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَسْقَطَ قَبْضَ الرِّبَا أَبْطَلَ الْعَقْدَ الَّذِي عَقَدَاهُ وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مَتَى طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ مَا يُسْقِطُهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ بُطْلَانَهُ. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِالْفَسْخِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى فَسَادٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَيْنَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَوَضْعِهِ الرِّبَا الَّذِي

لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عُقُودٌ مِنْ عُقُودِ الرِّبَا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهَا بِالْفَسْخِ وَلَمْ يُمَيِّزْ مَا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ مِمَّا كَانَ مِنْهَا بَعْدَ نُزُولِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُفْسَخُ مِنْهَا مَا كَانَ مَقْبُوضًا; وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ مَا كَانَ مَقْبُوضًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} : مِنْ ذُنُوبِهِ; عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا لَهُ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد قال: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} يَعْنِي فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابٍ أَوْ ثَوَابٍ; فَلَمْ يُعْلِمْنَا حُكْمَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادًا لَمْ يَنْتِفْ بِهِ مَا ذَكَرْنَا، فَيَكُونُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لَاحْتِمَالِهِ لَهُمَا، فَيَغْفِرُ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَيَكُونُ لَهُ الْمَقْبُوضُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِيَاعَاتِ أَهْلِ الْحَرْبِ كُلَّهَا مَاضِيَةٌ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ التَّقَابُضِ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدَهُمَا: إنْ لَمْ تَقْبَلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تَنْقَادُوا لَهُ، وَالثَّانِيَ: إنْ لَمْ تَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا بَعْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ اعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَنْ أَرْبَى "أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَتِيبُهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلَهُ" وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ إذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لَا يُوجِبُ إكْفَارَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي; قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ: إنَّ عُمَرَ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيَك؟ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ". فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ". وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33] وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ جَارٍ فِي أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ تَلْحَقُهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ قَطْعَ الطَّرِيقِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ وَفَعَلَهَا مُجَاهِرًا بِهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْكُفْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إخْبَارٌ مِنْهُ بِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُحَارَبَةَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَكَانَ مُمْتَنِعًا عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عَاقَبَهُ الْإِمَامُ بِمِقْدَارِ مَا

يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ وَالرَّدْعِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِقَابَ إذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَجَاهَرَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا حُورِبَ عَلَيْهَا هُوَ وَمُتَّبِعُوهُ وَقُوتِلُوا حَتَّى يَنْتَهُوا، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ عَاقَبَهُمْ الْإِمَامُ بِمِقْدَارِ مَا يَرَى مِنْ الْعُقُوبَةِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ مِنْ الْمُتَسَلِّطِينَ الظَّلَمَةِ وَآخِذِي الضَّرَائِبِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ آكِلِي الرِّبَا لِانْتِهَاكِهِمْ حُرْمَةَ النَّهْيِ وَحُرْمَةَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا. وَآكِلُ الرِّبَا إنَّمَا انْتَهَكَ حُرْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ الرِّبَا وَلَمْ يَنْتَهِكْ لِمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ حُرْمَةً; لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ. وَآخِذُو الضَّرَائِبِ فِي مَعْنَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُنْتَهِكِينَ لِحُرْمَةِ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ; إذْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ جَبْرًا وَقَهْرًا لَا عَلَى تَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، فَجَائِزٌ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إصْرَارَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الضَّرِيبَةِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ كَيْفَ أَمْكَنَهُ قَتْلُهُمْ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُهُمْ وَأَعْوَانُهُمْ الَّذِينَ بِهِمْ يَقُومُونَ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ لِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ، وَالْآخَرُ: مَنْعُ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ وَمِنْ أَدَائِهَا، فَانْتَظَمُوا بِهِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَالْآخَرُ: الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ إلَى الْإِمَامِ فَكَانَ قِتَالُهُ إيَّاهُمْ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: "لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا" وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "عِنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلَتْهُمْ عَلَيْهِ". فَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُمْتَنِعِينَ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ سَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَهَذِهِ السِّمَةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَكَانُوا سَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ لَمَا سَارَ فِيهِمْ هَذِهِ السِّيرَةَ وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ. الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَعْنِي فِي أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَهْلَ رِدَّةٍ. فَالْمُقِيمُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِجَمَاعَةٍ تُعَضِّدُهُ سَارَ فِيهِمْ الْإِمَامُ بِسِيرَتِهِ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ إنْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِتَحْرِيمِهِ وَفَعَلُوهُ غَيْرَ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ إنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُمْتَنِعِينَ رَدَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يَنْتَهُوا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَكَانُوا ذِمَّةً نَصَارَى: "إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَلِيحٍ الْهُذَلِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا فِي آخِرِهِ: "عَلَى أَنْ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ". فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ

مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} عَقِيبَ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ عَلَى حَالِهِ وَمِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مَعَ قَبُولِ الْأَمْرِ. فَمَنْ رَدَّ الْأَمْرَ قُوتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ، وَمَنْ قَبِلَ الْأَمْرَ وَفَعَلَهُ مُحَرِّمًا لَهُ قُوتِلَ عَلَى تَرْكِهِ إنْ كَانَ مُمْتَنِعًا وَلَا يَكُونُ مُرْتَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عُزِّرَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ. وقَوْله تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إعْلَامٌ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَفِي ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِمِقْدَارِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ السِّمَةَ، وَهِيَ أَنْ يُسَمُّوا مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ; وَهَذِهِ السِّمَةُ يَعْتَوِرُهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ إذَا كَانَ مُسْتَحِلًّا، وَالْآخَرُ: الْإِقَامَةُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ إعْلَامٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَيَكُونُ إيذَانًا لَهُمْ بِالْحَرْبِ حَتَّى لَا يُؤْتُوا عَلَى غِرَّةٍ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] فَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْخِطَابُ بِذَلِكَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِمْ إذَا كَانُوا ذَوِي مَنْعَةٍ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلِي ذَلِكَ فِي الْخِطَابِ وَتَنَاوَلَهُ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهِ، فَهُوَ أَوْلَى. قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ غَرِيمًا لَكُمْ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ، وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّ "كَانَ" الْمُكْتَفِيَةَ بِاسْمِهَا عَلَى مَعْنَى: "وَإِنْ وَقَعَ ذُو عُسْرَةٍ أَوْ إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ" كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فِدًى لِبَنِي شَيْبَانَ رَحْلِي وَنَاقَتِي ... إذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ مَعْنَاهُ: إذَا وُجِدَ يَوْمٌ كَذَلِكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ "أَنَّهُ فِي الرِّبَا خَاصَّةً" وَكَانَ شُرَيْحٌ يَحْبِسُ الْمُعْسِرَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ وَالضَّحَّاكِ "أَنَّهُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ"، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "إنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فِي الرِّبَا، وَسَائِرِ الدُّيُونِ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِسَائِرِ الدُّيُونِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِ الِاحْتِمَالِ، وَلِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوهُ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنْ لَا يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى الرِّبَا إلَّا بِدَلَالَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ لَفْظِ الْعُمُومِ مِنْ

غَيْرِ دَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} غَيْرَ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَكَانَ مُتَضَمِّنًا لِمَا قَبْلَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ. قِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ لِمَا فِي فَحْوَاهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِعْسَارِ وَالْإِنْظَارِ قَدْ دَلَّ عَلَى دَيْنٍ تَجِبُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَالْإِنْظَارُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَقٍّ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ وَصَحَّتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، فَإِذَا كَانَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حُكْمِ الْإِنْظَارِ إذَا كَانَ ذُو عُسْرَةٍ، كَانَ اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ وَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَلَمْ يَجِبْ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّبَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبْطَلَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُنْظَرًا بِهِ؟ قَالَ: فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِي سَائِرِ الدُّيُونِ. وَهَذَا الْحَجَّاجُ لَيْسَ بِشَيْءٍ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبْطَلَ الرِّبَا وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمَشْرُوطَةُ وَلَمْ يُبْطِلْ رَأْسَ الْمَالِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} وَالرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يَعْنِي سَائِرَ الدُّيُونِ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَحَدُهَا; وَإِبْطَالُ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا لَمْ يُبْطِلْ رَأْسَ الْمَالِ، بَلْ هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَجِبُ أَدَاؤُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْإِنْظَارُ مَأْمُورًا بِهِ فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَهُوَ وَسَائِرُ الدُّيُونِ سَوَاءٌ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَا شَمِلَهُ الْعُمُومُ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَالِ الرِّبَا فَلَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ لِلْمَعْنَى، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ وَرَدِّهِ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا; وَلَيْسَ الْكَلَامُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْخَصْمِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفْتُمَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا، وَالْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ وَرَدِّ غَيْرِ الْمَذْكُورِ إلَى الْمَذْكُورِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى. وقَوْله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قَدْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَدِينِ وَجَوَازَ أَخْذِ رَأْسِ مَالِ نَفْسِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ; لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اقْتِضَاءَهُ وَمُطَالَبَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ رِضَى الْمَطْلُوبِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ فَطَالَبَهُ بِهِ فَلَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ شَاءَ أَمْ أَبَى; وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَتْ لَهُ هِنْدٌ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ" فَأَبَاحَ لَهَا أَخْذَ مَا اسْتَحَقَّتْهُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ مِنْ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَى أَبِي سُفْيَانَ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغَرِيمَ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْإِمْكَانِ كَانَ ظَالِمًا، وَدَلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}

فَجَعَلَ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِقَضَائِهِ وَتَرْكِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْهُ كَانَ لَهُ ظَالِمًا وَلِاسْمِ الظُّلْمِ مُسْتَحِقًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْحَبْسُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ: قَوْله تَعَالَى فِي نسق التلاوة: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا تَظْلِمُونَ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِالنُّقْصَانِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا لَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالضَّرْبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَبْسًا، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ سَاقِطٌ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِثْلُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ وَبْرِ بْنِ أَبِي دُلَيْلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يُحِلُّ عِرْضَهُ: يُغَلِّظُ لَهُ، وَعُقُوبَتَهُ: يُحْبَسُ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَطْلُ الْغَنِيُّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ" فَجَعَلَ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمًا، وَالظَّالِمُ لَا مَحَالَةَ مُسْتَحِقٌّ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْحَبْسُ، لَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ غَيْرُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِرْمَاسُ بْنُ حَبِيبٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَرِيمٍ لِي، فَقَالَ لِي: "الْزَمْهُ" ثُمَّ قَالَ: "يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك؟ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَبْسَ الْغَرِيمِ لِأَنَّ الْأَسِيرَ يُحْبَسُ; فَلَمَّا سَمَّاهُ أَسِيرًا لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَبْسَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" وَالْمُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ هُنَا الْحَبْسُ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوجِبُ غَيْرَهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْحَبْسَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدُّيُونِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ ثَبَتَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ يُسْأَلُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَرَكَهُ فِي الْحَبْسِ أَبَدًا حَتَّى يَقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا قَالَ إنِّي مُعْسِرٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: فَسَلْ عَنِّي، فَلَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا، وَحَبَسَهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْعُسْرِ، فَلَا يَحْبِسَهُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: كَانَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ، يَقُولُونَ: "إنَّ كُلَّ دَيْنٍ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ مَالٍ وَقَعَ فِي يَدَيْ الْمَدِينِ كَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ وَالْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مِنْ مَالٍ

وَقَعَ فِي يَدِهِ مِثْلَ الْمَهْرِ وَالْجُعْلِ مِنْ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ، لَمْ يَحْبِسْهُ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ وُجُودُهُ وَمَلَاؤُهُ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "يَحْبِسُهُ فِي الدُّيُونِ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُحْبَسُ الْحُرُّ وَلَا الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُسْتَبْرَأُ أَمْرُهُ، فَإِنْ اُتُّهِمَ أَنَّهُ قَدْ خَبَّأَ مَالًا حَبَسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَيْئًا لَمْ يَحْبِسْهُ وَخَلَّاهُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: "إذَا كَانَ مُوسِرًا حُبِسَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُحْبَسْ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِيعَ مَا ظَهَرَ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَأَحْلَفَهُ مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ وَمَنَعَ غُرَمَاءَهُ مِنْ لُزُومِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا "إنَّهُ يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي دَيْنُهُ" لِمَا دَلَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْأَثَرِ عَلَى كَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَالْوَاجِبُ بَقَاءُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهَا عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَكُونُ ظَالِمًا إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَذُمُّهُ عَلَى مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُودَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" وَإِذَا كَانَ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وُجُودَ الْمَالِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنْهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ حَبْسُهُ وَعُقُوبَتُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ وَاجِدٌ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ; وَلَيْسَ ثُبُوتُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ عَلَمًا لِإِمْكَانِ أَدَائِهِ عَلَى الدَّوَامِ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَحْدُثَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي حَصَلَتْ أَبْدَالُهَا فِي يَدِهِ فَقَدْ عَلِمْنَا يَسَارَهُ بِأَدَائِهَا يَقِينًا وَلَمْ نَعْلَمْ إعْسَارَهُ بِهَا، فَوَجَبَ كَوْنُهُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْيَسَارِ وَالْوُجُودِ حَتَّى يَثْبُتَ الْإِعْسَارُ. وَأَمَّا مَا كَانَ لَزِمَهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنْهُ، فَإِنَّ دُخُولَهُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِلُزُومِ أَدَائِهِ، وَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِقَضَائِهِ، وَدَعْوَاهُ الْإِعْسَارِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى التَّأْجِيلِ لِلْمُوسِرِ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ; وَلِذَلِكَ سَوَّى أَصْحَابُنَا بَيْنَ الدُّيُونِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ حُصُولُ أَبْدَالِهَا فِي يَدِهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ تَحْصُلْ فِي يَدِهِ; إذْ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ الْمُوجِبِ عَلَيْهِ الدَّيْنَ اعْتِرَافًا مِنْهُ بِلُزُومِ الْأَدَاءِ وَثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُطَالِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مُتَعَاقِدَيْنِ دَخَلَا فِي عَقْدٍ فَدُخُولُهُمَا فِيهِ اعْتِرَافٌ مِنْهُمَا بِلُزُومِ مُوجِبِ الْعَقْدِ مِنْ الْحُقُوقِ، وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ بَعْدَ الْعَقْدِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ مُوجِبِهِ; وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اعْتِرَافًا مِنْهُمَا بِصِحَّتِهِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ مُضَمِّنًا لِلُزُومِ حُقُوقِهِ، وَفِي تَصْدِيقِهِ عَلَى فَسَادِهِ نَفْيُ مَا لَزِمَهُ بِظَاهِرِ الْعَقْدِ; وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مُدَّعِيَ الْفَسَادِ مِنْهُمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَصِحَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنْهُمَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا من

أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ دَيْنًا بِعَقْدٍ عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِهِ وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى الْإِعْسَارِ الْمُسْقِطِ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ، كَمَا لَا يُصَدَّقُ عَلَى التَّأْجِيلِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ حَالًّا. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا "إنَّهُ يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَرْفَعُهُ إلَى الْقَاضِي إذَا طَلَبَ ذَلِكَ الطَّالِبُ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ" مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَائِهِ وَمَحْكُومٌ لَهُ بِالْيَسَارِ فِي قَضَائِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَهُ بَدِيًّا; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ قَدْ خَبَّأَهُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَلَا يُوقَفُ بِذَلِكَ عَلَى إعْسَارِهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ، يَحْبِسَهُ اسْتِظْهَارًا لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ; إذْ كَانَ فِي الْأَغْلَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَضْجَرَهُ الْحَبْسُ وَأَلْجَأَهُ إلَى إخْرَاجِهِ فَإِذَا حَبَسَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَقَدْ اسْتَظْهَرَ فِي الْغَالِبِ فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُ عَنْهُ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَعْلَمُ يَسَارَهُ سِرًّا فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ إعْسَارُهُ خَلَّاهُ مِنْ الْحَبْسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الْمُعْسِرَ فِي غَيْرِ الرِّبَا مِنْ الدُّيُونِ، فَقَالَ لَهُ مُعْسِرٌ قَدْ حَبَسَهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فَقَالَ شُرَيْحٌ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ ثُمَّ يُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} مَقْصُورٌ عَلَى الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الدُّيُونِ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْحَبْسِ فِيهَا الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ. وَيُشْتَبَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ الْإِعْسَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يُظْهِرَ الْإِعْسَارَ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِ الْيَسَارُ، فَاقْتَصَرَ الْإِنْظَارُ عَلَى رَأْسِ مَالِ الرِّبَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ وَحُمِلَ مَا عَدَاهُ عَلَى مُوجِبِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ وَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا قَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى عُمُومِ اللَّفْظِ لِسَائِرِ الدُّيُونِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ نَصُّ التَّنْزِيلِ وَارِدًا فِي الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ لَكَانَ سَائِرُ الدُّيُونِ بِمَنْزِلَتِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ; إذْ لَا فَرْقَ فِي حَالِ الْيَسَارِ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ لُزُومِ الْمُطَالَبَةِ بِهِمَا وَوُجُوبِ أَدَائِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي حَالِ الْأَدَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَبْسِ فِيهَا دُونَهُ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَاحْتِجَاجُ شُرَيْحٍ بِهِ فِي حَبْسِ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمَضْمُونَةُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا الْمُطَالَبَةُ بِهَا مُعَلَّقَةٌ بِإِمْكَانِ أَدَائِهَا، فَمَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا فِي إمْكَانِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِأَدَائِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الدَّيْنَ مِنْ الْأَمَانَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الدَّيْنَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ مُرَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] فَإِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إلَيْهِ عَلَى شَرِيطَةِ الْإِمْكَانِ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ، وَهُوَ مَحْكُومٌ لَهُ مِنْ ظَاهِرِ إعْسَارِهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى أَدَائِهِ. وَلَمْ يَكُنْ شُرَيْحٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، بَلْ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ; وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ وُجُودَ ذَلِكَ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ مَعَ ظُهُورِ إعْسَارِهِ، فَلِذَلِكَ حَبَسَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَاكِمِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ إعْسَارُهُ وَأَطْلَقَهُ مِنْ الْحَبْسِ، هَلْ يَحُولُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لِلطَّالِبِ أَنْ يُلْزِمَهُ". وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: "وَالْمَلْزُومُ فِي الدَّيْنِ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ مَنْزِلِهِ لِلْغِذَاءِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْغِذَاءَ وَمَوْضِعَ الْخَلَاءِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إتْيَانِ مَنْزِلِهِ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "يُؤَاجِرُ الْحُرُّ الْمُعْسِرَ فَيَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ"; وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ إلَّا الزُّهْرِيُّ، فَإِنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "يُؤَاجَرُ الْمُعْسِرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ الْإِعْسَارِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ وَالِاقْتِضَاءَ، حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ، فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ جَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: "جِئْتنَا وَمَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَ الصَّدَقَةُ" فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: وَاغَدْرَاه فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا" فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الِاقْتِضَاءَ، وَقَالَ: "إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ بِالدَّيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ اقْتِضَاءَهُ وَلُزُومَهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: "أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَ الصَّدَقَةُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ إنَّمَا اشْتَرَى الْبَعِيرَ لِلصَّدَقَةِ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِيَقْضِيَهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَلْزَمُهُ ثَمَنُ مَا اشْتَرَى، وَأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ دُونَ الْمُشْتَرَى لَهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْهُ اقْتِضَاءَهُ وَمُطَالَبَتَهُ بِهِ. وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا ثُمَّ قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ; لِأَنَّ السَّلَفَ كَانَ دَيْنًا عَلَى مَالِ الصَّدَقَةِ. وروي في خبر آخر عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ" رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ: "فِي الْيَدِ اللُّزُومُ وَفِي اللِّسَانِ الِاقْتِضَاءُ". وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ

عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي شَيْءٌ أَقْضِيكَهُ الْيَوْمَ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقُك حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ يَتَحَمَّلُ عَنْك قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي قَضَاءٌ وَلَا أَجِدُ مَنْ يَحْتَمِلُ عَنِّي قَالَ: فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا لَزِمَنِي فَاسْتَنْظَرْته شَهْرًا وَاحِدًا فَأَبَى حَتَّى أَقْضِيَهُ أَوْ آتِيَهُ بِحَمِيلٍ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ حَمِيلًا وَلَا عِنْدِي قَضَاءٌ الْيَوْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تُنْظِرُهُ شَهْرًا وَاحِدًا؟ " قَالَ: لَا قَالَ: "أَنَا أَحْمِلُ بِهَا" فَتَحَمَّلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَأَتَاهُ بِقَدْرِ مَا وَعَدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَيْنَ أَصَبْت هَذَا الذَّهَبَ؟ " قَالَ: مِنْ مَعْدِنٍ، قَالَ: "اذْهَبْ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ" فَقَضَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ لُزُومِهِ مَعَ حَلِفِهِ بِاَللَّهِ مَا عِنْدَهُ قَضَاءٌ. وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ تَمْرًا كَانَ عَلَيْهِ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْك إلَّا قَضَيْتنِي فَانْتَهَرَهُ الصَّحَابَةُ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَك أَتَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: إنِّي طَالِبُ حَقٍّ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ" ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: "إنْ كَانَ عِنْدَك تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَك" فَقَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّيِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ: أَوْفَيْتنَا أَوْفَى اللَّهُ لَك فَقَالَ: "أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إنَّهَا لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ مِنْهَا حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ". فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْضِيَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ مُطَالَبَتَهُ وَاقْتِضَاءَهُ بِذَلِكَ، بَلْ أَنْكَرَ عَلَى الصَّحَابَةِ انْتِهَارَهُمْ إيَّاهُ وَقَالَ: "هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ". وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ دُونَ أَنْ يُنْظِرَهُ الطَّالِبُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ" فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُك تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ صَدَقَةٌ ثُمَّ سَمِعْتُك تَقُولُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ؟ قَالَ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَلَهُ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ إذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ السَّرَّاجِ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بْنُ حُجْنَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عِبَادَةَ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عِبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْيُسْرِ يَقُولُ: قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ". فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ" يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ دُونَ إنْظَارِ الطَّالِبِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْظَرًا بِغَيْرِ إنْظَارِهِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ إلَّا عَلَى فِعْلِهِ، فَأَمَّا مَنْ قَدْ صَارَ مُنْظَرًا بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِالْإِنْظَارِ. وَحَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِإِنْظَارِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْإِنْظَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحَطِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَطَّ لَا يَقَعُ إلَّا بِفِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِنْظَارُ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} يَنْصَرِفُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْإِنْظَارِ هُوَ تَخْلِيَتُهُ مِنْ الْحَبْسِ وَتَرْكُ عُقُوبَتِهِ; إذْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما جعل مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمًا; فَإِذَا ثَبَتَ إعْسَارُهُ فَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ بِتَرْكِ الْقَضَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِإِنْظَارِهِ مِنْ الْحَبْسِ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ لُزُومِهِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّدْبَ وَالْإِرْشَادَ إلَى إنْظَارِهِ بِتَرْكِ لُزُومِهِ وَمُطَالَبَتِهِ، فَلَا يَكُونُ مُنْظَرًا إلَّا بِنَظِرَةِ الطَّالِبِ، بِدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: اللُّزُومُ بِمَنْزِلَةِ الْحَبْسِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا; لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ اللُّزُومَ لَا يَمْنَعُهُ التَّصَرُّفَ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ قِبَلِ الطَّالِبِ مَنْ يُرَاعِي أَمْرَهُ فِي كَسْبِهِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ، فَيَتْرُكُ لَهُ مِقْدَارَ الْقُوتِ وَيَأْخُذُ الْبَاقِي قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إيجَابُ حَبْسٍ وَلَا عُقُوبَةٍ. وَرَوَى مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ: مَا عَمِلْت؟ قَالَ: مَا عَمِلْت لَك كَثِيرَ عَمَلٍ أَرْجُوَك بِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ، غَيْرَ أَنَّك كُنْت أَعْطَيْتنِي فَضْلًا مِنْ مَالٍ فَكُنْت أُخَالِطُ النَّاسَ فَأُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْك، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي فَغَفَرَ لَهُ" فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ أَنَّ الْإِنْظَارَ لَا يَقَعُ بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُوسِرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُزُومِهِ إذَا أَعْسَرَ وَجَعْلَهُ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ، بِمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْر، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ" فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ". فَاحْتَجَّ الْقَائِلُ بِمَا وَصَفْنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ" وَأَنَّ ذَلِكَ

يَقْتَضِي نَفْيَ اللُّزُومِ. فَيُقَالُ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ سُقُوطَ دُيُونِهِمْ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ كَانَ الْغُرَمَاءُ أَحَقَّ بِمَا فَضُلَ عَنْ قُوتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ بَقَاءَ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ; فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ لُزُومِهِمْ لَهُ لِيَسْتَوْفُوا دُيُونَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُهُ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ; وَهَذَا هُوَ مَعْنَى اللُّزُومِ; لِأَنَّا لَا نَخْتَلِفُ فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِيمَا يَكْسِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَ حَقِّ اللُّزُومِ لَهُمْ وَلَمْ يَنْتِفْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ" كَمَا لَمْ يَنْتِفْ بَقَاءُ حُقُوقِهِمْ فِيمَا يَسْتَفِيدُهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ إنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَرْغِيبِ الطَّالِبِ فِي إنْظَارِهِ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ التَّأْجِيلَ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ الْوَاجِبَةِ عَنْ الْغُصُوبِ وَالْبُيُوعِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَالًّا فِي الْأَصْلِ لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآثَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا لِأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ تَأْجِيلِهِ; وَبَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِيمَنْ أَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَوْ بَعْدَمَا حَلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَمْعَانَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ؟ " فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: "هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ؟ " فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: "هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ؟ " فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ؟ إنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكُمْ إلَّا خَيْرًا، إنَّ صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ" فَلَقَدْ رَأَيْته أَدَّى عَنْهُ حَتَّى مَا أَحَدٌ يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ النَّهْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبٌ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَقُولُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ عَبْدٌ بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهَا: أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً". وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ وَاللُّزُومَ لَا يَسْقُطَانِ عَنْ الْمُعْسِرِ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ يَدَعْ لَهُ وَفَاءً. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَخْلُو. هَذَا الرَّجُلُ الْمَدِينُ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ غَيْرَ مُفَرِّطٍ; فَإِنْ كَانَ مُفَرِّطًا فَإِنَّمَا هُوَ مُطَالَبٌ عِنْدَ اللَّهِ بِتَفْرِيطِهِ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْ تَفْرِيطِهِ حَتَّى مَاتَ

مُفْلِسًا، فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ; وَهَذَا حُكْمُ الْمُعْسِرِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ تَوْبَتَهُ مِنْ تَفْرِيطِهِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُفَرِّطِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ الْمُصِرِّ عَلَى تَفْرِيطِهِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُفَرِّطْ أَصْلًا أَوْ فَرَّطَ ثُمَّ تَابَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فَتُوجِبُونَ لَهُ لُزُومَ مَنْ فَرَّطَ وَلَمْ يَتُبْ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُفَرِّطْ أَوْ فَرَّطَ ثُمَّ تَابَ. قِيلَ لَهُ: لَوْ وَقَفْنَا عَلَى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ مِنْ تَفْرِيطِهِ أَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي قَضَائِهِ لَخَالَفْنَا بَيْنَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ مَنْ ظَهَرَ تَفْرِيطُهُ فِي بَابِ اللُّزُومِ كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ مَخْبُوءٌ وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِعْسَارَ، وَكَذَلِكَ الْمُظْهِرُ لِتَوْبَتِهِ مِنْ تَفْرِيطِهِ مَعَ ظُهُورِ عُسْرَتِهِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِأَدَاءِ دَيْنِهِ وَلَا تَكُونُ لِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ اللُّزُومِ وَالْمُطَالَبَةِ قَائِمٌ عَلَيْهِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِهِ. وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأُتِيَ بِمَيِّتٍ فَقَالَ: "أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ، دِينَارَانِ، فَقَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ" فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْمُطَالَبَةُ قَائِمَةً عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا كَانَ لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا; لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ. وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِغَرِيمِهِ قَالَ: هَاتِ بَيِّنَةً عَلَى مَالٍ أَحْبِسُهُ فَإِنْ قَالَ: فَإِنِّي إذَا أُلْزِمُهُ، قَالَ: مَا أَمْنَعَك مِنْ لُزُومِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي إجَازَتِهِمَا الْحَدِّ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أُجْرَتِهِ، فَخِلَافُ الْآيَةِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلَمْ يَقُلْ فَلْيُؤَاجَرْ بِمَا عَلَيْهِ، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إجَارَتُهُ وَإِنَّمَا فِيهَا لُزُومُهُ أَوْ تَرْكُهُ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ" حِينَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ غَيْرَ مَا أَخَذُوا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُعْسِرِ خَيْرٌ مِنْ إنْظَارِهِ بِهِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَرْضِ لِأَنَّ الْقَرْضَ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَالِ وَتَأْخِيرُ اسْتِرْجَاعِهِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

أَنَّهُ قَالَ: "قَرْضٌ مَرَّتَيْنِ كَصَدَقَةٍ مَرَّةً". وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّلَفُ يُجْرَى مُجْرَى شَطْرِ الصَّدَقَةِ" وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قَالَا: "بِرَأْسِ الْمَالِ". وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ الْإِبْرَاءَ مِنْ الدَّيْنِ صَدَقَةً اقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَهُ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ سَمَّى الزَّكَاةَ صَدَقَةً وَهِيَ عَلَى ذِي عُسْرَةٍ، فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرُ كَانَ وَاجِبًا جَوَازُهُ عَنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: إنَّمَا سَقَطَ زَكَاةَ الْمُبَرَّأَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا هُوَ حَقٌّ لَيْسَ بِعَيْنٍ، وَالْحُقُوقُ لَا تُجْرَى مُجْرَى الزَّكَاةِ، مِثْلُ سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهَا، وَتَسْمِيَتُهُ إيَّاهُ بِالصَّدَقَةِ لَا تُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْبَرَاءَةَ مِنْ الْقِصَاصِ صَدَقَةً فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ; وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُجْزِئٍ فِي الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] وَهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ وَلَا يَمْنَعَهُمْ الْكَيْلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنِعُوا بَدِيًّا; أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ، وَهُوَ مَا اشْتَرَوْهُ بِبِضَاعَتِهِمْ؟ فَإِذَا كَانَ وُقُوعُ اسْمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَهُ عَنْ الزَّكَاةِ، لَمْ يَكُنْ إطْلَاقُ اسْمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الدَّيْنِ عِلَّةً لِجَوَازِهِ عَنْ الزَّكَاةِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ عَلَى الدُّيُونِ الْآجِلَةِ قَدْ كَانَا واجبين بقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ". وَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا وَاَللَّهِ إنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ وَمَا فِيهَا نَسْخٌ". وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}

[النساء: 5] ، وَرَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ بِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ: "إنْ ذَهَبَ حَقُّهُ لَمْ يُؤْجَرْ وَإِنْ دَعَا عَلَيْهِ لَمْ يُجَبْ لِأَنَّهُ تَرَكَ حَقَّ اللَّهِ وَأَمْرَهُ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يَعْنِي: وَأُشْهِدُوا عَلَى حُقُوقِكُمْ إذَا كَانَ فِيهَا أَجَلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَجَلٌ، فَأَشْهِدْ عَلَى حَقِّك عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سُئِلَ عَطَاءٌ: أَيُشْهِدُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ بَايَعَ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ تَأْوِيلُ قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "يُشْهِدُ لَوْ عَلَى دَسْتَجَةِ بَقْلٍ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ: "إنْ شَاءَ أَشْهَدَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشْهِدْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} " وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا بَاعَ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ نَدْبًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَتْ الْكِتَابَةُ مَعَ الْإِشْهَادِ; لِأَنَّهُمَا مَأْمُورٌ بِهِمَا فِي الْآيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى الدُّيُونِ الْآجِلَةِ فِي حَالِ نُزُولِهَا، وَكَانَ هَذَا حُكْمًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا إلَى أَنْ وَرَدَ نَسْخُ إيجَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أَوْ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْجَمِيعِ مَعًا; فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَارِ الْإِيجَابَ لِامْتِنَاعِ وُرُودِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ. وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا تَارِيخُ نُزُولِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ قَوْله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وَجَبَ الْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا، فَلَمْ يَرِدْ الْأَمْرُ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ إلَّا مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ نَدْبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ، لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْإِشْهَادَ وَاجِبًا; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْجَمِيعَ وَرَدَ مَعًا، فَكَانَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ نَدْبًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُشْهِدُ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ أَنَّهُ يُشْهِدُ عَلَى الْقَلِيلِ; كُلِّهِ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَدْبًا لَا إيجَابًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى: "ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: أَحَدُهُمْ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَمْ يُشْهِدْ" فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ وَاجِبًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ مَنْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا؟ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ أَنْ يُطَلِّقَهَا; وَإِنَّمَا هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ تَارِكٌ لِلِاحْتِيَاطِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِيهِ الْمَخْرَجَ وَالْخَلَاصَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الأمر

بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ الْمَذْكُورِ جَمِيعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَدْبٌ وَإِرْشَادٌ إلَى مَا لَنَا فِيهِ الْحَظُّ وَالصَّلَاحُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنَّ شَيْئًا مِنْهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْبِيَاعَاتِ فِي أَمْصَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، مَعَ عِلْمِ فُقَهَائِهِمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا تَرَكُوا النَّكِيرَ عَلَى تَارِكِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَدْبًا، وَذَلِكَ مَنْقُولٌ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَلَوْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ تُشْهِدُ عَلَى بِيَاعَاتِهَا وَأَشْرِبَتِهَا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا وَلَأَنْكَرَتْ عَلَى فَاعِلِهِ تَرْكَ الْإِشْهَادِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْإِشْهَادُ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ وَلَا إظْهَارُ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ مِنْ الْعَامَّةِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ فِي الدُّيُونِ وَالْبِيَاعَاتِ غير واجبين; وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} مُخَاطَبَةٌ لِمَنْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} فَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وجه قوله تعالى: {بِدَيْنٍ} وَالتَّدَايُنُ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَيْنٍ؟ قِيلَ لَهُ: لأن قوله تعالى: {تَدَايَنْتُمْ} لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَعْنِي يَوْمَ الْجَزَاءِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى "تَجَازَيْتُمْ" فَأَزَالَ الاشتراك عن اللفظ بقوله تعالى: {بِدَيْنٍ} وَقَصَرَهُ عَلَى الْمُعَامَلَةِ بِالدَّيْنِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ وَتَمْكِينِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} يَنْتَظِمُ سَائِرَ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا الْآجَالُ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى جَوَازِ التَّأْجِيلِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا بَيَانُ جَوَازِ التَّأْجِيلِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ إذَا كَانَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا; ثُمَّ يَحْتَاجُ أَنْ يُعْلَمَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى جَوَازُ التَّأْجِيلِ فِي الدَّيْنِ وَامْتِنَاعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَقْتَضِ جَوَازَ دُخُولِ الْأَجَلِ عَلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حَتَّى يَكُونَا جَمِيعًا مُؤَجَّلَيْنِ؟ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي سَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ بِالْآجَالِ الْمَعْلُومَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُثْبِتَ جَوَازَهُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَعْلُومِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ احْتَجْنَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ نُسْلِمَ فِيهِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَكَمَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ وَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهَا فِي إجَازَةِ سَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ; لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ إذَا صَحَّتْ الْمُدَايَنَةُ، كَذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شَرْطِ الْأَجَلِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ إذَا صَحَّ الدَّيْنُ وَالتَّأْجِيلُ فِيهِ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي جَوَازِ التَّأْجِيلِ فِي الْقَرْضِ بِهَذِهِ الْآيَةِ; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرْضِ وَسَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَرْضَ مِمَّا شَمِلَهُ الِاسْمُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا كما

ذُكِرَ; لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ كُلِّ دَيْنٍ وَلَا عَلَى جَوَازِ التَّأْجِيلِ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى دَيْنٍ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ التَّأْجِيلُ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِشْهَادَ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الدُّيُونِ وَلَا مِنْ الْآجَالِ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ "إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ التَّأْجِيلُ فَاكْتُبُوهُ" فَالْمُسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ مُغَفَّلٌ فِي اسْتِدْلَالِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْضَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا لِقَوْلِهِ تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} قَدْ اقْتَضَى عَقْدَ الْمُدَايَنَةِ، وَلَيْسَ الْقَرْضُ بِعَقْدِ مُدَايَنَةٍ; إذْ لَا يَصِيرُ دَيْنًا بِالْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ خَارِجًا مِنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ دَيْنٍ ثَابِتٍ مُؤَجَّلٍ، سَوَاءٌ كَانَ بَدَلُهُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، فَمَنْ اشْتَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ كَانَ مَأْمُورًا بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ لَا فِيهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وَلَمْ يَقُلْ "بِدَيْنَيْنِ" فَإِنَّمَا أَثْبَتِ الْأَجَلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ الْأَجَلِ فِي الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا; وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَا دَيْنَيْنِ بِالْعَقْدِ، فَهَذَا جَائِزٌ فِي السَّلَمِ وَفِي الصَّرْفِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَجْلِسِ. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ مُرَادًا بِالْآيَةِ; لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ السَّلَمُ; وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِ مُدَايَنَةٍ مُوجِبٍ لِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَنْزَلَ فِيهِ أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} " فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ مِمَّا انْطَوَى تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَا كُلُّ دَيْنٍ ثَابِتٍ مُؤَجَّلٍ فَهُوَ مُرَادٌ بِالْآيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَبْدَالِ الْمَنَافِعِ أَوْ الْأَعْيَانِ، نَحْوُ الْأُجْرَةِ الْمُؤَجَّلَةِ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ وَالْمَهْرِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ وَالصُّلْحُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ الْمُؤَجَّلَةِ; لِأَنَّ هَذِهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ ثَابِتَةٌ بِعَقْدِ مُدَايَنَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا اقْتَضَتْ هَذَا الْحُكْمَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا فِيهِمَا، لِأَنَّهُ قَالَ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} فَكُلُّ عَقْدٍ انْتَظَمْته الْآيَةُ فَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ بَدَلًا مِنْ مَنَافِعَ أَوْ أَعْيَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ مُرَادًا بِهَا هَذِهِ الْعُقُودُ كُلُّهَا، وَأَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ الشُّهُودِ وَأَوْصَافِ الشَّهَادَةِ مُعْتَبَرًا فِي سَائِرِهَا; إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا مُؤَجَّلًا وَفِي الْخُلْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَسَائِرِ مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ عَلَى بَعْضِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ دُونَ بَعْضٍ مَعَ شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِهَا.

وقوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} يَعْنِي: مَعْلُومًا; قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ". وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} فِيهِ أَمْرٌ لِمَنْ تَوَلَّى كِتَابَةَ الْوَثَائِقِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكْتُبَهَا بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ; وَالْكِتَابُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا فَإِنَّ سَبِيلَهُ إذَا كُتِبَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى حَدِّ الْعَدْلِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّوَثُّقِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يُكْتَبُ الْكِتَابُ، بِأَنْ يَكُون شَرْطًا صَحِيحًا جَائِزًا عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ وَتَقْتَضِيهِ. وَعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي وَتَجَنُّبُ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ وَتَحَرِّي تَحْقِيقِ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُبَيِّنَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ حَدِّ الشَّرِكَةِ وَالِاحْتِمَالِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ خِلَافِ الْفُقَهَاءِ مَا أَمْكَنَ حَتَّى يَحْصُلَ لِلْمُتَدَايِنِينَ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَقِيبَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابِ: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُدَايَنَاتِ الثَّابِتَةِ الْجَائِزَةِ، لِكَيْ يَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَدَايِنَيْنِ مَا قَصَدَ مِنْ تَصْحِيحِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ; وَلِأَنَّ الْكَاتِبَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُفْسِدَ عَلَيْهِمَا مَا قَصَدَاهُ وَيُبْطِلَ مَا تَعَاقَدَاهُ. وَالْكِتَابُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا وَكَانَ نَدْبًا وَإِرْشَادًا إلَى الْأَحْوَطِ فَإِنَّهُ مَتَى كُتِبَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَانْتَظَمَ ذَلِكَ صَلَاةَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مَتَى قَصَدَ فِعْلَهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهَا إلَّا بِشَرَائِطِهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِهَا. وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" وَالسَّلَمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ فَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الشَّرَائِطِ; فَكَذَلِكَ كِتَابُ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادُ لَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ مَتَى كُتِبَ فَعَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْ يَسْتَوْفِيَ فِيهِ شُرُوطَ صِحَّتِهِ، لِيَحْصُلَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ بِكِتَابَتِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لُزُومِ الْكَاتِبِ الْكِتَابَةَ، فَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ". وَقَالَ السُّدِّيُّ "وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ". وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: "هُوَ وَاجِبٌ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَتْهَا {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكِتَابَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَكَيْفُ يَكُون وَاجِبًا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَلَا سَبَبَ لَهُ فِيهِ؟ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَنْ رَآهُ وَاجِبًا ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ وَاجِبٌ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ أَنْ يَقُومَ

بِهَا لِمَنْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَالْأَصْلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عِنْدَنَا، فَإِنَّ الْمُتَدَايِنَيْنِ مَتَى قَصَدَا إلَى مَا نَدَبَهُمَا إلَيْهِ مِنْ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكِتَابِ وَلَمْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُمَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُ وَلَكِنْ يُبَيِّنَهُ حَتَّى يَكْتُبَاهُ أَوْ يَكْتُبَهُ لَهُمَا أَجِيرٌ أَوْ مُتَبَرِّعٌ بِإِمْلَاءِ مَنْ يَعْلَمُهُ، كَمَا لَوْ أَرَادَ إنْسَانٌ أَنْ يَصُومَ صَوْمًا تَطَوُّعًا أَوْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ وَلَمْ يَعْرِفْ أَحْكَامَهُمَا، كَانَ عَلَى الْعَالِمِ بِذَلِكَ إذَا سُئِلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِسَائِلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ فَرْضًا; لِأَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ بَيَانَ النَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبِ إلَيْهِ إذَا سُئِلُوا عَنْهَا، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِمْ بَيَانَ الْفُرُوضِ; وَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ النَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَ الْفُرُوضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَفِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ أَحْكَامَ النَّوَافِلِ، فَكَانَ عَلَيْهِ بَيَانُهَا لِأُمَّتِهِ كَبَيَانِ الْفُرُوضِ. وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ كَمَا نَقَلَتْ عَنْهُ بَيَانَ الْفُرُوضِ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى مَنْ عَلِمَ عِلْمًا مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ ثُمَّ سُئِلَ عَنْهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِسَائِلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ". فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَلْزَمُ مَنْ عَرَفَ الْوَثَائِقَ وَالشُّرُوطَ بَيَانُهَا لِسَائِلِهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ سَائِرِ عُلُومِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ. وَهَذَا فَرْضٌ لَازِمٌ لِلنَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا أَنْ يُلْزِمَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكِتَابَةَ بِيَدِهِ فَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُهُ; اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ يَكْتُبَهُ، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ "عَلَيْهِ كَتْبُهُ" وَلَوْ كَانَ كَتْبُ الْكِتَابِ فَرْضًا عَلَى الْكَاتِبِ لَمَا كَانَ الِاسْتِئْجَارُ يَجُوزُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ; فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ كِتَابِ الْوَثِيقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ كَتْبَهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ لَا عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَا عَلَى التَّعْيِينِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} نَهْيٌ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى خِلَافِ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَهَذَا النَّهْيُ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كَتْبَهُ عَلَى خِلَافِ مَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُصَلِّ النَّفَلَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَا غَيْرِ مَسْتُورِ الْعَوْرَةِ; لَيْسَ ذَلِكَ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ وَلَا نَهْيًا عَنْ فِعْلِهَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ نَهْيٌ عَنْ فِعْلِهَا عَلَى غَيْرِ شَرَائِطِهَا الْمَشْرُوطَةِ لَهَا; وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} هُوَ نَهْيٌ عَنْ كَتْبِهِ عَلَى خِلَافِ الْجَائِزِ مِنْهُ; إذْ لَيْسَتْ الْكِتَابَةُ فِي الْأَصْلِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ "لَا تَأْبَ أَنْ تُصَلِّيَ النَّافِلَةَ بِطَهَارَةٍ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ" لَيْسَ فِيهِ إيجَابٌ مِنْهُ لِلنَّافِلَةِ؟ فَكَذَلِكَ مَا وصفنا.

وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فِيهِ إثْبَاتُ إقْرَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَإِجَازَةُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَإِلْزَامُهُ إيَّاهُ، لِأَنَّهُ لَوْلَا جَوَازُ إقْرَارِهِ إذَا أَقَرَّ لَمْ يَكُنْ إمْلَاءُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِأَوْلَى مِنْ إمْلَاءِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ إقْرَارِ كُلِّ مُقِرٍّ بِحَقِّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لِغَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ لِأَنَّ الْبَخْسَ هُوَ النَّقْصُ; فَلَمَّا وَعَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَرْكِ الْبَخْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَخَسَ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] لَمَّا وَعَظَهُنَّ فِي الْكِتْمَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى قَوْلِهِنَّ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} قَدْ دَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَتَى كَتَمُوهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فِيهَا. وَكَذَلِكَ وَعَظَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي تَرْكِ الْبَخْسِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِيمَا عَلَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فِي إيجَابِ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ فِي الْأَجَلِ; لِأَنَّ اللَّهَ رَدَّ الْإِمْلَاءَ إلَيْهِ وَوَعَظَهُ فِي الْبَخْسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فِي صِدْقِهِ فِي مَبْلَغِ الْمَالِ. فَيُقَالُ: إنَّمَا وَعَظَهُ فِي الْبَخْسِ وَهُوَ النُّقْصَانُ، وَيَسْتَحِيلُ وَعْظُ الْمَطْلُوبِ فِي بَخْسِ الْأَجَلِ وَنُقْصَانِهِ، وَهُوَ لَوْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ كُلَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَبَطَلَ، كَمَا لَا يُوعَظُ الطَّالِبُ فِي نُقْصَانِ مَالِهِ; إذْ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِهِ لَصَحَّتْ بَرَاءَتُهُ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَخْسِ فِي مِقْدَارِ الدُّيُونِ لَا فِي الْأَجَلِ، فَلَيْسَ إذًا فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ فِي الْأَجَلِ. فَإِنْ قِيلَ إثْبَاتُ الْأَجَلِ فِي الْمَالِ يُوجِبُ نُقْصَانَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي نُقْصَانِ الْمَالِ وَمِقْدَارِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْأَجَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَخْسِ الْمَالِ وَنُقْصَانِهِ; إذْ قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ تَصْدِيقَهُ فِي بَخْسِهِ وَالْبَخْسُ تَارَةً يَكُونُ بِنُقْصَانِ الْمِقْدَارِ وَتَارَةً بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مِنْ أَجْلِ رَدَاءَةٍ فِي الْمُقَرِّ بِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} اقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ بَخْسِ الْحَقِّ نَفْسِهِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا وَمُدَّعِي الْأَجَلِ غَيْرُ بَاخِسٍ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا نَاقِصٍ لَهُ; إذْ كَانَ بَخْسُ الدَّيْنِ هُوَ نُقْصَانُ مِقْدَارِهِ، وَلَيْسَ الْأَجَلُ هُوَ الدَّيْنُ وَلَا بَعْضُهُ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهِ عَلَى دَعْوَى الْأَجَلِ. وَيَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ مِنْ الدَّيْنِ

أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَحِلُّ وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ وَيَكُونُ هُوَ ذَلِكَ الدَّيْنُ، وَقَدْ يَسْقُطُ الْأَجَلُ وَيُعَجَّلُ الدَّيْنُ فَيَكُونُ الَّذِي عُجِّلَ هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ مُؤَجَّلًا; وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثُمَّ قال تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يَعْنِي مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا، لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْأَجَلَ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بَعْدَ الْأَجَلِ وَقَبْلَهُ إذَا كَانَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نُقْصَانِ الْمَقْبُوضِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ إنَّهُ نَقْصٌ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَجَازِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تَنَاوَلَتْ الْآيَةُ الْبَخْسَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ نُقْصَانُ الْمِقْدَارِ، وَنُقْصَانُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ رَدَاءَةٍ أَوْ غَبْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، نَحْوَ إقْرَارِهِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ وَالْحِنْطَةِ الرَّدِيَّةِ; فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَخْسٌ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِ الْمَقْبُوضِ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاوَلَ بَعْضَ الْأَجَلِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فِيهِ بَلْ هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى أُرِيدَ بِهِ الْحَقِيقَةَ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الطَّالِبِ فِي الْأَجَلِ; لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} اقْتَضَى ذَلِكَ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمُتَدَايِنَيْنِ جَمِيعًا إذَا كَانَ الْمَالُ مُؤَجَّلًا، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي الْأَجَلِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِشْهَادِ بِهِ عَلَى الطَّالِبِ; وَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّالِبِ بِالتَّأْجِيلِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ; إذْ لَوْ كَانَ مُصَدَّقًا فِيهِ لَمَا بَقِيَ لِلْإِشْهَادِ عَلَى الطَّالِبِ مَوْضِعٌ وَلَا مَعْنًى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا حُكْمُ الْإِشْهَادِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فَخَاطَبَ الْمُتَدَايِنَيْنِ جَمِيعًا وَأَمَرَهُمَا بِالِاسْتِشْهَادِ، فَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْمَطْلُوبَ مَخْصُوصٌ بِهِ، لَجَازَ لِآخَرَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ; فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَأَنْ يَكُونَا مَنْدُوبَيْنِ إلَيْهِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِشْهَادِ عَلَى الطَّالِبِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ حُكْمٌ لِأَنَّهُ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي نَفْيِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي الْأَجَلِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْلَاءَ إلَى الْمَطْلُوبِ إذَا أَحْسَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَمْلَى غَيْرَهُ وَأَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِهِ جَازَ; لِأَنَّهُ أَثْبَتَ فِي الْإِقْرَارِ وَأَذْكُرُ لِلشُّهُودِ مَتَى أَرَادُوا أَنْ يَتَذَكَّرُوا الشَّهَادَةَ، وَكَانَ الْإِمْلَاءُ سَبَبًا لِلِاسْتِذْكَارِ كَمَا أَمَرَ بِاسْتِشْهَادِ امْرَأَتَيْنِ لِتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ

هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} قَدْ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ مُوجِبِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَمِنْ مُبْطِلِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَاحْتَجَّ مُثْبِتُو الْحَجْرِ لِلسَّفِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فَأَجَازَ لِوَلِيِّ السَّفِيهِ الْإِمْلَاءَ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ مُبْطِلُو الْحَجْرِ بِمَا فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ مِنْ جَوَازِ مُدَايَنَةِ السَّفِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} فَأَجَازَ مُدَايَنَةَ السَّفِيهِ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ فِي مُدَايَنَتِهِ; وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي إمْلَاءِ الْكِتَابِ لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ شَرْطُ الْوَثِيقَةِ. وَقَالُوا: إن قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ وَلِيُّ الدَّيْنِ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، قَالُوا: وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلِيَّ السَّفِيهِ عَلَى مَعْنَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إقْرَارَ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ وَلِيُّ الدَّيْنِ، فَأَمَرَ بِإِمْلَاءِ الْكِتَابِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي السَّفِيهِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: "هُوَ الصَّبِيُّ" رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قَالَ: "الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "النِّسَاءُ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "لَا تُعْطَى الْجَارِيَةُ مَالَهَا وَإِنْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ". وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّتِي لَا تَقُومُ بِحِفْظِ الْمَالِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ ضَابِطَةً لَأَمْرِهَا حَافِظَةً لِمَالِهَا دُفِعَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ بَالِغًا قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَجُوزُ لِامْرَأَةِ مُمَلَّكَةٍ عَطِيَّةٌ حَتَّى تَحْبَلَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلًا أَوْ تَلِدَ بَطْنًا" وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ. وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: "لَا تَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ حَتَّى تَلِدَ أَوْ يُؤْنَسَ رُشْدُهَا" وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهَا، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَدٍّ فِي اسْتِحْقَاقِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهَا لِأَنَّهَا لَوْ أَحَالَتْ حَوْلًا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدَتْ بُطُونًا وَهِيَ غَيْرُ مُؤْنِسَةٍ لِلرُّشْدِ وَلَا ضَابِطَةٍ لِأَمْرِهَا لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهَا مَالُهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى السَّفَهَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا أَرَادَ بِهِ السَّفَهَ فِي الدِّينِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِهِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] وقَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142] فَهَذَا هُوَ السَّفَهُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْخِفَّةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يَعْنِي: لَا يَقْتُلُ بعضكم بعضا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وَالْمَعْنَى: لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَهَذَا الَّذِي

ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عُدُولٌ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] يَشْتَمِلُ عَلَى فَرِيقَيْنِ مِنْ النَّاسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمَيَّزٌ فِي اللَّفْظِ مِنْ الْآخَرِ، وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ السُّفَهَاءُ الْمَذْكُورُونَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ ذَلِكَ إلَى أَمْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ دُونَ السُّفَهَاءِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السُّفَهَاءَ لِأَنَّ السُّفَهَاءَ لَمْ يَتَوَجَّهْ الْخِطَابُ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى الْعُقَلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ وَالْمَقْتُولِينَ قَدْ انْتَظَمَهُمْ خِطَابٌ وَاحِدٌ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرِ فِي حُكْمِ الْمُخَاطَبَةِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَلْيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَدْ قِيلَ أَنَّ أَصْلَ السَّفَهِ الْخِفَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ يَعْنِي: اسْتَخَفَّتْهَا الرِّيَاحُ. وَقَالَ آخَرُ: نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامَنَا ... فَنَحْمِلَ الدَّهْرَ مَعَ الْحَامِلِ أَيْ: تُخَفَّ أَحْلَامُنَا. وَيُسَمَّى الْجَاهِلُ سَفِيهًا لِأَنَّهُ خَفِيفُ الْعَقْلِ نَاقِصُهُ; فَمَعْنَى الْجَهْلِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفِيهِ. وَالسَّفِيهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ هُوَ الْجَاهِلُ فِيهِ، وَالسَّفِيهُ فِي الْمَالِ هُوَ الْجَاهِلُ لَحِفْظِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ اسْمُ السُّفَهَاءِ لِجَهْلِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ، وَالسَّفِيهُ فِي رَأْيِهِ الْجَاهِلُ فِيهِ وَالْبَذِيُّ اللِّسَانِ يُسَمَّى سَفِيهًا لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُنْفِقُ إلَّا فِي جُهَّالِ النَّاسِ وَمَنْ كَانَ خَفِيفَ الْعَقْلِ مِنْهُمْ. وَإِذَا كَانَ اسْمُ السَّفِيهِ يَنْتَظِمُ هَذِهِ الْوُجُوهَ رَجَعْنَا إلَى مُقْتَضَى لَفْظِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجَهْلَ بِإِمْلَاءِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا غَيْرَ مُبَذِّرٍ وَلَا مُفْسِدٍ، وَأَجَازَ لِوَلِيِّ الْحَقِّ أَنْ يُمْلِيَهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ السَّفِيهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ; لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِالْمُدَايَنَةِ، وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمَا جَازَتْ مُدَايَنَتُهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِبَيْعٍ أَوْ شِرًى، فَأَمَّا وَلِيُّهُ فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ تَصَرُّفَ أَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِ وَلَا إقْرَارَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ وَلِيَّ السَّفِيهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ وَلِيَّ الدَّيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ أَيْضًا.

وأما قوله: {أَوْ ضَعِيفاً} فَقَدْ قِيلَ فِيهِ الضَّعِيفُ فِي عَقْلِهِ أَوْ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ جَائِزَ الْمُدَايَنَةِ وَالتَّصَرُّفِ فَأَجَازَ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى حَالِ إمْلَاءِ الْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ ذَكَرَ مَنْ لَا يَكْمُلْ لِذَلِكَ إمَّا لِجَهْلٍ بِالشُّرُوطِ أَوْ لِضَعْفِ عَقْلٍ لَا يُحْسِنُ مَعَهُ الْإِمْلَاءَ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ نُقْصَانُ عَقْلِهِ حَجْرًا عَلَيْهِ، وَإِمَّا لِصِغَرٍ أَوْ لِحَرْفٍ وَكِبَرِ سِنٍّ; لِأَنَّ قوله تعالى: {أَوْ ضَعِيفاً} مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَيَنْتَظِمُهُمَا. وَذَكَرَ مَعَهُمَا مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ إمَّا لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ انْفَلَتَ لِسَانُهُ عَنْ الْإِمْلَاءِ أَوْ لِخَرَسٍ; ذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُرَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يَلْحَقُهُ اسْمُ السَّفِيهِ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ السَّفَهَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَوِي تَحْتَهُ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ السَّفَهِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ سُفَهَاءُ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِلْحَجْرِ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَمِنْهَا: السَّفَهُ الَّذِي هُوَ الْبِذَاءُ وَالتَّسَرُّعُ إلَى سُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ يَكُونُ السَّفِيهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ السَّفَهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ غَيْرَ مُفْسِدِهِ وَلَا مُبَذِّرِهِ; وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُرِيدُ أَهْلَكَهَا وَأَوْبَقَهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسِي دَهِينًا وَقَمِيصِي غَسِيلًا وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا، أَفَمِنْ الْكِبْرِ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا إنَّمَا الْكِبْرُ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ" وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يُرِيدَ: مَنْ جَهِلَ الْحَقَّ لِأَنَّ الْجَهْلَ يُسَمَّى سفها والله تعالى أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ لَا لِسَفَهٍ وَلَا لِتَبْذِيرٍ وَلَا لِدَيْنٍ وَإِفْلَاسٍ، وَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ تَصَرُّفٍ فِي مَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ فَكَانَ فَاسِدًا وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ بَاعَهُ جَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ; وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَهَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ. وَقَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْحَجْرِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "لَا يُحْجَرُ عَلَى حُرٍّ". وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "لَا يُحْجَرُ عَلَى حُرٍّ إنَّمَا يُحْجَرُ عَلَى الْعَبْدِ"، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إذَا كَانَ سَفِيهًا حَجَرْت عَلَيْهِ وَإِذَا فَلَّسْته وَحَبَسْته حَجَرْت عَلَيْهِ، وَلَمْ أَجُزْ بَيْعَهُ وَلَا شِرَاءَهُ وَلَا إقْرَارَهُ بِدَيْنٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ

عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْحَجْرِ بِمِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ، وَمَزِيدٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي الْحَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مَعَهَا الْحَجْرَ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَحْجُرْ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: "لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِيهِ حَتَّى يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَيَكُونَ بِذَلِكَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "إذَا بَلَغَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مَالُهُ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، فَمَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيهِ فَإِنْ رَأَى إجَازَتَهُ أَجَازَهُ، وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ عَلَى الَّذِي بَلَغَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ" وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ الْقَاسِم عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "وَمَنْ أَرَادَ الْحَجْرَ عَلَى مُوَلِّيهِ فَلْيَحْجُرْ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ حَتَّى يُوقِفَهُ لِلنَّاسِ وَيَسْمَعَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ وَيُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَرُدُّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا بُويِعَ وَمَا أَدَانَ بِهِ السَّفِيهَ، فَلَا يَلْحَقُهُ ذَلِكَ إذَا صَلَحَتْ حَالُهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَقَدْ ادَّانَ فَلَا يُقْضَى عَنْهُ وَهُوَ فِي مَوْتِهِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ; وَإِذَا بَلَغَ الْوَلَدُ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ شَيْخًا ضَعِيفًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُوَلًّى عَلَيْهِ أَوْ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا فِي عَقْلِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ". وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] قَالَ: "الْعَقْلُ وَالْحِفْظُ لِمَالِهِ" وَكَانَ يَقُولُ: "إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ خَصْلَتَانِ إذَا بَلَغَ الْحُلُمَ وَكَانَ حَافِظًا لِمَالِهِ لَا يُخْدَعُ عَنْهُ". وَحَكَى الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ: "وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِأَمْرَيْنِ لَمْ يُدْفَعْ إلَّا بِهِمَا، وَهُمَا الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ بِكَوْنِ الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ مَعَ إصْلَاحِ الْمَالِ، وَالْمَرْأَةُ إذَا أُونِسَ مِنْهَا الرُّشْدَ دُفِعَ إلَيْهَا مَالُهَا تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، كَالْغُلَامِ نَكَحَ أَوْ لَمْ يَنْكِحْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَذْكُرْ تَزْوِيجًا; وَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فِي سَفَهِهِ وَإِفْسَادِهِ مَالِهِ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ بَايَعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ، وَمَتَى أُطْلِقَ عَنْهُ الْحَجْرُ ثُمَّ عَادَ إلَى حَالِ الْحَجْرِ حُجِرَ عَلَيْهِ، وَمَتَى رَجَعَ إلَى حَالِ الْإِطْلَاقِ أُطْلِقَ عَنْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا مَا احْتَجَّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ مُبْطِلِي الْحَجْرِ وَمِنْ مُثْبِتِيهِ مِنْ دَلَالَةِ آيَةِ الدَّيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ دَلَالَتِهَا بُطْلَانُ الْحَجْرِ وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ. وَاحْتَجَّ مُثْبِتُو الْحَجْرِ بِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَتَى الزُّبَيْرَ فَقَالَ: إنِّي ابْتَعْت بَيْعًا ثُمَّ إنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيَّ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: فَإِنِّي شَرِيكُك فِي الْبَيْعِ فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي هَذَا الْبَيْعِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنهم

جَمِيعًا قَدْ رَأَوْا الْحَجْرَ جَائِزًا، وَمُشَارَكَةُ الزُّبَيْرِ لِيَدْفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الزُّبَيْرَ رَأَى الْحَجْرَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَسْوِيغِهِ لِعُثْمَانَ الْحَجْرَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ إيَّاهُ فِيهِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: الْحَجْرِ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ، وَالْآخَرِ: فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمَالِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ الَّذِي رَآهُ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ مَالِهِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ سِنُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى أَنْ لَا يُدْفَعَ إلَيْهِ مَالُهُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ السِّنِّ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ; وَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ أَبَى الْحَجْرَ، فَكَيْفَ يُدَّعَى فِيهِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ؟ وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَلَغَهُ أَنَّهَا بَاعَتْ بَعْضَ رُبَاعِهَا فَقَالَ: لَتَنْتَهِيَنَّ وَإِلَّا حَجَرْت عَلَيْهَا فَبَلَغَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَهُ أَبَدًا قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ قَدْ رَأَيَا الْحَجْرَ، إلَّا أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَجْرِ; فَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَتْ أَنَّ الْحَجْرَ لَا يَجُوزُ وَلَرَدَّتْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ظَهَرَ النَّكِيرُ مِنْهَا فِي الْحَجْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَ الْحَجْرَ جَائِزًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَنْكَرْته إنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ النَّكِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي جَوَازِ الْحَجْرِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَمْ تُسَوِّغْ الِاجْتِهَادَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهَا فَأَمَّا فِي الْحَجْرِ مُطْلَقًا فَلَا، وَلَوْ كَانَتْ لَا تُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي جَوَازِ الْحَجْرِ لَقَالَتْ "إنَّ الْحَجْرَ غَيْرُ جَائِزٍ" فَتَكْتَفِي بِذَلِكَ فِي إنْكَارِهَا الْحَجْرِ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: قَدْ أَنْكَرَتْ الْحَجْرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهَا "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَهُ أَبَدًا" وَدَعْوَاك أَنَّهَا أَنْكَرَتْ الْحَجْرَ عَلَيْهَا خَاصَّةً دُونَ إنْكَارِهَا لِأَصْلِ الْحَجْرِ لَا دَلَالَةَ مَعَهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجْرِ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" فَكَانَ الرَّجُلُ إذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِلَابَةَ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو ثَوْرٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ مُحَمَّدٌ: عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عهد

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَأَتَى بِهِ أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُحْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ فَقُلْ هَا وَهَا وَلَا خِلَابَةَ". فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَيْعُ وَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْمَنْعِ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" فَإِنَّمَا أَجَازَ لَهُ الْبَيْعَ عَلَى شَرِيطَةِ اسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ. قِيلَ لَهُ: فَلْيَرْضَ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ مِنَّا عَلَى مَا رَضِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا السَّفِيهِ الَّذِي كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ; وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ عَلَى السُّفَهَاءِ لَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ وَلَا مِنْ نُفَاتِهِ; لِأَنَّ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ يَقُولُ: "يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ" وَلَا يَرَوْنَ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لَهُ مَعَ التَّقْدِمَةِ إلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْبَيْعِ "لَا خِلَابَةَ" وَمُبْطِلُو الْحَجْرِ يُجِيزُونَ تَصَرُّفَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ فَقَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذَا الْخَبَرِ بُطْلَانُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا. وَأَيْضًا فَإِنْ جَازَتْ الثِّقَةُ بِهِ فِي ضَبْطِ هَذَا الشَّرْطِ وَذَكَرَهُ عِنْدَ سَائِرِ الْمُبَايَعَاتِ فَقَدْ تَجُوزُ الثِّقَةُ بِهِ فِي ضَبْطِ عُقُودِ الْمُبَايَعَاتِ وَنَفْيِ الْمُغَابَنَاتِ عَنْهَا. وَاللَّفْظُ الَّذِي فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ: "إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: "إنَّ السَّفِيهَ إذَا بَلَغَ فَرُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْحَاكِمِ أَجَازَ مِنْ عُقُودِهِ مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مُغَابَنَةٌ وَضَرَرٌ" فَأَمَّا سَائِرُ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلْأَثَرِ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَا يُجِيزُ بَيْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْقَاضِي فَيُجِيزَهُ فَيَجْعَلَهُ بَيْعًا مَوْقُوفًا كَبَيْعِ أَجْنَبِيٍّ لَوْ بَاعَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَالنَّبِيُّ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْعَ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: "إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" مَوْقُوفًا، بَلْ جَعَلَهُ جَائِزًا نَافِذًا إذَا قَالَ: "لَا خِلَابَةَ" فَصَارَ مَذْهَبُ مُثْبِتِي الْحَجْرِ مُخَالِفًا لِهَذَا الْأَثَرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا; فَأَمَّا مُثْبِتُو الْحَجْرِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ أَهْلَهُ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُحْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ; وَلَمَّا قَالَ: "لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ" قَالَ: "إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" فَأَطْلَقَ لَهُ الْبَيْعَ عَلَى شَرِيطَةِ نَفْيِ التَّغَابُنِ فِيهِ. وَأَمَّا مُبْطِلُوهُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ "إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ" أَطْلَقَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصَرُّفَ وَقَالَ لَهُ: "إذَا بِعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" فَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ وَاجِبًا لَمَا كَانَ قَوْلُهُ "لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ" مُزِيلًا لِلْحَجْرِ عَنْهُ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ مُوجِبِي الْحَجْرِ لَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ لِفَقْدِ صَبْرِهِ عَنْ الْبَيْعِ، وَكَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ الْمُسْتَحِقَّيْنِ لِلْحَجْرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ لَوْ قَالَا "لَا نَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ" لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا مُزِيلًا لِلْحَجْرِ عَنْهُمَا، وَلَمَّا قِيلَ لَهُمَا "إذَا بَايَعْتُمَا فَقُولَا لَا خِلَابَةَ". وَفِي

إطْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ التَّصَرُّفَ عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بَدِيًّا عَنْ الْبَيْعِ وَقَوْلُهُ: "فَقُلْ لَا خِلَابَةَ" عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُ وَالِاحْتِيَاطِ لِمَالِهِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُرِيدُ التِّجَارَةَ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ: "لَا تَغْرُرْ بِمَالِك وَاحْفَظْهُ" وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ; وَلَيْسَ هَذَا بِحَجْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَشُورَةٌ وَحُسْنُ نَظَرٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجْرِ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ السَّفِيهَ يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ، وَذَلِكَ مِمَّا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَا تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ أَوْلَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمَرِيضُ جَائِزُ الْإِقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَلَا هِبَتُهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، فَلَيْسَ جَوَازُ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ أَصْلًا لِلْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ عِنْدَنَا بِجَمِيعِ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا نُبْطِلُهُ إذَا اتَّصَلَ بِمَرَضِهِ الْمَوْتُ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُرَاعًى مُعْتَبَرٌ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ صَارَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِهِ وَهُمْ الْغُرَمَاءُ وَالْوَرَثَةُ، فَأَمَّا تَصَرُّفُهُ فِي الْحَالِ فَهُوَ جَائِزٌ مَا لَمْ يَطْرَأْ الْمَوْتُ; أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَفْسَخُ هِبَتَهُ وَلَا نُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ مِنْ عَبِيدِهِ حَتَّى يَحْدُثَ الْمَوْتُ؟ فَإِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالْمَالِ غَيْرُ مُتَفَرِّقَيْنِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مُثْبِتُو الْحَجْرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الْآيَةَ. فَإِذَا كَانَ التَّبْذِيرُ مَذْمُومًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَيَمْنَعَهُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ; وَكَذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ يَقْتَضِي مَنْعَهُ عَنْ إضَاعَتِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْحَجْرِ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ التَّبْذِيرَ مَحْظُورٌ وَيُنْهَى فَاعِلُهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّبْذِيرِ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ التَّبْذِيرُ فَأَمَّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَيُبْطِلَ بِيَاعَاتِهِ وَإِقْرَارِهِ وَسَائِرِ وُجُوهِ تَصَرُّفِهِ فَإِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ التَّبْذِيرِ فِي شَيْءٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لَوَجَبَ مَنْعُ سَائِرِ الْمُقِرِّينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ لَا تَبْذِيرَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لَوَجَبَ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ سَائِرَ النَّاسِ; وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ النَّهْيُ عَنْ التَّبْذِيرِ وَذَمُّ فَاعِلِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى الْحَجْرِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَبْذِيرَ فِيهَا؟ وَقَدْ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُجِيزُ مِنْ عُقُودِهِ مَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَا إتْلَافَ لِمَالِهِ، إلَّا أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ ذَمُّ الْمُبَذِّرِينَ وَالنَّهْيُ عَنْ التَّبْذِيرِ، وَمَنْ يَنْفِي الْحَجْرَ يَقُولُ إنَّ التَّبْذِيرَ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْ فِعْلِهِ، فَأَمَّا الْحَجْرُ وَمَنْعُ التَّصَرُّفِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إيجَابُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ

مَنْهِيٌّ عَنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِهِ فِي الْبَحْرِ وَفِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفَةِ وَلَا يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ؟ وَلَوْ أَنَّ إنْسَانًا تَرَكَ نَخْلَهُ وَشَجَرَهُ وَزَرْعَهُ لَا يَسْقِيهَا وَتَرَكَ عَقَارَهُ وَدُورَهُ لَا يَعْمُرُهَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَتْلَفَ مَالُهُ؟ كَذَلِكَ لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ الَّتِي يَخَافُ فِيهَا تَوَى مَالِهِ. وَكَذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْحَجْرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّبْذِيرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجْرِ وَجَوَازِ تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، أَنَّ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ سَفَهٌ وَتَبْذِيرٌ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَقَاوِيلِهِمْ مِنْ مُوجِبِي الْحَجْرِ مَا خَلَا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَطَلَ مِنْ عُقُودِهِ وَإِقْرَارِهِ مَا كَانَ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَإِذَا كَانَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي فَمَعْنَى الْحَجْرِ حِينَئِذٍ أَنِّي قَدْ أَبْطَلْت مَا يَعْقِدُهُ أَوْ مَا يُقِرُّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ; لِأَنَّ فِيهِ فَسْخَ عَقْدٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: "كُلُّ بَيْعٍ بِعْتنِيهِ وَعَقْدٍ عَاقَدْتَنِيهِ فَقَدْ فَسَخْته" أَوْ "كُلُّ خِيَارٍ بِشَرِيطَةٍ لِي فِي الْبَيْعِ فَقَدْ أَبْطَلْته" أَوْ تَقُولُ امْرَأَةٌ: "كُلُّ أَمْرٍ تَجْعَلُهُ إلَيَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ أَبْطَلْته" فَهَذَا بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْعُقُودِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَمِمَّا يَلْزَمُ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا فِي هَذَا أَنَّهُمَا يُجِيزَانِ تَزْوِيجَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ الْحَجْرِ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَجْرُ وَاجِبًا لِئَلَّا يَتْلَفَ مَالُهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَصِلُ إلَى إتْلَافِهِ بِالتَّزْوِيجِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْزَمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَتْلَفَ مَالُهُ; فَلَيْسَ إذًا فِي هَذَا الْحَجْرِ احْتِرَازٌ مِنْ إتْلَافِ الْمَالِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الشَّافِعِيِّ فِي إينَاسِ الرُّشْدِ وَاسْتِحْقَاقِ دَفْعِ الْمَالِ جَوَازُ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ، وَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُجِيزَ إقْرَارَاتِ الْفُسَّاقِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَنْ لَا يُجِيزَ بُيُوعَهُمْ وَلَا أَشَرْيَتَهُمْ، وَيَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَى بَيْعِ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ الْقَاضِي مِنْ مُدَّعٍ دَعْوَاهُ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَلَا يَقْبَلَ عَلَيْهِ دَعْوَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُ جَوَازُ شَهَادَتِهِ; إذْ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إقْرَارُ مَنْ لَيْسَ عَلَى صِفَةِ الْعَدَالَةِ وَجَوَازُ الشَّهَادَةِ وَلَا عُقُودُهُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ; وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ مُنْذُ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتَخَاصَمُونَ فِي الْحُقُوقِ، فَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: لَا أَقْبَلُ دَعَاوِيَكُمْ وَلَا أَسْأَلُ أَحَدًا عَنْ دَعْوَى غَيْرِهِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَضْرَمِيُّ الَّذِي خَاصَمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ بِحَضْرَتِهِ، وَلَمْ يُبْطِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُومَتَهُ وَلَا سَأَلَ عَنْ حَالِهِ; وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الحضرمي،

عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي; فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ فَاجِرٌ لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ لَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: "لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ". فَلَوْ كَانَ الْفُجُورُ يُوجِبُ الْحَجْرَ لَسَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهِ أَوْ لَأَبْطَلَ خُصُومَتَهُ لِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزِ الْخُصُومَةِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْلَاكِ وَنَفَاذِ الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارَاتِ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الْفُسُوقِ وَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَجْرِ، فَكَيْفَ يُوجِبُهُ الْفِسْقُ الَّذِي هُوَ دُونَهُ؟ وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَالْأَمْلَاكِ ونفاذ العقود. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَةِ الشُّهُودِ; لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ; وَلَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كَانَ كَقَوْلِهِ مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَعْنَى الْآخَرِ: الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ لِمَا فِي فَحْوَى الْخِطَابِ مِنْ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا قَوْله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وَذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَالْخِطَابُ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْغَيْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْحُرِّيَّةَ. وَالْمَعْنَى الْآخَرِ مِنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ: قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِحْرَازَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] يَعْنِي الْأَحْرَارَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فَلَمْ يَدْخُلْ الْعَبِيدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْكُمْ} ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ جَمِيعًا، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ; لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ وَقَدْ أَمَرَ بِاسْتِشْهَادِ الْأَحْرَارِ فَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قَالَ: "الْأَحْرَارُ". فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَا ذَكَرْت إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا ثَبَتَ بِفَحْوَى خِطَابِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَحْرَارُ. وَكَانَ قَوْله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَمْرًا مُقْتَضِيًا لِلْإِيجَابِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ

قَوْله تَعَالَى: "وَاسْتَشْهِدُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْرَارِ" فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إسْقَاطُ شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ إسْقَاطُ الْعَدَدِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ بُطْلَانَ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي شَهَادَةِ الْعَبِيدِ، فَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "شَهَادَةُ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ جَائِزَةٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْت قَتَادَةَ يُحَدِّثُ "أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَسْتَثْبِتُ الصِّبْيَانَ 1 فِي الشَّهَادَةِ" وَهَذَا يُوهِنُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ. وَرَوَى حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ". وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ كَانَ يَرَاهَا جَائِزَةً، يَأْثَرُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ، وَظَهَرَتْ الْخَوَارِجُ عَلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِهَا، فَأَمَرُوهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ وَبِأَشْيَاءَ ذَكَرُوهَا لَهُ مِنْ آرَائِهِمْ كَانَ عَلَى خِلَافِهَا، فَأَجَابَهُمْ إلَى امْتِثَالِهَا فَأَقَرُّوهُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ; وَلَمَّا جَاءَتْ الدَّوْلَةُ الْهَاشِمِيَّةُ رَدُّوهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "قَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ جَائِزَةٌ بَعْدَ الْعِتْقِ إذَا لَمْ تَكُنْ رُدَّتْ قَبْلَ ذَلِكَ". وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةَ قَالَ: "كَانَ إبْرَاهِيمُ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ". وَرَوَى شُعْبَةُ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ حَفْصٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ فِي شَيْءٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ الدَّلَالَةِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا دُعِيَ فَلْيَشْهَدْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا كَانَ قَدْ أَشْهَدَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ فِي الْحَالَيْنِ. وَالْعَبْدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْإِجَابَةِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَخِدْمَتِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِجَابَةَ، فَدَلَّ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالشَّهَادَةِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ وَإِمْلَائِهِ وَالشَّهَادَةِ؟ وَلَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي خِطَابِ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ; إذْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ غَيْرَ مُتَعَيِّنَةٍ على الشهداء وإنما

_ 1 قوله "يستثبت الصبيان" أي يسألهم ويستعلم منهم فليس المراد استشهادهم ولذلك قال المصنف وهذا يوهن الحديث الأول "لمصححه".

هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فَرْضَ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةُ مَعَ الْإِمْكَانِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِحَقِّ الْمَوْلَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَقَالَ أَيْضًا: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] فَجَعَلَ الْحَاكِمَ شَاهِدًا لِلَّهِ كَمَا جَعَلَ سَائِرَ الشُّهُودِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ حَاكِمًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا; إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ بِهِ يُنَفَّذُ الْحُكْمُ وَيَثْبُتُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ; لِأَنَّ الرِّقَّ وَالْحُرِّيَّةَ لَا تَخْتَلِفُ بِهِمَا الْقُدْرَةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ حُكْمِ أَقْوَالِهِ وَعُقُودِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَمِلْكِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ تَعْبُدُهَا الْعَرَبُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَبُطْلَانِ أَحْكَامِ أَقْوَالِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَلَوْلَا احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ كَلَا شَهَادَةٍ كَعَقْدِهِ وَإِقْرَارِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ، فَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَةُ الْعَبْدِ قَوْلَهُ وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ وُجُوبُ حُكْمِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ أَنَّ الشَّهَادَةَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْجِهَادِ، وَلَوْ حَضَرَهُ وَقَاتَلَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالشَّهَادَةِ، وَمَتَى شَهِدَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الشُّهُودِ، كَمَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ وَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَوَجَبَ أَنْ لَوْ شَهِدَ بِهَا فَحُكِمَ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ غُرْمُ مَا شَهِدَ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ نَفَاذَ الْحُكْمِ بِهَا إذَا أَنْفَذَهَا الْحَاكِمُ مِنْ حُكْمِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْغُرْمُ بِالرُّجُوعِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّا وَجَدْنَا مِيرَاثَ الْأُنْثَى عَلَى النِّصْفِ مِنْ مِيرَاثِ الذَّكَرِ، وَجُعِلَتْ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَمِيرَاثُهَا نِصْفَ مِيرَاثِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ رَأْسًا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ; لِأَنَّا وَجَدْنَا لِنُقْصَانِ الْمِيرَاثِ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْمِيرَاثِ مُوجِبًا لِنَفْيِ الشَّهَادَةِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ مَخْصُوصًا فِي الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ عَلَى الْعَبْدِ; وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ سَوَاءٌ فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فيه.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ خَبَرُ الْعَبْدِ مَقْبُولًا إذَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ رِقُّهُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِ كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْخَبَرُ أَصْلًا لِلشَّهَادَةِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْأَحْكَامِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ فِيهَا؟ وَأَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَلَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؟ وَأَنَّهُ يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ إذَا قَالَ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ لِمَا يَشْهَدُ بِهِ؟ فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْأَخْبَارِ مُخْتَلِفَانِ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَخَبَرُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِقَبُولِ خَبَرِ الْعَبْدِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: "لَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِشَهَادَةِ عَبْدٍ ثُمَّ رَفَعَ إلَيَّ أَبْطَلْت حُكْمَهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلَانِهِ". وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي شَيْءٍ" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ". وَقَالَ مَالِكٌ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَلَا تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَحْدَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَجِيئُوا وَيَعْلَمُوا، فَإِنْ افْتَرَقُوا فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَشْهَدُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَحْرَارِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْجَوَارِي مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْأَحْرَارِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ إبْطَالُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ إبْطَالُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: إنَّ إيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَا يَرَى بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَأْسًا فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ; إذْ جَاءَهُ خَمْسَةُ غِلْمَةٍ فَقَالُوا: كُنَّا سِتَّةً نَتَغَاطُّ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ مِنَّا غُلَامٌ، فَشَهِدَ الثَّلَاثَةُ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ وَشَهِدَ الِاثْنَانِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ غَرَّقُوهُ، فَجَعَلَ عَلَى الِاثْنَيْنِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ خُمُسَيْ الدِّيَةِ. إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَبِيبٍ غَيْرُ مَقْبُولِ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ مُسْتَحِيلٌ لَا يَصْدُقُ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ الْفَرِيقِ إنْ ادَّعُوا عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ أَكْذَبُوهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ ادَّعُوا عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فَهُمْ يُكَذِّبُونَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا; فَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ الْبَالِغِينَ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يملكون عقود

الْمُدَايَنَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الصَّبِيُّ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَجُوزُ; وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ. ثُمَّ قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَلَيْسَ الصِّبْيَانُ مِنْ رِجَالِنَا; وَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِذِكْرِ الْبَالِغِينَ كَانَ قَوْلُهُ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} عَائِدًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يَمْنَعُ أَيْضًا جَوَازَ شَهَادَةِ الصَّبِيِّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} هُوَ نَهْيٌ وَلِلصَّبِيِّ أَنْ يَأْبَى مِنْ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي إحْضَارُهُ لَهَا. ثُمَّ قَوْلُهُ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلصِّغَارِ فَلَا يَلْحَقُهُمْ الْمَأْثَمُ بِكِتْمَانِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَمَانٌ بِالرُّجُوعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ شَهَادَتُهُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ عِنْدَ الرُّجُوعِ. وَأَمَّا إجَازَةُ شَهَادَتِهِمْ فِي الْجِرَاحِ خَاصَّةً وَقَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَجِيئُوا، فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلَالَةٍ وَتَفْرِقَةٌ بَيْنَ مَنْ لَا فَرْقَ فِيهِ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ; لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَجِيئُوا فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ هُمْ الْجُنَاةُ وَيَكُونَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ عَادَةِ الصِّبْيَانِ إذَا كَانَ مِنْهُمْ جِنَايَةٌ أَحَالَتْهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا شَرَطَ اللَّهُ فِي الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةَ وَأَوْعَدَ شَاهِدَ الزُّورِ مَا أَوْعَدَهُ بِهِ وَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفُسَّاقِ وَمَنْ لَا يَزَعُ عَنْ الْكَذِبِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الشَّهَادَةِ، فَكَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِكَذِبِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجِزٌ عَنْ الْكَذِبِ وَلَا حَيَاءٌ يَرْدَعُهُ وَلَا مُرُوءَةٌ تَمْنَعُهُ؟ وَقَدْ يَضْرِبُ النَّاسُ الْمَثَلَ بِكَذِبِ الصِّبْيَانِ فَيَقُولُونَ: "هَذَا أَكْذَبُ مِنْ صَبِيٍّ" فَكَيْفَ يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ؟ فَإِنْ كَانَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ حَالُهُمْ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ وَقَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ دُونَ تَلْقِينِ غَيْرِهِ; فَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ لِأَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْكَذِبَ كَمَا يَعْرِفُونَ الصِّدْقَ إذَا كَانُوا قَدْ بَلَغُوا الْحَدَّ الَّذِي يَقُومُونَ بِمَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالْعِبَارَةِ عَمَّا شَهِدُوا; وَقَدْ يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، مِنْهَا: خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ تُنْسَبَ إلَيْهِمْ الْجِنَايَةُ، أَوْ قَصْدًا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْمَكْرُوهِ، وَمَعَانِي غَيْرِ ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِصِدْقِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، كَمَا لَا يَحْكُمُ لَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ وَلَا يَتَعَمَّدُونَ لِشَهَادَةِ الزُّورِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْإِنَاثِ كَمَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الذُّكُورِ، وَتُقْبَلَ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ كَمَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْجَمَاعَةِ; فَإِذَا اُعْتُبِرَ الْعَدَدُ فِي ذَلِكَ وَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ اخْتِصَاصِهَا فِي الْجِرَاحِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَوَاجِبٌ أَنْ

يُسْتَوْفَى لَهَا سَائِرُ شُرُوطِهَا مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةِ. وَمِنْ حَيْثُ أَجَازُوا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَوَاجِبٌ إجَازَتُهَا عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْهَا عَلَى الرِّجَالِ; إذْ هُمْ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ; وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِحَالٍ" وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِحَالٍ"، وَرُوِيَ عَنْ أَشْعَثَ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: "إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي شَيْءٍ رَآهُ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ". وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي طُعْمَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ جُبَيْرٍ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ شَهِدَ أَعْمَى عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى شَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ إيَاسٌ: لَا نَرُدُّ شَهَادَتَك إلَّا أَنْ لَا تَكُونَ عَدْلًا، وَلَكِنَّك أَعْمَى لَا تُبْصِرُ قَالَ: فَلَمْ يَقْبَلْهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْعَمَى جَازَتْ، وَمَا عَلِمَهُ فِي حَالِ الْعَمَى لَمْ تَجُزْ". وَقَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ: "شَهَادَةُ الْأَعْمَى جَائِزَةٌ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "شَهَادَةُ الْأَعْمَى جَائِزَةٌ، وَإِنْ عَلِمَهُ فِي حَالِ الْعَمَى إذَا عَرَفَ الصَّوْتَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى زِنَا أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ". وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ الْبَلْخِيّ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى يُعْرَفُ بـ خَتّ 1 قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ مَسْمُولٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: "تَرَى هَذِهِ الشَّمْسَ؟ 2 فَاشْهَدْ! وَإِلَّا فَدَعْ" فَجَعَلَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ مُعَايَنَةَ الشَّاهِدِ لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَالْأَعْمَى لَا يُعَايِنُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَعْمَى يَشْهَدُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْتَ قَدْ يُشْبِهُ الصَّوْتَ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُحَاكِي صَوْتَ غَيْرِهِ وَنَغْمَتَهُ حَتَّى لَا يُغَادِرَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَشُكُّ سَامِعُهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ أَنَّهُ الْمَحْكِيُّ صَوْتُهُ؟ فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ شَهَادَتِهِ عَلَى الصَّوْتِ; إذْ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى يَقِينٍ وَإِنَّمَا يُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى غالب الظن. وأيضا

_ 1 قوله: "خت" بفتح الخاء المعجمة تشديد التاء المثناة، علم على يحيى بن موسى أحد أشياخ البخاري. "لمصححه". 2 قوله: "ترى هذه الشمس" هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا، ومعناه: أن تر المشهود مثل الشمس فاشهد. "لمصححه".

فَإِنَّ الشَّاهِدَ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ عَبَّرَ بِلَفْظٍ غَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَقُولَ "أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ" لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، فَعَلِمْت أَنَّهَا حِينَ كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي مُشَاهَدَةَ الْمَشْهُودِ بِهِ وَمُعَايَنَتَهُ، فَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ مَنْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِّ وَشَهِدَ عَنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَجُوزُ لِلْأَعْمَى إقْدَامُهُ عَلَى وَطْءِ امْرَأَتِهِ إذَا عَرَفَ صَوْتَهَا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ يَقِينٌ لَيْسَ بِشَكٍّ; ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ بِالشَّكِّ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْءِ امْرَأَتِهِ بِغَالِبِ الظَّنِّ بِأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ وَقِيلَ لَهُ هَذِهِ امْرَأَتُك وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّةِ جَارِيَةٍ بِقَوْلِ الرَّسُولِ، وَيَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهَا. وَلَوْلَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ عَنْ زَيْدٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ قَذْفٍ لَمَا جَازَ لَهُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِأَنَّ سَبِيلَ الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ وَالْمُشَاهَدَةُ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذُكِرَتْ يَجُوزُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ غَالِبِ الظَّنِّ وَقَبُولُ قَوْلِ الْوَاحِدِ; فَلَيْسَ ذَلِكَ إذًا أَصْلًا لِلشَّهَادَةِ. وَأَمَّا إذَا اُسْتُشْهِدَ وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ، فَإِنَّمَا لَمْ نَقْبَلْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَالَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَضْعَفُ مِنْ حَالِ الْأَدَاءِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ ثُمَّ يُؤَدِّيَهَا وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ بَالِغٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ أَدَّاهَا وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ كَافِرٌ لَمْ تَجُزْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حَالَ الْأَدَاءِ أَوْلَى بِالتَّأْكِيدِ مِنْ حَالِ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُ الْأَعْمَى لِلشَّهَادَةِ وَكَانَ الْعَمَى مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ التَّحَمُّلِ، وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ. وَأَيْضًا لَوْ اسْتَشْهَدَهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ لَمَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّاهَا وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ; وَالْعَمَى حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ. وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ قَالَ: يَصِحُّ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ بِمُعَايَنَتِهِ ثُمَّ يَشْهَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَهَا; فَكَذَلِكَ عَمَى الشَّاهِدِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الشَّاهِدِ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ قَبِلْنَاهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَمْ نَقْبَلْهَا، وَالْأَعْمَى قَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِعَمَاهُ فَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ فَإِنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ عَلَيْهِمَا صَحِيحَةٌ; إذْ لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَغَيْبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَمَوْتُهُ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ فَلِذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ. وَالْوَجْهِ الْآخَرِ أَنَّا لَا نُجِيزُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ عَنْهُ خَصْمٌ فَتَقَعُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ فَيَقُومُ حُضُورُهُ مَقَامَ حُضُورِ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ، وَالْأَعْمَى فِي مَعْنَى مَنْ يَشْهَدُ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ فَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ. فَإِنْ احْتَجُّوا بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا

شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَالْأَعْمَى قَدْ يَكُونُ مَرْضِيًّا وَهُوَ مِنْ رِجَالِنَا الْأَحْرَارِ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي قَبُولَ شَهَادَتِهِ. قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا} وَالْأَعْمَى لَا يَصِحُّ اسْتِشْهَادُهُ لِأَنَّ الِاسْتِشْهَادَ هُوَ إحْضَارُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَمُعَايَنَتُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَايِنٍ وَلَا مُشَاهِدٍ لِمَنْ يَحْضُرُهُ; لِأَنَّ الْعَمَى حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ كَحَائِطٍ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ إنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَمُعَايَنَتِهِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الشَّهَادَةُ إثْبَاتَ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْدُومًا فِي الْأَعْمَى، وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُ. فَهَذِهِ الْآيَةُ لَأَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَدُلَّ عَلَى إجَازَتِهَا. وَقَالَ زُفَرُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إذَا شَهِدَ بِهَا قَبْلَ الْعَمَى أَوْ بَعْدَهُ إلَّا فِي النَّسَبِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانًا ابْنَ فُلَانٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ النَّسَبَ قَدْ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ الشَّاهِدُ، فَلِذَلِكَ جَائِزٌ إذَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْأَعْمَى الْخَبَرُ بِأَنَّ فُلَانًا ابْنَ فُلَانٍ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَتَكُونُ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً. وَيُسْتَدَلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ سَوَاءٌ فِيمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ الْمُخْبِرِينَ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُ أَخْبَارَهُمْ; فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ عِلْمُ صِحَّةِ النَّسَبِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ الْمُخْبِرِينَ، فَتَجُوزُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ وَتَكُونُ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً فِيهِ; إذْ لَيْسَ شَرْطُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مُعَايَنَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "هِيَ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا" وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدْوِيٍّ عَلَى قَرَوِيٍّ إلَّا فِي الْجِرَاحِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدْوِيٍّ عَلَى قَرَوِيٍّ فِي الْحَضَرِ إلَّا فِي وَصِيَّةِ الْقَرَوِيِّ فِي السَّفَرِ أَوْ فِي بَيْعٍ، فَتَجُوزُ إذَا كَانُوا عُدُولًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ وَالْبَدْوِيِّ; لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} وَهَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يَعْنِي مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَحْرَارِ، وَهَذِهِ صِفَةُ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَإِذَا كَانُوا عُدُولًا فَهُمْ مَرْضِيُّونَ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي شَأْنِ الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَهَذِهِ الصِّفَةُ

شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ إذَا كَانُوا عُدُولًا، وَفِي تَخْصِيصِ الْقَرَوِيِّ بِهَا دُونَ الْبَدْوِيِّ تَرْكُ الْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ مُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وبقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْبَدْوِيِّ عَلَى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ عَلَى شَرْطِ الْآيَةِ. وَإِذَا كَانُوا مُرَادِينَ بِالْآيَةِ فَقَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْقَرَوِيِّ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدْوِيِّ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِدْ بْنِ الْهَادِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ" فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِرَاحِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَرَوِيُّ فِي السَّفَرِ أَوْ فِي الْحَضَرِ فَقَدْ خَالَفَ الْمُحْتَجُّ بِهِ مَا اقْتَضَاهُ عُمُومُهُ. وَقَدْ رَوَى سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ شَهِدَ أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَأَمَرَ بِلَالًا يُنَادِي فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَعْرَابِيٍّ شَهِدَ شَهَادَةً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَهَا مِمَّا يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فَأَخْبَرَ بِهِ، فَنَقَلَهُ الرَّاوِي مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ غَالِبَيْنِ عَلَى الْأَعْرَابِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] فَإِنَّمَا مَنَعَ قَبُولَ شَهَادَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِنْ الْأَعْرَابِ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ بَعْدَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَدَحَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] الْآيَةَ. فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَهُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ. وَلَا يَخْلُو الْبَدْوِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَرَوِيِّ، إمَّا لِطَعْنٍ فِي دِينِهِ أَوْ جَهْلٍ مِنْهُ بِأَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ وَمَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مِنْهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ; فَإِنْ كَانَ لِطَعْنٍ فِي دِينِهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِي بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْبَدْوِيِّ وَالْقَرَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ لِجَهْلٍ مِنْهُ بِأَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ عَلَى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ وَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ وَلَا عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي السَّفَرِ، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَرَوِيِّ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الْبَدْوِيِّ إذَا كَانَ عَدْلًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَرَوِيِّ وَعَلَى غَيْرِهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لُزُومَ سِمَةَ الْبَدْوِ إيَّاهُ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ عِلَّةٌ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ كَمَا لَا تُجْعَلُ نِسْبَةُ الْقَرَوِيِّ إلَى الْقَرْيَةِ عِلَّةً لِجَوَازِ

شَهَادَتِهِ إذَا كَانَ مُجَانِبًا لِلصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوْجَبَ بَدِيًّا اسْتِشْهَادَ شَهِيدَيْنِ، وَهُمَا الشَّاهِدَانِ; لِأَنَّ الشَّهِيدَ وَالشَّاهِدَ وَاحِدٌ كَمَا أَنَّ عَلِيمًا وَعَالِمًا وَاحِدٌ وَقَادِرًا وَقَدِيرًا وَاحِدٌ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} يَعْنِي إنْ لَمْ يَكُنْ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} مِنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ "فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ" كَقَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} [النساء: 43] وَكَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فِي الْأَبْدَالِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ أَصْلِ الْفَرْضِ عِنْدَ عَدَمِهِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَالشَّهِيدَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ" فَأَفَادَنَا إثْبَاتَ هَذَا الِاسْمِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ عُمُومُهُ فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ; فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ فَثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ تَسْمِيَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْمًا شَرْعِيًّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا أُمِرْنَا فِيهِ بِاسْتِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ، إلَّا مَوْضِعًا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ" وَإِثْبَاتُ النِّكَاحِ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ; إذْ قَدْ لَحِقَ اسْمُ شَهِيدَيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لَا فِي الْحُدُودِ وَلَا فِي الْقِصَاصِ وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: "أَنَّ عُمَرَ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ: "أَنَّ عُمَرَ أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي طَلَاقٍ". وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ. عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْعَقْدِ". وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرَّجُلِ فِي النِّكَاحِ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: "أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الطَّلَاقِ". وَرُوِيَ عَنْ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ: "أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي عِتْقٍ" وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي الطَّلَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: "لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا فِي الدَّيْنِ وَالْوَلَدِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي

الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَا فِي الطَّلَاقِ وَلَا فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الْأَنْسَابِ وَلَا فِي الْوَلَاءِ وَلَا فِي الْإِحْصَانِ، وَتَجُوزُ فِي الْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِتْقٌ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الْحُدُودَ" وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ وَلَا تَجُوزُ فِي النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا الْحُدُودِ وَلَا قَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقَادُ مِنْهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا الرَّجُلُ، وَتَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ شَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَهِيَ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى دَيْنٍ سَوَاءٌ كَانَ بَدَلُهُ مَالًا أَوْ بُضْعًا أَوْ مَنَافِعَ أَوْ دَمٍ عَمْدٍ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ فِيهِ دَيْنٌ; إذْ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْبَدَلَيْنِ دَيْنَيْنِ، لِامْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ وُجُودُ دَيْنٍ عَنْ بَدَلٍ أَيَّ دَيْنٍ كَانَ; فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرَّجُلِ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ فِيهِ مَهْرٌ مُؤَجَّلٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَقْدُ مُدَايَنَةٍ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْخُلْعِ عَلَى مَالِ الْإِجَارَاتِ. فَمَنْ ادَّعَى خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ، إذْ كَانَ الْعُمُومُ مُقْتَضِيًا لِجَوَازِهَا فِي الْجَمِيعِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن الْقَاسِمِ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَخُو أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَالْوِلَادَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَجَازَ شَهَادَتَهَا عَلَيْهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِالْأَمْوَالِ; وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعَدَدِ. وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الشَّهِيدَيْنِ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْبَيِّنَةِ يَتَنَاوَلُ الشَّهِيدَيْنِ، وَجَبَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي كُلِّ دَعْوَى; إذْ قَدْ شَمِلَهُمْ اسْمُ الْبَيِّنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهَا الِاسْمُ وَجَبَ بِحَقِّ الْعُمُومِ قَبُولُهَا لِكُلِّ مُدَّعٍ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ قَالَ: "مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلَا فِي الْقِصَاصِ". وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرَّجُلِ فِي الدُّيُونِ وَجَبَ قَبُولُهَا فِي كُلِّ حَقٍّ لَا تُسْقِطُهُ

الشُّبْهَةُ; إذْ كَانَ الدَّيْنُ حَقًّا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَازَهَا فِي الْأَجَلِ بِقَوْلِهِ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فَأَجَازَ شَهَادَتَهَا مَعَ الرَّجُلِ عَلَى الْأَجَلِ وَلَيْسَ بِمَالٍ كَمَا أَجَازَهَا فِي الْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَجَلُ لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَالِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْأَجَلَ قَدْ يَجِبُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَفِي مَنَافِعِ الْأَحْرَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَقَدْ يُؤَجِّلُهُ الْحَاكِمُ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الدَّمِ وَعَلَى دَعْوَى الْعَفْوِ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ، فَقَوْلُك: "إنَّ الْأَجَلَ لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَالِ" خَطَأٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْبُضْعُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِمَالٍ وَلَا يَقَعُ النِّكَاحُ إلَّا بِمَالٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُجِيزَ فِيهِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ دِيَانَاتِ النَّاسِ وَأَمَانَاتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ إنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ; إذْ لَا يَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وَلَا خَبَايَا أُمُورِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَمْرِ الشهود: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَمْرَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِنَا وَمَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ عَدَالَتِهِمْ وَصَلَاحِ طَرَائِقِهِمْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَغْلِبَ فِي ظَنِّ بَعْضِ النَّاسِ عَدَالَةُ شَاهِدٍ وَأَمَانَتُهُ فَيَكُونُ عِنْدَهُ رِضًى، وَيَغْلِبُ فِي ظَنِّ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرِضًى; فَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} مَبْنِيٌّ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ. وَاَلَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّهَادَةِ أَشْيَاءُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا الْعَدَالَةُ، وَالْآخَرُ نَفْيُ التُّهْمَةِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، وَالثَّالِثُ: التَّيَقُّظُ وَالْحِفْظُ وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ. أَمَّا الْعَدَالَةُ فَأَصْلُهَا الْإِيمَانُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ. وَأَمَّا نَفْيُ التُّهْمَةِ فَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا أَوْ زَوْجًا وَزَوْجَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَدْ شَهِدَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَرُدَّتْ لِتُهْمَةٍ. فَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِمَنْ ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا مَرَضِيَّيْنِ. وَأَمَّا التَّيَقُّظُ وَالْحِفْظُ وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ فَأَنْ لَا يَكُونَ غُفُولًا غَيْرَ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ رُبَّمَا لُقِّنَ الشَّيْءَ فَتَلَقَّنَهُ، وَرُبَّمَا جُوِّزَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ فَشَهِدَ بِهِ. قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ صَوَّامٍ قَوَّامٍ مُغَفَّلٍ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُلَقَّنَ فَيَأْخُذَ بِهِ، قَالَ: هَذَا شَرٌّ مِنْ الْفَاسِقِ فِي شَهَادَتِهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا الْمُحَبِّرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ هِلَالٍ عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إنَّ إيَاسًا رَدَّ شَهَادَتِي فَقَامَ مَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا مَلْكَعَانُ لِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ؟ أَوَ مَا بَلَغَك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ مِنْ ذَبِيحَتِنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ"؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَا سَمِعْت الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ؟ وَإِنَّ صَاحِبَك هَذَا لَيْسَ

نَرْضَاهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا السِّرِّيُّ بْنُ عَاصِمٍ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ: أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، فَبَلَغَ الْحَسَنُ وَقَالَ: قُومُوا بِنَا إلَيْهِ قَالَ: فَجَاءَ إلَى إيَاسٍ فَقَالَ: يَا لُكَعُ تَرُدُّ شَهَادَةَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ أَرْضَى. قَالَ: فَسَكَتَ الْحَسَنُ، فَقَالَ خَصْمُ الشَّيْخِ: فَمِنْ شَرْطِ الرِّضَا لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُتَيَقِّظًا حَافِظًا لِمَا يَسْمَعُهُ مُتْقِنًا لِمَا يُؤَدِّيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صِفَةِ الْعَدْلِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ وَمَا يُشْبِهُ مَا تَجِبُ فِيهِ مِنْ الْعَظَائِمِ وَكَانَ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ; لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ. وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ" قَالَ: "وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْجَمَاعَةِ اسْتِخْفَافًا بِذَلِكَ أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ وَكَانَ عَدْلًا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ" قَالَ: "وَإِنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ لَمْ أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَرُبَّمَا اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَالْخَيْرُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الشَّرِّ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لَيْسَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الذُّنُوبِ". قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ إذَا كَانُوا عُدُولًا، إلَّا صِنْفًا مِنْ الرَّافِضَةِ يُقَالُ لَهُمْ الْخَطَّابِيَّةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا فِيمَا يَدَّعِي إذَا حَلَفَ لَهُ وَيَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ; فَلِذَلِكَ أَبْطَلْت شَهَادَتَهُمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَظْهَرَ شَتِيمَةَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَ شَتَّامًا لِلنَّاسِ وَالْجِيرَانِ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُ، فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ حُرْمَةً". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا وَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ جَائِزَةٌ؟ لِأَنَّهُمْ اقْتَتَلُوا عَلَى تَأْوِيلٍ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ". قَالَ أَبُو يُوسُفَ: "وَمَنْ سَأَلْت عَنْهُ فَقَالُوا إنَّا نَتَّهِمُهُ بِشَتْمِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ هَذَا حَتَّى يَقُولُوا سَمِعْنَاهُ يَشْتُمُ" قَالَ: "فَإِنْ قَالُوا: نَتَّهِمُهُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ نَظُنُّ ذَلِكَ بِهِ وَلَمْ نَرَهُ، فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَا أُجِيزُ شَهَادَتَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا نَتَّهِمُهُ قَدْ أَثْبَتُوا لَهُ الصَّلَاحَ وَقَالُوا نَتَّهِمُهُ بِالشَّتْمِ فَلَا يُقْبَلُ هَذَا إلَّا بِسَمَاعٍ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا نَتَّهِمُهُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَنَظُنُّ ذَلِكَ بِهِ وَلَمْ نَرَهُ فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَا أُجِيزُ شَهَادَتَهُ أَثْبَتُوا لَهُ صَلَاحًا وَعَدَالَةً". وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ; إذْ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شَهِدُوا" قَالَ: قُلْت: وَلِمَ لَا تُجِيزُ شَهَادَتَهُمْ وَأَنْتَ تُجِيزُ شَهَادَةَ الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: "لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا مَا لَمْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا

أَمْوَالَنَا، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَخْرُجُوا". وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ سِمَاعَةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ بَخِيلٍ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ يَحْمِلُهُ شِدَّةُ بُخْلِهِ عَلَى التَّقَصِّي فَيَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ مَخَافَةَ الْغَبْنِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا. سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ يَقُولُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَيُّهَا النَّاسُ كُونُوا وَسَطًا لَا تَكُونُوا بُخَلَاءَ وَلَا سَفَلَةَ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ وَالسَّفَلَةَ الَّذِينَ إنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ لَمْ يُؤَدُّوهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ حَقٌّ اسْتَقْصُوهُ". قَالَ: وَقَالَ: مَا مِنْ طِبَاعِ الْمُؤْمِنِ التَّقَصِّي، مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} . وَحَدَّثَنَا مُكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ قَالَ: سَمِعْت الْحِمَّانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ بُخْلٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ، يَحْمِلُهُ الْبُخْلُ عَلَى التَّقَصِّي، فَمِنْ شِدَّةِ تَقَصِّيهِ يَخَافُ الْغَبْنَ فَيَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ مَخَافَةَ الْغَبْنِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا عَدْلًا". وَقَدْ رُوِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قُلْت لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أُخْبِرْت أَنَّك لَا تُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَشْرَافِ بِالْعِرَاقِ وَلَا الْبُخَلَاءِ وَلَا التُّجَّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ؟ قَالَ أَجَلْ أَمَّا الَّذِينَ يَرْكَبُونَ إلَى الْهِنْدِ حَتَّى يُغَرِّرُوا بِدِينِهِمْ وَيُكْثِرُوا عَدُوَّهُمْ مِنْ أَجْلِ طَمَعِ الدُّنْيَا فَعَرَفْت أَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ دِرْهَمَيْنِ فِي شَهَادَةٍ لَمْ يَتَحَرَّجْ بَعْدَ تَغْرِيرِهِ بِدِينِهِ; وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ فِي قُرَى فَارِسَ فَإِنَّهُمْ يُطْعِمُونَهُمْ الرِّبَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، فَأَبَيْت أَنْ أُجِيزَ شَهَادَةَ آكِلِ الرِّبَا; وَأَمَّا الْأَشْرَافُ فَإِنَّ الشَّرِيفَ بِالْعِرَاقِ إذَا نَابَتْ أَحَدًا مِنْهُمْ نَائِبَةٌ أَتَى إلَى سَيِّدِ قَوْمِهِ فَيَشْهَدُ لَهُ وَيَشْفَعُ، فَكُنْت أَرْسَلْت إلَى عَبْدِ الْأَعْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنْ لَا يَأْتِيَنِي بِشَهَادَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ رَدُّ شَهَادَةِ قَوْمٍ ظَهَرَ مِنْهُمْ أُمُورٌ لَا يُقْطَعُ فِيهَا بِفِسْقِ فَاعِلِيهَا، إلَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى سُخْفٍ أَوْ مُجُونٍ، فَرَأَوْا رَدَّ شَهَادَةِ أَمْثَالِهِمْ، مِنْهُ: ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: أَخْبَرَنِي دَاوُد بْنُ حَاتِمٍ الْبَصْرِيُّ: "أَنَّ بِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ كَانَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ يَأْكُلُ الطِّينَ وَيَنْتِفُ لِحْيَتَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ يَنْتِفُ عَنْفَقَتَهُ وَيُخْفِي لِحْيَتَهُ وَحَوْلَ شَارِبَيْهِ، فَقَالَ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: فُلَانٌ، قَالَ: بَلْ اسْمُك نَاتِفٌ وَرَدَّ شَهَادَتَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ

إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ: دَعَا رَجُلٌ شَاهِدًا لَهُ عِنْدَ شُرَيْحٍ اسْمُهُ رَبِيعَةُ، فَقَالَ: يَا رَبِيعَةَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَالَ: يَا رَبِيعَةَ الْكُوَيْفِرُ فَأَجَابَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: دُعِيت بِاسْمِك فَلَمْ تُجِبْ فَلَمَّا دُعِيت بِالْكُفْرِ أَجَبْت فَقَالَ: أَصْلَحَك اللَّهُ، إنَّمَا هُوَ لَقَبٌ، فَقَالَ لَهُ: قُمْ وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: هَاتِ غَيْرَهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْأَقْلَفُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَزَّم عَنْ "أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْحُمُرِ" يَعْنِي النَّخَّاسِينَ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَامِ وَلَا حَمَّامٍ. وَرَوَى مِسْعَرُ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ شُرَيْحٍ وَهُوَ ضَيِّقُ كُمِّ الْقِبَا، فَرَدَّ شَهَادَتَهُ وَقَالَ: كَيْفَ يَتَوَضَّأُ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ: شَهِدْت بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَا أُجِيزُ لَك الْيَوْمَ شَهَادَةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا رَآهُ تَكَلَّفَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ لَمْ يَرَهُ أَهْلًا لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ مِنْ أَجْلِهَا غَيْرُ مَقْطُوعٍ فِيهَا بِفِسْقِ فَاعِلِيهَا وَلَا سُقُوطِ الْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا دَلَّهُمْ ظَاهِرُهَا عَلَى سُخْفِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَرَدُّوا شَهَادَتَهُمْ مِنْ أَجْلِهَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ تَحَرَّى مُوَافَقَةَ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ سُخْفٌ مِنْ الشَّاهِدِ أَوْ مُجُونُهُ أَوْ اسْتِهَانَتُهُ بِأَمْرِ الدِّينِ أَسْقَطَ شَهَادَتَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي: مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ مَجَانَةٌ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ وَلَا شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ يُطَيِّرُهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، قَالَ: فَقُلْت لِابْنِ أَبِي لَيْلَى: مَثَلُ فُلَانٍ وَحَالُهُ كَذَا وَحَالُ ابْنِهِ كَذَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؟ فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ بِك؟ إنَّهُ فَقِيرٌ. فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَقْرَ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ; إذْ لَا يُؤْمَنُ بِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْفَقْرُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ وَإِقَامِ شَهَادَةٍ بِمَا لَا تَجُوزُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السُّؤَالِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ وَتَجُوزُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ إذَا كَانُوا عُدُولًا" فَشَرَطَ مَالِكٌ مَعَ الْفَقْرِ الْمَسْأَلَةَ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ لِلتُّهْمَةِ وَقَبِلَهَا فِي الْيَسِيرِ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قَبِلْت شَهَادَتَهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْمَعْصِيَةَ وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْت شَهَادَتَهُ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا كَانَ أَكْثَرُ أمره

الطَّاعَةَ وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى كَبِيرَةٍ فَهُوَ عَدْلٌ". فَأَمَّا شَرْطُ الْمُرُوءَةِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّصَاوُنَ وَالصَّمْتَ الْحَسَنَ وَحِفْظَ الْحُرْمَةِ وَتَجَنُّبَ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ نَظَافَةَ الثَّوْبِ وَفَرَاهَةَ الْمَرْكُوبِ وَجَوْدَةَ الْآلَةِ وَالشَّارَةَ الْحَسَنَةَ فَقَدْ أَبْعَدَ وَقَالَ غَيْرَ الْحَقِّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ ذِكْرِ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الشَّهَادَةِ مَا حَكَيْنَا عَنْهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ بَنَى قَبُولَ أَمْرِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا غَلَبَ فِي اجْتِهَادِهِ وَاسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَرْضَى وَيُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ هَلْ يَسْأَلُ عَنْهُ الْحَاكِمُ إذَا شَهِدَ؟ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ إلَى أَبِي مُوسَى فِي الْقَضَاءِ: "الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ". وَقَالَ مَنْصُورٌ: قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ: وَمَا الْعَدْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ. وَذَكَرَ مَعْمَرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ الْحَسَنُ الْقَضَاءَ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ يَجْرَحُ الشَّاهِدَ. وَذَكَرَ هُشَيْمٌ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ شُبْرُمَةَ يَقُولُ: "ثَلَاثٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهِنَّ أَحَدٌ قَبْلِي وَلَنْ يَتْرُكْهُنَّ أَحَدٌ بَعْدِي: الْمَسْأَلَةُ عَنْ الشُّهُودِ، وَإِثْبَاتُ حُجَجِ الْخَصْمَيْنِ، وَتَحْلِيَةُ الشُّهُودِ فِي الْمَسْأَلَةِ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَا أَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ. إلَّا أَنْ يَطْعَنَ فِيهِمْ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنْ طَعَنَ فِيهِمْ سَأَلْت عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَزَكَّيْتهمْ فِي الْعَلَانِيَةِ، إلَّا شُهُودَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنِّي أَسْأَلُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَأُزَكِّيهِمْ فِي الْعَلَانِيَةِ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "يُسْأَلُ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ". وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ فِي السِّرِّ أَنَا، كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَوْمَ إذَا قِيلَ لَهُ: هَاتِ مَنْ يُزَكِّيَك، فَيَقُولُ: قَوْمِي يُزَكُّونَنِي، فَيَسْتَحْيِ الْقَوْمُ فَيُزَكُّونَهُ; فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ سَأَلْت فِي السِّرِّ، فَإِذَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ قُلْت: هَاتِ مَنْ يُزَكِّيَك فِي الْعَلَانِيَةِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "يَسْأَلُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَيُزَكِّيهِمْ فِي الْعَلَانِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِمْ الْخَصْمُ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "أَدْرَكْت النَّاسَ وَلَا تُلْتَمَسُ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ تَزْكِيَةٌ وَإِنَّمَا كَانَ الْوَالِي يَقُولُ لِلْخَصْمِ: إنْ كَانَ عِنْدَك مَنْ يَجْرَحُ شَهَادَتُهُمْ فَأْتِ بِهِ وَإِلَّا أَجَزْنَا شَهَادَتَهُ عَلَيْك". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْأَلُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ فَإِذَا عُدِّلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ عَلَانِيَةً لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُعَدَّلَ هُوَ هَذَا لَا يُوَافِقُ اسْمٌ اسْمًا وَلَا نَسَبٌ نَسَبًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ بِتَعْدِيلِ مَنْ ظَهَرَ إسْلَامُهُ فَإِنَّمَا بَنَى ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُ النَّاسِ مِنْ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِي الْعَامَّةِ وَقِلَّةِ الْفُسَّاقِ فِيهِمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

قَدْ شَهِدَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِلْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ". قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِبْيَانٌ. وَإِنَّمَا حَمَلَ السَّلَفُ وَمَنْ قَالَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِمَّا وَصَفْنَا أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَاحِبُ رِيبَةٍ وَفِسْقٍ كَانَ يُظْهِرُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ وَيَتَبَيَّنُ أَمْرَهُ; وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَتَكَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ الْحَالُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ أَحْوَالَ النَّاسِ بَعْدُ لَقَالَ بِقَوْلِ الْآخَرِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ الشُّهُودِ، وَلَمَا حَكَمَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْعَدَالَةِ إلَّا بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ بِخَبَرِهِ وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ إسْلَامِهِ، لِمَا وَصَفْنَا. فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ أَمْرَ التَّعْدِيلِ وَتَزْكِيَةَ الشُّهُودِ وَكَوْنَهُمْ مَرْضِيِّينَ مَبْنِيٌّ عَلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَغَالِبِ الظَّنِّ لِاسْتِحَالَةِ إحَاطَةِ عُلُومِنَا بِغَيْبِ أُمُورِ النَّاسِ. وَقَدْ حَذَّرَنَا اللَّهُ الِاغْتِرَارَ بِظَاهِرِ حَالِ الْإِنْسَانِ وَالرُّكُونَ إلَى قَوْلِهِ مِمَّا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الصَّلَاحِ وَالْأَمَانَةِ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] الْآيَةَ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مَغِيبِ أَمْرِهِ وَحَقِيقَةِ حَالِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] الْآيَةَ; فَأَعْلَمَنَا ذَلِكَ مِنْ حَالِ بَعْضِ مَنْ يُعْجَبُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي صِفَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] الْآيَةَ; فَحَذَّرَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاغْتِرَارَ بِظَاهِرِ حَالِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فقال: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا الرُّكُونُ إلَى ظَاهِرِ أَمْرِ الْإِنْسَانِ دُونَ التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَتِهِ وَالْبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ، حَتَّى إذَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَتُهُ قَبِلَهَا. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الشُّهُودَ الْمَقْبُولِينَ بِصِفَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا الْعَدَالَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالْأُخْرَى أَنْ يَكُونُوا مَرْضِيِّينَ لِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَالْمَرْضِيُّونَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِفَتِهِمْ الْعَدَالَةُ. وَقَدْ يَكُونُ عَدْلًا غَيْرَ مَرْضِيٍّ فِي الشَّهَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَمْرًا مُغَفَّلًا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ وَالتَّمْوِيهُ، فَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قَدْ انْتَظَمَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالتَّيَقُّظِ وَذَكَاءِ الْفَهْمِ وَشِدَّةِ الْحِفْظِ. وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ ذِكْرَ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ الْعَدَالَةِ وَهِيَ مِنْ شَرْطِهَا الْعَدَالَةُ وَالرِّضَى جَمِيعًا، وَذَلِكَ لقوله عز

وَجَلَّ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي إيجَابِ التَّثَبُّتِ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْفُسَّاقِ، وَالشَّهَادَةُ خَبَرٌ، فَوَجَبَ التَّثَبُّتُ فِيهَا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا. فَلَمَّا نَصَّ اللَّهُ عَلَى التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا قَبُولَ شَهَادَةِ الْعُدُولِ الْمَرْضِيِّينَ وَكَانَ الْفِسْقُ قَدْ يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ وَالْعَدَالَةُ لَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ دُونَ ظَاهِرِ الْحَالِ عَلِمْنَا أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ صَلَاحِ الشَّاهِدِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَكْثَرِ الظَّنِّ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُهَاجِرَاتِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَهَذَا هُوَ عِلْمُ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ; فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ طَرِيقُهُ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ دُونَ الْمُغَيَّبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; إذْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ مِنْ مَعَالِمِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ عُقِدَ بِهَا مَصَالِحُ الْخَلْقِ فِي وَثَائِقِهِمْ وَإِثْبَاتِ حُقُوقِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْأَنْسَابِ وَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ; إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ إمْضَاءُ حُكْمٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ مِنْ طَرِيقِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِإِمَامٍ مَعْصُومٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ; وَاحْتِجَاجُ مَنْ يَحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ كُلَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ دُونَ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ إمَامٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُؤْمَنْ الْخَطَأُ فِيهَا لِأَنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مَأْمُونًا عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَرْضِيِّينَ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ دُونَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُغَيَّبِ أُمُورِهِمْ مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِمْ، ثَبَتَ بُطْلَانُ الْأَصْلِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَ النَّصِّ. فَإِنْ قَالُوا: الْإِمَامُ يَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ. قِيلَ لَهُمْ: فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ غَيْرُ الْإِمَامِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِمَامِ قَاضٍ وَلَا أَمِينٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْعِصْمَةِ وَفِي الْعِلْمِ بِمُغَيَّبِ أَمْرِ الشُّهُودِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ إلَّا مَعْصُومًا مَأْمُونَ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ; فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ حُكَّامٌ وَشُهُودٌ وَأَعْوَانٌ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ ثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَغَالِبِ الظَّنِّ. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ اعْتِبَارِ أَحْوَالٍ الشُّهُودِ بِمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ عَدَالَتِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ; لِأَنَّ الدِّمَاءَ وَالْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَنْسَابَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ عُقِدَ بِهَا مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ مُغَيَّبَ أُمُورِهِمْ وَإِنَّمَا نَحْكُمُ بِشَهَادَاتِهِمْ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ تَجْوِيزِ الْكَذِبِ

وَالْخَطَإِ وَالزَّلَلِ وَالسَّهْوِ عَلَيْهِمْ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ تَجْوِيزُ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالُ غَلَبَةِ الرَّأْيِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَلَا اتِّفَاقَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ الْمُقَصِّرَةِ عَنْ إيجَابِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرَاتِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْحُكْمِ بِهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي الْمُغَيَّبِ بِخِلَافِهِ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ خَبَرِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ. وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى رَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَاهَا لَكِنَّا قَدْ جَعَلْنَا مَنْزِلَةَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ لَمْ يَجِبْ فِي الْأَصْلِ قَبُولُ خَبَرِ النَّبِيِّ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عِلْمُ مُعْجِزَةٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى بَعْضِهَا وَمُخْتَلِفُونَ فِي. بَعْضِهَا; فَمِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بُطْلَانُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ قَالَ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ وَشَهَادَةُ الْأَبِ لَابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ إذَا كَانُوا عُدُولًا مُهَذَّبِينَ مَعْرُوفِينَ بِالْفَضْلِ، وَلَا يَسْتَوِي النَّاسُ فِي ذَلِكَ" فَفَرَّقَ بَيْنَهَا لَوَالِدِهِ وَبَيْنَهَا لِلْأَجْنَبِيِّ. فَأَمَّا أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ شَهَادَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيَّمَا قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَلَا الْأَبِ لَابْنِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ". وَرُوِيَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ لَابْنِهِ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ الْحَذَّاءُ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ لَابْنِهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} وَلَمْ يَذْكُرْ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} قَدْ انْتَظَمَهَا; إذْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إلَى الْآبَاءِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ بُيُوتِهِمْ عَنْ ذِكْرِ بُيُوتِ أَبْنَائِهِمْ; وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" فَأَضَافَ الْمِلْكَ إلَيْهِ; وَقَالَ: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ"، فَلَمَّا أَضَافَ مِلْكَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ وَأَبَاحَ أَكْلَهُ لَهُ وَسَمَّاهُ لَهُ كَسْبًا كَانَ الْمُثْبِتُ لِابْنِهِ حَقًّا بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مُثْبِتِهِ لِنَفْسِهِ،

وَمَعْلُومٌ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لِابْنِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الِابْنِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا فَوَاجِبٌ قَبُولُ شَهَادَتِهِ لِهَؤُلَاءِ كَمَا تَقَبَّلَهَا لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُهَا لِلْأَجْنَبِيِّ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الشَّهَادَةِ لِابْنِهِ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ فَجَائِزٌ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ. قِيلَ لَهُ لَيْسَتْ التُّهْمَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِابْنِهِ وَلِأَبِيهِ تُهْمَةُ فِسْقٍ وَلَا كَذِبٍ، وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَصِيرُ فِيهَا بِمَعْنَى الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ وَصَحَّتْ عَدَالَتُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ، لَا عَلَى جِهَةِ تَكْذِيبِهِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ فَدَعْوَاهُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِهَا؟ فَالشَّاهِدُ لِابْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ لِمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ كُلَّ شَاهِدٍ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا أَوْ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا فَغَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقُومُ مَقَامَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيمَا يَدَّعِيهِ. وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَصْدَقُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ دَلَّتْ الْأَعْلَامُ ثُمَّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا وَأَنَّ الْكَذِبَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ لَنَا بِمُغَيَّبِ أَمْرِهِ وَمُوَافَقَةِ بَاطِنِهِ لِظَاهِرِهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ عَلَى دَعْوَاهُ دُونَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ حِينَ طَالَبَهُ الْخَصْمُ بِهَا، وَهُوَ قِصَّةُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ; حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَقَالَ: فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بَايَعْتُك فَقَالَ خُزَيْمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّك بَايَعْته، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: "بِمَ تَشْهَدُ؟ " فَقَالَ: بِتَصْدِيقِك يَا رَسُولَ اللَّهِ; فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. فَلَمْ يَقْتَصِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَاهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ وَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَلَمْ يَقُلْ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ هَلُمَّ شَهِيدًا إنَّهُ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُدَّعِينَ فَعَلَيْهِمْ إقَامَةُ بَيِّنَةٍ لَا يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا وَلَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْهَا مَغْرَمًا، وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ أَعْظَمَ الْمَغْنَمِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ

الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا نَظِيرُ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَالْوَلَدِ لِلْوَالِدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ تَبَسُّطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فِي مَالِ الْآخَرِ فِي الْعَادَةِ وَأَنَّهُ كَالْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاسْتِئْذَانِ، فَمَا يُثْبِتُهُ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُثْبِتُهُ لِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ مَا تُثْبِتُهُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمُعْتَادِ بَيْنَ تَبَسُّطِهِ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَبَيْنَهُ فِي مَالِ أَبِيهِ وَابْنِهِ؟ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ غَيْرَ جَائِزَةٍ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ شَهَادَةِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لِزَوْجَتِهِ بِمَالٍ تُوجِبُ زِيَادَةَ قِيمَةِ الْبُضْعِ الَّذِي فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ مَالِهَا، فَكَانَ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ بِزِيَادَةِ قِيمَةِ مَا هُوَ مَالِكُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ أَنَّ عَبْدَهُ سَرَقَ مَرَّةً لِامْرَأَتِهِ: "عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ" فَجَعَلَ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافًا إلَيْهِمَا بِالزَّوْجِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَمَا يُثْبِتُهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ فَكَأَنَّهُ يُثْبِتُهُ لِنَفْسِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَ مَالُ الزَّوْجِ كَانَتْ النَّفَقَةُ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا أَكْثَرَ، فَكَأَنَّهَا شَاهِدَةٌ لِنَفْسِهَا; إذْ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ فِي حَالَيْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْأُخْتُ الْفَقِيرَةُ وَالْأَخُ الزَّمِنُ يَسْتَحِقَّانِ لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَخِيهِمَا إذَا كَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يَمْنَعَ ذَلِكَ جَوَازَ شَهَادَتِهِمَا لَهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ الْأُخُوَّةُ مُوجِبَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ وَالْفَقِيرَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْأُخُوَّةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ سَبَبٌ لَاسْتِحْقَاقِهَا فَقِيرًا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ غَنِيًّا، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مُثْبِتَةً بِشَهَادَتِهَا لِنَفْسِهَا زِيَادَةَ النَّفَقَةِ مَعَ وُجُودِ الزَّوْجِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، وَالنَّسَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلنَّفَقَةِ لِوُجُودِهِ بَيْنَهُمَا; فلذلك اختلفا.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا شَهَادَةُ الْأَجِيرِ وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "أَنَّ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمُسْتَأْجِرِهِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا اسْتِحْسَانًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى هِشَامٌ وَابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ "أَنَّ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَهُ" وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ; وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ فِي عِيَالِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لَهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا

تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمُسْتَأْجِرِهِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "شَهَادَةُ الْأَجِيرِ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرُ الْحَوْضِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ وَشَهَادَةَ ذِي الْغَمْرِ عَلَى أَخِيهِ وَرَدَّ شَهَادَةَ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَجَازَهَا عَلَى غَيْرِهِمْ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، إلَّا أنه قال: "ورد شَهَادَةَ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ", قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: "الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ" يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: التَّابِعُ لَهُمْ، وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ فَهُوَ وَسَائِرُ النَّاسِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةٍ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَ شَهَادَتِهِ; وَكَذَلِكَ شَرِيكُ الْعِنَانِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ شَهَادَةٍ رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ لَمْ تُقْبَلْ أَبَدًا، مِثْلَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ إذَا رُدَّتْ لِفِسْقِهِ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهِدَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ أَبَدًا، وَمِثْلَ شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ إذَا رُدَّتْ ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَمْ تُقْبَلْ أَبَدًا. وَقَالُوا: لَوْ شَهِدَ عَبْدٌ بِشَهَادَةٍ أَوْ كَافِرٌ أَوْ صَبِيٌّ فَرُدَّتْ ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ كَبِرَ الصَّبِيُّ ثُمَّ شَهِدَ بِهَا قُبِلَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا شَهِدَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ رُدَّتْ ثُمَّ كَبِرَ الصَّبِيُّ أَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ وَشَهِدَا بِهَا لَمْ تُقْبَلْ أَبَدًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ رُدَّتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ". وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا "إنَّهَا إذَا رُدَّتْ لِتُهْمَةٍ لَمْ تُقْبَلْ أَبَدًا" مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ حَكَمَ بِإِبْطَالِهَا، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ إلَّا بِحُكْمٍ، وَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِمَا لَا يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ بِزَوَالِ التُّهْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا رُدَّتْ الشَّهَادَةُ كَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِإِبْطَالِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ مَاضِيًا لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ أَبَدًا. وَأَمَّا الرِّقُّ وَالْكُفْرُ وَالصِّغَرُ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي رُدَّتْ مِنْ أَجْلِهَا وَحُكْمَ الْحَاكِمِ بِإِبْطَالِهَا مَحْكُومٌ بِزَوَالِهَا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَالْبُلُوغَ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ، فَلَمَّا صَحَّ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِزَوَالِ الْمَعَانِي الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِزَوَالِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى لَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ، كَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِإِبْطَالِهَا مَاضِيًا; إذْ كَانَ مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: مِنْ الْعَدَالَةِ، وَنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَقِلَّةِ الْغَفْلَةِ; هِيَ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَاتِ، وَقَدْ انْتَظَمَهَا قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فَانْظُرْ إلَى كَثْرَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي ضِمْنِ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ

مِنَ الشُّهَدَاءِ} مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ وَبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَوَجَازَتِهِ وَاخْتِصَارِهِ وَظُهُورِ فَوَائِدِهِ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ ذِكْرِنَا لِمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاسْتِنْبَاطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي مَضْمُونِهِ وَتَحَرِّيهِمْ مُوَافَقَتَهُ مَعَ احْتِمَالِهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ; إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ إيرَادُ لَفْظٍ يَتَضَمَّنُ مِنْ الْمَعَانِي وَالدَّلَالَاتِ وَالْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ اخْتِصَارِهِ وَقِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ. وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُنَا مِنْ مَعَانِيهِ مِمَّا لَوْ كُتِبَ لَطَالَ وَكَثُرَ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِنَعْلَمَ أَحْكَامَهُ وَدَلَائِلَ كِتَابِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ. قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قرئ: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، بِالتَّشْدِيدِ وَقُرِئَ: {فَتُذْكِرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} بِالتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُمَا قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا، يُقَالُ: ذَكَّرْته وَذَكَرْته; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ مُؤَمَّلُ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: مَنْ قَرَأَ: {فَتُذَكِّرَ} مُخَفَّفَةً أَرَادَ: تَجْعَلَ شَهَادَتَهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ وَمَنْ قَرَأَ: فَتُذَكِّرَ بِالتَّشْدِيدِ، أَرَادَ مِنْ جِهَةِ التَّذْكِيرِ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَجَبَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَفَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ} بِالتَّخْفِيفِ تَجْعَلُهُمَا جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي ضَبْطِ الشَّهَادَةِ وَحِفْظِهَا فِي إتْقَانِهَا، قَوْله تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ} مِنْ التَّذْكِيرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ; وَاسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مُوجِبِ دَلَالَتَيْهِمَا أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى مُوجِبِ دَلَالَةِ أَحَدِهِمَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَأَيْت نَاقِصَاتٍ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْهُنَّ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ؟ قَالَ: "جَعْلُ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ" فَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَعْنَى من تأول: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} عَلَى أَنَّهُمَا تَصِيرَانِ فِي ضَبْطِ الشَّهَادَةِ وَحِفْظِهَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إقَامَةُ شَهَادَةٍ وَإِنْ عُرِفَ خَطُّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ؟ فَلَمْ يَقْتَصِرْ بِنَا عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَطِّ دُونَ ذِكْرِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِتَسْتَذْكِرَ بِهِ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّهَا لَا تُقَامُ إلَّا بَعْدَ حِفْظِهَا وَإِتْقَانِهَا. وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَهَادَةٌ فِي هَذَا الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ: عِنْدِي شَهَادَةٌ فِيهِ; أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}

فَأَجَازَهَا إذَا ذَكَرَهَا بَعْدَ نِسْيَانِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ سُئِلَ عَنْ شَهَادَةٍ فِي أَمْرٍ كَانَ يَعْلَمُهُ، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَهَادَةٌ، ثُمَّ إنَّهُ شَهِدَ بِهَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، قَالَ تُقْبَلُ مِنْهُ إذَا كَانَ عَدْلًا لِأَنَّهُ يَقُولُ نَسِيتهَا ثُمَّ ذَكَرْتهَا، وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ لَهُ فَيَجُوزُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي: لَيْسَ لِي عِنْدَهُ هَذَا الْحَقُّ، ثُمَّ يَدَّعِيهِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْحَقِّ وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ فَجَازَ إقْرَارُهُ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِذَلِكَ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَهَا بِإِقْرَارِهِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْغَيْرِ فَلَا يُبْطِلُهَا قَوْلُهُ: لَيْسَ عِنْدِي شَهَادَةٌ; وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "لَا يَشْهَدُ بِهَا حَتَّى يَذْكُرَهَا" وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ قَالَ: قُلْت لِمُحَمَّدٍ رَجُلٌ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةٍ وَكَتَبَهَا بِخَطِّهِ وَخَتَمَهَا أَوْ لَمْ يَخْتِمْ عَلَيْهَا وَقَدْ عُرِفَ خَطُّهُ؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ خَطُّهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا خَتَمَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَخْتِمْ. قَالَ: فَقُلْت: إنْ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ فَكَتَبَ غَيْرُهُ لَهُ؟ قَالَ: لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَحْفَظَ وَيَذْكُرَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "مَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ لَا يَقْضِي بِهِ إلَّا أَنْ يَذْكُرَهُ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يَقْضِي بِهِ إذَا كَانَ فِي قِمْطَرِهِ وَتَحْتَ خَاتَمِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَضَرَّ بِالنَّاسِ" وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْضِي شَيْئًا مِنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ خَاتَمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْضِي مَا وَجَدَهُ فِي دِيوَانِ غَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ الشُّهُودُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يَجِدُهُ فِي دِيوَانِهِ; وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: "إذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لِخَصْمِهِ فَلَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيَ بِهِ عَلَيْهِ" فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يَذْكُرُهُ". وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ عُرِفَ خَطُّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ: "إنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَلَكِنْ يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ إلَى الْحَاكِمِ كَمَا عَلِمَ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجِيزَهَا، فَإِنْ كَتَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ وَمَاتَ الشُّهُودُ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ خَطُّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ رَبَّ الْمَالِ". وَذَكَرَ أَشْهَبُ عَنْهُ فِيمَنْ عُرِفَ خَطُّهُ وَلَا يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ "أَنَّهُ يُؤَدِّيهَا إلَى السُّلْطَانِ وَيُعْلِمُهُ لِيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ وَلَا يَذْكُرُ عَدَدَ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ وَإِنْ كَتَبَهَا عِنْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا أَنَّهُ يَعْرِفُ الْكِتَابَ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ وَأَنَّهُ قَدْ كَتَبَهَا فَأَرَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْكِتَابِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّ يَدِهِ وَكَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ

أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إلَّا بِحَقٍّ فَلْيَشْهَدْ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا ذَكَرَ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ أَثْبَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلدِّيوَانِ إلَّا الذِّكْرُ". وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمُزَنِيّ: "إنَّهُ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَدَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْكِتَابِ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ ذِكْرَ الشَّاهِدِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى الْخَطِّ; إذْ الْخَطُّ وَالْكِتَابُ مَأْمُورٌ بِهِ لِتَذْكُرَ بِهِ الشَّهَادَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَا; وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قَالَ: "إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ" وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَنَدِهِ. وَأَمَّا الْخَطُّ فَقَدْ يُزَوَّرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الشَّاهِدِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَيْسَ خَطَّهُ. وَلَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِهِ، فَمَنْ لَا يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ فَهُوَ بِخِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ. وَقَدْ أَكَّدَ أَمْرَ الشَّهَادَةِ حَتَّى صَارَ لَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا صَرِيحُ لَفْظِهَا وَلَا يُقْبَلُ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَى الْخَطِّ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ وَالتَّبْدِيلُ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِيمَنْ عَرَفَ الْخَطَّ وَالْخَاتَمَ وَلَا يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ: "أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِهِ حَتَّى يذكرها". وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} مَعْنَاهُ: أَنْ يَنْسَاهَا; لِأَنَّ الضَّلَالَ هُوَ الذَّهَابُ عَنْ الشَّيْءِ، فَلَمَّا كَانَ النَّاسِي ذَاهِبًا عَمَّا نَسِيَهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ: ضَلَّ عَنْهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ نَسِيَهُ. وَقَدْ يُقَالَ أَيْضًا: ضَلَّتْ عَنْهُ الشَّهَادَةُ وَضَلَّ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم.

بَابُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "لَا يُحْكَمُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ فِي شَيْءٍ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} يَتَضَمَّنُ الْإِشْهَادَ عَلَى عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ الَّتِي ابْتَدَأَ فِي الْخِطَابِ بِذِكْرِهَا، وَيَتَضَمَّنُ إقَامَتَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلُزُومَ الْحَاكِمِ الْأَخْذِ بِهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْحَالَيْنِ وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْعَقْدِ إنَّمَا الْغَرَضُ فِيهِ إثْبَاتُهُ عِنْدَ التَّجَاحُدِ فَقَدْ تَضَمَّنَ لَا مَحَالَةَ

اسْتِشْهَادَ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى الْعَقْدِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَإِلْزَامِهِ الْحُكْمِ بِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَأَوَامِرُ اللَّهِ عَلَى الْوُجُوبِ فَقَدْ أَلْزَمَ اللَّهُ الْحَاكِمَ الْحُكْمَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ولم يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، كَذَلِكَ الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ لِلشَّهَادَةِ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَا دُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ أَقَلَّ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ كَمَا لَوْ أَجَازَ مُجِيزٌ أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْقَذْفِ سَبْعِينَ أَوْ حَدُّ الزِّنَا تِسْعِينَ كَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ. وَأَيْضًا قَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ شَيْئَيْنِ مِنْ أَمْرِ الشُّهُودِ، أَحَدَهُمَا: الْعَدَدَ، وَالْآخَرَ: الصِّفَةَ، وَهِيَ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا مرضيين، لقوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَهُمْ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا دُونِهَا، لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ الْعَدَدِ; إذْ كَانَتْ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً لِاسْتِيفَاءِ الْأَمْرَيْنِ فِي تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهَا وَهُوَ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ وَالرِّضَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ إسْقَاطُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا; وَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَا لِأَنَّ الْعَدَدَ مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ، وَالْعَدَالَةُ إنَّمَا نُثْبِتُهَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ الْعَدَدِ الْمَعْلُومِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْيَقِينِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ الِاحْتِيَاطَ فِي إجَازَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ أَوْجَبَ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ وَقَالَ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} فَنَفَى بِذَلِكَ أَسْبَابَ التُّهْمَةِ وَالرِّيَبِ وَالنِّسْيَانِ. وَفِي مَضْمُونِ ذَلِكَ مَا يَنْفِي قَبُولَ يَمِينِ الطَّالِبِ وَالْحُكْمَ لَهُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالِاسْتِظْهَارِ وَنَفْيِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ، وَفِي قَبُولِ يَمِينِهِ أَعْظَمُ الرِّيَبِ وَالشَّكِّ وَأَكْبَرُ التُّهْمَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا مُرَادٍ بِالْآيَةِ، وَيَمِينُ الطَّالِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الشَّاهِدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون رَضِيَ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ; فَالْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِهِ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَرَافِعٌ لِمَا قُصِدَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الشَّهَادَاتِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَثِيقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَصَدَ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ بِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وَفَرْقٌ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ بَيِّنَةً لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُسَمَّى الْيَمِينُ بَيِّنَةً لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وَقَوْلُهُ "الْبَيِّنَةُ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ، فَاسْتَوْعَبَ مَا تَحْتَهَا، فَمَا مِنْ بَيِّنَةٍ إلَّا وَهِيَ الَّتِي عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.

وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لَفْظًا مُجْمَلًا قَدْ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَاتَّفَقُوا أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ وَالشَّاهِدَ وَالْمَرْأَتَيْنِ مُرَادُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ، صَارَ كَقَوْلِهِ "الشَّاهِدَانِ أَوْ الشَّاهِدُ وَالْمَرْأَتَانِ عَلَى الْمُدَّعِي" فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونِهِمْ. وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ" فَحْوَى هَذَا الْخَبَرِ ضَرْبَيْنِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ يَمِينَهُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ مُخْبِرَهَا وَمُخْبِرَ دَعْوَاهُ وَاحِدٌ، فَلَوْ اسْتَحَقَّ بِيَمِينِهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِدَعْوَاهُ، وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ دَعْوَاهُ لَمَّا كَانَتْ قَوْلُهُ وَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهَا شَيْئًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِيَمِينِهِ; إذْ كَانَتْ يَمِينُهُ قَوْلَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ فِي الْحَضْرَمِيِّ الَّذِي خَاصَمَ الْكِنْدِيَّ فِي أَرْضٍ ادَّعَاهَا فِي يَدِهِ وَجَحَدَ الْكِنْدِيُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ" فَنَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يَسْتَحِقَّ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَاحِدًا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ مَا يُوجِبُ صِحَّةَ دَعْوَاهُ عِنْدَ الْجُحُودِ، فَأَمَّا حَالُ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الدَّلَالَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إلَّا مَا ذَكَرْنَا فِي الْخَبَرِ، وَالْإِقْرَارُ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ، فَحَكَمْنَا بِهِ; وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَضَى قَوْلُهُ: "شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إلَّا ذَلِكَ" بِبُطْلَانِهِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ مُبْهَمَةً ذُكِرَ فِيهَا قَضِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَنَا ذَاكِرُهَا وَمُبَيِّنُ مَا فِيهَا: أَحَدُهَا: مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلٍ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ. وَحَدِيثٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ الْحُبَابِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بإسناده ومعناه.

وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ" قَالَ عَمْرٌو: إنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَمْوَالِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا خُلْدُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْحُقُوقِ" وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ. أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أنه قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ مَعَ الْيَمِينِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِيجَابِ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِهَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فَسَادُ طُرُقِهَا، وَالثَّانِي جُحُودُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ رِوَايَتَهَا، وَالثَّالِثُ: رَدُّ نَصِّ الْقُرْآنِ لَهَا، وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الطَّعْنِ وَالْفَسَادِ لِمَا دَلَّتْ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ، وَالْخَامِسُ: احْتِمَالُهَا لِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ. فَأَمَّا فَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَإِنَّ حَدِيثَ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِضَعْفِ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ هَذَا، وَلِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَا يَصِحُّ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ; فَلَا يَصِحُّ لِمُخَالِفِنَا الِاحْتِجَاجُ بِهِ; وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ", فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَذَكَرَهُ وَلَمْ يَلْجَأْ إلَى مَا وَجَدَهُ فِي كِتَابٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ سُهَيْلٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبُ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ", قَالَ أَبُو دَاوُد: وَزَادَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسُهَيْلٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ أَنِّي حَدَّثْته إيَّاهُ وَلَا أَحْفَظُهُ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَتْ سُهَيْلًا عِلَّةٌ أَزَالَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ، فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الإسكندراني قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادٌ يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بِإِسْنَادِ أَبِي مُصْعَبٍ وَمَعْنَاهُ; قَالَ سُلَيْمَانُ: فَلَقِيت سُهَيْلًا فَسَأَلْته عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ، فَقُلْت لَهُ: إنَّ رَبِيعَةَ أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْك، قَالَ: فَإِنْ كَانَ رَبِيعَةُ أَخْبَرَك عَنِّي فَحَدِّثْ بِهِ عَنْ رَبِيعَةَ عني.

وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا تَثْبُتُ بِهِ شَرِيعَةٌ مَعَ إنْكَارِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ إيَّاهُ وَفَقْدِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ. قِيلَ لَهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَهَمَ بَدِيًّا فِيهِ وَرَوَى مَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ آخِرُ أَمْرِهِ جُحُودَهُ وَفَقْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَهُوَ أَوْلَى. وَأَمَّا حَدِيثُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ; وَقِيلَ إنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ فَذَكَرَ فِيهِ جَابِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَا إحْدَى الْعِلَلِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ عَنْ سِوَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْت رَبِيعَةَ الرَّأْيَ قُلْت: قَوْلُكُمْ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ وَيَمِينَ صَاحِبِ الْحَقِّ؟ قَالَ: وَجَدْت فِي كِتَابِ سَعْدٍ. فَلَوْ كَانَ حَدِيثُ سُهَيْلٍ صَحِيحًا عِنْدَ رَبِيعَةَ لَذَكَرَهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى مَا وَجَدَ فِي كِتَابِ سَعْدٍ. وَحَدَّثَنَا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ قَالَ: هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ، لَا إلَّا شَاهِدَيْنِ. حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ: إيشْ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ بِدْعَةً، وَأَوَّلُ مَنْ أَجَازَهُ مُعَاوِيَةُ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْ شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ، وَإِنَّهَا لَبِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ، وَالزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي وَقْتِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ ثَابِتًا كَيْفَ كَانَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ؟ وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ يَمِينِ الطَّالِبِ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَرَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالُوا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَتْ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ وَإِخْوَتِهِ أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ أَعْطَى أَخَاهُ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ نَصِيبَهُ مِنْ رُبُعِهِ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهَا، فَأَجَازَ مُعَاوِيَةُ شَهَادَتَهَا وَحْدَهَا وَعَلْقَمَةُ حَاضِرٌ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ. فَإِنْ كَانَ قَضَاءُ مُعَاوِيَةَ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ جَائِزًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا قَضَاؤُهُ بِالشَّاهِدِ مِنْ غَيْرِ يَمِينِ الطَّالِبِ، فَاقْضُوا بِمِثْلِهِ وَأَبْطِلُوا حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةٌ عَلَى دَيْنٍ وَلَا غَيْرِهِ دُونَ شَاهِدَيْنِ" حَتَّى إذَا كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ جَعَلَ مَعَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَمِينَ

الطَّالِبِ. وَرَوَى مُطَّرِفُ بْنُ مَازِنٍ قَاضِي أَهْلِ الْيَمَنِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "أَدْرَكْت هَذَا الْبَلَدَ يَعْنِي مَكَّةَ وَمَا يُقْضَى فِيهِ فِي الْحُقُوقِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، حَتَّى كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَقْضِي بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ". وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ عَامِلِهِ: إنَّك كُنْت تَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنَّا قَدْ كُنَّا نَقْضِي كَذَلِكَ، وَإِنَّا وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا تَقْضِيَنَّ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. فَقَدْ أَخْبَرَ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ إنَّ الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ سُنَّةُ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا خَفِيَ عَلَى عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ. فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا، أَحَدُهُمَا: فَسَادُ السَّنَدِ وَاضْطِرَابُهُ، وَالثَّانِي جُحُودُ سُهَيْلٍ لَهُ وَهُوَ الْعُمْدَةُ فِيهِ، وَإِخْبَارُ رَبِيعَةَ أَنَّ أَصْلَهُ مَا وُجِدَ فِي كِتَابِ سَعْدٍ، وَإِنْكَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَإِخْبَارِهِمْ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّهَا لَوْ وَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ مُسْتَقِيمَةٍ تُقْبَلُ أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي مِثْلِهَا وَعُرِّيَتْ مِنْ ظُهُورِ نَكِيرِ السَّلَفِ عَلَى رُوَاتِهَا وَإِخْبَارِهِمْ إنَّهَا بِدْعَةٌ، لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَوَجْهُ النَّسْخِ مِنْهُ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الَّذِي لَا يَرْتَابُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ سَامِعِي الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ حُظِرَ قَبُولُ أَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَفِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْخَبَرِ تَرْكُ مُوجِبِ الْآيَةِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْطَوِيَ تَحْتَ ذِكْرِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، كَمَا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَقَوْلِهِ: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] مَنَعَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا فِي كَوْنِهَا حَدًّا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْقَاذِفِ أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ، وَحَقُّ الزَّانِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ; كَذَلِكَ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْآيَةِ كَذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ مَا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ الْمَقْصِدِ فِي الْكِتَابِ وَاسْتِشْهَادِ الشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} وَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَالتَّوَثُّقُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَالِاسْتِظْهَارُ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ لِنَفْيِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ وَالتُّهْمَةِ عَنْ الشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَفِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ رَفْعُ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَإِسْقَاطُ اعْتِبَارِهَا. فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا خِلَافُ الْآيَةِ. فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِمَّا قَدْ ظَهَرَ بِهِمَا مُخَالَفَةُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِلْآيَةِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي الشَّاهِدَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ

مُسْتَعْمَلًا ثَابِتًا وَكَانَتْ أَخْبَارُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مُخْتَلَفًا فِيهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَنْسُوخًا بِالْقُرْآنِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَاتُّفِقَ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْقُرْآنِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ خَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَوْ سَلِمَ مِنْ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَوَرَدَ مِنْ طُرُقٍ مُسْتَقِيمَةٍ لَمَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَهَذِهِ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِلَفْظِ عُمُومٍ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ حَتَّى يُحْتَجَّ بِهِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا كَيْفِيَّتَهَا فِي الْخَبَرِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ", وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ وُجُودَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ اسْتَحْلَفَهُ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدٍ; فَأَفَادَ أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا تَمْنَعُ اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ. وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي شَاهِدٌ أَصْلًا، فَأَبْطَلَ الرَّاوِي بِنَقْلِهِ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ ظَنَّ الظَّانِّ لِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْجِنْسِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الرَّاوِي أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ فِي حَالٍ وَبِالْبَيِّنَةِ فِي حَالٍ، فَلَا يَكُونَ حُكْمُ الشَّاهِدِ مُفِيدًا لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لَمَّا كَانَ اسْمًا لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ سَارِقًا وَاحِدًا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الَّذِي جَعَلَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَاسْتَحْلَفَ الطَّالِبَ مَعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: احْتِمَالُهُ لِمُوَافَقَةِ مَذْهَبِنَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَادَّعَى عَيْبًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ إلَّا لِعُذْرٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي وُجُودِ الْعَيْبِ، وَاسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِي مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ مَا رَضِيَ، فَيَكُونُ قَدْ قَضَى بِالرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي. وَإِذَا كَانَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مُحْتَمِلًا لِمَا وَصَفْنَا; وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يُزَالَ بِهِ حُكْمٌ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ نَصِّ الْقُرْآنِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ مِنِّي، وَمَا خَالَفَهُ فَلَيْسَ مِنِّي" وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ الْمَرْوِيَّةَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي الْأَمْوَالِ. قِيلَ لَهُ: هُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَمَذْهَبُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهَا فِي الْأَمْوَالِ فَإِذَا جَازَ أَنْ لَا يَقْضِيَ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ مُبْهَمَةً لَيْسَ فِيهَا بَيَانُ ذِكْرِ الْأَمْوَالِ وَلَا غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ لا

يَقْضِي بِهِ فِي الْأَمْوَالِ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهَا، وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِهَا فِي الْأَمْوَالِ بِأَوْلَى مِنْهُ فِي غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَقْضِي بِهِ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَهُوَ الْأَمْوَالُ، فَتَقُومُ يَمِينُ الطَّالِبِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ شَهَادَةِ الْآخَرِ. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ دَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَيْفَ صَارَتْ يَمِينُ الطَّالِبِ قَائِمَةً مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ دُونَ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ امْرَأَةٍ؟ وَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً، هَلْ تُقِيمُ يَمِينَهَا مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ فَقَدْ صَارَتْ الْيَمِينُ آكَدَ مِنْ الشَّهَادَةِ لِأَنَّك لَا تَقْبَلُ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحُقُوقِ وَقَبِلْت يَمِينَهَا وَأَقَمْتهَا مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِقَبُولِ مَنْ نَرْضَى مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ شَاهِدَةً أَوْ قَامَتْ يَمِينُهَا مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ فَقَدْ خَالَفَتْ الْقُرْآنَ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مَرْضِيًّا فِيمَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِ قَوْلِهِمْ، أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا وَشَهِدَ مَعَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ اسْتَحْلَفُوهُ وَاسْتَحَقَّ مَا يَدَّعِيهِ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ لَوْ شَهِدَ مِثْلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِهِ وَحَلَفَ عَلَيْهَا خَمْسِينَ يَمِينًا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَا أَيْمَانُهُ، وَإِذَا ادَّعَى لِنَفْسِهِ وَحَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا ادَّعَى بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مَأْمُونٍ لَا فِي شَهَادَتِهِ وَلَا فِي أَيْمَانِهِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ وَتَنَاقُضِ مَذْهَبِهِمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ: "إذَا مَا دُعُوا لِإِقَامَتِهَا". وَعَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: "إذَا دُعُوا لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ فِي الْكُتُبِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: "هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ إثْبَاتِهَا فِي الْكِتَابِ وَإِقَامَتِهَا بَعْدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى إثْبَاتِ الشَّهَادَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا دُعُوا لِإِثْبَاتِ شَهَادَاتِهِمْ فِي الْكِتَابِ; وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الشُّهُودِ الْحُضُورُ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَحْضُرَا عِنْدَ الشُّهُودِ، فَإِذَا حَضَرَاهُمْ وَسَأَلَاهُمْ إثْبَاتَ شَهَادَاتِهِمْ فِي الْكِتَابِ فَهَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ: {إِذَا مَا دُعُوا} لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا إذَا أَثْبَتَا شَهَادَتَهُمَا ثُمَّ دُعِيَا لِإِقَامَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَهَذَا الدُّعَاءُ هُوَ كَحُضُورِهِمَا عِنْدَ الْحَاكِمِ; لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْضُرُ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ لِيَشْهَدَا عِنْدَهُ وَإِنَّمَا الشُّهُودُ عَلَيْهِمْ الْحُضُورُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. فَالدُّعَاءُ الْأَوَّلُ إنَّمَا هُوَ لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ فِي الْكِتَابِ، وَالدُّعَاءُ الثَّانِي لِحُضُورِهِمْ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا عَلَى الْحَالَيْنِ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالْإِقَامَةِ لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ

الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ الشَّهَادَةِ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضَ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى خُصُوصِهِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ1. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَا قَالَ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فَسَمَّاهُمْ شُهَدَاءَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَالُ إقَامَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ; لِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ شُهَدَاءَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فَسَمَّاهُمَا شَهِيدَيْنِ، وَأَمَرَ بِاسْتِشْهَادِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ حَالَ الِابْتِدَاءِ مُرَادَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 23] فَسَمَّاهُ زَوْجًا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ. وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ إثْبَاتُ الشَّهَادَةِ ابْتِدَاءً، وَيَلْزَمُهُ إقَامَتُهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْهَدْ غَيْرَهُ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ، وَمَتَى قَامَ بِهِ بَعْضٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ; وَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي تَحَمُّلِهَا وَأَدَائِهَا. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلنَّاسِ كُلُّ الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ جَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَحَمُّلِهَا لَبَطَلَتْ الْوَثَائِقُ وَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَكَانَ فِيهِ سُقُوطُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَدَبَ إلَيْهِ مِنْ التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ فَرْضِ إثْبَاتِ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَرْضَهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ تَحَمُّلُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} فَإِذَا ثَبَتَ فَرْضُ التَّحَمُّلِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَانَ حُكْمُ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، كَذَلِكَ إذَا قَامَ بِهَا الْبَعْضُ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ إلَّا شَاهِدَانِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمَا مَتَى دُعِيَا لِإِقَامَتِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وَقَالَ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَقَالَ: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وَإِذَا كَانَ عَنْهُمَا مَنْدُوحَةٌ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمَا فَقَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمَا لِمَا وَصَفْنَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا تَمَلُّوا وَلَا تَضْجَرُوا أَنْ تَكْتُبُوا الْقَلِيلَ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَأْجِيلِهِ وَالْكَثِيرَ الَّذِي نُدِبَ فِيهِ الْكِتَابُ وَالْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقِيرَاطَ وَالدَّانِقَ وَنَحْوَهُ; إذْ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ الْمُدَايَنَةُ بِمِثْلِهِ إلَى أَجَلٍ; فَأَبَانَ أَنَّ حُكْمَ الْقَلِيلِ الْمُتَعَارَفِ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَحُكْمِ الْكَثِيرِ فِيمَا نُدِبَ إلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ وَأَنَّ قَلِيلَ مَا جرت

_ 1 قوله "على خصوصه ... الخ" هكذا في جميع النسخ، فليحرر. "لمصححه".

بِهِ الْعَادَةُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى كِتَابَتِهِ وَالْإِشْهَادِ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَادَةِ فَطَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا اتِّفَاقَ. وَقَوْلُهُ: {إِلَى أَجَلِهِ} يَعْنِي: إلَى مَحِلِّ أَجَلِهِ، فَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْأَجَلِ فِي الْكِتَابِ وَمَحِلِّهِ كَمَا كَتَبَ أَصْلَ الدَّيْنِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمَا أَنْ يَكْتُبَا فِي الْكِتَابِ صِفَةَ الدَّيْنِ وَنَقْدَهُ وَمِقْدَارَهُ; لِأَنَّ الْأَجَلَ بَعْضُ أَوْصَافٍ، فَحُكْمُ سَائِرِ أَوْصَافِهِ بِمَنْزِلَتِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي أَجْرَى بِالْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَاسْتِشْهَادِ الشُّهُودِ هِيَ الْوَثِيقَةُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ وَرَفْعِ الْخِلَافِ. وَبَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْدَلُ وَأَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ بَيْنَهُمْ التَّظَالُمُ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ; يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ أَثْبَتُ لَهَا وَأَوْضَحُ مِنْهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى نَفْيِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ فِيهَا. فَأَبَانَ لَنَا جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ أَمَرَ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ احْتِيَاطًا لَنَا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَدَفْعِ التَّظَالُمِ فِيمَا بَيْنَنَا، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلشَّهَادَةِ مَا نَفَى عَنْهَا الرَّيْبَ وَالشَّكَّ، وَأَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ مَكْتُوبًا فَيَرْتَابُ الشَّاهِدُ فَلَا يَنْفَكُّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ، فَيُقْدِمَ عَلَى مَحْظُورٍ أَوْ يَتْرُكَهَا فَلَا يُقِيمَهَا فَيُضَيِّعَ حَقَّ الطَّالِبِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مَعَ زَوَالِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ إقَامَتُهَا إذَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِنْ عُرِفَ خَطُّهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ مَأْمُورٌ بِهِ لِئَلَّا يَرْتَابَ بِالشَّهَادَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ إقَامَتُهَا مَعَ الشَّكِّ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الشَّكُّ فِيهَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا فَعَدَمُ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهَا. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْبِيَاعَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ تَسْلِيمَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ بِلَا تَأْجِيلٍ; فَأَبَاحَ تَرْكَ الْكِتَابِ فِيهَا، وَذَلِكَ تَوْسِعَةٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَزَّ لِعِبَادِهِ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ لِئَلَّا يَضِيقَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ تَبَايُعِهِمْ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْأَقْوَاتِ الَّتِي حَاجَتُهُمْ إلَيْهَا مَاسَّةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي نَسَقِ هَذَا الْكَلَامِ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي الْإِشْهَادَ عَلَى سَائِرَ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ بِالْأَثْمَانِ الْعَاجِلَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ التِّجَارَاتِ الْحَاضِرَةِ غَيْرِ الْمُؤَجَّلَةِ بِإِبَاحَةِ تَرْكِ الْكِتَابِ فِيهَا، فَأَمَّا الْإِشْهَادُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا إلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَادَةِ التَّوَثُّقُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ، نَحْوَ شِرَى الْخُبْزِ وَالْبَقْلِ وَالْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِشْهَادَ فِي شِرَى الْبَقْلِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَنَقَلَهُ الْكَافَّةُ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَفِي عِلْمنَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْأَقْوَاتِ

وَمَا لَا يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ عَنْ شِرَائِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ عَنْهُمْ الْإِشْهَادَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ وَإِنْ كَانَ نَدْبًا وَإِرْشَادًا فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْبِيَاعَاتِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى مَا يُخْشَى فِيهِ التَّجَاحُدُ مِنْ الْأَثْمَانِ الْخَطِيرَةِ وَالْأَبْدَالِ النَّفِيسَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ عَيْبٍ إنْ وَجَدَهُ وَرُجُوعُ مَا يَجِبُ لِمُبْتَاعِيهِ بِاسْتِحْقَاقِ مُسْتَحِقٍّ لِجَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَانَ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ عَلَى الْبِيَاعَاتِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَثْمَانٍ آجِلَةٍ وَالْإِشْهَادَ عَلَى الْبِيَاعَاتِ الْحَاضِرَةِ دُونَ الْكِتَابِ. وَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قَالَ: "إذَا كَانَ نَسِيئَةً كُتِبَ وَإِذَا كَانَ نَقْدًا أُشْهِدَ". وَقَالَ الْحَسَنُ فِي النَّقْدِ: "إنْ أَشْهَدْت فَهُوَ ثِقَةٌ وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ فَلَا بَأْسَ"، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَابَ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} . رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هِيَ أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى الْكَاتِبِ أَوْ الشَّاهِدِ فَيَقُولَ: إنِّي عَلَى حَاجَةٍ، فَيَقُولَ: إنَّك قَدْ أُمِرْت أَنْ تُجِيبَ; فَلَا يُضَارَّ". وَعَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "لَا يُضَارَّ كَاتِبٌ فَيَكْتُبْ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَلَا يُضَارَّ الشَّهِيدُ فَيَزِيدَ فِي شَهَادَتِهِ". وَقَرَأَ "الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ" بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ: "لَا يُضَارَّ" بِفَتْحِ الرَّاءِ. فَكَانَتْ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ نَهْيًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ مُضَارَّةِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى فِيهَا نَهْيُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ عَنْ مُضَارَّةِ صَاحِبِ الْحَقِّ. وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُسْتَعْمَلٌ، فَصَاحِبُ الْحَقِّ مَنْهِيٌّ عَنْ مُضَارَّةِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ بِأَنْ يَشْغَلَهُمَا عَنْ حَوَائِجِهِمَا وَيُلِحَّ عَلَيْهِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِكِتَابِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَالْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْ مُضَارَّةِ الطَّالِبِ بِأَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ مَا لَمْ يُمِلَّ وَيَشْهَدُ الشَّهِيدُ بِمَا لَمْ يَسْتَشْهِدْ. وَمِنْ مُضَارَّةِ الشَّهِيدِ لِلطَّالِبِ الْقُعُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا شَاهِدَانِ، فَعَلَيْهِمَا فَرْضُ أَدَائِهَا وَتَرْكُ مُضَارَّةِ الطَّالِبِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إقَامَتِهَا، وَكَذَلِكَ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ إذَا لَمْ يَجِدَا غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى فِي التِّجَارَةِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ كَتْبَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالْإِشْهَادَ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ الْمُؤَجَّلَةِ لَمَّا كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَكَانَ تَارِكُهُ تَارِكًا لِمَا نُدِبَ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِمَالِهِ جَازَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} بِأَنْ لَا تَكُونُوا تَارِكِينَ لِمَا نُدِبْتُمْ إلَيْهِ بِتَرْكِ الْكِتَابَةِ، كَمَا تَكُونُونَ تَارِكِينَ النَّدْبَ وَالِاحْتِيَاطَ إذَا لَمْ تَكْتُبُوا الدُّيُونَ

الْمُؤَجَّلَةَ وَلَمْ تَشْهَدُوا عَلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْكُمْ فِي بَابِ حِيَاطَةِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَلِّمُ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ بِإِزَاءِ تَسْلِيمِ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ الْمُضَارَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُضَارَّةَ الطَّالِبِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ وَمُضَارَّتُهُمَا لَهُ فِسْقٌ، لِقَصْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى مُضَارَّةِ صَاحِبِهِ بَعْدَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الرَّهْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا عَدِمْتُمْ التَّوَثُّقَ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ فَالْوَثِيقَةُ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، فَأَقَامَ الرَّهْنَ فِي بَابِ التَّوَثُّقِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَصِلُ فِيهَا إلَى التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ مَقَامَهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ السَّفَرِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهَا عَدَمُ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الرَّهْنَ إلَّا فِي السَّفَرِ. وَكَانَ عَطَاءٌ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا فِي الْحَضَرِ. فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْآيَةِ وَإِنَّمَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ فِي السَّفَرِ، لَمْ يَثْبُتْ فِي غَيْرِهِ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعَامَّةِ السَّلَفِ فِي جَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ. وَقَدْ رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ، فَثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى" {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ لِحَالِ السَّفَرِ بِذِكْرِ الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهَا عَدَمُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ" لَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْمَخَاضِ وَاللَّبَنِ بِالْأُمِّ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ مِنْ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ لَا يَكُونَ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ وَلَا لَبَنٌ; فَكَذَلِكَ ذِكْرُ السَّفَرِ هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ" وَالْمُرَادُ اسْتِحْكَامُهُ وَجَفَافُهُ لَا حُصُولُهُ فِي الْجَرِينِ; لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِهِ وَجَفَافِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ قُطِعَ فِيهِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْجَرِينِ عَلَى الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ مِنْ حَالِهِ فِي اسْتِحْكَامِهِ; فَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ لِحَالِ السَّفَرِ هُوَ عَلَى هَذَا المعنى. وقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فَلَمَّا كَانَ اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ

وَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِلشُّهُودِ وَاجِبًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الصِّفَةِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَيْهَا، كَمَا لَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ إلَّا عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ; ; إذْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ، وَالْآيَةُ إنَّمَا أَجَازَتْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إجَازَتُهُ عَلَى غَيْرِهَا; إذْ لَيْسَ هَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ يُوجِبُ جَوَازَ الرَّهْنِ غَيْرُ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَلَوْ صَحَّ غَيْرَ مَقْبُوضٍ لَبَطَلَ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِ الرَّاهِنِ الَّتِي لَا وَثِيقَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهَا; وَإِنَّمَا جُعِلَ وَثِيقَةً لَهُ لِيَكُونَ مَحْبُوسًا فِي يَدِهِ بِدَيْنِهِ، فَيَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْإِفْلَاسِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَانَ لَغْوًا لَا مَعْنَى فِيهِ وَهُوَ وَسَائِرُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا يَكُونُ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ مَا دَامَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ هُوَ سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ وَكَانَ هُوَ وَسَائِرُ الْغُرَمَاءِ سَوَاءً فِيهِ؟. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِالْقَبْضِ وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِيهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَحُكِمَ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ". وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى إقْرَارِ الْمُصَدَّقِ بِالْقَبْضِ حَتَّى يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ; فَقِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ قَوْلُهُ فِي الرَّهْنِ كَذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِقَبْضِ الرَّهْنِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ والقتل، فكذلك قبض الرهن; والله أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَلَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَمَا يُقْسَمُ". وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ الثَّوْرِيِّ فِي رَجُلٍ يَرْتَهِنُ الرَّهْنَ وَيَسْتَحِقُّ بَعْضَهُ قَالَ: "يَخْرُجُ مِنْ الرَّهْنِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الرَّاهِنَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ رَهْنًا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ رَهْنًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُقْسَمُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا صَحَّ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا، مِنْ حَيْثُ كَانَ رَهْنُهُ عَلَى جِهَةِ الْوَثِيقَةِ وَكَانَ فِي ارْتِفَاعِ الْقَبْضِ ارْتِفَاعُ مَعْنَى الرَّهْنِ وَهُوَ الْوَثِيقَةُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَفِيمَا لَا يُقْسَمُ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ وَإِبْطَالِ الْوَثِيقَةِ مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا دَفْعَ الْقَبْضِ لِلْمُهَايَأَةِ، فَلَمْ يَجُزْ

أَنْ يَصِحَّ مَعَ وُجُودِ مَا يُبْطِلُهُ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ بِالْمُهَايَأَةِ وَعَادَ إلَى يَدِ الشَّرِيكِ فَقَدْ بَطَلَ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عَارِيَّةِ الرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ إذَا أَعَادَهُ الرَّاهِنُ فَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى يَدِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَخْذُهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ; وَإِنَّمَا هُوَ ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا بِمَعْنًى يُقَارِنُ الْعَقْدَ. وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْطِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ كَالرَّهْنِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْقَبْضِ لِصِحَّةِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ بَقَاءِ الْمِلْكِ اسْتِصْحَابُ الْيَدِ، فَلَمَّا صَحَّ الْقَبْضُ بَدِيًّا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِ الْمِلْكِ، وَلَمَّا كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُرْتَهِنِ رَفْعُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ لَمْ يَصِحَّ مَعَ وُجُودِ مَا يُبْطِلُهُ وَيُنَافِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَجَزْت رَهْنَهُ مِنْ شَرِيكِهِ; إذْ لَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ يَدِهِ فِي الثَّانِي لِأَنَّ يَدَهُ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ لِلشَّرِيكِ اسْتِخْدَامَهُ إنْ كَانَ عَبْدًا بِالْمُهَايَأَةِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَدُهُ فِيهِ يَدَ رَهْنٍ فَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ يَدُ الرَّهْنِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِ الرهن مقارنا للعقد. وَاخْتُلِفَ فِي رَهْنِ الدَّيْنِ، فَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: "لَا يَصِحُّ رَهْنُ الدَّيْنِ بِحَالٍ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبِعْته بَيْعًا وَارْتَهَنْت مِنْهُ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يَرْتَهِنَ دَيْنًا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ حَائِزٌ لِمَا عَلَيْهِ قَالَ: "وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الدَّيْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ وَيَبْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا وَيُرْهَنَ مِنْهُ الدَّيْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَيَقْبِضَ ذَلِكَ الْحَقَّ لَهُ وَيَشْهَدَ لَهُ". وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سِوَاهُ; وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَقَبْضُ الدَّيْنِ لَا يَصِحُّ مَا دَامَ دَيْنًا لَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ حَقٌّ لَا يَصِحُّ فِيهِ قَبْضٌ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو ذَلِكَ الدَّيْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ الْأَوَّلِ أَوْ مُنْتَقِلًا إلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ الْفَضْلِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ أَقَلَّ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ هُوَ رَهْنًا لِبَقَائِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْغَيْرِ أَبْعَدُ فِي الْجَوَازِ لِعَدَمِ الْحِيَازَةِ فِيهِ وَالْقَبْضِ بِحَالٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إذَا وُضِعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَالثَّوْرِيُّ: "يَصِحُّ الرَّهْنُ إذَا جَعَلَاهُ عَلَى يَدَيْ عدل ويكون

مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "لَا يَجُوزُ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا جَعَلَاهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَضَيَاعُهُ مِنْ الرَّاهِنِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رَهْنِ شِقْصِ السَّيْفِ: "إنَّ قَبْضَهُ أَنْ يُحَوِّلَ حَتَّى يَضَعَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ عَلَى يَدَيْ الشَّرِيكِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ عَزَّ وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَقْتَضِي جَوَازَهُ إذَا قَبَضَهُ الْعَدْلُ; إذْ لَيْسَ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ، وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ قَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْقَبْضِ، فَكَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَسَائِرِ الْمَقْبُوضَاتِ بِوَكَالَةِ مَنْ لَهُ الْقَبْضُ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْعَدْلُ وَكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ، وَلَمَا كَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَقَابِضًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَرْضَ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا رَضِيَ بِيَدِ وَكِيلِهِ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَى هُوَ قَابِضٌ لِلسِّلْعَةِ لِلْمُوَكِّلِ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا بِالثَّمَنِ وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْحَبْسِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ؟ وَلَيْسَ جَوَازُ حَبْسِ الْوَكِيلِ الرَّهْنِ عَنْ الْمُرْتَهِنِ عَلَمًا لِنَفْيِ الْوَكَالَةِ وَكَوْنِهِ قَابِضًا لَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَ الْعَدْلِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ وَأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِي الْقَبْضِ، أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَتَى شَاءَ أَنْ يَفْسَخَ هَذَا الرَّهْنَ وَيُبْطِلَ يَدَ الْعَدْلِ وَيَرُدَّهُ إلَى الرَّهْنِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ إبْطَالُ يَدِ الْعَدْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَعَلَا الْمَبِيعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ وَكِيلًا لِلْمُشْتَرِي فِي قَبْضِهِ، كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ. قِيلَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْبَيْعِ لَوْ صَارَ وَكِيلًا لِلْمُشْتَرِي لَخَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَفِي خُرُوجِهِ مِنْ ضَمَانِ بَائِعِهِ سُقُوطُ حَقِّهِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ قَبْضَهُ بَطَلَ حَقُّهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ؟ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَيْسَ لَهُ إلَّا قَبْضٌ وَاحِدٌ، فَمَتَى وُجِدَ سَقَطَ حَقُّ الْبَائِعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى يَدِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْدَعَهُ إيَّاهُ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ وَكِيلًا لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ وَكِيلًا لَهُ لَصَارَ قَابِضًا لَهُ قَبْضَ بَيْعٍ وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنْهُ، فَكَانَ لَا مَعْنَى لِقَبْضِ الْعَدْلِ بَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي كَأَنَّهُ قَبَضَهُ وَالْبَائِعُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ وَكِيلًا لِلْمُشْتَرِي. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهُ لِلْمُشْتَرِي لَتَمَّ الْبَيْعُ فِيهِ، وَفِي تَمَامِ الْبَيْعِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَائِعِ فِيهِ، فَلَا مَعْنَى لِبَقَائِهِ فِي يَدَيْ الْعَدْلِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَدْلِ وَكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ لَا يُوجِبُ إبْطَالَ حَقِّ الرَّاهِنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الرَّاهِنِ بَاقٍ بَعْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ؟ فَكَذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِ الْعَدْلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَبْضِ الْعَدْلِ وَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ; وَفَارَقَ الْعَدْلَ فِي الشِّرَى لِامْتِنَاعِ كَوْنِهِ وَكِيلًا لِلْمُشْتَرِي; إذْ كَانَ يَصِيرُ فِي مَعْنَى قَبْضِ الْمُشْتَرِي فِي خُرُوجِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَدُخُولِهِ في

ضَمَانِهِ وَفِي مَعْنَى تَمَامِ الْبَيْعِ فِيهِ وَسُقُوطِ حَقِّ الْبَائِعِ مِنْهُ وَالْبَائِعُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، ولا يجوز أن يكون عدلا 1 مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ مُوجِبٌ لَهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ أَوْ يَرْضَى بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ يَقْبِضُ الثَّمَنَ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

_ 1 قوله "عدلا" أي مثلا، وليس المراد العدل بالمعنى الأول. لمصححه.

بَابُ ضَمَانِ الرَّهْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فَعَطَفَ بِذِكْرِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّهْنِ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِأَمَانَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمَانَةً كَانَ مَضْمُونًا; إذْ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَانَةً لَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمَانَةَ لِأَنَّ الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف عَلَى غَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ". وَقَالَ الثَّقَفِيُّ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ: "مَا كَانَ مِنْ رَهْنٍ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثِيَابًا فَهُوَ مَضْمُونٌ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا أَوْ حَيَوَانًا فَهَلَكَ فَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ اشْتَرَطَ الضَّمَانَ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "إنْ عَلِمَ هَلَاكَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلَاكَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ، يُقَالُ لَهُ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ حَلَفَ عَلَى صِفَتِهِ وَتَسْمِيَةِ مَالِهِ فِيهِ، ثُمَّ يُقَوِّمُهُ أَهْلُ الْبَصَرِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَمَّا سَمَّى فِيهِ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى الرَّاهِنُ حَلَفَ عَلَى مَا سَمَّى وَبَطَلَ عَنْهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَحْلِفَ أُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ مَا فَضُلَ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ". وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ فِيهِ: "إذَا شَرَطَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُصَدَّقٌ فِي ضَيَاعِهِ وَأَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَشَرْطُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ ضَامِنٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ فَدَيْنُهُ بَاقٍ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَغْلَقُ" وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَا فِيهِ إذَا عَلِمَ وَلَكِنْ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ هَلَاكَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ: "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" قَالَ: "فَأَمَّا غُنْمُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رُدَّ إلَيْهِ، وَأَمَّا غُرْمُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ وَفَّاهُ إيَّاهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "الرَّهْنُ مِمَّا فِيهِ إذَا هَلَكَ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا فِيهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِهِ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا فِيهِ تَرَادَّا الْفَضْلَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "هُوَ أَمَانَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ بِحَالٍ إذَا هَلَكَ، سَوَاءٌ كَانَ هَلَاكُهُ ظَاهِرًا أو خفيا".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِيهِ، إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ، فَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا رَهَنَ بِهِ فَهَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ، وَإِذَا كَانَ بِأَقَلَّ مِمَّا رَهَنَهُ بِهِ فَهَلَكَ رَدَّ الرَّاهِنُ الْفَضْلَ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ; وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الرَّهْنِ إذَا هَلَكَ قَالَ: "يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ جَائِحَةٌ وَاتُّهِمَ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْفَضْلَ". فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ، وَفِي جَمِيعِهَا ضَمَانُهُ; إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا عَنْهُ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ". وَقَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "إنَّ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ". وَقَالَ شُرَيْحٌ: "وَإِنْ كَانَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ". فَلَمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ضَمَانِهِ وَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ "إنَّهُ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ" خَارِجًا عَنْ قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَفِي الْخُرُوجِ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ مُخَالَفَةٌ لِإِجْمَاعِهِمْ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى ضَمَانِهِ فَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِ بِنَفْيِ ضَمَانِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَبَيْنَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ مَضْمُونٌ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ قَاضٍ بِفَسَادِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ أَمَانَةً; وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى ضَمَانِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت عَطَاءً يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ: "ذَهَبَ حَقُّك" وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "لَا شَيْءَ لَك" فَقَوْلُهُ لِلْمُرْتَهِنِ "ذَهَبَ حَقُّك" إخْبَارٌ بِسُقُوطِ دَيْنِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ هُوَ دَيْنُهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْغَنَوِيُّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَا: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الزَّارِعُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ" وَالْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ ضَمَانُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ "الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاتَمٍ رُهِنَ بِدَيْنٍ فَهَلَكَ أَنَّهُ بِمَا فِيهِ؟ وَظَاهِرُ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مثل

الرَّهْنِ أَوْ أَقَلَّ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ رَدَّ الْفَضْلَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يُبَاعَ فَيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَقْبُوضٌ لِلِاسْتِيفَاءِ فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَقْبُوضٌ بِهِ، كَالْمَغْصُوبِ مَتَى هَلَكَ هَلَكَ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْبُوضُ عَلَى بَيْعٍ فَاسِدٍ أَوْ جَائِزٍ إنَّمَا يَهْلَكُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَصَلَ قَبْضُهُ عَلَيْهِ; فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا لِلِاسْتِيفَاءِ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا; وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَيَكُونَ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِهِ لِدَيْنِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ، فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَقَلَّ قِيمَةً فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْعَلَ اسْتِيفَاءَ الْعِدَّةِ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ دَيْنِهِ فَيَكُونُ أَمِينًا فِي الْفَضْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى ضَمَانِهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ، نَحْوَ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ وَصَحَّ بِالدُّيُونِ الْمَضْمُونَةِ; وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ فَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لَهُ بِهَلَاكِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي الْأُصُولِ حَبْسًا لِمِلْكِ الْغَيْرِ لِحَقٍّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي لَمَّا كَانَ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ؟ وَكَذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ يَكُونُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ مَضْمُونًا بِالْمَنَافِعِ اسْتَعْمَلَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ وَيَلْزَمُهُ بِحَبْسِهِ ضَمَانُ الْأُجْرَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الْمَنَافِعِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَبْسَ مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَخْلُو مِنْ تَعَلُّقِ ضَمَانٍ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهِ أَمَانَةً بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا يُوَصِّلُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ; وَقَوْلُهُ: "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا رَوَى مَالِكٌ وَيُونُسَ وَابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" قَالَ يُونُسَ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ "الرَّهْنُ لِمَنْ رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" فَأَخْبَرَ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ قَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَالَ: وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ يُعَزِّيهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" بِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ زِيَادَتَهُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ نُقْصَانَهُ وَالدَّيْنُ بِحَالِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَطَاوُسًا ذَكَرَا جَمِيعًا أَنَّهُمْ كَانَا يَرْهَنُونَ وَيَقُولُونَ: إنْ جِئْتُك بِالْمَالِ إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا فَهُوَ لَك; فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ

الرَّهْنُ". وَتَأَوَّلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ وَسُفْيَانُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ لِلرَّهْنِ إذَا ضَاعَ: قَدْ غَلِقَ الرَّهْنُ، إنَّمَا يُقَالَ غَلِقَ، إذَا اسْتَحَقَّهُ الْمُرْتَهِنُ فَذَهَبَ بِهِ; وَهَذَا كَانَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ". وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ غَلِقَ الرَّهْنُ إذَا ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ; قَالَ زُهَيْرٌ: وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى رَهْنُهَا غَلَقَا يَعْنِي: ذَهَبَتْ بِقَلْبِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَهَلْ يَمْنَعُنِي ارْتِيَادُ الْبِلَادِ ... مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِينِ عَلَيَّ رَقِيبٌ لَهُ حَافِظٌ ... فَقَلَّ فِي امْرِئٍ غَلْقُ مُرْتَهَنِ فَقَالَ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي: "فَقَلَّ فِي امْرِئٍ غَلْقُ مُرْتَهِنِ" يَعْنِي أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، وَالثَّانِي: عِنْدَ الْهَلَاكِ لَا يَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَفَصَلَهُ بَعْضُهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ لَهُ زِيَادَتَهُ وَعَلَيْهِ نُقْصَانَهُ; فَإِنَّهُ تَأْوِيلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغُرْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اللُّزُومُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] يَعْنِي ثَابِتًا لَازِمًا. وَالْغَرِيمُ: الَّذِي قَدْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ، وَيُسَمَّى بِهِ أَيْضًا الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ" فَجَعَلَ الْغُرْمَ هُوَ لُزُومُ الْمُطَالَبَةِ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْآدَمِيِّ وَفِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ". وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] وَهُمْ الْمَدِينُونَ; وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] يَعْنِي مُلْزَمُونَ مُطَالَبُونَ بِدُيُونِنَا. فَهَذَا أَصْلُ الْغُرْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ; حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِي مَعْنَى الْغُرْمِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: "أَخْطَأَ مَنْ قَالَ إنَّ هَلَاكَ الْمَالِ وَنُقْصَانَهُ يُسَمَّى غُرْمًا لِأَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي ذَهَبَ مَالُهُ لَا يُسَمَّى غَرِيمًا وَإِنَّمَا الْغَرِيمُ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ لِلْآدَمِيِّ بِدَيْنٍ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ "وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" أَنَّهُ نُقْصَانٌ خَطَأٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" وَلَمْ يَتَأَوَّلْهُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ; لِأَنَّهُ مِنْ مَذْهَبِهِ ضَمَانُ الرهن. وذكر

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ فِي كِتَابِ السَّبْعَةِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ إذَا هَلَكَ وَعَمِيَتْ قِيمَتُهُ وَيَرْفَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الثِّقَةُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ضَمَانَ الرَّهْنِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ قَوْلَهُ "وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْوَاجِبُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَقْضِيَ بِتَأْوِيلِ الرَّاوِي عَلَى مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ، فَجَعَلَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَنَّهُ فِي الْأَمْوَالِ حُجَّةً فِي أَنْ لَا يُقْضَى فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَقَضَى بِقَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ أَنَّهُ بِقِلَالِ هَجَرَ عَلَى مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ فِي خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا أَنَّهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ قَاضِيًا عَلَى مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ; فَلَزِمَهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَاضِيًا عَلَى مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ قَوْلُهُ: "وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" ثَابِتًا عَنْهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "لَهُ غُنْمُهُ" أَنَّ لِلرَّاهِنِ زِيَادَتَهُ "وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" يَعْنِي دَيْنَهُ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ; وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوجِبُونَ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" أَيْ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: لِصَاحِبِهِ يَعْنِي: لِلرَّاهِنِ غُنْمُهُ يَعْنِي: زِيَادَتَهُ; فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ عَيْنِ الرَّهْنِ لِإِنْمَائِهِ وَزِيَادَتِهِ، وَأَنَّ دَيْنَهُ بَاقٍ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ "وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" كَقَوْلِهِ "وَعَلَيْهِ دَيْنُهُ". فَإِذًا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِ الرَّهْنِ غَيْرَ مَضْمُونٍ، بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" إذَا أَرَادَ بِهِ حَالَ بَقَائِهِ عِنْدَ الْفِكَاكِ وَإِبْطَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِ مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ، قَدْ حَوَى مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَجُوزُ هُوَ، لِإِبْطَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَهُمْ وَإِجَازَتِهِ الرَّهْنَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الرَّهْنَ لَمَّا كَانَ شَرْطُ صِحَّتِهِ الْقَبْضَ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ثُمَّ لَمْ تُفْسِدْهُ الشُّرُوطُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ مِنْ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فِي أَنَّ الشُّرُوطَ لَا تُفْسِدُهَا، لِاجْتِمَاعِهَا فِي كَوْنِ الْقَبْضِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا. وَقَدْ دَلَّ هَذَا الْخَبَرُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عُقُودَ التَّمْلِيكَاتِ لَا تُعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ; لِأَنَّ شَرْطَهُمْ لِمِلْكِ الرَّهْنِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَانَ تَمْلِيكًا مُعَلَّقًا عَلَى خَطَرٍ وَعَلَى مَجِيءِ وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَ التَّمْلِيكِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي سَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ وَالْبَرَاءَةِ فِي امْتِنَاعِ تَعَلُّقِهَا عَلَى الْأَخْطَارِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: "إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ وَهَبْت لَك الْعَبْدَ" أَوْ قَالَ: "قَدْ بِعْتُكَهُ" إنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ; وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: "إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُك مِمَّا لِي

عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ" كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَفَارَقَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ الْعَتَاقَ وَالطَّلَاقَ فِي جَوَازِ تَعَلُّقِهِمَا عَلَى الْأَخْطَارِ، لِأَنَّ لَهُمَا أَصْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَازَ الْكِتَابَةَ بِقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ" وَذَلِكَ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى خَطَرٍ وَعَلَى مَجِيء حَالٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَقَالَ فِي شَأْنِ الطَّلَاقِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ إيقَاعِهِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ إضَافَتِهِ إلَى وَقْتِ السُّنَّةِ. وَلَمَّا كَانَ إيجَابُ هَذَا الْعَقْدِ أَعْنِي الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ، وَالْخُلْعُ بِمَالٍ مَشْرُوطٌ لِلزَّوْجِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا أَوْجَبَهُ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، صَارَ ذَلِكَ عِتْقًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ بِمَنْزِلَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِيهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّقِهِمَا عَلَى شُرُوطٍ وَأَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَلْحَقُهُمَا الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا، وَسَائِرُ الْعُقُودِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُهَا عَلَى الْأَخْطَارِ. وَنَظِيرُ دَلَالَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" عَلَى مَا ذَكَرْنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَعَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ" وَهَذِهِ بِيَاعَاتٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَ بِهَا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا لَمَسَ السِّلْعَةَ أَوْ أَلْقَى الثَّوْبَ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ حَصَاةً وَجَبَ الْبَيْعُ، فَكَانَ وُقُوعُ الْمِلْكِ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَلْ بِفِعْلٍ آخَرَ يَفْعَلُهُ أَحَدُهُمَا، فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عُقُودَ التَّمْلِيكَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ أَصْحَابُنَا الرَّهْنَ مَضْمُونًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْبُوضًا لِلِاسْتِيفَاءِ وَجَبَ اعْتِبَارُ مَا يَصِحُّ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْ عِدَّةٍ أَقَلَّ مِنْهَا وَلَا أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِي الْفَضْلِ وَضَامِنًا لِمَا نَقَصَ الرَّهْنُ عَنْ الدَّيْنِ. وَمَنْ جَعَلَهُ بِمَا فِيهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ شَبَّهَهُ بِالْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَنَّهُ يَهْلَكُ بِالثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ; وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ عِنْدَنَا; لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْتَقَضُ بِهَلَاكِهِ فَسَقَطَ الثَّمَنُ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ بَقَاءُ الثَّمَنِ مَعَ انْتِقَاضِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِهَلَاكِهِ وَلَا يُنْتَقَضُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ بِهِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ ضَمَانِهِ بِمَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ عَنْ الدَّيْنِ أَمَانَةً، فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ أَمَانَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ حَبْسُهُ بِالدَّيْنِ لِلِاسْتِيفَاءِ مُوجِبًا لِضَمَانِهِ؟ لِوُجُودِنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الزِّيَادَةِ مَعَ عَدَمِ الضَّمَانِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَرْهُونَةِ الْمَوْلُودُ بَعْدَ الرَّهْنِ يَكُونُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مَعَ الْأُمِّ، وَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ عِلَّةً لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا. قِيلَ لَهُ: إنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مِنْ مِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَوَلَدِ الْمَرْهُونَةِ كِلَاهُمَا تَابِعٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ جَائِزٍ إفْرَادُهُمَا دُونَ الْأَصْلِ إذَا أُدْخِلَا فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التبع،

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُمَا بِحُكْمِ الضَّمَانِ لِامْتِنَاعِ إفْرَادِهِمَا بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ حُدُوثِ الْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ حُكْمُ مَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ حُكْمَ مَا يُفْرَدُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْأُمِّ وَيُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الِاسْتِيلَادِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ وَلَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُ فِي الْأَصْلِ بِهَذَا الْحَقِّ لَا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ؟ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ وَهُوَ حَمْلٌ مَعَ اسْتِحَالَةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. فَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْت مِنْ زِيَادَةِ الرَّهْنِ وَوَلَدِ الْمَرْهُونَةِ، لَمَّا دَخَلَا فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْأَصْلِ وَلَا أَنْ يَلْحَقَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا اُبْتُدِئَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَهْدَى بَدَنَةً فَزَادَتْ فِي بَدَنِهَا أَوْ وَلَدَتْ، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا بِزِيَادَتِهَا وَوَلَدِهَا; وَلَوْ ذَهَبَتْ الزِّيَادَةُ وَهَلَكَ الْوَلَدُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْهَلَاكِ شَيْءٌ غَيْرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَسَطٌ فَأَهْدَى بَدَنَةً خِيَارًا مُرْتَفِعَةً، أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حُكْمُهَا ثَابِتٌ مَا بَقِيَ الْأَصْلُ، فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ بَطَلَ حُكْمُ الزِّيَادَةِ وَعَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَدَلُ الزِّيَادَةِ وَلَدًا وَلَدَتْهُ كَانَ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَرْهُونَةِ وَزِيَادَتُهَا عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ هَذَا حُكْمُهَا فِي بَقَاءِ حُكْمِهَا مَا دَامَا قَائِمَيْنِ وَسُقُوطُ حُكْمِهِمَا إذا هلكا. والله أعلم.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَزُفَرُ: "لَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْ الرَّهْنِ وَلَا لِلرَّاهِنِ أَيْضًا" وَقَالُوا: "إذَا آجَرَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ آجَرَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَلَا يَعُودُ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا آجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالٍ وَالْغَلَّةُ لِلْمُرْتَهِنِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا خَلَّى الْمُرْتَهِنُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالرَّاهِنِ يُكْرِيهِ أَوْ يُسَكِّنُهُ أَوْ يُعِيرُهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا، وَإِذَا آجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا آجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَالْأَجْرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلَا يَكُونُ الْكَرْيُ رَهْنًا بِحَقِّهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ"، فَإِنْ اشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَرْتَهِنَ وَيَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ الْكَرْيِ، فَإِنَّ مَالِكًا كَرِهَ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ; وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ وَقَعَ بِهَذَا الشَّرْطِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ شَرَطَ فِيهِ الْبَائِعُ بَيْعَهُ الرَّهْنَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ حَقِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِ وَكَرِهَهُ فِي الْحَيَوَانِ. وَذَكَرَ الْمُعَافَى عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُنْتَفَعَ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ وَلَا يُقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ الْمَرْهُونِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ غَلَّةُ الرَّهْنِ لِصَاحِبِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَالْفَضْلُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَلَّةً وَكَانَ يَسْتَخْدِمُهُ فَطَعَامُهُ بِخِدْمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَخْدِمُهُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يَسْتَعْمِلُ الرَّهْنَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَارًا

يَخَافُ خَرَابَهَا فَيَسْكُنَهَا الْمُرْتَهِنُ لَا يُرِيدُ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَإِنَّمَا يُرِيدُ إصْلَاحَهَا". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا لَبِسَ الْمُرْتَهِنُ الْخَاتَمَ لِلتَّجَمُّلِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَبِسَهُ لِيَحُوزَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ الْعَبْدُ الرَّهْنَ بِطَعَامِهِ إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ بِقَدْرِ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ أَكْثَرَ أَخَذَ فَضْلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ". وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيمَا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ" أَيْ مَنْ رَهَنَ ذَاتَ ظَهْرٍ وَدَرٍّ لَمْ يَمْنَعْ الرَّهْنُ مِنْ ظَهْرِهَا وَدَرِّهَا، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَيَحْلُبَ الدَّرَّ وَيَجُزَّ الصُّوفَ وَيَأْوِيَ بِاللَّيْلِ إلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَجَعَلَ الْقَبْضَ مِنْ صِفَاتِ الرَّهْنِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ مُوجِبًا لِإِبْطَالِ الرَّهْنِ، فَإِذَا آجَرَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ اسْتَحَقَّ الْقَبْضَ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الرَّهْنُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْعَارِيَّةِ عِنْدَنَا; لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ; إذْ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرُدَّ الْعَارِيَّةَ إلَى يَدِهِ مَتَى شَاءَ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ إجَارَتَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَبَنُ الدَّرِّ يُحْلَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا وَالظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ النَّفَقَةُ" فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِرُكُوبِ ظَهْرِهِ وَشُرْبِ لَبَنِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِمِلْكِهِ لَا لِرُكُوبِهِ وَلَبَنِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُرْكَبُ أَوْ يُحْلَبُ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّبَنَ وَالظَّهْرَ لِلْمُرْتَهِنِ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يُنْفِقُهَا. وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ هُشَيْمٌ فِي حَدِيثِهِ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: "إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتُهَا، وَيُرْكَبُ" فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُوَ الَّذِي تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ وَيَكُونُ لَهُ ظَهْرُهُ وَلَبَنُهُ; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ" فَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "لَا يُنْتَفَعُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ" فَقَدْ تَرَكَ الشَّعْبِيُّ ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا وَهُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ كَانَ جَائِزًا قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فَلَمَّا حُرِّمَ الرِّبَا وَرُدَّتْ الْأَشْيَاءُ إلَى مَقَادِيرِهَا; صَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ النَّفَقَةَ بَدَلًا مِنْ اللَّبَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؟ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ فِي الْمُصَرَّاةِ أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ مِقْدَارَ اللَّبَنِ الَّذِي أَخَذَهُ وَذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَنَا مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِإِيجَابِ الركوب واللبن

لِلرَّاهِنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ صِفَاتِ الرَّهْنِ الْقَبْضَ كَمَا جَعَلَ مِنْ صِفَاتِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةَ بِقَوْلِهِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَوَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ; فَكَذَلِكَ لَمَّا جَعَلَ مِنْ صِفَاتِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا بِقَوْلِهِ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَجَبَ إبْطَالُ الرَّهْنِ لِعَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ، فَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُسْتَحِقًّا لِلْقَبْضِ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الرَّهْنُ لَمَنَعَ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ. وَأَيْضًا لِمُقَارَنَةِ مَا يُبْطِلُهُ، وَلَوْ صَحَّ بَدِيًّا لَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ وُجُوبُ رَدِّهِ إلَى يَدِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْءِ الْأَمَةِ الْمَرْهُونَةِ، وَالْوَطْءُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ الْمَنَافِعِ فِي بُطْلَانِ حَقِّ الرَّاهِنِ فِيهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَطْءَ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَحِقُّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ الِاسْتِخْدَامُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ شَرَطَ مِلْكَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا رَهَنَهُ رَهْنًا وَقَالَ إنْ جِئْتُك بِالْمَالِ إلَى شَهْرٍ وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعٌ، فَالرَّهْنُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ" وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّهْنُ فَاسِدٌ وَيَنْقَضِ، فَإِنْ لَمْ يُنْقَضْ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُ بِحَقِّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ فِي يَدِهِ لَمْ يُرَدَّ وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ يَوْمَ حَلَّ الْأَجَلُ; وَهَذَا فِي السِّلَعِ وَالْحَيَوَانِ وَأَمَّا فِي الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا إلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ تَطَاوَلَ إلَّا أَنْ تَنْهَدِمَ الدَّارُ أَوْ يُبْنَى فِيهَا أَوْ يُغْرَسُ فِي الْأَرْضِ، فَهَذَا فَوْتٌ وَيُغْرَمُ الْقِيمَةُ مِثْلَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَقَالَ الْمُعَافَى عَنْ الثَّوْرِيِّ فِي الرَّجُلِ يَرْهَنُ صَاحِبَهُ الْمَتَاعَ وَيَقُولُ: إنْ لَمْ آتِك فَهُوَ لَك، قَالَ: "لَا يَغْلَقُ ذَلِكَ الرَّهْنُ" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَيْسَ قَوْلُهُ هَذَا بِشَيْءٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ: لَوْ رَهَنَهُ وَشَرَطَ لَهُ إنْ لَمْ يَأْتِهِ بِالْحَقِّ إلَى كَذَا فَالرَّهْنُ لَهُ بَيْعٌ، فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ وَالرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الرَّهْنِ وَفَسَادِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ قَوْلَهُ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالدَّيْنِ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ لِلشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَاهُ، فَإِنَّمَا نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلْقَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَنْفِ صِحَّةَ الرَّهْنِ الَّذِي شَرَطَاهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ وَبُطْلَانِ الشَّرْطِ. وَهُوَ أَيْضًا قِيَاسُ الْعُمْرَى الَّتِي أَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الشَّرْطَ وَأَجَازَ الْهِبَةَ; وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ بِالْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ وَاخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ

فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الدَّيْنِ مَعَ يَمِينِهِ" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَالَ طَاوُسٌ: "يُصَدَّقُ الْمُرْتَهِنُ إلَى ثَمَنِ الرَّهْنِ وَيُسْتَحْلَفُ" وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ. وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَوْلًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ: "إنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ بِدَفْعِهِ الرَّهْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ; لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ جَحَدَهُ الرَّهْنَ، وَمَتَى أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الدَّيْنِ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ قَدْرَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ وَكَانَ أَوْلَى بِهِ وَيُحَلِّفُهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الرَّهْنِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ رَهْنَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ لَا يُصَدَّقُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِأَنَّهُ وَعَظَهُ فِي الْبَخْسِ وَهُوَ النُّقْصَانُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ. وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وَالْمُرْتَهِنُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالرَّاهِنُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ رَهْنٌ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي مِقْدَارِهِ بِالِاتِّفَاقِ، كَذَلِكَ إذَا كَانَ بِهِ رَهْنٌ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعًى عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَجُّ لِمَالِكٍ أَنَّ قَوْلَهُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَأَقَامَ الرَّهْنَ مَقَامَ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَأْتَمِنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ حِينَ أَخَذَ مِنْهُ وَثِيقَةً كَمَا لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَى مَبْلَغِهِ إذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ لِأَنَّ الشُّهُودَ وَالْكُتَّابَ تُنَبِّئُ عَنْ مَبْلَغِ الْحَقِّ، فَلَمْ يُصَدَّقْ الرَّاهِنُ وَقَامَ الرَّهْنُ مَقَامَ الشُّهُودِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ قِيمَتَهُ، فَإِذَا جَاوَزَ قِيمَتَهُ فَلَا وَثِيقَةَ فِيهِ وَالْمُرْتَهِنُ مُدَّعٍ فِيهِ وَالرَّاهِنُ مُدَّعًى عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الْحُجَّاجِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْتَمِنْهُ حَتَّى أَخَذَ الرَّهْنَ قَامَ الرَّهْنُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ، وَزَعَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْلَ قَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ حِينَ قَالَ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ وَالْكِتَابِ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَدَمَ ائْتِمَانِ الطَّالِبِ لِلْمَطْلُوبِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ ائْتِمَانِهِ إيَّاهُ بِالتَّوَثُّقِ مِنْهُ بِالرَّهْنِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ. قَوْلِ الْمَطْلُوبِ وَمُوجِبًا لِتَصْدِيقِ الطَّالِبِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي نَصَبَهَا لِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ فِي تَرْكِ ائْتِمَانِهِ مُنْتَقِضَةٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ. ثُمَّ دَعْوَاهُ مُوَافَقَتَهُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ قَضَى بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ حِينَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ في

الْحَالِ الَّتِي لَمْ يُؤْتَمَنْ فِيهَا حَتَّى اسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ، وَهُوَ فَإِنَّمَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ حِينَ أَخَذَ الرَّهْنَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الطَّالِبِ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ وَأَنَّ الرَّهْنَ تَوَثُّقٌ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ تَوَثُّقٌ فَقَامَ الرَّهْنُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ. وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّا كُنَّا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ وَرَدَ لِمَسْأَلَةِ الرَّهْنِ إلَى مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَنْ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ; وَهُوَ قِيَاسٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَرُدُّهُ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِيمَا يَلْزَمُهُ وَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الِائْتِمَانِ بِأَخْذِهِ الْكَفِيلَ مُوجِبًا لِتَصْدِيقِ الطَّالِبِ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ فِيهِ فَانْتَقَضَتْ عِلَّتُهُ بِالْكَفَالَةِ. وَالثَّالِثِ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ لَمْ يُصَدَّقْ الطَّالِبُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ مَقْبُولَةٌ مَحْكُومٌ فِيهَا وَهُمْ قَدْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ وَبِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي فَصَارَ كَإِقْرَارِهِ عِنْدَ الْقَاضِي. بِالزِّيَادَةِ; وَلَا دَلَالَةَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ بِمِقْدَارِهِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَرْهَنَ بِالْقَلِيلِ الْكَثِيرَ وَبِالْكَثِيرِ الْقَلِيلَ وَلَا تُنْبِئُ قِيمَةُ الرَّهْنِ عَنْ مِقْدَارِ الدَّيْنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قِيَاسِهِ هَذَا أَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ بُطْلَانَ الرَّهْنِ، وَلَوْ أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ دَيْنَهُ أَقَلُّ مِمَّا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ بَطَلَتْ شَهَادَةُ شُهُودِهِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تُوجِبُ بُطْلَانَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْمُحْتَجُّ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ التبايع بقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، فَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ الَّتِي يَلْزَمُ الشَّاهِدَ إقَامَتُهَا وَأَدَاؤُهَا، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الشَّاهِدَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَرَكَهَا يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ. وَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ إثْبَاتِ الشَّهَادَةِ فِي كُتُبِ الْوَثَائِقِ وَأَدَائِهَا بَعْدَ إثْبَاتِهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى الْحَقِّ غَيْرَ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا فَرْضُ أَدَائِهَا وَيَلْحَقُهُمَا إنْ تَخَلَّفَا عَنْهَا الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الْكِتْمَانِ مُفِيدًا لِوُجُوبِ أَدَائِهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ الْفَرْضَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَإِنَّمَا أَضَافَ الْإِثْمَ إلَى الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ الْكَاتِمُ هُوَ الْآثِمُ; لِأَنَّ الْمَأْثَمَ فِيهِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدِ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ عَقْدُ

النِّيَّةِ لِتَرْكِ أَدَائِهَا بِاللِّسَانِ، فَعَقْدُ النِّيَّةِ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ لَا نَصِيبَ لِلْجَوَارِحِ فِيهِ; وَقَدْ انْتَظَمَ الْكَاتِمُ لِلشَّهَادَةِ الْمَأْثَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: عَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يُؤَدِّيَهَا، وَالثَّانِي تَرْكِ أدائها باللسان. وقوله: {آثِمٌ قَلْبُهُ} مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ آكَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَقِيقَةِ لَوْ قَالَ: "وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ" وَأَبْلَغُ مِنْهُ وَأَدَلُّ عَلَى الْوَعِيدِ; وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْبَيَانِ وَلَطِيفِ الْإِعْرَابِ عَنْ الْمَعَانِي تَعَالَى اللَّهُ الْحَكِيمُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَآيَةُ الدَّيْنِ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الِاحْتِيَاطِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ الْمَرْضِيِّينَ وَالرَّهْنُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعَهُ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَفْيُ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَفِي التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَذَهَابُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا; قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا وَشُهُودًا أَوْ كِتَابًا أَوْ رَهْنًا بِمَا عَلَيْهِ وَثِيقَةٌ فِي يَدِ الطَّالِبِ، قَلَّ الْخِلَافُ، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ خِلَافَهُ وَبَخْسَهُ لِحَقِّ الْمَطْلُوبِ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَظْهَرُ كَذِبُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَثِيقَةٌ وَاحْتِيَاطٌ لِلطَّالِبِ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمَا جَمِيعًا فِي دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ بَخْسَ حَقِّ الطَّالِبِ صَلَاحَ دِينِهِ وَفِي جُحُودِهِ وَبَخْسِهِ ذَهَابَ دِينِهِ إذَا عَلِمَ وُجُوبَهُ; وَكَذَلِكَ الطَّالِبُ إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَشُهُودٌ أَثْبَتُوا مَا لَهُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَجَحَدَ الطَّالِبُ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مُقَابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَيْدِهِ حَتَّى رُبَّمَا لَمْ يَرْضَ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِهِ فِي أَضْعَافِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ مُتَعَالَمٌ مِنْ أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ وَالْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ وَالْأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا يُسْكِرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالِاخْتِلَافِ وَالشَّحْنَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لِنَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالْعَدَاوَةِ وَلِمَا فِي ارْتِكَابِهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، فَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ وَانْتَهَى إلَى أَوَامِرِهِ وَانْزَجَرَ بِزَوَاجِرِهِ حَازَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 66 - 68] . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ وَالْعُقُودِ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا تَارَةً بِالشَّهَادَةِ وَتَارَةً بِالرَّهْنِ، دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ

يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] وَقَوْلِهِ: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْآيُ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَبْذِيرِهِ وَتَضْيِيعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; حَدَّثَنَا بَعْضُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُحِبُّ اللَّهُ إضَاعَةَ الْمَالِ وَلَا قِيلَ وَلَا قَالَ". وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ وَرَادٍّ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ: اُكْتُبْ إلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَحَدٌ قَالَ: فَأَمْلَى عَلَيَّ وَكَتَبْت: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ. فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي حَرَّمَ فَعُقُوقُ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدُ الْبَنَاتِ وَلَا وَهَاتِ1، وَالثَّلَاثُ الَّتِي نَهَى عَنْهُنَّ فَقِيلَ وَقَالَ وَإِلْحَافُ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ". قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قَالَ: قَرَأَهَا ابْنُ عُمَرَ وَبَكَى قَالَ: إنَّا لَمَأْخُوذُونَ بِمَا نُحَدِّثُ بِهِ أَنْفُسَنَا؟ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عُمَرَ لَقَدْ وَجَدَ مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ نَحْوًا مِمَّا وَجَدَ حَتَّى نَزَلَتْ بَعْدَهَا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} : أَنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ، لَكِنَّ اللَّهَ إذَا جَمَعَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ إنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِمَّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَائِكَتِي; فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]

_ 1 قوله "ولا" أي منع ما عليه اعطاؤه "وهات" أي طلب ما ليس له كما في النهاية لمصححه.

مِنْ الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنِ عُبَيْدٍ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي الشَّكِّ وَالْيَقِينِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسْخُ لِأَنَّ نَسْخَ مُخْبِرِهَا يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعَوَاقِبِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَعَبَثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْعَبَثِ. وَإِنَّمَا قَوْلُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَإِنَّهُ غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي فِي اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ مَعْنَاهَا وَإِزَالَةَ التَّوَهُّمِ عَنْ صَرْفِهِ إلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. وَقَدْ رَوَى مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ; وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّهَا فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَهَذِهِ أَوْلَى; لِأَنَّهُ عُمُومٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] أَيْ شَكٌّ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ". قِيلَ لَهُ: هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَلَا يَقَعُ عِتْقُهُ وَلَا طَلَاقُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ وَلَا هِبَتُهُ بِالنِّيَّةِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فِيمَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِمَّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَقَالَ: سِرُّ عَمَلِك وَعَلَانِيَتُهُ يُحَاسِبُك بِهِ اللَّهُ، وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُسِرُّ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا لِيَعْمَلَ بِهِ، فَإِنْ عَمِلَ بِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ هُوَ لَمْ يَقْدِرْ يَعْمَلْ بِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِسِرِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَانِيَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَ بِهِ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] وَهَذَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ". قَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُطِيقُهُ، وَلَوْ كَلَّفَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ لَكَانَ مُكَلِّفًا لَهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، أَلَا تَرَى قَوْلَ الْقَائِلِ "لَيْسَ فِي وُسْعِي كَيْتُ وَكَيْتُ" بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ "لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا أُطِيقُهُ"؟ بَلْ الْوُسْعُ دُونَ الطَّاقَةِ. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ الزَّمِنَ الْمَشْيَ وَالْأَعْمَى الْبَصَرَ وَالْأَقْطَعَ الْيَدَيْنِ الْبَطْشَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا

يَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ; وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَغَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْقِيَامِ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْهَا قَاعِدًا فَغَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْقُعُودِ بَلْ يُصَلِّيهَا عَلَى جَنْبٍ يُومِئُ إيمَاءً لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; وَنَصُّ التَّنْزِيلِ قَدْ أَسْقَطَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا يُطِيقُهُ. وَزَعَمَ قَوْمٌ جُهَّالٌ نَسَبْت إلَى اللَّهِ فِعْلَ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ، فَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَدْ أَكْذَبَ اللَّهُ قِيلَهُمْ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، مَعَ مَا قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ قُبْحِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَأَنَّ الْعَالِمَ بِالْقَبِيحِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ فِعْلِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ فِعْلُ الْقَبِيحِ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ قُوَاهُمْ لِأَنَّ الْوُسْعَ هُوَ دُونَ الطَّاقَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ اسْتِفْرَاغُ الْمَجْهُودِ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ نَحْوَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيُؤَدِّيهِ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي جِسْمِهِ; وَإِنْ لَمْ يَخْشَ الْمَوْتَ بِفِعْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ وَلَا يَبْلُغُ بِهِ حَالَ الْمَوْتِ. وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يَخْشَى ضَرَرَ الصَّوْمِ وَضَرَرَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إلَّا مَا اتَّسَعَتْ لَهُ قُدْرَتُهُ وَإِمْكَانُهُ دُونَ مَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ وَيُعَنِّتُهُ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وَقَالَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فَهَذَا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ فِي سَائِرِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَزَوَاجِرِهِ وَلُزُومُ التَّكْلِيفِ فِيهَا عَلَى مَا يَتَّسِعُ لَهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النِّسْيَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ النِّسْيَانُ فَيُحْسِنُ الِاعْتِذَارَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ أَوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ نَفْسُهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مَغْفِرَةَ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَالنِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّرْكِ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] يَعْنِي تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا ثَوَابَهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ النِّسْيَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ مُقَابَلَةِ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [البقرة: 194] وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الشورى: 40] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ فَإِنَّ حُكْمَهُ مَرْفُوعٌ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَالتَّكْلِيفُ فِي مِثْلِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِيمَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَصَّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ النِّسْيَانِ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى حُكْمِهَا; مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَامَ عَنْ

صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا" وَتَلَا عِنْدَ ذَلِكَ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فَعَلَ الْمَنْسِيَّةَ مِنْهَا عِنْدَ الذِّكْرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي لُزُومِهِ قَضَاءُ كُلِّ مَنْسِيٍّ عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَاسِيَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ بِمَنْزِلَةِ نَاسِي الصَّلَاةِ فِي لُزُومِ قَضَائِهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِدِ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ فِي حُكْمِ الْفُرُوضِ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّسْيَانِ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ; وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَارِكَ الطَّهَارَةِ نَاسِيًا كَتَارِكِهَا عَامِدًا فِي بُطْلَانِ حُكْمِ صَلَاتِهِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْأَكْلِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا: إنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ إيجَابُ الْقَضَاءِ; وَإِنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ. وَمَعَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ النَّاسِيَ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ; إذْ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ فَرْضٌ آخَرُ أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَكَانَ تَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ فَحَسْبُ، فَأَمَّا فِي لُزُومِ فَرْضٍ فَلَا. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" مَقْصُورٌ عَلَى الْمَأْثَمِ أَيْضًا دُونَ رَفْعِ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَإِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ؟ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسْيَانَ مَعَ الْخَطَإِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مِنْ أَصْلِكُمْ إيجَابُ فَرْضِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَلَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَتْ مَيْتَةً وَإِذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا حَلَّتْ وَكَانَتْ مُذَكَّاةً، وَلَمْ تَجْعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ الطَّهَارَةِ نَاسِيًا حَتَّى صَلَّى فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِإِعَادَتِهَا بِالطَّهَارَةِ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا. قِيلَ لَهُ: لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ فِي الْحَالِ غَيْرُ مَا فَعَلَ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ، وَاَلَّذِي لَزِمَهُ بَعْدَ الذِّكْرِ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ نُجِيزُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ مُكَلَّفًا فِي حَالِ النِّسْيَانِ لِلتَّسْمِيَةِ، فَصَحَّتْ الذَّكَاةُ، وَلَا تَتَأَتَّى بَعْدَ الذَّكَاةِ فِيهِ ذَبِيحَةٌ أُخْرَى فَيَكُونُ مُكَلَّفًا لَهَا كَمَا كُلِّفَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ. قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} هُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وَقَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 39 - 40] وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ فَأَحْكَامُ أَفْعَالِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِجَرِيرَةِ سِوَاهُ; وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي رِمْثَةَ حِينَ رَآهُ مَعَ ابْنِهِ فَقَالَ: "هَذَا ابْنُك؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "إنَّك لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْك". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ" فَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِي الْعُقُولِ غيره.

وقَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْحَجْرِ وَامْتِنَاعِ تَصَرُّفِ أَحَدٍ مِنْ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى سِوَاهُ بِبَيْعِ مَالٍ أَوْ مَنْعِهِ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى خُصُوصِهِ. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَالِك بْنِ أَنَسٍ فِي أَنَّ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ كَسْبَهُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَمَنَعَ لُزُومَهُ غَيْرَهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْإِصْرِ إنَّهُ الثِّقْلُ. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ إنَّهُ الْعَطْفُ، وَمِنْهُ أَوَاصِرُ الرَّحِمِ; لِأَنَّهَا تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ; وَالْوَاحِدُ آصِرَةٌ. وَالْمَأْصِرُ يُقَالُ إنَّهُ حَبْلٌ يُمَدُّ عَلَى طَرِيقٍ أَوْ نَهْرٍ تُحْبَسُ بِهِ الْمَارَّةُ وَيَعْطِفُونَ بِهِ عَنْ النُّفُوذِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْعُشُورُ وَالْمَكْسُ. وَالْمَعْنَى في قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يُرِيدُ بِهِ عَهْدًا وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَثْقُلُ; رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ; وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جِئْتُكُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ". وَرُوِيَ عَنْهُ "أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ". فَقَوْلُهُ: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يَعْنِي مِنْ ثِقَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وَهَذِهِ الْآيَةُ وَنَظَائِرُهَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ وَالثِّقَلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَسَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ، فَالْمُوجِبُ لِلثِّقَلِ وَالضِّيقِ وَالْحَرَجِ مَحْجُوجٌ بِالْآيَةِ، نَحْوَ إيجَابِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ فِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ فِيهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ يُجَوِّزُ لَنَا الِاحْتِجَاجَ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَشْتَدُّ وَيَثْقُلُ مِنْ التَّكْلِيفِ كَنَحْوِ مَا كُلِّفَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ; وَجَائِزٌ أَنْ يُعَبِّرَ بِمَا يَثْقُلُ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، كَقَوْلِك "مَا أُطِيقُ كَلَامَ فُلَانٍ وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَرَاهُ" وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِ; لِبُعْدِهِ مِنْ قَلْبِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِرُؤْيَتِهِ وَكَلَامِهِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف: 101] وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْمَاعٌ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا اسْتِمَاعَهُ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُحَمِّلْنَا مِنْ الْعَذَابِ مَا لَا نُطِيقُهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران.

باب القدر يقع فيها الطير فيموت

بَابُ الْقِدْرُ يَقَعُ فِيهَا الطَّيْرُ فَيَمُوتُ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ يُحَدِّثُ عَنْ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْئَةِ خُرَاسَانِيٍّ، فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ نَصَبَ لَهُ قِدْرًا فِيهَا لَحْمٌ عَلَى النَّارِ فَمَرَّ طَيْرٌ فَوَقَعَ فِيهَا فَمَاتَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَذَكَرُوا لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّحْمَ يُؤْكَلُ بَعْدَمَا يُغْسَلُ وَيُهْرَاقُ الْمَرَقُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِهَذَا نَقُولُ وَلَكِنْ هُوَ عِنْدَنَا عَلَى شَرِيطَةٍ، فَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا فَكَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ غَلَيَانِهَا لَمْ يُؤْكَلْ اللَّحْمُ وَلَا الْمَرَقُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ فِيهَا فِي حَالِ غَلَيَانِهَا فَمَاتَ فَقَدْ دَاخَلَتْ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ، وَإِذَا وَقَعَ فِي حَالِ سُكُونِهَا فَمَاتَ فَإِنَّ الْمَيْتَةَ وَسَّخَتْ اللَّحْمَ. فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثِينَ 1. هَذَا زِرَّيْنِ، بِالْفَارِسِيَّةِ، يَعْنِي الْمَذْهَبَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَ جَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِلَّةَ فَرْقِهِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْغَلَيَانِ وَحَالِ السُّكُونِ، وَهُوَ فَرْقٌ ظَاهِرٌ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الدَّجَاجَةِ تَقَعُ فِي قِدْرِ اللَّحْمِ وَهِيَ تُطْبَخُ فَتَمُوتُ فِيهَا، قَالَ: لَا أَرَى أَنْ آكُلَ تِلْكَ الْقِدْرَ; لِأَنَّ الْمَيْتَةَ قَدْ اخْتَلَطَتْ بِمَا كَانَ فِي الْقِدْرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُغْسَلُ اللَّحْمُ وَيُؤْكَلُ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ اللَّحْمُ حَتَّى يُغْسَلَ مِرَارًا وَيُغْلَى عَلَى النَّارِ حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي طَيْرٍ وَقَعَ فِي قِدْرٍ فَمَاتَ فَقَالَ: يُهْرَاقُ الْمَرَقُ وَيُؤْكَلُ اللَّحْمُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَالَ الْغَلَيَانِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْبَانَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ خَبَّابٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ قِدْرٌ عَلَى النَّارِ فَسَقَطَتْ فِيهَا دَجَاجَةٌ فَمَاتَتْ وَنَضِجَتْ مَعَ اللَّحْمِ، فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسِ فَقَالَ: اطْرَحْ الْمَيْتَةَ وَأَهْرِقْ الْمَرَقَ وَكُلْ اللَّحْمَ، فَإِنْ كَرِهْته فَأَرْسِلْ إلَيَّ مِنْهُ عُضْوًا أَوْ عُضْوَيْنِ. وَهَذَا أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حَالِ الْغَلَيَانِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَقَعَتْ فِيهِ بَعْدَ سُكُونِ الْغَلَيَانِ وَالْمَرَقُ حَارٌّ فَنَضِجَتْ فيه، والله سبحانه أعلم.

_ 1 قوله: "وعقد بيده ثلاثين" هو أن يضم باطن رأس إبهامه إلى باطن رأس سبابته من اليد اليمنى كهيئة الملتقط إبرة من الأرض، هذا هو المراد بعقد الثلاثين، وإنما فعله ابن المبارك بقصد الاستحسان لجواب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى. "لمصححه".

باب منفحة الميتة ولبنها

بَابُ مِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ وَلَبَنِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا طَاهِرَانِ لَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: يُكْرَهُ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَحَةُ إذَا كَانَتْ مَائِعَةً، فَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً فَلَا بَأْسَ. وَقَالُوا جَمِيعًا فِي الْبَيْضَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ: فَلَا بَأْسَ بِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ اللَّبَنُ فِي ضُرُوعِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا تُؤْكَلُ الْبَيْضَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: أَكْرَهُ أَنْ أُرَخِّصَ فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّبَنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْمَوْتِ; لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَيُؤْكَلُ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَلْبَانِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُحَرِّمُهُ مَوْتُ الشَّاةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِمَوْتِ الشَّاةِ وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ جُعِلَ فِي وِعَاءٍ مَيِّتٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ حُلِبَ مِنْ شَاةٍ حَيَّةٍ ثُمَّ جُعِلَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي ضَرْعِ الْمَيْتَةِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ لَا يُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ بِمَا حَدَثَ فِيهِ خِلْقَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ اللَّحْمِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُرُوقِ مَعَ مُجَاوَرَةِ الدَّمِ لِدَوَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ وَلَا غَسْلٍ لِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ لَا يُنَجِّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِمَا خُلِقَ فِيهِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فِي اقْتِضَائِهِ لَبَنَ الْحَيَّةِ وَلَبَنَ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هُمَا نَجِسَانِ مَعَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ، وَلَمْ تَكُنْ مُجَاوَرَتُهُ لَهُمَا مُوجِبَةً لَتَنْجِيسِهِ; لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخِلْقَةِ، كَذَلِكَ كَوْنُهُ فِي ضَرْعِ مَيْتَةٍ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ بِجُبْنَةٍ، فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَهَا بِالْعَصَا، فَقَالَ: "أَيْنَ يُصْنَعُ هَذَا؟ " فَقَالُوا: بِأَرْضِ فَارِسَ، فَقَالَ: "اُذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكُلُوا". وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ مَيْتَةٌ، وَقَدْ أَبَاحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْلَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مِنْ صَنْعَةِ أَهْلِ فَارِسَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا; إذْ ذَاكَ مَجُوسًا، وَلَا يَنْعَقِدُ الْجُبْنُ إلَّا بِإِنْفَحَةٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ. وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ

باب شعر الميتة وصوفها والفراء وجلود السباع

بَابُ شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا وَالْفِرَاءِ وَجُلُودِ السِّبَاعِ قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَمُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ. وَلَا بَأْسَ بِشَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا، وَلَا يَكُونُ مَيْتَةً لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا يُنْتَفَعُ بِعَصَبِ الْمَيْتَةِ وَلَا بِعَقِبِهَا" 1، وَلَا أَرَى بَأْسًا بِالْقَرْنِ وَالظِّلْفِ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ، وَلَا بَأْسَ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ وَلَا الشَّعْرِ وَلَا الصُّوفِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الشُّقْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ، وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَقَرْنِهَا إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْفِرَاءِ وَالْمَسَاتِقِ 2 قَالَ: "وفى الدِّبَاغُ عَنْكُمْ". وَرَوَى يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ هَارُونَ الْبُرْجُمِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفراء والجبن

_ 1 قوله "ولا بعقبها" العقب بمعنى العصب كما في النهاية فهو من عطف المرادف "لمصححه". 2 قوله "المساتق" جمع مستقة وهي فروة طويلة الكمين "لمصححه".

باب تحريم الدم

بَابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وَقَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي تَحْرِيمِهِ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الدِّمَاءِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الدَّمِ هُوَ الْمَسْفُوحُ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُهُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] خَاصٌّ فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ عَامٌّ فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ، فَوَجَبَ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَخُصُّهُ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] جَاءَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ سَائِرِ الدِّمَاءِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ بِهَذَا الْوَصْفِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} مُتَأَخِّرًا عَنْ قَوْلِهِ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] أَوْ أَنْ يَكُونَا نَزَلَا مَعًا. فَلَمَّا عَدِمْنَا تَارِيخَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِنُزُولِهِمَا مَعًا، فَلَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ تَحْرِيمُ الدَّمِ إلَّا مَعْقُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا. وَحَدَّثَنَا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] لَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْعُرُوقِ مَا اتَّبَعَ الْيَهُودُ. وَحَدَثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن قتادة في قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] قَالَ: حُرِّمَ مِنْ الدَّمِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا، وَأَمَّا اللَّحْمُ يُخَالِطُهُ الدَّمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الدَّمِ يَكُونُ فِي اللَّحْمِ وَالْمَذْبَحِ قَالَتْ: "إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَكْلِ اللَّحْمِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْفُوحٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ فِيهِ؟ وَلَيْسَ هُوَ بِمُحَرَّمٍ;

باب تحريم الخنزير

بَابُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] فَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْأُمَّةُ عَقَلَتْ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ مِثْلَ مَا عَقَلَتْ مِنْ تَنْزِيلِهِ، وَاللَّحْمُ وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ فَإِنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّحْمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَنْفَعَتِهِ وَمَا يُبْتَغَى مِنْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُرَادُ حَظْرُ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فِي الصَّيْدِ، وَخَصَّ الْقَتْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الصَّيْدُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فَخَصَّ الْبَيْعَ بِالنَّهْيِ; لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ مَا يَبْتَغُونَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ وَالْمَعْنِيُّ جَمِيعُ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ. وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْبَيْعِ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الصَّلَاةِ، كَذَلِكَ خَصَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِالنَّهْيِ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ وَحَظْرًا لِسَائِرِ أَجْزَائِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ خَاصًّا فِي لَحْمِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ لِلْخَرَزِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ الْخَرَزَ بِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا بَأْسَ أَنْ يُخَاطَ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَيَجُوزُ لِلْخَرَّازِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَلَا يَبِيعَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ.

باب ذكر الضرورة المبيحة لأكل الميتة

بَابُ ذِكْرُ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الضَّرُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَطْلَقَ الْإِبَاحَةَ فِي بَعْضِهَا بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الْإِبَاحَةِ وَبِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ حَالٍ وُجِدَتْ الضَّرُورَةَ فِيهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ: {غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة {وَلا عَادٍ} فِي الْأَكْلِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَأَبَاحُوا لِلْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا أَبَاحُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ: "إذَا لَمْ يَخْرُجْ بَاغِيًا عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ". وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [المائدة: 3] يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ لِلْجَمِيعِ مِنْ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} . وَقَوْلُهُ: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ فِي الْأَكْلِ وَاحْتَمَلَ الْبَغْيُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالِاحْتِمَالِ، بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُوَاطِئُ مَعْنَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ اتفقوا على أنه لو لم يكن

باب المضطر إلى شرب الخمر

بَابُ الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الْمُطِيعُ الْمُضْطَرُّ إلَى شُرَبِ الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. وَإِنَّمَا يَشْرَبُ مِنْهَا مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ; إذْ كَانَ يَرُدُّ عَطَشَهُ. وَقَالَ الحارث العكلي ومكحول:

باب في مقدار ما يأكل المضطر

بَابٌ فِي مِقْدَارِ مَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيّ: لَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: يَأْكُلُ مِنْهَا مَا يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فَعَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ هِيَ خَوْفُ

باب هل في المال حق واجب سوى الزكاة

بَابُ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ وَاجِبٌ سِوَى الزَّكَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الْآيَةَ. قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ} إنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حِينَ أَنْكَرَتْ نَسْخَ الْقِبْلَةِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِرَّ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ لَا فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ; إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ. وَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ الْآنَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، إذًا لِمَ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى غَيْرِهَا مَنْسُوخًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قِيلَ إنَّ فِيهِ حَذْفًا، وَمَعْنَاهُ: إنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ، كَقَوْلِ الخنساء:

باب القصاص

بَابُ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} هَذَا كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا مِنْ لَفْظِهِ، وَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْقَتْلَى؟ وَالْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْل مَا فَعَلَ بِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: "اقْتَصَّ أَثَرَ فُلَانٍ" إذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا

مسألة في قتل الحر بالعبد

مَسْأَلَةٌ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ إلَّا فِي الْأَنْفُسِ وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ" وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي نَسْتَطِيعُ فِيهَا الْقِصَاصَ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ، وَالْعَبْدُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ، وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ". وَقَالَ اللَّيْث بْنُ سَعْدٍ: "إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْجَانِي اقْتُصُّ مِنْهُ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ"، وَقَالَ: "إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْحُرَّ فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَأْخُذُ بِهَا نَفْسَ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ فَيَكُونَ لَهُ، وَإِذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلِلْمَجْرُوحِ الْقِصَاصُ إنْ شَاءَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحِ، وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ". وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ، أَنَّ الْآيَةَ مَقْصُورَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتْلَى، وَلَيْسَ فِيهِمْ ذِكْرٌ لِمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْجِرَاحِ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ آيِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْقَتْلَى وَالْعُقُوبَةِ وَالِاعْتِدَاءِ يَقْتَضِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَمِنْ حَيْثُ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَجَبَ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ، وَالْآيَةُ لَمْ يُفَرِّقْ مُقْتَضَاهَا بَيْنَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلِ، فَهِيَ عُمُومٌ فيهما

باب قتل المولى لعبده

بَاب قَتْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَتْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، فَقَالَ قَائِلُونَ، وَهُمْ شَوَاذٌّ: يُقْتَلُ بِهِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُقْتَلُ بِهِ. فَمَنْ قَتَلَهُ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [المائدة: 45] عَلَى نَحْوِ مَا احْتَجَجْنَا بِهِ فِي قَتْلِ الحر بالحر، وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ". أَمَّا ظَاهِرُ الْآيِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْقِصَاصَ فِيهَا لِلْمَوْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وولي العبد هو

باب القصاص بين الرجال والنساء

بَابُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] فَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "لا قصاص بين

باب قتل المؤمن بالكافر

بَاب قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُقْتَلُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "إنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَائِرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ يُوجِبُ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ شَيْءٌ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى

باب قتل الوالد بولده

بَاب قَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، فَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا يُقْتَلُ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ قَالَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوَّوْا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ: يُقَادُ الْجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ، وَكَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ، وَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ بِهِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ذَبَحَهُ قُتِلَ بِهِ، وَإِنْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ. وَالْحُجَّةُ لِمَنْ أَبَى قَتْلَهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ". وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ وَاحِدٍ منهم عليه، فكان بمنزلة

باب الرجلين يشتركان في قتل رجل

بَابُ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِمَنْ شَارَكَ غَيْرَهُ فِي الْقَتْلِ، وَأَنَّ عَشَرَةً لَوْ قَتَلُوا رَجُلًا عَمْدًا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ قَاتِلًا لِلنَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا فِي الْحُكْمِ لِلنَّفْسِ يَلْزَمُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا يَلْزَمُ الْمُنْفَرِدَ بِالْقَتْلِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ، فَيَثْبُتُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ مَنْ أَتْلَفَ جَمِيعَ النَّفْسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فَالْجَمَاعَةُ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ لِلنَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَوْ قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلًا أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً، أَوْ أَحَدُهُمَا مَجْنُونٌ، وَالْآخَرُ عَاقِلٌ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِي حُكْمِ أَخْذِ جَمِيعِ النَّفْسِ، فَيَثْبُتُ لِجَمِيعِهِمَا حُكْمُ الْخَطَإِ، فَانْتَفَى مِنْهُمَا حُكْمُ الْعَمْدِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ حُكْمِ الْخَطَإِ لِلْجَمِيعِ، وَحُكْمُ الْعَمْدِ لِلْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ وَالصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْخَطَإِ لِلْجَمِيعِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْعَمْدِ لِلْجَمِيعِ وَجَبَ الْقَوَدُ فِيهِ؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِي النَّفْسِ وَوُجُوبِ الْقَوَدِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِيفَائِهِمَا جَمِيعًا، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ لِلنَّفْسِ الْمُتْلِفَةِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ أَنْ لَا يَثْبُتَ مَعَهُ قَوَدٌ عَلَى أَحَدٍ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ يُوجِبُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ يَنْفِي وُجُوبَ الْأَرْشِ لِشَيْءٍ منها.

مطلب في أن العلل الشرعية يجب اطرادها ولا يجب انعكاسها

مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ اطِّرَادُهَا وَلَا يَجِبُ انْعِكَاسُهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيُّ إلْزَامٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ; لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ عَكْسَ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَمْدُهُ خَطَأً أَنْ لَا يُفِيدَ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا، فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ عَمْدُهُ خَطَأً فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ بَلْ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلِيلِهِ; لِأَنَّهُ عَكْسُ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ اعْتَلَّ بِعَلَّةٍ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَعْكِسَهَا، وَيُوجِبَ مِنْ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا ضِدَّ مُوجِبِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا قُلْنَا: وُجُودُ الْغَرَرِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِجَوَازِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرَرِ؟ بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَمْنَعَ الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرَرِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ بَائِعُهُ، أَوْ شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا لَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ، أَوْ يَكُونَ مَجْهُولَ الثَّمَنِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُفْسِدَةِ لِعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ عِنْدَ زَوَالِ الْغَرَرِ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ دَلَالَة الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْعَقْدِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى ارتياض بنظر الفقه.

باب ما يجب لولي قتيل العمد

بَابُ مَا يَجِبُ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْعَمْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إيجَابَ الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إلَّا الْقِصَاصُ، وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ عَفَا الْمُفْلِسُ عَنْ الْقِصَاصِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْوِصَايَةِ وَالدَّيْنِ مَنْعُهُ; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ بِالْعَمْدِ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَيًّا أَوْ بِمَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ مَيِّتًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ آيِ الْقُرْآنِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي اللَّفْظِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ تُوجِبُ نَسْخَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَحَظَرَ أَخْذَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِرِضَاهُ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ. وَبِمِثْلِهِ قَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" فَمَتَى لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ، وَلَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسُهُ فَمَالُهُ مَحْظُورٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَدَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ". وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا 1 أَوْ فِي زَحْمَةٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ أَوْ رِمِّيًّا تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَأٍ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدَيْهِ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ

_ 1 العميا بكسر العين والميم المشددة وفتح الياء المشددة بعدها ألف مقصورة، ومثله الرميا: ومعناه أن يوجد قتيل بين المترامين لا يتبين قاتله. "لمصححه".

باب العاقلة هل تعقل العمد

بَاب الْعَاقِلَةِ هَلْ تَعْقِلُ الْعَمْدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَقَدْ قَدَّمْنَا تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّمِ، وَوُجُوبِ الْأَرْشِ لِلْبَاقِينَ، وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عَمْدٍ فِيهِ الْقَوَدُ فَهُوَ عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ، كَالْأَبِ إذا قتل ابنه،

باب كيفية القصاص

بَاب كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فَأَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيِ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِالْجَانِي أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ إلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إنْ قَتَلَهُ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِالنَّارِ أَوْ بِالتَّغْرِيقِ قَتَلَهُ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا قَتَلَهُ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: نَضْرِبُهُ مِثْلَ ضَرْبِهِ، وَلَا نَضْرِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْمُثْلَةَ وَيَقُولُونَ: السَّيْفُ يُجْزِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ غَمَسَهُ فِي الْمَاءِ فَإِنِّي لَا أَزَالُ أَغْمِسُهُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ.، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَبَسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ حُبِسَ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، كَانَ مَحْظُورًا عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِيفَاءُ زِيَادَةٍ عَلَى فِعْلِ الْجَانِي، وَمَتَى اسْتَوْفَى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالرَّضْخِ بِالْحِجَارَةِ وَالْحَبْسِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فعل; لأنه إذا لم

باب القول في وجوب الوصية

بَاب الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {خَيْراً} أَرَادَ بِهِ مَالًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ حِينَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فرضا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] يَعْنِي فَرْضًا مُوَقَّتًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَهُ سَبْعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَصِيَّةَ فِي ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ الْوَصِيَّةَ فَمَنَعَهَا أَهْلُهَا، وَقَالُوا: لَهَا وَلَدٌ، وَمَالُهَا يَسِيرٌ، فَقَالَتْ: كَمْ وَلَدُهَا؟ قَالُوا: أَرْبَعَةٌ، قَالَتْ: فَكَمْ مَالُهَا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَكَأَنَّهَا عَذَرَتْهُمْ، وَقَالَتْ: مَا فِي هَذَا الْمَالِ فَضْلٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى خَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَوَى هَمَّامٌ عَنْ قتادة {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قَالَ: كَانَ يُقَالُ: خَيْرُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ فَإِنَّمَا تَأَوَّلُوا تَقْدِيرَ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِلْمَقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ الْمَالِ. وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ تَرَكَ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْعَادَةِ، وَكَانَ طَرِيقُ التَّقْدِيرِ فِيهَا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ لَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ التسمية، وأن

باب الوصية للوارث إذا أجازتها الورثة

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ بِمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ"، وَفِيهِ بَيَانُ أن الأخبار الواردة بأن لا وصية

باب تبديل الوصية.

بَابُ تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قِيلَ إنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} عَائِدَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَجَائِزٌ فِيهَا التَّذْكِيرُ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ، وَالْإِيصَاءَ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: {إِثْمُهُ} فَإِنَّمَا هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى التَّبْدِيلِ المدلول عليه

باب الشاهد والوصي إذا علما الجور في الوصية

بَاب الشَّاهِدُ وَالْوَصِيُّ إذَا عَلِمَا الْجَوْرَ فِي الْوَصِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قتادة في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قَالَ: "هُوَ الرَّجُلُ يُوصِي فَيَجْنَفُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَرُدُّهَا الْوَلِيُّ إلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قَالَ: "هُوَ الْمُوصِي لِابْنِ ابْنِهِ يُرِيدُ لِبَنِيهِ". وَرَوَى الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأَبَاعِدِ وَيَتْرُكُ الْأَقَارِبَ قَالَ: يَجْعَلُ وَصِيَّتَهُ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ: لِلْأَقَارِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَبَاعِدِ الثُّلُثُ. وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأَبَاعِدِ قَالَ: يُنْتَزَعُ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ لِلْأَقَارِبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ فَقِيرٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْجَنَفُ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ، وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَنَفُ الْخَطَأُ" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَيْلَ عَنْ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْخَطَإِ، وَالْإِثْمُ مَيْلُهُ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ; وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُسْتَقِيمٌ. وَتَأَوَّلَهُ الْحَسَنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَلَهُ أَقْرِبَاءُ أَنَّ ذَلِكَ جَنَفٌ وَمَيْلٌ عَنْ الْحَقِّ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ عِنْدَهُ لِلْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. وَتَأَوَّلَهُ طَاوُسٌ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْوَصِيَّةُ لِلْأَبَاعِدِ فَتُرَدُّ إلَى الْأَقَارِبِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ مَنْ يُوصِي لِابْنِ ابْنَتِهِ يُرِيدُ ابْنَتَهُ. وَقَدْ نَسَخَ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} غَيْرَ مُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا; لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ غَيْرِ مُضَمَّنٍ بِمَا قَبْلَهُ، فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْوَصَايَا إذَا عَدَلَ بِهَا عَنْ جِهَةِ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، مُنْتَظِمَةً لِلْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي حَالِ بَقَاءِ وُجُوبِهَا، وَشَامِلَةً لِسَائِرِ الْوَصَايَا غَيْرِهَا; فَمَنْ خَافَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا عَنْ الْحَقِّ وَعُدُولًا إلَى الْجَوْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إرْشَادُهُ إلَى الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ. وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ

باب فرض الصيام

بَابُ فَرْضِ الصِّيَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا فَرْضَ الصِّيَامِ بِهَذِهِ الآية; لِأَنَّ قَوْلَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] يَعْنِي فَرْضًا مُؤَقَّتًا. الصِّيَامُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] يَعْنِي صَمْتًا، فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْكَلَامِ صَوْمًا. وَيُقَالُ: خَيْلٌ صِيَامٌ إذَا كَانَتْ مُمْسِكَةً عَنْ الْعَلَفِ، وَ"صَامَتْ الشَّمْسُ نِصْفَ النَّهَارِ" لِأَنَّهَا مُمْسِكَةً عَنْ السَّيْرِ وَالْحَرَكَةِ، فَهَذَا حُكْمُ هذا اللفظ في اللغة.

ذكر اختلاف الفقهاء في الشيخ الفاني

ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ كُلَّ يَوْمٍ. وقال ربيعة ومالك: لا أرى عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَإِنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَتِهِ: وَعَلَى

باب الحامل والمرضع

بَابُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَإِنَّهُمَا تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُرْضِعِ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَلَا يَقْبَلُ الصَّبِيُّ مِنْ غَيْرِهَا: فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِسْكِينًا، وَالْحَامِلُ إذَا أَفْطَرَتْ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا; وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرَا عَلَى الصَّوْمِ فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الْحَامِلَ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ; فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ إذَا أَفْطَرَتَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ بِلَا قَضَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ وَالْقَضَاءُ. وَالْحُجَّةُ لِأَصْحَابِنَا مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الواسطي قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد الْقَاسِمِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي؟ قَالَ: فَدَلَّنِي عَلَيْهِ، فَلَقِيتُهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبِلٍ لِجَارٍ لِي أُخِذَتْ، فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَدَعَانِي إلَى طَعَامِهِ فَقُلْتُ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: "إذًا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ" قَالَ: فَكَانَ يَتَلَهَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَلَا أَكُونُ أَكَلْت مِنْ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَانِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَطْرُ الصَّلَاةِ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسَافِرُ; إذْ لَا

باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن جن رمضان كله أو بعضه

بَاب ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ: إذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَنْ بَلَغَ، وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: "فَإِنَّهُ يَقْضِي صِيَامَ تِلْكَ السِّنِينَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ". وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمَعْتُوهِ يُفِيقُ وَقَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الْمَجْنُونِ الَّذِي يُجَنُّ ثُمَّ يُفِيقُ أَوْ الَّذِي يُصِيبُهُ الْمِرَّةَ ثُمَّ يُفِيقُ: أَرَى عَلَى هَذَا أَنْ يَقْضِيَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: "وَمَنْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ كَذَلِكَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ; إذْ لَمْ يَكُنْ شَاهَدَ الشَّهْرَ، وَشُهُودُهُ الشَّهْرَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ". فَإِنْ قِيلَ: إذَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} شُهُودُهُ بِالْإِقَامَةِ وَتَرْكِ السَّفَرِ دُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ شُهُودِهِ بِالتَّكْلِيفِ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْإِقَامَةِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ جَائِزٌ إرَادَتُهُمَا مَعًا، وَكَوْنُهُمَا شَرْطًا فِي لُزُومِ الصَّوْمِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا; وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِالصَّوْمِ غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي تَرْكِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ" وَرَفْعُ الْقَلَمِ هُوَ إسْقَاطُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْجُنُونَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إذَا دَامَ بِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ إذَا دَامَ بِهِ الشَّهْرُ كُلُّهُ فِي سُقُوطِ فَرْضِ الصَّوْمِ. وَيُفَارَقُ الْإِغْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ بِالْإِغْمَاءِ إنْ طَالَ، وَفَارَقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَأَشْبَهَ الْإِغْمَاءُ النَّوْمَ فِي بَابِ نَفْيِ وِلَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا لا يصح خطاب المجنون والتكليف

باب الغلام يبلغ والكافر يسلم في بعض رمضان

بَابُ الْغُلَامِ يَبْلُغُ وَالْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ أَوْ الْكَافِرِ يُسْلِمُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: يَصُومَانِ مَا بَقِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ مَا مَضَى وَلَا قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْبُلُوغُ أَوْ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْغُلَامِ إذَا احْتَلَمَ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ: إنَّهُ يَقْضِي مَا مَضَى مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَقَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ لَهُمَا الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الِاحْتِلَامُ أَوْ الْإِسْلَامُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ، وَأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ، وَالصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ حُكْمَهُ. وَأَيْضًا الصِّغَرُ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَلُّمِ، وَلْيَعْتَادَهْ وَيُمَرَّنَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى بَلَغَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ وَلَا قَضَاءَ الصِّيَامِ الْمَتْرُوكِ فِي حَالِ الصِّغَرِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ الْقَضَاءَ فِيمَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلَوْ جَازَ إلْزَامُهُ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ لَجَازَ إلْزَامُهُ قَضَاءَ الصَّوْمِ لِلْعَامِ الْمَاضِي إذَا كَانَ يُطِيقُهُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ مَعَ إطَاقَتِهِ لِلصَّوْمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَدْرَكَ فِي بَعْضِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ لِلصَّوْمِ إلَّا عَلَى شَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وَمُنَافَاةِ الْكُفْرِ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ; وَلَيْسَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي يُفِيقُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فِي إلْزَامِهِ الْقَضَاءَ لِمَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ; لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ جُنَّ فِي صِيَامِهِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ; وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ صَوْمِهِ، وَأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِيهَا فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْكَافِرِ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَالصَّغِيرُ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِمَا مَضَى عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قبله" و "الإسلام

باب قضاء رمضان

بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} .

باب في جواز تأخير قضاء رمضان

بَاب فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَصُومَ أَيَّ وَقْتٍ يَشَاءُ" وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ. وَاَلَّذِي عِنْدِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ لم يكن

باب الصيام في السفر

بَاب الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ يَسَّرَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا، وَلَوْ كَانَ الْإِفْطَارُ فَرْضًا لَازِمًا لَزَالَتْ فائدة قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وبين الصوم كقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْيُسْرُ فَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا نَعِيبُ عَلَى مَنْ صَامَ وَلَا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيُسْرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، فَلَوْلَا احْتِمَالُ الْآيَةِ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَقَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ وَلَا الصَّوْمَ، وَالْمُسَافِرُ شَاهِدٌ لِلشَّهْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِهِ وَحُضُورُهُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] الْمَعْنَى: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُضْمَرٌ فِيهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَتَى صَامَ أَجْزَأَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُفْطِرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الضَّمِيرُ بِعَيْنِهِ هُوَ مَشْرُوطٌ لِلْمُسَافِرِ كَهُوَ لِلْمَرِيضِ لِذِكْرِهِمْ جَمِيعًا فِي الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ، وَإِذَا كَانَ الْإِفْطَارُ مَشْرُوطًا فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ الْقَضَاءَ إذَا صَامَ فَقَدْ خَالَفَ حَكَمَ الْآيَةِ. وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ غَيْرَ شَيْءٍ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ شَوَاذٌّ مِنْ النَّاسِ لَا يُعَدُّونَ خِلَافًا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ

باب من صام في السفر ثم أفطر

بَابُ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَصَامَ وَقَدِمَ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ إذَا أَفْطَرَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ مَرَّةً: لَا كَفَّارَةَ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَقَالَ: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي حَضَرِهِ ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِمَأْثَمٍ مَخْصُوصٍ كَالْحُدُودِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْحُدُودُ تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ كَانَتْ كَفَّارَةُ رَمَضَانَ بِمَثَابَتِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ مَتَى أَفْطَرَ فِي حَالِ السَّفَرِ فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْحَالِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ الْإِفْطَارَ فَأَشْبَهَ عَقْدَ النِّكَاحِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ فِي إبَاحَتِهِمَا الْوَطْءَ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُبِيحِينَ لِوَطْءِ الْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ فِي الْأَصْلِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ. وَإِنْ لَمْ يُبَحْ هَذَا الْوَطْءُ بِعَيْنِهِ، كَذَلِكَ السَّفَرُ وَإِنْ لَمْ يُبَحْ الْإِفْطَارَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ; إذْ كَانَ فِي الْأَصْلِ قَدْ جُعِلَ سَبَبَا لِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ; فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا أَفْطَرَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرهمَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ بَعْدَمَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ", وَذَلِكَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ جَوَازَ الْإِفْطَارِ فِيهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُفْطِرِ فِيهِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ أَشْبَهَ الصَّائِمَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ فِي صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِإِفْطَارِهِ فِيهِ; إذْ كَانَ لهبديا أَنْ لَا يَصُومَهُ، وَلَمْ يكن لزوم

باب في المسافر يصوم رمضان عن غيره

بَابٌ فِي الْمُسَافِرِ يَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ يَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ وَاجِبِ غيره، فقال أبو حنيفة: هو عما

باب في عدد قضاء رمضان

بَابٌ فِي عِدَدِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَذَكَر بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: إذَا صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا وَعَلَى الْمَرِيضِ الْمُفْطِرِ قَضَاءُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْضِي رَمَضَانَ بِالْأَهِلَّةِ. وَذَكَرَ عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَرِضَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ عَنْ غَيْرِ قَضَاءٍ: أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَنْ مَرِضُ رَمَضَانَ وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا: إنَّهُ يَصُومُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ مَرِضَ رَجُلٌ شَهْرَ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ شَهْرًا يَقْضِيهِ فَكَانَ هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أَفْطَرَ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى غَيْرِ اسْتِقْبَالِ شَهْرٍ أَتَمَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا إلَّا شَهْرًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَرَادَ الْمَرِيضُ الْقَضَاءَ، فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ شَهْرِ الصَّوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ سَوَاءٌ ابْتَدَأَ بِالْهِلَالِ أَوْ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ; وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَمَعْنَاهُ: فَعَدَدٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ; يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" يَعْنِي الْعَدَدَ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْعَدَدِ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِيهِ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ شَهْرًا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ; الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ" فَأَيُّ شَهْرٍ أَتَى بِهِ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَهْرٌ بِشَهْرٍ، قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى: فَشَهْرٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ وَإِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَوْجَبَ اسْتِيفَاءُ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يَعْنِي الْعَدَدَ; فَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَفْطَرَ فيه ثلاثين

باب الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام

بَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ مِنْ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَأَنَّهُ كَانَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعَتَمَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى الْقَابِلَةِ رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّوْمِ الْأَوَّلِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ وَرَقَدَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ، وَرَوَى الضَّحَّاكُ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى نَامَ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَأَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَجَاءَ عُمَرُ وَقَدْ أَصَابَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا نَامَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وَنَسَخَ بِهِ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النوم.

باب لزوم صوم التطوع بالدخول فيه

بَابُ لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالدُّخُولِ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} عَامٌّ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي الَّتِي يُرِيدُ النَّاسُ الصَّوْمَ فِي صَبِيحَتِهَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ على ليالي

باب الاعتكاف

بَابُ الِاعْتِكَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَمَعْنَى الِاعْتِكَافِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اللَّبْثُ، قَالَ اللَّهُ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] ، وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ: فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِي عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ مَعَ اللَّبْثِ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا فِي اللُّغَةِ; مِنْهَا الْكَوْنُ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهَا الصَّوْمُ، وَمِنْهَا تَرْكُ الْجِمَاعِ رَأْسًا وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَكُونُ مُعْتَكِفًا إلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي الصَّوْمِ إنَّهُ اسْمٌ لِلْإِمْسَاكِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ مَعَانٍ أُخَرُ لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِوُجُودِهَا. وَأَمَّا شَرْطُ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ، وَأَمَّا شَرْطُ كَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الِاعْتِكَافِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَجَعَلَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْكَوْنَ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ عَلَى أَنْحَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ نَاسًا عُكُوفًا بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ لَا تُعِيرُ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةَ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتَ وَحَفِظُوا وَنَسِيتَ، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ حُذَيْفَةَ; لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ هِيَ مَسَاجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. وَقَوْلٌ آخَرُ; وَهُوَ مَا رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْكَوْنَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي عُمُومِ الْمَسَاجِدِ وَخُصُوصِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا; وَلَمْ يَخْتَلِفْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجَمَاعَاتُ إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: لَا يَعْتَكِفُ أَحَدٌ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ فِي رِحَابَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يُبِيحُ الِاعْتِكَافَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، واقتصر به على بعضها فعليه بإقامة

باب الاعتكاف هل يجوز بغير صوم

بَابُ الِاعْتِكَافِ هَلْ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى الْبَيَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ قَالُوا: الْمُعْتَكِفُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ: مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَصُومَ. وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ; رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَقَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالُوا: إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَ أَيْضًا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ومحمد وزفر ومالك

باب ما يجوز للمعتكف أن يفعله

بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ حَقِيقَةَ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ إلْصَاقُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ كَمَا كَانَ الْمَسِيسَ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ، وَحَقِيقَتُهُ الْمَسُّ بِالْيَدِ وَبِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَكَمَا قَالَ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ حَظَرَتْ الْجِمَاعَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَأَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا، وَجَبَ أَنْ تَنْتَفِيَ إرَادَةُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً مَجَازًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُبَاشَرَةِ الْمُعْتَكِفِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِشَهْوَةٍ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاشِرَهَا بِشَهْوَةٍ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ وَقَدْ أَسَاءَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إذَا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إنْ بَاشَرَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مِنْ الْوَطْءِ إلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِي الْمُبَاشَرَةِ هُوَ الْوَطْءُ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ بِالْيَدِ وَالْقُبْلَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، إنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الْمُبَاشَرَةُ النِّكَاحُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يُجَامِعُونَ وَهُمْ مُعْتَكِفُونَ حَتَّى نَزَلَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ النَّاسُ إذَا اعْتَكَفُوا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَبَاشَرَ أَهْلَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ مُرَادِ الْآيَةِ الْجِمَاعَ دُونَ اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِالْيَدِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٌ لِلْمُعْتَكِفِ، حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَكَانَتْ لَا مَحَالَةَ تَمَسُّ بَدَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَأَيْضًا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ بِمَعْنَى الصَّوْمِ فِي بَابِ حَظْرِ الْجِمَاعِ وَلَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مَانِعًا مِنْ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الِاعْتِكَافُ الْقُبْلَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ وَالْقُبْلَةُ لِشَهْوَةٍ مَحْظُورَتَيْنِ فِي الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُمَا فِي الِاعْتِكَافِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ فِي الصَّوْمِ إذَا حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ فَسَدَ الصَّوْمُ وجب أن يفسد الاعتكاف; لأن

باب ما يحله حكم الحاكم وما لا يحله

بَاب مَا يُحِلُّهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَمَا لَا يُحِلُّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ} . وَالْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَقَوْلُهُ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] يَعْنِي بَعْضَكُمْ بَعْضًا، وَكَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أموالكم وأعراضكم

باب فرض الجهاد

بَابُ فَرْضِ الْجِهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 – 35] وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وَقَوْلِهِ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [آل عمران: 20] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزَّةٍ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّاءَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ" فَلَمَّا حَوَّلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَكُفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} [النساء: 77] . وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله عز وجل: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 5] وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وَقَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قَالَ: نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .

باب العمرة هي فرض أم تطوع

بَابُ الْعُمْرَةِ هِيَ فَرْضٌ أَمْ تَطَوُّعٌ قَالَ الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إتْمَامُهُمَا بُلُوغُ آخِرِهِمَا بَعْدَ الدخول فيهما وقال سعيد بن جبير

باب المحصر أين يذبح الهدي

بَابُ الْمُحْصَرِ أَيْنَ يَذْبَحُ الْهَدْيَ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَحِلُّ مَا هُوَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: هُوَ الْحَرَمُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مَحِلُّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ فَيَذْبَحُهُ وَيَحِلُّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَحِلَّ اسْمٌ لِشَيْئَيْنِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَقْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَكَانُ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَحِلَّ الدَّيْنِ هُوَ وَقْتُهُ الَّذِي تَجِبُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: "اشْتَرِطِي فِي الْحَجِّ وقولي:

باب وقت ذبح هدي الإحصار

بَابُ وَقْتِ ذَبْحِ هَدْيِ الْإِحْصَارِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ولم يختلف أهل العلم ممن أباح

باب ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدي

بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ بَعْد إحْلَالِهِ مِنْ الْحَجِّ بِالْهَدْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ فِي شَأْنِ الْمُحْصَرَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إذَا حَلَّ بِالْهَدْيِ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ عَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَسَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ الْعُدْوَانُ حَجَّةً بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةً بِعُمْرَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ حَجَّةً وَعُمْرَةً إذَا أَحَلَّ بِالدَّمِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ إنَّمَا هِيَ الَّتِي تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ لِأَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَمَّا حَصَلَ حَجُّهُ فَائِتًا كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ لِلْفَوَاتِ، وَالدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْإِحْصَارِ إنَّمَا هُوَ لِلْإِحْلَالِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْعُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالْفَوَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ عُمْرَةٌ يَقُومُ مَقَامُهَا دَمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ عُمْرَةٌ لَمْ يَنُبْ عَنْهُ دَمٌ لَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَلَا فِي حَالِ الْإِمْكَانِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ يَجْعَلُ الْعُمْرَةَ فَرِيضَةً لَا يَجْعَلُ الدَّمَ نَائِبًا عَنْهَا بِحَالٍ; فَلَمَّا كَانَ الْفَوَاتُ قَدْ أَلْزَمَهُ عَمَلَ عُمْرَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ عَنْهَا دَمٌ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا هُوَ لِلْإِحْلَالِ فَحَسْبُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ العمرة التي

باب المحصر لا يجد هديا

بَابُ الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ هَدْيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ هَدْيًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَحِلُّ حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا فَيَذْبَحَ عَنْهُ وَقَالَ عَطَاءٌ يَصُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَيَحِلُ كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَبَدًا إلَّا بِهَدْيٍ، وَالْآخَرُ: إذَا لَمْ يَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ حَلَّ وَأَهْرَاقَ دَمًا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ الطَّعَامُ أَوْ صِيَامٌ إنْ لَمْ يَجِدْ وَلَمْ يَقْدِرْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ هَدْيِ أَوْ صِيَامٍ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَالْمَنْصُوصَاتُ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ فَلَمَّا كَانَ الدَّمُ مَذْكُورًا لِلْمُحْصَرِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ شَيْءٍ غَيْرَهُ قِيَاسًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَمُ جِنَايَةٍ عَلَى وَجْهِ الْكَفَّارَةِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ إثْبَاتُ الْكَفَّارَةِ قِيَاسًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ تَرْكَ المنصوص عليه

باب إحصار أهل مكة

بَابُ إحْصَارُ أَهْلُ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ إنَّمَا إحْصَارُهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا أَمْكَنَهُمْ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَالْعُمْرَةُ إنَّمَا هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْخُرُوجَ إلَى عَرَفَاتٍ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، فَإِذَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُعْتَمِرِ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب المحرم يصيبه أذى من رأسه أو مرض

بَابُ الْمُحْرِمُ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مرض قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا مِنْ الْمُحْرِمِينَ مُحْصَرِينَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَرِينَ فَأَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَرٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ هَدْيَهُ مَحَلَّهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُحْصَرِينَ وَغَيْرِ الْمُحْصَرِينَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} عَنَى الْمَرَضَ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى لُبْسٍ أَوْ شَيْءٍ يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْأَذَى وَيَفْتَدِي. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} إنَّمَا هُوَ عَلَى أَذًى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضَ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَلْقٍ أَوْ تَغْطِيَةٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى فِي رَأْسِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَلْقٍ وَلَا إلَى اسْتِعْمَال بَعْضِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحَ فِي حَظْرِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ مُتَظَاهِرَةٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةٍ وَالْقَمْلُ تَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: "أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ. فَكَانَ كَثْرَةُ الْقَمْلِ مِنْ الْأَذَى الْمُرَادُ بِالْآيَةِ وَلَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحُ فِي رَأْسِهِ أَوْ خُرَّاجٌ فَاحْتَاجَ إلَى شَدِّهِ أَوْ تَغْطِيَتِهِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُهُ وَيَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ ذَلِكَ وَيَفْتَدِيَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا من ذلك، فهو عام في الكل.

باب التمتع بالعمرة إلى الحج

بَابُ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّمَتُّعِ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِحْلَالُ وَالتَّمَتُّعِ إلَى النِّسَاءِ، وَالْآخَرُ: جَمْعُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; وَمَعْنَاهُ الِارْتِفَاقُ بِهِمَا وَتَرْكُ إنْشَاءِ سَفَرَيْنِ لَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتُنْكِرُهَا أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَانَ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ; وَلِذَلِكَ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحُلُّوا بِعُمْرَةٍ عَلَى عَادَتِهِمْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إذَا بَرِئَ الدُّبُرُ وَعَفَا الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ رَابِعِهِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَحِلُّوا، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: "الْحِلُّ كُلُّهُ". فَمُتْعَةُ الْحَجِّ تَنْتَظِمْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا اسْتِبَاحَةُ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ بِالْإِحْلَالِ، وَإِمَّا الِارْتِفَاقُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى سَفَرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا لَا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُفْرِدُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَفَرًا. وَيُحْتَمَلُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا بِجَمْعِهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِمَا إذَا فُعِلَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ نَفْعٍ وَفَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِفَاعِلِهِمَا. وَالْمُتْعَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْقَارِنُ، وَالْمُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمُحْصِرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى لَهُ الْإِحْلَالَ وَلَكِنَّهُ يَمْكُثُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَيَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ فَوْتِ الْحَجِّ، وَفَسْخِ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ

باب ذكر اختلاف أهل العلم في حاضري المسجد الحرام

بَابُ ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ عَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ: مِنْ دُونِ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُونَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَنَافِعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُمْ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ لَيْلَتَيْنِ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ، وَمَا كَانَ وَرَاءَهُ فَعَلَيْهِمْ الْمُتْعَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهَا إلَى مَكَّةَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَمَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ فَلَهُ الرُّجُوعُ وَدُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْمِيقَاتِ فَمَا دُونَهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِمْ فِي مَكَّةَ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ أَهْلُهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] وَلَيْسَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهُمْ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا حِينَ فُتِحَتْ، فَإِنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ وَبَنُو الدِّئْلِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خَارِجَ مَكَّةَ فِي الْحَرَمِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أَهْلُ ذِي الْحُلَيْفَةِ من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبينها

باب صوم التمتع

بَابُ صَوْمِ التَّمَتُّعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ أَنَّهُ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ: مِنْ حِينِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَلَا يَصُومُهُنَّ حَتَّى يُحْرِمَ قَالَ عَطَاءٌ: يَصُومُهُنَّ فِي الْعَشْرِ حَلَالًا إنْ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ; وَقَالَا: لَا يَصُومُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ قَالَ عَطَاءٌ: وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُنَّ إلَى الْعَشْرِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَسَى يَتَيَسَّرُ لَهُ الْهَدْيُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْبَابِنَا لِمَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ إذَا رَجَا وُجُودَ الْمَاءِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ صَوْمِهِنَّ فِي الْعَشْرِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ; وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ صَوْمَهُنَّ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَلَا يُجِيزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ هُوَ سَبَبُ التَّمَتُّعِ، قَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فَمَتَى وُجِدَ السَّبَبُ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ لِوُجُودِ النِّصَابِ وَتَعْجِيلِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِوُجُودِ الْجِرَاحَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُوبِ تَمَامِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ; لِأَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْهَدْيُ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ بِهِ مُوجِبًا لَهُ; إذْ كَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِتَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، ثَبَتَ جَوَازُهُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتَ سَبَبَا لِلْجَوَازِ لَوَجَبَ أن يجوز السبعة أيضا لوجود

باب المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر

بَابُ الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ وَلَمْ يَصُمْ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَطَاوُسٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا الْهَدْيُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ: يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَصُومُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَنْ غَيْرِ صَوْمِ الْمُتْعَةِ لَا مِنْ فَرْضٍ وَلَا مِنْ نَفْلٍ، فَلَمْ يَجُزْ صَوْمُهَا عَنْ الْمُتْعَةِ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْجَمِيعِ. وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ أَيَّامَ مِنًى، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهُنَّ عَنْ قَضَاءِ رمضان لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَكَانَ الْحَظْرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ قَاضِيًا عَلَى إطْلَاقِ الْآيَةِ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِ الْقَضَاءِ فِي غيرها، وجب أن يكون ذلك

ذكر اختلاف الفقهاء فيمن دخل في صوم المتعة ثم وجد الهدي

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَمَا صَامَ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: "إذَا صَامَ يَوْمًا ثُمَّ أَيْسَرَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَيْسَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَلْيَصُمْ السَّبْعَةَ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَفَرْضُ الْهَدْيِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُحِلَّ أَوْ يَمْضِي أَيَّامَ النَّحْرِ الَّتِي هِيَ مَسْنُونَةٌ لِلْحَلْقِ، فَمَتَى وَجَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ وَبَطَلَ صَوْمُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَدْيَ مَشْرُوطٌ لِلْإِحْلَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحِلَّ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَمَتَى لَمْ يُحِلَّ حَتَّى وَجَدَ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ فِي إيجَابِهِ الْهَدْيَ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ وَبَعْدَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ مَشْرُوطٌ للإحلال قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ

باب الإحرام بالحج قبل أشهر الحج

بَابُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَرَوَى مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَا يُحْرِمُ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَوَى مِثْلَهُ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : إنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ بَيْنَ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمَا رَوَاهُ مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا تُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ حَتْمًا وَاجِبًا. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنُ حَيٍّ: إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ جَعَلَهُ عُمْرَةً، فَإِذَا أَدْرَكَتْهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً مَضَى فِي الْحَجِّ وَأَجْزَأَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجْعَلُهَا عُمْرَةً وقال الشافعي: يكون عمرة.

باب التجارة في الحج

بَابُ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الْحَجِّ، وَالتَّزَوُّدِ لَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي الْمُخَاطَبِينَ بِأَوَّلِ الْآيَةِ وَهُمْ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّزَوُّدِ لِلْحَجِّ وَأَبَاحَ لَهُمْ التِّجَارَةَ فِيهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: إنِّي رَجُلٌ أَكْرِي الْإِبِلَ إلَى مَكَّةَ أَفَيُجْزِي مِنْ حَجَّتِي؟ قَالَ: أَلَسْت تُلَبِّي فَتَقِفَ وَتَرْمِيَ الْجِمَارَ؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلْتَنِي، فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فَقَالَ: "أَنْتُمْ حَاجٌّ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ متجرا للناس في

باب الوقوف بعرفة

بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِهِ، فَلَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أَبَانَ بِذَلِكَ عَنْ فَرْضِ الْوُقُوفِ وَلُزُومِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْإِفَاضَةِ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوبِ، وَلَا تَكُونُ الْإِفَاضَةُ فَرْضًا إلَّا وَالْكَوْنُ بِهَا فَرْضًا حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا; إذْ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْإِفَاضَةِ إلَّا بِكَوْنِهِ قَبْلهَا هُنَاكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِ: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ، قَالُوا: وَذَلِكَ; لِأَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يُقَالُ لَهُمْ الْحُمْسُ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقِفُ سَائِرُ الْعَرَبِ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ

باب الوقوف بجمع

بَابُ الْوُقُوفِ بِجُمَعٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ وَتُسَمَّى جَمْعًا. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الذِّكْرَ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ اللَّتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَالذِّكْرُ الثَّانِي في قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} هُوَ الذِّكْرُ الْمَفْعُولُ عِنْدَ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ غَدَاةَ جَمْعٍ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الثَّانِي. وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى ذِكْرًا، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا" وَتَلَا عِنْدَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 214] فَسَمَّى الصَّلَاةَ ذِكْرًا، فَعَلَى هَذَا قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَأْخِيرَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إلى أن

باب أيام منى والنفر فيها

بَابُ أَيَّام مِنًى وَالنَّفْر فِيهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ عَنْ بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ". وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَيَانٌ لِمُرَادِ الآية في قوله: {أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، إلَّا شَيْءٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْمَعْدُودَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَاذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَعْلُومَاتِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِي ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّحْرِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِرَمْيِ الْجِمَارِ الْمَفْعُولِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَاذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَعْلُومَاتُ: الْعَشْرُ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ أَيَّامُ التَّشْرِيقُ، وَالْمَعْدُودَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ التَّشْرِيقُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى: أَخْبَرْنَا عُمَارَةُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعْدُوَّاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ فَقَوْلُهُ: الْمَعْدُودَاتُ إنَّهَا أَيَّامُ الْعَشْرِ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ خَطَأٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَلَيْسَ فِي الْعَشْرِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمَيْنِ دُونَ الثَّلَاثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ، وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ العشر، والمعدودات

باب من يبدأ به في النفقة عليه

بَابُ مَنْ يُبْدَأُ بِهِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الْآيَةَ. فَالسُّؤَالُ وَاقِعٌ عَنْ مِقْدَارِ مَا يُنْفَقُ، وَالْجَوَابُ صَدَرَ عَنْ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ مَعَ بَيَانِ مَنْ تُصْرَفُ إلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} فَذَاكَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ لِشُمُولِ اسْمِ الْخَيْرِ لِجَمِيعِ الْإِنْفَاقِ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَبَيَّنَ فِيمَنْ تُصْرَفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ فِي مَنْزِلَتِهِمْ بِالْقُرْبِ وَالْفَقْرِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا يَفْضُل عَنْ أَهْلِك، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَفْوُ الْفَضْلُ". فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ; وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قال عليه السلام: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى" وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَارٌ فِي التَّبْدِئَةِ بِالْأَقْرَبِ فِي النَّفَقَةِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ; أُمُّكَ وَأَبُوكَ وَأُخْتُكَ وَأَخُوكَ وَأَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ"; وَرَوَى مِثْلَهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ زَهْدَمٍ وَطَارِقٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ فِي الْإِنْفَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا، وَأَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عَامَّةٌ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، أَمَّا الْفَرْضُ فلم يرد به الوالدين

باب تحريم الخمر

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَوْ لَمْ يَرِدْ غَيْرُهَا فِي تَحْرِيمِهَا لَكَانَتْ كَافِيَةً مُغْنِيَةً وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، وَالْإِثْمُ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِثْمَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إخْبَارِهِ بِأَنَّ فِيهَا إثْمًا حَتَّى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ كبير، تأكيدا لحظرها. وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَتِهَا; لِأَنَّ الْمُرَادَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا; وَإِنَّ فِي سَائِر الْمُحَرَّمَاتِ مَنَافِعَ لِمُرْتَكِبِيهَا فِي دُنْيَاهُمْ، إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ لا تفي بضررها من

باب تحريم الميسر

بَاب تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ كَهِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. وَيُقَال: إنَّ اسْمَ الْمَيْسِرِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ مَا جَزَّأْتَهُ فَقَدْ يَسَّرْتَهُ; يُقَال لِلْجَازِرِ: الْيَاسِرُ; لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ الْجَزُورَ، وَالْمَيْسِرُ الْجَزُورُ نَفْسُهُ إذَا تَجَزَّى. وَكَانُوا يَنْحَرُونَ جَزُورًا وَيَجْعَلُونَهُ أَقْسَامًا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ عَلَى عَادَةٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ نَظَرُوا إلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّمَةِ فَيَحْكُمُونَ لَهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ أَسْمَاءُ الْقِدَاحِ; فَسُمِّيَ عَلَى هَذَا سَائِرُ ضُرُوبِ الْقِمَارِ مَيْسِرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ، وَالْجَوْزِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنْ الْمَيْسِرِ" وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عن أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ حِلَاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ أَكَلْت كَذَا وَكَذَا بَيْضَةً فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَارْتَفَعَا إلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: هَذَا قِمَارٌ; وَلَمْ يُجِزْهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ الْقِمَارِ وَأَنَّ الْمُخَاطَرَةَ مِنْ الْقِمَارِ; قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: إنَّ الْمُخَاطَرَةَ قِمَارٌ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُخَاطِرُونَ عَلَى الْمَالِ، وَالزَّوْجَةِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا إلَى أَنْ وَرَدَ تَحْرِيمُهُ. وَقَدْ خَاطَرَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيقُ المشركين حين نزلت:

باب التصرف في مال اليتيم

بَابُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْيَتِيمُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ يَتِيمًا مِنْ الْأُمِّ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ، وَقَدْ يَكُونُ يَتِيمًا مِنْ الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأُمِّ; إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْيَتِيمُ مِنْ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِطْلَاقُ فِي الْيَتِيمِ مِنْ الْأُمِّ إذَا كَانَ الْأَبُ بَاقِيًا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْتَامِ إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْفَاقِدُونَ لِآبَائِهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَلَا يُطْلَق ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيُتْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ اسْمٌ لِلْمُنْفَرِدِ تَسْمِيَتُهُمْ لِلْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ عَنْ الزَّوْجِ يَتِيمَةً سَوَاءً كَانَتْ كَبِيرَةً، أَوْ صَغِيرَةً; قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى وَتُسَمَّى الرَّابِيَةُ يَتِيمَةً لِانْفِرَادِهَا عَمَّا حَوَالَيْهَا; قَالَ الشَّاعِر يَصِفُ نَاقَتَهُ: قَوْدَاءُ يَمْلِكُ رَحْلَهَا ... مِثْلُ الْيَتِيمِ مِنْ الْأَرَانِبِ يَعْنِي الرَّابِيَةَ. وَيُقَالُ: دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ; لِأَنَّهَا مُفْرَدَةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا. وَكِتَابٌ لِابْنِ الْمُقَفَّعِ في

باب نكاح المشركات

بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قَالَ: ثُمَّ اسْتَثْنَى أَهْلَ الْكِتَابِ فَقَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] ، قَالَ: عَفَائِفُ غَيْرُ زَوَانٍ. فَأَخْبَرَ ابن عباس أن قوله: {وَلا تَنْكِحُوا

باب الحيض

بَابُ الْحَيْضِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَالْمَحِيضُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْحَيْضِ نَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَالْمَقِيلِ وَالْمَبِيتِ هُوَ مَوْضِعُ الْقَيْلُولَةِ وَمَوْضِعُ الْبَيْتُوتَةِ. وَلَكِنْ فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحِيضِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْحَيْضُ، لِأَنَّ الجواب ورد بقوله: {هُوَ أَذىً} وَذَلِكَ صِفَةٌ لِنَفْسِ الْحَيْضِ لَا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ. وَكَانَتْ مَسْأَلَةُ الْقَوْمِ عَنْ حُكْمِهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ يُجَاوِرُونَهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا يَجْتَنِبُونَ مؤاكلة

باب بيان معنى الحيض ومقداره

بَابُ بَيَانِ مَعْنَى الْحَيْضِ وَمِقْدَارِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَيْضُ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مِنْ الدَّمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا: تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَحَظْرُ الْجِمَاعِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَاجْتِنَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً. فَإِذَا تَعَلَّقَ بِوُجُودِ الدَّمِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كَانَ لَهُ مِقْدَارُ مَا سُمِّيَ حَيْضًا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لَمْ يُسَمَّ حَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ تَرَى الدَّمَ فِي أَيَّامِهَا وَبَعْدَ أَيَّامِهَا عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ مَا فِي أَيَّامِهَا مِنْهُ حَيْضًا لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ، وَمَا بَعْدَ أَيَّامِهَا فَلَيْسَ بِحَيْضٍ لِفَقْدِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ وُجُودِهِ؟ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْحَامِلِ: إنَّهَا لَا تَحِيضُ، وَهِيَ قَدْ تَرَى الدَّمَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الدَّمُ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يُسَمَّ حَيْضًا، فَالْمُسْتَحَاضَةُ قَدْ تَرَى الدَّمَ السَّائِلَ دَهْرًا، وَلَا يَكُونُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ كَهَيْئَةِ الدَّمِ الَّذِي يَكُونُ مِثْلُهُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا فَالْحَيْضُ اسْمٌ لِدَمٍ يُفِيدُ فِي الشَّرْعِ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِهِ إذَا كَانَ لَهُ مِقْدَارٌ مَا; وَالنِّفَاسُ وَالْحَيْضُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَجِمَاعِ الزَّوْجِ وَاجْتِنَابِ مَا يَجْتَنِبهُ الْحَائِضُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِقْدَارَ مُدَّةِ الْحَيْضِ لَيْسَ هُوَ مِقْدَارَ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَالثَّانِي: أَنَّ النِّفَاسَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا فِي الْبُلُوغِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحُدُّ الْحَيْضَ بِأَنَّهُ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ الرَّحِمِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً فِي ابْتِدَائِهِ بِهَا، وَمَا تَعْتَادُهُ النِّسَاءُ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً فِي ابْتِدَائِهِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السِّنِّ أَوْ الِاحْتِلَامِ أَوْ الْإِنْزَالِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ بُلُوغُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِمَا وَصَفْنَا ثُمَّ رَأَتْ دَمًا، فَهُوَ حَيْضٌ إذَا رَأَتْهُ مِقْدَارَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بَالِغَةً فِي ابْتِدَائِهِ بِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَهُوَ حَيْضٌ وَالْمَشْهُورُ عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا وَقْتَ لِقَلِيلِ الْحَيْضِ، وَلَا لِكَثِيرِهِ. وَحَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِك أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا; حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجَزَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْحَيْضُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِذَا زَادَتْ فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إذَا زَادَتْ عَلَى خمسة عشر فهي استحاضة. وقد كان

ذكر الاختلاف في أقل مدة الطهر

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي أَقَلِّ مُدَّةِ الطُّهْرِ قَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ لَا يُوَقِّتُ فِيهِ شَيْئًا فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْهُ أَنَّ الطُّهْرَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَدْ يَكُونُ الطُّهْرُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى مِقْدَارِ طُهْرِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ طُهْرَ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهَا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ أَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّ الطُّهْرِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَاحْتَجَّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عَدْلَ كُلِّ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ شَهْرًا، وَالْحَيْضُ فِي الْعَادَةِ أَقَلُّ مِنْ الطُّهْرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَشَرَةً وَأَنْ يَكُونَ بَاقِي الشَّهْرِ طُهْرًا وَهُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ; لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الطُّهْرَ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهْرَ الْوَاحِدَ بَدَلًا مِنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطُّهْرُ أَكْثَرَ مِنْهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَمْنَةَ: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كما تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ" فَأَثْبَتَ السِّتَّ أَوْ السَّبْعَ حَيْضًا وَجَعَلَ فِي الشَّهْرِ طُهْرًا، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمَ جَمِيعِ

ذكر الاختلاف في الطهر العارض في حال الحيض

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي الطُّهْرِ الْعَارِضِ فِي حَالِ الْحَيْضِ قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا فِيمَنْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا: إنَّ ذَلِكَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ الطُّهْرُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الدَّمَيْنِ وَالطُّهْرِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فُصِلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ كَدَمٍ مُتَّصِلٍ، وَمَتَى كَانَ الطُّهْرُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ فَفُصِلَ بَيْنَهُمَا اُعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَيْضًا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا وكان الآخر منهما ثلاثا

باب الإيلاء

بَابُ الْإِيلَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَلْفُ يَقُولُونَ: آلَى يُؤْلِي إيلَاءً وَأَلِيَّةً; قَالَ كَثِيرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ فَهَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ اُخْتُصَّ فِي الشَّرْعِ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ الَّذِي يُكْسِبُ الطَّلَاقَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، حَتَّى إذَا قِيلَ آلَى فُلَانٌ مِنْ امْرَأَتِهِ عُقِلَ بِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعِ لم يكن موليا، وإنما

باب الأقراء

بَابُ الْأَقْرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرْءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى: هُوَ الْحَيْضُ وَقَالُوا: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ عِيسَى الْحَافِظِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ فَالْخَبَرَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالُوا: الرَّجُلُ أَحَقُّ بامرأته ما لم

باب حق الزوج على المرأة وحق المرأة على الزوج

بَابُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَحَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ مثله بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ الْحَقِّ مُفَسَّرًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِهَا وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] وَكَانَتْ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ حُقُوقِهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فَجَعَلَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهَا صَدَاقَهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فَجَعَلَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا إذَا أَرَادَ فِرَاقَهَا وَكَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ; لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِبْدَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فَجَعَلَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ تَرْكُ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا; وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهَا الْقَسْمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ نِسَائِهِ; لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَلَيْهِ وَطْأَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] يَعْنِي: لَا فَارِغَةً فَتَتَزَوَّجُ وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ; إذْ لَمْ يُوَفِّهَا حَقَّهَا مِنْ الْوَطْءِ، وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يُمْسِكَهَا ضِرَارًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} إذَا كَانَ خِطَابًا لِلزَّوْجِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهَا إذَا لَمْ يَمِلْ إلَيْهَا أَنْ لَا يَعْضُلَهَا عَنْ غَيْرِهِ بِتَرْكِ طَلَاقِهَا. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إثْبَاتَهَا لَهَا. وَمِمَّا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] فَقِيلَ فِيهِ: "حِفْظُ مَائِهِ فِي رَحِمِهَا وَلَا تَحْتَالُ فِي إسْقَاطِهِ" وَيَحْتَمِلُ: حِفْظُ فِرَاشِهَا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ: حَافِظَاتٌ لِمَا فِي بيوتهن من مال

باب عدد الطلاق

بَابُ عَدَدِ الطَّلَاقِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذُكِرَتْ فِي مَعْنَاهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِلطَّلَاقِ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُ الطَّلَاقِ، فَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمَا الثَّالِثَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ بَيَانٌ لِمَا يَبْقَى مَعَهُ الرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ; فَإِنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ مَعَهُ الرَّجْعَةَ عَقِيبَهُ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْمُبَاحِ مِنْهُ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَمَحْظُورٌ، وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا أَوْقَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ عَقِيبَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ وَبَيَانُ حُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِيقَاعِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ الرَّجْعَةِ، أَنَّهُ قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ لَا مَحَالَةَ; لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ مَعًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ طَلَّقَهَا مَرَّتَيْنِ، كَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ; حَتَّى يُفَرِّقَ الدَّفْعَ، فَحِينَئِذٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظِ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالتَّطْلِيقَتَيْنِ مِنْ بَقَاءِ الرَّجْعَةِ، لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْمَرَّتَيْنِ; إذْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إذَا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَهُ لِلْمَرَّتَيْنِ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِإِيقَاعِهِ مَرَّتَيْنِ وَنَهْيٌ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَتَيْنِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ مَتَى أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ اثْنَتَيْنِ وَبَيَانُ حُكْمِ الرَّجْعَةِ إذَا طَلَّقَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَوْعِبًا لِلْمَعْنَيَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا هُوَ فِي صيغة الخبر

باب ذكر الاختلاف في الطلاق بالرجال

بَابُ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَمْلُوكَيْنِ خَارِجَانِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ نُقْصَانَ الطَّلَاقِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، وَأَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً فَطَلَاقُهَا اثْنَتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ يَعْنُونَ أَنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ عَبْدًا فَطَلَاقُهُ اثْنَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَطَلَاقُهُ ثَلَاثٌ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ أَمَةً; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَيُّهُمَا رَقَّ نَقَصَ الطَّلَاقُ بِرِقِّهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَدْ رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَمْرُ إلَى الْمَوْلَى فِي الطَّلَاقِ أَذِنَ لَهُ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ غُلَامًا كَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: ارْجِعْهَا لَا أُمَّ لَك فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ. فَأَبَى، فَقَالَ: هِيَ لَك فَاِتَّخِذْهَا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى طَلَاقَهُ وَاقِعًا لَوْلَاهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ ارْجِعْهَا وَقَوْلُهُ: هِيَ لَك يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الغلام حرا;

ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا

ذِكْرُ الْحِجَاجِ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ مَعًا مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قَدْ أَبَانَ عَنْ حُكْمِهِ إذَا أَوْقَعَ اثْنَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فِي طهر واحد; وقد

باب الخلع

بَابُ الْخُلْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَحَظَرَ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا عَلَى الشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعُقِلَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُ مَا لَمْ يُعْطِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا أَعْطَاهَا، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] قَدْ دَلَّ عَلَى حَظْرِ مَا فَوْقَهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قَالَ طَاوُسٌ: يَعْنِي فِيمَا افْتَرَضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: وَاَللَّهِ لَا أَغْتَسِلُ لَك مِنْ جَنَابَةٍ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إلَّا أَنْ يَخَافَا مَعْنَاهُ: إلَّا أَنْ يَظُنَّا. وَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ، أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْعَرَاءِ فَإِنَّنِي أَخَافُ ... إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَقَالَ آخَرُ: أَتَانِي كَلَامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ... وَمَا خِفْت يَا سَلَّامُ أَنَّك عَائِبِي يَعْنِي: مَا ظَنَنْت. وَهَذَا الْخَوْفُ مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يكون أحدهما سيئ

ذكر اختلاف السلف وسائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع

ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِيمَا يَحِلُّ أَخْذُهُ بِالْخُلْعِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا أَعْطَاهَا وَلَوْ بِعِقَاصِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا وَلَا يَزْدَادُ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَجُوزُ الْمُبَارَأَةُ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى إضْرَارٍ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إذَا عُلِمَ أَنَّ زَوْجَهَا أَضَرَّ بِهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهَا قَضَى عَلَيْهَا الطَّلَاقَ وَرَدَّ عَلَيْهَا مَالَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَيَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَتْهُ عَلَى الْخُلْعِ إذَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مِنْهُ لَهَا وَعَنْ اللَّيْثِ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي رَجُلٍ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مَرِيضَةٌ: إنْ كَانَتْ نَاشِزَةً كَانَ فِي ثُلُثِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَاشِزَةً رُدَّ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنَّ خَالَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عَلَى جَمِيعِ مَا أَصْدَقَهَا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهَا نُشُوزٌ أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَالتَّعْطِيلُ لِحَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَانِعَةً مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا حَلَّتْ الْفِدْيَةُ لِلزَّوْجِ، وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نفسا وتأخذ الفراق به.

باب المضارة في الرجعة

بَابُ الْمُضَارَّةِ فِي الرَّجْعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ وَالْإِشْرَافُ عَلَيْهِ لَا حَقِيقَتُهُ; لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعِدَّةُ، وَبُلُوغَهُ هُوَ انْقِضَاؤُهَا، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ الْعِدَّةِ بِالْأَجَلِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَمَعْنَاهُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} وَقَالَ: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْآجَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيِ هِيَ الْعِدَدُ; وَلِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وَالْمُرَادُ مُقَارَبَتُهُ دُونَ انْقِضَائِهِ; وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَمَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَقَارَبْتُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا فَطَلِّقُوا لِلْعِدَّةِ; وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءَتَهُ; وَقَالَ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَدْلُ بَعْدَ الْقَوْلِ، وَلَكِنْ قَبْلَهُ، يَعْزِمُ عَلَى أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا عَدْلًا. فَعَلَى هَذَا ذَكَرَ بُلُوغَ الْأَجَلِ وَأَرَادَ بِهِ مُقَارَبَتَهُ دُونَ وُجُودِ نِهَايَتِهِ; وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُقَارَبَةَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَحْوَالٍ بَقَاءِ النِّكَاحِ; لِأَنَّهُ قَرَنَ إلَيْهِ التَّسْرِيحَ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَجَمْعُهُمَا فِي الْأَمْرِ وَالتَّسْرِيحِ إنَّمَا لَهُ حَالٌ وَاحِدُ لَيْسَ يَدُومُ، فَخَصَّ حَالَ بُلُوغِ الْأَجَلِ بِذَلِكَ لِيَنْتَظِمَ الْمَعْرُوفُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

باب النكاح بغير ولي

بَابُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية. قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْبُلُوغِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْعَضْلُ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَالْآخَرُ الضِّيقُ; يُقَالُ: "عَضَلَ الْفَضَاءُ بِالْجَيْشِ" إذَا ضَاقَ بِهِمْ، وَالْأَمْرُ الْمُعْضِلُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ، وَدَاءٌ عُضَالٌ: مُمْتَنِعٌ. وَفِي التَّضْيِيقِ يُقَالُ: "عَضَلْت عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ" إذَا ضَيَّقْت، و "عَضَلَتْ الْمَرْأَةُ بِوَلَدِهَا" إذَا عَسَرَ وِلَادُهَا، وَأَعْضَلَتْ; وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُمْتَنِعَ يَضِيقُ فِعْلُهُ وَزَوَالُهُ وَالضِّيقُ مُمْتَنِعُ أَيْضًا. وَرُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ صَعْبَةٍ فَقَالَ: "زَبَّاءُ ذَاتُ وَبَرٍ لَا تَنْسَابُ وَلَا تَنْقَادُ، وَلَوْ نَزَلَتْ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ لَأَعْضَلَتْ بِهِمْ". وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} مَعْنَاهُ: لَا تَمْنَعُوهُنَّ أَوْ لَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ وُجُوهٍ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ إذَا عَقَدَتْ عَلَى نفسها بغير ولي ولا

ذكر الاختلاف في ذلك

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَقْدِ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا بِغَيْرِ وَلِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا كُفُوًا وَتَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا" وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ "وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَيْرَ كُفُوٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ أَيْضًا وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا". وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمَا جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَإِنْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ جَازَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ وَالزَّوْجُ كُفُوٌ أَجَازَهُ الْقَاضِي" وَإِنَّمَا يَتِمُّ النِّكَاحُ عِنْدَهُ حِينَ يُجِيزُهُ الْقَاضِي; وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُوًا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: "لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَلَيْسَ الْوَالِدَةُ بِوَلِيٍّ وَلَا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ وَلِيَّهَا رَجُلًا إلَّا قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا كَانَتْ امْرَأَةً مُعْتَقَةً أَوْ مِسْكِينَةً أَوْ دَنِيَّةً لَا خَطَرَ لَهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَخْلِفَ رَجُلًا وَيُزَوِّجُهَا، وَيَجُوزُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا مَالُ وَغِنًى وَقَدْرٌ فَإِنَّ تِلْكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا إلَّا الْأَوْلِيَاءُ أَوْ السُّلْطَانُ" قَالَ: وَأَجَازَ مَالِكٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ وَهُوَ مِنْ فَخِذِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَيْهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ: "إنْ غَيْرُهُ أَحْسَنَ مِنْهُ يُرْفَعُ أَمْرُهَا إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ كَانَ كُفُؤًا أَجَازَهُ وَلَمْ يَفْسَخْهُ" وَذَلِكَ فِي الثَّيِّبِ، وَقَالَ فِي السَّوْدَاءِ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ: "إنَّهُ جَائِزٌ"، قَالَ: "وَالْبِكْرُ إذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيٍّ وَالْوَلِيُّ قَرِيبٌ حَاضِرٌ فَهَذَا الَّذِي أَمْرُهُ إلَى الْوَلِيِّ يَفْسَخُهُ لَهُ السُّلْطَانُ إنْ رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا، وَالْوَلِيُّ مِنْ قِبَلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ الَّذِي أَنْكَحَهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ عَقْدِهَا تَقْضِي بِصِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

باب الرضاع

بَابُ الرَّضَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مَخْبَرُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَالِدَاتِ مَنْ لَا يُرْضِعُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ وَأَمْرُهَا بِهِ; إذْ قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّ الرَّضَاعِ لِلْأُمِّ وَإِنْ أَبَى الْأَب، أَوْ تَقْدِيرُ مَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّضَاعَ شَاءَتْ الْأُمُّ أَوْ أَبَتْ، وَأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ فِي أَنْ تُرْضِعَ أَوْ لَا تُرْضِعَ; فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إذَا أَبَى اسْتِرْضَاعَ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ لِلْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو بَعْدَ ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} مِنْ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ مُطَلَّقَاتٍ كُنَّ أَوْ غَيْرَ مُطَلَّقَاتٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ مَقْصُورَ الْحُكْمِ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَائِرَ الْأُمَّهَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْهُنَّ وَالْمُزَوَّجَاتِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ لِلْمُزَوَّجَاتِ مِنْهُنَّ هِيَ نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَكِسْوَتُهَا لَا لِلرَّضَاعِ; لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَجْتَمِعُ لَهَا نَفَقَتَانِ إحْدَاهُمَا لِلزَّوْجِيَّةِ وَالْأُخْرَى لِلرَّضَاعِ; وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَنَفَقَةُ الرَّضَاعِ أَيْضًا مُسْتَحَقَّةٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِالرَّضَاعِ، وَلَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ زَوْجَةً وَلَا مُعْتَدَّةً مِنْهُ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فَتَكُونُ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَتَكُونُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ مَعًا، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهُمَا مَعًا، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ لِلرَّضَاعِ شَيْئًا مَعَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ. فَقَدْ حَوَتْ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأم أحق برضاع ولدها في

ذكر اختلاف الفقهاء في وقت الرضاع

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي وَقْتِ الرَّضَاعِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ كَرَضَاعِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ تَرْوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَة: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْك" وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ; وَأَبَى سَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَقُلْنَ: لَعَلَّ هَذِهِ كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَة مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ". فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا لِسَالِمٍ كَمَا تَأَوَّلَهُ سَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَصَّ أَبَا زِيَادِ بْنِ دِينَارٍ بِالْجَذَعَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانِكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ". فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الصِّغَرِ وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَسُدُّ اللَّبَنُ فِيهَا جَوْعَتَهُ وَيَكْتَفِي فِي غِذَائِهِ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ; وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ بِامْرَأَتِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَوَضَعَتْ فَتَوَرَّمَ ثَدْيُهَا، فَجَعَلَ يَمُجُّهُ وَيَصُبُّهُ، فَدَخَلَ فِي بَطْنِهِ جَرْعَةٌ مِنْهُ، فَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فَقَالَ: "بَانَتْ مِنْك" فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرَهُ فَفَصَلَ، فَأَقْبَلَ بالأعرابي إلى الأشعري فقال:

ذكر عدة المتوفى عنها زوجها

ذِكْرِ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وَالتَّرَبُّصُ بِالشَّيْءِ الِانْتِظَارُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] يَعْنِي يَنْتَظِرُ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] فَأَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ هَذِهِ الْمُدَّة عَنْ الْأَزْوَاجِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} ؟ وَقَدْ كَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا: مِنْهَا تَوْقِيتُ الْعِدَّةِ سَنَةً، وَمِنْهَا: أَنَّ نَفَقَتَهَا وَسُكْنَاهَا كَانَتْ فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً بِقَوْلِهِ تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} . وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ الْخُرُوجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَنَسَخَ مِنْهَا مِنْ الْمُدَّةِ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَنَسَخَ أَيْضًا وُجُوبَ نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا فِي التَّرِكَةِ بِالْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} مِنْ غَيْرِ إيجَابِ نَفَقَةٍ وَلَا سُكْنَى، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ الْإِخْرَاجِ، فَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ قَائِمٌ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَقَدْ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في هذه الآية يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] قال: كان لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا سَنَةً، فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، فَجَعَلَ لَهُنَّ الرُّبُعَ أَوْ الثُّمُنَ مِمَّا تَرَكَ الزَّوْجُ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلا أن يرضى

ذكر الاختلاف في خروج المعتدة من بيتها

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَنْتَقِلُ الْمَبْتُوتَةُ وَلَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَنْ بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ، وَتَخْرُجُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالنَّهَارِ وَلَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا، وَلَا تَخْرُجُ الْمُطَلَّقَةُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا مِنْ عُذْرٍ; وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تَنْتَقِلُ الْمُطَلَّقَةُ الْمَبْتُوتَةُ وَلَا الرَّجْعِيَّةُ وَلَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَلَا يَخْرُجْنَ بِالنَّهَارِ، وَلَا يَبِتْنَ عَنْ بُيُوتِهِنَّ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَمْ يَكُنْ الْإِحْدَادُ فِي سُكْنَى الْبُيُوتِ فَتَسْكُنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَيَّ بَيْتٍ كَانَتْ فِيهِ جَيِّدًا أَوْ رَدِيًّا، وَإِنَّمَا الْإِحْدَادُ فِي الزِّينَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] فَحَظَرَ خُرُوجَهَا وَإِخْرَاجَهَا فِي الْعِدَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبِينَةٍ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْعُذْرِ، فَأَبَاحَ خُرُوجَهَا لِعُذْرٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْعِدَّةِ الْأُولَى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ثُمَّ نَسَخَ مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، فَبَقِيَ حُكْمُ هَذِهِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْخُرُوجِ; إذْ لَمْ يَرِدْ لَهَا نَسْخٌ وَإِنَّمَا النَّسْخُ فِيمَا زَادَ. وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِع إلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا قَتَلَهُ عَبْدٌ لَهُ، فَسَأَلْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم

ذكر إحداد المتوفى عنها زوجها

ذِكْرُ إحْدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ عَلَيْهَا اجْتِنَابَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ، مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَحَكَاهُ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ; وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْت عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرِهِ، فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" قَالَتْ زَيْنَبُ: وَدَخَلْت عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْت أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ" قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْت لِزَيْنَبِ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بعد ما شاءت من طيب أو غيره. فَحَظَرَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاكْتِحَالَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَخْبَرَ بِالْعِدَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَدُّ إحْدَاهُنَّ وَمَا تَجْتَنِبُهُ مِنْ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ، ثُمَّ قَالَ: "إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ" فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ مُعْتَدٌّ بِهَا الْعِدَّةَ الَّتِي كَانَتْ سَنَةً فِي اجتناب الطيب والزينة.

باب التعريض بالخطبة في العدة

بَابُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي

باب متعة المطلقة

بَابُ مُتْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} تَقْدِيرُهُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً; أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا; لَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا الْمَفْرُوضَ لَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: "مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً" وَقَدْ تَكُونُ "أَوْ" بِمَعْنَى "الْوَاوِ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] مَعْنَاهُ: "وَلَا كَفُورًا". وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وَالْمَعْنَى: "وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط وَأَنْتُمْ مَرْضَى وَمُسَافِرُونَ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] مَعْنَاهُ: "وَيَزِيدُونَ" فَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ وَهِيَ فِي النَّفْيِ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهَا عَلَيْهِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] مَعْنَاهُ: "وَلَا كَفُورًا" لِدُخُولِهَا عَلَى النَّفْيِ. وَقَالَ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] "أَوْ" فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَيَكُونُ شَرْطُ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا مِنْ عَدَمِ الْمَسِيسِ وَالتَّسْمِيَةِ جَمِيعًا بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي الْحَيْضِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْمَدْخُولِ بِهَا، لِإِطْلَاقِهِ إبَاحَةَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ مِنْهُ بِحَالِ الطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ"، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ مِثْلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إلَّا الَّتِي تَطْلُقُ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا صَدَاقٌ وَلَمْ تُمَسَّ فَحَسْبُهَا نِصْفُ مَا فُرِضَ لَهَا"، وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ: "تُخَيَّرُ الَّتِي تَطْلُقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَى الْمُتْعَةِ". وَقَالَ شُرَيْحٌ وَقَدْ سَأَلُوهُ فِي مَتَاعٍ فَقَالَ: "لَا نَأْبَى أَنْ نَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ" فَقَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، فَقَالَ: "لَا نَأْبَى أَنْ نَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ". وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْمُتْعَةِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: "لَا، عَلَى الْمُتَّقِينَ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ فِي كِتَابِ البيعة: "وكانوا لا يرون

ذكر تقدير المتعة الواجبة

ذِكْرُ تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} وَإِثْبَاتُ الْمِقْدَارِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ فِي الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبُ الظَّنِّ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ أَيْضًا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي مِقْدَارِهَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارُهَا بِيَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ ذَلِكَ; فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْعَادَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَيَّرُ، وَجَبَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْعَادَاتِ فِي الْأَزْمَانِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَدِّيًا إلَى اجْتِهَادٍ رَأَيْنَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: "يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا" وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ فِي كِتَابِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ فِي تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ بِشَيْئَيْنِ: حَالِ الرَّجُلِ بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: فَلَوْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ عَارِيًّا مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ وَالْأُخْرَى دَنِيَّةٌ مَوْلَاةٌ ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ تَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَةِ، فَتَجِبُ لِهَذِهِ الدَّنِيَّةِ كَمَا تَجِبُ لِهَذِهِ الشَّرِيفَةِ; وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. قَالَ: وَيَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ دُونَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا عَظِيمَ الشَّأْنِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً دَنِيَّةً مَهْرُ مِثْلِهَا دِينَارٌ، أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا; إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْئًا دِينَارٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَتْهُ الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَتَسْتَحِقُّ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِلْمُطْلَقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ دُونَهَا يُؤَدِّي إلَى مُخَالَفَةِ مَعْنَى. الْكِتَابِ وَدَلَالَتِهِ وَإِلَى خِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَادَاتِ سَقَطَ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَالِهَا مَعَهُ. وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلَانِ مُوسِرَانِ أُخْتَيْنِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا: بِامْرَأَتِهِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا; وَطَلَّقَ الْآخَرُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ لَهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ أُخْتِهَا فَيَكُونُ مَا تَأْخُذُهُ الْمَدْخُولُ بِهَا أَقَلَّ مِمَّا تَأْخُذُهُ الْمُطَلَّقَةُ، وَقِيمَةُ الْبُضْعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الْمَهْرِ، فَيَكُونُ الدُّخُولُ مُدْخِلًا عَلَيْهَا ضَرَرًا وَنُقْصَانًا فِي الْبَدَلِ; وَهَذَا مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ مَعَهُ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا وَكَانَتْ مُتْعَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ

ذكر اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة

ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسِيسِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "إذَا أَغْلَقَ بَابًا وَأَرْخَى سِتْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ". وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا" وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ. وَرَوَى فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَإِنْ قَعَدَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا"، وَالشَّعْبِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مُرْسَلٌ; وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْل قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إذَا فَرَضَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمَتَاعُ". فَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ "فَرَضَ" يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَقَوْلَهُ "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ" يُرِيدُ قَبْلَ الْخَلْوَةِ; لِأَنَّهُ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْخَلْوَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنْهُ، فَأَوْجَبَ لَهَا الْمُتْعَةَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرٌ: "الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ; وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ أَوْ رَتْقَاءَ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إذَا لَمْ يَطَأْهَا، وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ". وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ: "لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا إذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا جَاءَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا خَلَا بِهَا وَقَبَّلَهَا وَكَشَفَهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا فَلَا أَرَى لَهَا إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ فَلَهَا الْمَهْرُ إلَّا أَنْ تَضَعَ لَهُ مَا شَاءَتْ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا قَبَّلَهَا وَلَمَسَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا، أَوْ أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا أَوْ أَغْلَقَ بَابًا فَقَدْ تَمَّ الصَّدَاقُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا خَلَا بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ; إذْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ ادَّعَتْ الدُّخُولَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذا أرخى عليها سترا

باب الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة

بَابُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَذِكْرِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فِيهِ أَمْرٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَتَأْكِيدُ وُجُوبِهَا بِذِكْرِ الْمُحَافَظَةِ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ الْمَعْهُودَاتُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَذَلِكَ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهَا إشَارَةً بِهَا إلَى مَعْهُودٍ. وَقَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ الْقِيَامَ بِهَا وَاسْتِيفَاءَ فُرُوضِهَا وَحِفْظَ حُدُودِهَا وَفِعْلَهَا فِي مَوَاقِيتِهَا وَتَرْكَ التَّقْصِيرِ فِيهَا; إذْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ. وَأَكَّدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِإِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ مَعَ ذِكْرِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ وَأَوْلَاهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ عَنْ الْجُمْلَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى غَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الظُّهْرُ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ وَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إلَّا الصَّفُّ أَوْ الصَّفَّانِ وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: "فَكَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَوَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ". قَالَ زيد بن

باب الفرار من الطاعون

بَابُ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ فَمَاتُوا فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ اللَّهُ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ الطَّاعُونِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "فَرُّوا مِنْ الْقِتَالِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ فِرَارَهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . وَإِذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُوَقَّتَةً مَحْصُورَةً لَا يَقَعُ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ عَمَّا قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَالْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ; وَكَذَلِكَ الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ وَالْإِيمَانُ بِالنُّجُومِ، كُلُّ ذَلِكَ فِرَارٌ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي لَا مَحِيصَ لِأَحَدٍ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ". وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِير عَنْ سَعِيد بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَإِنْ تَكُنْ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ فَهِيَ فِي الْفَرَسِ والمرأة والدار، وإذا سمعتم بالطاعون

باب الامتنان بالصدقة

بَابُ الِامْتِنَانِ بِالصَّدَقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الصَّدَقَاتِ إذَا لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً لِلَّهِ عَارِيَّةً مِنْ مَنٍّ وَأَذًى فَلَيْسَتْ بِصَدَقَةٍ; لِأَنَّ إبْطَالَهَا هُوَ إحْبَاطُ ثَوَابِهَا فَيَكُونُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ; وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَكُونُ سَبِيلُهُ وُقُوعَهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَشُوبَهُ رِيَاءٌ وَلَا وَجْهَ غَيْرُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] فَمَا لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْبِ فَغَيْرِ مُثَابٍ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الَّتِي شَرَطَهَا أَنْ تُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ; لِأَنَّ أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَيْهَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةَ لِدَلَائِلِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا". وَرَوَى عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} قَالَ: هُوَ الْمُتَصَدِّقُ يَمُنُّ بِهَا، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لِيَحْمَدْ اللَّهَ إذْ هَدَاهُ لِلصَّدَقَةِ. وَعَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قَالَ: "يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ" وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "تَصْدِيقًا وَيَقِينًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "ثِقَةً مِنْ أَنْفُسِهِمْ". وَالْمَنُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُتَصَدِّقُ: قَدْ أَحْسَنْت إلَى فُلَانٍ وَنَعَشْتُهُ وَأَغْنَيْتُهُ; فَذَلِكَ يُنَغِّصُهَا عَلَى الْمُتَصَدَّقِ بِهَا عَلَيْهِ. وَالْأَذَى قَوْلُهُ: أَنْتَ أَبَدًا فَقِيرٌ وَقَدْ بُلِيت بِك وَأَرَاحَنِي اللَّهُ مِنْك; وَنَظِيرُهُ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ تَعْيِيرٌ لَهُ بِالْفَقْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: رَدًّا جَمِيلًا وَمَغْفِرَةً قِيلَ فِيهَا سَتْرُ الْخُلَّةِ عَلَى السَّائِلِ، وَقِيلَ الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى; لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَأْثَمَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَرَدِّ السَّائِلِ بِقَوْلٍ جَمِيلٍ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ; فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَرْكَ الصَّدَقَةِ بِرَدٍّ جَمِيلٍ

باب المكاسبة

بَابُ الْمُكَاسَبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . فِيهِ إبَاحَةُ الْمَكَاسِبِ وَإِخْبَارٌ أَنَّ فِيهَا طَيِّبًا. وَالْمَكَاسِبُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إبْدَالُ الْأَمْوَالِ وَإِرْبَاحُهَا، وَالثَّانِي إبْدَالُ الْمَنَافِعِ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إبَاحَتِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، نَحْوُ قَوْله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مَنْ يَتَّجِرُ وَيُكْرِي وَيَحُجُّ مَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي إبْدَالِ الْمَنَافِعِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَالَ شُعَيْبٌ عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ". وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أَنَّهُ مِنْ التِّجَارَاتِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ; لأن قوله تعالى: {مَا كَسَبْتُمْ} يَنْتَظِمُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَهُوَ عُمُومٌ فِي أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ; وَلَمَّا وَرَدَ الْبَيَانُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَقَادِيرِ الْوَاجِبَاتِ فِيهَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَالٍ اخْتَلَفْنَا فِي إيجَابِ الْحَقِّ فِيهِ، نَحْوُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ. وَيُحْتَجُّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ يَنْفِي إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ، وَيُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا فِي إيجَابِ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَفِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ; لِأَنَّ قوله تعالى: {أَنْفِقُوا} الْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} يَعْنِي: تَتَصَدَّقُونَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّدَقَةُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ; لِأَنَّ الْفَرْضَ إذَا أُخْرِجَ عَنْهُ الرَّدِيءَ كَانَ الْفَضْلُ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُؤَدَّى. وَهَذَا عِنْدَنَا يُوجِبُ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى النفل من وجوه:

باب إعطاء المشرك من الصدقة

بَابُ إعْطَاءِ الْمُشْرِكِ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْخِطَابِ وَمَا جَاءَ فِي نَسَقِهِ يَدُلُّ عَلَى أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إنَّمَا مَعْنَاهُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} فَدَلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ فِي ذَلِكَ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ مِنْ ذَكَرِ الصَّدَقَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ إبَاحَةُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ; رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي

مطلب في جواز الاستدلال بالسيما والأماراة

مطلب في جواز الاستدلال بالسيما والأماراة وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ السِّيمَا حَظًّا فِي اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ يَظْهَرُ ذلك عليه،

باب الربا

بَابُ الرِّبَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَصْلُ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ لِزِيَادَتِهَا عَلَى مَا حَوَالَيْهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ مِنْ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمُرْتَفِعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ "أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ" إذَا زَادَ عَلَيْهِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى النَّسَاءَ رِبًا فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ" يَعْنِي الْحَيَوَانَ. وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا: "إنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ"، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّبَا قَدْ صَارَ اسْمًا شَرْعِيًّا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَمَا خَفِيَ عَلَى عُمَرَ; لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَسْمَاءِ اللُّغَةِ; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً رِبًا وَهُوَ رِبًا فِي الشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا صَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُجْمَلَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْبَيَانِ، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمَنْقُولَةُ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ لَمَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ، نَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ; فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ إلَّا فِيمَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ أَنَّهُ مُسَمًّى فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ مُرَادِ اللَّهِ بِالْآيَةِ نَصًّا وَتَوْقِيفًا. وَمِنْهُ مَا بَيَّنَهُ دَلِيلًا، فَلَمْ يَخْلُ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفهُ وَتَفْعَلُهُ إنَّمَا كَانَ فَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اُسْتُقْرِضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ مُتَفَاضِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. هَذَا كَانَ الْمُتَعَارَفَ الْمَشْهُورَ بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] فَأَخْبَرَ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ إنَّمَا كَانَتْ رِبًا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ; لِأَنَّهُ لا عوض لها من جهة المقرض.

ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان

وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الشَّرْعِيِّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ قَالَ عُمَرُ: "إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ" وَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ رِبًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا. فَجُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ النَّسَاءُ وَالتَّفَاضُلُ عَلَى شَرَائِطَ قَدْ تَقَرَّرَ مَعْرِفَتُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالشَّعِيرُ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا" وَذَكَرَ التَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَسَمَّى الْفَضْلَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ رِبًا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسٍ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ" فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ يَقَعُ عَلَى التَّفَاضُلِ تَارَةً وَعَلَى النَّسَاءِ أُخْرَى. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا" وَيَذْهَبُ فِيهِ إلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ; ثُمَّ لَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَعَنْ قَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ النَّسَاءُ فِي الْجِنْسَيْنِ، كَمَا رَوَى فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مثلا

ومن أبواب الربا الدين بالدين

وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ" وَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" إلَّا أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بِمِقْدَارِ الْمَجْلِسِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَهُمَا دَيْنٌ بِدَيْنٍ، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جَائِزٌ وَهُمَا دَيْنَانِ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بطل.

ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه

وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الَّذِي تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَهُ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَيُصَالِحُهُ مِنْهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ فَلَا يَجُوزُ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ: يَكُونُ لِي عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ فَأَقُولُ عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْك؟ فَقَالَ: "هُوَ رِبًا". وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِذَلِكَ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ إيَّاهُ رِبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ إنَّمَا كَانَ قَرْضًا مُؤَجَّلًا بِزِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ بَدَلًا مِنْ الْأَجَلِ، فَأَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَرَّمَهُ وَقَالَ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} حَظَرَ أَنْ يُؤْخَذَ لِلْأَجَلِ عِوَضٌ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٌ فَوَضَعَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَهُ فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَطَّ بِحِذَاءِ الْأَجَلِ، فَكَانَ هَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا الَّذِي نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٌ فَقَالَ لَهُ: أَجِّلْنِي وَأَزِيدُك فِيهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ; لَا يَجُوزُ; لِأَنَّ الْمِائَةَ عِوَضٌ مِنْ الْأَجَلِ، كَذَلِكَ الْحَطُّ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ; إذْ جَعَلَهُ عِوَضًا مِنْ الْأَجَلِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأَبْدَالِ عَنْ الْآجَالِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ: "إنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ بَاطِلٌ فَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَطَّ بِحِذَاءِ الْأَجَلِ، وَالْعَمَلِ فِي الْوَقْتَيْنِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ" فَلَمْ يُجِزْهُ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْأَجَلِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. وَمَنْ أَجَازَ مِنْ السَّلَفِ إذَا قَالَ عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْك فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَجَازُوهُ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ عَنْهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَيُعَجِّلَ الْآخَرُ الْبَاقِيَ بِغَيْرِ شَرْطٍ; وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ قَدْ يَكُونُ رِبًا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، وَأَنَّ النَّسَاءَ قَدْ يَكُونُ رِبًا فِي الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ" وَقَوْلِهِ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ قَدْ يَكُونُ رِبًا بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" وَقَوْلِهِ: "إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ" وَتَسْمِيَةُ عُمَرَ إيَّاهُ رِبًا وَشِرًى مَا بِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَشَرْطُ التَّعْجِيلِ مَعَ الْحَطِّ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا فِي أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا النَّصِّ مَعْنِيٌّ بِهِ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ يجب اعتباره في

باب البيع

بَابُ الْبَيْعِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عُمُومٌ فِي إبَاحَةِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِمَالٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ فِي مَفْهُومِ اللِّسَانِ; ثُمَّ مِنْهُ جَائِزٌ وَمِنْهُ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي جَوَازِ بَيْعٍ أَوْ فَسَادِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ; لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى حَظْرِ كَثِيرٍ مِنْ الْبِيَاعَاتِ، نَحْوُ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَجَاهِيلِ وَعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ; وَقَدْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ يُوجِبُ جَوَازَ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ مِنْهَا بِدَلَائِلَ، إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَهَا غَيْرُ مَانِعٍ اعْتِبَارَ عُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ فِيمَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِعُمُومِهِ عَلَى جَوَازِ البيع الموقوف

باب عقود المداينات

بَابُ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ عَلَى الدُّيُونِ الْآجِلَةِ قَدْ كَانَا واجبين بقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ". وَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا وَاَللَّهِ إنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ وَمَا فِيهَا نَسْخٌ". وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}

باب الحجر على السفيه

بَابُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ

ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على السفيه

ذِكْرُ اخْتِلَافِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ لَا لِسَفَهٍ وَلَا لِتَبْذِيرٍ وَلَا لِدَيْنٍ وَإِفْلَاسٍ، وَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ تَصَرُّفٍ فِي مَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ فَكَانَ فَاسِدًا وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ بَاعَهُ جَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ; وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَهَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ. وَقَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْحَجْرِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "لَا يُحْجَرُ عَلَى حُرٍّ". وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "لَا يُحْجَرُ عَلَى حُرٍّ إنَّمَا يُحْجَرُ عَلَى الْعَبْدِ"، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إذَا كَانَ سَفِيهًا حَجَرْت عَلَيْهِ وَإِذَا فَلَّسْته وَحَبَسْته حَجَرْت عَلَيْهِ، وَلَمْ أَجُزْ بَيْعَهُ وَلَا شِرَاءَهُ وَلَا إقْرَارَهُ بِدَيْنٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ ابن سماعة

شهادة أحد الزوجين للآخر

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ". وقال الثوري: "تجوز شهادة

شهادة الأجير

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا شَهَادَةُ الْأَجِيرِ وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "أَنَّ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمُسْتَأْجِرِهِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا اسْتِحْسَانًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى هِشَامٌ وَابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ "أَنَّ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَهُ" وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ; وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ فِي عِيَالِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لَهُ". وقال الأوزاعي: "لا

باب الشاهد واليمين

بَابُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "لَا يُحْكَمُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ فِي شَيْءٍ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} يَتَضَمَّنُ الْإِشْهَادَ عَلَى عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ الَّتِي ابْتَدَأَ فِي الْخِطَابِ بِذِكْرِهَا، وَيَتَضَمَّنُ إقَامَتَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلُزُومَ الْحَاكِمِ الْأَخْذِ بِهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْحَالَيْنِ وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْعَقْدِ إنَّمَا الْغَرَضُ فِيهِ إثْبَاتُهُ عِنْدَ التَّجَاحُدِ فَقَدْ تَضَمَّنَ لَا مَحَالَةَ

باب الرهن

بَابُ الرَّهْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا عَدِمْتُمْ التَّوَثُّقَ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ فَالْوَثِيقَةُ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، فَأَقَامَ الرَّهْنَ فِي بَابِ التَّوَثُّقِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَصِلُ فِيهَا إلَى التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ مَقَامَهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ السَّفَرِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهَا عَدَمُ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الرَّهْنَ إلَّا فِي السَّفَرِ. وَكَانَ عَطَاءٌ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا فِي الْحَضَرِ. فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْآيَةِ وَإِنَّمَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ فِي السَّفَرِ، لَمْ يَثْبُتْ فِي غَيْرِهِ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعَامَّةِ السَّلَفِ فِي جَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ. وَقَدْ رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ، فَثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى" {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ لِحَالِ السَّفَرِ بِذِكْرِ الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهَا عَدَمُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ" لَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْمَخَاضِ وَاللَّبَنِ بِالْأُمِّ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ مِنْ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ لَا يَكُونَ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ وَلَا لَبَنٌ; فَكَذَلِكَ ذِكْرُ السَّفَرِ هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ" وَالْمُرَادُ اسْتِحْكَامُهُ وَجَفَافُهُ لَا حُصُولُهُ فِي الْجَرِينِ; لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِهِ وَجَفَافِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ قُطِعَ فِيهِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْجَرِينِ عَلَى الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ مِنْ حَالِهِ فِي اسْتِحْكَامِهِ; فَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ لِحَالِ السَّفَرِ هُوَ عَلَى هَذَا المعنى. وقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فلما كان استيفاء العدد المذكور

ذكر اختلاف الفقهاء في رهن المشاع

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَلَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَمَا يُقْسَمُ". وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ الثَّوْرِيِّ فِي رَجُلٍ يَرْتَهِنُ الرَّهْنَ وَيَسْتَحِقُّ بَعْضَهُ قَالَ: "يَخْرُجُ مِنْ الرَّهْنِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الرَّاهِنَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ رَهْنًا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ رَهْنًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُقْسَمُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا صَحَّ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا، مِنْ حَيْثُ كَانَ رَهْنُهُ عَلَى جِهَةِ الْوَثِيقَةِ وَكَانَ فِي ارْتِفَاعِ الْقَبْضِ ارْتِفَاعُ مَعْنَى الرَّهْنِ وَهُوَ الْوَثِيقَةُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَفِيمَا لَا يُقْسَمُ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ وَإِبْطَالِ الْوَثِيقَةِ مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بها دفع القبض للمهايأة، فلم يجز

باب ضمان الرهن

بَابُ ضَمَانِ الرَّهْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فَعَطَفَ بِذِكْرِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّهْنِ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِأَمَانَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمَانَةً كَانَ مَضْمُونًا; إذْ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَانَةً لَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمَانَةَ لِأَنَّ الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف عَلَى غَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ". وَقَالَ الثَّقَفِيُّ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ: "مَا كَانَ مِنْ رَهْنٍ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثِيَابًا فَهُوَ مَضْمُونٌ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا أَوْ حَيَوَانًا فَهَلَكَ فَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ اشْتَرَطَ الضَّمَانَ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "إنْ عَلِمَ هَلَاكَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلَاكَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ، يُقَالُ لَهُ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ حَلَفَ عَلَى صِفَتِهِ وَتَسْمِيَةِ مَالِهِ فِيهِ، ثُمَّ يُقَوِّمُهُ أَهْلُ الْبَصَرِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَمَّا سَمَّى فِيهِ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى الرَّاهِنُ حَلَفَ عَلَى مَا سَمَّى وَبَطَلَ عَنْهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَحْلِفَ أُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ مَا فَضُلَ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ". وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ فِيهِ: "إذَا شَرَطَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُصَدَّقٌ فِي ضَيَاعِهِ وَأَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَشَرْطُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ ضَامِنٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ فَدَيْنُهُ بَاقٍ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَغْلَقُ" وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَا فِيهِ إذَا عَلِمَ وَلَكِنْ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ هَلَاكَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ: "لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" قَالَ: "فَأَمَّا غُنْمُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رُدَّ إلَيْهِ، وَأَمَّا غُرْمُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ وَفَّاهُ إيَّاهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "الرَّهْنُ مِمَّا فِيهِ إذَا هَلَكَ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا فِيهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِهِ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا فِيهِ تَرَادَّا الْفَضْلَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "هُوَ أَمَانَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ بِحَالٍ إذَا هَلَكَ، سَوَاءٌ كَانَ هَلَاكُهُ ظَاهِرًا أو خفيا".

ذكر اختلاف الفقهاء في الانتفاع بالرهن

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَزُفَرُ: "لَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْ الرَّهْنِ وَلَا لِلرَّاهِنِ أَيْضًا" وَقَالُوا: "إذَا آجَرَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ آجَرَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَلَا يَعُودُ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا آجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالٍ وَالْغَلَّةُ لِلْمُرْتَهِنِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا خَلَّى الْمُرْتَهِنُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالرَّاهِنِ يُكْرِيهِ أَوْ يُسَكِّنُهُ أَوْ يُعِيرُهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا، وَإِذَا آجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا آجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَالْأَجْرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلَا يَكُونُ الْكَرْيُ رَهْنًا بِحَقِّهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ"، فَإِنْ اشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَرْتَهِنَ وَيَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ الْكَرْيِ، فَإِنَّ مَالِكًا كَرِهَ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ; وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ وَقَعَ بِهَذَا الشَّرْطِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ شَرَطَ فِيهِ الْبَائِعُ بَيْعَهُ الرَّهْنَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ حَقِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِ وَكَرِهَهُ فِي الْحَيَوَانِ. وَذَكَرَ الْمُعَافَى عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُنْتَفَعَ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ وَلَا يُقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ الْمَرْهُونِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ غَلَّةُ الرَّهْنِ لِصَاحِبِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَالْفَضْلُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَلَّةً وَكَانَ يَسْتَخْدِمُهُ فَطَعَامُهُ بِخِدْمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَخْدِمُهُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يَسْتَعْمِلُ الرَّهْنَ وَلَا يَنْتَفِعُ به إلا أن يكون دارا

المجلد الثاني

المجلد الثاني سورة آل عمران مدخل ... سورة آل عمران بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَعْنَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ, وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِهِ, وَالْآخَرُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْقُرْآنِ دُونَ بَعْضٍ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] فَوَصَفَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالْإِحْكَامِ; وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23] فَوَصَفَ جَمِيعَهُ بِالْمُتَشَابِهِ, ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فَوَصَفَ هَهُنَا بَعْضَهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ; وَالْإِحْكَامُ الَّذِي عَمَّ بِهِ الْجَمِيعَ هُوَ الصَّوَابُ وَالْإِتْقَانُ اللَّذَانِ يَفْضُلُ بِهِمَا الْقُرْآنُ كُلَّ قَوْلٍ. وَأَمَّا مَوْضِعُ الْخُصُوصِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّفْظُ الَّذِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ وَلَا يَحْتَمِلُ عِنْدَ سَامِعِهِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا, وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ. إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ قَدْ انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْإِحْكَامِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, وَهُوَ الَّذِي جُعِلَ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ وَيُحْمَلُ مَعْنَاهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي عَمَّ بِهِ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23] فَهُوَ التَّمَاثُلُ وَنَفَى الِاخْتِلَافَ وَالتَّضَادَّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الْمَخْصُوصُ بِهِ بَعْضُ الْقُرْآنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَقَاوِيلَ السَّلَفِ فِيهِ; وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ النَّاسِخُ وَالْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ" فَهَذَا عِنْدَنَا هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وُجُوهٌ غَيْرَهُمَا. وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى النَّاسِخُ مُحْكَمًا لِأَنَّهُ ثَابِتُ الْحُكْمِ, وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبِنَاءَ الْوَثِيقَ مُحْكَمًا, وَيَقُولُونَ فِي الْعَقْدِ الْوَثِيقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حِلُّهُ مُحْكَمًا, فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى النَّاسِخُ مُحْكَمًا; إذْ كَانَتْ صِفَتُهُ الثَّبَاتَ وَالْبَقَاءَ, وَيُسَمَّى الْمَنْسُوخُ مُتَشَابِهًا مِنْ حَيْثُ أَشْبَهَ فِي التِّلَاوَةِ الْمُحْكَمَ, وَخَالَفَهُ فِي

ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَيَشْتَبِهُ عَلَى التَّالِي حُكْمُهُ فِي ثُبُوتِهِ وَنَسْخِهِ, فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى الْمَنْسُوخُ مُتَشَابِهًا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الَّذِي لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ وَالْمُتَشَابِهَ هُوَ الَّذِي تَتَكَرَّرُ أَلْفَاظُهُ; فَإِنَّ اشْتِبَاهَ هَذَا مِنْ جِهَةِ اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ عَلَى السَّامِعِ, وَهَذَا سَائِغٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا يَشْتَبِهُ فِيهِ. وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ عَلَى السَّامِعِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَيَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُهُ; فَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُتَشَابِهِ. وَمَا لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ عَلَى السَّامِعِ, وَهَذَا فَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا تَشَابُهَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ, فَهَذَا أَيْضًا أَحَدُ وُجُوهِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ فِيهِ سَائِغٌ جَائِزٌ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا يُعْلَمُ تَعْيِينُ تَأْوِيلِهِ وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَا يُعْلَمُ تَعْيِينُ تَأْوِيلِهِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ, فَإِنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ سَائِغٌ فِيهِ; لِأَنَّ مَا عُلِمَ وَقْتُهُ وَمَعْنَاهُ فَلَا تَشَابُهَ فِيهِ, وَقَدْ أُحْكِمَ بَيَانُهُ, وَمَا لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ وَمَعْنَاهُ وَوَقْتُهُ فَهُوَ مُشْتَبِهٌ عَلَى سَامِعِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ. فَجَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ عَلَى مَا رُوِيَ فِيهِ, وَلَوْلَا احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرُوا لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ, فَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّذِي يَنْتَظِمُهَا هَذَا الِاسْمُ; لِأَنَّ الْمُحْكَمَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ سُمِّيَ مُحْكَمًا لَإِحْكَامِ دَلَالَتِهِ وَإِيضَاحِ مَعْنَاهُ وَإِبَانَتِهِ. وَالْمُتَشَابِهُ مِنْهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ; لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُحْكَمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحْتَمَلَ مَعْنَاهُ وَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِمَّا يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْمُحْكَمِ فَسُمِّيَ مُتَشَابِهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ يَعْتَوِرُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمُعَانَى احْتَجْنَا إلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} مَعَ عِلْمِنَا بِمَا فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحْكَمَاتِ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وَالْأُمُّ هِيَ الَّتِي مِنْهَا ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهَا مَرْجِعُهُ, فَسَمَّاهَا أُمًّا, فَاقْتَضَى ذَلِكَ بِنَاءَ الْمُتَشَابِهِ عَلَيْهَا وَرَدَّهُ إلَيْهَا. ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فَوَصَفَ مُتَّبِعَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْلِهِ لَهُ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ بِالزَّيْغِ فِي قَلْبِهِ, وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُ مُبْتَغٍ لِلْفِتْنَةِ, وَهِيَ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْكُفْرَ; فَأَخْبَرَ أَنَّ مُتَّبِعَ الْمُتَشَابِهِ وَحَامِلَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمُحْكَمِ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ يَعْنِي الْمَيْلَ عَنْ الْحَقِّ يَسْتَدْعِي غَيْرَهُ بِالْمُتَشَابِهِ إلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِلْمَعَانِي الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ. ثُمَّ نَظَرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي تَعْتَوِرُ هَذَا اللَّفْظَ وَتَتَعَاقَبُ عَلَيْهِ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي أَقْسَامِ

الْمُتَشَابِهِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ, فَوَجَدْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ, فَإِنَّهُ إنْ كَانَ تَارِيخُهُمَا مَعْلُومًا فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِمَا عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَارِيخِهِمَا, وَعَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمَنْسُوخَ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ, وَأَنَّ النَّاسِخَ ثَابِتُ الْحُكْمِ, فَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ عَلَى السَّامِعِ الْعَالِمِ بِتَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا احْتِمَالَ فِيهِمَا لِغَيْرِ النَّسْخِ. وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى السَّامِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّارِيخَ, فَهَذَا لَيْسَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ مُحْكَمًا مِنْ الْآخَرِ وَلَا بِكَوْنِهِ مُتَشَابِهًا مِنْهُ; إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا; فَهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظُهُ وَالْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُهُ" فَهَذَا أَيْضًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى رَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ, وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَدَبُّرِهِ بِعَقْلِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى مَا فِي اللُّغَةِ مِنْ تَجْوِيزِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّ الْمُحْكَمَ مَا عُلِمَ وَقْتُهُ وَتَعْيِينُهُ وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَا يُعْلَمُ تَعْيِينُ تَأْوِيلِهِ, كَأَمْرِ السَّاعَةِ وَصَغَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي آيَسَنَا اللَّهُ مِنْ وُقُوعِ عِلْمِنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا" وَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ أَيْضًا مِنْهَا خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّا لَا نَصِلُ إلَى عِلْمِ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ بِرَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ. فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِمَّا يَجِبُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ, وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ الَّذِي قُلْنَا, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي, فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ, وَلَا اشْتِرَاكَ فِي لَفْظِهِ مِنْ نَظَائِرِ مَا قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ, وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى وَجْهَيْنِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ السَّلَفِ عَلَى اخْتِلَافِهَا يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهِهَا, وَيَكُونُ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ هُوَ هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ لِامْتِنَاعِ إمْكَانِ حَمْلِ سَائِرِ وُجُوهِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ; ثُمَّ يَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} مَعْنَاهُ تَأْوِيلُ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ حَتَّى لَا يَسْتَوْعِبَ غَيْرُهُ عِلْمَهَا, فَنَفَى إحَاطَةَ عِلْمِنَا بِجَمِيعِ مَعَانِي الْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ الْآيَاتِ وَلَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ نَعْلَمَ نَحْنُ بَعْضَهَا بِإِقَامَتِهِ لَنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] . لِأَنَّ فِي فَحَوَى الْآيَةِ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّا نَعْلَمُ بَعْضَ الْمُتَشَابِهِ بِرَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ, وَحَمْلِهِ عَلَى مَعْنَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ ذَلِكَ, وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ. وَتَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّا لَا نَصِلُ إلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ; فَإِذًا يَنْبَغِي أَنْ يكون قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} غَيْرَ نَافٍ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ, فَمِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْعِلْمِ لَنَا بِهِ وَقْتُ السَّاعَةِ وَالذُّنُوبُ الصَّغَائِرُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَوِّزُ وُرُودَ لَفْظٍ مُجْمَلٍ فِي حُكْمٍ يَقْتَضِي الْبَيَانَ, وَلَا يُبَيِّنُهُ أَبَدًا, فَيَكُونُ فِي حَيِّزِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا نَصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وَجَعَلَ الْوَاوَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لِلْجَمْعِ, كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَقِيت زَيْدًا, وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وَجَعَلَ الْوَاوَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَابْتِدَاءِ خِطَابٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْأَوَّلِ. فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَالِمِينَ بِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِ عَالِمِينَ بِجَمِيعِهِ, وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعني شكا {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} : الشُّبُهَاتُ بِمَا هَلَكُوا, لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ; وَعَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يَعْنِي تَأْوِيلَ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ بَعْضَهُ قَائِلِينَ {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} يَعْنِي مَا نُصِبَ لَهُمْ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي بِنَائِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ وَرَدِّهِ إلَيْهِ وَمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلًا إلَى عِلْمِهِ مِنْ نَحْوِ مَا وَصَفْنَا. فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيلَ بَعْضِهِ, وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْضَ قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا, وَمَا أَخْفَى عَنَّا عِلْمَ مَا غَابَ عَنَا عِلْمُهُ إلَّا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَنَا وَمَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا, وَمَا أَعْلَمَنَا وَمَا يُعْلِمْنَاهُ إلَّا لِمَصْلَحَتِنَا وَنَفْعِنَا; فَيَعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ الْجَمِيعِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا عَلِمُوا مِنْهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْكَلَامِ وَتَمَامُهُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} , وَأَنَّ" الْوَاوَ" لِلِاسْتِقْبَالِ دُونَ الْجَمْعِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ لَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ ذِكْرَ الْوَاوِ لِاسْتِئْنَافِ الْخَبَرِ. وَقَالَ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ, وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي بَيَانِ قَسْمِ الْفَيْءِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] إلَى قَوْله تَعَالَى: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4] ثُمَّ تَلَاهُ بِالتَّفْصِيلِ, وَتَسْمِيَةُ مَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْفَيْءَ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وَهُمْ لَا مَحَالَةَ دَاخِلُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَيْءِ كَالْأَوَّلِينَ, وَالْوَاوُ فِيهِ لِلْجَمْعِ, ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر: 10] مَعْنَاهُ: قَائِلِينَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا. كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} مَعْنَاهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي

الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ مَا نُصِبَ لَهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ, قَائِلِينَ: رَبَّنَا آمَنَّا بِهِ; فَصَارُوا مَعْطُوفِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلِينَ فِي حَيِّزِهِ, وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الشِّعْرِ, قَالَ يَزِيدُ بْنُ مُفْرِغٍ الْحِمْيَرِيُّ: وَشَرَيْت بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْت هَامَهْ فَالرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ وَالْمَعْنَى: وَالْبَرْقُ يَبْكِي شَجْوَهُ لَامِعًا فِي الْغَمَامَةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ دَلَالَةِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ, فَيَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ تَأْوِيلَهُ إذَا اسْتَدَلُّوا بِالْمُحْكَمِ عَلَى مَعْنَاهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ "الْوَاوَ" لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَتُهَا الْجَمْعَ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا وَمُقْتَضَاهَا, وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَلَا دَلَالَةَ مَعَنَا تُوجِبُ صَرْفَهَا عَنْ الْحَقِيقَةِ, فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى الْجَمْعِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْمُحْكَمِ مُقَيَّدًا بِمَا فِي الْعَقْلِ, وَقَدْ يُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيُبْطِلُ فَائِدَةَ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُحْكَمِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا هُوَ فِي تَعَارُفِ الْعُقُولِ, فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِمَا تَعَارَفَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ, وَلَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْعَقْلِ فِيهِ إلَى مُقَدِّمَاتٍ بَلْ يُوقَعُ الْعِلْمُ لِسَامِعِهِ بِمَعْنَى مُرَادِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ دُونَ عَادَاتٍ فَاسِدَةٍ قَدْ جَرَوْا عَلَيْهَا, فَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ إلَّا مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ, فَأَمَّا الْعَادَاتُ الْفَاسِدَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ اتِّبَاعِ مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ دُونَ مَا أُحْكِمَ؟ قِيلَ لَهُ: نَحْوُ مَا رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسِيحِ فَقَالُوا: أَلَيْسَ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحًا مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالُوا: حَسْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فَصَرَفُوا قَوْلَهُ: "كَلِمَةُ اللَّهِ" إلَى مَا يَقُولُونَهُ فِي قِدَمِهِ مَعَ اللَّهِ وَرُوحِهِ, صَرَفُوهُ إلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ قَدِيمٌ مَعَهُ كَرُوحِ الْإِنْسَانِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: "كَلِمَتُهُ" أَنَّهُ بَشَّرَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ, فَسَمَاهُ كَلِمَةً مِنْ حَيْثُ قَدَّمَ الْبِشَارَةَ بِهِ, وَسَمَاهُ رُوحَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بَلْ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَفَخَ فِي جَيْبِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ, وَأَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهُ, كَبَيْتِ اللَّهِ وَسَمَاءِ اللَّهِ, وَأَرْضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيلَ إنَّهُ سَمَّاهُ رُوحًا كَمَا سَمَّى الْقُرْآنَ رُوحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]

وَإِنَّمَا سَمَّاهُ رُوحًا مِنْ حَيْثُ كَانَ فِيهِ حَيَاةُ النَّاسِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ; فَصَرَفَ أَهْلُ الزَّيْغِ ذَلِكَ إلَى مَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَإِلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ الزَّيْغِ الْمُتَّبِعُونَ لِلْمُتَشَابِهِ مِنْهُ هُمْ الْحَرُورِيَّةُ وَالسَّبَئِيَّةُ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ لَمَّا هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ, جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ بِسُوقِ قَيْنُقَاعَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَحَذَّرَهُمْ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنْ الِانْتِقَامِ, فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَسْنَا كَقُرَيْشٍ الْأَغْمَارِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ, لَئِنْ حَارَبْتنَا لَتَعْرِفَنَّ أَنَّا النَّاسُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فِيهَا مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ غَلَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْرِكِينَ, فَكَانَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ., وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّفَاقِ مَعَ كَثْرَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الْغَيْرِ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَوُجِدَ مُخْبَرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ, وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِالْغُيُوبِ, إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ الْإِخْبَارُ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ثُمَّ يَتَّفِقُ مُخْبَرُ إخْبَارِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ لِشَيْءٍ مِنْهُ. وقَوْله تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الْفِئَةُ الرَّائِيَةُ لِلْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ, فَرَأَوْهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ, وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَمْثَالَهُمْ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ, فَقَلَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ لِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ} آيَةٌ مُخَاطِبَةٌ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} وقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ} آية مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَتَمَامٌ لَهُ, وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرِينَ رَأَوْا الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ, وَأَرَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ لِيُجَنِّبَ قُلُوبَهُمْ وَيُرْهِبَهُمْ فَيَكُونُ أَقْوَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ, وَذَلِكَ أَحَدُ أَبْوَابِ النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْخِذْلَانِ لِلْكَافِرِينَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ لِلْكَثِيرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ, وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَجْرَى الْعَادَةِ; لِمَا أَمَدَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَهُمْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ, وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ اللِّقَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَالَ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ" وَكَانَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ, وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} قَالَ الْحَسَنُ: "زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ; لِأَنَّهُ لَا

أَحَدَ أَشَدَّ ذَمًّا لَهَا مِنْ خَالِقِهَا". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زَيَّنَهَا اللَّهُ بِمَا جَعَلَ فِي الطِّبَاعِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ إلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: 7] . وَقَالَ آخَرُونَ: "زَيَّنَ اللَّهُ مَا يَحْسُنُ مِنْهُ وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ مَا يَقْبُحُ مِنْهُ". وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ "رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا عُبَيْدَةَ, قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً, وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى". وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ, وَأَنَّهُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ; لِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا حِينَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "يُقْتَلُ عَلَيْهِ". وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقُتِلَ". قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: لَا نَعْلَمُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ يُقْتَلُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَإِنْ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِهِمْ, فَأُجْمِلُوا مَعَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] فَنَسَبَ الْقَتْلَ إلَى الْمُخَاطَبِينَ; لِأَنَّهُمْ رَضَوْا بِأَفْعَالِ أَسْلَافِهِمْ وَتَوَلَّوْهُمْ عَلَيْهَا, فَكَانُوا مُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ كَمَا شَارَكُوهُمْ فِي الرِّضَا بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَهُودَ حِينَ دُعُوا إلَى التَّوْرَاةِ وَهِيَ كِتَابُ الله وسائر

الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا أَعْرَضُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ, وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ آمَنُوا" وَصَدَّقُوا لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَلِمَا عَرَفُوهُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ اللَّهِ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ادَّعَاهُ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنُوا بُطْلَانَ دَعْوَاهُ, فَلَمَّا أَعْرَضُوا, وَلَمْ يُجِيبُوا إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَدَلُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ, لِعِلْمِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا; وَكَمَا دَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَاونساءكم} [آل عمران: 61] إلَى قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ حَضَرُوا وَبَاهَلُوا لَأَضْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْوَادِيَ نَارًا, وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلٍ, وَلَا وَلَدٍ". وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّمَا أَرَادَ بقوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} إلَى الْقُرْآنِ; لِأَنَّ مَا فِيهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّوْرَاةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَتْ بِهَا الْبِشَارَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالدُّعَاءُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ مَدَارِسِهِمْ, فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزَّانِي, فَذَكَرُوا الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَكَتَمُوا الرَّجْمَ, حَتَّى وَقَّفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُحْتَمَلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ قَدْ وَقَعَ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ; وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا خَصْمَهُ إلَى الْحُكْمِ لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ; لِأَنَّهُ دَعَاهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] . قَوْله تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} قيل في قوله تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ} إنَّهُ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ مُلْكٍ, وَقِيلَ مَالِكُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَقِيلَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا ملكوا, وقال

مُجَاهِدٌ أَرَادَ بِالْمُلْكِ هَهُنَا النُّبُوَّةَ. وَقَوْلُهُ: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُلْكُ الْأَمْوَالِ وَالْعَبِيدِ, وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَالْآخَرُ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ, فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسْلِمُ الْعَدْلُ دُونَ الْكَافِرِ وَدُونَ الْفَاسِقِ, وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ وَتَدْبِيرُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ, وَذَلِكَ لَا يُؤْتَمَنُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ, وَلَا الْفَاسِقُ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ سِيَاسَةُ الْمُؤْمِنِينَ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] . فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى الْكَافِرَ الْمُلْكَ. قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَالَ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إيتَاءَ الْكَافِرِ الْمُلْكَ, وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ: آتَى إبْرَاهِيمَ الْمُلْكَ, يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَجَوَازَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي طَرِيقِ الْحِكْمَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ. فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ; لِأَنَّهُ جَزَمَ الْفِعْلَ, فَهُوَ إذًا نَهْيٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ; وَنَظِيرُهَا مِنْ الْآيِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [لنجم:29] وقال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [لأعراف: 199] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] فَنَهَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُلَاطَفَتِهِمْ عَنْ النَّظَرِ إلَى أَمْوَالِهِمْ, وَأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِإِبِلٍ لِبَنِي الْمُصْطَلِقِ, وَقَدْ عَبَسَتْ1 بِأَبْوَالِهَا مِنْ السِّمَنِ, فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ وَمَضَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} [طه: 131] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا

_ 1 "قوله: عبست" بفتح العيين وكسر الباء أي جف البول على أفخاذها من السمن كما في النهاية. "لمصححه".

َدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ" فَقِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا" 1. وَقَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ". فَهَذِهِ الْآيُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ الْكُفَّارُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفْوَةِ دُونَ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُلَايَنَةِ, مَا لَمْ تَكُنْ حَالٌ يَخَافُ فِيهَا عَلَى تَلَفِ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ أَوْ ضَرَرًا كَبِيرًا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ, فَإِنَّهُ إذَا خَافَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ إظْهَارُ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ صِحَّةِ اعْتِقَادٍ. وَالْوَلَاءُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَلِي أُمُورَ مَنْ يَرْتَضِي فِعْلَهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِيَاطَةِ, وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ الْمُعَانَ الْمَنْصُورَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] يَعْنِي أَنَّهُ يَتَوَلَّى نَصْرَهُمْ وَمَعُونَتَهُمْ. وَالْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَانُونَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] .

مطلب: في بيان معنى التقية وحكمها وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} يَعْنِي أَنْ تَخَافُوا تَلَفَ النَّفْسِ وَبَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَتَتَّقُوهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهَا. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَافِرًا وَلِيًّا فِي دِينِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} : إلَّا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَيَصِلَهُ لِذَلِكَ; فَجَعَلَ التَّقِيَّةَ صِلَةً لِقَرَابَةِ الْكَافِرِ. وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ إظْهَارِ الْكُفْرِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] وَإِعْطَاءُ التَّقِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ, بَلْ تَرْكُ التَّقِيَّةِ أَفْضَلُ, قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ: إنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَظْهَرَ. وَقَدْ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ خُبَيْبَ بْنَ عُدَيٍّ, فَلَمْ يُعْطِ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ, فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَعْطَى التَّقِيَّةَ, وأظهر

الْكُفْرَ فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ؟ " قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنْ عَادُوا فَعُدْ" وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّرْخِيصِ. وَرُوِيَ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قال: نعم قال: أتشهد أني رسول الله؟ قَالَ: نَعَمْ فَخَلَّاهُ, ثُمَّ دَعَا بِالْآخَرِ وَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّى رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: إنِّي أَصَمُّ, قَالَهَا ثَلَاثًا; فَضَرَبَ عُنُقَهُ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَمَّا هَذَا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ, وَأَخَذَ بِفَضِيلَةٍ فَهَنِيئًا لَهُ, وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ". وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إعْطَاءَ التَّقِيَّةِ رُخْصَةٌ, وَأَنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ إظْهَارِهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي كُلِّ أَمْرٍ كَانَ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ, فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فَقُتِلَ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ انْحَازَ؟ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ الشُّهَدَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ وَجَعَلَهُمْ أَحْيَاءً مَرْزُوقِينَ, فَكَذَلِكَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي إظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ إظْهَارِ الْكُفْرِ أَفْضَلُ مِنْ إظْهَارِ التَّقِيَّةِ فِيهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ, وَنَظَائِرِهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي شَيْءٍ, وَأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ, وَلَا تَزْوِيجٍ, وَلَا غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ الْمُسْلِمِ, وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ آلَ إبْرَاهِيمَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَلَى دِينِهِ; وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَآلُ عِمْرَانَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ; لِأَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ; وَقِيلَ: آلُ عِمْرَانَ هُمْ آلُ إبْرَاهِيمَ, كَمَا قَالَ {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} وَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ ابْنَا عِمْرَانَ. وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا الْآلُ, وَأَهْلَ الْبَيْتِ وَاحِدًا فِيمَنْ يُوصِي لِآلِ فُلَانٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ, فَيَكُونُ لِمَنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُ الْجَدُّ الَّذِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ, هُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ; قَالُوا: إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ الْآلُ هُوَ بَيْتٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ, مِثْلُ قَوْلِنَا: آلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ عَلِيٍّ, وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ, وَأَوْلَادُ عَلِيٍّ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِمَا بِالْآبَاءِ; وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ فِي الدِّينِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] يَعْنِي فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الضَّلَالِ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْهُدَى. وقال بعضهم {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}

فِي التَّنَاسُلِ; لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ ذُرِّيَّةُ آدَمَ ثُمَّ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ ثُمَّ ذُرِّيَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.

مطلب: فيمن نذر أن ينشيء ابنه الصغير في عبادة الله وأن يعلمه القرآن وعلوم الدين قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ", وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "خَادِمًا لِلْبِيعَةِ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: "عَتِيقًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى". وَالتَّحْرِيرُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِتْقُ, مِنْ الْحُرِّيَّةِ. وَالْآخَرُ: تَحْرِيرُ الْكِتَابِ, وَهُوَ إخْلَاصُهُ مِنْ الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} إذَا أَرَادَتْ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ أَنَّهَا تُنْشِئُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَشْغَلُهُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا, وَإِذَا أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهَا تَجْعَلُهُ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ أَوْ عَتِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَقَارِبَةٌ, كَانَ نَذْرًا مِنْ قِبَلِهَا نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهَا: نَذَرْته ثُمَّ قَالَتْ: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَالنَّذْرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا بِأَنْ يَنْذِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُنَشِّئَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ, وَأَنْ لَا يَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِمَا, وَأَنْ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ وَعُلُومَ الدِّينِ. وَجَمِيعُ ذَلِكَ نُذُورٌ صَحِيحَةٌ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهَا: {نَذَرْتُ لَكَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى قُرْبَةً يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّذُورَ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ وَعَلَى أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهَا: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} أَرَادَتْ بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَبُلُوغِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَخْلُصَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ بِالْمَجْهُولِ; لِأَنَّهَا نَذَرَتْهُ وَهِيَ لَا تَدْرِي ذَكَرٌ هُوَ أم أنثى.

مطلب: للأم ضرب من الولاية على الولد في تعليمه وتأديبه إلى آخره وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ فِي تَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَتَرْبِيَتِهِ, لَوْلَا أَنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ فِي وَلَدِهَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ تَسْمِيَةَ وَلَدِهَا وَتَكُونُ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً, وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ الأب; لأنها قالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لَوَلَدِهَا هَذَا الِاسْمَ. وقَوْله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} الْمُرَادُ بِهِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: رَضِيَهَا لِلْعِبَادَةِ فِي النَّذْرِ الَّذِي نَذَرَتْهُ بِالْإِخْلَاصِ لِلْعِبَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ, وَلَمْ يَقْبَلْ قَبْلَهَا أُنْثَى فِي هَذَا المعنى. قوله تعالى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَضَمَّنَ مُؤْنَتَهَا, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ" , وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ, يَعْنِي بِهِ مَنْ

يَضْمَنُ مُؤْنَةَ الْيَتِيمِ. وَإِذَا قُرِئَ بِالتَّثْقِيلِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَّلَهُ إيَّاهَا وَضَمَّنَهُ مُؤْنَتَهَا, وَأَمَرَهُ بِالْقِيَامِ بِهَا. وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ, بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّلَهُ إيَّاهَا فَتَكَفَّلَ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} الْهِبَةُ: تَمْلِيكُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ, وَيَقُولُونَ: قَدْ تَوَاهَبُوا الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ. وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ; لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ هِبَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ; إذْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكُ شَيْءٍ. وَقَدْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا يَقَعُ فِيهِ تَمْلِيكٌ, وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُخْلِصَ لَهُ الْوَلَدَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوِرَاثَتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْهِبَةِ. كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بَذْلَ النَّفْسِ لِلْجِهَادِ فِي اللَّهِ شِرَاءً بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وَهُوَ تَعَالَى مَالِكُ الْجَمِيعِ مِنْ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ قَبْلَ أَنْ جَاهَدُوا وَبَعْدَهُ, وَسَمَّى ذَلِكَ شِرَاءً; لِمَا وَعَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: هَبْ لِي جِنَايَةَ فُلَانٍ, وَلَا تَمْلِيكَ فِيهِ, وَإِنَّمَا أَرَادَ إسْقَاطَ حُكْمِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى يَحْيَى سَيِّدًا, وَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ: "قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ"; وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ: "إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ" ; وَقَالَ لِبَنِي سَلِمَةَ: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟ " قَالُوا: الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ, قَالَ: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنْ الْبُخْلِ وَلَكِنْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ" فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سَيِّدًا. وَلَيْسَ السَّيِّدُ هُوَ الْمَالِكُ فَحَسْبُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ سَيِّدُ الدَّابَّةِ" وَسَيِّدُ الثَّوْبِ" كَمَا يُقَالُ سَيِّدُ الْعَبْدِ" وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي عَامِرٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: "أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ عَلَيْنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ تَكَلَّمُوا بِكَلَامِكُمْ, وَلَا يَسْتَهْوِينَكُمْ الشَّيْطَانُ". وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ السَّادَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ, وَلَكِنَّهُ رَآهُمْ مُتَكَلِّفِينَ لِهَذَا الْقَوْلِ, فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ, كَمَا قَالَ: "إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ" , فَكُرِهَ لَهُمْ تَكَلُّفُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّصَنُّعِ., وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا فَإِنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ هَلَكْتُمْ" , فَنَهَى أَنْ يُسَمَّى الْمُنَافِقُ سَيِّدًا; لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] فَسَمُّوهُمْ سَادَاتٍ وَهُوَ ضَلَالٌ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا, فَكَانُوا عِنْدَهُمْ وَفِي اعْتِقَادِهِمْ سَادَاتُهُمْ, كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} [هود: 101] وَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً, وَلَكِنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ آلِهَةً فَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} يُقَالُ إنَّهُ طَلَبَ آيَةً لِوَقْتِ الْحَمْلِ لِيُعَجِّلَ السُّرُورَ بِهِ, فَأَمْسَكَ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ إلَّا بِالْإِيمَاءِ; يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ في هذه الآية: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم: 10] عَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْأَيَّامِ وَتَارَةً بِذِكْرِ اللَّيَالِيِ, وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْقَلُ بِهِ مِقْدَارُهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ, فَيُعْقَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثَلَاثُ لَيَالٍ مَعَهَا وَمِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ فَقَالَ: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7] لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَدَدِ الْأَوَّلِ عَقِلَ الْمَلَائِكَةُ مِثْلَهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قيل في قوله: {اصْطَفَاكِ} : "اخْتَارَكِ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِهِمْ" يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: "مَعْنَاهُ أَنَّهُ اخْتَارَك عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِحَالٍ جَلِيلَةٍ مِنْ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ" وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "وَطَهَّرَكِ مِنْ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا سَائِغٌ, كَمَا جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْكَافِرِ; لِأَجْلِ الْكُفْرِ فِي قَوْله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} والمراد نجاسة الكفر, فكذلك يكون {وَطَهَّرَكِ} بِطَهَارَةِ الْإِيمَانِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِنَجَسٍ" , يَعْنِي بِهِ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] وَالْمُرَادُ طَهَارَةُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ" وَطَهَّرَكِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ من الحيض والنفاس وغيرهما".

مطلب: في أن إطلال الغمامة عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة إرهاصا له وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَطْهِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] فَقَالَ قَائِلٌ: "كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى وَجْهِ إرْهَاصِ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ, كَحَالِ الشُّهُبِ وَإِظْلَالِ الْغَمَامَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ". قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين} قَالَ سَعِيدٌ: "أَخْلِصِي لِرَبِّك". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَدِيمِي الطَّاعَةَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ" أَطِيلِي قِيَامَ الصَّلَاةِ", وَأَصْلُ الْقُنُوتِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ, وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْحَالِ الْأَمْرُ بِإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي

الصَّلَاةِ" وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ" يَعْنِي طُولَ الْقِيَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَطْفًا على ذلك: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} فَأُمِرَتْ بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهِيَ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ, وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعَ سَجْدَةٍ عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَسَائِرِ مَوَاضِعِ السُّجُودِ; لِأَجْلِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِيهَا; لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ مَعَ السُّجُودِ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ, فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ, وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ" الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ; لِأَنَّ الرُّكُوعَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ فِي الْمَعْنَى, وَقَدَّمَ السُّجُودَ هَهُنَا فِي اللَّفْظِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن قتادة في قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} قَالَ: "تَسَاهَمُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا فَقَرَعُهُمْ زَكَرِيَّا". وَيُقَالُ: إنَّ الْأَقْلَامَ هَهُنَا الْقِدَاحُ الَّتِي يُتَسَاهَمُ عَلَيْهَا, وَإِنَّهُمْ أَلْقَوْهَا فِي جِرْيَةِ الْمَاءِ, فَاسْتَقْبَلَ قَلَمُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ جِرْيَةَ الْمَاءِ مُصَعِّدًا وَانْحَدَرَتْ أَقْلَامُ الْآخَرِينَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَرَعَهُمْ1 يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. فَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُمْ تَسَاهَمُوا عَلَيْهَا حِرْصًا عَلَى كَفَالَتِهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ تَدَافَعُوا كَفَالَتَهَا لَشِدَّةِ الْأَزْمَةِ وَالْقَحْطِ فِي زَمَانِهَا حَتَّى وُفِّقَ لَهَا زَكَرِيَّا خَيْرُ الْكُفَلَاءِ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى كَفَالَتِهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْقُرْعَةِ فِي الْعَبِيدِ يُعْتِقُهُمْ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ يَمُوتُ, وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عِتْقِ الْعَبِيدِ فِي شَيْءٍ; لِأَنَّ الرِّضَا بِكَفَالَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ, وَلَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى اسْتِرْقَاقِ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْحُرِّيَّةُ, وَقَدْ كَانَ عِتْقُ الْمَيِّتِ نَافِذًا فِي الْجَمِيعِ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ. وَإِلْقَاءُ الْأَقْلَامِ يُشْبِهُ الْقُرْعَةَ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي تَقْدِيمِ الْخُصُومِ إلَى الْحَاكِمِ, وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ" وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ عَلَى مَا خَرَجَتْ بِهِ الْقُرْعَةُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ, وَكَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ كَفَالَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ التَّرَاضِي عَلَى نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ.

_ 1 قَوْله: "قرعهم" أي خرجت القرعة له دونهم. "لمصححه".

مطلب: في تحقيق معنى البشارة قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} .

الْبِشَارَةُ هِيَ خَبَرٌ عَلَى وَصْفٍ, وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِمَا يُسِرُّ لِظُهُورِ السُّرُورِ فِي بَشَرَةِ وَجْهِهِ; إذْ بُشِّرَ, وَالْبَشَرَةُ هِيَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ فَأَضَافَتْ الْمَلَائِكَةُ الْبِشَارَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ هُوَ مُبَشِّرُهَا, وَإِنْ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ خَاطَبُوهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: "إنْ بَشَّرْت فُلَانًا بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حَرٌّ" فَقَدِمَ, وَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يُخْبِرُهُ بِقُدُومِهِ, فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: " إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَك قَدْ قَدِمَ فُلَانٌ" أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ; لِأَنَّ الْمُرْسِلَ هُوَ الْمُبَشِّرُ دُونَ الرَّسُولِ. وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَضَمُّنِ الْبِشَارَةِ إحْدَاثُ السُّرُورِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّ الْمُبَشِّرَ هُوَ الْمُخْبِرُ الْأَوَّلُ, وَإِنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمُبَشِّرٍ; لِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ بِخَبَرِهِ سُرُورٌ وَقَدْ تُطْلَقُ الْبِشَارَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْخَبَرُ فَحَسْبُ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . قَوْله تعالى: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} قَدْ قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَلَمَّا كَانَ خَلْقُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْكَلِمَةِ مَجَازًا كَمَا قَالَ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: من الآية171] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِهِ كَمَا يَهْدِي بِكَلِمَتِهِ.

مطلب: في المباهلة وما رواه أصحاب السير في شأنها قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} الِاحْتِجَاجُ الْمُتَقَدِّمُ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَهُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ وَفِيهِمْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْت وَلَدًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا حَكَى عَنْ الْمَسِيحِ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِنْجِيلِ; لِأَنَّ فِيهِ: "إنِّي ذَاهِبٌ إلَى أَبِي, وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ "; وَالْأَبُ السَّيِّدُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ, أَلَا تَرَاهُ قَالَ: وَأَبِي, وَأَبِيكُمْ؟ فَعَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُبُوَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لَلْبُنُوَّةِ, فَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ وَاعْتَرَفُوا بِهِ, وَأَبْطَلَ شُبْهَتَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بِأَمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ حِينَئِذٍ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الْآيَةَ; فَنَقَلَ رُوَاةُ السِّيَرِ وَنَقْلَةُ الْأَثَرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى الَّذِينَ حَاجُّوهُ إلَى الْمُبَاهَلَةِ, فَأَحْجَمُوا عَنْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنْ بَاهَلْتُمُوهُ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا, وَلَمْ يَبْقَ نَصْرَانِيٌّ, وَلَا نَصْرَانِيَّةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَحْضُ شُبَهِ النَّصَارَى فِي أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ ابْنُ الْإِلَهِ; وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى

صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّهُ نَبِيٌّ مَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمُبَاهَلَةِ؟ فَلَمَّا أَحْجَمُوا وَامْتَنَعُوا عَنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْمُعْجِزَاتِ وَبِمَا وَجَدُوا مِنْ نَعْتِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأنه أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ حِينَ أَرَادَ حُضُورَ الْمُبَاهَلَةِ وَقَالَ: "تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ" , وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُونَ غَيْرُهُمَا, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ" وَقَالَ حِينَ بَالَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ صَغِيرٌ: "لَا تُزْرِمُوا ابْنِي" وَهُمَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْضًا, كَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 85] وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أمه; لأنه لا أب له.

مطلب: في أن ولد البنت هل ينسب إلى قوم أبيه أو أمه وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُسَمَّيَا ابْنَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِمَا, وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ إطْلَاقِ اسْمِ ذَلِكَ فِيهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّاسِ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي" ; وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى لَوَلَدِ فُلَانٍ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ وَوَلَدُ ابْنَةٍ: "إنَّ الْوَصِيَّةَ لَوَلَدِ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الِابْنَةِ". وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَلَدَ الِابْنَةِ يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فِي جَوَازِ نِسْبَتِهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ, وَأَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ النَّاسِ إنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْآبَاءِ وَقَوْمِهِمْ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَاشِمِيَّ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً رُومِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً أَنَّ ابْنَهُ يَكُونُ هَاشِمِيًّا مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ؟ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... نوهن أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ فَنِسْبَةُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُنُوَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخْصُوصٌ بِهِمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمَا; هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَعَالِمُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيمَنْ سِوَاهُمَا; لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى الْأَبِ وَقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} الآية. قوله تعالى: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ نَتَسَاوَى جَمِيعًا فِيهَا; إذْ كُنَّا جَمِيعًا عِبَادَ اللَّهِ, ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَشْهَدُ الْعُقُولُ

بِصِحَّتِهَا; إذْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَبِيدَ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْعِبَادَةَ, وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ طَاعَةُ غَيْرِهِ إلَّا فِيمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي طَاعَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ مِنْهَا مَعْرُوفًا, وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْمَعْرُوفِ; لِئَلَّا يَتَرَخَّصَ أَحَدٌ فِي إلْزَامِ غَيْرِهِ طَاعَةَ نَفْسِهِ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمُبَايِعَاتِ: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة: 12] فَشَرَطَ عَلَيْهِنَّ تَرْكَ عِصْيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ تَأْكِيدًا; لِئَلَّا يُلْزِمَ أَحَدًا طَاعَةَ غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ لَا يَتْبَعْهُ فِي تَحْلِيلِ شَيْءٍ, وَلَا تَحْرِيمِهِ إلَّا فِيمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] وَقَدْ رَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ, فَقَالَ: "أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْك" ثُمَّ قَرَأَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ قَالَ: "أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ؟ " قَالَ:" فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ"; وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا; لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ فِي قَبُولِ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ, وَلَمْ يُحَلِّلْهُ. وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُطَاعَ بِمِثْلِهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي هُوَ خَالِقُهُمْ, وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي لُزُومِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرَهُ وَتَوْجِيهِ الْعِبَادَةِ إلَيْهِ دون غيره.

مطلب: في الجواب عن إشكال من قال: إن القرآن نزل بعد إبراهيم عليه السلام مكيف يكون مسلما قَوْله تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا فِي إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: مَا كَانَ إلَّا يَهُودِيًّا, وَقَالَتْ النَّصَارَى: مَا كَانَ إلَّا نَصْرَانِيًّا; فَأَبْطَلَ اللَّهُ دَعْوَاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فَالْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة حَادِثَتَانِ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ, فَكَيْفَ يَكُونُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا, وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمْ سُمُّوا بِذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَهُوذَا, وَالنَّصَارَى سُمُّوا بِذَلِكَ; لِأَنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ نَاصِرَةَ قَرْيَةٍ بِالشَّامِّ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَهُودَ مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عَنْ مِلَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَالنَّصْرَانِيَّة مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عَنْ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ; فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ

إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} فَكَيْفَ يَكُونُ إبْرَاهِيمُ مَنْسُوبًا إلَى مِلَّةٍ حَادِثَةٍ بَعْدَهُ؟!. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَنِيفًا مُسْلِمًا; لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بَعْدَهُ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْحَنِيفِ الدِّينَ الْمُسْتَقِيمَ; لِأَنَّ الْحَنَفَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالْإِسْلَامُ هَهُنَا هُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ, وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِذَلِكَ فَقَدْ عَلِمْنَا بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ إبْرَاهِيمُ وَمَنْ قَبْلَهُ قَدْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ, فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى إبْرَاهِيمُ حَنِيفًا مُسْلِمًا, وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ نَزَلَ بَعْدَهُ. لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ, بَلْ يَصِحُّ صِفَةُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ, وَالْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة صِفَةٌ حَادِثَةٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةٍ حَرَّفَهَا مُنْتَحِلُوهَا مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أن ينسب إليها من كان قبلها.

مطلب: في وجوب المحاجة في الدين وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَاجَّةِ فِي الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ, كَمَا احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبْطَلَ بِهَا شُبْهَتَهُمْ وَشَغَبَهُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ لِلْحَقِّ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَاجُ كُلُّهُ مَحْظُورًا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحَاجَّةِ بِالْعِلْمِ وَبَيْنَهَا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} : فِيمَا وَجَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ, وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَهُوَ شَأْنُ إبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} مَعْنَاهُ: تَأْمَنْهُ عَلَى قِنْطَارٍ; لِأَنَّ "الْبَاءَ" وَ "عَلَى" تَتَعَاقَبَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ, كَقَوْلِك: مَرَرْت بِفُلَانٍ وَمَرَرْت عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْقِنْطَارِ: "هُوَ أَلْفُ مِثْقَالٍ وَمِائَتَا مِثْقَالٍ". وَقَالَ أَبُو نَضِرَةَ: مِلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "سَبْعُونَ أَلْفًا". وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: "مِائَةُ رِطْلٍ". فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ, وَيُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمَانَةِ, كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانَ مَأْمُونًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابِيُّ مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْهُمْ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا ائْتُمِنُوهُ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْآيَةِ, إلَّا أَنَّا خَصَّصْنَاهُ

بِالْإِنْفَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ أَدَاءَ أَمَانَتِهِمْ حَقٌّ لَهُمْ, فَأَمَّا جَوَازُهُ عَلَيْهِمْ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا بِالتَّقَاضِي". وَقَالَ السُّدِّيُّ: إلَّا مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ بِالْمُلَازَمَةِ لَهُ". وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ مِنْ التَّقَاضِي وَمِنْ الْمُلَازَمَةِ وَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا; وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} بِالْمُلَازَمَةِ أَوْلَى مِنْهُ بِالتَّقَاضِي مِنْ غَيْرِ مُلَازَمَةٍ, وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلطَّالِبِ مُلَازَمَةَ الْمَطْلُوبِ بِالدَّيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ; لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ, وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فِي سَائِرِ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَهُمْ; لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا اتِّبَاعَهُمْ, وَادَّعَوْا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ; فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّهُ كَذِبٌ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} . رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ, وَهُوَ فَاجِرٌ فِيهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِي نَزَلَتْ, كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رِجْلٍ خُصُومَةٌ, فَخَاصَمْته إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْت: لَا, قَالَ: فَيَمِينُهُ قُلْت: إذًا يَحْلِفُ; فَذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ, فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ, وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ" قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ". وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ1 لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ بِيَمِينِهِ مَالًا هُوَ فِي الظَّاهِرِ لِغَيْرِهِ, وَكُلُّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ حتى يستحقه غيره. وقد منع

_ 1 قوله: "على يمين صبر" أي ألزم بها, فلو حلف من غير إلزام ولا إحلاف لا يقال حلف صبرا. "لمصححه".

ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنْ يَسْتَحِقَّ بِيَمِينِهِ مَالًا هُوَ لِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَوْلَا يَمِينُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَالًا هُوَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ مَا هُوَ عِنْدَنَا فِي الظَّاهِرِ; إذْ كَانَتْ الْأَمْلَاكُ لَا تَثْبُتُ عِنْدَنَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الْيَمِينِ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ مَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ, وَإِنَّمَا مَوْضُوعُهَا لَإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ; وَرَوَى الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَةً فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ أَعْطَيْت بِهَا ثَمَنًا لَمْ أُعْطِ بِهَا لِيُوقِعَ فِيهَا مُسْلِمًا, فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ حَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُ {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, وَلَا مِنْ فِعْلِهِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ, وَقَدْ نَفَى اللَّهُ نَفْيًا عَامًّا كَوْنَ الْمَعَاصِي مِنْ عِنْدِهِ, وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ آكَدِ الْوُجُوهِ, فَكَانَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّفْيِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْإِيمَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ, كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ إطْلَاقَ النَّفْيِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إطْلَاقُ الْإِثْبَاتِ, أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: "مَا عِنْدَ زَيْدٍ طَعَامٌ" كَانَ نَفْيًا لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ, وَلَوْ قُلْت: "عِنْدَهُ طَعَامٌ" مَا كَانَ عُمُومًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ؟ قَوْله تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قِيلَ فِي مَعْنَى الْبِرِّ هَهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: "الْجَنَّةُ" وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ فِيهِ: الْبِرُّ بِفِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْأَجْرَ, وَالنَّفَقَةُ هَهُنَا إخْرَاجُ مَا يُحِبُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَائِطِي الَّذِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ مَا أَعْلَنْتُهُ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِك أَوْ فِي أَقْرِبَائِك". وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو عَنْ أَبِي عُمَرَ وَابْنِ حَمَاسٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فَتَذَكَّرْت مَا أَعْطَانِي اللَّهُ, فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ جَارِيَتِي أُمَيْمَةَ, فَقُلْت: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ; فَلَوْلَا أَنْ أَعُودَ فِي شَيْءٍ فَعَلْته لِلَّهِ لَنَكَحْتهَا, فَأَنْكَحْتهَا نَافِعًا وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ, أَنَّهَا حِينَ نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهَا, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَأَنَّ زَيْدًا أَوْجَدَ فِي نَفْسِهِ, فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ: أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ قَبِلَهَا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عِتْقُ ابْنِ عُمَرَ لِلْجَارِيَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى كُلَّ مَا أَخْرَجَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ النَّفَقَةِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُ عَامًّا فِي الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ; وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبِي طَلْحَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ, وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَعْنَى قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} عَلَى أَنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ الَّذِي هُوَ فِي أَعْلَى مَنَازِلِ الْقُرَبِ {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ; لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِمَّا يُحِبُّ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ نِيَّتِهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] . وَقَدْ يَجُوزُ إطْلَاقُ مِثْلِهِ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ, كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ, وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ, وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ", فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالْمَسْكَنَةِ لَا عَلَى نَفْيِ الْمَسْكَنَةِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَأْكُولَاتِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَى أَنْ حَرَّمَ إسْرَائِيلُ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا فَحَرَّمَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إلَيْهِ إنْ شَفَاهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ, وَهُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ حَرَّمَ الْعُرُوقَ". وَرُوِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَذَرَ إنْ بَرِئَ مِنْ عِرْقِ النَّسَا أَنْ يُحَرِّمَ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ, وَهُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ, وَأَلْبَانُهَا. وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا تَحْلِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْإِبِلِ; لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ النَّسْخَ جَائِزًا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَإِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ إلَى أَنْ حَرَّمَهَا إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ, وَحَاجَّهُمْ بِالتَّوْرَاةِ, فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى إحْضَارِهَا لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ فِيهَا; وَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ فِي إبَاءِ النَّسْخِ; إذْ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي وَقْتٍ ثُمَّ حُظِرَ جَازَتْ إبَاحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ الْكُتُبَ, وَلَمْ يُجَالِسْ أَهْلَ الْكِتَابِ, فَلَمْ يَعْرِفْ سَرَائِرَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ إيَّاهُ. وَهَذَا الطَّعَامُ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ, يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ مِمَّا أَحَلَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ ثُمَّ حَظَرَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْقِعَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ; إذْ كَانَ عِلْمُ الْمَصَالِحِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؟ قِيلَ: هَذَا جَائِزٌ بِأَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ, كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيُحَرِّمَ جَارِيَتَهُ بِالْعِتْقِ, فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي تَحْرِيمِ الطَّعَامِ, إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الِاجْتِهَادِ. وَمَا حَرَّمَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ تَوْقِيفًا مِنْ اللَّهِ لَهُ فِي إبَاحَةِ التَّحْرِيمِ لَهُ إنْ شَاءَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِإِضَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى التَّحْرِيمَ إلَيْهِ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ لَقَالَ: "إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ" فَلَمَّا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَعَلَ إلَيْهِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ, وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ لِفَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ إسْرَائِيلَ لِمَا حَرَّمَهُ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى نَفْسِهِ قَدْ كَانَ وَاقِعًا, وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبُ لَفْظِهِ شَيْئًا غَيْرَ التَّحْرِيمِ, وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَنْسُوخٌ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ, وَقِيلَ إنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ; فَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَجَعَلَ مُوجِبَ لَفْظِهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَجَعَلَ فِي التَّحْرِيمِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا اسْتَبَاحَ مَا حَرَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْحَلِفِ أَنْ لَا يَسْتَبِيحَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ جَارِيَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ, بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ; إلَّا أَنَّهُمْ خَالَفُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهٍ, وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ: "وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت هَذَا الطَّعَامَ" لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ, وَلَوْ قَالَ: "قَدْ حَرَّمْت هَذَا الطَّعَامَ عَلَى نَفْسِي حَنِثَ بِأَكْلِ جُزْءٍ مِنْهُ; لِأَنَّ الْحَالِفَ لَمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ فَقَدْ قَصَدَ إلَى

الْحِنْثِ بِأَكْلِ الْجُزْءِ مِنْهُ. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا آكُلُ شَيْئًا مِنْهُ "; لِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَشْيَاءِ فَتَحْرِيمُهُ شَامِلٌ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ, وَكَذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِدٌ لِلْيَمِينِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ بَيْتٌ عَلَى الْأَرْضِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: "هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَكَّةَ, فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "بَكَّةُ الْمَسْجِدُ وَمَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ", وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "بَكَّةُ هِيَ مَكَّةُ". وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ: قَدْ تُبْدَلُ الْبَاءُ مِنْ الْمِيمِ, كَقَوْلِهِ سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَمَدَهُ إذَا حَلَقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "بَكَّةُ هِيَ بَطْنُ مَكَّةَ". وَقِيلَ إنَّ الْبَكَّ الزَّحْمُ, مِنْ قَوْلِك: بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إذَا زَاحَمَهُ, وَتَبَاكَّ النَّاسُ بِالْمَوْضِعِ إذَا ازْدَحَمُوا; فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَا الْبَيْتَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لِلتَّبَرُّكِ بِالصَّلَاةِ, وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَا حَوَلَ الْبَيْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لَلطَّوَافِ. قوله تعالى: {وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} يَعْنِي بَيَانًا وَدَلَالَةً عَلَى اللَّهِ لِمَا أَظْهَرَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ, وَهُوَ أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْكَلْبُ وَالظَّبْيُ فِي الْحَرَمِ, فَلَا الْكَلْبُ يُهَيِّجُ الظَّبْيَ, وَلَا الظَّبْيُ يَتَوَحَّشُ مِنْهُ; وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هَهُنَا الْبَيْتُ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرَمِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي جميع الحرم. وقوله: {مُبَارَكاً} يَعْنِي أَنَّهُ ثَابِتُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ; لِأَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ ثُبُوتُ الْخَيْرِ وَنُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ, وَالْبَرْكُ هُوَ الثُّبُوتُ, يُقَالُ: بَرَكَ بَرْكًا وَبُرُوكًا إذَا ثَبَتَ عَلَى حَالِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الْحَجِّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَالْبَرَكَةِ وَنُمُوِّ الْخَيْرِ وَزِيَادَتِهِ مَعَ اللُّطْفِ فِي الْهِدَايَةِ إلَى التَّوْحِيدِ وَالدِّيَانَةِ. قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْآيَةُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ قَدَمَيْهِ دَخَلَتَا فِي حَجَرٍ صَلْدٍ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى; لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةً وَآيَةً عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنْ الْآيَاتِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْنِ الْوَحْشِ, وَأُنْسِهِ فِيهِ مَعَ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ الْمُتَعَادِيَةِ, وَأَمْنِ الْخَائِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فيه {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وَإِمْحَاقِ الْجِمَارِ عَلَى كَثْرَةِ الرَّامِي مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ إنَّمَا تُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الرَّمْيِ مِنْ غَيْرِهِ, وَامْتِنَاعِ الطَّيْرِ مِنْ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَطِيرُ حَوْلَهُ لَا فَوْقَهُ, وَاسْتِشْفَاءِ الْمَرِيضِ مِنْهَا بِهِ, وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ, وَقَدْ كَانَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ جَارِيَةً, وَمِنْ إهْلَاكِ أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمَّا قَصَدُوا لَإِخْرَابِهِ بِالطَّيْرِ الْأَبَابِيلِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ آيَاتِ الْحَرَمِ سِوَى مَا لَا نُحْصِيهِ مِنْهَا, وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَرَمِ, وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ إنَّمَا هُوَ خَارِجَ الْبَيْتِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْجَانِي يَلْجَأُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ يَجْنِي فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} مَوْجُودَةً فِي جَمِيعِ الْحَرَمِ, ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ, وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} يَقْتَضِي أَمْنَهُ عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَانِيًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جَنَى بَعْدَ دُخُولِهِ, إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا. وَمَعْلُومٌ أن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} هُوَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ, كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ آمِنٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ, كَمَا نَقُولُ: هَذَا مُبَاحٌ وَهَذَا مَحْظُورٌ; وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ, وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مُبِيحًا يَسْتَبِيحُهُ, وَلَا أَنَّ مُعْتَقِدًا لِلْحَظْرِ يَحْظُرُهُ, وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُبَاحِ:"افْعَلْهُ عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِيهِ, وَلَا ثَوَابَ" وَفِي الْمَحْظُورِ: "لَا تَفْعَلْهُ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِهِ". وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَحَظْرِ دَمِهِ, أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَأَخْبَرَ بِجَوَازِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ, وَأَمَرَنَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إذَا قَاتَلُونَا؟ وَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} خَبَرًا لَمَا جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ مُخْبَرُهُ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كان آمنا} هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَنَهْيٌ لَنَا عَنْ قَتْلِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بِأَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَوْ أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ قَتْلٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَتِهِ, فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ قَتْلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ, تَسْقُطُ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِهِ; لِأَنَّ الْحَرَمَ وَغَيْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ; إذْ كَانَ عَلَيْنَا إيمَانُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ ظُلْمٍ يَقَعُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا إذَا أَمْكَنَنَا ذَلِكَ, عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقٍّ, فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ وَفِي غَيْرِهِ, إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ مِنْ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَانِي فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ الْجَانِي فِي غَيْرِهِ إذَا لَجَأَ إليه.

مطلب في حكم الجاني في غير الحرم إذا التجأ إلَيْهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَاذَ إلَيْهِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَا دَامَ فِيهِ, وَلَكِنَّهُ لَا يُبَايَعُ, وَلَا يُؤَاكَلُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ, وَإِنْ قتل

أي الْحَرَمِ قُتِلَ, وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ اُقْتُصَّ مِنْهُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ ذَلِكَ كُلُّهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ فِيمَنْ قَتَلَ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَلَكِنَّهُ لَا يُجَالَسُ, وَلَا يُؤْوَى, وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَلَ, وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَمْنَعُ الْحَرَمُ مَنْ أَصَابَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ", قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} : "كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ, فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا شِدَّةً, مَنْ أَصَابَ الْحَدَّ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ". وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ قَالَا: "إذَا أَصَابَ حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ أُخْرِجَ عَنْ الْحَرَمِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ" وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يُضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ بِتَرْكِ مَجَالِسِهِ وَإِيوَائِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَمُشَارَاتِهِ, وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ مُفَسَّرًا, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ الْحَسَنِ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فِي مَوْضِعِهِ, وَبَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْحَرَمِ يَحْظُرُ قَتْلَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ إذَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ فِي الْحَرَمِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى حَظْرِ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ; لِأَنَّ الْحَسَنَ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ مُتَضَادَّانِ: أَحَدُهُمَا: رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ, وَالْآخَرُ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ وَلَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقْتَلُ., وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ قَوْلَهُ: "يُخْرَجُ فَيُقْتَلُ" أَنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُشَارَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ, فَلَمْ يَحْصُلْ لِلْحَسَنِ فِي هَذَا قَوْلٌ لِتَضَادِّ الرِّوَايَتَيْنِ, وَبَقِيَ قَوْلُ الْآخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْحَرَمِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا جَنَى فِي الْحَرَمِ كَانَ مَأْخُوذًا بِجِنَايَتِهِ يُقَامُ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وَقَوْلُهُ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] يُوجِبُ عُمُومُهُ الْقِصَاصَ فِي الْحَرَمِ عَلَى مَنْ جَنَى فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قَدْ اقْتَضَى وُقُوعَ الْأَمْنِ مِنْ الْقَتْلِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ, وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] وَسَائِرُ

الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْنِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ, وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِنْ آيِ الْقِصَاصِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَارِدٌ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ لَا فِي حُكْمِ الحرم, وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وَارِدٌ فِي حُكْمِ الْحَرَمِ وَوُقُوعِ الْأَمْنِ لِمَنْ لَجَأَ إلَيْهِ, فَيُجْرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى بَابِهِ, وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ, وَلَا يَعْتَرِضُ بِآيِ الْقِصَاصِ عَلَى حُكْمِ الْحَرَمِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ لَا مَحَالَةَ مُتَقَدِّمٌ لِإِيجَابِ أَمَانِهِ بِالْحَرَمِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ وَاجِبًا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ هُوَ آمِنٌ مَا لَمْ يَجْنِ, وَلَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِأَمْنِهِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إيجَابِ الْقِصَاصِ. وَمِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ, وَلَمْ تَحِلَّ; لِأَحَدٍ قَبْلِي, وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ", فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَظْرَ قَتْلِ اللَّاجِئِ إلَيْهِ وَالْجَانِي فِيهِ; إلَّا أَنَّ الْجَانِيَ فِيهِ لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِجِنَايَتِهِ, فَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي الْجَانِي إذَا لَجَأَ إلَيْهِ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ بِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ" , وَهَذَا أَيْضًا يَحْظُرُ عُمُومُهُ قَتْلَ كُلِّ مَنْ كَانَ فِيهِ, فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَجَأَ إلَى الْحَرَمِ حُبِسَ بِهِ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" , وَالْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ عُقُوبَةٌ, فَجَعَلَ الْحَبْسَ عُقُوبَةً وَهُوَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ, فَكُلُّ حَقٍّ وَجَبَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أُخِذَ بِهِ وَإِنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ قِيَاسًا عَلَى الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ, وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّ الْجَانِيَ فِي الْحَرَمِ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا, وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يُبَايَعُ, وَلَا يُشَارَى, وَلَا يُؤْوَى حَتَّى يَخْرُجَ, وَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ الْآخَرِ فِيهِ فِي تَرْكِ مُشَارَاتِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَإِيوَائِهِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لَا خِلَافَ فِيهَا, وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ, وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ; وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كَامِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَسْكُنُ مَكَّةَ سَافِكُ دَمٍ وَلَا آكِلُ رِبًا وَلَا مَشَّاءٌ بِنَمِيمَةٍ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُؤْوَ, وَلَمْ يُجَالَسْ, وَلَمْ يُبَايَعْ, وَلَمْ يُشَارَ

وَلَمْ يُطْعَمْ, وَلَمْ يُسْقَ حَتَّى يَخْرُجَ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَسْكُنُهَا سَافِكُ دَمٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا دَخَلَ الْقَاتِلُ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ, وَلَمْ يُبَايَعْ, وَلَمْ يُؤْوَ وَاتَّبَعَهُ طَالِبُهُ يَقُولُ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فِي دَمِ فُلَانٍ وَاخْرُجْ مِنْ الْحَرَمِ". وَنَظِيرُ قَوْله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] فَهَذِهِ الْآيُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حَظْرِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ قَبْلَ دُخُولِهِ. وَلَمَّا عَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْبَيْتِ وَتَارَةً بِذِكْرِ الْحَرَمِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ فِي حُكْمِ الْبَيْتِ فِي بَابِ الْأَمْنِ وَمَنْعِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ. وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مَنْ لَجَأَ إلَى الْبَيْتِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْأَمْنِ فِيهِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْحَرَمِ فِيمَنْ لَجَأَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَنْ قَتَلَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يُقْتَلْ فِيهِ وَمَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ فِيهِ, فَلَيْسَ الْحَرَمُ كَالْبَيْتِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الْحَرَمِ حُكْمَ الْبَيْتِ فِيمَا عَظُمَ مِنْ حُرْمَتِهِ, وَعَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْبَيْتِ وَتَارَةً بِذِكْرِ الْحَرَمِ, اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِيمَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصِهِ, وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي حَظْرِ الْقَتْلِ فِي الْبَيْتِ فَخَصَّصْنَاهُ, وَبَقِيَ حُكْمُ الْحَرَمِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ إيجَابِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا; والله تعالى أعلم.

بَابُ فَرْضِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى شَرِيطَةِ وُجُودِ السَّبِيلِ إلَيْهِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مِنْ حُكْمِ السَّبِيلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى الْحَجِّ لَزِمَهُ ذَلِكَ; إذْ كَانَتْ اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ إلَيْهِ هِيَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] يَعْنِي: مِنْ وُصُولٍ وَ {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] يَعْنِي: مِنْ وُصُولٍ, وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَرْطِ اسْتِطَاعَةِ السَّبِيلِ إلَيْهِ وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغُهُ بَيْتَ اللَّهِ, وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا" , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى

النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قَالَ: "السَّبِيلُ إلَى الْحَجِّ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ". وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الْآيَةَ قَالَ رِجْلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ". وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "السَّبِيلُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ", وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَحَدٌ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "هُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مِنْ السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ, وَلَيْسَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَقْصُورَةً عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمَرِيضَ وَالْخَائِفَ وَالشَّيْخَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالزَّمْنَى وَكُلَّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِ السَّبِيلِ إلَى الْحَجِّ, وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "الِاسْتِطَاعَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ" أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ شَرَائِطِ الِاسْتِطَاعَةِ, وَإِنَّمَا أَفَادَ ذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: "إنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ, وَلَمْ يَجِدْ زَادًا وَرَاحِلَةً فَعَلَيْهِ الْحَجُّ" فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لُزُومَ فَرْضِ الْحَجِّ مَخْصُوصٌ بِالرُّكُوبِ دُونَ الْمَشْيِ, وَأَنَّ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِالْمَشْيِ الَّذِي يَشُقُّ وَيَعْسُرُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَ فَرْضُ الْحَجِّ إلَّا مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ سَاعَةٍ إذَا لَمْ يَجِدْ زَادًا وَرَاحِلَةً, وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ. قِيلَ لَهُ: إذَا لَمْ يَلْحَقْهُ فِي الْمَشْيِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ فَهَذِهِ أَيْسَرُ أَمْرًا مِنْ الْوَاجِدِ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إذَا بَعُدَ وَطَنُهُ مِنْ مَكَّةَ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إنَّمَا هُوَ لَأَنْ لَا يَشُقَّ عَلَيْهِ وَيَنَالَهُ مَا يَضُرُّ مِنْ الْمَشْيِ. فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِمَّنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ فَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لَلسَّبِيلِ بِلَا مَشَقَّةٍ, وَإِذَا كَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْبَيْتِ إلَّا بِالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ فَهُوَ الَّذِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ, وَلَمْ يُلْزِمْهُ الْفَرْضَ إلَّا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج 78] يَعْنِي: مِنْ ضِيقٍ. وَعِنْدَنَا أَنَّ وُجُودَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ شَرَائِطِ الْحَجِّ; لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا, وَقَدْ أَرَادَتْ امْرَأَتِي أَنْ تَحُجَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "اُحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِك". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" قَدْ انْتَظَمَ الْمَرْأَةَ إذَا أَرَادَتْ الْحَجَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ, أَحَدُهَا: أَنَّ السَّائِلَ عَقَلَ مِنْهُ ذَلِكَ, وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ تُرِيدُ الْحَجَّ, وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ "حُجَّ مَعَ امْرَأَتِك" وَفِي

ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِإِرَادَةِ سَفَرِ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: "لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ". وَالثَّالِثُ: أَمَرَهُ إيَّاهُ بِتَرْكِ الْغَزْوِ لِلْحَجِّ مَعَ امْرَأَتِهِ, وَلَوْ جَازَ لَهَا الْحَجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ لَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْغَزْوِ وَهُوَ فَرْضٌ لِلتَّطَوُّعِ, وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ كَانَ فَرْضًا, وَلَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْغَزْوِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ لِتَطَوُّعِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ حَجِّ الْمَرْأَةِ أَفَرْضٌ هُوَ أَمْ نَفْلٌ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا فِي امْتِنَاعِ خُرُوجِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ شَرَائِطِ الِاسْتِطَاعَةِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ اسْتِطَاعَتِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1] فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مُعْتَبَرًا فِيهَا. وَمِنْ شَرَائِطِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إمْكَانِ ثُبُوتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَذَلِكَ لِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيك". فَأَجَازَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا, وَلَمْ يُلْزِمْ الرَّجُلَ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ إمْكَانَ الْوُصُولِ إلَى الْحَجِّ. وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحَجُّ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا وَاجِدِينَ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ, فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحِجُّوا غَيْرَهُمْ عَنْهُمْ, أَعْنِي الْمَرِيضَ وَالزَّمِنَ وَالْمَرْأَةَ إذَا حَضَرَتْهُمْ الْوَفَاةُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُوصُوا بِالْحَجِّ, وَذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ مَا يُمْكِنُ بِهِ الْوُصُولُ إلَى الْحَجِّ فِي مِلْكِهِمْ يُلْزِمُهُمْ فَرْضَ الْحَجِّ فِي أَمْوَالِهِمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ فِعْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ. لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَإِمْكَانِ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ, فَعَلَى مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ الْخُرُوجُ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنْ يَتَعَذَّرَ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ; لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا مَحْرَمَ لَهَا, وَلَا زَوْجَ يَخْرُجُ مَعَهَا; فَهَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ الْحَجُّ بِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الْإِيَاسِ وَالْعَجْزِ عَنْ فِعْلِهِ بِأَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا أَحَجَّ الْمَرِيضُ أَوْ الْمَرْأَةُ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَبْرَأْ الْمَرِيضُ, وَلَمْ تَجِدْ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا حَتَّى مَاتَا أَجْزَأَهُمَا, وَإِنْ بَرِئَ الْمَرِيضُ وَوَجَدَتْ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا لَمْ يُجْزِهِمَا. وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ" وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الرَّاحِلَةِ; لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ, فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهَا ذَلِكَ; فَهَذَا

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ فِي مَالِهِ, وَأَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا بِفِعْلِ الْحَجِّ الَّذِي أَخْبَرَتْ أَنَّهُ قد لزمه يدل على لزومه أيضا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَجِّ الْفَقِيرِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: "لَا حَجَّ عَلَيْهِ وَإِنْ حَجَّ أَجْزَأَهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ". وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: "أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ إذَا أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ: "أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَا تُبَلِّغُهُ كَائِنًا مَا كَانَ". وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ "الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ" يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ, فَإِنْ هُوَ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ مَشْيًا فَقَدْ صَارَ بِحُصُولِهِ هُنَاكَ مُسْتَطِيعًا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ بَعُدَ مِنْ مَكَّةَ, فَإِذَا حَصَلَ هُنَاكَ فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ, فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ حِينَئِذٍ, فَإِذَا فَعَلَهُ كَانَ فَاعِلًا فَرْضًا. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ إذَا حَجَّ هَلْ يُجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُجْزِيهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُجْزِيهِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا" , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ; فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ شَرْطَ لُزُومِ الْحَجِّ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ, وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَلَيْسَ هُوَ إذًا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ. وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ أَنَّهَا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ هِيَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى مَا بُيِّنَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ مِنْ مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَرْطِهِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُسْتَطِيعِ, وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ زَادًا وَرَاحِلَةً فِي مِلْكِ غَيْرِهِ; وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ, فَلَمْ يُجْزِهِ حَجُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْفَقِيرُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ; لِعَدَمِ مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ, وَلَوْ حَجَّ جَازَ حَجُّهُ; كَذَلِكَ الْعَبْدُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْفَقِيرَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ; لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ, وَالْعَبْدُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ; وَإِنَّمَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْفَقِيرِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَمْلِكُ, فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَاجِدِينَ الْوَاصِلِينَ إلَيْهَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَالْعَبْدُ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ بِهِ لَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَكِنْ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ, وَإِنْ مَلَكَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي خِطَابِ الْحَجِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ, وَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ لَا; لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ

بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْ الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ, وَمَنَافِعُ الْعَبْدِ هِيَ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى; فَإِذَا فَعَلَ بِهَا الْحَجَّ صَارَ كَحَجٍّ فَعَلَهُ الْمَوْلَى فَلَا يُجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَبْدَالِهَا إذَا صَارَتْ مَالًا, وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْحَجِّ, فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ صَارَ مُعِيرًا لَهُ مِلْكَ الْمَنَافِعِ فَهِيَ مُتْلَفَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَقِيرُ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ, وَإِذَا فَعَلَ بِهَا الْحَجَّ أَجْزَاهُ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِطَاعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْعَبْدِ مِنْ الْجُمُعَةِ, وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا, وَلَوْ حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا أَجْزَأَتْهُ; فَهَلَّا كَانَ الْحَجُّ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ: إنَّ فَرْضَ الظُّهْرِ قَائِمٌ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْهَا, فَمَتَى فَعَلَ الْجُمُعَةَ فَقَدْ أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ الظُّهْرِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ فِعْلَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى, فَصَارَ كَفَاعِلِ الظُّهْرِ; فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ, وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ فَرْضٌ آخَرُ يَمْلِكُ فِعْلَهُ فَأُسْقِطَ بِفِعْلِ الْحَجِّ حَتَّى نَحْكُمَ بِجَوَازِهِ وَنَجْعَلَهُ فِي حُكْمِ مَا هُوَ مَالِكُهُ; فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي حَجِّ الْعَبْدِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بشر بن موسى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ صَبِيًّا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهَا سَبِيلًا وَلَوْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ هَاجَرَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهَا سَبِيلًا وَلَوْ أَنَّ مَمْلُوكًا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهَا سَبِيلًا". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ أَدْرَكَ الْحُلُمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى". فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى, وَلَمْ يَعْتَدَّ لَهُ بِالْحَجَّةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الرِّقِّ, وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ مِثْلَهُ فِي الْأَعْرَابِيِّ, وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُجْزِيهِ الْحَجَّةُ الْمَفْعُولَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ الْأَعْرَابِيِّ فِي حَالِ مَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا; لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِ فَرْضِ الْهِجْرَةِ, فَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ" نَسَخَ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ مِنْ وُجُوبِ إعَادَةِ الْحَجِّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ; إذْ لَا هِجْرَةَ هُنَاكَ وَاجِبَةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي حَجِّ الْعَبْدِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} حجة

وَاحِدَةً; إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَكْرَارًا; فَمَتَى فَعَلَ الْحَجَّ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ. وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ: قَالَ أَبُو دَاوُد هُوَ الدُّؤَلِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: "بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . رَوَى وَكِيعُ عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ عَنْ نُفَيْعٍ أَبِي دَاوُد قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَنْ كَفَرَ} قَالَ: "هُوَ إنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابَهُ, وَإِنْ حُبِسَ لَا يَخَافُ عِقَابَهُ". وَرَوَى مُجَاهِدٌ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ", وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَبْرِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ قَبْلَ فِعْلِهِ, وَمِنْ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهُ قَطُّ; فَوَاجِبٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا غَيْرَ مُلْزَمٍ إذَا لَمْ يَحُجَّ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَلْزَمَ الْحَجَّ مَنْ اسْتَطَاعَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا قَطُّ; إذْ لَمْ يَحُجَّ; فَفِي نَصِّ التَّنْزِيلِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى لُزُومِ فَرْضِ الْحَجِّ لِمَنْ كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} . قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانُوا يُغْرُونَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِذِكْرِهِمْ الْحُرُوبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَنْسَلِخُوا مِنْ الدِّينِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ". وَعَنْ الْحَسَنِ: "أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي كِتْمَانِهِمْ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ". فَإِنْ قِيلَ: قَدْ سَمَّى اللَّهُ الْكُفَّارَ شُهَدَاءَ وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ, فَلَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فِي صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَقُلْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ, وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى غَيْرِكُمْ, وَقَالَ هُنَاكَ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] كَمَا قَالَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَصْدِيقَهُمْ وَصِحَّةَ إجْمَاعِهِمْ. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أَنَّكُمْ عَالِمُونَ بِبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِي صَدِّكُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ منهم. والثاني: أن يريد بقوله: {شُهَدَاءُ} عُقَلَاءَ, كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] يَعْنِي: وَهُوَ عَاقِلٌ;

لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الدَّلِيلَ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} . رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قوله {حَقَّ تُقَاتِهِ} : "هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى". وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ اتِّقَاءُ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نَسْخِهِ; فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ, وَعَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ; فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً; لِأَنَّ مَعْنَاهُ اتِّقَاءُ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ, وَعَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ اتِّقَاءُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا لَكَانَ فِيهِ إبَاحَةُ بَعْضِ الْمَعَاصِي, وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِأَنْ يَكُونَ معنى قوله {حَقَّ تُقَاتِهِ} الْقِيَامَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ, وَتَرْكَ التَّقِيَّةِ فِيهَا, ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّقِيَّةِ وَالْإِكْرَاهِ, وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} فِيمَا لَا تَخَافُونَ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ, يُرِيدُ: فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ احْتِمَالُ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ; لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ فِعْلُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف: 101] وَمُرَادُهُ مَشَقَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْحَبْلِ هَهُنَا: "أَنَّهُ الْقُرْآنُ" وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ دِينُ اللَّهِ. وَقِيلَ: بِعَهْدِ اللَّهِ; لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ كَالْحَبْلِ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَيُسَمَّى الْأَمَانُ الْحَبْلَ; لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ, وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} يَعْنِي بِهِ الْأَمَانَ. إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} أَمْرٌ بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهْيٌ عَنْ الْفُرْقَةِ, وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَفَرَّقُوا} مَعْنَاهُ التَّفَرُّقُ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا جَمِيعًا بِلُزُومِهِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ: أَحَدُهُمَا: نُفَاتَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ, مِثْلُ النِّظَامِ, وَأَمْثَالِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ. وَالْآخَرُ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ, وَيَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ, وَيُخْطِئُ مَنْ لَمْ يُصِبْ الْحَقَّ عِنْدَهُ; صلى الله على محمد: {وَلا تَفَرَّقُوا} . فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا كَمَا قَالُوا; لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنْحَاءَ: مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ الْخِلَافُ فِيهِ, وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى حَظْرِهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَوْ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ; فَأَمَّا مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارَةً وَاجِبًا وَتَارَةً مَحْظُورًا وَتَارَةً مُبَاحًا, فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي

ذَلِكَ سَائِغٌ يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ, كَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ, وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ. وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. فَمِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ النَّاسِ فِيهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِخِلَافِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ الْآخَرُ, لَمْ يَمْتَنِعْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى الْخِلَافِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ; وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ وُرُودُ الِاخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ, فَمَا جَازَ مِثْلُهُ فِي النَّصِّ جَازَ فِي الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدَانِ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ, وَأُرُوشِ كَثِيرٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَلَا يَلْحَقُ وَاحِدًا مِنْهَا لَوْمٌ, وَلَا تَعْنِيفٌ; وَهَذَا حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَكَانَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ, وَلَمَا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَوَاصِلُونَ يُسَوِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ مُخَالَفَتَهُ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ, وَلَا تَعْنِيفٍ فَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَسْوِيَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ "اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ" وَقَالَ: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ" ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تعالى لم ينهنا بقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} عَنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَأَنَّ النَّهْيَ مُنْصَرِفٌ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا فِي النُّصُوصِ أَوْ فِيمَا قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَوْ سَمْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا; وفي فحوى الآية ما يدل على أن الْمُرَادَ هُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا فِي فُرُوعِهِ, وَمَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْمُومَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ لَا فِي فُرُوعِهِ, والله أعلم.

بَابُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. مطلب: في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَخْرَجَ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ فِي قَوْلِهِ:

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} مَجَازًا, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] وَمَعْنَاهُ: "ذُنُوبَكُمْ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ, كَالْجِهَادِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَتَكْفِينِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ, وَلَوْلَا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَمَا سَقَطَ عَنْ الْآخَرِينَ بِقِيَامِ بَعْضِهِمْ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ, فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَقَالَ فِيمَا حَكَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] فَهَذِهِ الْآيُ وَنَظَائِرُهَا مُقْتَضِيَةٌ لِإِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ, وَهِيَ عَلَى مَنَازِلَ: أَوَّلُهَا تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ إذَا أَمْكَنَ, فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَكَانَ فِي نَفْيِهِ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِلِسَانِهِ, فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْت طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ قَالَ: قَدَّمَ مَرْوَانُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: خَالَفْت السُّنَّةَ كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ; قَالَ: تُرِكَ ذَلِكَ يَا أَبُو فُلَانٍ قَالَ شُعْبَةُ: وَكَانَ لَحَّانًا فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا الْمُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ, قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ". فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ, وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ بِلِسَانِهِ, ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ إنْكَارِهِ بِقَلْبِهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ,

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهُمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ, وَأَعَزُّ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرُوا إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك, ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ" ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] إلَى قَوْلِهِ: {فَاسِقُونَ} [المائدة: 80] . ثُمَّ قَالَ: "كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا". قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ, وَزَادَ فِيهِ: "أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ". فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يُنْكِرَهُ ثُمَّ لَا يُجَالِسَ الْمُقِيمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ, وَلَا يُؤَاكِلَهُ, وَلَا يُشَارِبَهُ. وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 80] فَكَانُوا بِمُؤَاكَلَتِهِمْ إيَّاهُمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ لَهُمْ تَارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] مَعَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنْكَارِهِ بِلِسَانِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ ينفه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه. قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا, سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك يَعْنِي بِنَفْسِك وَدَعْ

عَنْك الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ1 كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ". قَالَ: وَزَادَنِي غَيْرُهُ: قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ". وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَهُمَا حَالَانِ: حَالٌ يُمْكِنُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ وَإِزَالَتُهُ, فَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ إزَالَةُ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَنْ يُزِيلَهُ; وَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ تَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إزَالَتُهُ إلَّا بِالسَّيْفِ, وَأَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. كَمَنْ رَأَى رَجُلًا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ قَصَدَ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ, وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إنْ أَنْكَرَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ قَاتَلَهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ" , فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلَّا بِقَتْلِ الْمُقِيمِ عَلَى هَذَا الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ وَدَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ انْتَهَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ, وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ أَوْ بِالْقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ, وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ منه له فعليه أن يقتله.

_ 1 قوله: "الصبر فيه" هكذا في صحيح أبي داود وإنما ذكر الضمير تأولا للأيام بالزمن "لمصححه".

مطلب في من غصب متاع رجل يسعه قتله حتى يستنقذ المتاع منه وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مَتَاعَ رَجُلٍ: "وَسِعَكَ قَتْلُهُ حَتَّى تَسْتَنْقِذَ الْمَتَاعَ وَتَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ" وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ: "وَسِعَكَ أَنْ تَتْبَعَهُ حَتَّى تَقْتُلَهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْمَتَاعَ". قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ الْبُيُوتَ: "يَسَعُكَ قَتْلُهُ" وَقَالَ فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك, قَالَ "فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ" وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ. وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الْفَيْءِ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمُنْكَرِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ" يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ, فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ. وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ: إنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ, وَلَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ إذَا كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَظْرِهِ, وَمَتَى أَنْذَرَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعُوا منه

حَتَّى لَا يُمْكِنَ تَغْيِيرُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ, فَجَائِزٌ قَتْلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ, وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُهُمْ لِمَنْ خَافَ إنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ أَنْ يُقْتَلَ; إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُمْ وَالْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَهِجْرَانَهُمْ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ مُصِرًّا عَلَيْهَا مُجَاهِرًا بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَتَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِيَدِهِ, وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ, وَذَلِكَ إذَا رَجَا أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ, فَإِنْ لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ, وَقَدْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ وَسِعَهُ السُّكُوتُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُجَانِبَهُمْ وَيُظْهِرَ هِجْرَانَهُمْ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ". وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ" قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَزُولُوا عَنْ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي تَقِيَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ" مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالْقَوْلِ فَأَبَاحَ لَهُ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] : مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْك, فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَعَلَيْك نَفْسُك. وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَيْضًا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ" يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فَأَنْتَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِمْ وَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ, وَأَبَاحَ تَرْكَ النَّكِيرِ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: قَدْ أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا فُعِلَ بِمَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْوَعْظِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ, فَقُلْت لَهُ: أَنَا أُعَرِّفُك ذَلِكَ, اقْرَأْ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [لأعراف: 165] قَالَ: فَقَالَ لِي: أَصَبْت وَكَسَانِي حُلَّةً. فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ وَمَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ, فَجَعَلَ الْمُمْسِكِينَ عَنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِيهِ فِي الْعَذَابِ. وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَعْمَالِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ, وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَالِينَ لِأَسْلَافِهِمْ الْقَاتِلِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ, بِقَوْلِهِ: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183] وَبِقَوْلِهِ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] فَأَضَافَ الْقَتْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوهُ, وَلَمْ يَقْتُلُوهُ; إذْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِ الْقَاتِلِينَ; فَكَذَلِكَ أَلْحَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْ السُّوءِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ بِفَاعِلِيهِ; إذْ كَانُوا بِهِ رَاضِينَ وَلَهُمْ عَلَيْهِ مُتَوَالِينَ. فَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمُنْكَرِ بِقَلْبِهِ, وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فهو غير داخل في وعيد فاعله, بل هو

مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَحَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَتْلُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَمُوتُ, فَخَلَوْت بِهِ فَقَالَ: كَانَ وَاَللَّهِ رَجُلًا عَاقِلًا, وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرَ; قُلْت: وَكَيْفَ كَانَ سَبَبُهُ؟ قَالَ: كَانَ يَقْدُمُ وَيَسْأَلُنِي, وَكَانَ شَدِيدَ الْبَذْلِ لِنَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانَ شَدِيدَ الْوَرَعِ, كُنْت رُبَّمَا قَدَّمْت إلَيْهِ الشَّيْءَ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ, وَلَا يَرْضَاهُ, وَلَا يَذُوقُهُ وَرُبَّمَا رَضِيَهُ فَأَكْلَهُ, فَسَأَلَنِي عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ, إلَى أَنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِي: مُدَّ يَدَك حَتَّى أُبَايِعَك فَأَظْلَمَتْ الدُّنْيَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ; فَقُلْت: وَلِمَ؟ قَالَ: دَعَانِي إلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَامْتَنَعْت عَلَيْهِ وَقُلْت لَهُ إنْ قَامَ بِهِ رَجُلٌ وَحْدَهُ قُتِلَ, وَلَمْ يَصْلُحْ لِلنَّاسِ أَمْرٌ, وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا صَالِحِينَ وَرَجُلًا يَرْأَسُ عَلَيْهِمْ مَأْمُونًا عَلَى دَيْنِ اللَّهِ لَا يَحُولُ. قَالَ: وَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَى تَقَاضِي الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيَّ تَقَاضَانِي, فَأَقُولُ لَهُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ بِوَاحِدٍ مَا أَطَاقَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى عَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ, وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ; لِأَنَّ سَائِرَ الْفَرَائِضِ يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَهَذَا مَتَى أُمِرَ بِهِ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَشَاطَ بِدَمِهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ فَأَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ. وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ لَمْ يَجْتَرِئْ غَيْرُهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ فَقَدْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَرْوَ حَيْثُ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ, فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ فَأَخْذَهُ, فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَعِبَادُهُمْ حَتَّى أَطْلَقُوهُ, ثُمَّ عَاوَدَهُ فَزَجْرَهُ, ثُمَّ عَاوَدَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَقُومُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِك وَلَأُجَاهِدَنَّك بِلِسَانِي لَيْسَ لِي قُوَّةٌ بِيَدِي, وَلَكِنْ يَرَانِي اللَّهُ, وَأَنَا أُبْغِضُك فِيهِ فَقَتْلَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ, وَبَيَّنَّا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ, وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي لُزُومِ فَرْضِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ; لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْسَانِ لِبَعْضِ الْفُرُوضِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فُرُوضَ غَيْرِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَهُ لِلصَّلَاةِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ سَائِرَ الْمَعْرُوفِ, وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ فَإِنَّ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَمِلْنَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمَعْرُوفِ شيء

إلَّا عَمِلْنَاهُ وَانْتَهَيْنَا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمُنْكَرِ إلَّا انْتَهَيْنَا عَنْهُ, أَيَسَعُنَا أَنْ لَا نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ, وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: "مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ, وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْهُ كُلِّهِ" , فَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوضِ فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ. وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَفُقَهَائِهَا سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ وُجُوبَ ذَلِكَ إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ, فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالسِّلَاحِ, وَسَمُّوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِتْنَةً إذَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ, مَعَ مَا قَدْ سَمِعُوا فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوبِ قِتَالِهَا بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ. وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْيَدِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ, فَصَارُوا شَرًّا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُخَالِفِينَ لَهَا; لِأَنَّهُمْ أَقْعَدُوا النَّاسَ عَنْ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَعَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ. حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَغَلُّبِ الْفُجَّارِ بَلْ الْمَجُوسِ, وَأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ذَهَبَتْ الثُّغُورُ وَشَاعَ الظُّلْمُ وَخَرِبَتْ الْبِلَادُ وَذَهَبَ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَظَهَرَتْ الزَّنْدَقَةُ وَالْغُلُوُّ وَمَذَاهِبُ الثَّنَوِيَّةِ وَالْخُرَّمِيَّةِ وَالْمَزْدَكِيَّةِ1 وَاَلَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ; وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عُمَارَةَ قَالَ: سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ رَشِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَنَا حَدَّثْت إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} ; قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَ إرَادَةِ الظُّلْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ, فَلَا يُرِيدُ هُوَ أَنْ يَظْلِمَهُمْ, وَلَا يُرِيدُ أَيْضًا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ; لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي مَنْزِلَةِ الْقُبْحِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لَجَازَ أَنْ يُرِيدَ ظُلْمَهُ لَهُمْ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي

_ 1 قول: "الخرمية" طائفة من المجوس يقولون بالتناسخ وإباحة المحرمات نسبة إلى خرمة قرية بفارس. و"المزدكية" مثلهم لكنهم متقدمون عليهم في هذا المذهب "لمصححه".

الْعُقُولِ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ إنْسَانٍ لِغَيْرِهِ, وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُبْحِ؟ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِلظُّلْمِ مُنْتَفِيَةً مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قيل في معنى قوله: {كُنْتُمْ} وُجُوهٌ: رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَتْ الْبِشَارَةُ وَالْخَبَرُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ, قَالَ الْحَسَنُ: نَحْنُ آخِرُهَا, وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ, النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا, وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَكَانَ مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ فِيمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ كُتُبِهِ وَقِيلَ: إنَّ دُخُولَ" كَانَ" وَخُرُوجَهَا بِمَنْزِلَةِ" إلَّا" بِمِقْدَارِ دُخُولِهَا لِتَأْكِيدِ وُقُوعِ الْأَمْرِ لَا مَحَالَةَ; إذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وُقُوعُ ذلك. وقيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} بِمَعْنَى حَدَثْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ, فَيَكُونُ" خَيْرَ أُمَّةٍ" بمعنى الحال. وقيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ, وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُنْذُ أَنْتُمْ, لِيَدُلَّ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ, وَلَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ اللَّهِ صِفَةَ مَدْحٍ إلَّا وَهُمْ قَائِمُونَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ ضَالِّينَ. وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَمْرُ اللَّهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ, وَالْمُنْكَرُ هُوَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ, وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا وَهُمْ لِلَّهِ رِضًى; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْكَرَتْهُ الْأُمَّةُ فَهُوَ مُنْكَرٌ وَمَا أَمَرَتْ بِهِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ وُقُوعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالٍ, وَيُوجِبُ أَنَّ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُهُمْ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} الْآيَةَ, فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ حَوَالَيْ الْمَدِينَةِ بَنُو النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ وَيَهُودُ خَيْبَرَ, فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَهُمْ إلَّا أَذًى مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ, وَأَنَّهُمْ مَتَى قَاتَلُوهُمْ وَلَّوْا الْأَدْبَارَ; فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ, وَذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ. قَوْله تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الْيَهُودَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ. فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ

الْيَهُودَ صَارُوا كَذَلِكَ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ عَهْدَ اللَّهِ وَذِمَّتَهُ; لِأَنَّ الْحَبْلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ. قَوْله تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: "لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ قَالَتْ الْيَهُودُ مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ إلَّا شِرَارُنَا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ". قَالَ الْحَسَنُ: قوله: {قَائِمَةٌ} يَعْنِي عَادِلَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "ثَابِتَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى", وَقَالَ السُّدِّيُّ" قَائِمَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى". وَقَوْلُهُ {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} قِيلَ فِيهِ إنَّهُ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ"مَعْنَاهُ يُصَلُّونَ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَكُونُ فِي السُّجُودِ, وَلَا فِي الرُّكُوعِ" فَجَعَلُوا الْوَاوَ حَالًا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ, وَقَالَ الْأَوَّلُونَ: الْوَاوُ هَهُنَا لِلْعَطْفِ, كَأَنَّهُ قَالَ: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ. قَوْله تَعَالَى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} صِفَةٌ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ; لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فَكَانُوا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ;, وَقَدْ بَيَّنَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَجِبُ إزَالَةُ الْمُنْكَرِ مِنْ طَرِيقِ اعْتِقَادِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ كَمَا وَجَبَ فِي سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ مِنْ الْأَفْعَالِ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ فَيُضِلُّ النَّاسَ بِشُبْهَتِهِ فَإِنَّهُ تَجِبُ إزَالَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا أَمْكَنَ. وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ دَاعٍ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يُدْعَى إلَى الْحَقِّ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْحَقِّ وَتَبَيُّنِ فَسَادِ شُبْهَتِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ بِسَيْفِهِ وَيَكُونُ لَهُ أَصْحَابٌ يَمْتَنِعُ بِهِمْ عَنْ الْإِمَامِ فَإِنْ خَرَجَ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ مُقَاتِلًا عَلَيْهَا فَهَذَا الْبَاغِي الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِ حَتَّى يَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ يَخْطُبُ فَقَالَ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ, فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ وَقَالَ: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ, أَمَا إنَّ لَهُمْ عِنْدَنَا ثَلَاثًا أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا كَانَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا, وَلَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ, وَلَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا". فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا وَكَانَ ابْتَدَأَهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِالدُّعَاءِ حِينَ نَزَلُوا حَرُورَاءَ وَحَاجَّهُمْ حَتَّى رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي سَائِرِ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَخْرُجُوا دَاعِينَ إلَى مَذَاهِبِهِمْ لَمْ يُقَاتَلُوا, وَأَقَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ كُفْرًا, فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ إلَّا بِجِزْيَةٍ. وَلَيْسَ يَجُوزُ

إقْرَارُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْجِزْيَةِ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ لِإِعْطَائِهِ بَدِيًّا جُمْلَةَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ, فَمَتَى نَقَضَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ صَارَ مُرْتَدًّا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ, كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ, فَتَجُوزُ عِنْدَهُ مُنَاكَحَاتُهُمْ, وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَوِّجُوهُمْ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ; لِأَنَّهُمْ مُنْتَحِلُونَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِهِ, كَمَا أَنَّ مَنْ انْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْيَهُودِيَّةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمْسِكًا بِسَائِرِ شَرَائِعِهِمْ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ:"لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَكْفُرُ أَهْلُهَا, كَانَ فِي وَصَايَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ, يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ مِنْ وَصَايَا الْمُسْلِمِينَ وَيَبْطُلُ مِنْهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ وَصَايَاهُمْ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِرُّوا عَلَى نِفَاقِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ; وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَوْ وَقَفْنَا عَلَى نِفَاقِهِمْ لَمْ نُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ, وَلَمْ نَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ. وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إنَّمَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْإِسْلَامِ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ, فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مَتَى وَقَفْنَا عَلَى مَذْهَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ, وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ, وَلَا يَقْتَصِرُ فِي إجْرَائِهِ حُكْمَ الْكُفَّارِ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ غَلَطُهُ فِيهِ دُونَ الِاعْتِقَادِ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ ضَمِيرِهِ فَيُعْرِبَ لَنَا عَنْ اعْتِقَادِهِ بِمَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُ, فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ بِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ أَمْرَهُ وَيَثِقُ بِهِمْ فِي أَمْرِهِ; فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَهْلَ الْكُفْرِ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي خَوَاصِّ أُمُورِهِمْ, وَأَخْبَرَ عَنْ ضَمَائِرِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يَعْنِي: لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا يَجِدُونَ السَّبِيلَ إلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ أُمُورِكُمْ; لِأَنَّ الْخَبَالَ هُوَ الْفَسَادُ. ثم قال: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} قَالَ السُّدِّيُّ: "وَدُّوا ضَلَالَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ" وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "وَدُّوا أَنْ تَعَنَّتُوا فِي دِينِكُمْ فَتَحْمِلُوا عَلَى الْمَشَقَّةِ فِيهِ"; لِأَنَّ أَصْلَ الْعَنَتِ الْمَشَقَّةُ, فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ

مَحَبَّتِهِمْ لِمَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِمَالَاتِ وَالْكَتَبَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَكْتَبَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ, فَكَتَبَ إلَيْهِ يُعَنِّفُهُ, وَتَلَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} , أَيْ لَا تَرُدُّوهُمْ إلَى الْعِزِّ بَعْدَ أَنَّ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ فَرْقَدِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي دُهْقَانَةَ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ هَهُنَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لَمْ نَرَ رَجُلًا أَحْفَظَ مِنْهُ, وَلَا أَخَطَّ مِنْهُ بِقَلَمٍ, فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَتَّخِذَهُ كَاتِبًا قَالَ: قَدْ اتَّخَذْتُ إذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَوَى هِلَالُ الطَّائِيُّ عَنْ وَسْقٍ الرُّومِيِّ قَالَ: كُنْت مَمْلُوكًا لِعُمَرَ فَكَانَ يَقُولُ لِي أَسْلِمْ فَإِنَّك إنْ أَسْلَمَتْ اسْتَعَنْتُ بِك عَلَى أَمَانَةِ الْمُسْلِمِينَ, فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَسْتَعِينَ عَلَى أَمَانَتِهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ; فَأَبَيْت, فَقَالَ: لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ; فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَعْتَقَنِي فَقَالَ: اذْهَبْ حيث شئت.

مطلب: قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} وأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وقَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} قيل في معنى {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُضَاعَفَةُ بِالتَّأْجِيلِ أَجَلًا بَعْدَ أَجَلٍ وَلِكُلِّ أَجَلٍ قِسْطٌ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَالِ. وَالثَّانِي: مَا يُضَاعِفُونَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, فَلَمَّا كَانَ الرِّبَا مَحْظُورًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَبِعَدَمِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ, وَيَلْزَمُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] إذْ لَمْ يَبْقَ لَهَا حُكْمٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} , قِيلَ: كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ; وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] وَكَمَا قَالَ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] أَيْ إلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَيُقَالُ: إنَّمَا خَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ دُونَ الطُّولِ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطُّولَ أَعْظَمُ, وَلَوْ ذَكَرَ الطُّولَ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِظَمِ; وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ذَكَاةُ الجنين ذكاة أمه" معناه: كذكاة أمه.

مطلب: في قول عمر رضي الله عنه "من خاف الله لم يشف غيظه وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ

النَّاسِ} قال ابن عباس: {فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ; يَعْنِي فِي حَالِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ. وَقِيلَ: فِي حَالِ السُّرُورِ وَالْغَمِّ لَا يَقْطَعُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ; فَمَدَحَ الْمُنْفِقِينَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ, فَمَدَحَ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَعَفَا عَمَّنْ اجْتَرَمَ إلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ, وَلَوْلَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَكَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ". وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِمَا مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} فِيهِ حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى, وَفِيهِ التَّسْلِيَةُ عَمَّا يَلْحَقُ النَّفْسَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الْآيَةَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} قِيلَ فِيهِ: "مَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا وَفَّرَ حَظَّهُ الْمَقْسُومَ لَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ" رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ: "مَنْ أَرَادَ بِجِهَادِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا لَمْ يُحْرَمْ حَظَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ". وَقِيلَ: "مَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِعَمَلِ النَّوَافِلِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِكُفْرِهِ أَوْ بِمَا يُحْبِطُ عَمَلَهُ جُوزِيَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ"; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] . قَوْله تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: "عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ". قَوْله تَعَالَى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} فَإِنَّهُ قِيلَ فِي الْوَهْنِ بِأَنَّهُ انْكِسَارُ الْجَسَدِ وَنَحْوِهِ, وَالضَّعْفُ نُقْصَانُ الْقُوَّةِ. وَقِيلَ فِي الِاسْتِكَانَةِ: إنَّهَا إظْهَارُ الضَّعْفِ, وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ الْخُضُوعُ; فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا بِالْخَوْفِ وَلَا ضَعُفُوا لِنُقْصَانِ الْقُوَّةِ وَلَا اسْتَكَانُوا بِالْخُضُوعِ; وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "فَمَا وَهَنُوا بِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ وَلَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ وَلَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنْ دِينِهِمْ". وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَضُّ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الْعُلَمَاءِ مِنْ صَحَابَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الْآيَةَ. فِيهِ حِكَايَةُ دُعَاءِ الرِّبِّيِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَعْلِيمٌ لَنَا لَأَنْ نَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عِنْدَ حُضُورِ الْقِتَالِ, فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا بِمِثْلِهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ

عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالرِّضَا بِقَوْلِهِمْ لِنَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَنَسْتَحِقَّ مِنْ الْمَدْحِ كَاسْتِحْقَاقِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} . قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ ثَوَابُ الدُّنْيَا الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ حَتَّى قَهَرُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ, وَثَوَابُ الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ". وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِوَاحِدٍ; رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَمِلَ لِدُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ, وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ, وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ". قَوْله تَعَالَى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ بُرْهَانٌ عَلَيْهِ, وَالسُّلْطَانُ هَهُنَا هُوَ الْبُرْهَانُ, وَيُقَالُ: إنَّ أَصْلَ السُّلْطَانِ الْقُوَّةُ; فَسُلْطَانُ الْمَلِكِ قُوَّتُهُ وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ لِقُوَّتِهَا عَلَى قَمْعِ الْبَاطِلِ وَقَهْرِ الْمُبْطَلِ بِهَا, وَالتَّسْلِيطُ عَلَى الشَّيْءِ التَّقْوِيَةُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِغْرَاءِ بِهِ, وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ إلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْت بِالرُّعْبِ حَتَّى إنَّ الْعَدُوَّ لَيُرْعَبُ مَنِيّ وَهُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فِيهِ إخْبَارٌ بِتَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَيَخْتَلِفُوا, فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ظَهَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ, وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الرُّمَاةَ بِالْمُقَامِ فِي مَوْضِعٍ وَأَنْ لَا يَبْرَحُوا, فَعَصَوْا وَخَلَّوْا مَوَاضِعَهُمْ حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا, فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَتَلُوا بِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِصْيَانِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْعُودَ اللَّهِ كَمَا وَعَدَ قَبْلَ الْعِصْيَانِ, فَلَمَّا عَصَوْا وُكِلُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ مَضْمُونٌ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ, وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالدِّينِ وَيَرْجُونَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَتَهُمْ بِهِ لَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} . فَأَخْبَرَ أَنَّ هَزِيمَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ لِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْإِخْلَالِ بِمَرَاكِزِهِمْ الَّتِي رُتِّبُوا فِيهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} . وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ قَبْلُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ; قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى الْعِشْرِينَ أَنْ لَا يَفِرُّوا مِنْ مِائَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصِينَ لِنِيَّةِ الْجِهَادِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا, وَكَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا رَجَّالَةً قَلِيلِي الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَعَدُوُّهُمْ أَلْفٌ فُرْسَانٌ وَرَجَّالَةٌ بِالسِّلَاحِ الشَّاكِّ, فَمَنَحَهُمْ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَتَلُوا كَيْفَ شَاءُوا وَأَسَرُوا كَيْفَ شَاءُوا. ثُمَّ لَمَّا خَالَطَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ بَصَائِرِهِمْ وَخُلُوصُ ضَمَائِرِهِمْ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْجَمِيعِ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [لأنفال: من 66] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ضَعْفَ قُوَى الْأَبْدَانِ وَلَا عَدَمَ السِّلَاحِ; لِأَنَّ قُوَى أَبْدَانِهِمْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ وَسِلَاحُهُمْ أَوْفَرُ; وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ خَالَطَهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْبَصِيرَةِ مِثْلُ مَا لِلْأَوَّلِينَ; فَالْمُرَادُ بِالضَّعْفِ هَهُنَا ضَعْفُ النِّيَّةِ; وَأَجْرَى الْجَمِيعَ مَجْرًى وَاحِدًا فِي التَّخْفِيفِ; إذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ تَمْيِيزُ ذَوِي الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ, وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِ الْيَمَامَةِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ: "أَخْلِصُونَا أَخْلِصُونَا" يَعْنُونَ المهاجرين والأنصار

مطلب: في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} وذكر ما فيه من دلائل النبوة قَوْله تَعَالَى:. {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} قَالَ طَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ هَزِيمَةِ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِالرُّجُوعِ, فَكَانَ مَنْ ثَبَتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ الْحُجُفِ مُتَأَهِّبِينَ لِلْقِتَالِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَنَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ, فَنَامُوا دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَرْعَبْهُمْ الْخَوْفُ لِسُوءِ الظَّنِّ; قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنِمْنَا حَتَّى اصْطَفَقَتْ الْحُجُفُ مِنْ النُّعَاسِ, وَلَمْ يُصِبْ الْمُنَافِقِينَ ذَلِكَ بَلْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ, فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْت وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ وَنَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ; وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي الْعَدُوُّ فِيهَا مُطِلٌّ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ انْهَزَمَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَعْوَانِهِمْ وَقَدْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنَامُونَ وَهُمْ مُوَاجِهُونَ الْعَدُوَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطِيرُ فِيهِ النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ فَكَيْفَ بِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَالْعَدُوُّ قَدْ أَشَرَعُوا فِيهِمْ الْأَسِنَّةَ وَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لِقَتْلِهِمْ وَاسْتِيصَالِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ وَأَكْبَرُ الْحِجَجِ

فِي صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وُقُوعُ الْأَمَنَةِ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ مَدَدٍ آتَاهُمْ وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ وَلَا انْصِرَافِهِمْ عَنْهُمْ وَلَا قِلَّةِ عَدَدِهِمْ, فَيُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ الْأَمَنَةَ, وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ خَاصَّةً. وَالثَّانِي: وُقُوعُ النُّعَاسِ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَطِيرُ فِي مِثْلِهَا النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهَا بَعْدَ الِانْصِرَافِ وَالرُّجُوعِ, فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُشَاهَدَةِ وَقَصْدُ الْعَدُوِّ نَحْوَهُمْ لِاسْتِيصَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ. وَالثَّالِثُ: تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْأَمَنَةِ وَالنُّعَاسِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ, فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي غَايَةِ الْهَلَعِ وَالْخَوْفِ وَالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ; فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} قِيلَ: إنَّ "مَا" هَهُنَا صِلَةٌ, مَعْنَاهُ: فَبِرَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ; كَمَا قال: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون:40] وقَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] . وَاتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ, وَقَالُوا: مَعْنَاهَا التَّأْكِيدُ وَحُسْنُ النَّظْمِ, كَمَا قَالَ الْأَعْمَشُ: فَاذْهَبِي مَا إلَيْك1 أَدْرَكَنِي الْحُلْمُ ... عَدَانِي عَنْ هَيْجِكُمْ إشْفَاقِي وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ; لِأَنَّ ذِكْرَ" مَا" هَهُنَا مَجَازٌ وَإِسْقَاطُهَا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] لِمُوسَى وَهَارُونَ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] . قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ بِالْوَحْيِ عَنْ تَعَرُّفِ صَوَابِ الرَّأْيِ, مِنْ الصَّحَابَةِ, فَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: "إنَّمَا أَمَرَهُ بِهَا تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ وَرَفْعًا مِنْ أَقْدَارِهِمْ إذْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إلَى رَأْيِهِ". وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: "أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّتُهُ فِيهَا وَلَا تَرَاهَا مُنْقِصَةً كَمَا مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ أَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: "جَمَعَ لَهُمْ بِذَلِكَ الْأَمْرَيْنِ جميعا, في المشاورة ليكون لإجلال

_ 1 قوله: "فاذهبي ما إليك" يقال: اذهب إليك, معناه اشتغل بنفسك وأقبل عليها, و "ما" في الكلام زائدة كما ذكره المصنف "لمصححه".

الصَّحَابَةِ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي الْمُشَاوَرَةِ". وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ لَهُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ" فَمِنْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً وَهُمْ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ, وَإِنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُ بِآرَائِهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَتَنَبَّهَ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ مَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهَا لَوْلَا الْمُشَاوَرَةُ وَاسْتِشَارَةُ آرَاءِ الصَّحَابَةِ; وَقَدْ أَشَارَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَقَبِلَ مِنْهُ, وَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّعْدَانُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا فَقَبِلَ مِنْهُمْ, وَخَرَقَ الصَّحِيفَةَ, فِي أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ مَأْمُورًا بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى, وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا طَرِيقُهُ الرَّأْيُ وَغَالِبُ الظَّنِّ; وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ, وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَاوَرَهُمْ فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ ارْتَأَى مَعَهُمْ وَعَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ: أَحَدُهَا: إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ فَسَبِيلُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ. وَالثَّانِي: إشْعَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَجَائِزٌ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ; إذْ رَفَعَهُمْ اللَّهُ إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُشَاوِرُهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْضَى اجْتِهَادَهُمْ وَتَحَرِّيَهُمْ لِمُوَافَقَةِ النُّصُوصِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَاطِنَ ضَمَائِرِهِمْ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِمْ وَصِحَّةِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِهِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ تَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي مِثْلِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا شُووِرُوا فِيهِ وَصَوَابِ الرَّأْيِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ, ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَلَقَّى مِنْهُ بِالْقَبُولِ بِوَجْهٍ, لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ بَلْ فِيهِ إيحَاشُهُمْ فِي إعْلَامِهِمْ بِأَنَّ آرَاءَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا. فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ, فَكَيْفَ يَسُوغُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ مَعَ عِلْمِ الْأُمَّةِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَشُورَةَ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا بِشَيْءٍ أَشَارُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَشَاوُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ وَأَنْ لَا تُنْتِجَ الْمَشُورَةُ رَأْيًا صَحِيحًا وَلَا قَوْلًا مَعْمُولًا; لِأَنَّ مُشَاوَرَتَهُمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ, فَإِنْ كَانَتْ مَشُورَةُ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهَا تُنْتِجُ رَأْيًا صَرِيحًا وَقَوْلًا مَعْمُولًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالصَّحَابَةِ عِنْدَ مُشَاوَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ, وَإِذْ قَدْ

بَطَلَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمُشَاوَرَتِهِ إيَّاهُمْ فَائِدَةٌ تُسْتَفَادُ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الِارْتِئَاءِ وَالِاجْتِهَادِ, فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَافِقَ آرَاؤُهُمْ رَأْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يُوَافِقَ رَأْيُ بَعْضِهِمْ رَأْيَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ جَمِيعِهِمْ فَيَعْمَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِرَأْيِهِ, وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَنِّفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَلْ كَانُوا مَأْجُورِينَ فِيهِ لِفِعْلِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ, وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ تَرْكُ آرَائِهِمْ وَاتِّبَاعُ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصَاتِ, وَلَا يَقُولُ لَهُمْ مَا رَأْيُكُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ؟ وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُشَاوَرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ فِي مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ وَمُكَابَدَةِ الْعَدُوِّ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْبِيرٌ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُشَاوَرَةِ غَيْرِهِ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى الْقُوتِ وَالْكَفَافِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ, وَإِذَا كَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَابَدَةِ الْحُرُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ وَبَيْنَهُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ مَعَهُمْ وَيَعْمَلُ بِمَا يَغْلِبُ فِي رَأْيِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْمُشَاوَرَةِ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَلَوْ كَانَ فِيمَا شَاوَرَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ قَدْ وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهِ مِنْ اللَّهِ لَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ مُتَقَدِّمَةً لِلْمُشَاوَرَةِ; إذْ كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ, وَفِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قُرِئَ: "يُغَلُّ" بِرَفْعِ الْيَاءِ, وَمَعْنَاهُ يُخَانُ. وَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ خِيَانَةُ سَائِرِ النَّاسِ مَحْظُورَةً, تَعْظِيمًا لِأَمْرِ خِيَانَتِهِ عَلَى خِيَانَةِ غَيْرِهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وَإِنْ كَانَ الرِّجْسُ كُلُّهُ مَحْظُورًا وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهِ; وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: "يُغَلَّ" بِرَفْعِ الْيَاءِ: "إنَّ مَعْنَاهُ يُخَوَّنُ فَيُنْسَبُ إلَى الْخِيَانَةِ" وَقَالَ: "نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ". وَمَنْ قَرَأَ: {يَغُلَّ} بِنَصْبِ الْيَاءِ, مَعْنَاهُ: يَخُونُ, وَالْغُلُولُ الْخِيَانَةُ فِي الْجُمْلَةِ, إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ الْإِطْلَاقُ فِيهَا يُفِيدُ الْخِيَانَةَ فِي الْمَغْنَمِ.

وَقَدْ عَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْغُلُولِ حَتَّى أَجْرَاهُ مَجْرَى الْكَبَائِرِ, وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعَدَانِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ كِسَاءً أَوْ عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا". قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وَالْأَخْبَارُ فِي أَمْرِ تَغْلِيظِ الْغُلُولِ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَأَخْذِ عَلَفِ الدَّوَابِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: "أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ, فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْتِي فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ". وَعَنْ سَلْمَانَ: "أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْمَدَائِنِ أَرْغِفَةً حُوَّارَى وَجُبْنًا وَسِكِّينًا فَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنْ الْجُبْنَةِ وَيَقُولُ: كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ". وَقَدْ رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ, وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ" وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ, فَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَتَلَهُ بِهِ". قَوْله تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {أَوِ ادْفَعُوا} : "إنَّ مَعْنَاهُ بِتَكْثِيرِ سَوَادِنَا إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا" وَقَالَ أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ: "مَعْنَاهُ وَرَابِطُوا بِالْقِيَامِ عَلَى الْخَيْلِ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحُضُورِ لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ فِي حُضُورِهِ نَفْعٌ فِي تَكْثِيرِ السَّوَادِ وَالدَّفْعِ وَفِي الْقِيَامِ عَلَى الْخَيْلِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ; قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَأْكِيدٌ لِكَوْنِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ; إذْ قَدْ يُضَافُ الْفِعْلُ إلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ إذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] وَإِنَّمَا قَتَلَ غَيْرَهُمْ وَرَضُوا بِهِ, وقَوْله تَعَالَى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَرَّقَ بِذِكْرِ الْأَفْوَاهِ بَيْنَ قَوْلِ اللِّسَانِ وَقَوْلِ الْكِتَابِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَحْيَاءً فِي الْجَنَّةِ, قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ ترد

عَلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَجَازَ الْقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ التَّنَاسُخِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَالَ الْجُمْهُورُ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُنِيلُهُمْ مِنْ النَّعِيمِ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إلَى أَنْ يُفْنِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فِنَاءِ الْخَلْقِ, ثُمَّ يُعِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ"; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ, وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلِأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَتِهِ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ أَحْيَاءً مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, إذْ الْجَنَّةُ لَا يَكُونُ فِيهَا مَيِّتٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَصْفُهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَرِحُونَ عَلَى الْحَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَدْ لَحِقُوا بِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ"; وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَأَبِي حُذَيْفَةَ وَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ, وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِ التَّنَاسُخِ فِي شَيْءٍ; لِأَنَّ الْمُنْكَرَ فِي ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ إلَى دَارِ الدُّنْيَا فِي خِلَقٍ مُخْتَلِفَةٍ, وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] وَأَخْبَرَ أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوْتَى مُعْجِزَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَلِكَ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَجْعَلُهُمْ حَيْثُ يَشَاءُ. وقَوْله تَعَالَى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} مَعْنَاهُ: حَيْثُ لَا يَقْدِرُ لَهُمْ أَحَدٌ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ إلَّا رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ قُرْبَ الْمَسَافَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ بِالْمَسَافَةِ; إذْ هُوَ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ. وَقِيلَ: عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُهُمْ هُوَ دُونَ النَّاسِ. قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ: "إنَّ الَّذِينَ قَالُوا كَانُوا رَكْبًا وَبَيْنَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ لِيَحْبِسُوهُمْ عِنْدَ مُنْصَرِفِهِمْ مِنْ أُحُدٍ لَمَّا أَرَادُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "هُوَ أَعْرَابِيٌّ ضَمِنَ لَهُ جُعْلًا عَلَى ذَلِكَ"; فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى اسْمِ النَّاسِ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا وَاحِدًا, فَهَذَا عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْعُمُومِ وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ النَّاسُ اسْمًا لِلْجِنْسِ وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ, تَنَاوَلَ ذَلِكَ أَقَلَّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ; لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ, وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْت النَّاسَ فَعَبْدِي حَرٌّ: إنَّهُ عَلَى كَلَامِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ; لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ الواحد منهم.

وقوله تعالى: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} فِيهِ إخْبَارٌ بِزِيَادَةِ يَقِينِهِمْ عِنْدَ زِيَادَةِ الْخَوْفِ وَالْمِحْنَةِ; إذْ لَمْ يَبْقَوْا عَلَى الْحَالِ الْأُولَى بَلْ ازْدَادُوا عِنْدَ ذَلِكَ يَقِينًا وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِمْ, وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَحْزَابِ: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] فَازْدَادُوا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّبْرِ عَلَى جِهَادِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ أَتَمُّ ثَنَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْمَلُ فَضِيلَةً, وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ وَنَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ, وَأَنْ نَقُولَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, وَأَنَّا مَتَى فَعَلْنَا ذَلِكَ أَعْقَبَنَا ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ وَصَرْفُ كَيَدِ الْعَدُوِّ وَشَرِّهِمْ مَعَ حِيَازَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} قَالَ السُّدِّيُّ: "بَخِلُوا أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ", وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بَخِلُوا أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ". وَهُوَ بِالزَّكَاةِ أَوْلَى, كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} [التوبة: 35] وقَوْله تَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إلَّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِكَنْزِهِ فَيُحْمَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَبْهَتُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ". وَقَالَ مَسْرُوقٌ: "يَجْعَلُ الْحَقَّ الَّذِي مَنَعَهُ حَيَّةً فَيُطَوَّقُهَا فَيَقُولُ: مَا لِي وَمَا لَك؟ فَتَقُولُ الْحَيَّةُ: أَنَا مَالُك". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "يُطَوَّقُ ثُعْبَانًا فِي عُنُقِهِ لَهُ أَسْنَانٌ فَيَقُولُ: أَنَا مَالُك الَّذِي بَخِلْت بِهِ". قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} , قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ, وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ: وَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَهُودُ" وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى" وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا فَكَتَمَهُ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ, ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فيعود الضمير في قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} فِي قَوْلِ الْأَوَّلِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا صِفَتَهُ وَأَمْرَهُ, وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِينَ عَلَى الْكِتَابِ, فَيَدْخُلُ فِيهِ بَيَانُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي

الْأَلْبَابِ} . الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: تَعَاقُبُ الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً مِنْهَا, وَالْأَعْرَاضُ مُحْدَثَةٌ, وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْمُحْدَثَ فَهُوَ مُحْدَثٌ. وَقَدْ دَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْأَجْسَامِ لَا يُشْبِهُهَا; لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُشْبِهُ فِعْلَهُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ; إذْ كَانَ خَالِقُهَا وَخَالِقُ الْأَعْرَاضِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَضْدَادِهَا; إذْ مَا لَيْسَ بِقَادِرٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ; لِأَنَّ صِحَّةَ وُجُودِهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِصَانِعٍ قَدِيمٍ, لَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَاجَ الْفَاعِلُ إلَى فَاعِلٍ آخَرَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عَالِمٌ مِنْ حَيْثُ اسْتَحَالَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْمُتْقَنِ الْمُحْكَمِ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكِيمٌ عَدْلٌ; لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَالِمٌ بِقُبْحِهِ فَلَا تَكُونُ أَفْعَالُهُ إلَّا عَدْلًا وَصَوَابًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا; لِأَنَّهُ لَوْ أَشْبَهَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُشْبِهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا, فَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُهَا, وَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ; لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِينَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي حُكْمِ الْحُدُوثِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَيَدُلُّ وُقُوفُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ أَنَّ مُمْسِكَهَا لَا يُشْبِهُهَا, لِاسْتِحَالَةِ وُقُوفِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ مِنْ جِسْمٍ مِثْلِهَا. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا. وَدَلَالَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُحْدَثَانِ لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهَا وَلَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهَا, وَقَدْ اقْتَضَيَا مُحْدَثًا مِنْ حَيْثُ كَانَا مُحْدَثَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ حَادِثٍ لَا مُحْدِثَ لَهُ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثُهُمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُشْبِهٌ لِلْأَجْسَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إحْدَاثِ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُشْبِهَ لِلْجِسْمِ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْحُدُوثِ, فَلَوْ كَانَ فَاعِلُهُمَا حَادِثًا لَاحْتَاجَ إلَى مُحْدِثٍ, ثُمَّ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ, وَذَلِكَ مُحَالٌ, فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ صَانِعٍ قَدِيمٍ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ: "اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَابِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَصَابِرُوا وَعْدِي إيَّاكُمْ وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ وَرَابِطُوا الْخَيْلَ عَلَيْهِ". وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "وَرَابِطُوا بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ

بَعْدَ الصَّلَاةِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [لأنفال: 60] . وَرَوَى سُلَيْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَمِنْ قِيَامِهِ, وَمَنْ مَاتَ فِيهِ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَنَمَا لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَرَوَى عُثْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ قِيَامٌ لَيْلُهَا وَصِيَامٌ نَهَارُهَا". وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

سورة النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: "هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ أَسْأَلُك بِاَللَّهِ وَبِالرَّحِمِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: "اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا". وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ". وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْد بْنِ مُقْرِنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ, مِنْهَا إبْرَارُ الْقَسَمِ"; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَكُمْ بالله فأعطوه". وأما قوله: {وَالْأَرْحَامَ} فَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِحَقِّ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] فَقَرَنَ قَطْعَ الرَّحِمِ إلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ, وَقَالَ تَعَالَى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} قِيلَ فِي الْإِلِّ: إنَّهُ الْقَرَابَةُ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النِّسَاءِ: 36] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الرَّحِمِ مَا يُوَاطِئُ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ, رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِي حَيَّانُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي نَاصِحٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ أَعْجَلُ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ مَا مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنْ الْبَغْيِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ الْمُرِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا فِي الْعُمُرِ

وَيَدْفَعُ بِهِمَا مَيْتَةَ السُّوءِ وَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمَا الْمَحْذُورَ وَالْمَكْرُوهَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ", قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: الْكَاشِحُ الْعَدُوُّ. وَرَوَاهُ أَيْضًا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ". وَرَوَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ عَنْ الرَّبَابِ عَنْ سَلْمَانِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ; لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهَا, وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَيْنِ صَدَقَةً وَصِلَةً, وَأَخْبَرَ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لِأَجْلِ الرَّحِمِ سِوَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالصَّدَقَةِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا وَلَا فَسْخُهَا أَبًا كَانَ الْوَاهِبُ أَوْ غَيْرَهُ; لِأَنَّهَا قَدْ جَرَتْ مَجْرَى الصَّدَقَةِ فِي أَنَّ مَوْضُوعَهَا الْقُرْبَةُ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِهَا, كَالصَّدَقَةِ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعُهَا الْقُرْبَةَ وَطَلَبَ الثَّوَابِ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِيهَا, كَذَلِكَ الْهِبَةُ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ; وَلَا يَصِحُّ لِلْأَبِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِلِابْنِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ, إذْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ, إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مُحْتَاجًا فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الِابْنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُفَرِّقْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بَيْنَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِهِ, فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِسَائِرِ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ وَالْأَبَاعِدِ مِنْ أَرْحَامِهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ اعْتَبَرْنَا كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ لَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ بَنُو آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلُّهُمْ; لِأَنَّهُمْ ذَوُو أَنْسَابِهِ وَيَجْمَعُهُمْ نُوحٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبْلَهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا فَاسِدٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّحِمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ هُوَ مَا يَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً; لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ, وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّينَ; وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ بِمِنًى وَهُوَ يَقُولُ: "أُمَّك وَأَبَاك وَأُخْتَك وَأَخَاك ثُمَّ أَدْنَاك فَأَدْنَاك" , فَذَكَرَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فِي ذَلِكَ, فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ مَأْمُورٌ مَعَ ذَلِكَ بِمَنْ بَعُدَ رَحِمُهُ أَنْ يَصِلَهُ, وَلَيْسَ فِي تَأْكِيدِ مَنْ قَرُبَ كَمَا يَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْجَارِ, وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ حُكْمٌ فِي التَّحْرِيمِ وَلَا فِي مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ, فَكَذَلِكَ ذَوُو رَحِمِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَحْرَمٍ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّينَ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ دَفْعِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ إلَيْهِمْ بِأَعْيَانِهَا وَمَنْعِ الْوَصِيِّ مِنْ اسْتِهْلَاكِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ وَجَعَلَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يَعْزِلُ مَالَ الْيَتِيمِ عَنْ مَالِهِ, فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَظُنُّ ذَلِكَ غَلَطًا مِنْ الرَّاوِي; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إيتَاؤُهُمْ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ; إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَجِبُ إعْطَاؤُهُ مَالَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ, وَإِنَّمَا غَلِطَ الرَّاوِي بِآيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شيبة قال: حدثنا جرير عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10] الْآيَةَ, انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ, فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيَحْبِسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ, فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ, فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ" فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إيتَاءَهُمْ أَمْوَالَهُمْ فِي حَالِ الْيُتْمِ, وَإِنَّمَا يَجِبُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ, وَأَطْلَقَ اسْمَ الْأَيْتَامِ عَلَيْهِمْ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيَتِيمِ كَمَا سَمَّى مُقَارَبَةَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بُلُوغَ الْأَجَلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَالْمَعْنَى مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ; وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ, فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَسَمَّاهُمْ يَتَامَى لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْبُلُوغِ, أَوْ لِانْفِرَادِهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ, مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي أَمْثَالِهِمْ ضَعْفُهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ عَلَى الْكَمَالِ حَسَبَ تَصَرُّفِ الْمُتَحَنِّكِينَ الَّذِينَ قَدْ جَرَّبُوا الْأُمُورَ وَاسْتَحْكَمَتْ آرَاؤُهُمْ; وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزٍ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ يُتْمُهُ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: "إذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ يُتْمُهُ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ يُتْمُهُ بَعْدُ", فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يَسْتَحْكِمْ رَأْيُهُ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدُهُ, فَجَعَلَ بَقَاءَ ضَعْفِ الرَّأْيِ مُوجِبًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ. وَاسْمُ الْيَتِيمِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ عَنْ أَبِيهِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ عَنْ زَوْجِهَا, قَالَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا", وَهِيَ لَا تُسْتَأْمَرُ إلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ; وَقَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا صَارَ شَيْخًا أَوْ كَهْلًا لَا يُسَمَّى يَتِيمًا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ نَاقِصَ الرَّأْيِ, فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قُرْبِ الْعَهْدِ بِالصِّغَرِ. وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ الْمُسِنَّةُ تُسَمَّى يَتِيمَةً مِنْ جِهَةِ انْفِرَادِهَا عَنْ زَوْجٍ, وَالرَّجُلُ الْكَبِيرُ الْمُسِنُّ لَا يُسَمَّى يَتِيمًا مِنْ جِهَةِ انْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ, وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي عَلَى الصَّغِيرِ وَيُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيَحُوطُهُ فَيَكْنُفُهُ, فَسُمِّيَ الصَّغِيرُ يَتِيمًا لِانْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ, فَمَا دَامَ عَلَى حَالِ الضَّعْفِ وَنُقْصَانِ الرَّأْيِ يُسَمَّى يَتِيمًا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ يَتِيمَةً لِانْفِرَادِهَا عَنْ الزَّوْجِ الَّذِي هِيَ فِي حِبَالِهِ وَكَنَفِهِ, فَهِيَ وَإِنْ كَبِرَتْ فَهَذَا الِاسْمُ لَازِمٌ لَهَا; لِأَنَّ وُجُودَ الزَّوْجِ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لِلصَّغِيرِ فِي أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَلِي حِفْظَهَا وَحِيَاطَتَهَا, فَإِذَا انْفَرَدَتْ عَمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ مَعَهَا سُمِّيَتْ يَتِيمَةً كَمَا سُمِّيَ الصَّغِيرُ يَتِيمًا لِانْفِرَادِهِ عَمَّنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيَكْنُفُهُ وَيَحْفَظُهُ, أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] كَمَا قَالَ: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] فَجَعَلَ الرَّجُلَ قَيِّمًا عَلَى امْرَأَتِهِ كَمَا جَعَلَ وَلَدَ الْيَتِيمِ قَيِّمًا عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال: "لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ", وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي الْيُتْمِ, وَبَعْدَ الْبُلُوغِ يُسَمَّى يَتِيمًا مَجَازًا لِمَا وَصَفْنَا. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ اسْمِ الْيَتِيمِ عَلَى الضَّعِيفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ الْيَتَامَى; لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} قَالَ: السُّفَهَاءُ ابْنُك السَّفِيهُ وَامْرَأَتُك السَّفِيهَةُ, قَالَ: وقوله: {قِيَاماً} قِيَامُ عَيْشِك. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ", فَسَمَّى الْيَتِيمَ ضَعِيفًا. وَلَمْ يَشْرُطْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إينَاسَ الرُّشْدِ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ, وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ, إلَّا أَنَّهُ قَدْ شَرَطَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً, فَإِذَا بَلَغُوا وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ وَجَبَ دَفْعُ الْمَالِ إليه لقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} فَيَسْتَعْمِلُهُ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى مُقْتَضَاهُ وَظَاهِرِهِ, وَفِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مَعَ إينَاسِ الرُّشْدِ, لِاتِّفَاقِ

أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ السِّنِّ شَرْطُ وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى ظَوَاهِرِهِمَا عَلَى فَائِدَتِهِمَا, وَلَوْ اعْتَبَرْنَا إينَاسَ الرُّشْدِ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ حُكْمِ الْآيَةِ الْأُخْرَى رَأْسًا, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِإِينَاسِ الرُّشْدِ فِيهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ إيجَابَ دَفْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ, وَمَتَى وَرَدَتْ آيَتَانِ: إحْدَاهُمَا: خَاصَّةٌ مُضَمَّنَةٌ بِقَرِينَةٍ فِيمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ. وَالْأُخْرَى: عَامَّةٌ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ بِقَرِينَةٍ وَأَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى فَائِدَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَنَا الِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى فَائِدَةِ إحْدَاهُمَا وَإِسْقَاطِ فَائِدَةِ الْأُخْرَى. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وَقَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ; إذ كان قوله: {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} قَدْ تَضَمَّنَ جَوَازَ الْإِشْهَادِ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِقَبْضِهَا, وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْحَجْرِ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ; لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ, وَمَنْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزُ الْإِقْرَارِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ: "الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ" أَيْ لَا تَجْعَلْ بَدَلَ رِزْقِك الْحَلَالِ حَرَامًا تَتَعَجَّلُ بِأَنْ تَسْتَهْلِكَ مَالَ الْيَتِيمِ فَتُنْفِقَهُ أَوْ تَتَّجِرَ فِيهِ لِنَفْسِك أَوْ تَحْبِسَهُ وَتُعْطِيَهُ غَيْرَهُ, فَيَكُونُ مَا تَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ خَبِيثًا حَرَامًا وَتُعْطِيهِ مَالِكَ الْحَلَالِ الَّذِي رَزَقَك اللَّهُ تَعَالَى; وَلَكِنْ آتُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِأَعْيَانِهَا" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَالَ الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَسْتَبْدِلُ فَيَحْبِسُهُ لِنَفْسِهِ وَيُعْطِيهِ غَيْرَهُ, وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى لِلْيَتِيمِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا حُظِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَيُعْطِيَ الْيَتِيمَ غَيْرَهُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ سَوَاءً; لِأَنَّهُ قَدْ حُظِرَ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالُ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ, فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِبْدَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْطِي الْيَتِيمَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِمَّا يَأْخُذُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} قَالَ: "لَا تَجْعَلُوا الزَّائِفَ بَدَلَ الْجَيِّدِ وَالْمَهْزُولَ بَدَلَ السَّمِينِ". وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: "لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ مُضِيفِينَ لَهَا إلَى أَمْوَالِكُمْ", فَنُهُوا عَنْ خَلْطِهَا بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْرَاضِ لِتَصِيرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَجُوزُ لَهُمْ أَكْلُهَا وَأَكْلُ أَرْبَاحِهَا. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:

"إثْمًا كَبِيرًا". وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُطَالَبُوا بِأَدَائِهَا; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِدَفْعِهَا مُطْلَقٌ مُتَوَعَّدٌ عَلَى تَرْكِهِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهِ مُطَالَبَةُ الْأَيْتَامِ بِأَدَائِهَا, وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مَالٌ فَأَرَادَ دَفْعَهُ إلَيْهِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} والله الموفق.

بَابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} . رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْت لِعَائِشَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الْآيَةَ؟ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا, فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قَالَتْ: وَاَلَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ, فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ تَأْوِيلٌ غَيْرُ هَذَا, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} يَقُولُ: وَمَا أَحَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَخَافُوا فِي النِّسَاءِ مِثْلَ الَّذِي خِفْتُمْ فِي الْيَتَامَى أَلَّا تُقْسِطُوا فِيهِنَّ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فَحَرَّجْتُمْ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ, وَكَذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا مِنْ الزِّنَا فَانْكِحُوا النِّسَاءَ نِكَاحًا طَيِّبًا مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَرْيَتِي تَكُونُ عِنْدَهُ النِّسْوَةُ وَيَكُونُ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ فَيَذْهَبُ مَالُهُ فَيَمِيلُ عَلَى مَالِ الْأَيْتَامِ, فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الْآيَةَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَزْوِيجِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ الصَّغِيرَيْنِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ" لِكُلِّ

مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ مِنْ الْقَرَابَاتِ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ, فَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ الْأَبَ أَوْ الْجَدَّ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَلَهُمْ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَيْنِ إلَّا الْعَصَبَاتُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ"; قَالَ أَبُو يُوسُفَ: "وَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ" وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "لَهُمَا الْخِيَارُ إذَا زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ". وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي تَزْوِيجِ الرَّجُلِ يَتِيمَهُ إذَا رَأَى لَهُ الْفَضْلَ وَالصَّلَاحَ وَالنَّظَرَ: "أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ عَلَيْهِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ أُخْتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ: "إنَّهُ لَا يَجُوزُ, وَيُزَوِّجُ الْوَصِيُّ وَإِنْ كَرِهَ الْأَوْلِيَاءُ, وَالْوَصِيُّ أَوْلَى مِنْ الْوَلِيِّ, غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ إلَّا بِرِضَاهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ عَنْهَا الْخِيَارَ الَّذِي جُعِلَ لَهَا فِي نَفْسِهَا, وَيُزَوِّجُ الْوَصِيُّ بَنِيهِ الصِّغَارَ وَبَنَاتَهُ الصِّغَارَ وَلَا يُزَوِّجُ الْبَنَاتَ الْكِبَارَ إلَّا بِرِضَاهُنَّ". وَقَوْلُ اللَّيْثِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مَالِكٍ, وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةُ إنَّ الْوَصِيَّ أَوْلَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا يُزَوِّجُ الْعَمُّ وَلَا الْأَخُ الصَّغِيرَةَ, وَالْأَمْوَالُ إلَى الْأَوْصِيَاءِ, وَالنِّكَاحُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا الْأَبُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يُزَوِّجُ الْوَصِيُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُزَوِّجُ الصِّغَارَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ, وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ تَرِكَةٌ1 لَهَا عَوَارٌ فَلْيَضُمَّهَا إلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ رَغْبَةً فَلْيُزَوِّجْهَا غَيْرَهُ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ فِي آخَرِينَ جَوَازُ تَزْوِيجِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ الصَّغِيرَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّهَا فِي الْيَتِيمَةِ فَتَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي صَدَاقِهَا, فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ أَوْ يَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَنِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا تَأْوِيلَ الْآيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا أَيْضًا, وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ مَنَعَ ذَلِكَ, وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ; لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا أَنَّهَا فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي الصَّدَاقِ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ أَوْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ وَأَقْرَبُ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي تَكُونُ الْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِهِ وَيَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا هُوَ ابْنُ الْعَمِّ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ جَوَازَ تَزْوِيجِ ابن العم اليتيمة التي في حجره.

_ 1 قوله: "من كان في حجره تركة الخ" التركة بفتح التاء وسكون الراء بمعنى اليتيمة المتروكة, والعوار بالفتح معناها العيب, والمراد أن من كان في حجره يتيمة وهي دميمة لا يرغب أحد للزوج فليضمها إلى نفسه فإن وجدت رغبة بتزوجها فليزوجها غيره "لمصححه".

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلْت هَذَا التَّأْوِيلَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ الَّذِي ذَكَرْت مَعَ احْتِمَالِ الْآيَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا وَلَيْسَا مُتَنَافِيَيْنِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا, وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ قَدْ قَالَا: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ, وَذَلِكَ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا يُقَالُ تَوْقِيفًا فَهُوَ أَوْلَى; لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا سَبَبَ نُزُولِهَا وَالْقِصَّةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا, فَهُوَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجَدَّ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَكَرَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي فِي حِجْرِهِ وَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا, وَالْجَدُّ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ابْنُ الْعَمِّ وَمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْكَبِيرَةِ; لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنَّ الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [النساء: من 127] يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قال: فلما قال: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْكِبَارُ مِنْهُنَّ دُونَ الصِّغَارِ; لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا يُسَمَّيْنَ نِسَاءً. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} حَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ, لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ", وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَالْكَبِيرَةُ تُسَمَّى يَتِيمَةً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ, وقَوْله تَعَالَى: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْت; لِأَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ جَازَتْ إضَافَتُهُنَّ إلَيْهِنَّ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ دَاخِلَاتٌ فِيهِنَّ, وَقَالَ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ مُرَادَاتٌ بِهِ, وَقَالَ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا; فَلَيْسَ إذًا فِي إضَافَةِ الْيَتَامَى إلَى النِّسَاءِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُنَّ الْكِبَارُ دُونَ الصِّغَارِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ لَا يَصِحُّ فِي الْكِبَارِ; لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا جَازَ النِّكَاحُ, وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الصِّغَارُ اللَّاتِي يَتَصَرَّفُ عَلَيْهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ مَنْ هُنَّ فِي حِجْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كَانَ الَّذِي زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ ابْنُهَا سَلَمَةُ, فَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ حَمْزَةَ وَهُمَا صَبِيَّانِ صَغِيرَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا حَتَّى مَاتَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ جَزَيْت سَلَمَةَ بِتَزْوِيجِهِ إيَّايَ أُمَّهُ؟ ", وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زَوَّجَهُمَا وَلَيْسَ بِأَبٍ وَلَا

جَدٍّ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَزْوِيجَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ جَائِزٌ لِلصَّغِيرَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153-155] فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ, فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي تَزْوِيجَ الصَّغِيرَيْنِ, وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي جَازَ لِسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ" , فَأَثْبَتَ النِّكَاحَ إذَا كَانَ بِوَلِيٍّ, وَالْأَخُ وَابْنُ الْعَمِّ أَوْلِيَاءُ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً كَانُوا أَوْلِيَاءَ فِي النِّكَاحِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ لَمْ يُزَوِّجَا, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِيرَاثِ, فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إنَّ لِلْأُمِّ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَنْ يُزَوِّجُوا إذَا لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ مِنْهُمْ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ". فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ فِي النِّكَاحِ مَالٌ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَقْدُ مَنْ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالْوِلَايَةِ فِي الْمَالِ, أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقٌّ فِي التَّزْوِيجِ وَلَيْسَتْ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ عَلَى الْكَبِيرَةِ؟ وَيَلْزَمُ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ أَنْ لَا يُجِيزَا تَزْوِيجَ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ; إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا فِي الْمَالِ, فَلَمَّا جَازَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَبِ الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا مَعَ عَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْمَالِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ, وَلَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ جَوَازُ تَزْوِيجِ وَلِيِّ الصَّغِيرَةِ إيَّاهَا مِنْ نَفْسِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْكَبِيرَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِرِضَاهَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لِلزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا, بِأَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُمَا كَمَا جَازَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ, فَيَكُونُ الْمُوجِبُ لِلنِّكَاحِ وَالْقَابِلُ لَهُ وَاحِدًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ وَلِيًّا لِصَغِيرَيْنِ جَازَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدَهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: "وَإِنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ" وَفِي قَوْلِهِ: "إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْكَبِيرَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهَا" وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِجْلٌ وَاحِدٌ وَكِيلًا لَهُمَا جَمِيعًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهِمَا. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ, مِنْ قِبَلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ", وَالْوَصِيُّ لَيْسَ بِوَلِيٍّ لَهَا, أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] فَلَوْ وَجَبَ لَهَا قَوَدٌ لَمْ يَكُنْ الْوَصِيُّ لَهَا وَلِيًّا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوِلَايَةَ فِيهِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلِيِّ, فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَجُوزَ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا; إذْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَخُ. أَوْ الْعَمُّ وَلِيًّا لِلصَّغِيرَةِ; لِأَنَّهُمَا لا

يَسْتَحِقَّانِ الْوِلَايَةَ فِي الْقِصَاصِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلْ عَدَمَ الْوِلَايَةِ فِي الْقِصَاصِ عِلَّةً فِي ذَلِكَ حَتَّى يَلْزَمَنَا عَلَيْهَا, وَإِنَّمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ لَا يُتَنَاوَلُ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ, وَأَمَّا الْأَخُ وَالْعَمُّ فَهُمَا وَلِيَّانِ; لِأَنَّهُمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ, وَأَحَدٌ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْوَلِيِّ عَلَى الْعَصَبَاتِ, قَالَ اللَّهَ تَعَالَى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم: 5] . قِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَنِي أَعْمَامِهِ وَعَصَبَاتِهِ, فَاسْمُ الْوَلِيِّ يَقَعُ عَلَى الْعَصَبَاتِ وَلَا يَقَعُ عَلَى الْوَصِيِّ; فَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ" أَنْتَفَى بِذَلِكَ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرَةِ; إذْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا" وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا, فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ" فَقَدْ اقْتَضَى بُطْلَانَ نِكَاحِ الْمَجْنُونَةِ وَالْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ إذَا زَوَّجَهَا الْوَصِيُّ أَوْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْوَصِيِّ دُونَ إذْنِ الْوَلِيِّ لِحُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيٍّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِيرَاثِ لِمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ, وَلَيْسَ الْوَصِيُّ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ, فَلَا وِلَايَةَ لَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ هُوَ النَّسَبُ, وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ النَّقْلُ فِيهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَصِيُّ لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ, وَلَيْسَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالتَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ; لِأَنَّ الْمَالَ يَصِحُّ النَّقْلُ فِيهِ وَالنِّكَاحَ لَا يَصِحُّ النَّقْلُ فِيهِ إلَى غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِيهِ, وَلَيْسَ الْوَصِيُّ كَالْوَكِيلِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ; لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَأَمْرُهُ بَاقٍ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ وَأَمْرُ الْمَيِّتِ مُنْقَطِعٌ فِيمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ النَّقْلُ وَهُوَ النِّكَاحُ, فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُزَوِّجُ عِنْدَكُمْ الصَّغِيرَيْنِ مَعَ عَدَمِ الْمِيرَاثِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْحَاكِمَ قَائِمٌ مَقَامَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ, وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ مِيرَاثِ الصَّغِيرَيْنِ وَهُمْ بَاقُونَ, فَاسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَالْوَكِيلِ لَهُمْ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مِيرَاثِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِهِ وَرِثَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ تَزْوِيجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةِ مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ, إذْ كَانَ هُوَ أَقْرَبَ الْأَوْلِيَاءِ, وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا شَيْئًا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ تَزْوِيجَ الْآبَاءِ عَلَى الصِّغَارِ لَا يَجُوزُ, وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَصَمِّ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْمَذْهَبِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فَحَكَمَ بِصِحَّةِ طَلَاقِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ, وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ, فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ جَوَازَ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ, زَوَّجَهَا إيَّاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ; وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ تَزْوِيجِ الْأَبِ الصَّغِيرَةَ, وَالْآخَرُ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَيِّرْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} , فَإِنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: "مَعْنَاهُ انْكِحُوا نِكَاحًا طَيِّبًا". وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مَالِكٍ: "مَا أَحَلَّ لَكُمْ". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا طَابَ} الْمَصْدَرَ, كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْكِحُوا مِنْ النِّسَاءِ الطَّيِّبَ, أَيْ الْحَلَالَ, قَالَ: وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ "مَا" وَلَمْ يَقُلْ "مَنْ". وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فَإِنَّهُ إبَاحَةٌ لِلثِّنْتَيْنِ إنْ شَاءَ وَلِلثَّلَاثِ إنْ شَاءَ وَلِلرُّبَاعِ إنْ شَاءَ, عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَجْمَعَ فِي هَذِهِ الْأَعْدَادِ مَنْ شَاءَ; قَالَ: فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ اقْتَصَرَ مِنْ الْأَرْبَعِ عَلَى الثَّلَاثِ, فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ اقْتَصَرَ مِنْ الثَّلَاثِ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ, فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدَةِ. وَقِيلَ: إنَّ" الْوَاوَ" هَهُنَا بِمَعْنَى" أَوْ" كَأَنَّهُ قَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ. وَقِيلَ أَيْضًا فِيهِ: إنَّ" الْوَاوَ" عَلَى حَقِيقَتِهَا وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ, كَأَنَّهُ قَالَ: وَثُلَاثَ بَدَلًا مِنْ مَثْنَى, وَرُبَاعَ بَدَلًا مِنْ ثُلَاثَ, لَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَعْدَادِ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ لَوْ قِيلَ: إنَّ" أَوْ" لَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ الثُّلَاثُ لِصَاحِبِ الْمَثْنَى وَلَا الرُّبَاعُ لِصَاحِبِ الثُّلَاثِ, فَأَفَادَ ذِكْرُ" الْوَاوِ" إبَاحَةَ الْأَرْبَعِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْخِطَابِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَثْنَى دَاخِلٌ فِي الثُّلَاثِ وَالثُّلَاثَ فِي الرُّبَاعِ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْدَادِ مُرَادٌ مَعَ الْأَعْدَادِ الْأُخَرِ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ, فَتَكُونُ تسعا; وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 9-10] إلَى قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] وَالْمَعْنَى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِالْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَدِيًّا, ثُمَّ قَالَ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَصَارَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا ثَمَانِيَةً, وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] فَكَذَلِكَ الْمَثْنَى دَاخِلٌ فِي الثُّلَاثِ وَالثُّلَاثُ فِي الرُّبَاعِ, فَجَمِيعُ مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ مِنْ الْعَدَدِ أَرْبَعٌ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا. وَهَذَا الْعَدَدُ إنَّمَا هُوَ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ: "لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] إنَّمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْرَارِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ لِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَأَنَّ الْمَوْلَى أَمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ; لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَهُ وَهُوَ كَارِهٌ لَجَازَ عَلَيْهِ وَلَوْ تزوج هو

بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهُ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ" , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْآيَةِ, فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي الْأَحْرَارِ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ لِلرِّقِّ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ الْمُقَدَّرَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ, فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ النِّصْفُ مِمَّا لِلْحُرِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ, وَلَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافُهُ فِيمَا نَعْلَمُهُ. وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَيُطَلِّقُ اثْنَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ, فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَشَهْرٌ وَنِصْفٌ". وَرَوَى الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: "أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ امْرَأَتَيْنِ". وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: "لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ". وَرَوَى حَمَّادُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ قَالَا: "لَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ", وَشُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ", وَابْنُ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَعْلَمُ مَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ مِنْ النِّسَاءِ؟ فَقَالَ رِجْلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا, فَقَالَ عُمَرُ: كَمْ؟ قَالَ: اثْنَتَيْنِ, فَسَكَتَ; وَمَنْ يُشَاوِرُ عُمَرُ وَيَرْضَى بِقَوْلِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ. وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: "اجْتَمَعَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ, وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ نُظَرَائِهِمْ قَالَ: إنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا, فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مَحْجُوجًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ أَبِي وَهْبٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَرْبَعًا" وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيُ. قِيلَ لَهُ إسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَهُوَ أَبُو وَهْبٍ, وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَقَاوِيلَهُمْ وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ; وَقَدْ ذَكَرَ الْحَكَمُ وَهُوَ مِنْ جُلَّةِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ إجْمَاعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ, لِمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] وَالْمُرَادُ مَيْلُ الْقَلْبِ, وَالْعَدْلُ الَّذِي يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إظْهَارُ الْمَيْلِ بِالْفِعْلِ, فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ إذَا خَافَ إظْهَارَ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ وَمُجَانَبَةَ الْعَدْلِ. وَقَوْلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إبَاحَةِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بعقد النكاح: {أَوْ مَا مَلَكَتْ

أَيْمَانُكُمْ} يَقْتَضِي حَقِيقَتَهُ وَظَاهِرُهُ إيجَابُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَرْبَعِ حَرَائِرَ وَأَرْبَعِ إمَاءَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ, فَيُوجِبُ ذَلِكَ تَخْيِيرَهُ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُضَمَّنٌ بِمَا قَبْلَهُ, وَفِيهِ ضَمِيرٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ, وَضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا فِي الْخِطَابِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا إضْمَارُ مَعْنًى لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ, فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الْوَطْءَ, فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: قَدْ أَبَحْت لَكُمْ وَطْءَ مِلْكِ الْيَمِينِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْوَطْءِ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْعَقْدِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ضَمِيرَهُ, أَوْ فَانْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ, وَذَلِكَ النِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ, فَالضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَيْهِ أَيْضًا هُوَ الْعَقْدُ دُونَ الْوَطْءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ اسْمًا لِلْوَطْءِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} صَارَتْ كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ, فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْوَطْءَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْعَقْدَ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ هَذَا; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَدِيًّا فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ بِهِ ضَمِيرًا فِيهِ, فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْعَقْدُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَاعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ فِيمَا طَابَ لَكُمْ, فَإِذَا أَضْمَرَهُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ كَانَ الضَّمِيرُ هُوَ الْعَقْدُ; إذْ لَمْ يَجُزْ لِلْوَطْءِ ذِكْرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَلَا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ, فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إضْمَارُ الْوَطْءِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ النِّكَاحِ قَدْ يَتَنَاوَلُهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ النِّكَاحِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِهَا وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ذَلِكَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ وَطْئًا لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ مَجَازًا حَقِيقَةً; لِأَنَّ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مَجَازًا وَالْآخَرُ حَقِيقَةً, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُهُ عَقْدَ النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا فِي الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَهُ هُوَ الْوَطْءُ دُونَ الْعَقْدِ إضَافَتُهُ لِمِلْكِ الْيَمِينِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ, وَمَعْلُومٌ اسْتِحَالَةُ تَزَوُّجِهِ بِمِلْكِ يَمِينِهِ وَيَجُوزُ لَهُ وَطْءُ مِلْكِ يَمِينِهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْوَطْءُ دُونَ الْعَقْدِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا أَضَافَ مِلْكَ الْيَمِينِ إلَى الْجَمَاعَةِ كَانَ الْمُرَادُ نِكَاحَ مِلْكِ يَمِينِ الْغَيْرِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فَأَضَافَ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مِلْكِ أَيْمَانِهِمْ إلَيْهِمْ, وَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي إبَاحَةِ تَزْوِيجِ مِلْكِ غَيْرِهِ, كَذَلِكَ قَوْله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى; فَلَيْسَ إذًا فِيمَا ذَكَرْت دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إضْمَارٍ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْخِطَابِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ.

وَفِيمَا وُصِفَ دَلِيلٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ بَيْنِ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ لِمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً; لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ, أَحَدُهُمَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ لِوُقُوعِ اسْمِ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ فِي التَّزْوِيجِ, وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَذَلِكَ عُمُومٌ شَامِلٌ لِلْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَمَّا قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنَ وَمُجَاهِدًا وَأَبَا رَزِينٍ وَالشَّعْبِيَّ وَأَبَا مَالِكٍ وَإِسْمَاعِيلَ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "يَعْنِي لَا تَمِيلُوا عَنْ الْحَقِّ". وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ: "ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا: أَنْ لَا تَمِيلُوا". وَأَنْشَدَ عِكْرِمَةُ شِعْرًا لِأَبِي طَالِبٍ: بِمِيزَانِ صِدْقٍ لَا يَخِسُّ شَعِيرَةً ... وَوِزَانِ قِسْطٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ قَالَ: غَيْرُ مَائِلٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الْعَوْلِ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ, فَالْعَوْلُ فِي الْفَرِيضَةِ مُجَاوَزَةُ حَدِّ السِّهَامِ الْمُسَمَّاةِ, وَالْعَوْلُ الْمَيْلُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْعَدْلِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الْعَدْلِ, وَعَالَ يَعُولُ إذَا جَارَ, وَعَالَ يَعِيلُ إذَا تَبَخْتَرَ, وَعَالَ يَعِيلُ إذَا افْتَقَرَ, حَكَى لَنَا ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} مَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ; قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ. وَقَدْ خَطَّأَهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَكُلِّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَمِيلُوا وَأَنْ لَا تَجُورُوا, وَأَنَّ هَذَا الْمَيْلَ هُوَ خِلَافُ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقَسْمِ بَيْنَ النَّاسِ. وَالثَّانِي: خَطَّأَهُ فِي اللُّغَةِ; لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي كَثْرَةِ الْعِيَالِ" عَالَ يَعُولُ" ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ, وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: أَنْ لَا تَعُولُوا, قَالَ: أَنْ لَا تَجُورُوا, يُقَالُ: عِلْت عَلَيَّ أَيْ جُرْت. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ ذَكَرَ الْوَاحِدَةَ أَوْ مِلْكَ الْيَمِينِ, وَالْإِمَاءُ فِي الْعِيَالِ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ مِنْ الْعَدَدِ مَنْ شَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كَثْرَةَ الْعِيَالِ وَأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ; إذْ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا; إذْ لَا قَسْمَ لِلْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ; والله أعلم.

بَابُ هِبَةِ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ لِزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قَالَا: "فَرِيضَةٌ", كَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى نِحْلَةِ الدَّيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ فُرِضَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ إذَا زَوَّجَ مُوَلِّيَتَهُ أَخَذَ صَدَاقَهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ", فَجَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ لَا يَحْبِسُوا عَنْهُنَّ الْمُهُورَ إذَا قَبَضُوهَا. إلَّا أَنَّ مَعْنَى النِّحْلَةِ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ فِي أَنَّهَا فَرِيضَةٌ, وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمَوَارِيثِ {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} . قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً وَالنِّحْلَةُ فِي الْأَصْلِ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا; لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ هُوَ قَبْلَهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ؟ فَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ مِنْ قِبَلِهَا عِوَضًا يَمْلِكُهُ, فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِإِزَائِهَا بَدَلٌ; وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ لَا الْمِلْكُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ المثنى في قوله تعالى: {نِحْلَةً} يَعْنِي: بِطِيبَةِ أَنْفُسِكُمْ, يَقُولُ: لَا تُعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ وَلَكِنْ آتَوْهُنَّ ذَلِكَ وَأَنْفُسُكُمْ بِهِ طَيِّبَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ لَهُنَّ دُونَكُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَمَّاهُ نِحْلَةً; لِأَنَّ النِّحْلَةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ وَلَيْسَ يَكَادُ يَفْعَلُهَا النَّاحِلُ إلَّا مُتَبَرِّعًا بِهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ, فَأُمِرُوا بِإِيتَاءِ النِّسَاءِ مُهُورَهُنَّ بِطِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَالْعَطِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُعْطِي بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ لِلْمَخْلُوِّ بِهَا لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ لَهُ, وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فَإِنَّهُ يَعْنِي عَنْ الْمَهْرِ, لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إيتَاءَهَا مَهْرَهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ. قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ فَهُوَ حَلَالٌ". وَقَالَ عَلْقَمَةُ لِامْرَأَتِهِ: أَطْعِمِينِي مِنْ الْهَنِيءِ الْمَرِيءِ. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا وَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ لَهُ لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ. وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ لِلزَّوْجِ وَالْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ فِي أخذه بقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . وَمِنْهَا تَسَاوِي حَالِ قَبْضِهَا لِلْمَهْرِ وَتَرْكِ قَبْضِهَا فِي جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ, وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِيمَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَهْرِ, إمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَضًا بِعَيْنِهِ فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ أَوْ دَرَاهِمَ قَدْ قَبَضَتْهَا, فَأَمَّا دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ هِبَتِهَا لَهُ; إذْ لَا يُقَالُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ كُلْهُ هَنِيئًا مَرِيئًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ دُونَ مَا لَا يَتَأَتَّى; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمَهْرِ إذَا كَانَ شَيْئًا مَأْكُولًا, وَقَدْ عُقِلَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمَأْكُولِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} عَامٌّ فِي الْمُهُورِ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ, وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} شَامِلٌ لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَأْمُورِ بِإِيتَائِهَا. فَدَلَّ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِلَفْظِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ جَوَازُ اسْتِبَاحَتِهِ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَهُوَ عُمُومٌ فِي النَّهْيِ عَنْ سَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْأَعْيَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ, وَشَامِلٌ لِلنَّهْيِ فِي أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ, وَلَيْسَ الْمَأْكُولُ بِأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْأَكْلُ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُبْتَغَى لَهُ الْأَمْوَالُ, إذْ بِهِ قِوَامُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ, وَفِي ذِكْرِهِ لِلْأَكْلِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا دُونَهُ, وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فَخُصَّ الْبَيْعُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ مَا عَدَاهُ مِنْ سَائِرِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ بِمَثَابَتِهِ فِي النَّهْيِ; لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَيْعِ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِهِمْ فِي السَّعْيِ فِي طَلَبِ مَعَايِشِهِمْ, فَعُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إرَادَةُ مَا هُوَ دُونَهُ وَأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ; إذْ قَدْ نَهَاهُمْ عَمَّا هُمْ إلَيْهِ أَحْوَجُ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ أَشَدُّ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فَخُصَّ اللَّحْمُ بِذِكْرِ التَّحْرِيمِ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ مِثْلُهُ; لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُرَادُ مِنْهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ, فَكَانَ فِي تَحْرِيمِهِ أَعْظَمُ مَنَافِعِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا دُونَهُ, فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} قَدْ اقْتَضَى جَوَازَ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا جَازَتْ هِبَتُهَا لِلْمَهْرِ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا مُعَيَّنًا فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا كَانَ دَيْنًا; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ تَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا, فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فِيهِ; وَلِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا جَازَتْ هِبَةُ الْمَرْأَةِ لِلْمَهْرِ وَهُوَ دَيْنٌ, وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَرَاءَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِنَفْسِ الْهِبَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ وَأَسْقَطَهُ عَنْ ذِمَّتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ مَالًا فَقَبَضَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِلِسَانِهِ قَدْ قَبِلْت; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ أَكْلَ مَا وَهَبَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبُولِ, بَلْ يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ

بِحَضْرَتِهِ حِينَ وَهَبَهُ قَبُولًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ" قَدْ طِبْت لَك نَفْسًا عَنْ مَهْرِي" وَأَرَادَتْ الْهِبَةَ وَالْبَرَاءَةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ وَاجْتَمَعَ لَهَا عَقْلُهَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَجُوزُ أَمْرُ الْبِكْرِ فِي مَالِهَا وَلَا مَا وَضَعَتْ عَنْ زَوْجِهَا مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى أَبِيهَا فِي الْعَفْوِ عَنْ زَوْجِهَا, وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا ذَلِكَ" قَالَ: "وَبَيْعُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ دَارَهَا وَخَادِمَهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَرِهَ الزَّوْجُ إذَا أَصَابَتْ وَجْهَ الْبَيْعِ, فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا, وَإِنْ تَصَدَّقَتْ أَوْ وَهَبَتْ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ" قَالَ مَالِكٌ: "وَالْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فِي مَالِهَا كَالرَّجُلِ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا تَجُوزُ عَطِيَّةُ الْمَرْأَةِ حَتَّى تَلِدَ وَتَكُونَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً". وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ وَلَا صَدَقَتُهَا إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْآيَةُ قَاضِيَةٌ بِفَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الَّذِي قَدَّمْنَا, لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَلَا بَيْنَ مَنْ أَقَامَتْ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً أَوْ لَمْ تُقِمْ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ حُكْمِ الْآيَةِ فِي الثَّيِّبِ دُونَ الْبِكْرِ; وَأَجَازَ مَالِكٌ هِبَةَ الْأَبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهَا جَمِيعَ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَهَبْ هِيَ شَيْئًا مِنْهُ لَهُ, فَالْآيَةُ قَاضِيَةٌ بِبُطْلَانِ هِبَةِ الْأَبِ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيتَاءِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ, وَلَمْ يَشْرُطْ اللَّهُ تَعَالَى طِيبَةَ نَفْسِ الْأَبِ, فَمَنَعَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِهَا وَأَجَازَ مَا حَظَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسِهَا بِهِبَةِ الْأَبِ. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُهَا الْهِبَةَ مَعَ اقْتِضَاءِ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِجَوَازِهَا. وَالثَّانِي: جَوَازُ هِبَةِ الْأَبِ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ الزَّوْجَ بِإِعْطَائِهَا الْجَمِيعَ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسًا بِتَرْكِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَمُنِعَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا بِرِضَاهَا بِالْفِدْيَةِ فَقَدْ شَرَطَ رِضَا الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنِّسَاءِ: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ", وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ, وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ; وَلِأَنَّ هَذَا حَجْرٌ وَلَا يَصِحُّ الْحَجْرُ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السُّفَهَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا يَقْسِمُ الرَّجُلُ مَالَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ فَيَصِيرَ عِيَالًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ; إذْ هُمْ عِيَالٌ لَهُ, وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ"; فَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمُقْتَضَى حَقِيقَتِهَا; لِأَنَّ قَوْله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ} يَقْتَضِي خِطَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْ دَفْعِ مَالِهِ إلَى السُّفَهَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِهِ, لِعَجْزِ هَؤُلَاءِ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ, وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ الَّذِينَ لَا يُكْمِلُونَ لِحِفْظِ الْمَالِ. وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي حَيَاتِهِ بِمَالِهِ وَيَجْعَلَهُ فِي يَدِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ, وَأَنْ لَا يُوصِيَ بِهِ إلَى أَمْثَالِهِمْ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ إذَا كَانُوا صِغَارًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ إلَّا إلَى أَمِينٍ مُضْطَلِعٍ بِحِفْظِهِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ حِفْظِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قِوَامَ أَجْسَادِنَا بِالْمَالِ, فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ ثُمَّ حِفْظُ مَا بَقِيَ وَتَجَنُّبِ تَضْيِيعِهِ, وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي إصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ, مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26-27] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَتَحْصِينِ الدُّيُونِ بِالشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابِ وَالرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَكُمْ قَوَامًا عَلَيْهَا فَلَا تَجْعَلُوهَا فِي يَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَرَادَ: لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ, وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يَعْنِي: لَا يَقْتُلُ بعضكم بَعْضًا, وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] يُرِيدُ: مَنْ يَكُونُ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ السُّفَهَاءُ مَحْجُورًا عَلَيْهِمْ فَيَكُونُونَ مَمْنُوعِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى أَنْ يَزُولَ السَّفَهُ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السُّفَهَاءِ هَهُنَا, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "السَّفِيهُ مِنْ وَلَدِك وَعِيَالِك" وَقَالَ: "الْمَرْأَةُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: "النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ". وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "كُلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ سَفِيهٍ فِي الْمَالِ مِنْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ". وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا, وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وَرَجُلٌ دَايَنَ رَجُلًا فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ". وَقِيلَ إنَّ أَصْلَ السَّفَهِ خِفَّةُ الْحِلْمِ, وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاسِقُ سَفِيهًا; لِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ, وَيُسَمَّى النَّاقِصُ الْعَقْلِ سَفِيهًا لِخِفَّةِ عَقْلِهِ; وَلَيْسَ السَّفَهُ فِي هَؤُلَاءِ صِفَةَ ذَمٍّ وَلَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِصْيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى, وَإِنَّمَا سُمُّوا سُفَهَاءَ لِخِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ نَهَبَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ الْمَالَ, وَقَدْ أَرَادَ بَشِيرٌ أَنْ يَهَبَ لِابْنِهِ النُّعْمَانِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ إلَّا; لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ سَائِرَ بَنِيهِ مِثْلَهُ, فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ السُّفَهَاءِ أَمْوَالَنَا؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ التَّمْلِيكَ وَهِبَةَ الْمَالِ, وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ نَجْعَلَ الْأَمْوَالَ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مُضْطَلِعِينَ بِحِفْظِهَا, وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَهَبَ الصَّغِيرَ وَالْمَرْأَةَ كَمَا يَهَبُ الْكَبِيرَ الْعَاقِلَ وَلَكِنَّهُ يَقْبِضُهُ لَهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ وَيَحْفَظُ مَالَهُ وَلَا يُضَيِّعُهُ, وَإِنَّمَا مَنَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ أَنْ نَجْعَلَ أَمْوَالَنَا فِي أَيْدِي الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ الَّتِي لَا يَكْمُلْنَ بِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} يَعْنِي وَارْزُقُوهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ; لِأَنَّ "فِي" هَهُنَا بِمَعْنَى "مِنْ" إذْ كَانَتْ حُرُوفُ الصِّفَاتِ تَتَعَاقَبُ فَيَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ, كَمَا قَالَ تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وَهُوَ بِمَعْنَى "مَعَ" فَنَهَانَا اللَّهُ عَنْ دَفْعِ الْأَمْوَالِ إلَى السُّفَهَاءِ الَّذِينَ لَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهَا وَأَمَرَنَا بِأَنْ نَرْزُقَهُمْ مِنْهَا وَنَكْسُوَهُمْ. فَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنْ إعْطَائِهِمْ مَالَنَا عَلَى مَا اقْتَضَى ظَاهِرُهَا فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ السُّفَهَاءِ وَالزَّوْجَاتِ لِأَمْرِهِ إيَّانَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِنَا; وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مُرَادَهَا أَنْ لَا نُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَهُمْ سُفَهَاءُ, فَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحَجْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَالثَّانِي: إجَازَتُهُ تَصَرُّفَنَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَشِرَى أَقْوَاتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} , قال مجاهد وابن جريج: {قَوْلاً مَعْرُوفاً} عِدَةً جَمِيلَةً بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وَيَحْسُنُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إجْمَالَ الْمُخَاطَبَةِ لَهُمْ وَإِلَانَةَ الْقَوْلِ فِيمَا يُخَاطَبُونَ بِهِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا

تَقْهَرْ} [الضحى:9] وَكَقَوْلِهِ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء:28] وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هَهُنَا التَّأْدِيبَ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى الرُّشْدِ وَالصَّلَاحِ وَالْهِدَايَةِ لِلْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: إذَا أَعْطَيْتُمُوهُمْ الرِّزْقَ وَالْكِسْوَةَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَنْ تُجْمِلُوا لَهُمْ الْقَوْلَ وَلَا تُؤْذُوهُمْ بِالتَّذَمُّرِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إجْمَالَ اللَّفْظِ وَتَرْكَ التَّذَمُّرِ وَالِامْتِنَانِ; وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] . وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} والله أعلم.

بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَرَنَا بِاخْتِبَارِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ; لِأَنَّ" حَتَّى غَايَةٌ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ, فَدَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُ فِي التِّجَارَةِ; لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ فِي الْعِلْمِ بِالتَّصَرُّفِ وَحِفْظِ الْمَالِ وَمَتَى أُمِرَ بِذَلِكَ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: جَائِزٌ لِلْأَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الشِّرَى وَالْبَيْعَ, وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيُّ أَبٍ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "لَا أَرَى إذْنَ الْأَبِ, وَالْوَصِيَّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ جَائِزًا, وَإِنْ لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ دَيْنٌ لَمْ يَلْزَمْ الصَّبِيَّ مِنْهُ شَيْءٌ". وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ فِي الْإِقْرَارِ: وَمَا أَقَرَّ بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْآدَمِيِّ أَوْ حَقٍّ فِي مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَلِيُّهُ مَنْ كَانَ أَوْ حَاكِمٌ, وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ, فَإِنْ فَعَلَ فَإِقْرَارُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ, وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ مَفْسُوخٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} وَالِابْتِلَاءُ هُوَ اخْتِبَارُهُمْ فِي عُقُولِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَحَزْمِهِمْ فِيمَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ, فَهُوَ

عَامٌّ فِي سَائِرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالِاخْتِبَارِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ, وَالِاخْتِبَارُ فِي اسْتِبْرَاءِ حَالِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى وَضَبْطُ أُمُورِهِ وَحِفْظُ مَالِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِذْنٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ, وَمَنْ قَصَرَ الِابْتِلَاءَ عَلَى اخْتِبَارِ عَقْلِهِ بِالْكَلَامِ دُونَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ وَحِفْظِ الْمَالِ فَقَدْ خَصَّ عُمُومَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِذْنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي حَالِ الصِّغَرِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَإِنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ, وَلَوْ جَازَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي صِغَرِهِ لَجَازَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ; لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى, وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِغَيْرِ مَالٍ فِي يَدِهِ كَمَا يَأْذَنُ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ مَالٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ; فَنَقُولُ: إنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ الْأَمْرَ بِابْتِلَائِهِ, وَمِنْ الِابْتِلَاءِ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا, ثُمَّ إذَا بَلَغَ وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ رُشْدُهُ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ, وَلَوْ كَانَ الِابْتِلَاءُ لَا يَقْتَضِي اخْتِبَارَهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الشِّرَى وَالْبَيْعِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءِ حَالٍ فِي ضَبْطِهِ وَعِلْمِهِ بِالتَّصَرُّفِ لِمَا كَانَ لِلِابْتِلَاءِ وَجْهٌ قَبْلَ الْبُلُوغِ; فَلَمَّا أَمَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِبَارُ أَمْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ, وَلِأَنَّ اخْتِبَارَ صِحَّةِ عَقْلِهِ لَا يُنَبِّئُ عَنْ ضَبْطِهِ لِأُمُورِهِ وَحِفْظِهِ لِمَالِهِ وَعِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى, وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ فِي اسْتِبْرَاءِ أَمْرِهِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَالْعِلْمِ بِالتَّصَرُّفِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِابْتِلَاءُ الْمَأْمُورُ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ مَأْمُورًا بِذَلِكَ لَا لِاخْتِبَارِ صِحَّةِ عَقْلِهِ فَحَسْبُ. وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ; لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَالِابْتِلَاءُ إذًا سَاقِطٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, فَلَا يَخْلُو بَعْدَ الْبُلُوغِ مَتَى أَرَدْنَا التَّوَصُّلَ إلَى إينَاسِ رُشْدِهِ مِنْ أَنْ نَخْتَبِرَهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ لَا نَخْتَبِرُهُ بِذَلِكَ, فَإِنْ وَجَبَ اخْتِبَارُهُ فَقَدْ أَجَزْت لَهُ التَّصَرُّفَ وَهُوَ عِنْدَك مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى إينَاسِ الرُّشْدِ, فَإِنْ جَازَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَقَدْ أَخْرَجْته مِنْ الْحَجْرِ وَإِنْ لَمْ يُخْرَجْ مِنْ الْحَجْرِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ, فَهَلَّا أَذِنْت لَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي التِّجَارَةِ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ كَمَا يُسْتَبْرَأُ حَالُهُ بِالْإِذْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ بَقَاءِ الْحَجْرِ إلَى إينَاسِ الرُّشْدِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَبْرَأْ حَالُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِالْإِذْنِ فَكَيْفَ يُعْلَمُ إينَاسُ الرُّشْدِ مِنْهُ؟ فَقَوْلُ الْمُخَالِفِ لَا يَخْلُو مِنْ تَرْكِ الِابْتِلَاءِ أَوْ دَفْعِ الْمَالِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ بِتَزْوِيجِ أُمِّ سَلَمَةَ إيَّاهُ, وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: أَنَّهُ أَمَرَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ صَغِيرٌ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ الذي يملكه

عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَى; أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْتَضِي جَوَازَ تَوْكِيلِ الْأَبِ إيَّاهُ بِشِرَى عَبْدٍ لِلصَّغِيرِ أَوْ بَيْعِ عَبْدٍ لَهُ؟ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} عَلَى اخْتِبَارِهِمْ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ, فَإِنَّ اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي دَفْعِ الْمَالِ غَيْرُ وَاجِبٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا فَاسِقًا ضَابِطًا لِأُمُورِهِ عَالِمًا بِالتَّصَرُّفِ فِي وُجُوهِ التِّجَارَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مَالَهُ لِأَجْلِ فِسْقِهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ; وَإِنْ كَانَ رَجُلًا ذَا دِينٍ وَصَلَاحٍ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَالِهِ يَغْبِنُ فِي تَصَرُّفِهِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ مَالِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ لِقِلَّةِ الضَّبْطِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فَإِنْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدًا وَالسُّدِّيَّ قَالُوا: "هُوَ الْحُلُمُ" وهو بلوغ حال النكاح من الاحتلام.

مطلب في تفسير الرشد وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "فَإِنْ عَلِمْتُمْ مِنْهُمْ ذَلِكَ". وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْإِينَاسِ هُوَ الْإِحْسَاسُ, حُكِيَ عَنْ الْخَلِيلِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] يَعْنِي أَحْسَسْتهَا وَأَبْصَرْتهَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الرُّشْدِ هَهُنَا, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: "الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ" وَحِفْظِ الْمَالِ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ: "الْعَقْلُ". وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} قَالَ: "إذَا أَدْرَكَ بِحُلُمٍ وَعَقْلٍ وَوَقَارٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ اسْمُ الرُّشْدِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْلِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ رُشْدًا مَنْكُورًا وَلَمْ يَشْرُطْ سَائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ, اقْتَضَى ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ بِوُجُودِ الْعَقْلِ مُوجِبًا لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَمَانِعًا مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ; فَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي إبْطَالِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ, وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي حَنِيفَةَ; وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ البقرة. وقوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَهُوَ نَظِيرُ قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِيهَا أَيْضًا, وَتَقْدِيرُهُ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ إذَا بَلَغُوا وَآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا.

مطلب في أن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور من إفراط أو تقصير وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} فَإِنَّ السَّرَفَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ الْمُبَاحِ إلَى الْمَحْظُورِ, فَتَارَةً يَكُونُ السَّرَفُ فِي التَّقْصِيرِ وَتَارَةً فِي الْإِفْرَاطِ لِمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَائِزِ فِي الْحَالَيْنِ. وقَوْله تعالى: {وَبِدَاراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: "مُبَادَرَةً" وَالْمُبَادَرَةُ الْإِسْرَاعُ فِي الشَّيْءِ, فَتَقْدِيرُهُ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُبَادَرَةً أَنْ يَكْبَرُوا فَيُطَالِبُوا بِأَمْوَالِهِمْ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي حَدِّ الْكِبَرِ اسْتَحَقَّ الْمَالَ إذَا كَانَ عَاقِلًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِطَ إينَاسُ الرُّشْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ, وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إمْسَاكُ مَالِهِ بَعْدَمَا يَصِيرُ فِي حَدِّ الْكِبَرِ, وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْكِبَرِ هَهُنَا مَعْنًى; إذْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَالِهِ قَبْلَ الْكِبَرِ وَبَعْدَهُ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي حَدِّ الْكِبَرِ اسْتَحَقَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ. وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ حَدَّ الْكِبَرِ فِي ذَلِكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً; لِأَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ جَدًّا, وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ جَدًّا وَلَا يَكُونُ فِي حَدِّ الْكِبَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ أَكْلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ, فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنَّ فِي حِجْرِي أَيْتَامًا لَهُمْ أَمْوَالٌ, وَهُوَ يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْت تَهْنَأُ جَرْبَاءَهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: أَلَسْت تَبْغِي ضَالَّتَهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: أَلَسْت تَلُوطُ حِيَاضَهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: أَلَسْت تَفْرُطُ عَلَيْهَا يَوْمَ وُرُودِهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: فَاشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا غَيْرَ نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ وَلَا مُضِرٍّ بِنَسْلٍ. وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْوَصِيُّ إذَا احْتَاجَ وَضَعَ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ وَلَا يَكْتَسِي عِمَامَةً". فَشَرَطَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ, وَلَمْ يَشْرُطْ فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَيْرِ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فَقَالُوا: فِينَا نَزَلَتْ, إنَّ الْوَصِيَّ كَانَ إذَا عَمِلَ فِي نَخْلِ الْيَتِيمِ كَانَتْ يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ. وَقَدْ طُعِنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ, وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُمْ الْأَكْلُ لِأَجْلِ عَمَلِهِمْ لَمَا

اخْتَلَفَ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ, فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ سَاقِطٌ. وَأَيْضًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةُ الْأَكْلِ دُونَ أَنْ يَكْتَسِيَ مِنْهُ عِمَامَةً, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا لِعَمَلِهِ لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ الْمَأْكُولِ وَالْمَلْبُوسِ, فَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَكْلِ فَحَسْبُ إذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "يَأْخُذُهُ قَرْضًا ثُمَّ يَقْضِيهِ". وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "إنِّي أَنْزَلْت مَالَ اللَّهِ تَعَالَى مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْيَتِيمِ, إنْ اسْتَغْنَيْت اسْتَعْفَفْت وَإِنْ افْتَقَرْت أَكَلْت بِالْمَعْرُوفِ وَقَضَيْت". وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي وَائِلٍ وَمُجَاهِدٍ مِثْلُ ذَلِكَ, وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ قَرْضًا ثُمَّ يَقْضِيهِ إذَا وَجَدَ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: قَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمَكْحُولٌ: "إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ وَيُوَارِي الْعَوْرَةَ وَلَا يَقْضِي إذَا وَجَدَ". وَقَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ, فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِذَا لَمْ يُوسِرْ فَهُوَ فِي حِلٍّ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: وَهُوَ مَا رَوَى مِقْسَمٌ عن ابن عباس: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} قَالَ: بِغِنَاهُ {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: فَلْيُنْفِقْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى لَا يُصِيبَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَسَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْضِي. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ; وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ فِي إبِلِهِ شَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا, وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَقْضِي, وَالثَّالِثَةُ: لَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يَقُوتُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إلَى مَالِ الْيَتِيمِ, وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَاَلَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا, وَلَا يُقْرِضُهُ غَيْرَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَلَا نُحِبُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ, وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا. وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَا يَأْكُلُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ", وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ; وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْخُذُ قَرْضًا إذَا احْتَاجَ ثُمَّ يَقْضِيهِ, كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ مُقِيمًا, فَإِنْ خَرَجَ لِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُمْ أَوْ إلَى ضِيَاعٍ لَهُمْ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ وَيَكْتَسِيَ وَيَرْكَبَ, فَإِذَا رَجَعَ رَدَّ الثِّيَابَ وَالدَّابَّةَ إلَى الْيَتِيمِ" قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وقوله تعالى:

{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى: {ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَعَلَ أَبُو يُوسُفَ الْوَصِيَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمُضَارِبِ فِي جَوَازِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِهِ فِي السَّفَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: "وَمَنْ كَانَ لَهُ يَتِيمٌ فَخَلَطَ نَفَقَتَهُ بِمَالِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصِيبُ الْيَتِيمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصِيبُ وَلِيَّهُ مِنْ نَفَقَتِهِ فَلَا بَأْسَ, وَإِنْ كَانَ الْفَضْلُ لِلْيَتِيمِ فَلَا يَخْلِطُهُ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَقَالَ الْمُعَافَى عَنْ الثَّوْرِيِّ: "يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ الْيَتِيمِ وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ"; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ مَالِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا يُعْجِبْنِي أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ مَالِهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْيَتِيمِ فِيهِ ضَرَرٌ, نَحْوُ اللَّوْحِ يَكْتُبُ فِيهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: "يَسْتَقْرِضُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ ثُمَّ يَقْضِيهِ, وَيَأْكُلُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِيهِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالصَّبِيِّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَهَذِهِ الْآيُ مُحْكَمَةٌ حَاظِرَةٌ لِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَلِيِّهِ فِي حَالِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ, وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} مُتَشَابِهٌ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا; فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهَا حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ الْآيِ الْمُحْكَمَةِ, وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى مَالِ الْيَتِيمِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَنَهَانَا عَنْ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ لَهُ إلَى الْمُحْكَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ مَالِ الْيَتِيمِ قَرْضًا أَوْ غَيْرَ قَرْضٍ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْمُحْكَمِ, وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ رَدَّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ فَهُوَ أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ: قَوْله تَعَالَى {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} مَنْسُوخٌ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ عَطِيَّةَ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} . وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَرَوَى عِيسَى بْنُ عُبَيْدِ الْكِنْدِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْن مُزَاحِمٍ فِي قَوْله تعالى:

{وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ وَلِي يَتِيمٌ؟ فَقَالَ: "كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِك غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالَك بِمَالِهِ" وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعَوْفِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْكُلُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مِنْهُ مَالًا". قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحَظْرِ مَالِ الْيَتِيمِ; فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ, وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً فَيَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ رِبْحِهِ, وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ نَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ رِبْحَ مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ بِهِ مُضَارَبَةً, فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ إذَا عَمِلَ فِيهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَهْنَأُ جَرْبَاءَ الْإِبِلِ وَيَبْغِي ضَالَّتَهَا وَيَلُوطُ حِيَاضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ حَلْبًا؟ وَكَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَصِيَّ كَانَ إذَا عَمِلَ فِي نَخْلِ الْيَتِيمِ كَانَتْ يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ; قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْوَصِيُّ إذَا أَعَانَ فِي الْإِبِلِ وَعَمِلَ فِي النَّخْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى وَجْهِ الْأُجْرَةِ لِعَمَلِهِ, أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْأُجْرَةِ وَالْعِوَضِ مِنْ الْعَمَلِ, فَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْأُجْرَةِ فَذَلِكَ يَفْسُدُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا ذَلِكَ لَهُ إنَّمَا أَبَاحُوهُ فِي حَالِ الْفَقْرِ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ, وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} وَاسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا ذَلِكَ لَمْ يَشْرُطُوا لَهُ شَيْئًا مَعْلُومًا, وَالْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أُجْرَةً, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أُجْرَةً, وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ إذَا عَمِلَ بِهِ الْوَصِيُّ; لِأَنَّ الرِّبْحَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَالًا لِلْيَتِيمِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَشْرُطُهُ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ, وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ مَشْرُوطًا لِلْمُضَارِبِ بَدَلًا مِنْ عَمَلِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْأُجْرَةِ الَّتِي هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ هِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الرِّبْحُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ مَضْمُونًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ, وَأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُضَارِبِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَرِيضًا لَوْ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ لِلْمُضَارِبِ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّبْحِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِ مِثْلِهِ, أَنَّ ذَلِكَ جائز, ولم

يُحْتَسَبْ بِالْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمَرِيضِ إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ; فَلَيْسَ إذًا فِي أَخْذِهِ رِبْحُ الْمُضَارَبَةِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ الْوَصِيُّ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْعُمَّالِ وَالْقُضَاةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ وَيَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ لِأَجْلِ عَمَلِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ جَازَ لَهُ أَخْذُ رِزْقِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ. قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا, وَقَدْ حَظَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْقُضَاةَ وَالْعُمَّالَ جَائِزٌ لَهُمْ أَخْذُ أَرْزَاقِهِمْ مَعَ الْغِنَى; فَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ يَجْرِي مَجْرَى رِزْقِ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي حَالِ الْغِنَى, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ رِزْقًا مِنْ مَالِهِ; وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا وَإِلَيْهِ الْقِيَامُ بِأَمْرِ الْأَيْتَامِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَيْتَامِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا يَأْخُذُهُ الْقَاضِي فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ رِزْقِ الْقَاضِي وَالْعَامِلِ وَبَيْنَ أَخْذِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ لِشَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَهُمْ أَخْذُ الْأَرْزَاقِ وَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ؟ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْفُتْيَا وَتَفْقِيهِ النَّاسِ فَرْضٌ, وَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْفُرُوضِ, وَالْمُقَاتَلَةِ وَذُرِّيَّتُهَا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ وَلَيْسَتْ بِأُجْرَةٍ, وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ; وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ مِنْ الْخُمْسِ وَالْفَيْءِ وَسَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ, وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَأْخُذُ الْأَجْرَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُومُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ, وَكَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ. وَيَدُلُّك عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْحُقُوقُ وَلَا يَأْخُذُونَهَا بَدَلًا مِنْ شَيْءٍ, فَأَخْذُ الْأُجْرَةِ لِلْقَاضِي وَلِمَنْ قَامَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ غَيْرُ جَائِزٍ, وَقَدْ مُنِعَ الْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ. وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] أَهْوَ الرِّشَا؟ قَالَ: "لَا, ذَاكَ كُفْرٌ إنَّمَا هُوَ هَدَايَا الْعُمَّالِ"; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ". فَالْقَاضِي مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ وَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ قَبُولُ الْهَدَايَا; وَتَأَوَّلَهَا السَّلَفُ عَلَى أَنَّهَا السُّحْتُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ لَا يَخْلُو فِيمَا

يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ أُجْرَةً أَوْ عَلَى سَبِيلِ رِزْقِ الْقَاضِي وَالْعَامِلِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُجْرَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ وَمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَجْرٍ مَعْلُومٍ, وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُ عَقْدُ إجَارَةٍ وَيَسْتَوِي فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ, وَمَنْ يُجِيزُ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ أَوْ عَلَى جِهَةٍ غَيْرِ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ أُجْرَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ عِنْدَهُمْ فِيهِ; فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَأْخُذُهُ الْقُضَاةُ مِنْ الْأَرْزَاقِ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ فِيمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْأَرْزَاقِ, وَاخْتِلَافُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ عِنْدَ مُجِيزِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَلِأَنَّ الرِّزْقَ إنَّمَا يَجِبُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي مَالِ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ النَّاسِ. فَالْمُشْبِهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ فِيمَا يُجِيزُ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِالْقَاضِي وَالْأَجِيرِ فِيمَا يَأْخُذُ أَنَّهُ مُغْفِلٌ لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَنَائِمِ خَيْبَرَ: "لَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِثْلُ هَذِهِ" يَعْنِي وَبَرَةً أَخَذَهَا مِنْ بَعِيرِهِ "إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ". فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرْنَا, فَالْوَصِيُّ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ دُخُولُ الْوَصِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أُجْرَةً, كَانَ بِمَنْزِلِ الْمُسْتَبْضَعِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْتَبْضَعِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْآيَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَمْرِ الْأَيْتَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبِيلَ الْأَيْتَامِ أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيُّ أَبٍ, أَوْ وَصِيُّ الْجَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ, أَوْ أَمِينُ حَاكِمٍ عَدْلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْأَمِينُ أَيْضًا عَدْلًا; وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْأَوْصِيَاءِ وَالْجَدِّ وَالْأَبِ وَكُلِّ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَلَى الصَّغِيرِ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا. فَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمُتَّهَمُ مِنْ الْآبَاءِ وَالْمُرْتَشِي مِنْ الْحُكَّامِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالْأُمَنَاءِ غَيْرِ الْمَأْمُونِينَ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ التَّصَرُّفُ عَلَى الصَّغِيرِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ نَعْلَمُهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشَا أَوْ مَيْلٍ إلَى هَوًى وَتَرَكَ الْحُكْمَ أَنَّهُ مَعْزُولٌ غَيْرُ جَائِزِ الْحُكْمِ؟ فَكَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَى أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ مِنْ قَاضٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ أَمِينٍ أَوْ حَاكِمٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ وِلَايَتِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى شَرْطِ الْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الْأَمَانَةِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَ الْأَيْتَامِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِمَا يَدْفَعُونَ إلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ; وَفِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ: أَحَدُهَا: الِاحْتِيَاطُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْيَتِيمِ وَوَالِي مَالِهِ, فَأَمَّا الْيَتِيمُ فَلِأَنَّهُ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِقَبْضِ الْمَالِ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ, وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَأَنْ يبطل دعوى

الْيَتِيمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ, كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبُيُوعِ احْتِيَاطًا لِلْمُتَبَايِعِينَ. وَوَجْهٌ آخَرُ فِي الْإِشْهَادِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُ أَدَاءَ أَمَانَتِهِ وَبَرَاءَةَ سَاحَتِهِ, كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلْتَقِطَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوِي عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ" , فَأَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ لِتَظْهَرَ أَمَانَتُهُ وتزول عنه التهمة; والله الموفق

ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَصْدِيقِ الْوَصِيِّ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْوَصِيِّ إذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ: "إنَّهُ يُصَدَّقُ" وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْفَقْت عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ, صُدِّقَ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ, وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَلَكَ الْمَالُ; وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ أَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْيَتِيمِ" وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, قَالَ: "لِأَنَّ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ غَيْرُ الَّذِي ائْتَمَنَهُ كَالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ" وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَا مُصَدَّقٍ فِيهِ; لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الْأَمَانَاتِ كَهُوَ فِي الْمَضْمُونَاتِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْأَمَانَاتِ مِنْ الْوَدَائِعِ كَمَا يَصِحُّ فِي أَدَاءِ الْمَضْمُونَاتِ مِنْ الدُّيُونِ؟ فَإِذًا لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيهِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُصَدَّقًا فِي الرَّدِّ فَمَا مَعْنَى الْإِشْهَادِ مَعَ قَبُولِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قِيلَ لَهُ: فِيهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ ظُهُورِ أَمَانَتِهِ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُ فِي زَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي أَنْ لَا يُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا قَدْ ظَهَرَ رَدُّهُ, وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْيَتِيمِ فِي أَنْ لَا يَدَّعِيَ مَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيهِ, وَفِيهِ أَيْضًا سُقُوطُ الْيَمِينِ عَنْ الْوَصِيِّ إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ; وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَادَّعَى الْيَتِيمُ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَصِيِّ مَعَ يَمِينِهِ, وَإِذَا أَشْهَدَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُضَمَّنَةٌ بِالْإِشْهَادِ وَإِنْ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إلَى الْيَتِيمِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ, فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ صَدَّقَهُ عَلَى الْهَلَاكِ لَمْ يُضَمِّنْهُ, كَمَا أَنَّ الْمُودِعَ إذَا صَدَّقَ الْمُودَعَ فِي هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ لَمْ يُضَمِّنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: "إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ الْأَيْتَامُ لَمْ يُصَدَّقُوا". فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ بَعِيدٌ مِنْ مَعَانِي الفقه منتقض

فَاسِدٌ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً لِنَفْيِ التَّصْدِيقِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَاضِي إذَا قَالَ لِلْيَتِيمِ: قَدْ دَفَعْته إلَيْك; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ. وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْأَبِ إذَا قَالَ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ: "قَدْ دَفَعْت إلَيْك مَالَك" أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ, وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانَ إذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ; لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ ائْتِمَانٍ لَهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ إيَّاهُ بِالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ فَتَشْبِيهٌ بَعِيدٌ, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي صَدَّقْنَا فِيهِ الْوَصِيُّ; لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُصَدَّقٌ أَيْضًا فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ, وَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ, فَأَمَّا فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ كَمَا صَدَّقْنَا الْوَصِيَّ عَلَى الرَّدِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَصِيَّ فِي مَعْنَى مَنْ يَتَصَرَّفُ عَلَى الْيَتِيمِ بِإِذْنِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَى كَجَوَازِ تَصَرُّفِ أَبِيهِ؟ فَإِذَا كَانَ إمْسَاكُ الْوَصِيِّ الْمَالَ بِائْتِمَانِ الْأَبِ لَهُ عَلَيْهِ وَإِذْنِ الْأَبِ جَائِزٌ عَلَى الصَّغِيرِ صَارَ كَأَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِإِذْنِهِ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُودَعِ. وقَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عُمُومًا وَمُجْمَلًا, فَأَمَّا الْعُمُومُ فَقَوْلُهُ: "لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ" وقَوْله تَعَالَى: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فَذَلِكَ عُمُومٌ فِي إيجَابِ الْمِيرَاثِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ, فَدَلَّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى إثْبَاتِ مَوَارِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالَ وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنْ الْأَقْرَبِينَ, فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ إثْبَاتُ مِيرَاثِهِمْ. إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قوله {نَصِيبٌ} مُجْمَلًا غَيْرَ مَذْكُورِ الْمِقْدَارِ فِي الْآيَةِ امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ إلَّا بِوُرُودِ بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ. إلَّا أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ مِيرَاثٍ لِذَوِي الْأَرْحَامِ سَائِغٌ, وَهَذَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] عَطْفًا عَلَى مَا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ. فَهَذِهِ أَلْفَاظٌ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ, فَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِهَا مَتَى اخْتَلَفْنَا فِيمَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ, وَهُوَ أَصْنَافُ الْأَمْوَالِ الْمُوجَبِ فِيهَا, وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمُجْمَلِ عِنْدَ اخْتِلَافِنَا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ; كَذَلِكَ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْمِيرَاثِ سَاغَ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الْآيَةَ; وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ احْتَجْنَا فِي إثْبَاتِهِ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} وَلَمْ يَكُنْ لِذَوِي الْأَرْحَامِ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ

عَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مُرَادِ الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: مَا ذَكَرْت لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ حُكْمِهَا وَكَوْنِهِمْ مُرَادِينَ بِهَا; لِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ مُوجِبِي مَوَارِيثِهِمْ هُوَ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, وَهُوَ مَعْلُومٌ مُقَدَّرٌ كَأَنْصِبَاءِ ذَوِي السِّهَامِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ; وَإِنَّمَا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مَفْرُوضًا غَيْرَ مَذْكُورِ الْمِقْدَارِ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِبَيَانٍ وَتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ لَهُ يَرِدُ فِي التَّالِي فَكَمَا وَرَدَ الْبَيَانُ فِي نَصِيبِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَذَوِي السِّهَامِ بَعْضُهَا بِنَصِّ التَّنْزِيلِ وَبَعْضُهَا بِنَصِّ السُّنَّةِ وَبَعْضُهَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَبَعْضُهَا بِالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ; كَذَلِكَ قَدْ وَرَدَ بَيَانُ أَنْصِبَاءِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهَا بِالسُّنَّةِ وَبَعْضُهَا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَبَعْضُهَا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَتْ الْآيَةُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ أَنْصِبَاءَ, فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ عُمُومِهَا فِيهِمْ وَوَجَبَ تَوْرِيثُهُمْ بِهَا. ثُمَّ إذَا اسْتَحَقُّوا الْمِيرَاثَ بِهَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِيهِمْ, فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي بَعْضِهَا فَقَدْ اتَّفَقُوا فِي الْبَعْضِ, وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ دَلِيلٍ لِلَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى حُكْمٍ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ, وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ, وَقَالَ غَيْرُهُمَا: إنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ إلَّا مَنْ طَاعَنَ بِالرُّمْحِ وَذَادَ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْمَالِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إبْطَالًا لِحُكْمِهِمْ, فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا فِي غَيْرِ مَا وَرَدَتْ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرْت غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْأَوْلَادِ وَذَوِي السِّهَامِ مِنْ الْقَرَابَاتِ الَّذِينَ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمْ فِي غَيْرِهَا, وَإِنَّمَا السَّبَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ الرِّجَالِ دُونَ الْإِنَاثِ; فَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْت إذًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ كَانَ تَوْرِيثَ الْأَوْلَادِ وَمَنْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا لَوْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ, بَلْ الْحُكْمُ لِلْعُمُومِ دُونَ السَّبَبِ عِنْدَنَا, فَنُزُولُهَا عَلَى سَبَبٍ وَنُزُولُهَا مُبْتَدَأَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ سَوَاءٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ مَعَ الْأَوْلَادِ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَقْرَبِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مِيرَاثَ الْأَوْلَادِ دُونَ سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ. وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ كَنَحْوِ احْتِجَاجِنَا بِهَا فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وقَوْله تَعَالَى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مَعْلُومًا مُقَدَّرًا. وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الْحَزُّ فِي الْقِدَاحِ عَلَامَةً لَهَا يُمَيَّزُ بَيْنَهَا, وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي قَسْمِ الْمَاءِ يَعْرِفُ بِهَا كُلُّ ذِي حَقٍّ نَصِيبَهُ مِنْ الشُّرْبِ; فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْفَرْضِ هَذَا ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْمَقَادِيرِ الْمَعْلُومَةِ

فِي الشَّرْعِ أَوْ إلَى الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ اللَّازِمَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الثُّبُوتُ, وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَزُّ الَّذِي فِي سِيَةِ الْقَوْسِ فَرْضًا لِثُبُوتِهِ; وَالْفَرْضُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ إلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ, فَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبُ كَانَ الْمَفْرُوضُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ, وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَفْرُوضٍ وَاجِبًا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْفَرْضُ يَقْتَضِي فَارِضًا وَمُوجِبًا لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَاجِبُ; لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ مِنْ غَيْرِ إيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ فِي حِكْمَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ؟ ; إذْ كَانَ الْفَرْضُ يَقْتَضِي فَارِضًا, وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي الْحِكْمَةِ غَيْرَ مُقْتَضٍ مُوجِبًا. وَأَصْلُ الْوُجُوبِ فِي اللُّغَةِ هُوَ السُّقُوطُ, يُقَالُ: وَجَبَتْ الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ, وَوَجَبَ الْحَائِطُ إذَا سَقَطَ, وَسَمِعْت وَجْبَةً يَعْنِي سَقْطَةً, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] يَعْنِي سَقَطَتْ; فَالْفَرْضُ فِي أَصْلِ اللُّغَة أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ الْوَاجِبِ, وَكَذَلِكَ حُكْمُهُمَا فِي الشَّرْعِ; إذْ كَانَ الْحَزُّ الْوَاقِعُ ثَابِتَ الْأَثَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُجُوبُ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} الْآيَةَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو مَالِكٍ وَأَبُو صَالِحٍ: "هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: "إنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ". وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يَعْنِي عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ, وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَائِضَ فَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَجُعِلَتْ الصَّدَقَةُ فِيمَا سَمَّى الْمُتَوَفَّى". فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْمِيرَاثِ, وَجُعِلَتْ ذَلِكَ فِي وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ لَهُمْ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ: "أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ, وَهِيَ فِي قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ تُرْضَخُ لَهُمْ, فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ تَقْصِيرٌ اُعْتُذِرَ إلَيْهِمْ", فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْن أَبِي بَكْرٍ كَانَا يُعْطِيَانِ مَنْ حَضَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: "هِيَ مُحْكَمَةٌ". وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: "وَلِيَ أَبِي مِيرَاثًا, فَأَمَرَ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ صُنِعَتْ, وَلَمَّا قَسَّمَ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ أَطْعَمَهُمْ ثُمَّ تَلَا: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} الْآيَةَ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ, وَقَالَ: "لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَكَانَتْ هَذِهِ الشَّاةُ مِنْ مَالِي"1 وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مال

_ 1 قوله: "من مالي" أي من جملة مال اليتيم الذي إليه فأضافه إلى نفسه إضافة مجازية لا حقيقية "لمصححه".

يتيم قد وليه. وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "هَذِهِ الْآيَةُ يَتَهَاوَنُ بِهَا النَّاسُ, وَقَالَ: هُمَا وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا يَرِثُ وَالْآخَرُ لَا يَرِثُ, وَاَلَّذِي يَرِثُ هُوَ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَرْزُقَهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ, وَاَلَّذِي لَا يَرِثُ هُوَ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَيَقُولُ هَذَا الْمَالُ لِقَوْمٍ غُيَّبٍ أَوْ لِأَيْتَامٍ صِغَارٍ وَلَكُمْ فِيهِ حَقٌّ وَلَسْنَا نَمْلِكُ أَنْ نُعْطِيَ مِنْهُ شَيْئًا, فَهَذَا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ; قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةِ". فَحَمَلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ: {فَارْزُقُوهُمْ} عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطُونَ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ لِلْآخَرِينَ, فَكَانَتْ فَائِدَةُ الْآيَةِ عِنْدَهُ إنْ حَضَرَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَفِيهِمْ غَائِبٌ أَوْ صَغِيرٌ أَنَّهُ يُعْطَى الْحَاضِرُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ وَيُمْسَكُ نَصِيبُ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ; فَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ فَهُوَ حُجَّةٌ لَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَدِيعَةِ "إذَا كَانَتْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَغَابَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَيُمْسِكَ الْمُودَعُ نَصِيبَ الْغَائِبِ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّدٍ; وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: "لَا يُعْطَى أَحَدُ الْمُودِعَيْنِ شَيْئًا إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} قَالَ: "يَقُولُ عِدَّةٌ جَمِيلَةٌ إنْ كَانَ الْوَرَثَةُ صِغَارًا, يَقُولُ أَوْلِيَاءُ الْوَرَثَةِ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْوَرَثَةَ صِغَارٌ فَإِذَا بَلَغُوا أَمَرْنَاهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقَّكُمْ وَيَتَّبِعُوا فِيهِ وَصِيَّةَ رَبِّهِمْ". فَحَصَلَ اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو مَالِكٍ وَأَبُو صَالِحِ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ. وَالثَّانِي: رِوَايَةُ عِكْرِمَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيم وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَهِيَ فِي الْمِيرَاثِ. وَالثَّالِثُ, وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ لِهَؤُلَاءِ مَنْسُوخَةٌ عَنْ الْمِيرَاثِ; وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "هَذَا شَيْءٌ أَمَرَ بِهِ الْمُوصِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُوصِي فِيهِ"; وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} قَالَ: يَقُولُ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَصِلْهُمْ وَبِرَّهُمْ وَأَعْطِهِمْ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ عَنْهُ أَنَّ قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} هُوَ الْمِيرَاثُ نَفْسُهُ {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} لِغَيْرِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ. فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ قَبْلَ نُزُولِ الْمِيرَاثِ, فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمَوَارِيثُ وَجُعِلَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبٌ مَعْلُومٌ صَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهَا نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا لَا حَتْمًا وَإِيجَابًا; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً مَعَ كَثْرَةِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَنُقِلَ وُجُوبُ ذَلِكَ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا نُقِلَتْ الْمَوَارِيثُ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ, فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ; وَمَا رُوِيَ عَنْ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدَةَ وَأَبِي مُوسَى فِي ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ كَانُوا كِبَارًا, فَذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ بِإِذْنِهِمْ; وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُبَيْدَة قَسَّمَ مِيرَاثَ أَيْتَامٍ فَذَبَحَ شَاةً, فَإِنَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَامَى فَكَبِرُوا; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صِغَارًا لَمْ تَصِحَّ مُقَاسَمَتُهُمْ. وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْوَصِيَّ يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى وَغَيْرِهِمْ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْوَرَثَةَ صِغَارٌ, وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِمْ بِمِثْلِهِ, وَلَوْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لَهُ عَلَى الْإِيجَابِ لَوَجَبَ إعْطَاؤُهُمْ صِغَارًا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْ كِبَارًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَسَّمَ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا لِهَؤُلَاءِ شَيْئًا, وَمَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إزَالَتُهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِالْوُجُوهِ الَّتِي حَكَمَ اللَّهُ بِإِزَالَتِهِ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَقَالَ: "لَا يَحِلّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" ; وَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إعْطَاءُ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ اسْتِحْبَابًا لَا إيجَابًا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ تَقْصِيرٌ اُعْتُذِرَ إلَيْهِمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يُعْطَى الْمِيرَاثُ أَهْلَهُ وهو معنى قوله تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَيَقُولُ لِمَنْ لَا يَرِثُ: إنَّ هَذَا الْمَالَ لِقَوْمٍ غُيَّبٍ وَلِأَيْتَامٍ صِغَارٍ وَلَكُمْ فِيهِ حَقٌّ وَلَسْنَا نَمْلِكُ أَنْ نُعْطِيَ مِنْهُ شَيْئًا". فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاعْتِذَارِ إلَيْهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إذَا أَعْطَوْهُمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ شَيْئًا لَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْتَهِرُهُمْ وَلَا يُسِيءُ اللَّفْظَ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة: 263] وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9-10] . قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ. اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ, فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: "هُوَ الرَّجُلُ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ يَحْضُرُهُ: اتَّقِ اللَّهَ أَعْطِهِمْ صِلْهُمْ بِرَّهُمْ, وَلَوْ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يُوصُونَ لَأَحَبُّوا أَنْ يُبْقُوا لِأَوْلَادِهِمْ", قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: فَسَأَلْت مِقْسَمًا عَنْ ذَلِكَ, فَقَالَ: لَا, وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ يَحْضُرُهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك مَالَك, وَلَوْ كَانُوا ذَوِي قَرَابَتِهِ لَأَحَبُّوا أَنْ يُوصِيَ لَهُمْ. فَتَأَوَّلَهُ الْأَوَّلُونَ عَلَى نَهْيِ الْحَاضِرِينَ عَنْ الْحَضِّ عَلَى الْوَصِيَّةِ, وَتَأَوَّلَهُ مِقْسَمٌ عَلَى نَهْيِ مَنْ يَأْمُرُهُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَيِّتِ فَيَقُولُ أَوْصِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ مَالِكَ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أنه قال

فِي وِلَايَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَحِفْظِهِ: "إنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ وَيَقُولُوا بِمِثْلِ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ وَيُقَالَ فِي أَمْوَالِ أَيْتَامِهِمْ وَضِعَافِ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ". وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَ السَّلَفُ عَلَيْهَا الْآيَةَ مُرَادَةً بِهَا; إلَّا أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا إذَا قَصَدَ الْمُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ أَوْ بِالْمُوصَى لَهُمْ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ هُوَ لِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ مَكَانَ هَؤُلَاءِ, وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمَرِيضُ قَلِيلَ الْمَالِ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَيَأْمُرُهُ الَّذِي يَحْضُرُهُ بِاسْتِغْرَاقِ الثُّلُثِ لِلْوَصِيَّةِ, وَلَوْ كَانَ هُوَ مَكَانَهُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَصِيَّةً لَهُ لِأَجْلِ وَرَثَتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ ضُعَفَاءُ وَهُوَ قَلِيلُ الْمَالِ أَنْ لَا يُوصِيَ بِشَيْءٍ وَيَتْرُكَهُ لَهُمْ أَوْ يُوصِيَ لَهُمْ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ حِينَ قَالَ أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي؟ فَقَالَ: "لَا" إلَى أَنْ رَدَّهُ إلَى الثُّلُثِ فَقَالَ: "الثُّلُثُ والثلث كثير, إنك إن تدع ورثتك أغنياء خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" ; فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ لِيَسْتَغْنُوا بِهِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الْأَفْضَلُ لِمَنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ الْوَصِيَّةُ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ, وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَنْ لَا يُوصِيَ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَأَنْ يُبْقِيَهُ لِوَرَثَتِهِ وَالنَّهْيُ مُنْصَرِفٌ أَيْضًا إلَى مَنْ يَأْمُرُهُ مِنْ الْحَاضِرِينَ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ, عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الثُّلُثُ كَثِيرٌ" وَلِنَهْيِهِ سَعْدًا عَنْ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ مِقْسَمٌ مُرَادًا بِأَنْ يَقُولَ الْحَاضِرُ: لَا تُوصِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ لَأَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ لَهُ, فَيُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ, حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ إلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} فَنَهَاهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُشِيرَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَأْمُرَهُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِوَرَثَتِهِ, وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ الْحَاضِرُونَ قَوْلًا سَدِيدًا وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْحَقُّ الَّذِي لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ فِي إجْحَافٍ بِوَارِثٍ أَوْ حِرْمَانٍ لِذِي قَرَابَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ: "أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَزَلَ مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمٌ طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ عَنْ شَرَابِهِ حَتَّى فَسَدَ, حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْخُلْطَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ, وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا مَحْظُورٌ إتْلَافُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كَحَظْرِ الْمَأْكُولِ مِنْهُ; وَلَكِنَّهُ خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُبْتَغَى لَهُ الْأَمْوَالُ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَنَظَائِرَهُ فِيمَا قَدْ سَلَفَ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} رُوِيَ عَنْ السُّدِّيِّ: "أَنَّ لَهَبَ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ وَمَسَامِعِهِ وَأَنْفِهِ وَعَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ". وَقِيلَ: "إنَّهُ كَالْمَثَلِ; لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِهِ إلَى جَهَنَّمَ فَتَمْتَلِئُ بِالنَّارِ أَجْوَافُهُمْ". وَمِنْ جُهَّالِ الْحَشْوِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة220] وَقَدْ أَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ; لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَزَلُوا طَعَامَ الْيَتِيمِ وَشَرَابَهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة220] . وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَائِلِهِ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِمَعْنَى النَّسْخِ وَبِمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ, وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا مَحْظُورٌ وَأَنَّ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ قَائِمٌ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي إلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَا مَحَالَةَ أَوْ جَوَازِ الْغُفْرَانِ, فَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا يُجِيزُهُ عَاقِلٌ فِي مِثْلِهِ; وَجَهِلَ هَذَا الرَّجُلُ أَنَّ الظُّلْمَ لَا تَجُوزُ إبَاحَتُهُ بِحَالٍ, فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ حَظْرِهِ, وَإِنَّمَا عَزَلَ مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِهِ; لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَتَلْحَقُهُ صِفَةُ الظُّلْمِ وَيَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ وَاحْتَاطُوا بِذَلِكَ, فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة220] زَالَ عَنْهُمْ الْخَوْفُ فِي الْخُلْطَةِ بَعْدَ أَنْ يَقْصِدُوا الْإِصْلَاحَ بِهَا; وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةٌ لِأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا حَتَّى يَكُونَ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} والله أعلم.

بَابُ الْفَرَائِضِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا النَّسَبُ وَالْآخَرُ السَّبَبُ فَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ, إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى

قَوْلَهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . وَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْت لِعَطَاءِ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا إلَّا ذَلِكَ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "تَوَارَثَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ بِنَسَبِهِمْ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ". وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْبٍ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الرِّبَا, "فَمَا أَدْرَكَ الْإِسْلَامُ مِنْ رِبًا لَمْ يُقْبَضْ رَدَّ إلَى الْبَائِعِ رَأْسَ مَالِهِ وَطَرَحَ الرِّبَا". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ, وَإِلَّا فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ", وَهُوَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى, وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ". فَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ, وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُتَمَسِّكَةً بِبَعْضٍ شَرَائِعِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ, وَقَدْ كَانُوا أَحْدَثُوا أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ نَحْوَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ الْبَنَاتِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُقَبَّحَةِ فِي الْعُقُولِ, وَقَدْ كَانُوا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا تَحْظُرُهَا الْعُقُولُ, فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا إلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ مَا تَحْظُرُهُ الْعُقُولُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ الْبَنَاتِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَمَا كَانُوا يَتَقَرَّبُونِ بِهِ إلَى أَوْثَانِهِمْ, وَتَرَكَهُمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ يَحْظُرُهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمَوَارِيثِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ; فَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْهُمْ; إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةُ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ, فَكَانَ أَمْرُ مَوَارِيثِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْرِيثِ الذُّكُورِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ الْإِنَاثِ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَ الْمَوَارِيثِ. وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ, أَحَدُهُمَا: الْحِلْفُ وَالْمُعَاقَدَةُ, وَالْآخَرُ: التَّبَنِّي; ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ, فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ1 أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ دَمِي دَمُك وهدمي هدمك2 وترثني وأرثك

_ 1 قوله تعالى {عَقَدَتْ} هكذا قرأ السبعة مات عدا عاصما وحمزة والكسائي فإنهم قرأوا {عَقَدَتْ} بغير ألف لمصححه". 2 قوله: "وهدمي هدمك" الهدم بالسكون الدال وفتحها أيضا بمعنى القبر أي أقبر حيث تقبر "لمصححه".

وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِك" قَالَ: "فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ, ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فقال الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] : "كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُ لَهُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ تَابِعًا لَهُ, فَإِذَا مَاتَ صَارَ الْمِيرَاثُ لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَبَقِيَ تَابِعُهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] فَكَانَ يُعْطَى مِنْ مِيرَاثِهِ". وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] : وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَرْغَبُ فِي خِلَّةِ الرَّجُلِ فَيُعَاقِدُهُ فَيَقُولُ: تَرِثُنِي وَأَرِثُك, وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ, فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَزَلَتْ قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ وَقَدْ كُنْت عَاقَدْتُ رَجُلًا فَمَاتَ؟ فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} [النساء: 33] . فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ أَنَّ مِيرَاثَ الْحَلِيفِ قَدْ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الْحُكْمَ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ الْوَاسِطِيُّ قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قَالَ: "كَانَ حُلَفَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُمِرُوا أَنْ يُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ الْمَشُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّصْرِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ". قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عِيسَى بْن الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعَصَبَاتِ, كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: تَرِثُنِي وَأَرِثُك, فَنَزَلَتْ: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ ترثني وأرثك, فنسختها: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى

أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأنفال: 75] قَالَ: إلَّا أَنْ تُوصُوا لِأَوْلِيَائِهِمْ الَّذِينَ عَاقَدُوهُمْ وَصِيَّةً". فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 75] وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْمَشُورَةُ وَالنَّصْرُ مِنْ غَيْرِ مِيرَاثٍ; وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ تَثْبِيتُ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] يَقْتَضِي نَصِيبًا ثَابِتًا لَهُمْ, وَالْعَقْلُ وَالْمَشُورَةُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ بِنَصِيبٍ ثَابِتٍ, وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ إثْبَاتُ نَصِيبٍ مِنْ الْمِيرَاثِ, كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ إثْبَاتَ نَصِيبٍ لَهُمْ قَدْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْمُعَاقَدَةِ; وَالْمَشُورَةُ يَسْتَوِي فِيهَا سَائِرُ النَّاسِ فَلَيْسَتْ إذًا بِنَصِيبٍ, فَالْعَقْلُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى حُلَفَائِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَصِيبٍ لَهُ, وَالْوَصِيَّةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً وَاجِبَةً فَلَيْسَتْ بِنَصِيبٍ; فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى النَّصِيبِ الْمُسَمَّى لَهُ فِي عَقْدِ الْمُحَالَفَةِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ مِمَّا قَالَ الْآخَرُونَ. وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ, وَإِنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ آخَرُ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمْ كَحُدُوثِ ابْنٍ لِمَنْ لَهُ أَخٌ لَمْ يَخْرُجْ الْأَخُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ, إلَّا أَنَّ الِابْنَ أَوْلَى مِنْهُ, وَكَذَلِكَ أُولُو الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ, فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَحِمٌ وَلَا عَصَبَةٌ فَالْمِيرَاثُ لِمَنْ حَالَفَهُ وَجَعَلَهُ لَهُ; وَكَذَلِكَ أَجَازَ أَصْحَابُنَا الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالدَّعْوَةِ وَالتَّبَنِّي فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَيَرِثُهُ, وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ, وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] . وَقَدْ كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ تَبَنَّى سَالِمًا, فَكَانَ يُقَالُ لَهُ سَالِمُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ, إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ; فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّعْوَةَ بِالتَّبَنِّي وَنَسَخَ مِيرَاثَهُ. حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حدثنا وَأَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ:

"إنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ رِجَالًا وَيُوَرِّثُونَهُمْ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ أَنْ يُجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْوَصِيَّة وَرَدَّ الْمِيرَاثَ إلَى الْمَوَالِي مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ وَالْعَصَبَةِ, وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْمُدَّعِينَ مِيرَاثًا مِمَّنْ ادَّعَاهُمْ, وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ الْوَصِيَّةِ, فَكَانَ مَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] مُنْتَظِمًا لِلْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي جَمِيعًا; إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ; فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ مِنْ مَوَارِيثِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَقِيَ فِي الْإِسْلَامِ, بَعْضُهَا بِالْإِقْرَارِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَبَعْضُهُ بِنَصٍّ وَرَدَّ فِي إثْبَاتِهِ إلَى أَنْ وَرَدَ مَا أَوْجَبَ نَقْلَهُ. وَأَمَّا مَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا مَعْقُودَةٌ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَسَبٌ, وَالْآخَرُ سَبَبٌ لَيْسَ بِنَسَبٍ; فَأَمَّا الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَبَيَّنَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهُ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى بَعْضِهِ وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى بَعْضٍ, وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي وُرِّثَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَبَعْضُهُ ثَابِتٌ وَبَعْضُهُ مَنْسُوخُ الْحُكْمِ. فَمِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وُرِّثَ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا ذَكَرْنَا فِي عَقْدِ الْمُحَالَفَةِ وَمِيرَاثِ الْأَدْعِيَاءِ, وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ وَنَسْخَ مَا رُوِيَ نَسْخُهُ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ. وَكَانَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمِيرَاثَ الْهِجْرَةُ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قَالَ: "كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ, فنسختها: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ, فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ, فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ, وَلَوْ مَاتَ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ1 لَوَرِثَهُ الزُّبَيْرُ, حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ

_ 1 قوله: "ولو مات كعب عن الضح والريح" أراد لو مات عما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح كنى بهما عن كثرة المال كما في لسان العرب "لمصححه".

فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [لأنفال: 75] . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَرِثُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَخِيهِ, فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] نُسِخَتْ, ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] مِنْ النَّصْرِ, وَالرِّفَادَةِ". فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {والذين عقدت أيمانكم} أُرِيدَ بِهِ مُعَاقَدَةُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] إنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِسْلَامِ, فَكَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَلَا يُهَاجِرُ فَلَا يَرِثُ أَخَاهُ, فنسخ الله تعالى ذلك بقوله {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} . [لأنفال: 75] وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ مِنْ الْمُهَاجِرِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ ذَا قُرْبَى لِيَحُثَّهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْهِجْرَةِ, فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} . [لأنفال: 75] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تِلْكَ, {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] فَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مِنْ الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ, {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الأحزاب: 6] قَالَ: مَكْتُوبًا. فَجُمْلَةُ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ التَّوَارُثُ بِالْأَسْبَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ التَّبَنِّي وَالْحَلِفُ وَالْهِجْرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نُسِخَ الْمِيرَاثُ بِالتَّبَنِّي وَالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ; وَأَمَّا الْحَلِفُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ جُعِلَتْ الْقَرَابَةُ أَوْلَى مِنْهُ وَلَمْ يُنْسَخْ إذَا لَمْ تَكُنْ قَرَابَةٌ, وَجَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَمِيعَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَهُ وَمِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي عُقِدَ بِهَا التَّوَارُثُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ, وَهُوَ عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَلِفِ, وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ مِنْ ذِي رَحِمٍ أَوْ عَصَبَةٍ. فَجَمِيعُ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ مَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ السَّبَبُ وَالنَّسَبُ, وَالسَّبَبُ كَانَ عَلَى أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ: مِنْهَا الْمُعَاقَدَةُ بِالْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي, وَالْأُخُوَّةُ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهِجْرَةُ وَالزَّوْجِيَّةُ وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ, فَأَمَّا إيجَابُ الْمِيرَاثِ بِالْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَمَنْسُوخٌ مَعَ وُجُودِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ, وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَالزَّوْجِيَّةُ هِيَ أَسْبَابٌ ثَابِتَةٌ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْمِيرَاثُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوطِ لِذَلِكَ. وَأَمَّا النَّسَبُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ فَيَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ: ذَوُو السِّهَامِ وَالْعَصَبَاتُ وَذَوُو الْأَرْحَامِ, وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. فَأَمَّا الْآيَاتُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ ذَوِي الْأَنْسَابِ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ وَالْعَصَبَاتِ وَذَوِي

الْأَرْحَامِ, فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] نُسِخَ بِهِمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَوْرِيثِ الرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ دُونَ الذُّكُورِ الصِّغَارِ وَالْإِنَاثِ. وقَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} إلى قوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} وَالنَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ مِقْدَارَهُ فِي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فَقَالَ: قَدْ نَسَخَ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ, فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ, فَجَعَلَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ, وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسَ مَعَ الْوَلَدِ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ إذَا مَاتَ وَخَلَّفَ زَوْجَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً كَامِلَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ تَرِكَتِهِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالرُّبُعِ أَوْ الثمن. وقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] نُسِخَ بِهِ التَّوَارُث بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ وَبِالتَّبَنِّي عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا; وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} هِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ, وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِنَسْخِ الْمِيرَاثِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلْمُسَمِّينَ فِيهَا, فَلَا يَبْقَى لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ شَيْءٌ, وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ حُقُوقِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبِنْتَيْنِ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ بِنْتَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ قُتِلَ مَعَك يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا عَمُّهُمَا مَالًا إلَّا أَخَذَهُ, فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ لَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الْآيَةَ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُدْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا: "أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّ الْعَمَّ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ دُونَ الْبِنْتَيْنِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَوْرِيثِ الْمُقَاتِلَةِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ, وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ حِينَ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ أَقَرَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهَا: "يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ" ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ أَمَرَ الْعَمَّ بدفع

نَصِيبِ الْبِنْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ إلَيْهِنَّ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ لَمْ يَأْخُذْ الْمِيرَاثَ بَدِيًّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ بَلْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمَوَارِيثِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إنَّمَا يُسْتَأْنَفُ فِيمَا يَحْدُث بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَا قَدْ مَضَى عَلَى حُكْمٍ مَنْصُوصٍ مُتَقَدِّمٍ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالنَّسْخِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهَا. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرِضْت فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ, فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ فَأَفَقْت فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قِصَّةَ الْمَرْأَةِ مَعَ بِنْتَيْهَا وَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا قَدْ كَانَا; سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَمْ يُجِبْهَا مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ ثُمَّ سَأَلَهُ جَابِرٌ فِي حَالِ مَرَضِهِ, فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَهِيَ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُثْبِتَةٌ لِلنَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الْآيَةَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أَوْلَادِ الصُّلْبِ, وَأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ غَيْرُ دَاخِلٍ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ, وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الصُّلْبِ فَالْمُرَادُ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ, فَقَدْ انْتَظَمَ اللَّفْظُ أَوْلَادَ الصُّلْبِ وَأَوْلَادَ الِابْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَ الصُّلْبِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ أَنَّهُ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ, فَإِنْ, لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ فَهُوَ لِوَلَدِ ابْنِهِ. وقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قَدْ أَفَادَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ, وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَنَّ لِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَيْنِ وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمًا, وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْأَوْلَادِ ذَوُو سِهَامٍ نَحْوُ الْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُمْ مَتَى أَخَذُوا سِهَامَهُمْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ السِّهَامَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُمْ, فَمَتَى مَا أَخَذَ ذَوُو السِّهَامِ سِهَامَهُمْ كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذُو سَهْمٍ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فَنَصَّ عَلَى نَصِيبِ مَا فَوْقَ الِابْنَتَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى فَرْضِ الِابْنَتَيْنِ; لِأَنَّ فِي فَحَوَى الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى بَيَانِ فَرْضِهِمَا, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ لِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ مَعَ الِابْنِ الثُّلُثَ, وَإِذَا كَانَ لَهَا مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثُ كَانَتْ بِأَخْذِ الثُّلُثِ مَعَ الْأُنْثَى أَوْلَى, وَقَدْ احْتَجْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ مَا فَوْقَهُمَا; فَلِذَلِكَ نَصَّ عَلَى حُكْمِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ الله

تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا كَانَ لِلِابْنِ سَهْمَانِ ثُلُثَا الْمَالِ وَهُوَ حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَ الِابْنِ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتَيْنِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَجْرَى الْبَنَاتِ وَأَجْرَى الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ مَجْرَى الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ, فَقَالَ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَجَعَلَ حَظَّ الْأُخْتَيْنِ كَحَظِّ مَا فَوْقَهُمَا وَهُوَ الثُّلُثَانِ كَمَا جَعَلَ حَظَّ الْأُخْتِ كَحَظِّ الْبِنْتِ. وَأَوْجَبَ لَهُمْ إذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ, فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الِابْنَتَانِ كَالْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ لِمُسَاوَاتِهِمَا لَهُمَا فِي إيجَابِ الْمَالِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ, كَمَا فِي مُسَاوَاةِ الْأُخْتِ لِلْبِنْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ بِالتَّسْمِيَةِ. وَأَيْضًا الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ; إذْ كَانَتَا أَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْأُخْتَيْنِ, وَإِذَا كَانَتْ الْأُخْتُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنْتِ فَكَذَلِكَ الْبِنْتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ; وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ وَالْعَمَّ مَا بَقِيَ. وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ. جَعَلَ لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ كَنَصِيبِ الْوَاحِدَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ وَإِنَّمَا فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَ ابْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ, فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ بِأَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ إذَا كَانَتْ وَحْدَهَا, وَأَنْتَ جَعَلْت لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ, فَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ حِينَ جَعَلَ لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفَ فَكَذَلِكَ لَا تُلْزِمُ مُخَالِفِيهِ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ فِي جَعْلِهِمْ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أَنْ يَكُونَ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ مَا فَوْقَهُمَا, وَقَدْ دَلَّ عَلَى حُكْمِهِمَا فِي فَحْوَى الْآيَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ حُكْمِ الْأُخْتَيْنِ عَلَى حُكْمِ الِابْنَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثنتين} أَنَّ ذِكْرَ" فَوْقَ" هَهُنَا صِلَةٌ لِلْكَلَامِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] . قَوْله تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ} يُوجِبُ ظَاهِرَهُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى; لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُهُمَا, إلَّا أَنَّهُ لَا خِلَافَ إذَا كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا لَا تَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فَوَجَبَ أَنْ تُعْطَى النِّصْفَ بِحُكْمِ النَّصِّ,

وَيَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ السُّدُسُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ, وَيَبْقَى السُّدُسُ يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ بِالتَّعْصِيبِ; فَاجْتَمَعَ هَهُنَا لِلْأَبِ الِاسْتِحْقَاقُ بِالتَّسْمِيَةِ وَبِالتَّعْصِيبِ جَمِيعًا; وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ بِحُكْمِ النَّصِّ; وَالْبَاقِي لِلِابْنِ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ تَعْصِيبًا مِنْ الْأَبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فَأَثْبَتَ الْمِيرَاثَ لِلْأَبَوَيْنِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ ثُمَّ فَصَلَ نَصِيبَ الْأُمِّ وَبَيَّنَ مِقْدَارَهُ بِقَوْلِهِ: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} وَلَمْ يَذْكُرْ نَصِيبَ الْأَبِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ; إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ غَيْرُهُ وَقَدْ أَثْبَتَ الْمِيرَاثَ لَهُمَا بَدِيًّا وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} دُونَ تَفْصِيلِ نَصِيبِ الْأُمِّ, فَلَمَّا قَصَرَ نَصِيبَ الْأُمِّ عَلَى الثَّلَاثِ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ. قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "إذَا تَرَكَ أَخَوَيْنِ وَأَبَوَيْنِ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِأَبِيهِ" وَحَجَبُوا الْأُمَّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ كَحَجْبِهِمْ لَهَا بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لِلْأُمِّ الثُّلُثُ" وَكَانَ لَا يَحْجُبُهَا إلَّا بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إذَا تَرَكَ أَبَوَيْنِ وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ السُّدُسُ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ". وَرُوِيَ عَنْهُ: "أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِخْوَةُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَالسُّدُسُ لَهُمْ خَاصَّةً, وَإِنْ كَانُوا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ وَكَانَ مَا بَعْدَ السُّدُسِ لِلْأَبِ". وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اسْمَ الْإِخْوَةِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وَهُمَا قَلْبَانِ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَلَوْ كَانَ أَخًا وَأُخْتًا كَانَ حُكْمُ الْآيَةِ جَارِيًا فِيهِمَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ" , وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ إلَى الثَّلَاثَةِ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْهُمَا إلَى الْوَاحِدِ; لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ مَوْجُودٌ فِيهِمَا نَحْوُ قَوْلِكَ: "قَامَا وَقَعَدَا وَقَامُوا وَقَعَدُوا" كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ1 وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْوَاحِدِ, فَلَمَّا كَانَ الِاثْنَانِ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ أَقْرَبَ إلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهُمَا إلَى الْوَاحِدِ وَجَبَ إلْحَاقُهُمَا بِالثَّلَاثَةِ دُونَ الْوَاحِدِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ, أَنَّهُ كَانَ يَحْجُبُ الأم

_ 1 قوله: "والثلاثة" فيه تأمل. "لمصححه".

بِالْأَخَوَيْنِ, فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيد إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} وَأَنْتَ تَحْجُبُهَا بِالْأَخَوَيْنِ فَقَالَ: إنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَخَوَيْنِ إخْوَةً. فَإِذَا كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ حَكَى عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُسَمِّي الْأَخَوَيْنِ إخْوَةً, فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لَهُمَا فَيَتَنَاوَلُهُمَا اللَّفْظُ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْأُخْتَيْنِ حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ بِنَصِّ التنزيل في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ دُونَ حُكْمِ الْوَاحِدَةِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الثَّلَاثِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ; إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِالْجَمْعِ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ الْأُمَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِثُوا مَعَ الْأَبِ; لِأَنَّهُ يَقُومُ بِنِكَاحِهِمْ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْأُمِّ" وَهَذِهِ الْعِلَّةُ إنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ, فَأَمَّا الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ فَلَيْسَ إلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ وَهُمْ يَحْجُبُونَ أَيْضًا كَمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ, وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ; إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عن أبيه عن ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَلِلْإِخْوَةِ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ, وَكَانَ لَا يَحْجُبُ بِمَنْ لَا يَرِثُ, فَلَمَّا حَجَبَ الْأُمَّ بِالْإِخْوَةِ وَرِثَهُمْ". وَهُوَ قَوْلٌ شَاذّ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ خِلَافُهُ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} عطفا على قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تَقْدِيرُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ وَلَهُ إخْوَةٌ; وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِخْوَةِ شَيْءٌ. قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . الدَّيْنُ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ بِهِ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْوَصِيَّةِ; لِأَنَّ" أَوْ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَإِنَّمَا هِيَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ, فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ بَعْدِ أَحَدِ هَذَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: "ذَكَرَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ وَهِيَ بَعْدَهُ" يَعْنِي أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي اللَّفْظِ مُؤَخَّرَةٌ فِي الْمَعْنَى. قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الْآيَةَ. هَذَا نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ, وَأَنَّ الْوَلَدَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَحْجُبُ الزَّوْجَ عَنْ النِّصْفِ إلَى الرُّبْعِ وَالزَّوْجَةَ مِنْ الرُّبْعِ إلَى الثُّمُنِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَيْضًا أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي حَجْبِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ عَنْ النَّصِيبِ الْأَكْثَرِ إلَى الْأَقَلِّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَ الصُّلْبِ. قَوْله تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} قِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَاَللَّهُ يَعْلَمُهُ فاقسموه على

مَا بَيَّنَهُ; إذْ هُوَ عَالِمٌ بِالْمَصَالِحِ. وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ مُتَقَارِبُونَ فِي النَّفْعِ حَتَّى لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا, إذْ كُنْتُمْ تَنْتَفِعُونَ بِآبَائِكُمْ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَتَنْتَفِعُونَ بِأَبْنَائِكُمْ عِنْدَ الْكِبَرِ, فَفَرَضَ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِكُمْ لِلْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ عِلْمًا مِنْهُ بِمَصَالِحِ الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ أَهُوَ أَقْرَبُ وَفَاةً فَيَنْتَفِعُ وَلَدُهُ بِمَالِهِ, أَمْ الْوَلَدُ أَقْرَبُ وَفَاةً فَيَنْتَفِعُ الْأَبُ وَالْأُمُّ بِمَالِهِ, فَفَرَضَ فِي مَوَارِيثِكُمْ ما فرض علما منه وحكما. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْحَجْبِ بِمَنْ لَا يَرِثُ, وَهُوَ أَنْ يُخَلِّفَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَبَوَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَأَخَوَيْنِ كَافِرَيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ قَاتِلَيْنِ, فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَزَيْدٌ: "لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ, وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمَةُ إذَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَابْنًا كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ قَاتِلًا, أَوْ الرَّجُلُ تَرَكَ امْرَأَةً وَابْنًا كَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَحْجُبُونَ الزَّوْجَ وَلَا الْمَرْأَةَ عَنْ نَصِيبِهِمَا الْأَكْثَرَ إلَى الْأَقَلِّ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "يَحْجُبُونَ وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "الْمَمْلُوكُ وَالْكَافِرُ لَا يَرِثَانِ وَلَا يَحْجُبَانِ وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ وَيَحْجُبُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَبَ الْكَافِرَ لَا يَحْجُبُ ابْنَهُ مِنْ مِيرَاثِ جَدِّهِ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ, فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ حَجْبِ الْأُمِّ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ حَجَبَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ. فَيُقَالُ لَهُ: فَلِمَ حَجَبْت بِهِ الْأُمَّ دُونَ الْأَبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا حَجَبَهُمَا جَمِيعًا بِالْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ؟ فَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَحْجُبَ الْأَبُ وَجَعَلْت قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} عَلَى وَلَدٍ يَجُوزُ الْمِيرَاثُ, فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْأُمِّ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} . قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ أَرْبَعًا يَشْتَرِكْنَ فِي الثُّمُنِ, وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ, فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانُ وَزَيْدٌ: "لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ, وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مِيرَاثُهُمَا وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ" وَقَالَ: "لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُلُثَ مَا بَقِيَ" وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ; وَرُوِيَ أَنَّهُ تَابَعَهُ فِي الْمَرْأَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَخَالَفَهُ فِي الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ, لَتَفْضِيلِهِ الْأُمَّ عَلَى الْأَبِ. وَالصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ, إلَّا مَا حَكَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَظَاهِرِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ

عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كَمَا جَعَلَهُ أَثْلَاثًا بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ثُمَّ لَمَّا سَمَّى لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَا سَمَّى لَهُمَا وَأَخَذَا نَصِيبَهُمَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتَيْنِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِمَا, وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ نَصِيبَهُمَا مُوجِبًا لِلْبَاقِي بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى مَا اسْتَحَقَّاهُ أَثْلَاثًا قَبْلَ دُخُولِهِمَا; وَأَيْضًا هُمَا كَشَرِيكَيْنِ بَيْنَهُمَا مَالٌ إذَا اُسْتُحِقَّ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اسْتَحَقَّاهُ بَدِيًّا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ مِيرَاثِ أَوْلَادِ الِابْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ أَوْلَادُ الصُّلْبِ وَأَوْلَادُ الِابْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الصُّلْبِ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَنِي ابْنٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِحُكْمِ الْآيَةِ, وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنٍ كَانَ لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ عَلَى سِهَامِ مِيرَاثِ وَلَدِ الصُّلْبِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَوْلَادَ الذُّكُورِ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ. وَاسْمُ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ كَمَا يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الصُّلْبِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِ هَاشِمٍ وَمِنْ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْأَوْلَادِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ وَعَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ جَمِيعًا; إلَّا أَنَّ أَوْلَادَ الصُّلْبِ يَقَعُ عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْمُ حَقِيقَةً وَيَقَعُ عَلَى أَوْلَادِ الِابْنِ مَجَازًا, وَلِذَلِكَ لَمْ يُرَادُوا فِي حَالِ وُجُودِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ وَلَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي سِهَامِهِمْ, وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ حَالَيْنِ: إمَّا أَنْ يُعْدَمَ وَلَدُ الصُّلْبِ رَأْسًا فَيَقُومُونَ مَقَامَهُمْ, وَإِمَّا أَنْ لَا يَحُوزَ وَلَدُ الصُّلْبِ الْمِيرَاثَ فَيَسْتَحِقُّونَ بَعْضَ الْفَضْلِ أَوْ جَمِيعَهُ, فَإِمَّا أَنْ يَسْتَحِقُّوا مِنْ أَوْلَادِ الصُّلْبِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَدُ الصُّلْبِ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الصُّلْبِ حَقِيقَةً وَوَلَدَ الِابْنِ مَجَازًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. قِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ لَمْ يُرَادُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مَتَى وُجِدَ أَوْلَادُ الصُّلْبِ, فَإِنَّ وَلَدَ الِابْنِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ مَعَهُمْ بِالْآيَةِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ وَلَدُ الصُّلْبِ فِي حَالِ وُجُودِهِمْ وَوَلَدُ الِابْنِ فِي حَالِ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ, فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَالَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَفِي الْأُخْرَى هُوَ مَجَازٌ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: "قَدْ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِوَلَدِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ" وَكَانَ لأحدهما

أَوْلَادٌ لِصُلْبِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَكَانَ لَهُ أَوْلَادُ ابْنٍ, كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ فُلَانٍ لِصُلْبِهِ وَلِأَوْلَادِ أَوْلَادِ فُلَانٍ, وَلَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُ أَوْلَادِ بَنِيهِ فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ أَوْلَادِ الْآخَرِ لِصُلْبِهِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ وَلَدِ فُلَانٍ لِصُلْبِهِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ مَعَهُ, فَأَمَّا وَلَدُ غَيْرِهِ لِغَيْرِ صُلْبِهِ فَغَيْرُ مُمْتَنَعٍ دُخُولُهُ مَعَ أَوْلَادِ الْآخَرِ لِصُلْبِهِ; فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} يَقْتَضِي وَلَدَ الصُّلْبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ إذَا كَانَ وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ وَلَدُ الِابْنِ, وَمَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ دَخَلَ فِي اللَّفْظِ وَلَدُ ابْنِهِ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ, فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَاطَبًا بِهِ عَلَى حِيَالِهِ; فَمَنْ لَهُ مِنْهُمْ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ وَلَدَ ابْنِهِ, وَمَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ عَلَى حِيَالِهِ, فَيَتَنَاوَلُ وَلَدَ ابْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِ الصُّلْبِ وَوَلَدُ الِابْنِ حَقِيقَةً لَمْ يَبْعُدْ; إذْ كَانَ الْجَمِيعُ مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وِلَادَتِهِ, وَنَسَبُهُ مُتَّصِلٌ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ, كَالْأُخُوَّةِ لَمَّا كَانَ اسْمًا لِاتِّصَالِ النَّسَبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ شَمِلَ الِاسْمُ الْجَمِيعَ وَكَانَ عُمُومًا فِيهِمْ جَمِيعًا, سَوَاءٌ كَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} قَدْ عُقِلَ بِهِ حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ كَمَا عُقِلَ حَلِيلَةُ ابْنِ الصُّلْبِ فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالتَّسْمِيَةِ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ لِلْعَصَبَةِ. فَإِنْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ وَبِنْتَ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ, فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بِنْتَيْنِ وَبَنَاتِ ابْنٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنٍ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ كَانَ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ بَنَاتِ الِابْنِ وَمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُنَّ مِنْ بَنِي ابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ, إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْبَاقِيَ لِابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَ وَلَا يُعْطِي بَنَاتَ الِابْنِ شَيْئًا إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ, وَإِنَّمَا كَانَ يَجْعَلُ لِبَنَاتِ الِابْنِ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ بِنْتًا وَبَنَاتِ ابْنٍ فَيَكُونُ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ, فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ابْنُ ابْنٍ لَمْ يُعْطِ بَنَاتِ الِابْنِ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ; وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ مَعَ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ; وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ إنَاثَ وَلَدِ الِابْنِ لَوْ كُنَّ وَحْدَهُنَّ لَمْ يَأْخُذْنَ شَيْئًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ, فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُنَّ أَخٌ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ابْنُ عَمٍّ مَعَ إحْدَاهُنَّ لَمْ يَأْخُذْنَ شَيْئًا. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ كَذَلِكَ; لِأَنَّ بَنَاتَ الِابْنِ يَأْخُذْنَ تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً بِالتَّعْصِيبِ, وَأَخُوهُنَّ وَمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُنَّ يَعْصِبُهُنَّ, كَبَنَاتِ الصُّلْبِ يَأْخُذْنَ تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً

بِالتَّعْصِيبِ; فَلَوْ انْفَرَدَ الْبَنَاتُ لَمْ يَأْخُذْنَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَإِنْ كَثُرْنَ, وَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخٌ لَهُنَّ وَهُنَّ عَشْرٌ كَانَ لَهُنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ, فَيَأْخُذْنَ فِي حَالِ كَوْنِ الْأَخِ مَعَهُنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذْنَ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ; فَكَذَلِكَ حُكْمُ بَنَاتِ الِابْنِ إذَا اسْتَوْفَى بَنَاتُ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُنَّ فَرْضٌ, فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخٌ صِرْنَ عَصَبَةً مَعَهُ وَوَجَبَ قِسْمَةُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي بِنْتَيْنِ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ, أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الِابْنِ; لِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا ذِكْرٌ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً بِفَرْضِ الْبَنَاتِ, وَالْبَنَاتُ قَدْ اسْتَوْعَبْنَ الثُّلُثَيْنِ, فَلَمْ يَبْقَ مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ شَيْءٌ تَأْخُذُهُ, فَكَانَتْ الْأُخْتُ أَوْلَى; لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ مَعَ الْبَنَاتِ, فَمَا تَأْخُذُهُ الْأُخْتُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّمَا تَأْخُذُهُ بِالتَّعْصِيبِ; فَإِذَا كَانَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ أَخٍ لَهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ ابْنِ قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُمَا عَنْ بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ, فَقَالَا: "لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلَمْ يُوَرِّثَا بِنْتَ الِابْنِ شَيْئًا وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا" فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمَا, فَقَالَ: "لَقَدْ ضَلَلْت إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ, وَلَكِنْ "أَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِابْنَتِهِ النِّصْفُ وَلِابْنِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ, وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ". فَهَذَا السُّدُسُ تَأْخُذُهُ بِنْتُ الِابْنِ بِالْفَرْضِ لَا بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ الْآنَ اتِّفَاقٌ. ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ مَعَهَا أَخٌ أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ بِنْتِ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ, وَأَنَّهَا لَا تُعْطَى السُّدُسَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا أُعْطِيت إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَخٌ; فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنْتَ الِابْنِ تَسْتَحِقُّ تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً بِالتَّعْصِيبِ مَعَ إخْوَتِهَا كَفَرَائِضِ بَنَاتِ الصُّلْبِ. وَمِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ فِي بِنْتٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ بَنَاتِ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مَا لَمْ تَزِدْ أَنْصِبَاءُ بَنَاتِ الِابْنِ عَلَى السُّدُسِ فَلَا يُعْطِيهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ; فَلَمْ يُعْتَبَرُ الْفَرْضُ عَلَى حِدَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا التَّعْصِيبُ عَلَى حِدَةٍ, وَلَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ التَّسْمِيَةُ فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ وَاعْتُبِرَ الْمُقَاسَمَةُ فِي النُّقْصَانِ, وَهُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أعلم بالصواب.

بَابُ الْكَلَالَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَيِّتُ نَفْسُهُ يُسَمَّى كَلَالَةً وَبَعْضُ مَنْ يَرِثُهُ يُسَمَّى كَلَالَةً وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ هَهُنَا اسْمُ الْمَيِّتِ وَالْكَلَالَةُ حَالُهُ وَصِفَتُهُ, وَلِذَلِكَ انْتَصَبَ وَرَوَى السَّمِيطُ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أَدْرِي مَا الْكَلَالَةُ, وَإِنَّمَا الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ" وَرُوِيَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ" فَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "رَأَيْت أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ, وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِيَ اللَّهَ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ1; هُوَ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ". وَرَوَى طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كُنْت آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَمِعْته يَقُولُ: الْقَوْلَ مَا قُلْت, قُلْت: وَمَا قُلْت؟ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: "مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ" قَالَ: قُلْت: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] فَغَضِبَ وَانْتَهَرَنِي. فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَقَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ نَفْسَهُ يُسَمَّى كَلَالَةً; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: "الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ" وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَوْرُوثِ الْمَيِّتِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الْكَلَالَةَ هُوَ الْوَارِثُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ, إذْ كَانَ وُجُودُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِلْوَارِثِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ مِيرَاثِهِ مِنْ مَوْرُوثِهِ وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْمِيرَاثِ بِوُجُودِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْمَيِّتِ الْمُوَرِّثِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْكَلَالَةِ قَدْ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْوَارِثِينَ, مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ, فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الْمِيرَاثُ فَإِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ"; وَهَذَا الْحَرْفُ تَفَرَّدَ بِهِ شُعْبَةُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ; فَأَخْبَرَ جَابِرَ أَنَّ الْكَلَالَةَ وَرِثَتْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدٍ: "أَنَّ سَعْدًا مَرِضَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي وَارِثٌ إلَّا كَلَالَةٌ"; فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا أَنَّ الْكَلَالَةَ هُمْ الْوَرَثَةُ وَحَدِيثُ سَعْدٍ مُتَقَدِّمٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ; لِأَنَّ مَرَضَهُ كَانَ بِمَكَّة وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْآيَةِ, فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ, وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ; وَيُقَالُ إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ, وَحَدِيثُ جابر كان بالمدينة في

_ 1 قوله: "أن أخالف أبا بكر" يعني أن أبا بكر رضي الله عنه ذهب إلى أن الكلالة اسم لما عدا الولد والولد من الورثة وعمر رضي الله عنه كان يقول اسم للمورث الذي مات عن غير والد وولد ثم رجع إلى قول أبي بكر رضي الله عنها "لمصححه".

آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يفتيكم في الكلالة} وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ". قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ: "يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ" وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ إلَى مَكَّةَ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْحَجِّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَهِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ, ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَكَّةَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ, ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] هَذِهِ الْآيَةُ, ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بَعْدَهَا حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا; هَكَذَا سَمِعْنَا. قَالَ يَحْيَى: وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَلَالَةِ, فَقَالَ: "مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَوَرَثَتُهُ كَلَالَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَ الْأَخْبَارِ وَالْآيِ; لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَغَيَّرُ فِيمَا ذَكَرْنَا بِالتَّارِيخِ, وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِهَا, وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِذَلِكَ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ اسْمَ الْكَلَالَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَيِّتَ تَارَةً وَبَعْضَ الْوَرَثَةِ تَارَةً أُخْرَى. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْكَلَالَةِ, فَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يُوَرَّثُ الْكَلَالَةُ؟ قَالَ: "أَوَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ؟ " ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إلَى آخِرِهَا; قَالَ: فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ, فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إذَا رَأَيْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبَ نَفْسٍ فَسَلِيهِ عَنْهَا فَرَأَتْ مِنْهُ طِيبَ نَفْسٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْهَا, فَقَالَ: "أَبُوك كَتَبَ لَك هَذَا؟ مَا أَرَى أَبَاك يَعْلَمُهَا أَبَدًا"; قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا أَرَانِي أَعْلَمُهَا أَبَدًا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال.

مطلب: في قول عُمَرُ: "ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إلي من الدنميا وما فيها". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَالرِّبَا" وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَا سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْته عَنْ الْكَلَالَةِ, حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: "يَكْفِيك آية الصيف"

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: "اعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أَقُلْ فِي الْكَلَالَةِ شَيْئًا". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ فِيهَا بِشَيْءٍ وَأَنَّ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادَ بِهَا كَانَ مُلْتَبِسًا عَلَيْهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ عُمَرُ كَتَبَ كِتَابًا فِي الْكَلَالَةِ, فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ مَحَاهُ وَقَالَ: "تَرَوْنَ فِيهِ رَأْيَكُمْ "; فَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ, وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ" وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: "أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ" وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ" وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: "أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا خَلَا الْوَلَدَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْ الْكَلَالَةِ, وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَالِدِ, فَقَالَ الْجُمْهُورُ: "الْوَالِدُ خَارِجٌ مِنْ الْكَلَالَةِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مِثْلَهُ, وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ. فَلَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَاهَا فَوَكَّلَهُ إلَى حُكْمِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَضْمُونِهَا, وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ اللُّغَةُ; ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى اسْمِ الْكَلَالَةِ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْآيِ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَعْنَاهُ بِالْمُحْكَمِ وَرَدَّهُ إلَيْهِ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ عَنْ سُؤَالِهِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ وَوَكَّلَهُ إلَى اسْتِنْبَاطِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي. أَحَدُهَا: أَنَّ بِمَسْأَلَتِهِ إيَّاهُ لَمْ يُلْزِمْهُ تَوْقِيفَهُ عَلَى مَعْنَاهَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ تَوْقِيفُهُ عَلَى مَعْنَاهَا لَمَا أَخْلَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرُ الْكَلَالَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا حَادِثَةٌ تُلْزِمُهُ تَنْفِيذَ حُكْمِهَا فِي الْحَالِ, وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَخْلَاهُ مِنْ بَيَانِهَا, وَإِنَّمَا سَأَلَهُ سُؤَالَ مُسْتَفْهِمٍ مُسْتَرْشِدٍ لِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ, وَلَمْ يَكُنْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفُ النَّاسِ عَلَى جَلِيلِ الْأَحْكَامِ وَدَقِيقِهَا; لِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ مُفْضِيَةٍ إلَى الْعِلْمِ بِهِ لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ, فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إلَى اجْتِهَادِهِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ, وَأَنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَسْوِيغِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ أَصْلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَعَانِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَةِ وَبِنَائِهَا عَلَى الْمُحْكَمِ; وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا عَلَى تَسْوِيَةِ الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعَانِي الْكَلَالَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ, أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: "هُوَ من لا

وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ" وَأَجَابَ عُمَرُ بِأَجْوِبَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَوَقَفَ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْكَلَامَ فِيهَا بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ على تسويغ الاجتهاد في الأحكام.

مطلب: في قوله عليه السلام: "من قال في القوآن برأيهى فأصاب فقد أخطأ" وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا رَوَى أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ;} إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَالَ فِيهِ بِمَا سَنَحَ فِي وَهْمِهِ وَخَطَرَ عَلَى بَالِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ, وَأَنَّ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى حُكْمِهِ وَاسْتَنْبَطَ مَعْنَاهُ فَحَمَلَهُ عَلَى الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهُ فَهُوَ مَمْدُوحٌ مَأْجُورٌ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ, قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: "الْكَلَالَةُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ وَلَا ابْنٌ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ كَلَالَةٌ, مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَيْ تَعَطَّفَ النَّسَبُ عَلَيْهِ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "مَنْ قَرَأَهَا يُورِثُ بِالْكَسْرِ أَرَادَ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَلَّذِي قَرَأَهُ بِالْكَسْرِ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْكَلَالَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْإِحَاطَةُ, فَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ, وَمِنْهُ الْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ; فَالْكَلَالَةُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَحَاطَ بِالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَتَكَلَّلَهُمَا وَتَعَطَّفَ عَلَيْهِمَا, وَالْوَلَدُ وَالْوَالِدُ لَيْسَا بِكَلَالَةٍ; لِأَنَّ أَصْلَ النَّسَبِ وَعَمُودَهُ الَّذِي إلَيْهِ يَنْتَهِي هُوَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ, وَمَنْ سِوَاهُمَا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا بِالِانْتِسَابِ عَنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوِلَادَةِ مِمَّنْ نُسِبَ إلَيْهِ كَالْإِكْلِيلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرَّأْسِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ وَأَنَّ الْوَلَدَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلَالَةِ كَذَلِكَ الْوَالِدُ; لِأَنَّ نِسْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْمَيِّتِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ; لِأَنَّ نَسَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ طَرِيقِ وِلَادٍ بَيْنَهُمَا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَنْ عَدَا الْوَلَدَ وَأَخْرَجَ الْوَلَدَ وَحْدَهُ مِنْ الْكَلَالَةِ, أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْوَالِدِ وَكَأَنَّهُ بَعْضُهُ وَلَيْسَ الْوَالِدُ مِنْ الْوَلَدِ كَمَا لَيْسَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْأُخُوَّةِ, فَاعْتَبَرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْكَلَالَةَ بِمَنْ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَبَعْضُهُ, فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْهُ فَلَيْسَ بِكَلَالَةٍ. وَقَدْ كَانَ اسْمُ الْكَلَالَةِ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: فَإِنِّي وَإِنْ كُنْت ابْنَ فَارِسِ عَامِرٍ ... وَفِي السِّرِّ مِنْهَا وَالصَّرِيحِ الْمُهَذَّبِ فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ كَلَالَةٍ ... أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوَ بِأُمٍّ ولا أب

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْجَدَّ الَّذِي انْتَسَبُوا إلَيْهِ كَلَالَةً, وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ سِيَادَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ وَالْكَلَالَةِ لَكِنَّهُ بِنَفْسِهِ سَادَ وَرَأَسَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّتْ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ إذَا تَبَاعَدَتْ, وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إذَا تَبَاعَدَ, وَالْكِلَالُ هُوَ الْإِعْيَاءُ; لِأَنَّهُ قَدْ يَبْعُدُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ مَا يُرِيدُهُ; وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمُلْكِ غَيْرَ كَلَالَةٍ ... عَنْ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ يَعْنِي: وَرِثْتُمُوهَا بِالْآبَاءِ لَا بِالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ. وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ من كتابه: أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] إلَى آخِرِ الْآيَةِ, فَذَكَرَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَسَمَّاهُمْ كَلَالَةً; وَعَدَمُ الْوَالِدِ مَشْرُوطٌ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِخْوَةِ مِيرَاثًا مَعَ الْأَبِ, فَخَرَجَ الْوَالِدُ مِنْ الْكَلَالَةِ كَمَا خَرَجَ الْوَلَدُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثْهُمْ مَعَ الْأَبِ كَمَا لَمْ يُوَرِّثْهُمْ مَعَ الِابْنِ, وَالْبِنْتُ أَيْضًا لَيْسَتْ بِكَلَالَةٍ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً أَوْ ابْنَتَيْنِ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَالْبَنَاتُ لَسْنَ بِكَلَالَةٍ, وَمَنْ وَرِثَ مَعَهُمَا كَلَالَةً. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فَهَذِهِ الْكَلَالَةُ هِيَ الْأَخُ وَالْأُخْت لِأُمٍّ لَا يَرِثَانِ مَعَ وَالِدٍ وَلَا وَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: "وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أُخْتٌ لِأُمٍّ" فَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ هَهُنَا إذَا كَانَا لِأُمٍّ دُونَهُمَا إذَا كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ, وَوَرِثَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ مَعَ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسَ, وَهُوَ السُّدُسُ الَّذِي حُجِبَتْ الْأُمُّ عَنْهُ", وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ, وَقَدْ بَيَّنَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ; وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ وَلَا يَفْضُلُ مِنْهُمْ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ هَلْ يُوَرَّثُ كَلَالَةً, فَقَالَ قَائِلُونَ: "لَمْ يُوَرَّثْ كَلَالَةً". وَقَالَ آخَرُونَ: "بَلْ هُوَ كَلَالَةٌ" وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يُوَرِّثُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ, وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنْ الْكَلَالَةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ خَارِجٌ عَنْ الْكَلَالَةِ; لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الْمَيِّتِ بِالْوِلَادِ, فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا خُرُوجُ الْجَدِّ مِنْهَا; إذْ كَانَتْ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّ الْجَدَّ هُوَ أَصْلُ النَّسَبِ كَالْأَبِ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْهُ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ الْكَلَالَةِ; إذْ كَانَتْ الْكَلَالَةُ مَا تُكَلَّلُ عَلَى النَّسَبِ وَتُعْطَفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ أَصْلُ النَّسَبِ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ قَوْله

تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْجَدُّ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ لَا يَرِثُ مَعَهُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ كَمَا لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي خُرُوجِهِ عَنْ الْكَلَالَةِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي نَفْيِ مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ إيَّاهُ فِي الْمِيرَاثِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْته مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبِنْتَ خَارِجَةٌ عَنْ الْكَلَالَةِ وَلَا يَرِثُ مَعَهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأُمِّ وَيَرِثُ مَعَهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ, فَكَذَلِكَ الْجَدُّ. قِيلَ لَهُ: لِمَ نَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةً لِلْمَسْأَلَةِ فَيَلْزَمُنَا مَا وَصَفْت, وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اسْمُ الْكَلَالَةِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عِنْدَ عَدَمِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ, وَالْبِنْتُ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ مَعَهَا, فَخَصَصْنَاهَا مِنْ الظَّاهِرِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيمَا سِوَاهَا مِمَّنْ يَشْتَمِلُهُ اسم الكلالة; والله أعلم.

بَابُ الْعَوْلِ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا الْتَوَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَدَافَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَلَا أَيُّكُمْ أَخَّرَ; وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا هُوَ أَوْسَعُ لِي أَنْ أُقَسِّمَ الْمَالَ عَلَيْكُمْ بِالْحِصَصِ; وَأُدْخِلَ عَلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْلِ الْفَرِيضَةِ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ فِي بِنْتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ قَالَ: "صَارَ ثَمَنُهَا تِسْعًا", وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْهُ, وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوَّلُ مَنْ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِالْعَوْلِ, قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ الْعَبَّاسِ: أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ قَدَّمَ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ لَمَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ فَقِيلَ لَهُ: وَأَيُّهَا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ وَأَيُّهَا الَّتِي أَخَّرَ؟ قَالَ: كُلُّ فَرِيضَةٍ لَمْ تُزَلْ عَنْ فَرِيضَةٍ إلَّا إلَى فَرِيضَةٍ فَهِيَ الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ, وَكُلُّ فَرِيضَةٍ إذَا زَالَتْ عَنْ فَرْضِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَا بَقِيَ فَهِيَ الَّتِي أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى; فَأَمَّا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُمُّ; لِأَنَّهُمْ لَا يَزُولُونَ مِنْ فَرْضٍ إلَّا إلَى فَرْضٍ, وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ نَزَلْنَ مِنْ فَرْضٍ إلَى تَعْصِيبٍ مَعَ الْبِنْتَيْنِ وَالْإِخْوَةِ فَيَكُونُ لَهُنَّ مَا بَقِيَ مَعَ الذُّكُورِ, فَنَبْدَأُ بِأَصْحَابِ السِّهَامِ ثُمَّ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَا بَقِيَ إذَا كَانُوا عَصَبَةً. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقُلْنَا لَهُ: فَهَلَّا رَاجَعْت فِيهِ عُمَرَ فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ امْرَأً مَهِيبًا وَرِعًا; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ كَلَّمْت فِيهِ عُمَرَ لَرَجَعَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ ابْنَ عَبَّاسٍ إمَامٌ عَدْلٌ فَأَمْضَى أَمْرًا

فَمَضَى وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا مَا اخْتَلَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْفَرَائِضَ وَعَوْلَهَا فَقَالَ: أَتَرَوْنَ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا جَعَلَ فِي مَالٍ قَسَّمَهُ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا؟ فَهَذَا النِّصْفُ وَهَذَا النِّصْفُ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ؟ قَالَ عَطَاءٌ: فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّ هَذَا لَا يُغْنِي عَنْك وَلَا عَنِّي شَيْئًا, لَوْ مِتُّ أَوْ مِتَّ قَسِّمْ مِيرَاثَنَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْقَوْمُ مِنْ خِلَافِ رَأْيِك وَرَأْيِي. قَالَ: فَإِنْ شَاءُوا فَلْنَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَهُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَهُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ, مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي مَالٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا. وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفَ وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثَ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ وَانْفِرَادِهِمْ, فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ نَصِّ الْآيَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ; فَإِذَا انْفَرَدُوا وَاتَّسَعَ الْمَالُ لَسِهَامِهِمْ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا, وَإِذَا اجْتَمَعُوا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْآيَةِ فِي التَّضَارُبِ بِهَا, وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضٍ وَأَسْقَطَ بَعْضًا أَوْ نَقَّصَ نَصِيبَ بَعْضٍ وَوَفَّى الْآخَرِينَ كَمَالَ سِهَامِهِمْ فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّيْمَ عَلَى بَعْضِهِمْ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِلْآخَرِينَ فِي التَّسْمِيَةِ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ تَقْدِيمِ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَأْخِيرِ مَنْ أَخَّرَ, فَإِنَّمَا قَدَّمَ بَعْضًا وَأَخَّرَ بَعْضًا وَجَعَلَ لَهُ الْبَاقِيَ فِي حَالِ التَّعْصِيبِ, فَأَمَّا حَالُ التَّسْمِيَةِ الَّتِي لَا تَعْصِيبَ فِيهَا فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْ الْآخَرِ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُخْتَ مَنْصُوصٌ عَلَى فَرْضِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] كَنَصِّهِ عَلَى فَرْضِ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ, فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ تَقْدِيمُ هَؤُلَاءِ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى فَرْضِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا نَصَّ عَلَى فَرْضِ الَّذِينَ مَعَهَا؟ وَلَيْسَ يَجِبُ; لِأَنَّ اللَّهَ أَزَالَ فَرْضَهَا إلَى غَيْرِ فَرْضٍ فِي مَوْضِعِ أَنْ يُزِيلَ فَرْضَهَا فِي الْحَالِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهِ فِيهَا; فَهَذَا الْقَوْلُ أَشْنَعُ فِي مُخَالَفَةِ الْآيِ الَّتِي فِيهَا سِهَامُ الْمَوَارِيثِ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ نِصْفٍ وَنِصْفٍ وَثُلُثٍ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ بِهَا. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي الْمَوَارِيثِ مِنْ الْأُصُولِ أَيْضًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ خَمْسُمِائَةٍ وَلِآخَرَ أَلْفٌ, كَانَتْ الْأَلْفُ الْمَتْرُوكَةُ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ, وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَلْفٍ اسْتَحَالَ الضَّرْبُ بِهَا; وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَبِسُدُسِهِ لِآخَرَ وَلَمْ تُجِزْ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ تَضَارَبَا فِي الثُّلُثِ بِقَدْرِ وَصَايَاهُمْ, فَيَضْرِبُ أَحَدُهُمَا بِالسُّدُسِ وَالْآخَرُ بِالثُّلُثِ مَعَ اسْتِحَالَةِ اسْتِيفَاءِ النِّصْفِ مِنْ الثُّلُثِ; وَكَذَلِكَ الِابْنُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ لَوْ انْفَرَدَ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ لَوْ

انْفَرَدَتْ, فَإِذَا اجْتَمَعَا ضُرِبَ الِابْنُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَالْبِنْتُ بِالنِّصْفِ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا, وَهَكَذَا سَبِيلُ الْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ تَدَافُعِ السِّهَامِ, والله أعلم.

بَابُ الْمُشْرَكَةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْرَكَةِ وَهِيَ أَنْ تَخْلُفَ الْمُوَرِّثَةُ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتِهَا لِأُمِّهَا وَإِخْوَتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمَّهَا, فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ, وَسَقَطَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ". وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانُوا مِائَةً أَكُنْتُمْ تَزِيدُونَهُمْ عَلَى الثُّلُثِ؟ " قَالُوا: لَا, قَالَ: "فَأَنَا لَا أُنْقِصُهُمْ مِنْهُ شَيْئًا"; وَجَعَلَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَصَبَةً فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ وَقَدْ حَالَتْ السِّهَامُ دُونَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ, ثُمَّ يَرْجِعُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَيُشَارِكُونَهُمْ فَيَكُونُ الثُّلُثُ الَّذِي أَخَذُوهُ بَيْنَهُمْ سَوَاءً" وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: "شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَشْرَكَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قَضَيْت عَامَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ هَذَا قَالَ: كَيْفَ قَضَيْت؟ قَالَ: جَعَلْته لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَلَمْ تُعْطِ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ شَيْئًا, قَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ حَتَّى احْتَجَّ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا أَبٌ وَلَيْسَ لَهُمْ أَبٌ وَلَنَا أُمٌّ كَمَا لَهُمْ, فَإِنْ كُنْتُمْ حَرَمْتُمُونَا بِأَبِينَا فَوَرِّثُونَا بِأُمِّنَا كَمَا وَرَّثْتُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمِّهِمْ وَاحْسَبُوا أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا, أَلَيْسَ قَدْ تَرَاكَضْنَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ: صَدَقْتُمْ فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي تَرْكِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ; وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فَنَصَّ عَلَى فَرْضِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ, وَبَيَّنَ أَيْضًا حُكْمَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُمْ فَرْضًا مُسَمًّى وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ التَّعْصِيبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ; وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا لِأُمٍّ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَنَّ

لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُسُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلُوا مَعَ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ فِي نَصِيبِهِ, فَلَمَّا كَانُوا مَعَ ذَوِي السِّهَامِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ بَاقِيَ الْمَالِ بِالتَّعْصِيبِ لَا بِالْفَرْضِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إدْخَالُهُمْ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي فَرْضِهِمْ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَنْفِي ذَلِكَ; إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا أَوْجَبَتْ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِالتَّعْصِيبِ لَا بِالْفَرْضِ, فَمَنْ أَعْطَاهُمْ بِالْفَرْضِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ; وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" فَجَعَلَ لِلْعَصَبَةِ بَقِيَّةَ الْمَالِ بَعْدَ أَخْذِ ذَوِي السِّهَامِ سِهَامَهُمْ, فَمَنْ أَشْرَكَهُمْ مَعَ ذَوِي السِّهَامِ وَهُمْ عَصَبَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْأَثَرَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي نَسَبِ الْأُمِّ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْرَمُوا بِالْأَبِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا لِأُمٍّ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَخَذَ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسَ كَامِلًا وَأَخَذَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ, وَعَسَى يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ الْعُشْرِ, وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ قَدْ حَرَمْتُمُونِي بِالْأَبِ مَعَ اشْتِرَاكِنَا فِي الْأُمِّ, بَلْ كَانَ نَصِيبُ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ أَوْفَرَ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْفَرْضِ وَإِنَّمَا أَخَذُوا بِالتَّعْصِيبِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا وَأَخًا لِأَبٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفَ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ; لِأَنَّهُمَا عَصَبَةٌ, فَلَا يُدْخَلُ مَعَ ذَوِي السِّهَامِ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَتَّى تَسْتَحِقَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ سَهْمَهَا الَّذِي كَانَتْ تَأْخُذُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ عَنْ الْأَخِ, وَإِنَّمَا التَّعْصِيبُ أَخْرَجَهَا عَنْ السُّدُسِ الَّذِي. كَانَتْ تَسْتَحِقُّهُ, كَذَلِكَ التَّعْصِيبُ يُخْرِجُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَنْ الثُّلُثِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مِيرَاثِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي رَجُلٍ خَلَفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَصَبَةً أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ, فَجَعَلُوهَا عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: "لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْعَصَبَةِ وَإِنْ بَعُدَ نَسَبُهُمْ, وَلَا حَظَّ لِلْأُخْتِ فِي الْمِيرَاثِ مَعَ الْبِنْتِ"; وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَضَى بِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ وَزَيْدًا كَانُوا يَجْعَلُونَ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً فَيُورَثُونَهُنَّ فَاضِلَ الْمَالِ, فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله؟

يَقُولُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ لَهَا مَعَ الْوَلَدِ النِّصْفَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ; لِأَنَّ أَخَاهَا الْمَيِّتَ هُوَ مِنْ الْأَقْرَبِينَ, وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مِيرَاثَ الْأَقْرَبِينَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَيُحْتَجُّ فِيهِ بِحَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ, فَأَعْطَى لِلْأُخْتِ بَقِيَّةَ الْمَالِ بَعْدَ السِّهَامِ وَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ يَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لَهَا النِّصْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا النِّصْفَ مَعَ الْوَلَدِ; فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى سَهْمِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَنْفِ مِيرَاثَهَا مَعَ وُجُودِهِ, وَتَسْمِيَتُهُ لَهَا النِّصْفَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى سُقُوطِ حَقِّهَا إذَا كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ; إذْ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْحَالَ بِنَفْيِ الْمِيرَاثِ وَلَا بِإِيجَابِهِ, فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلِيلِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ; بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَهُوَ يَرِثُهَا} يَعْنِي الْأَخَ يَرِثُ الْأُخْتَ {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} مَعْنَاهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا إذَا تَرَكَتْ وَلَدًا أُنْثَى وَأَخًا أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِيَ لِلْأَخِ, وَالْوَلَدُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ بَدِيًّا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ. وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ: إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ, فَيَأْخُذُ الْأَبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ الْوَلَدِ الْأُنْثَى أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ, وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} عَلَى أَنَّهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ, وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أَبًا وَبِنْتًا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأَبِ النِّصْفُ; فَقَدْ أَخَذَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ مَعَ الْوَلَدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْأُمَّةِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْبِنْتِ, وَكَذَلِكَ الْبِنْتُ وَالْأَخُ. وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فَنَصَّ عَلَى سَهْمِ الْبِنْتِ وَسَهْمِ مَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ, وَجَعَلَ لَهَا إذَا انْفَرَدَتْ النِّصْفَ وَإِذَا ضَامَهَا غَيْرُهَا الثُّلُثَيْنِ لَهُمَا جَمِيعًا; فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ ذِكْرُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى نَفْيِ مَا فَوْقَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْت فَلَيْسَ إذًا فِي الظَّاهِرِ نَفْيُ مَا زَادَ وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُطَالِبَ خَصْمَك بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أَمْرًا بِاعْتِبَارِ السِّهَامِ الْمَذْكُورَةِ; إذْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ أَمْرًا, أَوْجَبَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ كُلِّ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فِي الْآيَةِ عَلَى حِيَالِهِ مَمْنُوعًا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ, فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ لِمَنْ سَمَّيْت لَهُ غَيْرَ زَائِدَةٍ وَلَا نَاقِصَةٍ, وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ, فَلِذَلِكَ مَنَعْنَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَوْرِيثِ الْأَخِ مَعَ الْبِنْتِ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" , فَوَاجِبٌ بِمَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرُ أَنَّا إذَا أَعْطَيْنَا الْبِنْتَ النِّصْفَ أَنْ نُعْطِيَ الْبَاقِيَ الْأَخَ; لِأَنَّهُ أَوْلَى عَصَبَةٍ ذكر.

مطلب: اختلف السَّلَفُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ, فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ: "لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَهُمَا نِصْفَانِ" وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ: "الْمَالُ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ", وَقَالَا: "ذُو السَّهْمِ أَحَقُّ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ" وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ أَنَّ لَهُمَا الثُّلُثَ بِنَسَبِ الْأُمِّ وَمَا بَقِيَ فَلِابْنِ الْعَمِّ خَاصَّةً, وَلَمْ يَجْعَلُوا ابْنَ الْعَمِّ أَحَقَّ بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ لِاجْتِمَاعِ السَّهْمِ وَالتَّسْمِيَةُ لَهُ دُونَ الْآخَرِ, كَذَلِكَ حُكْمُ ابْنَيْ الْعَمِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَجْلِ اخْتِصَاصِهِ بِالسَّهْمِ وَالتَّعْصِيبِ. وَشَبَّهَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ بِالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ, وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مُشْبِهًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ نَسَبَهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ, فَاعْتُبِرَ فِيهَا أَقْرَبُهُمَا إلَيْهِ, وَهُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ, وَلَا يَسْتَحِقُّ بِقَرَابَتِهِ مِنْ الْأُمِّ سَهْمَ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ بَلْ إنَّمَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ حُكْمُ الْأُخُوَّةِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ ابْنَا الْعَمِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ; لِأَنَّك تُرِيدُ أَنْ تُؤَكِّدَ بِالْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ مَا لَيْسَ بِأُخُوَّةٍ, وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَكِّدَهُ بِهَا وَيَدُلُّك عَلَى هَذَا أَنَّ نِسْبَتَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ابْنُ الْعَمِّ لَا يُسْقِطُ سَهْمَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ بَلْ يَرِثُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ سَهْمُ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَمٍّ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَوْ تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَزَوْجًا وَأَخًا لِأُمٍّ هُوَ ابْنُ عَمٍّ أَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسَ وَلَمْ يَسْقُطْ سَهْمُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ابْنُ عَمٍّ؟ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَإِخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ والأم,

وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَ الْأُخُوَّةِ مِنْ الْأُمِّ لِمُشَارَكَتِهِمْ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ فِي نَسَبِهَا, بَلْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا بِالتَّعْصِيبِ فَكَانَتْ قَرَابَتُهُمْ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ مُؤَكَّدَةً لَتَعْصِيبِهِمْ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي السِّهَامِ, وَقَرَابَةُ ابْنِ الْعَمِّ بِنَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ سَهْمِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ; وَلَيْسَ لِهَذَا تَأْثِيرٌ فِي تَأْكِيدِ التَّعْصِيبِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ أَبَدًا إلَّا بِالتَّعْصِيبِ, كَمَا لَا يَأْخُذُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ إلَّا بِالتَّعْصِيبِ وَلَا يَأْخُذُونَ بِقَرَابَتِهِمْ مِنْ الْأُمِّ سَهْمَ الْأُخُوَّةِ مِنْ الْأُمِّ, والله أعلم.

باب الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ, وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ هَذَيْنِ, وَلَيْسَتْ" أَوْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَحَدِهِمَا بَلْ قَدْ تَنَاوَلْتُهُمَا جَمِيعًا, وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} مُسْتَثْنًى عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ, وَمَتَى دَخَلَتْ "أَوْ" عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى" الْوَاوِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فَكَانَتْ" أَوْ" فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَنْزِلَةِ" الْوَاوِ" فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا. وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلتَّبْدِئَةِ بِهَا عَلَى الدَّيْنِ; لِأَنَّ "أَوْ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمِيرَاثِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ جَارِيَةٌ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَعَزْلِ حِصَّةِ الْوَصِيَّةِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَتْ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ فِي الثُّلُثَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ سِهَامُ سَائِرِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ جَارِيَةٌ فِي الثُّلُثَيْنِ دُونَ الثُّلُثِ الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ. فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ ذِكْرِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ لِيُعَلِّمَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُخَالِفَةً لِلدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ لَدَخَلَ النُّقْصَانُ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْوَرَثَةِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاقِي وَإِنْ اسْتَغْرَقَهُ وَبَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا, فَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ وَيَأْخُذُ شَبَهًا مِنْ الْغَرِيمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَهُوَ أَنَّ سِهَامَ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ

الْوَصِيَّةِ كَاعْتِبَارِهَا بَعْدَ الدَّيْنِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يُعْطَى وَصِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْوَرَثَةُ أَنْصِبَاءَهُمْ, بَلْ يُعْطَوْنَ كُلَّهُمْ مَعًا كَأَنَّهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي هَذَا الْوَجْهِ, وَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ ذَاهِبٌ منهم جميعا.

بَابُ مِقْدَارُ الْوَصِيَّةِ الْجَائِزَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ; لِأَنَّهَا مَنْكُورَةٌ لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ; إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَصِيَّةُ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا بِجَمِيعِهِ, وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} فَأَطْلَقَ إيجَابَ الْمِيرَاثِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ, فَلَوْ اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَصَارَ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} مَنْسُوخًا بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ, فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي إيجَابِ الْمِيرَاثِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ, فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى بَعْضِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ حَتَّى نَكُونَ مُسْتَعْمِلِينَ لِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} يَعْنِي فِي مَنْعِ الرَّجُلِ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ تَأْوِيلِهِ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي الِاقْتِصَارِ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ, مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضَ أَبِي مَرَضًا شَدِيدًا قَالَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ بِمَكَّةَ مَرَضًا أَشْفَى مِنْهُ, فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي, أَفَأَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: "لَا" قَالَ: فَبِالشَّطْرِ؟ "قَالَ: "لَا" قال: فبالثلث؟ قال: "لثلث وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَإِنَّك إنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأَتِك" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي؟ قَالَ "إنَّك إنْ تُخَلَّفْ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا تَزْدَادُ بِهِ إلَّا رِفْعَةً وَدَرَجَةً, لَعَلَّك أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ", لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرَ ضُرُوبًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْفَوَائِدِ, مِنْهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ

غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ النُّقْصَانُ عَنْ الثُّلُثِ, وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَسْتَحِبُّ النُّقْصَانَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ". وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْمَالِ وَوَرَثَتُهُ فُقَرَاءُ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يُوصِيَ بِشَيْءٍ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مَمْنُوعَةٌ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ; لِأَنَّ سَعْدًا قَالَ: أَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِي؟ فَقَالَ: "لَا" إلَى أَنْ رَدَّهُ إلَى الثُّلُثِ; وَقَدْ رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ, فَقَالَ: أَوْصَيْت؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْت: بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, قَالَ: فَمَا تَرَكْت لَوَلَدِك؟ قَالَ: هُمْ أَغْنِيَاءُ, قَالَ: أَوْصِ بِالْعَشْرِ فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ وَيُنَاقِصُنِي حَتَّى قَالَ: أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ أَنْ نُنْقِصَ مِنْ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ". فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: "أَوْصَيْت بِمَالِي كُلِّهِ" وَهَذَا لَا يَنْفِي مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَرَضِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لِمَا مَنَعَهُ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ظَنَّ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَائِزَةٌ فِي الْمَرَضِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا, فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حُكْمَ الصَّدَقَةِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ, وَهُوَ نَظِيرُ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ, وَفِيهِ: "إنَّ الرَّجُلَ مَأْجُورٌ فِي النَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِهِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ هِبَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ; لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا الثَّوَابَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى; وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا أَعْطَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عَطِيَّةً فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ". وَقَوْلُ سَعْدٍ: "أَتَخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي" عَنَى بِهِ أَنَّهُ يَمُوتُ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُهُ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا إلَى الْمَدِينَة, وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يُقِيمُوا بَعْدَ النَّفْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ, فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَتَخَلَّفُ بَعْدَهُ حَتَّى يُنَفِّعَ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا وَيَضُرَّ بِهِ آخَرِينَ; وَكَذَلِكَ كَانَ, فَإِنَّهُ بَقِيَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ بِلَادِ الْعَجَمِ وَأَزَالَ بِهِ مُلْكَ الْأَكَاسِرَةِ; وَذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدُ اللَّهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَاتِمٍ الْعِجْلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ صَبِيحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ حَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا ابْنَ آدَمَ اثْنَتَانِ لَيْسَتْ لَك وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا: جَعَلْت لَك نَصِيبًا فِي مَالِك حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِكَ1 لِأُطَهِّركَ وأزكيك, وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء

_ 1 قوله: "بكظمك" بفتحتين هو مخرج النفس من الحلق. "لمصححه".

أَجَلِك". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ لَهُ بَعْضَ الْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا جَمِيعَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ النَّطَّاحِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: سَمِعْت طَلْحَةَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمُوجِبَةُ لِلِاقْتِصَارِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ لِتَلَقِّي النَّاسِ إيَّاهَا بِالْقَبُولِ, وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الثُّلُثِ. وقَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ أَنَّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِ لَوَرَثَتِهِ, وَأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٌ لَمْ يَجِبْ إخْرَاجُهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ, وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ وَالنُّذُورُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ, وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُلْزِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقُرَبِ فِي الْمَالِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ سَأَلْته عَنْ الْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا: "أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُجْزِئُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ, قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ". قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سَمَّاهُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُسَمِّهِ بِهَذَا الِاسْمِ إلَّا مُقَيَّدًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ, وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إنَّمَا اقْتَضَى التَّبْدِئَةَ بِمَا يُسَمَّى بِهِ دَيْنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ, فَلَا يَنْطَوِي تَحْتَهُ مَا لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا; لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ أَسْمَاءً مُطْلَقَةً وَأَسْمَاءً مُقَيَّدَةً, فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمُطْلَقُ إلَّا مَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ, فَإِذَا لَمْ تَتَنَاوَلْ الْآيَةُ مَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّيُونِ لِمَا وَصَفْنَا, اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوصِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ لِآدَمِيٍّ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَارِثُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ. وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ قَالَ: أَتَصَدَّقُ بِمَالِي؟ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أُوصِي بِمَالِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" وَلَمْ يَسْتَثْنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ وَلَا الزَّكَاةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى, وَمَنَعَ الصَّدَقَةَ وَالْوَصِيَّةَ إلَّا بِثُلُثِ الْمَالِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث.

مطلب: في الوضية بالزكاة والنذور وسائر الحقوق الواجبة لا تجوز إلا مِنْ الثُّلُثِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ" وَحَدِيثُ ابن عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: "جَعَلْت لَك نَصِيبًا فِي مَالِك حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِكَ" يَدُلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى

أَنَّ وَصِيَّتَهُ بِالزَّكَاةِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الْقُرَبِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ, والله أعلم.

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَرَوَى عَمْرُو بْنُ خَارِجَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ". وَنَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِيهَا: "أَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" فَوَرَدَ نَقْلُ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَاسْتِفَاضَةِ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ مَا زَادَ, لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ نَقْلِ الِاسْتِفَاضَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُ وَتَلَقِّيهمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ. وَهَذَا عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَالنَّافِي لِلرَّيْبِ وَالشَّكِّ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ: "إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا أَجَازَتْهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ, وَتَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي لَا تَكُونُ هِبَةً مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ; لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ لَيْسَتْ بِإِجَازَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمَوْرُوثِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْوَرَثَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ فِي حَيَاتِهِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ. وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ". وقال ابن القاسم عن مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الَّذِي قَدْ بَانَ عَنْ أَبِيهِ وَالْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا, فَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَبَنَاتُهُ اللَّاتِي لَمْ يَبِنَّ وَكُلُّ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ احْتَلَمَ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا, وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ وَمَنْ خَافَ مِنْهُمْ أَنَّهُ إن لم يجز لحقه ضرر منه في قَطْعِ النَّفَقَةِ إنْ صَحَّ, فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا". وَقَوْلُ اللَّيْثِ فِي هَذَا كَقَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ أَجَازُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ جَازَتْ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَسْخُهَا فِي الْحَيَاةِ كَذَلِكَ لَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُمْ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا بَعْدُ شَيْئًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ جَازَ" وَهُوَ قَوْلُ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ, وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ وَرِثَهُ مَا يُسَمِّي لَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ أَكْثَرَ, وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَفَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وقَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فَجَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحُلَفَاءِ, وَلَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ مِيرَاثَ الْحُلَفَاءِ أَصْلًا بَلْ جَعَلَ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى مِنْهُمْ كَمَا جَعَلَ الِابْنَ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَوُو الْأَنْسَابِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّوَارُثِ فِي الْحَلِفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَقَالَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ, لَوْلَا قِيَامُ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ وَإِيجَابِ نَصِيبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ الْأَقْرَبِينَ, فَمَتَى عَدِمَ مَنْ وَجَبَ بِهِ تَخْصِيصُ الْوَصِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَالِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَاهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ: "إنَّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْعَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "لَيْسَ مِنْ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ أَحْرَى أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ وَارِثٌ مِنْكُمْ مَعْشَرَ هَمْدَانَ, فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلْيَضَعْ مَالَهُ حَيْثُ أَحَبَّ", وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ إذَا مَاتَ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمُونَ مَالَهُ مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَالٌ لَا مَالِكَ لَهُ فَيَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يَرَى, فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الرَّجُلُ مَعَ ابْنِهِ وَمَعَ أَبِيهِ وَالْبَعِيدُ عَنْ الْقَرِيبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ; لِأَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةِ الْأُبُوَّةِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ; لِأَنَّ سَبِيلَ الْمِيرَاثِ أَنْ لَا يَخُصَّ بِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دون

بَعْضٍ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا مِنْ هَمْدَانَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ وَارِثٌ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِيرَاثَهُ أَهْلُ قَبِيلَتِهِ; لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ, فَلَمَّا كَانَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بَيْتُ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ يَرَاهُ أَهْلًا لَهُ, دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَأْخُذُونَهُ مِيرَاثًا, وَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوهُ مِيرَاثًا وَإِنَّمَا كَانَ لِلْإِمَامِ صَرْفُهُ إلَى حَيْثُ يَرَى; لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ, فَمَالِكُهُ أَوْلَى بِصَرْفِهِ إلَى مِنْ يَرَى. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَأْخُذُوهُ مِيرَاثًا أَشْبَهَ الثُّلُثَ الَّذِي يُوصِي بِهِ الْمَيِّتُ وَلَا مِيرَاثَ فِيهِ, فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَنْ شَاءَ, فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَالِ إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَارِثُ كَانَ لَهُ صَرْفُهُ إلَى مَنْ شَاءَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أيوب قال: سمعت نافعا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ اللَّيْلَتَانِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ" فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْ بِجَمِيعِهِ, وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ; وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ, فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ مُقْتَضَاهُ فِي جَوَازِهَا بِالْجَمِيعِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الضِّرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يُقِرَّ فِي وَصِيَّتِهِ بِمَالٍ أَوْ بِبَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ زَبًّا لِلْمِيرَاثِ عَنْ وَارِثِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ. وَمِنْهَا أَنْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي مَرَضِهِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَى وَارِثِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي مَرَضِهِ وَيُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ مَالَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي مَرَضِهِ إضْرَارًا مِنْهُ بِوَرَثَتِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَعَدَّى فَيُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِمَّا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلٌّ مِنْ الْمُضَارَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ, وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي فَحْوَى قَوْلِهِ لِسَعْدٍ: "الثُّلُثُ والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصمد بن حسان قال: حدثنا سفيان الثوري عَنْ دَاوُد يَعْنِي ابْنَ أَبِي هِنْدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ" ثُمَّ قَرَأَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ: "فِي الْوَصِيَّةِ" {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ: "فِي الْوَصِيَّةِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا وَمُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَا: حَدَّثَنَا حُمَيَدٌ بْنُ زادويه قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بن المغيرة عن داود بن

أبي هند عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن أشعث عن شهر بن حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيمَا تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ: "فِي الْوَصِيَّةِ" {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ: "فِي الْوَصِيَّةِ".

بَابُ مَنْ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ, فَبَعْضُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ, فَمَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ وَأَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ; وَقَدْ بَيَّنَّا مِيرَاثَ هَؤُلَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْهُ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَمِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ, فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا, وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ ابْنِ بَابَاهُ1 عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ فَارْتَفَعُوا إلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ وَتَرَكَ أَخَاهُ مُسْلِمًا, فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص".

_ 1 قوله: "ابن باباه" اسمه عبد الله واسم أبيه باباه كما في خلاصة تهذيب الكمال "لمصححه".

مطلب: في قَوْلُ مَسْرُوقٍ: مَا أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَضِيَّةً أعجب من قضية قضاها معاوية وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قَالَ مَسْرُوقٌ: مَا أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَضِيَّةً أَعْجَبُ مِنْ قَضِيَّةٍ قَضَاهَا مُعَاوِيَةُ قَالَ: كَانَ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَلَا يُوَرِّثُ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ مِنْ الْمُسْلِمِ, قَالَ: فَقَضَى بِهَا أَهْلُ الشَّامِ; قَالَ دَاوُد: فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَدَّهُمْ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ. وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشعبي: أن

مُعَاوِيَةَ كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى زِيَادِ يَعْنِي تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَأَرْسَلَ زِيَادٌ إلَى شُرَيْحٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ, وَكَانَ شُرَيْحٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ, فَلَمَّا أَمَرَهُ زِيَادُ بِمَا أَمَرَهُ قَضَى بِقَوْلِهِ, فَكَانَ شُرَيْحٌ إذَا قَضَى بِذَلِكَ قَالَ: هَذَا قَضَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى" وَفِي لَفْظٍ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَمْنَعُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ, وَلَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُهُ, فَهُوَ ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما.

مطلب: تأويل لا يقضى به على النص وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ, وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ فِيهَا قَوْلَهُ: "الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ" وَالتَّأْوِيلُ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ وَإِنَّمَا يُرَدُّ التَّأْوِيلُ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَيُحْمَلُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ دُونَ مُخَالِفَتِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ" يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ تُرِكَ عَلَى إسْلَامِهِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ رُدَّ إلَيْهِ; وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ مَا تَأَوَّلَهُ مُعَاذٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ خَبَرِ أُسَامَةَ فِي مَنْعِ التَّوَارُثِ, إذْ غَيْرُ جَائِزٍ رَدُّ النَّصِّ بِالتَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ. وَالِاحْتِمَالُ أَيْضًا لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ; لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ, فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مسروق: "ما أحدث في الإسلام قضية أعجب مِنْ قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا مُعَاوِيَةُ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ" فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْمَذْهَبِ لِإِخْبَارِهِ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ, وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَضِيَّةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يُوَرَّثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ قَبْلِ قَضِيَّةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يُوَرَّثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا عَلَيْهِمْ, بَلْ هُوَ سَاقِطُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ: إنَّ عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول; والله أعلم.

بَابُ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ عَلَى أَنْحَاء ثَلَاثَةٍ: فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحَمَّادٌ وَالْحَكَمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَشَرِيكٌ: "يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ". وَقَالَ رَبِيعَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ:

"مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ". وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: "إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ عَلَى دِينِهِ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ فَمِيرَاثُهُ لَهُمْ دُونَ وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ" وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ; وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ أَنَّ مِيرَاثَهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: "مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَهُوَ فَيْءٌ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: "مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ أَيْضًا فَهُوَ لَوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدِّ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: يَخُصُّهُ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ" كَمَا خَصَّ تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ, وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي مَنْعِ تَوْرِيثِ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ, فَصَارَ فِي حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ; وَلِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ خَاصَّةً بِالِاتِّفَاقِ, وَأَخْبَارُ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ فِي تَخْصِيصِ مِثْلِهَا قِيلَ لَهُ: فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أُسَامَةَ: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ" فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُرَادَ إسْقَاطُ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ, وَلَيْسَتْ الرِّدَّةُ بِمِلَّةٍ قَائِمَةٍ; لِأَنَّهُ وَإِنْ ارْتَدَّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ فَغَيْرُ مُقِرٍّ عَلَيْهَا, فَلَيْسَ هُوَ مَحْكُومًا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مِلَّةِ الْكِتَابِيِّ أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ بِمِلَّةٍ, وَحَدِيثُ أُسَامَةَ مَقْصُورٌ فِي مَنْعِ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ; وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مُفَسَّرٍ, وَهُوَ مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى, لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَنْعُ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ يَزُولُ بِالرِّدَّةِ, فَإِذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ; وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يُجِيزُ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ, وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فَهُوَ لَمْ يُوَرِّثُ مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ; لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهُ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ, وَإِنَّمَا وَرَّثَ مُسْلِمًا مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذًا يَكُونُ قَدْ وَرَّثْتَهُ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ تَوْرِيثُ الْحَيِّ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] وَكَانُوا أَحْيَاءً; وَعَلَى أَنَّا إنَّمَا نَقَلْنَا الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ, فَلَيْسَ فِيهِ تَوْرِيثُ الْحَيِّ. وَيُقَالُ لِلسَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ: وَأَنْتَ إذَا جَعَلْت مَالَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ وَرَّثْت مِنْهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَافِرٌ وَوَرَّثْتهمْ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا إنما

يَسْتَحِقُّونَ مَالَهُ بِالْإِسْلَامِ فَقَدْ اجْتَمَعَ لِلْوَرَثَةِ الْقَرَابَةُ وَالْإِسْلَامُ, وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَوْلَى بِمَالِهِ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ لَهُمْ وَانْفِرَادِ الْمُسْلِمِينَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ, وَالسَّبَبَانِ اللَّذَانِ اجْتَمَعَا لِلْوَرَثَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَقُرْبُ النَّسَبِ, وَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِمَا كَانَ مَالُهُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ مَنْ اجْتَمَعَ لَهُ قُرْبُ النَّسَبِ مَعَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِمَّنْ بَعْدَ نَسَبِهِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ إسْلَامٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ تَوْرِيثَهُ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْإِسْلَامِ, لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَاتِّفَاقُ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِسْلَامِ, فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: يَسْتَحِقُّهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ, وَآخَرِينَ يَقُولُونَ: يَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ; فَلَمَّا كَانَ مَالُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْإِسْلَامِ أَشْبَهَ مَالَ الْمُسْلِمِ الْمَيِّتِ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ اجْتَمَعَ لَهُ الْإِسْلَامُ وَقُرْبُ النَّسَبِ أَوْلَى مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ مَاتَ ذِمِّيٌّ وَتَرَكَ مَالًا وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَلَهُ قَرَابَةٌ مُسْلِمُونَ كَانَ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ أَقَارِبُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِهِ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالنَّسَبِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْإِسْلَامِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ وَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمُونَ مَالَهُ, وَمَا اسْتَحَقَّ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ بِالْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ وَرَثَتُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ بَلْ يَكُونُونَ هُمْ أَوْلَى كَمَوَارِيثِ الْمُسْلِمِينَ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ وَإِنْ جُعِلَ لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحَقًّا بِالْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ مَالٌ لَا مَالِكَ لَهُ وَجَدَهُ الْإِمَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ; كَاللُّقَطَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهَا فَتُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا اكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ: "إنَّهُ فَيْءٌ لِبَيْتِ الْمَالِ" وَهَذَا يَنْقُضُ الِاعْتِلَالَ وَيَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ لِلْمُخَالِفِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا صَحِيحًا, وَمَتَى جَعَلْنَاهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَالُ مَغْنُومًا كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْحَرْبِ إذَا ظَفِرْنَا بِهَا, وَمَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ الْغَنَائِمَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ لِغَانِمِيهَا بِالْإِسْلَامِ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الذِّمِّيَّ مَتَى شَهِدَ الْقِتَالَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُرْضَخَ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ وَمَالَ الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ مَغْنُومٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْإِسْلَامِ, فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ قُرْبُ النَّسَبِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا اعْتَبَرْنَا فِي مَالِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ مِلْكَهُ فِيهِ صَحِيحًا إلَى أَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ, فَمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ النَّاسِ

فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْمِيرَاثِ وَالْمَوَارِيثُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَقُرْبُ النَّسَبِ إذَا كَانَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ إلَى أَنْ زَالَ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ الْمُوجِبَةِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ, فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ حُكْمُ مَالِهِ الْمُكْتَسَبِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ. وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِلْمَالِ الْمُكْتَسَبِ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ كَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ زَالَ عَنْهُ الْمَوْتُ, وَالْمَالُ الْمُكْتَسَبُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْحَرْبِيِّ مِلْكُهُ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ; لِأَنَّهُ اكْتَسَبَهُ وَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ, فَمَتَى حَصَلَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ مَغْنُومًا, بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ دَخَلَ إلَيْنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذْنَاهُ مَعَ مَالِهِ أَنَّ مَالَهُ يَكُونُ غَنِيمَةً, فَكَذَلِكَ مَالُ الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَقُلْت: إلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ أَقْتُلَهُ وَآخُذَ مَالَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ فَيْءٌ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ; لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُحَارِبًا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِذَلِكَ حَرْبِيًّا فَكَانَ مَالُهُ مَغْنُومًا; لِأَنَّ الرَّايَةَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْمُحَارَبَةِ; وَقَدْ رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَدَّ مُعَاوِيَةَ إلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيُخَمِّسَ مَالَهُ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ مَغْنُومًا بِالْمُحَارَبَةِ وَلِذَلِكَ أُخِذَ مِنْهُ الْخُمُسُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَالُ الْمُرْتَدِّ مَغْنُومًا؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ فَهُوَ كَذَلِكَ, وَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَغْنُومًا, مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَا كَانَ يُغْنَمُ مِنْ الْأَمْوَالِ سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مِلْكَ مَالِكِهِ غَيْرَ صَحِيحٍ فِيهِ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ, كَمَالِ الْحَرْبِيِّ وَمَالِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الرِّدَّةِ قَدْ كَانَ مِلْكُهُ فِيهِ صَحِيحًا, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَغْنَمَ كَمَا لَا يَغْنَمُ أَمْوَالَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ فِيهِ صَحِيحَةً, وَزَوَالُهُ عَنْ الْمُرْتَدِّ بِالرِّدَّةِ كَزَوَالِهِ بِالْمَوْتِ فَمَتَى انْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْهُ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْمَوْتِ أَوْ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ اسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ إنْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْإِسْلَامِ لَا عَلَى أَنَّهُ غَنِيمَةٌ كَانَتْ وَرَثَتُهُ أَوْلَى بِهِ لِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ لَهُمْ, وَإِنْ اسْتَحَقُّوهُ بِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْمَغْنُومِ غَيْرَ صَحِيحِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ, فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُسْلِمٍ مَاتَ فَلَمْ يُقَسَّمْ مِيرَاثُهُ حَتَّى أَسْلَمَ ابْنٌ لَهُ كَافِرٌ أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَ: "إنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ", وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي الزِّنَادِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُف وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُمَا قَالَا: "مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ شَارَكَ فِي الْمِيرَاثِ", وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ; وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْمَوَارِيثِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, مَا

طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ قُسِّمَ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ وَقْتُ الْمَوْتِ; وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ حُكْمَ الْمَوَارِيثِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وَقَالَ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فَأَوْجَبَ لَهَا الْمِيرَاثَ بِالْمَوْتِ, وَحَكَمَ لَهَا بِالنِّصْفِ وَلِلزَّوْجِ بِالنِّصْفِ بِحُدُوثِ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقِسْمَةِ, وَالْقِسْمَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا قَدْ مُلِكَ, فَلَا حَظَّ لِلْقِسْمَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ; لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَبَعٌ لِلْمِلْكِ; وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُ الْأُخْتِ عَنْهُ بِإِسْلَامِ الِابْنِ كَمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهَا عَنْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. وَأَمَّا مَوَارِيثُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَقَعْ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ, فَلَمَّا طَرَأَ الْإِسْلَامُ حُمِلَتْ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ; إذْ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ مُسْتَقَرًّا ثَابِتًا, فَعُفِيَ لَهُمْ عَمَّا قَدْ اقْتَسَمُوهُ وَحُمِلَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ كَمَا عُفِيَ لَهُمْ عَنْ الرِّبَا الْمَقْبُوضِ, وَحُمِلَ بَعْدَ وُرُودِ تَحْرِيمِ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ, فَأَبْطَلَ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ, وَمَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهَا فَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا بِالْقِسْمَةِ وَلَا عَدَمِهَا, كَمَا أَنَّ عُقُودَ الرِّبَا لَوْ أُوقِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْمَقْبُوضِ مِنْهَا وَغَيْرُ الْمَقْبُوضِ فِي بُطْلَانِ الجمع.

مطلب: في حكم ردة الوارث بعد موت مورثه وَأَيْضًا لَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثًا فَمَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ لَوَرَثَتِهِ, وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ لَمْ يَبْطُلْ مِيرَاثُهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مُرْتَدًّا وَقْتَ الْمَوْتِ, فَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أَعْتَقَ بَعْدَ الْمَوْت قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ, والله أعلم.

بَابُ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَدَّ الزَّانِيَةِ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {سَبِيلاً} , قَالَ: وَقَالَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ قَبْلَ أَنْ

تَنْزِلَ سُورَةُ النُّورِ فِي الْجَلْدِ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قَالَ: وَالسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ لَهَا الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ, قَالَ: فَإِذَا جَاءَتْ الْيَوْمَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنَّهَا تُخْرَجُ وَتُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ; قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صالح عن معاوية بن صالح عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في هذه الآية وفي قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا زَنَتْ حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ, وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا زَنَى أُوذِيَ بِالتَّعْيِيرِ وَبِالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ, قَالَ: فَنَزَلَتْ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .

مطلب في أن رجم المحصن ثبت بالسنة قَالَ: وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَهُوَ سَبِيلُهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا; يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ حُكْمُ الزَّانِيَةِ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ مَا أَوْجَبَ مِنْ حَدِّهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا, وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا, وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُكْمًا عَامًّا فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ. وقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: "أَنَّ الْمُرَادَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الْبِكْرَيْنِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّهُ أَرَادَ الرَّجُلَيْنِ الزَّانِيَيْنِ". وَهَذَا التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ يُقَالُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّثْنِيَةِ هَهُنَا; إذْ كَانَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَجِيئَانِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ; لِأَنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, أَوْ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْجِنْسِ الشَّامِلِ لَجَمِيعِهِمْ; وَقَوْلُ الْحَسَنِ صَحِيحٌ وَتَأْوِيلُ السُّدِّيِّ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا, فَاقْتَضَتْ الْآيَتَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا أَنَّ حَدَّ الْمَرْأَةِ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسَ جَمِيعًا إلَى أَنْ تَمُوتَ, وَحَدَّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرُ وَالضَّرْبُ بِالنِّعَالِ; إذْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَخْصُوصَةً فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى بِالْحَبْسِ وَمَذْكُورَةً مَعَ الرَّجُلِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَذَى فَاجْتُمِعَ لَهَا الْأَمْرَانِ جَمِيعًا, وَلَمْ يَذْكُرْ لِلرِّجَالِ إلَّا الْأَذَى فَحَسْبُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا فَأَفْرَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالْحَبْسِ وَجُمِعَا جَمِيعًا فِي الْأَذَى, وَتَكُونُ فَائِدَةُ إفْرَادِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ إفْرَادَهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ تَمُوتَ وَذَلِكَ حُكْمٌ لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ الرَّجُلُ, وَجُمِعَتْ مَعَ الرَّجُلِ فِي الْأَذَى لَاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْحَبْسِ لِلْمَرْأَةِ مُتَقَدِّمًا لِلْأَذَى, ثُمَّ زِيدَ فِي حَدِّهَا وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّجُل الْأَذَى, فَاجْتَمَعَ لِلْمَرْأَةِ الْأَمْرَانِ وَانْفَرَدَ الرَّجُلُ بِالْأَذَى دُونَهَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَوْتِ أَوْ السَّبِيلَ قَدْ كَانَ حَدَّهَا, فَإِذَا أُلْحِقَ بِهِ الْأَذَى صَارَ مَنْسُوخًا; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخَ; إذْ كَانَ الْحَبْسُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمِيعَ حَدِّهَا, وَلَمَّا وَرَدَتْ الزِّيَادَةُ صَارَ بَعْضَ حَدِّهَا, فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كون

الْإِمْسَاكِ حَدًّا مَنْسُوخًا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَذَى حَدًّا لَهُمَا جَمِيعًا بَدِيًّا ثُمَّ زِيدَ فِي حَدِّ الْمَرْأَةِ الْحَبْسُ إلَى الْمَوْتِ أَوْ السَّبِيلُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهَا, فَيُوجِبُ ذَلِكَ نَسْخَ الْأَذَى فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ حَدًّا; لِأَنَّهُ صَارَ بَعْضَهُ بَعْدَ نُزُولِ الْحَبْسِ; فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ مَنْسُوخًا بِإِسْقَاطِ حُكْمِهِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَذَى إذَا كَانَ نَازِلًا بَعْدَهُ؟ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ عَلَى جِهَةِ رَفْعِ حُكْمِهِ رَأْسًا; إذْ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْأَذَى مَا يَنْفِي الْحَبْسَ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا; وَلَكِنَّهُ يَكُونُ نَسْخُهُ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضَ الْحَدِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمِيعَهُ, وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ النَّسْخِ.

مطلب الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْتِيبِ الْآيَتَيْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ قَوْله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} نزلت قبل قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُوضَعَ فِي التِّلَاوَةِ بَعْدَهُ, فَكَانَ الْأَذَى حَدًّا لَهُمَا جَمِيعًا, ثُمَّ الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْأَذَى. وَذَلِكَ يَبْعُدُ مِنْ وَجْهٍ; لأن قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} " الهاء" التي في قوله: {يَأْتِيَانِهَا} كِنَايَةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُظْهِرٍ مُتَقَدِّمٍ مَذْكُورٍ فِي الْخِطَابِ أَوْ مَعْهُودٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ المخاطب, وليس في قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} دَلَالَةٌ مِنْ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَاحِشَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً رَاجِعَةً إلَى الْفَاحِشَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ; إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كِنَايَةً عَنْهَا لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ وَإِعْلَامِ الْمُرَادِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] لِأَنَّ مِنْ مَفْهُومِ ذِكْرِ الْإِنْزَالِ أَنَّهُ الْقُرْآنُ, وَفِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أَنَّهَا الْأَرْضُ, فَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ عَنْ ذِكْرِ الْمَكِنِيِّ عَنْهُ; فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ مَعَانِي الْآيَتَيْنِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَا نَزَلَتَا مَعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَذَى نَازِلًا بَعْدَ الْحَبْسِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى مَنْ أُرِيدَ بِالْحَبْسِ مِنْ النِّسَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا روي عن السدي أن قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} إنَّمَا كَانَ حُكْمًا فِي الْبِكْرَيْنِ خَاصَّةً, وَالْأَوْلَى فِي الثَّيِّبَاتِ دُونَ الْأَبْكَارِ. إلَّا أَنَّ هَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ, وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى حَقِيقَةِ مُقْتَضَاهُمَا; وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تُصْرَفُ وُجُوهُ الِاحْتِمَالِ فِي حُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَتَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي نَسْخِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الزَّانِيَيْنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّبِيلَ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُنَّ الْجَلْدُ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمُ لِلْمُحْصَنِ" وَعَنْ قَتَادَةَ مثل

ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} : "أَوْ يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ"; وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَامًّا فِي الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ, فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّبِيلُ مَذْكُورًا لهن جميعا.

مطلب: دلالة تكفي عن ذكر مرجع الضمير وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَا نَسَخَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ, فَقَالَ قَائِلُونَ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَدْ كان قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} فِي الْبِكْرَيْنِ, فَنُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, وَبَقِيَ حُكْمُ الثَّيِّبِ مِنْ النِّسَاءِ الْحَبْسُ فَنُسِخَ بِالرَّجْمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: نُسِخَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا, الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ". وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَاسِطَةُ حُكْمٍ, وَأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ حِينَئِذٍ; لَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَزَلَتْ كَانَ السَّبِيلُ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" وَلَمَّا صَحَّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِنَسْخِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ نَزَلَتْ بَعْدَهُ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ; إذْ نُسِخَ بِقَوْلِ: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى بِنَصِّ التَّنْزِيلِ. فإن قيل: فقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى كَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حُكْمَ الْمَرْأَةِ الثَّيِّبِ كَانَ الْحَبْسَ, وَإِنَّمَا قَالَ السُّدِّيُّ إنَّ الْأَذَى كَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ خَاصَّةً; وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ الْحَبْسِ وَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فِي الثَّيِّبِ, فَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ", فَلَمْ يَخْلُ الْحَبْسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ, وَهِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ; فَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ حِين كَانَ مَحْصُورًا فَاسْتَشْهَدَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" , وَقِصَّةُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَرَجْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمَا قَدْ نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ لَا يَتَمَارَوْنَ فِيهِ.

مطلب: في انكار الخوارج الرجم فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْخَوَارِجُ بِأَسْرِهَا تُنْكِرُ الرَّجْمَ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَنْقُولًا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لَمَا جَهِلَتْهُ الْخَوَارِجُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ سَبِيلَ الْعِلْمِ بِمَخْبَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ السَّمَاعُ مِنْ نَاقِلِيهَا وَتَعَرُّفُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ, وَالْخَوَارِجُ لَمْ تُجَالِسْ فُقَهَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقَلَةَ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ وَانْفَرَدُوا عَنْهُمْ غَيْرَ قَابِلِينَ لَأَخْبَارِهِمْ; فَلِذَلِكَ شَكُّوا فِيهِ وَلَمْ يُثْبِتُوهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ أَوَائِلِهِمْ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ ثُمَّ جَحَدُوا مُحَامَلَةً مِنْهُمْ عَلَى مَا سَبَقُوا إلَى اعْتِقَادِهِ مِنْ رَدِّ أَخْبَارِ مَنْ لَيْسَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ, وَقَلَّدَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهِ, أَوْ الَّذِينَ عَرَفُوهُ كَانُوا عَدَدًا يَسِيرًا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ كِتْمَانُ مَا عَرَفُوهُ وَجَحَدُوهُ, وَلَمْ يَكُونُوا صَحَابَةً فَيَكُونُوا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعَايَنَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ السَّمَاعِ مِنْ الْمُعَايِنِينَ لَهُ, فَلَمَّا خَلَوْا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفُوهُ; أَلَا تَرَى أَنَّ فَرَائِضَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مَنْقُولَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَلَا يَعْرِفُهَا إلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا فَقِيهٌ قَدْ سَمِعَهَا فَثَبَتَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِينَ لَهَا وَإِمَّا رَجُلٌ صَاحِبُ مَوَاشٍ تَكْثُرُ بَلْوَاهُ بِوُجُوبِهَا فَيَتَعَرَّفُهَا لِيَعْلَمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا؟ وَمِثْلُهُ أَيْضًا إذَا كَثُرَ سَمَاعُهُ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا, وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ لَمْ يَعْلَمْهَا; وَهَذَا سَبِيلُ الْخَوَارِجِ فِي جُحُودِهِمْ الرَّجْمُ وَتَحْرِيمُ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ أَهْلُ الْعَدْلِ بِنَقْلِهِ دُونَ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَحْكَامًا: مِنْهَا اسْتِشْهَادُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى الزِّنَا. وَمِنْهَا الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَذَى لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا. وَمِنْهَا سُقُوطُ الْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِالتَّوْبَةِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَهَذِهِ التَّوْبَةُ إنَّمَا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِي إسْقَاطِ الْأَذَى دُونَ الْحَبْسِ, وَأَمَّا الْحَبْسُ فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ السَّبِيلِ, وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ السَّبِيلَ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ, وَنُسِخَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ, فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الشُّهُودِ بَاقٍ فِي الْحَدِّ الَّذِي نُسِخَ بِهِ الْحَدَّانِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]

مطلب في جواز تَعَمُّدَ النَّظَرِ إلَى الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فَلَمْ يُنْسَخْ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَلَمْ يُنْسَخْ الِاسْتِشْهَادُ أَيْضًا, وَهَذَا

يُوجِبُ جَوَازَ إحْضَارِ الشُّهُودِ وَالنَّظَرُ إلَى الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِشْهَادِ عَلَى الزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَعَمُّدِ النَّظَرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ النَّظَرِ إلَى الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا لَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ; وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبُو بَكْرٍ مَعَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ وَنَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ وَزِيَادِ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ, وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} الْآيَةَ; رَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "كَانُوا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ مِنْ وَلِيِّ نَفْسِهَا, إنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا, فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ", وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "كَانَ الرَّجُلُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ قَالَ وَلِيُّهُ: وَرِثْت امْرَأَتَهُ كَمَا وَرِثْت مَالَهُ, فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَهَا بِالصَّدَاقِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا وَأَخَذَ صَدَاقَهَا" قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ابْنَهَا" قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: فَكَانَ بِالْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنْ وَلِيِّ نَفْسِهَا. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ يَقُومُ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْهُ فَيُلْقِي عَلَى امْرَأَتِهِ ثَوْبًا فَيَرِثُ نِكَاحَهَا, فَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ زَوْجُ كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْنٍ, فَجَاءَ ابْنُ عَامِرٍ مِنْ غَيْرِهَا وَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا فَلَمْ يَقْرَبْهَا وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا, فَشَكَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أَنْ تُؤْتُوهُنَّ الصَّدَاقَ الْأَوَّلَ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "كَانَ يَحْبِسُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا حَتَّى تَمُوتَ فيرثها فنهوا عن ذلك". وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: "هُوَ أَمْرٌ لِلْأَزْوَاجِ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَاجَةٌ وَلَا يُمْسِكُهَا إضْرَارًا بِهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ بِبَعْضِ مَالِهَا". وَقَالَ الْحَسَنُ: "هُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّزَوُّجِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "هُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّهَا أَنْ يَعْضُلَهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَظْهَرُ هُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يُرِيدُ بِهِ الْمَهْرَ حَتَّى تَفْتَدِيَ كَأَنَّهُ يَعْضُلَهَا أَوْ يُسِيءُ إلَيْهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَهْرِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} , قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالسُّدِّيُّ: "هُوَ الزِّنَا وَإِنَّهُ إنَّمَا تَحِلُّ لَهُ الْفِدْيَةُ إذَا اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى رِيبَةٍ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: "هِيَ النُّشُوزُ, فَإِذَا نَشَزَتْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْفِدْيَةَ". وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سورة البقرة أمر الخلع وأحكامه.

مطلب فيما تضمنه قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} من حقوق الورأة على الزوج وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَمْرٌ لِلْأَزْوَاجِ بِعِشْرَةِ نِسَائِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ, وَمِنْ الْمَعْرُوف أَنْ يُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَتَرْكِ أَذَاهَا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَالْمَيْلُ إلَى غَيْرِهَا وَتَرْكِ الْعُبُوسِ وَالْقُطُوبِ فِي وَجْهِهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .

مطلب: في كراهة الطلاق وقوله عليه السلام: "أبغض الحلال عند الله الطلاق" وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى إمْسَاكِهَا مَعَ كَرَاهَةٍ لَهَا; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوَافِقُ مَعْنَى ذَلِكَ, حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ وَاصِلٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ النِّيلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُهَلَّبُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ". فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّلَاقِ وَالنَّدْبِ إلَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهَا, وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْخِيرَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَنَا فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا نَكْرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الْآيَةَ, قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إيجَابَ الْمَهْرِ لَهَا تَمْلِيكًا صَحِيحًا وَمَنْعَ الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا, وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَالِمٌ لَهَا سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ بِهَا أَوْ أَمْسَكَهَا, وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي حَظْرَ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ, فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ إذَا طَلَّقَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي حَظْرِ الْأَخْذِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ; وَقَدْ خَصَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ;

لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْخَلْوَةِ هَلْ هِيَ الْمَسِيسُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَوْ الْمَسِيسُ الْجِمَاعُ؟ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ; لِأَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهَا, وَتَأَوَّلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الْجِمَاعِ, فَلَا يَخُصُّ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} بالاحتمال.

مطلب: فيما تضمنه قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} من الأحكام وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ هِبَةً لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا; لِأَنَّهَا مِمَّا آتَاهَا, وَعُمُومُ اللَّفْظِ قَدْ حَظَرَ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ وَيُحْتَجُّ فِيمَنْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَقَدْ أَعْطَاهَا صَدَاقَهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي أَعْطَاهَا عَيْنًا كَانَ أَوْ عَرَضًا عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ. وَيَحْتَجُّ بِهِ فِيمَنْ أَسَلَفَ امْرَأَتَهُ نَفَقَتَهَا لِمُدَّةٍ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ الْمُدَّةِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي مِيرَاثِهَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى بَعْدَ مَوْتِهَا مُسْتَبْدِلًا بِهَا مَكَانَ الْأُولَى, فَظَاهِرُ اللَّفْظِ قَدْ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْحَالَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا عَقِبَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوَّلِ الْخِطَابِ فِيمَا أَعْطَاهَا هُوَ الْمَهْرُ دُونَ غَيْرِهِ; إذْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَهْرِ دُونَ مَا سِوَاهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْخِطَابِ عُمُومًا فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ, وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ فِيهِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ خُصُوصَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ, وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ أَنَّ مَهْرَهَا وَاجِبٌ لَا يُبْطِلُهُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَ الِاسْتِبْدَالِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مَعَ شُمُولِ الْحَظْرِ لِسَائِرِ الْأَحْوَالِ إزَالَةُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ حُصُولِ الْبُضْعِ لَهَا وَسُقُوطِ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْهُ بِطَلَاقِهَا وَأَنَّ الثَّانِيَةَ قَدْ قَامَتْ مَقَامَ الْأُولَى فَتَكُونُ أَوْلَى بِالْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا فَنَصَّ عَلَى حَظْرِ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الْحَالِ, وَدَلَّ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ إذَا لَمْ يُبِحْ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ بِضْعِهَا, فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فِي اسْتِبَاحَةِ بُضْعِهَا وَكَوْنِهِ أَمْلَكَ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا. وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى حَظْرَ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى بِأَنْ جَعَلَهُ ظُلْمًا كَالْبُهْتَانِ, وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يُبَاهِتُ بِهِ مُخْبِرُهُ وَيُكَابِرُ بِهِ مِنْ يُخَاطِبُهُ, وَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَذِبِ وَأَفْحَشُهُ; فَشَبَّهَ أَخْذَ مَا أَعْطَاهَا بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْبُهْتَانِ فِي قُبْحِهِ فَسَمَّاهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .

مطلب: في قول الفراء أن الإفضاء هو الخلوة قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْإِفْضَاءَ هُوَ الْخَلْوَةُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ. وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ حُجَّةٌ فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ اللُّغَةِ, فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْإِفْضَاءِ يَقَعُ عَلَى الْخَلْوَةِ فَقَدْ مَنَعَتْ الْآيَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَالطَّلَاقِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} قَدْ أَفَادَ الْفُرْقَةَ وَالطَّلَاقَ, وَالْإِفْضَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ, وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بِنَاءٌ حَاجِزٌ عَنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ, فَسُمِّيت الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ وَالدُّخُولِ. وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَقُولُ: إنَّ الْفَضَاءَ السَّعَةُ, وَأَفْضَى: إذَا صَارَ فِي الْمُتَّسَعِ مِمَّا يَقْصِدُهُ. وَجَائِزٌ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ أَيْضًا أَنْ تُسَمَّى الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لَوُصُولِهِ بِهَا إلَى مَكَانِ الْوَطْءِ وَاتِّسَاعِ ذَلِكَ بِالْخَلْوَةِ, وَقَدْ كَانَ يَضِيقُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهَا قَبْلَ الْخَلْوَةِ, فَسُمِّيت الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لِهَذَا الْمَعْنَى, فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مَعَ إفْضَاءِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ, وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى مَكَانِ الْوَطْءِ وَبَذْلُهَا ذَلِكَ لَهُ وَتَمْكِينُهَا إيَّاهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا. فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُ الزَّوْجَ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمَرِيدُ لِلْفُرْقَةِ دُونَهَا, وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَهْرِهَا, وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَجَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فَقِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ النُّشُوزُ, وَقَالَ غَيْرُهُ: "هِيَ الزِّنَا". وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} . وَذَلِكَ غَلَطٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} قَدْ أَفَادَ حَالَ كَوْنِ النُّشُوزِ مِنْ قِبَلِهِ, وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ حَالٍ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى, وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَكُونُ النُّشُوزُ مِنْهَا وَافْتَدَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ مِنْهُ, فَهَذِهِ حَالٌ غَيْرُ تِلْكَ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَالَيْنِ مخصوصة بحكم دون الأخرى.

مطلب: في قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ قَوْلُهُ: {فََإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . قَالَ قَتَادَةُ: "وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّاكِحِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ: اللَّهُ عَلَيْك لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي يُسْتَحَلُّ بِهَا الْفَرْجُ". وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ قَوْلُ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى" ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ قَالَ: الَّذِي حَصَّلْنَاهُ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ, تَقُولُ الْعَرَبُ: "أَنْكَحْنَا الْفَرَا فَسَنَرَى" هُوَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ لِلْأَمْرِ يَتَشَاوَرُونَ فِيهِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ عَنْ مَاذَا يَصْدُرُونَ فِيهِ, مَعْنَاهُ: جمعنا بين الحمار وأتانه.

مطلب: في النكاح يطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذًا كَانَ اسْمُ النِّكَاحِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ مَوْضُوعًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ, ثُمَّ وَجَدْنَاهُمْ قَدْ سَمَّوْا الْوَطْءَ نَفْسَهُ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَمَنْكُوحَةٌ غَيْرُ مَمْهُورَةٍ ... وَأُخْرَى يُقَالُ لَهُ فَادِهَا يَعْنِي الْمَسْبِيَّةَ الْمَوْطُوءَةَ بِغَيْرِ مَهْرٍ وَلَا عَقْدٍ, وَقَالَ الْآخَرُ: وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... وَأُخْرَى عَلَى عَمٍّ وَخَالٍ تَلْهَفُ وَهَذَا يَعْنِي الْمَسْبِيَّةَ أَيْضًا; وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا: فَنَكَحْنَ1 أَبْكَارًا وَهُنَّ بِأُمَّةٍ ... أَعْجَلْنَهُنَّ مَظِنَّةَ الْإِعْذَارِ وَهُوَ يَعْنِي الْوَطْءَ أَيْضًا; وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ. وَقَدْ تَنَاوَلَ الِاسْمُ الْعَقْدَ أَيْضًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ دُونَ الْوَطْءِ, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْت مِنْ سِفَاحٍ" ; فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ, وَالثَّانِي: دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ, لَوْلَا ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: أَنَا مِنْ نِكَاحٍ, إذْ كَانَ السِّفَاحُ لَا يَتَنَاوَلُ اسْمَ النِّكَاحِ بِحَالٍ, فَدَلَّ قَوْلُهُ: "ولست من سفاح" بعد

_ 1 قوله: "فنكحن" إلى آخر البيت للنابغة الذبياني ومعنى المة بالكسر النعمة. وقوله: "العذار" وهو الخنان والمني نكحن وهي ماسوران لم يختن بعد كما في شرح البطليوس. "لمصححه".

تَقْدِيمِ ذِكْرِ النِّكَاحِ أَنَّ النِّكَاحَ يَتَنَاوَلُ لَهُ الْأَمْرَيْنِ, فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ الْعَقْدِ الْحَلَالِ لَا مِنْ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سِفَاحٌ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ, وَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ هَذَا الِاسْمِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَالْجَمْعُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ; إذْ الْعَقْدُ لَا يَقَعُ بِهِ جَمْعٌ; لِأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَقْتَضِي جَمْعًا فِي الْحَقِيقَةِ, ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ, وَأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا سُمِّيَ نِكَاحًا; لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَطْءِ, تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ أَوْ مُجَاوِرًا لَهُ, مِثْلُ الشَّعْرِ الَّذِي يُوَلِّدُ الصَّبِيُّ وَهُوَ عَلَى رَأْسِهِ يُسَمَّى عَقِيقَةً ثُمَّ سُمِّيت الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْهُ عِنْدَ حَلْقِ ذَلِكَ الشَّعْرِ عَقِيقَةً, وَكَالرَّاوِيَةِ الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِلْجَمَلِ الَّذِي يَحْمِلُ الْمَزَادَةَ ثُمَّ سُمِّيَتْ الْمَزَادَةُ رَاوِيَةً لِاتِّصَالِهَا بِهِ وَقُرْبِهَا مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ: تَمْشِي مِنْ الرِّدَّةِ1 مَشْيَ الْحُفَّلِ ... مَشْيَ الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الْأَثْقَلِ وَنَحْوُهُ الْغَائِطُ, هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْضِ وَيُسَمَّى بِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَجَازًا; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الْغَائِطَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ; فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى مَوْضُوعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَيُسَمَّى الْعَقْدُ بِاسْمِهِ مَجَازًا; لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ وَهُوَ سَبَبُهُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ الْعَقْدِ مَجَازًا أَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَالْهِبَاتِ لَا يُسَمَّى مِنْهَا شَيْءٌ نِكَاحًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اسْتِبَاحَةِ وَطْءِ الْجَارِيَةِ; إذْ لَمْ تَخْتَصَّ هَذِهِ الْعُقُودُ بِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ; لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَصِحُّ فِيمَنْ يَحْظُرُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا كَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَمِنْ النَّسَبِ وَأُمِّ امْرَأَتِهِ وَنَحْوِهَا; وَسُمِّيَ الْعَقْدُ الْمُخْتَصُّ بِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ نِكَاحًا; لِأَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ, فَوَجَبَ إذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} عَلَى الْوَطْءِ, فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَنْ وَطِئَهَا أَبُوهُ مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمُبَاحِ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ, وَالْوَطْءُ نَفْسُهُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِالْمُبَاحِ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ بَلْ هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} مُرَادُهُ الْوَطْءُ دُونَ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ حَقِيقَةٌ فِيهِ, وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْعَقْدَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ مَجَازًا حَقِيقَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ, وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا التَّحْرِيمَ بِالْعَقْدِ بِغَيْرِ الْآيَةِ

_ 1 قوله: "الردة" بكسر الراء وتشديد الدال: ورم بصيب الناقة في أخلاقها. والحفل: جمع حافل وهي الناقة الممتلي ضرعها لبنا. "لمصححه".

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ بِوَطْءِ الزِّنَا, فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَجُلٍ زَنَى بِأُمِّ امْرَأَتِهِ: "حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ", وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ; وَكَذَلِكَ قَوْلُ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَامِرٍ وَحَمَّادٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وَطْءِ الْأُمِّ قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَوْ بَعْدَهُ فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ الْبِنْتِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَزْنِي بِأُمِّ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ بِهَا قَالَ: "تَخَطَّى حُرْمَتَيْنِ1 وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ" وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ". وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ" لَا يُحَرِّمُ حَرَامٌ حَلَالًا" عَلَى الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ وَلَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ زِنَاهُ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عِكْرِمَةُ فِي أَنَّ الزِّنَا بِالْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَطَاءٍ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا عِنْدَهُ لَمَا احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تَحْرُمُ أُمُّهَا وَلَا بِنْتُهَا بِالزِّنَا". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِي الرَّجُلِ يَزْنِي بِأُمِّ امْرَأَتِهِ قَالَ: "حَرَامٌ لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا, وَلَكِنَّهُ إنْ زَنَى بِالْأُمِّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ أَوْ زَنَى بِالْبِنْتِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُمَّ فَقَدْ حَرُمَتْ" فَفَرَّقَ بَيْنَ الزِّنَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ وَقَبْلَهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الرَّجُلِ يَلُوطُ بِالرَّجُلِ هَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَابْنَتُهُ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ" وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ: "هُوَ مِثْلُ وَطْءِ الْمَرْأَةِ بِزِنًا فِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ" وَقَالَ: "مَنْ حَرَّمَ بِهَذَا مِنْ النِّسَاءِ حُرِّمَ مِنْ الرِّجَالِ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يَلْعَبُ بِالْغُلَامِ أَيَتَزَوَّجُ أُمَّهُ؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَكْرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ قَدْ لَعِبَ بِابْنِهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي غُلَامَيْنِ يَلُوطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَتُولَدُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ جَارِيَةٌ قَالَ: "لَا يَتَزَوَّجُهَا الْفَاعِلُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ نِكَاحِ امْرَأَةٍ قَدْ وَطِئَهَا أَبُوهُ بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ; إذْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا, وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي وَطْءِ الْأَبِ ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي وَطْءِ أُمِّ الْمَرْأَةِ أَوْ ابْنَتِهَا فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَالدُّخُولُ بِهَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ, وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ الْوَطْءِ مِنْ مُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ وَنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ, فَوَجَبَ تَحْرِيمُ الْبِنْتِ بِوَطْءٍ كَانَ مِنْهُ قَبْلَ تَزَوُّجِ الْأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ويدل على أن الدخول بها

_ 1 قوله: "تخطى حرمتين" أي ارتكب فعلين محرمين الزنا من حيث هو وكونه بأم امرأته. "لمصححه".

اسْمٌ لِلْوَطْءِ وَأَنَّهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ وَأَنَّ اسْمَ الدُّخُولِ لَا يَخْتَصُّ بِوَطْءِ نِكَاحٍ دُونَ غَيْرِهِ, أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْأُمَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْبِنْتُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِحُكْمِ الْآيَةِ, وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ. فَثَبَتَ أَنَّ الدُّخُولَ لَمَّا كَانَ اسْمًا لِلْوَطْءِ لَمْ يَخْتَصَّ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِوَطْءٍ بِنِكَاحٍ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ الْوَطْءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْوَطْءَ آكَدُ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ مِنْ الْعَقْدِ; لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ وَطْئًا مُبَاحًا إلَّا وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ, وَقَدْ وَجَدْنَا عَقْدًا صَحِيحًا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبِنْتِ وَلَوْ وَطِئَهَا حَرُمَتْ, فَعَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ الْوَطْءِ عِلَّةٌ لِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ, فَكَيْفَمَا وُجِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ مُبَاحًا كَانَ الْوَطْءُ أَوْ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَطْءِ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطْئًا صَحِيحًا, فَلَمَّا اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ تَحْرِيمٌ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ يَحْرُمَانِ مَعَ عَدَمِ النِّكَاحِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَطْءُ الزِّنَا مُحَرِّمًا لِوُجُودِ الْوَطْءِ الصَّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَبِشُبْهَةٍ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِمَا التَّحْرِيمُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ, وَالزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِوَطْئِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ, وَمَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا تَعَلَّقَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ثُبُوتُ النَّسَبِ قَبْلَ الْوَطْءِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الْعَقْدِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمُ الْبِنْتِ; فَإِذَا كُنَّا وَجَدْنَا الْوَطْءَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِهِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَالْعَقْدَ مَعَ تَعَلُّقِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِهِ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ, عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَظَّ لِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ هُوَ الْوَطْءُ لَا غَيْرُ. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَوْ لَمَسَ أَمَتَهُ لِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا, وَلَيْسَ لِلْمَسِّ حَظٌّ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَى النَّسَبِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ ثُبُوتُهُ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَجَائِزٌ ثُبُوتُهُ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَلَّظَ أَمْرَ الزِّنَا بِإِيجَابِ الرَّجْمِ تَارَةً وَبِإِيجَابِ الْجَلْدِ أُخْرَى وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَمَنَعَ إلْحَاقَ النَّسَبِ بِهِ, وَذَلِكَ كُلُّهُ تَغْلِيظٌ لِحُكْمِهِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ أَوْلَى; إذْ كَانَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ ضَرْبًا مِنْ التَّغْلِيظِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِبُطْلَانِ حَجِّ مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كَانَ الزَّانِي أَوْلَى بِبُطْلَانِ الْحَجِّ; لِأَنَّ بُطْلَانَ الْحَجِّ تَغْلِيظٌ لِتَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِيهِ؟ كَذَلِكَ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ بِإِيجَابِ تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزِّنَا أَوْلَى بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِهِ.

وَقَدْ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَإِ كَانَ قَاتِلُ الْعَمْدِ بِهِ أَوْلَى, إذْ كَانَ حُكْمُ الْعَمْدِ أَغْلَظَ مِنْ حُكْمِ الْخَطَإِ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ فَسَادِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ؟ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَطْءُ الْمُبَاحُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالزِّنَا. قِيلَ لَهُ: قَدْ تَعَلَّقَ بِالزِّنَا مِنْ إيجَابِ الرَّجْمِ أَوْ الْجَلْدِ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْ إيجَابِ الْمَالِ, وَعَلَى أَنَّ الْمَالَ وَالْحَدَّ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى الْوَطْءِ; لِأَنَّهُ مَتَى وَجَبَ الْحَدُّ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ وَمَتَى وَجَبَ الْمَهْرُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ, فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ, فَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ فَذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ مِنْ الْحُكْمِ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ الْجَزَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بُهْلُولٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سَلَمَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا؟ أَوْ يَتْبَعُ الْأُمَّ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ إنَّمَا يَحْرُمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ" ; وَبِمَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: "لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ". وَرَوَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُفْسِدُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ". فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَة وَرُوَاتُهَا غَيْرُ مَرْضِيِّينَ, أَمَّا الْمُغِيرَةُ بْنُ إسْمَاعِيلَ فَمَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ لَا يَجُوزُ ثُبُوتُ شَرِيعَةٍ بِرِوَايَتِهِ لَا سِيَّمَا فِي اعْتِرَاضِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ, وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ مَطْعُونٌ فِي رِوَايَتِهِ, وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ, وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ إنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ الرَّجُلُ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْوَطْءِ, فَكَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحْرُمُ إلَّا مَا كَانَ بِنِكَاحٍ" جَوَابًا عَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْمَرْأَةِ, وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُتْبِعَهَا نَفْسَهُ فَيَكُونَ مِنْهُ نَظَرٌ إلَيْهَا أَوْ مُرَاوَدَتُهَا عَلَى الْوَطْءِ. وَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ الْوَطْءِ, فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِمِثْلِهِ التَّحْرِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ. بَيْنَهُمَا عَقْدُ نِكَاحٍ وَلَيْسَ فِيهِ لِلْوَطْءِ ذِكْرٌ; وَقَوْلُهُ: "لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ" إنَّمَا هُوَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ اتِّبَاعِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ, وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ: "لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ" فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا إنْ صَحَّتْ, فَكَانَ جَوَابًا لِمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ النَّظَرِ وَالْمُرَاوَدَةِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ, وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ إزَالَةَ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّظَرَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ المشي"

فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ النَّظَرَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ الْوَطْءُ لِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ زِنًا, فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ وَأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُلَامَسَةٌ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسِيسٌ; وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا الْخَبَرُ مَا وَصَفْنَا زَالَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ. وَعَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ التَّحْرِيمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى النِّكَاحِ وَلَا عَلَى الْوَطْءِ الْمُبَاحِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ حَائِضًا أَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَرَامٌ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مَقْصُورًا عَلَى النِّكَاحِ وَلَا عَلَى وَطْءٍ مُبَاحٍ; وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ جَارِيَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ كَانَ وَاطِئًا وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ مُوجِبٍ لِلتَّحْرِيمِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ إنْ ثَبَتَ فَلَيْسَ بِعُمُومٍ فِي نَفْيِ إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِوَطْءٍ حَرَامٍ. وَأَيْضًا قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَةَ الْمُظَاهِرِ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ, وَقَدْ سَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا, وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُحَرِّمًا مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: "الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ" لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَوُرُودِهِ مُطْلَقًا مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِسَبَبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ, وَقَدْ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ وَبِالتَّحْلِيلِ فِي غَيْرِهِ لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ آخَرُ فِي إيجَابِ تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ; فَهَذَا اللَّفْظُ إذَا حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَتِنَا; لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْرِيمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ مُبَاحٍ بِنَفْسِ وُرُودِ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى إيجَابِ تَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ حَرَّمَ هُوَ, وَفَائِدَتُهُ حِينَئِذٍ أَنَّ مَا قَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْلِيلِهِ نَصًّا فَهُوَ مُقِرٌّ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ تَحْلِيلِهِ. وَإِذَا حَكَمَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُجِزْ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْمَحْكُومِ بِتَحْلِيلِهِ بَدِيًّا بِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَمَنَعَ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ بِالْقِيَاسِ, وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ النَّسْخَ بِالْقِيَاسِ; هَذَا الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ إنْ صَحَّ, فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ" أَنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ, فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ فِي اللَّفْظِ ضَمِيرًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ دُونَ اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ, فَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ يُعْتَبَرُ عُمُومُهُ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ, إذْ الضَّمِيرُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ حَتَّى يَكُونَ لَفْظَ عُمُومٍ فِيمَا تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ, فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ ضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي مِثْلِهِ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إيجَابِ تَحْرِيمِ الْحَرَامِ الْحَلَالَ وَهُوَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءُ الْأَمَةِ الْحَائِضِ وَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي الْحَيْضِ وَالظِّهَارِ وَالْخَمْرِ إذَا خَالَطَتْ الْمَاءَ وَالرِّدَّةَ تُبْطِلُ النِّكَاحَ وَتُحَرِّمُهَا عَلَى الزَّوْجِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْحَلَالِ, فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ" لَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ عُمُومٍ لَمَا صَحَّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ, وَكَانَ مَفْهُومًا مَعَ وُرُودِهِ

أَنَّهُ أَرَادَ: بَعْضَ الْأَفْعَالِ الْمُحَرِّمَةِ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ, فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ. وَأَيْضًا لَوْ نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ادَّعَيْت مِنْ ضَمِيرِهِ فَقَالَ إنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ, لَمَا دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْت; لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ عِنْدَ وُقُوعِ فِعْلٍ حَرَامٍ, فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ بِفِعْلِ الْحَرَامِ. قِيلَ لَهُ: فَإِذًا قَوْلُهُ: "الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ" إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا ذَكَرْت مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ; إذْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ المجاز إلا عند قيام الدلالة عليه

مطلب" في مناظر جرت بين الإمام الشافعي مع بعض الناس في قوله: "إن الحرام لا يحرم الحلال ", وفيما انتقده المصنف من اجوبة الإمام الشافعي وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنْ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ فِيهَا أُعْجُوبَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا, قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لِي قَائِلٌ: لِمَ قُلْت إنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ؟ قُلْت: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَالَ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} وقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أَفْلَسْت تَجِدُ التَّنْزِيلَ إنَّمَا يُحَرِّمُ مَا سُمِّيَ بِالنِّكَاحِ أَوْ الدُّخُولِ وَالنِّكَاحِ؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: قُلْت: أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ بِالْحَلَالِ شَيْئًا وَحَرَّمَهُ بِالْحَرَامِ وَالْحَرَامُ ضِدُّ الْحَلَالِ وَالنِّكَاحُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ, وَحَرَّمَ الزِّنَا فَقَالَ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَلَا الشَّافِعِيُّ آيَةَ التَّحْرِيمِ بِالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَآيَةَ تَحْرِيمِ الزِّنَا, وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِمَا, أَعْنِي إبَاحَةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَتَحْرِيمَ الزِّنَا, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ; لِأَنَّ إبَاحَةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَإِيجَابِ التَّحْرِيمِ بِهِمَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ بِغَيْرِهِمَا كَمَا لَمْ يَنْفِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَتَحْرِيمُ اللَّهِ تَعَالَى لِلزِّنَا لَا يُفِيدُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ إلَّا بِهِ, فَإِذًا لَيْسَ فِي ظَاهِرِ تِلَاوَةِ الْآيَتَيْنِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ بِوَطْءِ الزِّنَا; لِأَنَّ آيَةَ الزِّنَا إنَّمَا فِيهَا تَحْرِيمُ الزِّنَا وَلَيْسَ تَحْرِيمُ الزِّنَا عِبَارَةً عَنْ نَفْيِ إيجَابِهِ لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَلَا فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ نَفْيٌ لِإِيجَابِهِ بِغَيْرِهِمَا, فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِيمَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَلَا جَوَابًا لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ. ثُمَّ قَالَ: "الْحَرَامُ ضِدُّ الْحَلَالِ" فَلَمَّا قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَرِّقْ بَيْنَهُمَا, قَالَ: "قُلْت: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا; لِأَنَّ اللَّهَ نَدَبَ إلَى النِّكَاحِ وَحَرَّمَ الزِّنَا"; فَجَعَلَ فَرْقَ اللَّهِ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ دَلِيلًا عَلَى السَّائِلِ, وَالسَّائِلُ لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِ إبَاحَةُ النِّكَاحِ وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَإِنَّمَا

سَأَلَهُ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ, فَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهَا وَاشْتَغَلَ بِأَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ وَهَذَا حَلَالٌ, فَإِنْ كَانَ هَذَا السَّائِلُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الزِّنَا فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَمِثْلُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ; لِأَنَّهُ مَئُوفُ الْعَقْلِ; إذْ الْعَاقِلُ لَا يُنْزِلُ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ التَّجَاهُلِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَحْظُورٌ وَالْآخَرُ مُبَاحٌ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ, فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُجِبْهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى تِلَاوَةِ الْآيَتَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ وَأَنَّ الْحَلَالَ ضِدُّ الْحَرَامِ; إذْ لَيْسَ فِي كَوْنِ الْحَلَالِ ضِدَّ الْحَرَامِ مَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هُوَ حَرَامٌ وَوَطْءُ الْحَائِضِ حَرَامٌ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ضِدُّ الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ, وَالطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ مَحْظُورٌ وَفِي الطُّهْرِ قَبْلَ الْجِمَاعِ مُبَاحٌ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ إيجَابِ التَّحْرِيمِ؟ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ مُمْتَنِعٌ فِي الضِّدَّيْنِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ كَوْنَهُمَا ضِدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ, أَلَا تَرَى أَنَّ وُرُودَ النَّصِّ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ وَمَا جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ سَاغَ فِيهِ الْقِيَاسُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فَقَوْلُهُ: "إنَّ الْحَلَالَ ضِدُّ الْحَرَامِ" لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ سَأَلَهُ السَّائِلُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَى الْمُصَلِّي عَنْ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَعَنْ الِاضْطِجَاعِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ, وَالْمَشْيُ وَالِاضْطِجَاعُ ضِدَّانِ وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي النَّهْيِ. وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِكْثَارِ; إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إجَازَتِهِ; فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: "إنَّهُمَا ضِدَّانِ" مَعْنًى يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ السَّائِلِ أَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ جِمَاعًا وَجِمَاعًا فَأَقِيسُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ, قَالَ: "قُلْت: وَجَدْت جِمَاعًا حَلَالًا حَمِدْت بِهِ وَوَجَدْت جِمَاعًا حَرَامًا رَجَمْت بِهِ أَفَرَأَيْته يُشْبِهُهُ؟ " قَالَ: مَا يُشْبِهُهُ, فَهَلْ تُوَضِّحُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ السَّائِلُ أَنَّهُ مَا يُشْبِهُهُ, فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ افْتَرَقَا فَهَذَا مَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ, وَإِنْ كَانَ أَرَادَ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ إيجَابِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ يَنْفِي الشَّبَهَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ, وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا قِيَاسٌ إلَّا وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ بِغَيْرِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ جَمِيعِهَا, فَإِنْ كَانَ افْتِرَاقُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ وَجْهٍ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالُ الْقِيَاسِ أَصْلًا; إذْ لَيْسَ يَجُوزُ وُجُودُ الْقِيَاسِ فِيمَا اشْتَبَهَا فِيهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ; فَقَدْ بَانَ أَنَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَا سَلَّمَهُ لَهُ السَّائِلُ كَلَامٌ فَارِغٌ لَا مَعْنًى تَحْتَهُ فِي حُكْمِ مَا سُئِلَ عَنْهُ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ السَّائِلُ: هَلْ تُوَضِّحُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ, أَفَتَجْعَلُ الْحَلَالَ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْحَرَامِ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ؟ " وَهَذَا هُوَ تَكْرَارٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ, وَالسُّؤَالُ قَائِمٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِمَا تَقْتَضِيهِ مُطَالَبَةُ السَّائِلِ بَيَانَ وَجْهِ الدَّلَالَةِ فِي مَنْعِ هَذَا الْقِيَاسِ, وَهُوَ قَدْ جَعَلَ هَذَا الْحَرَامَ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ وَهُوَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالْجَارِيَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ, فَانْتَقَضَ مَا ذَكَرَهُ وَادَّعَاهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَقَامَهَا عَلَيْهِ. وَحَكَى عَنْ السَّائِلِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ صَاحِبَنَا قَالَ: يُوجِدُكُمْ أَنَّ الْحَرَامَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ؟ قَالَ: "قُلْت لَهُ: أَفِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ النِّسَاءِ؟ " قَالَ: لَا, وَلَكِنْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَشْرُوبِ وَالنِّسَاءِ قِيَاسٌ عَلَيْهِ, قَالَ: "قُلْت: أَفَتُجِيزُ لِغَيْرِك أَنْ يَجْعَلَ الصَّلَاةَ قِيَاسًا عَلَى النِّسَاءِ؟ " قَالَ: أَمَّا فِي شَيْءٍ فَلَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا أَنْ يَقِيسَ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ الْحَلَالَ مِنْ غَيْرِ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ مَعَ إطْلَاقِهِ الْقَوْلَ بَدِيًّا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجِزْ قِيَاسَ الزِّنَا عَلَى الْوَطْءِ الْمُبَاحِ; لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَهُوَ ضِدُّ الْحَلَالِ وَالْحَلَالُ نِعْمَةٌ وَالْحَرَامُ نِقْمَةٌ, مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فِي مَنْعِ الْقِيَاسِ مَقْصُورَةٌ عَلَى النِّسَاءِ دُونَ غَيْرِهِنَّ, وَإِطْلَاقُهُ الِاعْتِلَالَ بِالْفَرْقِ الَّذِي ذُكِرَ يَلْزَمُهُ إجْرَاؤُهُ فِي سَائِرِ مَا وُجِدَ فِيهِ, فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ نَاقَضَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فَإِذَا جَازَ تَحْرِيمُ الْحَرَامِ الْحَلَالَ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ هَلَّا جَازَ مِثْلُهُ فِي النِّسَاءِ مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا ضِدًّا لِلْآخَرِ وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا نِعْمَةً وَالْآخَرُ نِقْمَةً, كَمَا كَانَ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِثْلَ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ مَعَ كَوْنِ مِلْكِ الْيَمِينِ ضِدًّا لِلنِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ لَا يَجْتَمِعَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ؟. وَحَكَى عَنْ السَّائِلِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنَّ الصَّلَاةَ حَلَالٌ وَالْكَلَامُ فِيهَا حَرَامٌ فَإِذَا تَكَلَّمَ فِيهَا فَسَدَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ فَقَدْ أَفْسَدَ الْحَلَالَ بِالْحَرَامِ, قَالَ: "قُلْت لَهُ: زَعَمْت أَنَّ الصَّلَاةَ فَاسِدَةٌ وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ فَاسِدَةً, وَلَكِنَّ الْفَاسِدَ فِعْلُهُ لَا هِيَ, وَلَكِنْ لَا تُجْزِي عَنْك الصَّلَاةُ; لِأَنَّك لَمْ تَأْتِ بِهَا كَمَا أُمِرْت". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُنْتَدَبُ لِمُنَاظَرَةِ خَصْمٍ يَبْلُغُ بِهِ الْإِفْلَاسَ مِنْ الْحُجَّاجِ إلَى أَنْ يَلْجَأَ إلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ سَخَافَةِ عَقْلِ السَّائِلِ وَغَبَاوَتِهِ, وَذَلِكَ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ إذَا فَعَلَ فِيهَا مَا يُوجِبُ بُطْلَانَهَا كَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِفَسَادِ النِّكَاحِ إذَا وُجِدَ فِيهِ مَا يُبْطِلُهُ, فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ بُطْلَانِهَا مَعَ إطْلَاقِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ذَلِكَ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَعُوزُ خَصْمَهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ: إنِّي لَا أَقُولُ إنَّ نِكَاحَهُ يُفْسَدُ وَالنِّكَاحُ لَا يَكُونُ فَاسِدًا وَإِنَّمَا فِعْلُهُ وَهُوَ الزِّنَا هُوَ الْفَاسِدُ فَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يُفْسِدْ وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ بَانَتْ مِنْهُ وَخَرَجَتْ مِنْ حِبَالِهِ; فَهُمَا سَوَاءٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَحْسَبُ أَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا لَك

مَا ادَّعَيْت مِنْ امْتِنَاعِ اسْمِ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي قَدْ بَطَلَتْ, أَلَيْسَ السُّؤَالُ قَائِمًا عَلَيْك فِي الْمَعْنَى; إذْ سَلَّمْنَا لَك الِاسْمَ؟ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَك: مَا أَنْكَرْت أَنَّهُ لَمَّا جَازَ خُرُوجُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُجِزْ عَنْهُ لِأَجْلِ الْكَلَامِ الْمَحْظُورِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى نِكَاحُهَا بَعْدَ وَطْءِ أُمِّهَا بِزِنًا كَمَا لَمْ تَبْقَ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْكَلَامِ فَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَتَخْرُجُ مِنْ حِبَالِهِ كَمَا خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ؟ وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُطْلِقَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْبُيُوعِ أَنَّهُ فَاسِدٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ, وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا غَيْرُ مُجْزِيَةٍ وَلَا مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ; وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَنْعٌ لِلْعِبَارَةِ, وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى الْمَعَانِي لَا عَلَى الْعِبَارَاتِ وَالْأَسَامِي. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَائِلِهِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ صَاحِبَنَا قَالَ: الْمَاءُ حَلَالٌ وَالْخَمْرُ حَرَامٌ فَإِذَا صُبَّ الْمَاءُ فِي الْخَمْرِ حُرِّمَ الْمَاءُ. قَالَ: "قُلْت لَهُ: أَرَأَيْت إنْ صَبَبْت الْمَاءَ فِي الْخَمْرِ أَمَّا يَكُونُ الْمَاءُ الْحَلَالُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْحَرَامِ؟ قَالَ: بَلَى, قُلْت: أَتَجِدُ الْمَرْأَةَ مُحَرَّمَةً عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا تَجِدُ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةً عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؟ قَالَ: لَا, قُلْت: أَتَجِدُ الْمَرْأَةَ وَبِنْتَهَا مُخْتَلِطَتَيْنِ كَاخْتِلَاطِ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ؟ قَالَ: لَا, قُلْت: أَفَتَجِدُ الْقَلِيلَ مِنْ الْخَمْرِ إذَا صُبَّ فِي كَثِيرِ الْمَاءِ نَجِسَ؟ قَالَ: لَا, قُلْت: أَفَتَجِدُ قَلِيلَ الزِّنَا وَالْقُبْلَةَ وَاللَّمْسَ لِلشَّهْوَةِ لَا يَحْرُمُ وَيَحْرُمُ كَثِيرُهُ؟ قَالَ: لَا, قَالَ: فَلَا يُشْبِهُ أَمْرُ النِّسَاءِ الْخَمْرَ وَالْمَاءَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْفُرُوقِ, وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلْمَاءِ يُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ احْتَجَّ بِهِ عَلَى يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ حِينَ قَالَ: "الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ" وَهُوَ إلْزَامٌ صَحِيحٌ عَلَى مَنْ يَنْفِي التَّحْرِيمَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِوُجُودِهَا فِيهِ; إذْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ تَحْرِيمِ الْحَرَامِ الْحَلَالَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِطَيْنِ وَأَنَّ قَلِيلَ الزِّنَا يَحْرُمُ, وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّتُهُ أَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ وَأَنَّ الْحَلَالَ نِعْمَةٌ وَالْحَرَامُ نِقْمَةٌ, وَلَمْ نَرَهُ احْتَجَّ بِغَيْرِهِ فِي جَمِيعِ مَا نَاظَرَ بِهِ السَّائِلُ, وَالْفُرُوقُ الَّتِي ذَكَرَهَا إنَّمَا هِيَ فُرُوقٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ تَزِيدُ عِلَّتُهُ انْتِقَاضًا لَوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ; وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّحْرِيمُ مَقْصُورًا عَلَى الِاخْتِلَاطِ وَتَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْمَحْظُورِ مِنْ الْمُبَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ الْوَطْءُ الْمُبَاحُ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ, وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْوَطْءِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ, إذْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنْ أُمٍّ فَهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِطَتَيْنِ, فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ فَمَا أُنْكِرَ مِثْلُهُ فِي الزِّنَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقوله تعالى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} عَلَى وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِالزِّنَا, فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ دَلَالَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا شُبْهَةَ عَلَى مَا سُئِلَ عَنْهُ. ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سَائِلِهِ هَذَا لَمَّا فَرَّقَ لَهُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَبَيْنَ النِّسَاءِ بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ أَمْرُ النِّسَاءِ الْخَمْرَ وَالْمَاءَ, قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَقُلْت لَهُ: وَكَيْفَ قَبِلْت هَذَا منه؟

فَقَالَ: مَا بَيَّنَ لَنَا أَحَدٌ بَيَانَك لَنَا, وَلَوْ عَلِمَ صَاحِبُنَا بِهِ لَظَنَنْت أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَكِنْ غَفَلَ وَضَعُفَ عَنْ كَلَامِهِ, قَالَ: "فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَقَالَ الْحَقُّ عِنْدِي فِي قَوْلِكُمْ وَلَمْ يَصْنَعْ صَاحِبُنَا شَيْئًا". وَلَا نَدْرِي مَنْ كَانَ هَذَا السَّائِلُ وَلَا مَنْ صَاحِبُهُمْ الَّذِي قَالَ لَوْ عَلِمَ صَاحِبُنَا بِهَذِهِ الْفُرُوقِ لَظَنَّ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ, وَقَدْ بَانَ عَمَى قَلْبِ هَذَا السَّائِلِ بِتَسْلِيمِهِ لِلشَّافِعِيِّ جَمِيعَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ لَهُ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ذَكَرَ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَامِّيًّا لَمْ يَرْتَضِ بِشَيْءٍ مِنْ الْفِقْهِ, إلَّا أَنَّهُ قَدْ انْتَظَمَ بِذَلِكَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَهْلُ وَالْغَبَاوَةُ بِمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ مُنَاظَرَتِهِ وَتَسْلِيمِهِ مَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ وَمُطَالَبَتُهُ لِلْمَسْئُولِ بِالْفُرُوقِ الَّتِي لَا تُوجِبُ فَرْقًا فِي مَعَانِي الْعِلَلِ وَالْمُقَايَسَاتِ, ثُمَّ انْتِقَالُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إلَى مَذْهَبِهِ عَلَى مَا زَعَمَ وَتَرْكُهُ لِقَوْلِ أَصْحَابِهِ وَالْآخَرُ: قِلَّةُ الْعَقْلِ, وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَهُ لَوْ سَمِعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ, فَقَضَى بِالظَّنِّ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ. وَسُرُورُ الشَّافِعِيِّ بِمُنَاظَرَةِ مِثْلِهِ وَانْتِقَالُهُ إلَى مَذْهَبِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا مُتَقَارَبَيْنِ فِي الْمُنَاظَرَةِ, وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ فِي مَعْنَى الْمُبْتَدِئِ وَالْمُغَفَّلِ الْعَامِّيِّ لَمَا أَثْبَتَ مُنَاظَرَتَهُ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ, وَلَوْ كُلِّمَ بِذَلِكَ الْمُبْتَدِئُونَ مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِنَا لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ عَوَارُ هَذَا الْحِجَاجِ وَضَعْفُ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَالَ لِمُنَاظِرِهِ: "جَعَلْت الْفُرْقَةَ إلَى الْمَرْأَةِ بِتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا وَاَللَّهُ لَمْ يَجْعَل الْفُرْقَةَ إلَيْهَا؟ قَالَ: فَقَالَ: فَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا إذَا ارْتَدَّتْ؟ قَالَ: قُلْت: وَأَقُولُ إنْ رَجَعَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاح, أَفَتَزْعُمْ أَنْتَ فِي الَّتِي تُقَبِّلُ ابْنَ زَوْجِهَا مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَنْكَرَ عَلَى خَصْمِهِ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ, ثُمَّ قَالَ هُوَ بِهَا وَجَعَلَ إلَيْهَا الرَّجْعَةَ كَمَا جَعَلَ إلَيْهَا التَّحْرِيمَ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَأَقُولُ إنْ مَضَتْ الْعِدَّةُ فَرَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ كَانَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا, أَفَتَزْعُمُ فِي الَّتِي تُقَبِّلُ ابْنَ زَوْجِهَا مِثْلَهُ؟ قَالَ: وَالْمُرْتَدَّةُ تَحْرُمُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ حَتَّى تُسْلِمَ, وَتَقْبِيلُ ابْنِ الزَّوْجِ لَيْسَ كَذَلِكَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَنَاقَضَ عَلَى أَصْلِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ عَلَى خَصْمِهِ; ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْفُرُوقِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي مَضَى مِنْ كَلَامِهِ, وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ; لِأَنَّ فِي مِثْلِهِ شُبْهَةً عَلَى مِنْ ارْتَاضَ بِشَيْءٍ مِنْ النَّظَرِ وَلَكِنْ لِأُبَيِّنَ مَقَادِيرَ عُلُومِ مُخَالِفِي أَصْحَابِنَا وَمَحَلَّهُمْ مِنْ النَّظَرِ. وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي فَرْقِهِ بَيْنَ الزِّنَا بِأُمِّ الْمَرْأَةِ بَعْدَ التَّزْوِيجِ وَقَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لَا يَخْتَلِفُ فِي إيجَابِهِ ذَلِكَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ وَقَبْلَهُ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّضَاعَ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي إيجَابِهِ ذَلِكَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَبَعْدَهُ, إنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِالرَّجُلِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمَّهُ وَلَا بِنْتَه, مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ إنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا وَيَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ بِهِ,

فَيَكُونُ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ, فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ مِنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمَسَ الرَّجُلُ بِشَهْوَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ؟ وَاللَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فِي الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ, فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرَّجُلِ فِي حُكْمِ تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ كَانَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْوَطْءِ وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا, أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَمْسَ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ لِشَهْوَةٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْوَطْءِ; إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّمْسَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي الْمَرْأَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَطْءِ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ الزَّوْجَةَ يُحَرِّمُ بِنْتَهَا كَمَا يُحَرِّمُهَا الْوَطْءُ؟ وَكَذَلِكَ لَمْسُ الْجَارِيَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يُوجِبُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ الْوَطْءُ, وَكَذَلِكَ مَنْ حُرِّمَ بِوَطْءِ الزِّنَا حُرِّمَ بِاللَّمْسِ; فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَمْسُ الرَّجُلِ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ وَطْئِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَرْأَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْجِمَاعِ فِي تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا, فَكُلُّ مَنْ حُرِّمَ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْجَبَهُ بِاللَّمْسِ إذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ, وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ. لَمْ يُوجِبْهُ بِاللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ, وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّمْسَ الْمُبَاحَ فِي الزَّوْجَةِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَحْرُمُ بِاللَّمْسِ وَإِنَّمَا تَحْرُمُ بِالْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ مِثْلُهُ الْحَدَّ", وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ قَدْ سَبَقَهُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّظَرِ هَلْ يَحْرُمُ أَمْ لَا, فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللَّمْسِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ, وَلَا يُحَرِّمُ النَّظَرُ لِلشَّهْوَةِ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا مُتَعَمِّدًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا" وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ لِشَهْوَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا نَظَرَ إلَى شَعْرِ جَارِيَتِهِ أَوْ صَدْرِهَا أَوْ سَاقِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا تَلَذُّذًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ: "النَّظَرُ لَا يُحَرِّمُ مَا لَمْ يَلْمِسْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي هَانِئٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا". وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا" وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ "أَنَّ عُمَرَ جَرَّدَ جَارِيَةً لَهُ, فَسَأَلَهُ إيَّاهَا بَعْضُ وَلَدِهِ, فَقَالَ: إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَك". وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّهُ جرد جارية

ثُمَّ سَأَلَهُ إيَّاهَا بَعْضُ وَلَدِهِ, فَقَالَ: إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَك". وَرَوَى الْمُثَنَّى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ جَرَّدَ جَارِيَةً لَهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ مِنْهَا يُرِيدُ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَابْنِهِ". وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ مَسْرُوقٌ إلَى أَهْلِهِ قَالَ: "اُنْظُرُوا جَارِيَتِي فُلَانَةَ فَبِيعُوهَا فَإِنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهَا عَلَيَّ وَلَدِي مِنْ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ. فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ, وَإِنَّمَا خَصَّ أَصْحَابُنَا النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ دُونَ النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا" فَخَصَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ دُونَ النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ خِلَافُهُ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ مَخْصُوصٌ بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ دُونَ غَيْرِهِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ تَحْرِيمٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ كَمَا لَا يَقَعُ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ, إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ, وَلَمْ يُوجِبُوهُ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّظَرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَظَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ صَائِمٌ فَأَمْنَى لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ كَانَ الْإِنْزَالُ عَنْ لَمْسٍ فَسَدَ صَوْمُهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ؟ فَعَلِمْت أَنَّ النَّظَرَ مِنْ غَيْرِ لَمْسٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ; فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُحَرِّمَ النَّظَرُ شَيْئًا, إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ خَاصَّةً لِمَا ذَكَرْنَا. وَيَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ ابْنِ شُبْرُمَةَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} , وَاللَّمْسُ لَيْسَ بِدُخُولٍ, فَلَا يُحَرِّمُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُرِيدَ الدُّخُولُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] فَذَكَرَ الطَّلَاقَ وَمَعْنَاهُ الطَّلَاقُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ, وَيَكُونُ دَلَالَتُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ وَاتِّفَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُمْ عَلَى إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِاللَّمْسِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَى الِابْنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: {إلَّا مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: إلَّا مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ لَا تُؤَاخَذُونَ بِهِ, وَيُحْتَمَلُ: إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ, وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ; وَهَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقر أحدا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ إلَى رَجُلِ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ" أَنْ يَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ. وَقَدْ كَانَ نِكَاحُ امْرَأَةِ الأب مستفيضا

زِنًا; لِأَنَّ الْمَجُوسَ وَسَائِرَ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْلُودِينَ عَلَى مُنَاكَحَاتِهِمْ الَّتِي هِيَ فَاسِدَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُسَمَّوْنَ أَوْلَادَ زِنًا وَالزِّنَا اسْمٌ لَوَطْءٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ, وَلَا نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا إذَا صَدَرَ عَنْ عَقْدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى زِنًا سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} يَعْنِي أَنَّهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبْغِضُهُ الْمُسْلِمُونَ, وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ لَتَحْرِيمِهِ وَتَقْبِيحِهِ وَتَهْجِينُ فَاعِلِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ طَرِيقٌ سُوءٌ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَهَنَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ السَّبْعَ مِنْ النَّسَبِ وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعٌ, ثُمَّ قَالَ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مَا وَرَاءَ هَذَا النَّسَبِ, ثُمَّ قَالَ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَعْنِي السَّبْيَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ حَقِيقَةً, وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّاتِ وَإِنْ بَعُدْنَ مُحَرَّمَاتٍ, وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُمَّهَاتِ; لِأَنَّ اسْمَ الْأُمَّهَاتِ يَشْمَلُهُنَّ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْآبَاءِ يَتَنَاوَلُ الْأَجْدَادَ وَإِنْ بَعُدُوا, وَقَدْ عُقِلَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} تَحْرِيمُ مَا نَكَحَ الْأَجْدَادُ, وَإِنْ كَانَ لِلْجَدِّ اسْمٌ خَاصٌّ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْأَبُ الْأَدْنَى فَإِنَّ الِاسْمَ الْعَامَّ وَهُوَ الْأُبُوَّةُ يَنْتَظِمُهُمْ جميعا; وكذلك قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} قَدْ يَتَنَاوَلُ بَنَاتِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفُلْنَ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُنَّ كَمَا يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْآبَاءِ الْأَجْدَادَ, وقَوْله تَعَالَى {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} , فَأَفْرَدَ بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّ اسْمَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ كَمَا يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْبَنَاتِ بَنَاتِ الْأَوْلَادِ; فَهَؤُلَاءِ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَهَؤُلَاءِ, السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ. وَقَدْ عُقِلَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} مَنْ سَفَلَ مِنْهُنَّ كَمَا عُقِلَ مِنْ قَوْله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ} مَنْ عَلَا مِنْهُنَّ; وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَبَنَاتُكُمْ} من سفل

منهن, وعقل من قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} تَحْرِيمُ عَمَّاتِ الْأَبِ وَالْأُمِّ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَخَالاتُكُمْ} عُقِلَ مِنْهُ تَحْرِيمُ خَالَاتِ الْأُمِّ وَالْأَبِ كَمَا عُقِلَ تَحْرِيمُ أُمَّهَاتِ الْأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ. وَخَصَّ تَعَالَى الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ بِالتَّحْرِيمِ دُونَ أَوْلَادِهِنَّ, وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نِكَاحِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْخَالَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ إنَّمَا هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالرَّضَاعِ, أَعْنِي سِمَةَ الْأُمُومَةِ وَالْأُخُوَّةِ; فَلَمَّا عَلَّقَ هَذِهِ السِّمَةَ بِفِعْلِ الرَّضَاعِ اقْتَضَى ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ اسْمِ الْأُمُومَةِ وَالْأُخُوَّةِ بِوُجُودِ الرَّضَاعِ, وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قيل: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَعْطَيْنَكُمْ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ, فَنَحْتَاجُ إلَى أَنْ نُثْبِتَ أَنَّهَا أُمٌّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الرَّضَاعُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَاَللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّضَاعَ هُوَ الَّذِي يُكْسِبُهَا سِمَةَ الْأُمُومَةِ, فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ مُسْتَحِقًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ, وَاسْمُ الرَّضَاعِ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ, فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ أُمًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ; لِأَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِوُجُودِ الْكِسْوَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِوُجُودِ الرَّضَاعِ, فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا إلَى حُصُولِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ; وكذلك قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ كَوْنَهَا أُخْتًا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ; إذْ كَانَ اسْمُ الْأُخُوَّةِ مُسْتَفَادًا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ لَا بِمَعْنًى آخَرَ سِوَاهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ وَمُقْتَضَى الْقَوْلِ, مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قال الله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فَعَقَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّحْرِيمَ بقليل الرضاع.

مطلب اختلف السلف في التَّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ, فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ: "قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ يُحَرِّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ قَالَ اللَّيْثُ: "اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ فِي الْمَهْدِ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ". وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْكَلَامَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَالِاخْتِلَافَ فِيهَا, وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إثْبَاتُ تَحْدِيدِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مَنْقُولَةٍ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ, وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا فِي تَخْصِيصِ حُكْمِ الْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ; لِأَنَّهَا آيَةٌ مُحْكَمَةٌ ظَاهِرَةُ الْمَعْنَى بَيِّنَةُ الْمُرَادِ لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهَا بِالِاتِّفَاقِ, وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ", رَوَاهُ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم; وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ, فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جِهَةِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ أَنَّهُ قَالَ: "يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ" رَوَاهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِعْمَالِ; فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, كَذَلِكَ الرَّضَاعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمُهُ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ لِتَسْوِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فِيمَا عَلِقَ بِهِمَا مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ. وَاحْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأُمُّ الْفَضْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ" وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ, فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ, فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتُ خُصُوصُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ, فَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي تُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا حَدَّثَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن سعيد قال: حدثنا أبو خالد عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّضَاعِ فَقُلْت: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ قَالَ: "قَدْ كَانَ ذَاكَ, فَأَمَّا الْيَوْمَ فَالرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: "اُشْتُرِطَتْ عَشْرُ رَضَعَاتٍ ثُمَّ قِيلَ الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ"; فَقَدْ عَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ خَبَرَ الْعَدَدِ فِي الرَّضَاعِ وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالتَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّحْدِيدُ كَانَ مَشْرُوطًا فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَهُوَ

مَنْسُوخٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَحْدِيدُ الرَّضَاعِ كَانَ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ, فَلَمَّا نُسِخَ سَقَطَ التَّحْدِيدُ; إذْ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهِ. وَأَيْضًا يُلْزِمُ الشَّافِعِيُّ إيجَابَ التَّحْرِيمِ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: "لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ" عَلَى إيجَابِ التَّحْرِيمِ فِيمَا زَادَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَغَيْرُ جَائِزٍ اعْتِقَادُ صِحَّتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ, وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ مِمَّا يُتْلَى; وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ مَوْجُودَةً, فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِهِ التِّلَاوَةُ وَلَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَدْخُولًا فِي الْأَصْلِ غَيْرَ ثَابِتِ الْحُكْمِ, أَوْ يَكُونَ إنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا نُسِخَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ مَنْسُوخًا فَالْعَمَلُ بِهِ سَاقِطٌ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ تَحْدِيدًا لِرَضَاعِ الْكَبِيرِ, وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ بِهِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ دُونَ سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيّ نَسْخُ رَضَاعِ الْكَبِيرِ, فَسَقَطَ حُكْمُ التَّحْدِيدِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا. وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ وَالِاحْتِمَالِ لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ; إذْ هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّحْدِيدِ أَنَّ الرَّضَاعَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا, فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ الْمُوجِبَ لِتَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْعَقْدَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ كَحَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَمَا نَكَحَ الْآبَاءُ, فَلَمَّا كَانَ الْقَلِيلُ مِنْ ذَلِكَ كَكَثِيرِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الرَّضَاعِ في إيجاب التحريم بقليله.

مطلب: اختلف أهل لعلم في لبن الفحل وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ, وَهُوَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَتَلِدُ مِنْهُ وَلَدًا وَيَنْزِلُ لَهَا لَبَنٌ بَعْدَ وِلَادَتِهَا مِنْهُ فَتُرْضِعُ بِهِ صَبِيَّا; فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ عَلَى أَوْلَادِ الرَّجُلِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهَا, وَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ مِنْ غَيْرِهَا. فَمِمَّنْ قَالَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْن الشَّرِيدِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ هَذِهِ غُلَامًا وَهَذِهِ جَارِيَةً, هَلْ يَصِحُّ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ: "لَا, اللِّقَاحُ وَاحِدٌ", وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ. وَذَكَرَ الْخَفَّافُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "كَرِهَهُ قَوْمٌ وَلَمْ يَرَ بِهِ قَوْمٌ بَأْسًا, وَمَنْ كَرِهَهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا" وَذَكَرَ عَبَّادُ بْن مَنْصُورٍ. قَالَ: قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: امْرَأَةُ أَبِي أَرْضَعَتْ جَارِيَةً مِنْ النَّاسِ بِلَبَانِ إخْوَتِي مِنْ أَبِي أَتَحِلُّ لِي؟ قَالَ: "لَا, أَبُوك أَبُوهَا" فَسَأَلْت طَاوُسًا وَالْحَسَنَ فَقَالَا مِثْلَ ذَلِكَ, وسألت مجاهدا فقال: "اختلف فيه

فقهاء فَلَسْت أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا" وَسَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَسَأَلْت يُوسُفَ بْنَ مَاهَكَ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي قُعَيْسٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ ومالك وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لَبَنُ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: "إنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ رَافِعِ بْن خَدِيجٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ لِيَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ, قَالَتْ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ, فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْته, قَالَ: "لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك" قُلْت: إنَّمَا أَرْضَعْتنِي الْمَرْأَةُ. وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قَالَ: "لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك تَرِبَتْ يَمِينُك" وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا; لِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا كَمَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَ سَبَبُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعْته أَخَوَاتُهَا وَبَنَاتُ أَخِيهَا وَلَا تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعْته نِسَاءُ إخْوَتِهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا وَرَدَ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ; إذْ كَانَ لَهَا أَنْ تَأْذَنَ لِمَنْ شَاءَتْ مِنْ مَحَارِمِهَا وَتَحْجُبَ مَنْ شَاءَتْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْبِنْتَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْجَدِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ مَائِهِ; لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ حُدُوثِ الْأَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَائِهِ, كَذَلِكَ الرَّجُلُ لَمَّا كَانَ هُوَ سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّبَنُ مِنْهُ; إذْ كَانَ هُوَ سَبَبَهُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ. وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ الرَّضَاعِ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ, إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: "يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ" وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ الرَّبَائِبَ لَا يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا أَوْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مِنْ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ فِيمَا سَلَفَ, وَهُوَ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ, هَلْ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ دُونَ الدُّخُولِ؟ فَرَوَى

حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: "فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا, وَإِنْ تَزَوَّجَ أُمَّهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَزَوَّجُ بِنْتَهَا تَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا"; وَأَهْلُ النَّقْلِ يُضَعِّفُونَ حَدِيثَ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ; وَيُرْوَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا مَا يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ الْأَجْدَعِ عَنْهُ: أَنَّ أُمَّ الْمَرْأَةِ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ, وَالْأُخْرَى مَا يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: أَنَّهَا تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَمَسْرُوقٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: "تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ".

مطلب: افتى ابن مسعود بحل التزويج بأم المرأة قيل الدخول بها ثم رجع عن ذلك وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَفْتَى فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ قَالَ: "لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا" فَلَمَّا أَتَى الْمَدِينَةَ رَجَعَ فَأَفْتَاهُمْ فَنَهَاهُمْ وَقَدْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَيُفْتِي بِهِ, يَعْنِي فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ, فَحَجَّ فَلَقِيَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَرَهُمْ ذَلِكَ فَكَرِهُوا. أَنْ يَتَزَوَّجَهَا, فَلَمَّا رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ نَهَى مَنْ كَانَ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ, وَكَانُوا أَحْيَاءَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ أَفْتَاهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ: "إنِّي سَأَلْت أَصْحَابِي فَكَرِهُوا ذَلِكَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا, قَالَ: "إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَزَوَّجُ أُمَّهَا, وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا", وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يُضَعِّفُونَ حَدِيثَ قَتَادَةَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ أَكْثَرَ مَا يَرْوِيهِ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رِجَالٌ, وَإِنَّ رِوَايَاتِهِ عَنْ سَعِيدٍ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَاتِ أَكْثَرِ أَصْحَابِ سَعِيدٍ الثِّقَاتِ; وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خِلَافَ رِوَايَةِ قَتَادَةَ. وَيُقَالُ إنَّ حَدِيثَ يَحْيَى وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ, وَالْفُقَهَاءُ لَا يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَرَدِّهَا, وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِهِ مَذْهَبُ الْقَوْمِ فِيهِ دُونَ اعْتِبَارِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ; وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فِي التَّحْرِيمِ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّخُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؟ وَأَمَّا الْمَوْتُ

فَلَمَّا كَانَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ جَعَلَهُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} هي مبهمة عامة كقوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} وَقَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} , فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ, وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِهَا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِيهَا, أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَكُلُّ كَلَامٍ اكْتَفَى بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَبَ إجْرَاؤُهُ عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ دُونَ تَعْلِيقِهِ بِغَيْرِهِ, فَلَمَّا كان قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} جُمْلَةً مُكْتَفِيَةً بِنَفْسِهَا يَقْتَضِي عُمُومُهَا تَحْرِيمَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ, وَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} جُمْلَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ, لَمْ يَجُزْ لَنَا بِنَاءُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بَلْ الْوَاجِبُ إجْرَاءُ الْمُطْلَقِ مِنْهُمَا عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَشَرْطُهُ, إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ عَلَى شَرْطِهَا. وَأُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يَجْرِي هَذَا الشَّرْطُ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ, تَقْدِيرُهُ: وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ إلَّا اللَّاتِي لَمْ تَدْخُلُوا بِهِنَّ; لِأَنَّ فِيهِ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ, فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَوْدُهُ إلَى مَا يَلِيهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى مَا تَقَدَّمَ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الرَّبَائِبِ وَلَمْ يَجُزْ رَدُّهُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ, وَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الرَّبَائِبِ وَرُجُوعُهُ إلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالشَّكِّ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُمُومُ التَّحْرِيمِ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مُقِرًّا عَلَى بَابِهِ. وَأُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ إضْمَارَ شَرْطِ الدُّخُولِ لَا يَصِحُّ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مُظْهِرًا; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ; لِأَنَّ أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا لَسْنَ مِنْ نِسَائِنَا وَالرَّبَائِبُ مِنْ نِسَائِنَا; لِأَنَّ الْبِنْتَ مِنْ الْأُمِّ وَلَيْسَتْ الْأُمُّ مِنْ الْبِنْتِ, فَلَمَّا لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ بِإِظْهَارِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فِي الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ إضْمَارُهُ فِيهِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أن قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ} إنَّمَا هُوَ مِنْ وَصْفِ الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَأَيْضًا فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} نَعْتًا لِأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَجَعَلْنَا تَقْدِيرَهُ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ من

نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لَخَرَجَ الرَّبَائِبُ مِنْ الْحُكْمِ وَصَارَ حُكْمُ الشَّرْطِ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ دُونَهُنَّ, وَذَلِكَ خِلَافُ نَصِّ التَّنْزِيلِ, فَثَبَتَ أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ مَقْصُورٌ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا, وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحْ ابْنَتَهَا; وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا". وَقَدْ حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي حُكْمِ الرَّبِيبَةِ, فَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ مَالِك بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّبِيبَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ وَكَانَتْ فِي بَلَدٍ آخَرَ ثُمَّ فَارَقَ الْأُمَّ بَعْدَ الدُّخُولِ: "إنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّبِيبَةَ". وَنَسَبَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إبْرَاهِيمَ هَذَا فَقَالَ: إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ, وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ مَقَالَةٌ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ رَدُّوهُ وَلَمْ يَتَلَقَّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْقَبُولِ. وَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الرَّبِيبَةَ وَالْأُمَّ تَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا, وَهُوَ خِلَافُ هَذَا الْحَدِيثِ; لِأَنَّ الْأُمَّ لَا مَحَالَةَ تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ وَقَدْ جَعَلَ الرَّبِيبَةَ مِثْلَهَا, فَاقْتَضَى تَحْرِيمَ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ هَذَا أَنَّ عَلِيًّا احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ لَمْ تَحْرُمْ. وَحِكَايَةُ هَذَا الْحِجَاجِ يَدُلُّ عَلَى وَهْيِ الْحَدِيثِ وَضَعْفِهِ; لِأَنَّ عَلِيًّا لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ وَذَلِكَ; لأنا قد علمنا أن قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} لَمْ يَقْتَضِ أَنْ تَكُونَ تَرْبِيَةُ زَوْجِ الْأُمِّ لَهَا شَرْطًا فِي التَّحْرِيمِ, وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُرَبِّهَا لَمْ تَحْرُمْ, وَإِنَّمَا سُمِّيت بِنْتُ الْمَرْأَةِ رَبِيبَةً; لِأَنَّ الْأَعَمَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ زَوْجَ الْأُمِّ يُرَبِّيهَا; ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ تَرْبِيَتِهِ إيَّاهَا شَرْطًا فِي التَّحْرِيمِ, كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فِي حُجُورِكُمْ} كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ مِنْ كَوْنِ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ; وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ شَرْطًا فِي التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ تَرْبِيَةَ الزَّوْجِ إيَّاهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ, وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ" وَلَيْسَ كَوْنُ الْمَخَاضِ أَوْ اللَّبَنِ بِالْأُمِّ شَرْطًا فِي الْمَأْخُوذِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ; لِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ كَانَ بِأُمِّهَا لَبَنٌ; فَإِنَّمَا أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى غَالِبِ الْحَالِ, كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فِي حُجُورِكُمْ} عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ مَنْ ذُكِرَ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَأَنَّ الْأُمَّ وَالْأُخْتَ مِنْ الرَّضَاعَةِ مُحَرَّمَتَانِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا هُمَا بِالنِّكَاحِ, وَكَذَلِكَ

أُمُّ الْمَرْأَةِ وَابْنَتُهَا إذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إذَا وَطِئَ الْأُخْرَى; وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ أُمٍّ وَبِنْتٍ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يُحَرِّمُ مَا يُحَرِّمُهُ الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ. قَوْله تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ زَيْدٍ وَنَزَلَتْ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] و {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] , قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ لَهُ زيد بن محمد.

مطلب: الحلية اسم يختص بالزوجة دون المملوكة بملك اليمين قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَلِيلَةُ الِابْنِ هِيَ زَوْجَتُهُ, وَيُقَالُ إنَّمَا سُمِّيَتْ حَلِيلَةً; لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَعَهُ فِي فِرَاشٍ, وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا الْجِمَاعُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ, وَالْأَمَةُ إنْ اسْتَبَاحَ فَرْجَهَا بِالْمِلْكِ لَا تُسَمَّى حَلِيلَةً وَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ مَا لَمْ يَطَأْهَا, وَعَقْدُ نِكَاحِ الِابْنِ عَلَيْهَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَبِيهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِيلَةَ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَلَمَّا عُلِّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ ذِكْرِ الْوَطْءِ اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَهُنَّ بِالْعَقْدِ دُونَ شَرْطِ الْوَطْءِ; لِأَنَّا لَوْ شَرَطْنَا الْوَطْءَ لَكَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ, وَمِثْلُهَا يُوجِبُ النَّسْخَ; لِأَنَّهَا تُبِيحُ مَا حَظَرَتْهُ الْآيَةُ, وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} قَدْ تَنَاوَلَ عِنْدَ الْجَمْعِ تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى الْجَدِّ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صُلْبِ الْجَدِّ; لِأَنَّ إطْلَاقَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَاهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ, وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إلَى الْجَدِّ بِالْوِلَادَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي تَخْصِيصِهَا حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنْ الصُّلْبِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب: 37] لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إبَاحَةِ تَزْوِيجِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي. وَقَوْلُهُ: {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ هِيَ زَوْجَتُهُ; لِأَنَّهُ عَبَّرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْهُنَّ بِاسْمِ الْأَزْوَاجِ وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى بِذِكْرِ الْحَلَائِلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ; وَالْجَمْعُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا مَعًا فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا; لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَهُمَا, وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى بِجَوَازِ نِكَاحِهَا مِنْ الْأُخْرَى, وَلَا يَجُوزُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِمَا مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ

تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ فِي أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعُقْدَةَ وَقَعَتْ فَاسِدَةً مِثْلَ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ أَوْ هِيَ تَحْتَ زَوْجٍ, فَلَا يَصِحُّ أَبَدًا. وَمِنْ الْجَمْعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَهَا, فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بِهَا حَصَلَ وَعَقْدُهَا وَقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَعَقْدُ الْأُولَى وَقَعَ مُبَاحًا, فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ. وَمِنْ الْجَمْعِ أَيْضًا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ وَطْئِهِمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ, فَيَطَأَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ يَطَأَ الْأُخْرَى قَبْلَ إخْرَاجِ الْمَوْطُوءَةِ الْأُولَى مِنْ مِلْكِهِ; فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْجَمْعِ, وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ السَّلَفِ ثُمَّ زَالَ وَحَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ.

مطلب: سئل علي عن وطء أختين بملك اليمين فقال: "أحلتهما آية وحرمهما آية" إلى آخره وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا أَبَاحَا ذَلِكَ وَقَالَا: "أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَمَّارٌ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ", وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" فَإِذَا أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَالْحَرَامُ أَوْلَى. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ الْغَافِقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي إيَاسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْت عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا هَلْ يَطَأُ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ: "أَعْتِقْ الْمَوْطُوءَةَ حَتَّى يَطَأَ الْأُخْرَى" وَقَالَ: "مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلَّا حَرَّمَ مِنْ الْإِمَاءِ مِثْلَهُ إلَّا عَدَدَ الْأَرْبَعِ" وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ, يَعْنُونَ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَقَوْلُهُ: "حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} , فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْإِبَاحَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ وَقَالَ: "لَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ". وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَاظِرًا فِيهِ غَيْرَ قَاطِعٍ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَ فِيهِ بِالْإِبَاحَةِ ثُمَّ وَقَفَ فِيهِ, وَقَطَعَ عَلِيٌّ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إذَا اجْتَمَعَا فَالْحَظْرُ أَوْلَى إذَا تَسَاوَى سَبَبَاهُمَا, وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ رَوَى إيَاسُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّك تَقُولُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ؟ فَقَالَ: "كَذَبُوا" وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي مُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِالْوَقْفِ فِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ: "أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى, وَإِنْكَارُهُ أَنْ يَكُونَ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ أَنَّ آيَتَيْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي مُقْتَضَاهُمَا, وَأَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ هُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ لِاقْتِضَاءِ حَقِيقَتِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُبَاحًا مَحْظُورًا فِي حَالٍ

وَاحِدَةٍ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, وَأَنَّهُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِالْقَطْعِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ سَائِغًا جَائِزًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الخبر الآخر

مطلب لذا تساوى سببا الحظر والإباحة رجح بينهما الحظر وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى لَوْ تَسَاوَتْ الْآيَتَانِ فِي إيجَابِ حُكْمَيْهِمَا أَنَّ فِعْلَ الْمَحْظُورِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ وَتَرْكَ الْمُبَاحِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ, وَالِاحْتِيَاطُ الِامْتِنَاعُ مِمَّا لَا يَأْمَنُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ بِهِ, فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ وَاجِبَةٌ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى; إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وُرُودُهَا فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَارِدٌ فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وَسَائِرُ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ تَحْرِيمُهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَارِدٌ فِي إبَاحَةِ الْمَسْبِيَّةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ; وَأَفَادَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ وَقَطْعَ الْعِصْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا, فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ إيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتِهَا لِمَالِكِهَا, فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ; إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ وَارِدَةٌ فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى, فَيُسْتَعْمَلُ حُكْمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي السَّبَبِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِضْ عَلَى حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ فِي الْآيَةِ, وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَلَا أُمِّ الْمَرْأَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَلَمْ يَكُنْ قَوْله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مُوجِبًا لَتَخْصِيصِهِنَّ لَوُرُودِهِ فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْآيَةِ الْأُخْرَى; كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي اعْتِرَاضِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ. وَامْتِنَاعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَتَيْنِ إذَا وَرَدَتَا فِي سَبَبَيْنِ: إحْدَاهُمَا فِي التَّحْلِيلِ وَالْأُخْرَى فِي التَّحْرِيمِ, أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَجْرِي عَلَى حُكْمِهَا فِي ذَلِكَ السَّبَبِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى, وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَيْضًا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَظْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالنِّكَاحِ وَالْأُخْرَى بِمِلْكِ الْيَمِينِ, نَحْوَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ بِنِكَاحٍ فَيَشْتَرِي أُخْتَهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهُمَا جَمِيعًا; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ قَدْ انْتَظَمَ مِلْكَ الْيَمِينِ كَمَا انْتَظَمَ النِّكَاحَ, وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جَمْعِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ, وَهُوَ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ نَسَبِ وَلَدَيْهِمَا وَفِي إيجَابِ

النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنِّكَاحِ وَالسُّكْنَى لَهُمَا, وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ ضُرُوبِ الْجَمْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مُنْتَفِيًا بِتَحْرِيمِهِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} مَقْصُورٌ عَلَى النِّكَاحِ دُونَ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ, لِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ; وَلَيْسَ مِلْكُ الْيَمِينِ بِنِكَاحٍ, فَعَلِمْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى النِّكَاحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اقْتِصَارَك بِالتَّحْرِيمِ عَلَى النِّكَاحِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ الْجَمْعِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ, وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ: "أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا, وَكَذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ الْخَامِسَةَ وَإِحْدَى الْأَرْبَعِ تَعْتَدُّ مِنْهُ", فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ الْعِدَّةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وزفر والثوري وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ: "لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا إذَا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتَلَفَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ, فَرُوِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِوَايَتَانِ, إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا, وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُهَا; وَقَالَ قَتَادَةُ: رَجَعَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا. وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَعُمُومِهَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ كَافٍ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ مَا دَامَتْ الْأُخْتُ مُعْتَدَّةً مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ وَطْءِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ إبَاحَةَ الْوَطْءِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا عَقْدٌ, فَوَاجِبٌ عَلَى ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ, فَلَمَّا كَانَ اسْتِلْحَاقُ النَّسَبِ وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ وَكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ, وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْهُ فَلَا تَمْنَعُ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا قِيلَ لَهُ: لَا يَخْتَلِفَانِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ; لِأَنَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِوَطْئِهِ إيَّاهَا, وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَتَجْمَعَ إلَى حُقُوقِ نِكَاحِ الْأَوَّلِ زَوْجًا آخَرَ; وَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِمُطَاوَعَتِهَا إيَّاهُ عَلَى الْوَطْءِ مُبِيحًا لَهَا نِكَاحَ زَوْجٍ آخَرَ, بَلْ كَانَتْ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوْجٍ ثَانٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هِيَ فِي حِيَالِهِ, وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ لَا يَجُوزُ لَهُ جَمْعُ أُخْتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ بَقَاءِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ. وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُخْتِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ, وَوَجَدْنَا تَحْرِيمَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ إذَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجٍ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ, ثُمَّ وَجَدْنَا الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنْ

الْجَمْعِ مَا يَمْنَعُ نَفْسُ النِّكَاحِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا كَمَا مُنِعَ ذَلِكَ فِي حَالِ بَقَاءِ نِكَاحِهَا; إذْ كَانَتْ الْعِدَّةُ تَمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ مَا يَمْنَعُهُ نَفْسُ النِّكَاحِ كَمَا جَرَتْ الْعِدَّةُ مَجْرَى النِّكَاحِ فِي بَابِ مَنْعِهَا مِنْ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي الْعِدَّةِ إذَا مَنَعْته مِنْ تَزْوِيجِ الْأُخْتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ مَقْصُورًا عَلَى الْعِدَّةِ حَتَّى إذَا مَنَعْنَاهُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا فَقَدْ جَعَلْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَزَوَّجَ أُخْتِهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي الْعِدَّةِ؟ وَكَذَلِكَ قَبْلَ الطَّلَاقِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعٌ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ عَلَى الْأُخْتِ أَوْ لِزَوْجٍ آخَرَ, وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَاخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهِ وَاحْتِمَالِهِ لِمَا قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بين الأختين: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَحْتَمِلُ مِنْ الْمَعَانِي مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ; وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِمَعْنًى آخَرَ لَا يَحْتَمِلُهُ الْأَوَّلُ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعُقُودَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ لَا تَنْفَسِخُ وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي وَهْبٍ الْجَيَشَانِيِّ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَسْلَمْت وَعِنْدِي أُخْتَانِ, فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "طَلِّقْ إحْدَاهُمَا" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْت" , فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِمُفَارَقَتِهِمَا إنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا مَعًا, وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِمُفَارَقَةِ الْآخِرَةِ مِنْهُمَا إنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ, وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ ذَلِكَ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ نِكَاحِهِ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: "طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت" وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُقَرِّينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عُقُودِهِمْ قَبْلَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ بِبُطْلَانِهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ تَحْتَهُ أُخْتَانِ أَوْ خَمْسُ أَجْنَبِيَّاتٍ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ: "يَخْتَارُ الْأَوَائِلَ مِنْهُنَّ إنْ كُنَّ خَمْسًا, وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ اخْتَارَ الْأُولَى, وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيُّ: "يَخْتَارُ مِنْ الْخَمْسِ أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شَاءَ وَمِنْ الْأُخْتَيْنِ أَيَّتَهمَا شَاءَ" إلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأُخْتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى امْرَأَتُهُ وَيُفَارِقُ الْآخِرَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَخْتَارُ الْأَرْبَعَ الْأَوَائِلَ, فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيَّتَهُنَّ الْأُولَى طَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَذَلِكَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ, فَكَانَ عَقْدُ الْكَافِرِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْفَسَادِ, فَوَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الآخرة لوقوع

عَقْدِهَا عَلَى فَسَادٍ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ, كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَالْجَمْعُ وَاقِعٌ بِالثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لَوُقُوعِهَا منهيا عنها بظاهر النص.

مطلب: النهي عندنا يقتضي الفساد فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: وُقُوعُ الْعُقْدَةِ مَنْهِيًّا عَنْهَا, وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنِعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ. فَلَوْ أَبْقَيْنَا عَقْدَهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كُنَّا مُثْبِتِينَ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْجَمْعُ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ عَقْدًا عَلَى أُخْتَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى لَهُ عَقْدٌ عَلَى أُخْتَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا أُخْتَيْنِ فِي حَالِ الْعَقْدِ, كَمَنْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا, أَشْبَهَ نِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي اسْتِوَاءِ حَالِ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا. فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَقْدُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَحَالِ الْإِسْلَامِ وَوَجَبَ التَّفْرِيقُ مَتَى طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ وَأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ; وَكَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ, وَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا قُلْنَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَاحْتَجَّ مَنْ خَيَّرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ, وَبِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُمَيْضَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: أَسْلَمْت وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ, فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ "أَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا" وَبِمَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا". فَأَمَّا حَدِيثُ فَيْرُوزَ فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "أَيَّتَهمَا شِئْت" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَحَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ, فَكَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ, فَلَزِمَهُ اخْتِيَارُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَمُفَارَقَةُ سَائِرِهِنَّ, كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا فَيُقَالُ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت; لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِعِلْمِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَشُكُّ أَهْلُ النَّقْلِ فِيهِ أَنَّ مَعْمَرًا1 أَخْطَأَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ, وَأَنَّ أَصْلَ هذا الحديث مقطوع من حديث

_ 1 قوله: أن معمرا" هو معمر بن راشد البصري ثم اليماني, انتهى مختصرا من خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".

الزُّهْرِيِّ, رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: "اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا", وَرَوَاهُ عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فَيَجْعَلُهُ بَلَاغًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْد وَيُقَالُ: إنَّهُ إنَّمَا جَاءَ الْغَلَطُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ عِنْدَهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدِيثَانِ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ, أَحَدُهُمَا هَذَا وَهُوَ بَلَاغٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْد, وَالْآخَرُ حَدِيثُهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "لَئِنْ لَمْ تُرَاجِعْ نِسَاءَك ثُمَّ مِتَّ لَأُوَرِّثُهُنَّ ثُمَّ لَأَرْجُمَنَّ قَبْرَك كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ", فَأَخْطَأَ مَعْمَرٌ وَجَعَلَ إسْنَادَ هَذَا الحديث لحديث إسلامه مع النسوة.

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْمَنْصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ, وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا, رَوَاهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا" وَفِي بَعْضِهَا: "لَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى". عَلَى اخْتِلَافِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى; وَقَدْ تَلَقَّاهَا النَّاسُ بِالْقَبُولِ مَعَ تَوَاتُرِهَا وَاسْتِفَاضَتِهَا. وَهِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ, فَوَجَبَ استعمال حكمها مع الآية.

مطلب: شذت طائفة من الخوارجى بإباحة الجمع ببين غير الأختين من المحارم وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ بِإِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ عَدَا الْأُخْتَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَأَخْطَأَتْ فِي ذَلِكَ وَضَلَّتْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْنَا, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إلَى الْآيَةِ, فَيَكُونُ قَوْله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مُسْتَعْمَلًا فِيمَنْ عَدَا الْأُخْتَيْنِ وَعَدَا مَنْ بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بَيْنَهُنَّ. وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مِنْ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ قَبْلَ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ مَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُنَّ أَوْ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بَعْدَ الْخَبَرِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مُرَتَّبٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ مِنْهُنَّ; لأن قوله: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَحْرِيمِهِنَّ, وَقَدْ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ

الْأُخْتَيْنِ جَمِيعُ ذَلِكَ مُبَاحًا. فَعَلِمْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ; وَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَبْلَ الْآيَةِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا, فَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَلَمْ تَرُدَّ الْآيَةُ إلَّا خَاصَّةً فِيمَنْ عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ تَحْرِيمُ جَمْعِهِنَّ, وَعَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَبَيَّنَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا, فَلَمْ يَعْقِلْ السَّامِعُونَ لِلْآيَةِ حُكْمًا إلَّا خَاصًّا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْآيَةِ اسْتَقَرَّ عَلَى مُقْتَضَى عُمُومِ لَفْظِهَا ثُمَّ وَرَدَ الْخَبَرُ, فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ, وَنَسْخُ الْقُرْآنِ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ لِتَوَاتُرِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَكَوْنِهِ فِي حَيِّزِ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ, فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا تَارِيخُ الْآيَةِ وَالْخَبَرُ مَعَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِالْآيَةِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ قَبْلَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا, وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْآيَةِ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَرَدَا مَعًا; لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِتَارِيخِهِمَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الْحُكْمُ بِتَأَخُّرِهِ عَنْ الْآيَةِ وَنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ الْآيَةِ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا, وَلَيْسَ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا ثُمَّ وَرَدَ النَّسْخُ عَلَيْهَا بِالْخَبَرِ, فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا; وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِمَا مَعًا, كَالْغَرْقَى وَالْقَوْمِ الَّذِينَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ الْبَيْتُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُ أَحَدِهِمْ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِمْ جَمِيعًا مَعًا; والله أعلم

بَابُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَطْفًا عَلَى مَنْ حُرِّمَ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حَمَّادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ". وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ إتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْهُنَّ وَأَنَّ نِكَاحَهَا حَرَامٌ مَا دَامَتْ ذَاتَ زَوْجٍ, وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} , فَتَأَوَّلَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ, وَعُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ: أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ السَّبَايَا أُبِيحَ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَوَجَبَ بِحُدُوثِ السَّبْيِ عَلَيْهَا دُونَ زَوْجِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا; وَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُهَا. وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ السَّبَايَا وَغَيْرِهِمْ; وَكَانُوا يَقُولُونَ: بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا

أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا إلَى أَوْطَاسٍ, فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ سَبَايَا لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ, فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ غَشَيَانِهِنَّ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَيْ هُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا عَلْقَمَةَ هَذَا رَجُلٌ جَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ, وَرَوَى هُوَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَلَهُ أَحَادِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ السَّنَدِ قَدْ أَخْبَرَ فِيهِ بِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَأَنَّهَا فِي السَّبَايَا, وَتَأَوَّلَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إذَا مُلِكْنَ حَلَّ وَطْؤُهُنَّ لِمَالِكِهِنَّ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَ السَّبَبَ وَإِنَّمَا تُرَاعُونَ حُكْمَ اللَّفْظِ إنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ فَهَلَّا اعْتَبَرْت ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلْتهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي سَائِرِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ مِنْ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ فَيَنْتَظِمُ السَّبَايَا وَغَيْرُهُنَّ قِيلَ لَهُ: الدَّلَالَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الْآيَةِ عَلَى خُصُوصِهَا فِي السِّبَابَا, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} , فَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْمِلْكِ مُوجِبًا لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا اشْتَرَتْهَا امْرَأَةٌ أَوْ أَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ. فَإِنْ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ, سَوَاءٌ كَانَ حُدُوثُ الْمِلْكِ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَمْلِكَهَا امْرَأَةٌ أَوْ رَجُلٌ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قِيلَ لَهُ: فَشَأْنُ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الْيَمِينِ فَأَبَاحَتْ لَهُ وَطْأَهَا; لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ حَظْرِ وَطْءِ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ, فَوَاجِبٌ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَبِحْ الْمَالِكُ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْآيَةِ, وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} خَاصًّا فِي السَّبَايَا, وَيَكُونُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا حُدُوثَ الْمِلْكِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ مَا رَوَى حَمَّادُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ فَأَعْتَقْتهَا وَشَرَطَتْ لِأَهْلِهَا الْوَلَاءَ, فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَقَالَ لَهَا: "يَا بَرِيرَةُ اخْتَارِي فَالْأَمْرُ إلَيْك" ; وَرَوَاهُ سِمَاكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثًا, فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَنَّ "الولاء لمن أعطى الثمن" وخيرها

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَمْرِ بَرِيرَةَ مَا رَوَى, ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا" فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى مَا رَوَاهُ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي السَّبَايَا وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يُوقِعُ فُرْقَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي ذَكَرْت عَنْهُ مِنْ أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا كَانَ يَقُولُ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ عِنْدَهُ قِصَّةُ بَرِيرَةَ وَتَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا بَعْدَ الشِّرَى, فَلَمَّا سَمِعَ بِقِصَّةِ بَرِيرَةَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. وَأَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا " إذَا اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ وَلَا يَبْقَى النِّكَاحُ مَعَ الْمِلْكِ. وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ; وَذَلِكَ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ الزَّوْجِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِيقَاعِهِ أَوْ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ سَبَبٌ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ طَلَاقًا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ; لِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْبَيْعِ غَيْرُ نَافٍ لِلنِّكَاحِ, فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَا يُنَافِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا طَرَأَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ رِضًا بِالنِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَنْفَسِخَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ, وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْت إنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فَإِنَّمَا يُوجِبُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارًا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ, وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ يُوجِبُونَ فَسْخَ النكاح بحدوث الملك.

مطلب: في حكم الزوجين الحربيين إذا سبيا معا وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا سُبِيَا مَعًا, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذَا سُبِيَ الْحَرْبِيَّانِ مَعًا وَهُمَا زَوْجَانِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ, وَإِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا سُبِيَا جَمِيعًا فَمَا كَانَا فِي الْمُقَاسِمِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ, فَإِذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَإِنْ شَاءَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَاِتَّخَذَهَا لَنَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ بَعْدَمَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا سُبِيَتْ ذَاتُ زَوْجٍ اُسْتُبْرِئَتْ بِحَيْضَتَيْنِ; لِأَنَّ زَوْجَهَا أَحَقُّ بِهَا إذَا جَاءَ فِي عِدَّتِهَا, وَغَيْرُ ذَاتِ الْأَزْوَاجِ بِحَيْضَةٍ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا سُبِيَتْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ بِدَلَالَةِ الْأَمَةِ الْمَبِيعَةِ وَالْمَوْرُوثَةِ, فَوَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِالسَّبْيِ نَفْسِهِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ حُدُوثِ الْمِلْكِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الرِّقِّ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ, فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ أَوْلَى; لِأَنَّ الْبَقَاءَ هُوَ آكَدُ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ مَعَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ مَا لَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ وَهُوَ حُدُوثُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ العقد

الْمُتَقَدِّمِ؟ فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قِصَّةِ سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَنْ سُبِيَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَوْ وَحْدَهَا. قِيلَ لَهُ: رَوَى حَمَّادٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أَوْطَاسٍ لَحِقَتْ الرِّجَالُ بِالْجِبَالِ وَأُخِذَتْ النِّسَاءُ, فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَيْفَ نَصْنَعُ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ لَحِقُوا بِالْجِبَالِ وَأَنَّ السَّبَايَا كُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ عَنْ الْأَزْوَاجِ وَالْآيَةُ فِيهِنَّ نَزَلَتْ. وَأَيْضًا لَمْ يَأْسِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ حُنَيْنٍ مِنْ الرِّجَالِ أَحَدًا فِيمَا نَقَلَ أَهْلُ الْمَغَازِي, وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ بَيْنِ قَتِيلٍ أَوْ مَهْزُومٍ. وَسَبَى النِّسَاءَ, ثُمَّ جَاءَهُ الرِّجَالُ بَعْدَمَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِ سَبَايَاهُمْ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ" وَقَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَذَاكَ وَمَنْ تَمَسَّك بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَلَهُ خَمْسُ فَرَائِضَ فِي كُلِّ رَأْسٍ" وَأَطْلَقَ النَّاسُ سَبَايَاهُمْ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ السَّبَايَا أَزْوَاجُهُنَّ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لَمْ يُخَصِّصْ مَنْ مَعَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَالْمُنْفَرِدَاتِ مِنْهُنَّ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عُمُومُ الْحُكْمِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ بِالْمِلْكِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِشَرَى الْأَمَةِ وَهِبَتِهَا بِالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْأَمْلَاكِ الْحَادِثَةِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ, وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ فِي الْمَسْبِيَّةِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بِهِمَا, أَوْ حُدُوثُ الْمِلْكِ, ثُمَّ قَامَتْ دَلَالَةُ السُّنَّةِ وَاتِّفَاقُ الْخَصْمِ مَعَنَا عَلَى نَفْيِ إيجَابِ الْفُرْقَةِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ, قَضَى ذَلِكَ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ, وَأَوْجَبَ ذَلِكَ خُصُوصَ الْآيَةِ في المسبيات دون أزواجهن.

مطلب: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بينهما وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ, أَنَّهُمَا لَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ; لِأَنَّهُمَا لَمْ تَخْتَلِفْ بِهِمَا الدَّارَانِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَزَوْجِهَا إذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بِهِمَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ إذَا خَرَجَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً ثُمَّ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا زَوْجُهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا خِلَافٍ, وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي الْمُهَاجِرَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ

تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ثُمَّ قَالَ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} [الممتحنة: 10] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِين لِوُجُودِ الْمِلْكِ, إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حدثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرْنَا شَرِيكٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ رُوَيْفِعٍ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَامَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يَوْمَ حُنَيْنٍ: "لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ". قَالَ أَبُو دَاوُد: ذِكْرُ الِاسْتِبْرَاءِ هَاهُنَا وَهْمٌ مِنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةٍ, فَرَأَى امْرَأَةً مُجِحًّا1 فَقَالَ: لَعَلَّ صَاحِبَهَا أَلَمَّ بِهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ, قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ, كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَكَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ2 وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَمْنَعُ مَنْ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا فِي جَارِيَةٍ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا إنْ كَانَتْ حَائِلًا, وَحَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا; وَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ خِلَافٌ فِي وُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الْمَسْبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ قَالَ: "عَلَيْهَا الْعِدَّةُ حَيْضَتَيْنِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ" وَقَدْ ثَبَتَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إلَى ذِكْرِنَا الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ, وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِبْرَاءُ بِعِدَّةٍ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِدَّةً لَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْهُنَّ وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ مِنْهُنَّ; لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَنْ فِرَاشٍ, فَلَمَّا سَوَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَنْ كَانَ لَهَا فِرَاشٌ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِرَاشٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيْضَةَ لَيْسَتْ بِعِدَّةٍ.

_ 1 قوله: "جحا" بضم الميم وكسر الجيم وتشديد الحاء المهملة, أي حاملا دنا وقت ولادتها. "لمصححه". 2 قوله: "كيف يورثه" إلى آخره أي كيف يجعله ابنا له ويورثهى مع باقي ورثته ولا يحل له ذلك لكونه ليس منه, وقوله: "كيف يستخدمه" أي كيف يجوز له أن يتكملك ويستخدمه استخدام العبيد بعد أن خالطه جزء منه, لأن ماء الوطء ينمي الولد ويزيد في أجزائه, انتهى ملحصا من ابن رسلان شرح أبي داود "لمصححه".

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْت: "إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ" فَجَعَلَ ذَلِكَ عِدَّةً. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي تَأْوِيلًا مِنْهُ لِلِاسْتِبْرَاءِ أَنَّهُ عِدَّةٌ, وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ لَمَّا كَانَ أَصْلُهَا اسْتِبْرَاءَ الرَّحِمِ أُجْرِيَ اسْمُ الْعِدَّةِ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} تَأْوِيلٌ آخَرُ: رَوَى زَمْعَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ" وَرَجَعَ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ: حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا. وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: "فَزَوْجَتُك مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُك" يَقُولُ: حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الزِّنَا, لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَطَأَ امْرَأَةً إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: "نَهْيٌ عَنْ الزِّنَا". وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: "كُلُّ مُحْصَنَةٍ عَلَيْك حَرَامٌ إلَّا امْرَأَةً تَمْلِكُهَا بِنِكَاحٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَأَنَّ تَأْوِيلَهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ حَرَامٌ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ; وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ, وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إرَادَةَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَهَا الصَّحَابَةُ عَلَيْهَا مِنْ إبَاحَةِ وَطْءِ السَّبَايَا اللَّاتِي لَهُنَّ أَزْوَاجٌ حَرْبِيُّونَ فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ, وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ هِيَ الْأَمَةُ دُونَ الزَّوْجَاتِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا, فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 و6] فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ غَيْرَ الزَّوْجَاتِ; وَالْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِمَاءَ الْمَمْلُوكَاتِ دُونَ الزَّوْجَاتِ, وَهِيَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا لَهُ مِنْهَا اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ وَمَنَافِعُ بُضْعِهَا فِي مِلْكِهَا دُونَهُ, أَلَا تَرَيْ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا, فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَلَى مَنْ يَمْلِكُهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْمَسْبِيَّةُ. قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} رُوِيَ عَنْ عَبِيدَةُ قَالَ: "أَرْبَعٌ" وَإِنَّمَا نَصَبَ" كِتَابَ اللَّهِ "; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَعْنَى {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ; وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَرَّمَ ذَلِكَ كِتَابًا مِنْ اللَّهِ عَلَيْكُمْ; وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِوُجُوبِهِ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَنَا بِفَرْضِهِ; لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْفَرْضُ. قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . رُوِيَ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ: "أُحِلَّ لَكُمْ مَا دُونَ الْخَمْسِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ". وَقَالَ عَطَاءٌ: "أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ أَقَارِبِكُمْ". وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : "ما ملكت

أَيْمَانُكُمْ". وَقِيلَ: "مَا وَرَاءِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَمَا وَرَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ نِكَاحًا أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَامٌّ فِيمَا عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآيَةِ وَفِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بَابُ الْمُهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فَعَقَدَ الْإِبَاحَةَ بِشَرِيطَةِ إيجَابِ بَدَلِ الْبُضْعِ هُوَ مَالٌ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَدَلَ الْبُضْعِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَا يُسَمَّى أَمْوَالًا. وَذَلِكَ; لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي إبَاحَةِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْ يَبْتَغِيَ الْبُضْعَ بِمَا يُسَمَّى أَمْوَالًا, كَقَوْلِهِ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ عَلَيْهِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ", وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ: "يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى قَلِيلِ الْمَهْرِ وَكَثِيرِهِ". وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ, فَقَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ, وَقَالَ آخَرُونَ: النَّوَاةُ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَقَلُّ الْمَهْرِ رُبْعُ دِينَارٍ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ دِرْهَمٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا لَا يَكُونُ مَهْرًا وَأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يُسَمَّى أَمْوَالًا, هَذَا مُقْتَضَى الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا, وَمَنْ كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ, فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ وَقَدْ أَجَزْتهَا مَهْرًا قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي الظَّاهِرُ, لَكِنْ أَجَزْنَاهَا بِالِاتِّفَاقِ, وَجَائِزٌ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ; وَأَيْضًا قَدْ رَوَى حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ, وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ; وَتَقْدِيرُهُ الْعَشَرَةَ مَهْرًا دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ

قَالَهُ تَوْقِيفًا, وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ, وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ فِي أَكْثَرِ النِّفَاسِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا; أَنَّ ذَلِكَ تَوْقِيفٌ; إذْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ; وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا قَعَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ, فَدَلَّ تَقْدِيرُهُ لِلْفَرْضِ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ الْعَشَرَةِ أَنَّ الْبُضْعَ عُضْوٌ لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِمَالٍ فَأَشْبَهَ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ, فَلَمَّا كَانَتْ الْيَدُ عُضْوًا لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِمَالٍ وَكَانَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ عَشَرَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ, فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ يُعْتَبَرُ بِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِهِ مِنْ الْمِقْدَارِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى الْحَظْرِ فِي مَنْعِ اسْتِبَاحَتِهِ إلَّا بِمَا قَامَ دَلِيلُ جَوَازِهِ, وَهُوَ الْعَشَرَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَمَا دُونَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ, فَالْبُضْعُ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ الْحَظْرِ. وَأَيْضًا لِمَا لَمْ تَجُزْ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِبَدَلٍ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ قِيمَةُ الْبُضْعِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَنْ لَا يُحَطَّ عَنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ لَكَانَ الْوَاجِبُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ مُوجِبِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ إسْقَاطِ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهُ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بِإِيجَابِ الْعَقْدِ لَهُ; إذْ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى إسْقَاطِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] اقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ نِصْفِ الْفَرْضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. قِيلَ لَهُ: لَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَتْ تَسْمِيتَةُ لِبَعْضِ الْعَشَرَةِ تَسْمِيَةً لَهَا, كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَتَبَعَّضُ تَكُونُ تَسْمِيَتُهُ لِبَعْضِهَا تَسْمِيَةً لَجَمِيعِهَا, كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا, وَإِذَا كَانَتْ الْعَشَرَةُ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الْعَقْدِ صَارَتْ تَسْمِيَتُهُ لَبَعْضِهَا تَسْمِيَةً لَجَمِيعِهَا, فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْعَشَرَةِ; لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ الْفَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ كَانَ مُطَلِّقًا لَهَا تَطْلِيقَةً كَامِلَةً, وَلَوْ طَلَّقَ نِصْفَهَا كَانَ مُطَلِّقًا لِجَمِيعِهَا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا عَنْ نِصْفِ دَمٍ عَمْدٍ كَانَ عَافِيًا عَنْ جَمِيعِهِ؟ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَتُهُ لَخَمْسَةٍ تَسْمِيَةً لِلْعَشَرَةِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ, فَمَتَى أَوْجَبْنَا بَعْدَ الطَّلَاقِ خَمْسَةً كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ الْفَرْضِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُوجِبُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فَلَسْنَا مُخَالِفِينَ لِحُكْمِ الْآيَةِ, وَنُوجِبُ الزِّيَادَةَ إلَى تَمَامِ الْخَمْسَةِ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى, وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مَذْهَبُنَا خِلَافَ الْآيَةِ لَوْ

لَمْ نُوجِبْ نِصْفَ الْفَرْضِ, فَأَمَّا إذَا أَوْجَبْنَاهُ وَأَوْجَبْنَا زِيَادَةً عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْآيَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ بِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّ امْرَأَةً جِيءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا عَلَى نَعْلَيْنِ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَضِيت مِنْ نَفْسِك وَمَالِك بِنَعْلَيْنِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ, فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَعْطَى امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ طَعَامًا فَقَدْ اسْتَحَلَّ". وَبِحَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ". وَبِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدْ اسْتَحَلَّ" وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَزَوَّجَ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:" أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَبِحَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبْت نَفْسِي لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا لِي بِالنِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إيَّاهُ؟ فَقَالَ: إزَارِي هَذَا. فَقَالَ: إنْ أَعْطَيْتهَا إزَارَك جَلَسْت وَلَا إزَارَ لَك , إلَى أَنْ قَالَ: "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" ; فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ, وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً. وَالْجَوَابُ عَنْ إجَازَتِهِ النِّكَاحَ عَلَى نَعْلَيْنِ أَنَّ النَّعْلَيْنِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُسَاوِيَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ; لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى نَعْلَيْنِ ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهَا عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ, وَلَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فِي إبَاحَةِ التَّزْوِيجِ عَلَى نَعْلَيْنِ أَيُّ نَعْلَيْنِ كَانَتَا, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ, وَجَوَازُ النِّكَاحِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَهْرُ لَا غَيْرُهُ; لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ لَكَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا; وَلَمْ يَدُلَّ جَوَازُ النِّكَاحِ عَلَى أَنْ لَا شَيْءَ لَهَا, كَذَلِكَ جَوَازُ النِّكَاحِ عَلَى نَعْلَيْنِ قِيمَتُهُمَا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ بِكَفِّ دَقِيقٍ فَقَدْ اسْتَحَلَّ" فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ مِلْكِ الْبُضْعِ, لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي تَزَوُّجِهِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ, وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ قِيمَتَهَا كَانَتْ خَمْسَةً أَوْ عَشَرَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْعَلَائِقُ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ" فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشَّرْعِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَاضَوْا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ شَغَارٍ لَمَا جَازَ تَرَاضِيهِمَا؟ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْعَشَرَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ

بِتَعْجِيلِ شَيْءٍ لَهَا, وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ التَّسْمِيَةِ لَاكْتَفَى بِإِثْبَاتِهِ فِي ذِمَّتِهِ مَا يَجُوزُ بِهِ الْعَقْدُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُعَجَّلُ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا يَصِحُّ مَهْرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا قَالَ: "زَوَّجْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ" وَمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ مَهْرًا؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا, وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا خِدْمَتُهُ سَنَةً" وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ إنْ كَانَ حُرًّا". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهَا نَفْسَهُ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَيَكُونُ ذَلِكَ صَدَاقَهَا فَإِنَّهُ يَفْسَخُ النِّكَاحَ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا, وَإِنْ دَخَلَ بِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُحِجَّهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ حَجِّهَا مِنْ الْحِمْلَانِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "النِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَى خِدْمَتِهِ إذَا كَانَ وَقْتًا مَعْلُومًا". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَهْرًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَكُونُ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا, فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ إنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا" وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيّ وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الْبُضْعِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمْلِيكُ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ, وَالْآخَرُ: تَسْلِيمُهُ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا أَوْ مَنَافِعَ فِي مَالٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا تَسْلِيمُهُ إلَيْهَا; إذْ كَانَ قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يشتمل عليهما ويقتضيهما.

طلب: في أن المنافع لا تكون مهرا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مَالًا قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أَمْرٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الْإِيجَابَ, وَدَلَّ بِفَحْوَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَالًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَآتُوا} [النساء:4] مَعْنَاهُ: أَعْطُوا, وَالْإِعْطَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ; إذْ الْمَنَافِعُ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْإِعْطَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ; وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَأْكُولِ أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ بَعْدَ

الْإِعْطَاءِ إلَى الْمَأْكُولِ; فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَكُونُ مَهْرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ خِدْمَةُ الْعَبْدِ مَهْرًا. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ لَمَا جَازَ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نِكَاحِ الشِّغَارِ, وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ أَوْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَهْرٌ, وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ, فَلَمَّا أَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ مَهْرًا; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كُلَّ مَا شُرِطَ مِنْ بَدَلِ الْبُضْعِ مِمَّا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ لَا يَكُونُ مَهْرًا, وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَفْوٍ مِنْ دَمٍ عَمْدٍ أَوْ عَلَى طَلَاقِ فُلَانَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَهْرِ مِثْلِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ إذَا جَعَلَهَا مَهْرًا, وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنَّهُ إذَا سَمَّى فِي الشِّغَارِ لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا" وَلَمْ يَجْعَلْ الْبُضْعَ مَهْرًا فِي الْحَالِ الَّتِي أَجَازَ النِّكَاحَ فِيهَا, وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ الشِّغَارُ فِي الْأَمَتَيْنِ كَانَ الْمَهْرُ مَنَافِعَ الْبُضْعِ; لِأَنَّ الْمَهْرَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْلَى, فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ بَدَلًا فِي النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: إذَا كَانَ الشِّغَارُ فِي الْحُرَّتَيْنِ, وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "أُزَوِّجُك أُخْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي أُخْتَك أَوْ أُزَوِّجُك بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَك" فَيَكُونُ هَذَا عَقْدًا عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ; لِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَنَافِعَ لِغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ وَهُوَ الْوَلِيُّ, فَالشِّغَارُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ عَقْدَ نِكَاحٍ عَارِيًّا عَنْ تَسْمِيَةِ بَدَلٍ لِلْمَنْكُوحَةِ, وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ يَكُونُ بَدَلُ الْبُضْعِ مَنَافِعَ بُضْعٍ آخَرَ, فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فَصَارَ أَصْلًا فِي أَنَّ بَدَلَ الْبُضْعِ شَرْطُهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْأَمَةِ حَقٌّ فِي مَالٍ, فَهَلَّا كَانَتْ كَالتَّزْوِيجِ عَلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ يَسْتَحِقُّ بِهَا تَسْلِيمُ مَالٍ وَهُوَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ, كَالْمُسْتَأْجَرِ لَهُ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ إلَيْهِ لِلْخِدْمَةِ, وَزَوْجُ الْأَمَةِ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ; لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ لَا يُبَوِّئَهَا بَيْتًا; وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ تَسْلِيمُ مَالٍ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ. وَأَمَّا التَّزْوِيجُ عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَهْرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ كَخِدْمَةِ الْحُرِّ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ, فَكُلُّ مَنْ عَلَّمَ إنْسَانًا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا قَامَ بِفَرْضٍ; وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا لِلْبُضْعِ, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّزْوِيجُ عَلَى تَعْلِيمِ الْإِسْلَامِ؟ وَهَذَا بَاطِلٌ; لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ فِعْلَهُ فَهُوَ مَتَى فَعَلَهُ فَرْضًا فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ

أَعْرَاضِ الدُّنْيَا, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ لِلْحُكَّامِ أَخْذُ الرُّشَى عَلَى الْحُكْمِ, وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ سُحْتًا مُحَرَّمًا. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ سهل بن سعد في قصة المرأة التي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبْت نَفْسِي لَك فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا, إلَى أَنْ قَالَ: "هَلْ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ" قَالَ: نَعَمْ, سُورَةُ كَذَا, فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "قَدْ زَوَّجْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ"; وَبِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الْحَجَّاجِ الْبَاهِلِيِّ عَنْ عَسَلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِ قِصَّةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ, وَقَالَ فِيهِ: "مَا تَحْفَظُ مِنْ الْقُرْآنِ؟ " قَالَ: سُورَةَ الْبَقَرَةِ أَوْ الَّتِي تَلِيهَا, قَالَ: "قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُك". قِيلَ لَهُ: مَعْنَاهُ لِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] وَمَعْنَاهُ: لِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ وَأَيْضًا كَوْنُ الْقُرْآنِ مَعَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا, وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ: أَنِّي زَوَّجْتُك تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ وَلِأَجْلِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ; وَهُوَ كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: إنِّي آمَنْت بِهَذَا الرَّجُلِ وَشَهِدْت أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ تَابَعْتنِي تَزَوَّجْتُك, قَالَ: فَأَنَا عَلَى مَا أَنْتِ عَلَيْهِ; فَتَزَوَّجَتْهُ, فَكَانَ صَدَاقُهَا الْإِسْلَامَ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْهُ لِأَجْلِ إسْلَامِهِ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَكُونُ صَدَاقًا لِأَحَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ فَإِنَّهُ ضَعِيفُ السَّنَدِ, وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ, فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَالَ: "عَلِّمْهَا" وَلَمْ يُعَارَضْ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ, وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ مَهْرًا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِتَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ وَيَكُونُ الْمَهْرُ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ; إذْ لَمْ يقل: إن تعليم القرآن مهر لها

مطلب: في قوله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَجَعَلَ مَنَافِعَ الْحُرِّ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَشْرِطْ الْمَنَافِعَ لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا شَرَطَهَا لِشُعَيْبٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا شُرِطَ لِلْأَبِ لَا يَكُونُ مَهْرًا, فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ بَاطِلٌ فِي مَسْأَلَتِنَا وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً لَهَا وَأَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ, أَوْ لِأَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إلَى الْوَالِدِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الشِّغَارِ. وقَوْله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا; إذْ

كَانَتْ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً لِكَوْنِ بَدَلِ الْبُضْعِ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ إلَيْهَا, وَلَيْسَ فِي الْعِتْقِ تَسْلِيمُ مَالٍ وَإِنَّمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ اسْتَحَقَّتْ بِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ إلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّقَّ الَّذِي كَانَ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهَا وَإِنَّمَا يُتْلَفُ بِهِ مِلْكُهُ؟ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا بِهِ مَالٌ أَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ إليها لم يكن مهرا.

مطلب: في أنه عليه السلام كان له أن يتزوج بغير مهر وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا; فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ, وَكَانَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ الْأُمَّةِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِجَوَازِ مِلْكِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَمَا كَانَ مَخْصُوصًا بِجَوَازِ تَزْوِيجِ التِّسْعِ دُونَ الْأُمَّةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَكُونُ صَدَاقًا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {وَآتُوهُنَّ} [النساء:4] وَذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, وَإِعْطَاءُ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} وَالْعِتْقُ لَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِطِيبِ نَفْسِهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي الْعِتْقِ. قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ بِكَوْنِهِمْ مُحْصِنِينَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ حَالِهِمْ إذَا نَكَحُوا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ; فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَإِطْلَاقُ الْإِبَاحَةِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا انْتَظَمَهُ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ, وَإِنْ أَرَادَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ كَانَ إطْلَاقُ الْإِبَاحَةِ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِشَرِيطَةِ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِهِ, وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ, فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ الِاحْتِجَاجُ بِهِ, وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالتَّزْوِيجِ لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى وَرَدَ لَفْظٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا يُمْكِنُنَا اسْتِعْمَالُ ظَاهِرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ, فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ دُونَ الْإِجْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ, فَعَلَيْنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ; وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ عَنَّا اسْتِعْمَالَهُ إلَّا بِوُرُودِ بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ, وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَفَحْوَى الْآيَةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ مُحْصَنًا بِالنِّكَاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وَالسِّفَاحُ هُوَ الزِّنَا, فَأَخْبَرَ أَنَّ

الْإِحْصَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ ضِدُّ الزِّنَا وَهُوَ الْعِفَّةُ, وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِحْصَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَفَافَ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُجْمَلًا; لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ عِفَّةً غَيْرَ زِنًا; وَهَذَا لَفْظٌ ظَاهِرُ الْمَعْنَى بَيِّنُ الْمُرَادِ, فَيُوجِبُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَكَوْنُهُ عُمُومًا, وَالْآخَرُ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ, وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ مَتَى أُطْلِقَ لَمْ يَكُنْ عُمُومًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَصِلُهُ الْمَنْعُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحِصْنُ لِمَنْعِهِ مَنْ صَارَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ, وَمِنْهُ الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ أَيُّ الْمَنِيعَةُ, وَالْحِصَانُ بِالْكَسْرِ الْفَحْلُ مِنْ الْأَفْرَاسِ لِمَنْعِهِ رَاكِبَهُ مِنْ الْهَلَاكِ, وَالْحَصَانُ بِالنَّصْبِ الْعَفِيفَةُ مِنْ النِّسَاءِ لِمَنْعِهَا فَرْجَهَا مِنْ الْفَسَادِ; قَالَ حَسَّانُ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور: 23] يَعْنِي الْعَفَائِفَ وَالْإِحْصَانُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ غَيْرِ مَا كَانَ الِاسْمُ لَهَا فِي اللُّغَةِ, فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} , رُوِيَ: فَإِذَا أَسْلَمْنَ; وَيَقَعُ عَلَى التَّزْوِيجِ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَمَعْنَاهُ: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ. وَيَقَعُ عَلَى الْعِفَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23] وَيَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ. وَالْإِحْصَانُ فِي الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَفَافُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ, فَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الزَّانِي وَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ; فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ الْإِحْصَانِ مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَالْحُكْمُ الْآخَرُ هُوَ الْإِحْصَانُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ الرَّجْمِ إذَا زَنَى, وَهَذَا الْإِحْصَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَعَ الدُّخُولِ بِهَا وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ, فَإِنْ عُدِمَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الرَّجْمُ إذَا زَنَى. وَالسِّفَاحُ هُوَ الزِّنَا, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْت مِنْ سِفَاحٍ". وَقَالَ مُجَاهِدُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} قَالَا: "غَيْرُ زَانِينَ". وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَهُ مِنْ سَفْحِ الْمَاءِ وَهُوَ صَبُّهُ, وَيُقَالُ: سَفَحَ دَمْعُهُ وَسَفَحَ دَمُ فُلَانٍ وَسَفَحَ الْجَبَلُ أَسْفَلَهُ, لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مَصَبِّ الْمَاءِ, وَسَافَحَ الرَّجُلُ إذَا زَنَى لِأَنَّهُ صَبَّ مَاءَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ مَائِهِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ, فَسُمِّيَ مُسَافِحًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ هَذَا غَيْرُ صَبِّ الْمَاءِ, وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ نَفْيَ نَسَبِ

الْوَلَدِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْعِدَّةُ مِنْهُ وَلَا تَصِيرُ فِرَاشًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْوَطْءِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ; هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا فِي مَضْمُونِ هَذَا اللَّفْظِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابٌ الْمُتْعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إبَاحَةِ نِكَاحِ مَا وَرَاءَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ثم قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} يعني: دخلتم بهن, {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} كَامِلَةً, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] . وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ الِانْتِفَاعُ, وَهُوَ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الدُّخُولِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] يَعْنِي تَعَجَّلْتُمْ الِانْتِفَاعَ بِهَا, وَقَالَ: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} [التوبة: 69] يَعْنِي: بِحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنْ الدُّنْيَا; فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُ فِي قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَعَنَى بِهِ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ, ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} اقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ النِّكَاحِ فِيمَنْ عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ, ثُمَّ قَالَ: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: نِكَاحًا تَكُونُوا بِهِ مُحْصِنِينَ عفائف {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ النِّكَاحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ بِقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَأَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ كَمَالَ الْمَهْرِ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَهْرَ أَجْرًا فِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَسَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا, وَكَذَلِكَ الْأُجُورُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُهُورُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْأَعْيَانِ, كَمَا سُمِّيَ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ أجرا.

مطلب: في دليل قول أبي حنيفة من استأجر امرأة فزنى بها لا حد عليه وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ الْمَهْرَ أَجْرًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا, فَهُوَ كَمَنْ قَالَ: "أُمْهِرُك كَذَا "; وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ نِكَاحًا فَاسِدًا; لِأَنَّهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ; وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ; وَرُوِيَ عَنْهُ فِيهَا أَقَاوِيلُ, رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ الْآيَةَ عَلَى إبَاحَةِ

الْمُتْعَةِ. وَيُرْوَى أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهَا الْأَشْعَارُ قَالَ: هِيَ كَالْمُضْطَرِّ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ, فَأَبَاحَهَا فِي هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْر عَنْ اللَّيْثِ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى الشَّرِيدِ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ أَسِفَاحٌ هِيَ أَمْ نِكَاحٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا سِفَاحٌ وَلَا نِكَاحٌ, قُلْت: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْمُتْعَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى, قُلْت لَهُ: هَلْ لَهَا مِنْ عِدَّةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ, عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ, قُلْت: هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ قَالَ: لَا. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمُتْعَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا زِنًا; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ وَيُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: "ذَلِكَ السِّفَاحُ". وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا". فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ زِنًا; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ النَّقْلِ أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى الزِّنَا قَطُّ. قِيلَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ زِنًا فِي وَقْتِ الْإِبَاحَةِ, فَلَمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ الزِّنَا عَلَيْهَا, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ, وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ"; وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْرِيمُ لَا حَقِيقَةُ الزِّنَا; وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ, فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ, وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ" ; فَأَطْلَقَ اسْمَ الزِّنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ; إذْ كَانَ مُحَرَّمًا; فَكَذَلِكَ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ الزِّنَا عَلَى الْمُتْعَةِ فَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا نَضْرَةَ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا; قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ, تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ, فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَانْتَهُوا عَنْ نكاح هذه النساء, لا أوتى برجل

نَكَحَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْته" فَذَكَرَ عُمَرُ الرَّجْمَ فِي الْمُتْعَةِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْهَا. وَقَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ, مَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ إلَّا رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحِمَ اللَّهُ بِهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْلَا نَهْيُهُ لَمَا احْتَاجَ إلى الزنا إلا شفا"1. فَاَلَّذِي حُصِّلَ مِنْ أَقَاوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لَهَا بِضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَالْمَيْتَةِ تَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ; وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ سَنَدِهِ وَقَوْلُهُ أَيْضًا إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ إبَاحَتِهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْر بْنَ الْأَشَجِّ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كُنْت فِي سَفَرٍ وَمَعِي جَارِيَةٌ لِي وَلِي أَصْحَابٌ فَأَحْلَلْت جَارِيَتِي لِأَصْحَابِي يَسْتَمْتِعُونَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: "ذَاكَ السِّفَاحُ" فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَأَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: "إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَجَلِ فِي التِّلَاوَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, فَالْأَجَلُ إذًا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْقُرْآنِ, وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَجَلِ لَمَا دَلَّ أَيْضًا عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ; لِأَنَّ الْأَجَلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا عَلَى الْمَهْرِ, فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: فَمَا دَخَلْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ. وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النِّكَاحُ دُونَ الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى إبَاحَةِ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} , وَذَلِكَ إبَاحَةٌ لِنِكَاحِ مَنْ عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ لَا مَحَالَةَ; لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ النِّكَاحَ مُرَادٌ بِذَلك, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْتِمْتَاعِ بَيَانًا لِحُكْمِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِالنِّكَاحِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِجَمِيعِ الصداق. والثاني: قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ} وَالْإِحْصَانُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ; لِأَنَّ الْوَاطِئَ بِالْمُتْعَةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ النِّكَاحَ. والثالث: قوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فَسَمَّى الزِّنَا سِفَاحًا لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ عَنْهُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَبَقَاءِ الْفِرَاشِ, إلَى أَنْ يُحْدِثَ لَهُ قَطْعًا; وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةً فِي الْمُتْعَةِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الزِّنَا, وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ سَمَّاهَا سفاحا ذهب

_ 1 قوله: "إلا شفا" أي إلا قليل من الناس, من قولهم: غابت الشمس إلا الشفا, أي إلا قليلا من ضوئها عند غروبها هكذا في النهاية. "لمصصححه".

إلَى هَذَا الْمَعْنَى; إذْ كَانَ الزَّانِي إنَّمَا سُمِّيَ مُسَافِحًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ وَطْئِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ إلَّا عَلَى سَفْحِ الْمَاءِ بَاطِلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبٍ بِهِ; فَمِنْ حَيْثُ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَحَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَثْبَتَ بِهِ الْإِحْصَانُ اسْمَ السِّفَاحِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِمْتَاعِ هُوَ الْمُتْعَةُ إذْ كَانَتْ فِي مَعْنَى السِّفَاحِ, بَلْ الْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ. وقَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُتْعَةِ; إذْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي مَعْنَى السِّفَاحِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ الَّذِي شُهِرَ عَنْهُ إبَاحَةُ الْمُتْعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ, فَرُوِيَ عَنْهُ إبَاحَتُهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إبَاحَتِهَا, بَلْ دِلَالَاتُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي حَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا لِمُضْطَرٍّ; وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْمُحَرَّمَاتِ لَا تُوجَدُ فِي الْمُتْعَةِ, وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ هِيَ الَّتِي يَخَافُ مَعَهَا تَلَفَ النَّفْسِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَفَقْدِهِ, وَإِذَا لَمْ تَحِلَّ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ وَالضَّرُورَةِ لَا تَقَعُ إلَيْهَا فَقَدْ ثَبَتَ حَظْرُهَا وَاسْتَحَالَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهَا تَحِلُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ, فَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ مُسْتَحِيلٌ; وَأَخْلِقْ بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهْمًا مِنْ رُوَاتِهَا; لِأَنَّهُ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَفْقَهَ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ; فَالصَّحِيحُ إذَا مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ حَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَحِكَايَةُ مَنْ حَكَى عَنْهُ الرُّجُوعَ عَنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5, 7] فَقَصَرَ إبَاحَةَ الْوَطْءِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَحَظَرَ مَا عَدَاهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وَالْمُتْعَةُ خَارِجَةٌ عَنْهُمَا فَهِيَ إذًا مُحَرَّمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا زَوْجَةً وَأَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ قُصِرَ الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِمَا؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجَةِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَيَتَنَاوَلُهَا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِعَقْدِ نِكَاحٍ, وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمُتْعَةُ نِكَاحًا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ زَوْجَةً. فَإِنْ قِيلَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ؟ قِيلَ لَهُ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: وَهُوَ الْوَطْءُ وَالْعَقْدُ, وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ, وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مَقْصُورًا فِي إطْلَاقِهِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ إطْلَاقُهُ فِي الْعَقْدِ مَجَازًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَوَجَدْنَاهُمْ أَطْلَقُوا الِاسْمَ عَلَى عَقْدِ تَزْوِيجٍ مُطْلَقٍ أنه

نِكَاحٌ وَلَمْ نَجِدِهِمْ أَطْلَقُوا اسْمَ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ فَلَا يَقُولُونَ إنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ إذَا شَرَطَ التَّمَتُّعَ بِهَا, لَمْ يَجُزْ لَنَا إطْلَاقُ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ,; إذْ الْمَجَازُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ, فَلَمَّا عَدِمْنَا إطْلَاقَ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ جَمِيعًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ مَا عَدَا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا عَادِيًا ظَالِمًا لَنَفْسِهِ مُرْتَكِبًا لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ لَهُ شَرَائِطُ قَدْ اُخْتُصَّ بِهَا مَتَى فُقِدَتْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا; مِنْهَا أَنَّ مُضِيَّ الْوَقْتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُ رَفْعَهُ, وَالْمُتْعَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا تُوجِبُ رَفْعَ النِّكَاحِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّ النِّكَاحَ فِرَاشٌ. يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ, بَلْ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ عَلَى فِرَاشِ النِّكَاحِ إلَّا بِاللِّعَانِ; وَالْقَائِلُونَ بِالْمُتْعَةِ لَا يُثْبِتُونَ النَّسَبَ مِنْهُ, فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا فِرَاشٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الدُّخُولَ بِهَا عَلَى النِّكَاحِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ عِنْدَ الْفُرْقَةِ, وَالْمَوْتُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وَلَا تَوَارُثَ عِنْدَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ. فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الَّتِي يُخْتَصُّ بِهَا, إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رِقٌّ أَوْ كُفْرٌ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ; فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُتْعَةِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِكُفْرٍ أَوْ رِقٍّ وَلَا سَبَبَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَلَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ مِمَّنْ يَسْتَفْرِشُ وَيَلْحَقُهُ الْأَنْسَابُ لَفِرَاشِهِ, ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ; فَإِذَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ نِكَاحًا أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهَا فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] . فَإِنْ قِيلَ: انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَيْنُونَةِ هُوَ الطَّلَاقُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِصَرِيحِ لَفْظٍ أَوْ كِنَايَةٍ, وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا, فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَاقًا وَمَعَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ لَا تَبِينَ لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهِيَ حَائِضٌ; لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ لَا يَرَوْنَ طَلَاقَ الْحَائِضِ جَائِزًا, فَلَوْ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ الْوَاقِعَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ طَلَاقًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ فِي حَالِ الْحَيْضِ, فَلَمَّا أَوْقَعُوا الْبَيْنُونَةَ الْوَاقِعَةَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَهِيَ حَائِضٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَإِنْ كَانَتْ تَبِينُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ, وَلَا سَبَبٍ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ, ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَفْيِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ: لَيْسَ انْتِفَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِكَاحًا; لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ وَيَكُونُ نِكَاحُهُ صَحِيحًا, وَالْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ انْتِفَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا. قِيلَ لَهُ: إنَّ نِكَاحَ الصَّغِيرِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا صَارَ مِمَّنْ يَسْتَفْرِشُ وَيَتَمَتَّعُ,

وَأَنْتَ لَا تُلْحِقُهُ نَسَبَ وَلَدِهَا مَعَ الْوَطْءِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ النَّسَبُ فِي النِّكَاحِ, وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ إنَّمَا لَمْ يَرِثَا لِلرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَهُمَا يَمْنَعَانِ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا, وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُتْعَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ مِنْ صَاحِبِهِ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَا يَقْطَعُ الْمِيرَاثَ ثُمَّ لَمْ يَرِثْ مَعَ وُجُودِ الْمُتْعَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نِكَاحًا لَأَوْجَبَتْ الْمِيرَاثَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لَهُ مِنْ قِبَلِهِمَا. وَأَيْضًا قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهَا لَيْسَ بِنِكَاحٍ وَلَا سِفَاحٍ; فَإِذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ نَفَى عَنْهَا اسْمَ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ نِكَاحًا; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَسْمَاءِ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ, فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَائِلَ بِالْمُتْعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرَهَا نِكَاحًا وَنَفَى عَنْهَا الِاسْمَ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ. وَمِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ; وَقَالَ فِيهِ غَيْرُ مَالِكٍ: إنَّ عَلِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "إنَّك امْرُؤٌ تَيَّاهٌ, إنَّمَا الْمُتْعَةُ إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نَهَى عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ". وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ, رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي آخَرِينَ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمُتْعَةَ بِالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ". وَرَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ عَامَ أَوْطَاسٍ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: "وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ" يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسَافِحِينَ حِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ الْمُتْعَةُ, يَعْنِي أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُبَحْ لَمْ يَكُونُوا لِيُسَافِحُوا, وَنَفَى بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ كَالْمِيتَةِ وَالدَّمِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا بَعْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ فَيَكُونُوا مُسَافِحِينَ, وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ مُسَافِحِينَ بِالتَّمَتُّعِ; إذْ كَانَتْ مُبَاحَةً. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الْوَارِثِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَتَذَاكَرْنَا مُتْعَةَ النِّسَاءِ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ: أَشْهَدُ

عَلَى أَبِي أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ; وَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ, وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ; وَرَوَاهُ أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ اللَّيْثِيِّ عَنْ عَبْدِ العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ, وَقَالَ: "كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ". فَلَمْ تَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ فِي التَّحْرِيمِ, وَاخْتَلَفُوا فِي التَّارِيخِ, فَسَقَطَ التَّارِيخُ كَأَنَّهُ وَرَدَ غَيْرَ مُؤَرَّخٍ, وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ لِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نَاجِيَةٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّازِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجَ النِّسَاءُ اللَّاتِي اسْتَمْتَعْنَا بِهِنَّ مَعَنَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُنَّ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُتَضَادَّةٌ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَامَ الْفَتْحِ, وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ, وَخَيْبَرُ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ, فَكَيْفَ تَكُونُ مُبَاحَةً عَامَ الْفَتْحِ أَوْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَدْ حُرِّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ؟ قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ سَبْرَةَ مُخْتَلَفٌ فِي تَارِيخِهِ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَامَ الْفَتْحِ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ; وَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ ثُمَّ حَرَّمَهَا, فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الرُّوَاةُ فِي تَارِيخِهِ سَقَطَ التَّارِيخُ وَحَصَلَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُؤَرَّخٍ, فَلَا يُضَادُّ حَدِيثَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى تَارِيخِهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ أَحَلَّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ثُمَّ حَرَّمَهَا, فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ, ثُمَّ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ مَنْسُوخَةً بِمَا فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ أَيْضًا; لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إلَى أَجَلٍ, ثُمَّ قَالَ: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الْآيَةَ. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْمُتْعَةُ هِيَ الَّتِي حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَلَمْ نُنْكِرْ نَحْنُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أُبِيحَتْ فِي وَقْتٍ ثُمَّ حُرِّمَتْ, وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ التَّارِيخِ, فَأَخْبَارُ الْحَظْرِ قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الحظر بعد

الْإِبَاحَةِ; وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَيَا لَكَانَ الْحَظْرُ أُولَى لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ; وَأَمَّا تِلَاوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عِنْدَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِخْصَاءِ وَتَحْرِيمَ النِّكَاحِ الْمُبَاحِ, وَيَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ فِي حَالِ مَا كَانَتْ مُبَاحَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ, فَلَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهَا مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَعَرَفَتْهَا الْكَافَّةُ كَمَا عَرَفَتْهَا بَدِيًّا وَلَمَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً, فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مُنْكَرِينَ لِإِبَاحَتِهَا مُوجِبِينَ لَحَظْرِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بَدِيًّا بِإِبَاحَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي إبَاحَتِهِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَلْوَاهُمْ بِالْمُتْعَةِ لَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَبَلْوَاهُمْ بِالنِّكَاحِ فَالْوَاجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّقْلِ فِي بَقَاءِ إبَاحَتِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ تَجْرِيدُ الْقَوْلِ فِي إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ حِينَ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَإِبَاحَتِهِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ, فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ وَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ الْأَخْبَارُ فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ, فَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُهُ فِي الْمُتْعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَرَفَتْ نَسْخَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ, مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا" وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: "لَوْ تَقَدَّمْت فِيهَا لَرَجَمْت", فَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ, لَا سِيَّمَا فِي شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إبَاحَتَهُ وَأَخْبَارَهُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إبَاحَتِهَا فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا, وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِأَمْرٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيَانًا, وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ; فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ إبَاحَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمِلَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ, وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ يَكُنْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَارُّوهُ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ, أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ

وَاقِعًا عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ, فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ عَلَى الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعُقُودِ الْإِجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَصِحُّ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مُدَّةٍ مَذْكُورَةٍ لَهُ وَأَنَّ عُقُودَ الْإِجَارَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ؟ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ أَشْبَهَ عُقُودَ الْبِيَاعَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ, فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مُوَقَّتًا كَمَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُ التَّمْلِيكَاتِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مُوَقَّتَةً, وَمَتَى شُرِطَ فِيهِ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا فَلَا تَصِحُّ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إذَا شُرِطَ فِيهِ تَوْقِيتُ الْمِلْكِ, وَكَذَلِكَ الْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ; وَلَا يَمْلِكُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ مِلِكًا مُوَقَّتًا; وَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ لِمَا جَرَتْ مَجْرَى الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا التَّوْقِيتُ. وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ اخْتَلَفْنَا فِي الْحَظْرِ, فَنَحْنُ ثَابِتُونَ عَلَى مَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ وَلَا نُزُولَ عَنْهُ بِالِاخْتِلَافِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: الْأَخْبَارُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِهَا يَثْبُتُ الْحَظْرُ; وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِيهِ إبَاحَةُ الْمُتْعَةِ ذُكِرَ فِيهِ حَظْرُهَا, فَمِنْ حَيْثُ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَظْرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْحَظْرُ لَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ; إذْ كَانَتْ الْجِهَةُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِهَا وَرَدَ الْحَظْرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "إنَّا لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى كَذَا ثُمَّ اخْتَلَفْنَا فِيهِ لَمْ نُزَلِ عَنْ الْإِجْمَاعِ بِالِاخْتِلَافِ" قَوْلٌ فَاسِدٌ; لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ, فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُبَاحًا فِي وَقْتٍ غَيْرُ مُوجِبٍ بَقَاءَ إبَاحَتِهِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ, وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ثُبُوتِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُتْعَةِ وَحُكْمِهَا فِي التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ, وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا; وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَيَّامًا مَعْلُومَةً, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا". وَقَالَ زُفَرُ: "النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَيْسَ ثَمَّ شَرْطٌ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا, هَذَا مُتْعَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زُفَرَ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ, وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: "أَتَمَتَّعُ بِك عَشْرَةَ أَيَّامٍ" أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ, وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَقَدَهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ

فَقَالَ: "أَتَزَوَّجُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ" فَجَعَلَهُ زُفَرُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ فِيهِ; لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ, كَمَا لَوْ قَالَ: "أَتَزَوَّجُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ" كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا; وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زُفَرَ فِي أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ أَوْ مُتْعَةٌ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا مُتْعَةٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ هُوَ مُتْعَةٌ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْمُتْعَةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ مَيْمُونِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَتَّى نَزَلُوا عُسْفَانَ; وَذَكَرَ قِصَّةَ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ بِالْإِحْلَالِ بِالطَّوَافِ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ; قَالَ: فَلَمَّا أَحْلَلْنَا قَالَ: "اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ" وَالِاسْتِمْتَاعُ التَّزْوِيجُ عِنْدَنَا, فَعَرْضنَا ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ فَأَبَيْنَ إلَّا أَنْ نَضْرِبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا, فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: افْعَلُوا. فَخَرَجْت أَنَا وَابْنُ عَمِّي وَأَنَا أَشَبُّ مِنْهُ وَمَعِي بُرْدٌ وَمَعَهُ بُرْدٌ, فَأَتَيْنَا امْرَأَةً فَأَعْجَبَهَا بُرْدُهُ وَأَعْجَبَهَا شَبَابِي, فَقَالَتْ: بُرْدٌ كَبُرْدٍ وَهَذَا أَشَبُّ; وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشْرٌ فَبِتّ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ أَصْبَحْت فَخَرَجْت إلَى الْمَسْجِدِ, فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ, أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, فَمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا". فَأَخْبَرَ سَبْرَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ التَّزْوِيجَ, وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَخَّصَ لَهُمْ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ فِيهِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ هُوَ مُتْعَةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إلَى أَجَلٍ, ثُمَّ قَرَأَ: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ نِكَاحًا إلَى أَجَلٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدُهُ فِي بَابِ الْمُتْعَةِ, أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لَرَسُولِهِ مَا شَاءَ فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَاتَّقُوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ; لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْته". فَأَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ هُوَ مُتْعَةٌ; وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ هَذَا الِاسْمُ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُتْعَةِ انْتَظَمَ ذَلِكَ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ لَدُخُولِهِ تَحْتَ الِاسْمِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْمُتْعَةُ اسْمًا لِلنَّفْعِ الْقَلِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 39] يَعْنِي نَفْعًا قَلِيلًا, وَسَمَّى الْوَاجِبَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مُتْعَةً بِقَوْلِهِ: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] , وَقَالَ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الْمَهْرِ, عَلِمْنَا أَنَّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتْعَةِ أَوْ الْمَتَاعِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ التَّقْلِيلُ وَأَنَّهُ نَزْرٌ يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا

يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَيُوجِبُهُ, فَسُمِّي مَا يُعْطَى بَعْدَ الطَّلَاقِ مِمَّا لَا يُوجَبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مَتَاعًا وَمُتْعَةً لَقِلَّتِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ. وَسُمِّيَ النِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ مُتْعَةً لِقِصَرِ مُدَّتِهِ وَقِلَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ مِنْ بَقَائِهِ مُؤَبَّدًا إلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ أَوْ سَبَبٌ حَادِثٌ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ, فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ عَلَى ذَلِكَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْمُتْعَةِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ أَوْ بِلَفْظِ النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا لِأَنَّ اسْمَ الْمُتْعَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا لَا يَخْلُو الْعَاقِدُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى عَشْرَةٍ أَيَّامٍ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُ مُوَقَّتًا عَلَى مَا شَرَطَ أَوْ يُبْطِلَ الشَّرْطَ وَيَجْعَلَهُ مُؤَبَّدًا; فَإِنْ جَعَلَهُ مُوَقَّتًا كَانَ مُتْعَةً بِلَا خِلَافٍ, وَإِنْ جَعَلَهُ مُؤَبَّدًا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ بُضْعَهَا بِلَا عَقْدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا عَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ أَوْ قَالَ: "قَدْ اشْتَرَيْت مِنْك عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ" أَنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ دُونَ مَا عَدَاهَا؟ فَكَذَلِكَ إذَا عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَمَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدُ نِكَاحٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِبَاحَةُ بُضْعِهَا فِيهِ بِالْعَقْدِ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُوَقَّتًا فَيَكُونُ صَرِيحَ الْمُتْعَةِ, فَوَجَبَ بِذَلِكَ إفْسَادُ الْعَقْدِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ" فَيَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ; لِأَنَّهُ عَقَدَ النِّكَاحَ مُؤَبَّدًا وَشَرَطَ فِيهِ قَطْعَهُ بِالطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا؟ فَعَلِمْت أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ, وَإِنَّمَا شَرَطَ قَطْعَهُ بِالطَّلَاقِ, وَذَلِكَ شَرْطٌ فَاسِدٌ, وَالنِّكَاحُ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ, فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَجُوزُ الْعَقْدُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَشْرَةَ أَيَّامٍ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَانَ الْعَقْدُ وَاقِعًا عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ عَلَيْهَا عَقْدٌ, وَلَوْ سَكَنَهَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ كَانَ غَاصِبًا سَاكِنًا لَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَقْدِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ, وَلَوْ قَالَ: "آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ أَفْسَخَ الْعَقْدَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ" كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً مُؤَبَّدَةً مَا سَكَنَ مِنْهَا مِنْ الْمُدَّةِ فِي الْعَشَرَةِ وَبَعْدَ هَا يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؟ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا عُقِدَ عَلَى عَشْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَى مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ عَقْدٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ: "قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنَّك طَالِقٌ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ". كَانَ النِّكَاحُ مُوَقَّتًا; لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعَشَرَةِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا نِكَاحًا مُوَقَّتًا بَلْ هُوَ مُؤَبَّدٌ, وَإِنَّمَا قَطَعَهُ بِالطَّلَاقِ; وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ مَعَ الْعَقْدِ وَإِيقَاعِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ; لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ وَقَعَ بَدِيًّا مُؤَبَّدًا, وَإِنَّمَا أَوْقَعَ طَلَاقًا لَوَقْتٍ مُسْتَقْبِلٍ, فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَوْقِيتَ الْعَقْدِ. قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} مَعْنَاهُ الْمُهُورُ, فَسَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَهْرُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِمَنْ كَانَ مُحْصَنًا بِالنِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} , وكقوله تعالى:

{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} , فَذَكَرَ الْإِحْصَانَ عَقِيبَ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَسَمَّى الْمَهْرَ أجرا. وقوله: {فَرِيضَةً} تَأْكِيدٌ لَوُجُوبِهِ وَإِسْقَاطٌ لِلظَّنِّ وَتَوَهُّمِ التَّأْوِيلِ فِيهِ; إذْ كَانَ الْفَرْضُ مَا هُوَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابٌ الزِّيَادَةُ فِي الْمُهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمَهْرِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} , وَالْفَرِيضَةُ هَهُنَا التَّسْمِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ, كَفَرَائِضِ الْمَوَارِيثِ وَالصَّدَقَاتِ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أَنَّهُ مَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ حَطِّ بَعْضِ الصَّدَاقِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ هِبَةِ جَمِيعِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْإِبْرَاءِ, وَهُوَ بِالزِّيَادَةِ أَخَصُّ مِنْهُ بِغَيْرِهَا; لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِتَرَاضِيهِمَا, وَالْبَرَاءَةُ وَالْحَطُّ وَالتَّأْخِيرُ لَا يُحْتَاجُ فِي وُقُوعِهِ إلَى رِضَى الرَّجُلِ, وَالزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِهِمَا; فَلَمَّا عُلِّقَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الزِّيَادَةُ. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْحَطِّ وَالتَّأْجِيلِ; لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمِيعِ, فَلَا يُخَصُّ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْت يُسْقِطُ فَائِدَةَ ذِكْرِ تَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا وَإِضَافَةِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ إسْقَاطُ حُكْمِ اللَّفْظِ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَجْعَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءً. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ جَائِزَةٌ وَهِيَ ثَابِتَةٌ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا, وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ وَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ". وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَالشَّافِعِيُّ: "الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ" إذَا قَبَضَتْهَا جَازَتْ فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا, وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهَا بَطَلَتْ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "تَصِحُّ الزِّيَادَةُ, فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ نِصْفُ مَا زَادَهَا إلَيْهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وَهَبَهُ لَهَا يُقَوَّمُ بِهِ عَلَيْهِ, وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ تُقْبَضْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ; وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي مِلْكِهِمَا, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى الْبُضْعِ فَيَأْخُذَ مِنْهَا بَدَلَهُ فَهُمَا مَالِكَانِ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْبُضْعِ, فَلَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِي مِلْكِهِمَا وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَمَا جَازَتْ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ كَانَا مَالِكَيْنِ لِلْعَقْدِ;; إذْ كَانَ الْمِلْكُ هُوَ التَّصَرُّفُ وَتَصَرُّفُهُمَا جَائِزٌ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَبَضَهَا

جَازَ, فَلَا يَخْلُو بَعْدَ الْإِقْبَاضِ مِنْ أَنْ تَكُونَ هِبَةً مُسْتَقْبَلَةً عَلَى مَا قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ أَوْ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ لَاحِقَةً بِالْعَقْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ هِبَةً مُسْتَقْبَلَةً; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَدْخُلَا فِيهَا عَلَى أَنَّهَا هِبَةٌ وَإِنَّمَا أَوْجَبَاهَا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ لَاحِقَةٌ بِالْعَقْدِ, ولَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُلْزِمَهُمَا عَقْدًا لَمْ يَعْقِدَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ", فَإِذَا عَقَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا عَقْدًا لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْزَامُهُمَا عَقْدًا غَيْرَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ; إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ إيجَابَ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لَا بِغَيْرِهِ; لِأَنَّ إلْزَامَهُ عَقْدًا غَيْرَهُ لَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" يَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِالشَّرْطِ, وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِ الشَّرْطِ وَإِلْزَامِهِمَا مَعْنًى غَيْرَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ; فَدَلَّتْ الْآيَةُ وَالسُّنَّةُ مَعًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اقْتِضَاءُ عُمُومِهِمَا لِإِيجَابِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطِ, وَالْآخَرُ: مَا انْتَظَمْنَا مِنْ امْتِنَاعِ إلْزَامِ عَقْدٍ أَوْ شَرْطٍ غَيْرِ مَا عَقَدَاهُ; وَلَمَّا بَطَلَ إلْزَامُهُمَا الْهِبَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَصَحَّ التَّمْلِيكُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُلِكَتْ مِنْ جِهَةِ الزِّيَادَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْعَلَهَا هِبَةً, أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ زِيَادَةً كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْقَبْضِ; لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ, وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهَا, وَإِذَا كَانَتْ زِيَادَةً سَقَطَتْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ, وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً لَمْ يُؤَثِّرْ الطَّلَاقُ فِيهَا, وَإِذَا دَخَلَا فِيهَا عَلَى عَقْدٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْزَامُهُمَا. عَقْدًا لَا ضَمَانَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إذَا تَعَاقَدَا عَقْدَ بَيْعٍ لَمْ يَجُزْ إلْزَامُهُمَا عَقْدَ هِبَةٍ وَلَوْ تَعَاقَدَا عَقْدَ إقَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُمَا عَقْدُ بَيْعٍ مُسْتَقْبَلٍ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْهِبَةِ بِعَقْدِ الزِّيَادَةِ, وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هِبَةً وَقَدْ صَحَّ التَّمْلِيكُ كَانَتْ زِيَادَةً لَاحِقَةً بِالْعَقْدِ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ مَعَ التَّسْمِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي جَعْلِهِ إيَّاهَا هِبَةً, ثُمَّ قَوْلِهِ: "إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ إلَيْهِ نِصْفُ الزِّيَادَةِ" فَإِنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ; لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ هِبَةً فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا بِالْمَهْرِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلطَّلَاقِ فِي رُجُوعِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَيْهِ, وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ بُطْلَانُهَا بِالْمَوْتِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: "إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ كُلُّهَا" مِنْ قِبَلِ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الْعَقْدِ وَإِنَّمَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِهِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَوْقُوفًا عَلَى سَلَامَةِ الْعَقْدِ أَوْ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِهِ عَلَى شَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ؟ فكذلك الزيادة في المهر.

مطلب: المهر المسمى يبطل قبل الدخول زإنما يجب نصف المسمى لها على معنى المتعة فَإِنْ قِيلَ: التَّسْمِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا يَبْطُلُ بَعْضُهَا بِوُرُودِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا قَبْلَ

الدُّخُولِ, فَهَلَّا كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَذَلِكَ; إذْ كَانَتْ إذَا صَحَّتْ وَلَحِقَتْ بِهِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِهَا فِيهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسَمَّى فِيهِ قِيلَ لَهُ: عِنْدَنَا أَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ يَبْطُلُ كُلُّهُ أَيْضًا إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ الْمُسَمَّى فِيهَا كَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ, وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّصْفُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْبَالِ كَالْمُتْعَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا: "إنَّ نِصْفَ الْمُسَمَّى هُوَ مُتْعَتُهَا" وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالُوا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ يَجْحَدُ ثُمَّ رَجَعَا: "إنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ نِصْفَ الْمَهْرِ الَّذِي غَرِمَ "; لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَالنِّصْفَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَأْنَفٌ أَلْزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا, فَعَلَى هَذَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الزِّيَادَةِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي سُقُوطِهِمَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى مُخَالَفَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] لِأَنَّك قُلْت إنَّ الْجَمِيعَ يَسْقُطُ وَيَجِبُ النِّصْفُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيٌ لَأَنْ يَكُونَ النِّصْفُ الْوَاجِبُ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَهْرًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ, وَإِنَّمَا فِيهِ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا شَرْطٍ, وَنَحْنُ نُوجِبُ النِّصْفَ أَيْضًا, فَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِهِ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى أَنَّهُ مُتْعَتُهَا مُخَالَفَةٌ لِلْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ جَمِيعَ الزِّيَادَةِ, أَنَّا قَدْ عَلَمِنَا أَنَّ الْعَقْدَ إذَا خَلَا مِنْ التَّسْمِيَةِ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَمْلِكَ الْبُضْعَ بِلَا بَدَلٍ; ثُمَّ إذَا رَدَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَسْقَطَهُ; إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ, كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ لِمَا لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَهَا الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ بِإِلْحَاقِهَا بِالْعَقْدِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب نكاح الإماء. مطلب: تخصيص الحكم بشيء في اللفظ لا يدل على نفيه عما عداه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَى الْحَرَائِرِ الْمُؤْمِنَاتِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا الْحَرَائِرُ وَلَيْسَ فِيهَا حَظْرٌ لَغَيْرِهِنَّ لِأَنَّ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْحَالِ بِذِكْرِ الْإِبَاحَةِ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهَا, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء31] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَةِ الْقَتْلِ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْحَالِ, وقَوْله

تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] لَيْسَ بِدَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ أَحَدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ لَهُ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ تَعَالَى اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ; وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَإِذًا لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} الْآيَةَ, إلَّا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ وَجَدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ لَا بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى الطَّوْلِ, فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: "هُوَ الْغِنَى". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا: "إذَا هَوِيَ الْأَمَةَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا إذَا خَافَ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا". فَكَانَ مَعْنَى الطَّوْلِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ قَلْبُهُ عَنْهَا بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ لِمَيْلِهِ إلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِ لَهَا, فَأَبَاحُوا لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ نِكَاحَهَا. وَالطَّوْلُ يَحْتَمِلُ الْغِنَى وَالْقُدْرَةَ وَيَحْتَمِلُ الْفَضْلَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] , قِيلَ فِيهِ: ذُو الْفَضْلِ, وَقِيلَ: ذُو الْقُدْرَةِ; وَالْفَضْلُ وَالْغِنَى يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى فَاحْتَمَلَ الطَّوْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْغِنَى وَالْقُدْرَةَ, وَاحْتَمَلَ الْفَضْلَ وَالسَّعَةَ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ الْغِنَى احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْغِنَى لَهُ بِكَوْنِ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ, وَالثَّانِي: غِنَى الْمَالِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَزَوُّجِ حُرَّةٍ. وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ الْفَضْلَ احْتَمَلَ إرَادَةَ الْغِنَى; لِأَنَّ الْفَضْلَ يُوجِبُ ذَلِكَ, وَالثَّانِي: اتِّسَاعُ قَلْبِهِ لِتَزَوُّجِ الْحُرَّةِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ الْأَمَةِ, وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَّسِعْ قَلْبُهُ لِذَلِكَ وَخَشِيَ الْإِقْدَامَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مَحْظُورٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ, فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ: "لَا يَتَزَوَّجْ الْأَمَةَ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ". وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: "نِكَاحُ الْأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا يَحِلُّ إلَّا لِمُضْطَرٍّ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رِوَايَةٌ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةٌ وَالزُّهْرِيِّ قَالُوا: "يَنْكِحُ الْأَمَةَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا". وَعَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: "أَنَّهُ إنْ خَشِيَ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا تَزَوَّجَهَا". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: "أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إلَّا الْمَمْلُوكُ". وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَكْحُولٌ فِي آخَرِينَ: "لَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ" وَقَالَ: "إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ: "إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً فَهُوَ طَلَاقُ الْأَمَةِ".

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ رِوَايَةً: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "إذَا وَجَدَ الطَّوْلَ إلَى الْحُرَّةِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ". وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْحُرَّةُ وَيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ يَوْمَيْنِ وَلَلْأَمَة يَوْمًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَزْوِيجَ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ جَائِزًا إنْ لَمْ تَرْضَ الْحُرَّةُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ الْإِمَاءِ. فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَتَزَوَّجْ مِنْ الْإِمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: "يَجْمَعُ أَرْبَعَ إمَاءٍ إنْ شَاءَ". فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ; وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَإِنْ وَجَدَ طُولَا إلَى الْحُرَّةِ, وَلَا يَتَزَوَّجُهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةُ". وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: "إذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَمْلُوكَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "الطَّوْلُ الْمَالُ; فَإِذَا وَجَدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ لَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً, وَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا أَيْضًا حَتَّى يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ". وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ, وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ إذْنِ الْحُرَّةِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ إذْنِهَا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ فِي الْأَمَةِ تُنْكَحُ عَلَى الْحُرَّةِ: "أَرَى أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا" ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ" تُخَيَّرُ الْحُرَّةُ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ". قَالَ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةً وَهُوَ مِمَّنْ يَجِدُ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ, قَالَ: "أَرَى أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا" "فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ يَخَافُ الْعَنَتَ, قَالَ: "السَّوْطُ يُضْرَبُ بِهِ" ثُمَّ خَفَّفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ, قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فَلَا خِيَارَ لِلْحُرَّةِ لِأَنَّ الْأَمَةَ مِنْ نِسَائِهِ". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ, قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ: أَحَدُهُمَا: إبَاحَةُ النِّكَاحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِحُرَّةٍ مِنْ أَمَةٍ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] , وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرٍ وَضَمِيرُهُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا فِي الْخِطَابِ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ, فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَاعْقِدُوا نِكَاحًا عَلَى

مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ; وَغَيْرُ جَائِزٍ إضْمَارُ الْوَطْءِ فِيهِ; إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ أَوْ الْحُرَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] إبَاحَةٌ مَعْقُودَةٌ بِشَرْطٍ, وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا طَابَ لَنَا, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا طَابَ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ; وَهُوَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ. قِيلَ لَهُ: قَوْله تَعَالَى: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ, فَيَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّخْيِيرِ, كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "اجْلِسْ مَا طَابَ لَك فِي هَذِهِ الدَّارِ وَكُلْ مَا طَابَ لَك مِنْ هَذَا الطَّعَامِ" فَيُفِيدُ تَخْيِيرَهُ فِي فِعْلِ مَا شَاءَ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: مَا حَلَّ لَكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَقَدْ اقْتَضَى تَخْيِيرَهُ فِي نِكَاحِ مَنْ شَاءَ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ, وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا حَلَّ لَكُمْ, فَإِنَّهُ قَدْ عَقِبَهُ بَيَانُ مَا طَابَ لَكُمْ مِنْهَا, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] , فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إلَى حَيِّزِ الْعُمُومِ, وَاسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ وَاجِبٌ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ الْحَالُ. وَعَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ جَمِيعًا لَكَانَ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ أَوْلَى لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ, وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ فَعَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] , وَالْإِحْصَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى الْعَقْدِ, يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: "فَإِذَا أَسْلَمْنَ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "فَإِذَا تَزَوَّجْنَ". وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّزْوِيجَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ, فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْعَفَافَ, وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] هُوَ عُمُومٌ أَيْضًا فِي تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] , وَذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ كَمَا اقْتَضَى جَوَازَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] , وَمُحَالٌ أَنْ يُخَاطَبَ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ الْحُرَّةِ, وَمَنْ وَجَدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ فَهُوَ يَجِدُ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ, فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ مَعَ وُجُودِهِ إلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ لَا تُحَرِّمُ نِكَاحَ أُخْرَى,

كَالْقُدْرَةِ عَلَى تَزْوِيجِ الْبِنْتِ لَا يُحَرِّمُ تَزْوِيجَ الْأُمِّ, وَالْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لَا يُحَرِّمُ نِكَاحَ أُخْتِهَا; فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَمْنَعَ قُدْرَتُهُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ مِنْ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ بَلْ الْأَمَةُ أَيْسَرُ أَمْرًا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأُخْتَيْنِ وَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَوَازُ اجْتِمَاعِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ تَحْتَهُ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَامْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتَيْنِ تَحْتَهُ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ إمْكَانُ تَزْوِيجِ الْبِنْتِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ حُكْمًا مَانِعًا مِنْ الْأُمِّ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِإِمْكَانِ تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} , وَأَنَّهُ أَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ وَخَشْيَةَ الْعَنَتِ, فَلَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا; وَهَذِهِ الْآيَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى مَا تَلَوْت مِنْ الْآيِ لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَةِ فِي التَّزْوِيجِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَظْرُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي حَالِ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ. وَإِنَّمَا فِيهَا إبَاحَتُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَيْهَا, وَسَائِرُ الْآيِ الَّتِي تَلَوْنَا يَقْتَضِي إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ, فَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْأُخْرَى لِوُرُودِهِمَا جَمِيعًا فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ, وَلَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظْرٌ, فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا; وَالْجَمِيعُ وَارِدٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] فَكَانَ مُقْتَضَى جَمِيعِ ذَلِكَ امْتِنَاعُ جَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ مَا قَبْلَهُ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَرْضَ بَدِيًّا عِتْقَ رَقَبَةٍ, فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ هُوَ الْعِتْقُ لَا غَيْرُ, فَلَمَّا نَقَلَهُ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ إلَى الصِّيَامِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُجْزِيَ غَيْرُهُ إذَا عَدِمَ الرَّقَبَةَ, فَلَمَّا قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] كَانَ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ مَقْصُورًا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ التَّرْتِيبِ, وَلَيْسَ مَعَك آيَةٌ تَحْظُرُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ حَتَّى إذَا ذَكَرْت إبَاحَتَهُنَّ بِشَرْطٍ وَحَالٍ كَانَ عَدَمُ الشَّرْطِ وَالْحَالُ مُوجِبًا لَحَظْرِهِنَّ, بَلْ سَائِرُ الْآيِ الْوَارِدَةُ فِي إبَاحَةِ النِّكَاحِ لَيْسَ فِيهَا فَرْقٌ بَيْنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ, فَلَيْسَ إذًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِهِنَّ عِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحَرَائِرِ. وَذَكَرَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْآيَةَ وَذَكَرَ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِيهَا, ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِي تَجْوِيزِهِمْ نِكَاحَ الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَزْوِيجِ الْحُرَّةِ, فَقَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ تَجَاوَزَ فَسَادُهُ وَلَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ; لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فِي الْكِتَابِ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ. قَالَ أبو

بَكْرٍ: قَوْلُهُ: "لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ" خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَقَدْ حَكَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ, وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَذَكَرْنَا أَسَانِيدَهَا; وَلَوْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَمَا قَالَ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ آيَةٍ عَلَى مَعْنًى لَا تَحْتَمِلُهُ, وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي السَّلَفِ فَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ فِيهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا, وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ وَلَا يَسُوغُ التَّأْوِيلُ فِيهِ لَأَنْكَرَهُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِيهِ, فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِيهِ فَقَدْ حَصَلَ بِإِجْمَاعِهِمْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَاحْتِمَالُ الْآيَةِ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْته; فَقَدْ بَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ إنْكَارَهُ لِاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّهُ مَحْظُورٌ فِي الْكِتَابِ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ" فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ فِيهِ نَصًّا أَوْ دَلِيلًا, فَإِنْ ادَّعَى نَصًّا طُولِبَ بِتِلَاوَتِهِ وَإِظْهَارِهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ, وَإِنْ ادَّعَى عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا طُولِبَ بِإِيجَادِهِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ, فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى لَنَفْسِهِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِ خَصْمِهِ, اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ تَخْصِيصَهُ الْإِبَاحَةَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَالشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ, فَإِنْ كَانَ إلَى هَذَا ذَهَبَ فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا اسْتَدَلَّ بِمِثْلِهِ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ كَانَ هَذَا دَلِيلًا لَكَانَتْ الصَّحَابَةُ أَوْلَى بِالسَّبْقِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ مَعَ كَثْرَةِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ يَخْلُ كَثِيرٌ مِنْهَا مِنْ إمْكَانِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذَا الضَّرْبِ كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الدَّلَالَاتِ, وَفِي تَرْكِهِمْ الِاسْتِدْلَالَ بِمِثْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ; فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ إسْمَاعِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: "هُوَ مَحْظُورٌ فِي الْكِتَابِ" عَلَى حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ. وَقَدْ حَكَى دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ إسْمَاعِيلَ سُئِلَ عَنْ النَّصِّ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: النَّصُّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ, فَقِيلَ لَهُ: فَكُلُّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ فَلَيْسَ بِنَصٍّ؟ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ نَصٌّ, فَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ نَصٌّ؟ فَقَالَ دَاوُد: ظَلَمَهُ السَّائِلُ, لَيْسَ مِثْلُهُ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, هُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ عِلْمُهُ هَذَا الْمَوْضِعَ. فَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةُ دَاوُد عَنْهُ صَحِيحَةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِإِنْكَارِهِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ إمْكَانِ تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ; لِأَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً: "مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَهُوَ نَصٌّ" وَقَالَ مَرَّةً: "الْقُرْآنُ كُلُّهُ نَصٌّ" وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ قَوْلَنَا وَلَا اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى خِلَافِهِ. وَفِي حِكَايَةِ دَاوُد هَذَا عَنْ إسْمَاعِيلَ عُهْدَةٌ1 وَهُوَ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَا ثِقَةٍ فِيمَا يَحْكِيهِ وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى إسْمَاعِيلَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ كَانَ نَفَاهُ مِنْ بَغْدَادَ وَقَذْفَهُ بِالْعَظَائِمِ, وَمَا أَظُنُّ تَعَجُّبَ إسْمَاعِيلَ مِنْ قَوْلِنَا إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ دلالة

_ 1 قوله: "عهدة" أي ضعف كما في أساس البلاغة. "لمصحح".

عَلَى حَظْرِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ; وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَاسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّ خَوْفَ الْعَنَتِ وَعَدَمَ الطَّوْلِ لَيْسَا بِضَرُورَةٍ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مَا يُخَافُ فِيهَا تَلَفُ النَّفْسِ, وَلَيْسَ فِي فَقْدِ الْجِمَاعِ تَلَفُ النَّفْسِ, وَقَدْ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ, فَإِذَا جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الطَّوْلِ وَعَدَمِهِ; إذْ عَدَمُ الطَّوْلِ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ فِي التَّزَوُّجِ; إذْ لَا تَقَعُ لِأَحَدٍ ضَرُورَةٌ إلَى التَّزَوُّجِ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَعْقُودَةٍ بِضَرُورَةٍ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ الخطاب: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ أَوْ نَحْوِهِ لَا يَكُونُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ خَيْرًا لَهُ; لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا وَأَيْضًا فَلَيْسَ النِّكَاحُ بِفَرْضٍ حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ الضَّرُورَةُ, وَأَصْلُهُ تَأْدِيبٌ وَنَدْبٌ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ جَازَ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ فِي حَالِ وُجُودِ الطَّوْلِ كَمَا جَازَ فِي حَالِ عَدَمِهِ. وقوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ قِيلَ فِيهِ: إنَّ كُلَّكُمْ مِنْ آدَمَ, وَقِيلَ فِيهِ: كُلُّكُمْ مُؤْمِنُونَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إلَّا فِيمَا تَقُومُ فِيهِ دَلَالَةُ التَّفْضِيلِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: "إنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ طَلَاقٌ لِلْأَمَةِ" فَقَوْلُهُ وَاهٍ ضَعِيفٌ لَا مَسَاغَ لَهُ فِي النَّظَرِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّوْلُ إلَى الْحُرَّةِ فَاسِخًا لِنِكَاحِ الْأَمَةِ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ تَوَضَّأَ أَوْ لَمْ يتوضأ.

مطلب: في تأويل أبي يوسف قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} عَلَى عَدَمِ الْحُرَّةِ فِي مِلْكِهِ وَأَنَّ وُجُودَ الطَّوْلِ هُوَ كَوْنُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ; لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لَلطَّوْلِ إلَيْهَا; إذْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا, فَكَانَ وُجُودُ الطَّوْلِ عِنْدَهُ هُوَ مِلْكُ وَطْءِ الْحُرَّةِ. وَهُوَ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِهَا; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَالِ لَا تُوجِبُ لَهُ مِلْكَ الْوَطْءِ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ, فَوُجُودُ الطَّوْلِ بِحَالِ مِلْكِ الْوَطْءِ أَخَصُّ مِنْهُ بِوُجُودِ الْمَالِ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى النِّكَاحِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا لِمِلْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ نِكَاحِ أُخْرَى, وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لِوُجُودِ الْمَالِ, فَإِذًا لَا حَظَّ لِوُجُودِ الْمَالِ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ; فَتَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ الْآيَةَ عَلَى مِلْكِ وَطْءِ الْحُرَّةِ أَصَحُّ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى مِلْكِ الْمَالِ.

فَإِنْ قِيلَ: وُجُودُ ثَمَنِ رَقَبَةِ الظِّهَارِ كَوُجُودِ الرَّقَبَةِ فِي مِلْكِهِ, فَهَلَّا كَانَ وُجُودُ مَهْرِ الْحُرَّةِ كَوُجُودِ نِكَاحِهَا قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ مُنْتَقَضٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّك لَمْ تَعْقِدْهُ بِمَعْنًى يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَبِدَلَالَةٍ يَدُلُّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى, وَمَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى الْخَصْمِ فَهُوَ سَاقِطٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ مَهْرِ امْرَأَةٍ فِي مِلْكِهِ كَوُجُودِ نِكَاحِهَا فِي مَنْعِ تَزْوِيجِ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَانَ بِهِ فَسَادُ مَا ذَكَرْت; وَعَلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ لَيْسَتْ عُرُوضًا1 لِلنِّكَاحِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ فُرِضَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِانْصِرَافُ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا, وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ مَعَ الْإِمْكَانِ; فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي مِلْكِهِ كَوُجُودِهَا; إذْ كَانَتْ فَرْضًا هُوَ مَأْمُورٌ بِعِتْقِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ, وَلَيْسَ النِّكَاحُ بِفَرْضٍ فَيَلْزَمُهُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ لِوُجُودِ الْمَهْرِ, فَلَيْسَ إذًا لِوُجُودِ الْمَهْرِ فِي مِلْكِهِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَكَانَ وَاجِدُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَجِدْ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ وَمُجَاهِدُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: "لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ" , وَلَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ لَمْ يَكُنْ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ مَحْظُورًا; إذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ حَظْرَهُ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ إبَاحَتَهُ, وَلَكِنَّهُمْ اتَّبَعُوا الْأَثَرَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

_ 1 قوله: "عروضا" بفتح العين وضم الراء أي نظيرا كما في لسان العرب. "لمصححه"

بَابٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ, فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ فِي آخَرِينَ: "يَجُوزُ نِكَاحُهَا", وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَهُ إذَا كَانَ مَوْلَاهَا كَافِرًا وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ; وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إلَى أَنَّ وَلَدَهَا يَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ الْأَبِ, كَمَا يَكْرَهُ بَيْعَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ". وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة, وَدَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ كَهِيَ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ. وَمِمَّا يُخْتَصُّ مِنْهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قَالَ: "الْعَفَائِفُ". وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مُطَّرِفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قَالَ: "إحْصَانُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتُحْصِنُ فَرْجَهَا مِنْ الزِّنَا. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْإِحْصَانِ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ, قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَاسْتَثْنَى مِلْكَ الْيَمِينِ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَثْنَاهُنَّ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} فَأَطْلَقَ اسْمَ الْإِحْصَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْإِمَاءِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْمُحْصَنَاتِ يَقَعُ عَلَى الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ وَأَطْلَقَ اللَّهُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ الْمُحْصَنَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] كَانَ عَامًّا فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ مِنْهُنَّ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وَكَانَتْ هَذِهِ مُشْرِكَةً, وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} , فَكَانَتْ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَقْصُورَةً عَلَى الْمُسْلِمَاتِ مِنْهُنَّ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْحَظْرِ. قِيلَ لَهُ: إطْلَاقُ اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّاتِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] فَعَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَعُمَّ الْكِتَابِيَّاتِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ فِي حَظْرِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ. وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قَاضٍ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ, فَلَيْسَ يَخْلُو حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي إطْلَاقِهِ لِلْكِتَابِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ أَوْ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَثَنِيَّاتِ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ; فَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْوَثَنِيَّاتِ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ فَالسُّؤَالُ عَنْهَا سَاقِطٌ فِيهِ; إذْ لَيْسَ بِنَافٍ فِيهِ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ, وَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ يَنْتَظِمُ الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مَعَهُ فِي الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا, أَوْ أَنْ تَكُونَ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حَظْرِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ, أَوْ أَنْ يَكُونَ حَظْرُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ مُتَأَخِّرًا عَنْ إبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ. فَإِنْ كَانَتَا نَزَلَتَا مَعًا فَهُمَا مُسْتَعْمَلَتَانِ جَمِيعًا عَلَى جِهَةِ تَرْتِيبِ حَظْرِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ, أَوْ أَنْ يَكُونَ

نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ نَازِلًا بَعْدَهُ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا أَيْضًا, أَوْ أَنْ يَكُونَ حَظْرُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ مُتَأَخِّرًا عَنْ إبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ, فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ وَرَدَ مُرَتَّبًا عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ; فَالْإِبَاحَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا كَيْفَ تَصَرَّفَتْ الْحَالُ وَعَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] نَزَلَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ; لِأَنَّ آيَةَ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ, وَإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ نَزَلَتْ بَعْدَهَا, فَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ إنْ كَانَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّاتِ. ثُمَّ لَمَّا لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ الْمُبِيحَةُ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ بَيْنَ الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ وَاقْتَضَى عُمُومُهَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُنَّ, وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَنْ لَا يُعْتَرَضَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ عَلَيْهِنَّ كَمَا لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ الْإِمَاءِ في قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذَّكَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْمَخْصُوصَ حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فِي إبَاحَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً, وَلَيْسَ بِعُمُومٍ فَيُجْرَى عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ بَلْ هُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ, فَمَا وَرَدَ بِهِ الْبَيَانُ مِنْ تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ صِرْنَا إلَيْهِ وَكَانَ حُكْمُ الْآيَةِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ, وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ بَيَانٌ فَهُوَ عَلَى إجْمَالِهِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ; فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَرَائِرَ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ مُرَادَاتٌ بِهِ اسْتَعْمَلْنَا حُكْمَ الْآيَةِ فِيهِنَّ, وَلَمَّا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ احْتَجْنَا فِي إثْبَاتِهَا إلَى دَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهَا. قِيلَ لَهُ: لَمَّا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] أَنَّهُنَّ الْعَفَائِفُ مِنْهُنَّ; إذْ كَانَ اسْمُ الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى الْعِفَّةِ, وَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْعَفَائِفِ; إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِفَّةَ مُرَادَةٌ بِهَذَا الْإِحْصَانِ, وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِحْصَانِ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا مُرَادَةٌ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْإِحْصَانِ اسْتِكْمَالُ شَرَائِطِهِ كُلِّهَا, فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّهُ مُرَادٌ أَثْبَتْنَاهُ, وَمَا عَدَاهُ يَحْتَاجُ مُثْبِتُهُ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ إلَى دَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ: اسْمُ الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ, فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] الْحَرَائِرَ مِنْهُنَّ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِذِكْرِ الْإِحْصَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِيفَاءُ شَرَائِطِهِ, لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِمَعْنَى الْإِحْصَانِ فِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ دُونَ بَعْضٍ, بَلْ إذَا تَنَاوَلَهُ

الِاسْمُ مِنْ وَجْهٍ وَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِيهِ, فَلَمَّا كَانَتْ الْأَمَةُ قَدْ يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ مِنْ طَرِيقِ الْعِفَّةِ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ, وَإِذَا جَازَ لَك أَنْ تَقْتَصِرَ بِاسْمِ الْإِحْصَانِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا فَجَائِزٌ لَغَيْرِك أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى الْعَفَافِ دُونَ غَيْرِهِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا إجْمَالُ حُكْمِ اللَّفْظِ مَعَ, إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْعُمُومِ; وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ اسْمَ الْإِحْصَانِ عَلَى الْأَمَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ: فَإِذَا أَسْلَمْنَ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ; فَكَانَ اعْتِبَارُ هَذَا الْعُمُومِ سَائِغًا فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ. وَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حُصُولَ جَمِيعِ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَفَائِفَ مِنْهُنَّ, وَحَرَّمَ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَكَانَ عُمُومًا فِي تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُنَّ; فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] لَا يَمْنَعُ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِهِ فِيمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ جِهَةِ الْعَفَافِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إبَاحَةِ وَطْءِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَكُلُّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ النِّكَاحِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْمُنْفَرِدَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَمَّا جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ, وَأَنَّ الْأُخْتَ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّ الْمَرْأَةِ وَحَلِيلَةَ الِابْنِ وَمَا نَكَحَ الْآبَاءُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حُرِّمَ وَطْؤُهُنَّ بِالنِّكَاحِ؟ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَجَبَ جَوَازُ وَطْئِهَا بِالنِّكَاحِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ وَطْءُ الْحُرَّةِ الْمُنْفَرِدَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ وَطْءُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا يَجُوزُ بِالنِّكَاحِ كَمَا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلْ مَا ذَكَرْنَا عِلَّةً لِجَوَازِ نِكَاحِهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ, وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً لِجَوَازِ نِكَاحِهَا مُنْفَرِدَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ إلَى غَيْرِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُسْلِمَةَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَجُوزُ نِكَاحُهَا مُنْفَرِدَةً, وَلَوْ كَانَا تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَمَا جَازَ نِكَاحُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا مِنْ طَرِيقِ جَمْعِهَا إلَى الْحُرَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا لَوْ كَانَتْ أُخْتُهَا تَحْتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ؟ فَعِلَّتُنَا صَحِيحَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ جَارِيَةٌ فِي مَعْلُولَاتِهَا غَيْرُ لَازِمٍ عَلَيْهَا مَا ذَكَرْت; إذْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لِلْجَوَازِ نِكَاحِهَا مُنْفَرِدَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ إلَى غَيْرِهَا; وبالله التوفيق.

بَابٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا قَالَ الله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ بُطْلَانَ نِكَاحِ الْأَمَةِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ سَيِّدُهَا وَذَلِكَ لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يدل

عَلَى كَوْنِ الْإِذْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ وَاجِبًا, وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" ; أَنَّ السَّلَمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ, وَلَكِنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَنْ يُسْلِمَ فَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ, كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا فَعَلَيْهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن شاذان قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَلَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْخَطَّابِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ". وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ زِنًا". وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ مَمْلُوكًا لِابْنِ عُمَرَ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَضَرَبَهُمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءِ أَعْطَاهَا". وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ: "إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَالْأَمْرُ إلَى الْمَوْلَى إنْ شَاءَ أَجَازَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ". وَقَالَ عَطَاءُ: "نِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَيْسَ بِزِنًا وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ: "أَنَّ غُلَامًا لِأَبِي مُوسَى تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ, فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ, فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَعْطَاهَا الْخُمُسَيْنِ وَأَخَذَ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاتَّفَقَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا, وَإِنَّمَا رُوِيَ الْحَدُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَدَهُمَا تَعْزِيرًا لَا حَدًّا فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ حَدٌّ. وَاتَّفَقَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ فِي الْمُتَزَوِّجَةِ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا, وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَالْعَبْدُ الَّذِي تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ أَيْسَرُ أَمْرًا مِنْ الْمُتَزَوِّجَةِ فِي الْعِدَّةِ; لِأَنَّ ذَلِكَ نِكَاحٌ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ عِنْدَ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ, وَنِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ لَا تَلْحَقُهُ إجَازَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ; وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْعَبْدِ مِنْ جِهَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالنَّظَرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ: "هُوَ عَاهِرٌ" , وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ". قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِقَوْلِهِ: "وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" لِأَنَّهُ لَا يُرْجَمُ إذَا زَنَى, وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عَاهِرًا عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّشْبِيهِ بِالزِّنَى لِإِقْدَامِهِ عَلَى وَطْءٍ مَحْظُورٍ; وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ" وَذَلِكَ مَجَازٌ, فَكَذَلِكَ قوله

فِي الْعَبْدِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ" وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَطْءَ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَاهِرًا بِالتَّزَوُّجِ; فَدَلَّ أَنَّ إطْلَاقَهُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْعَاهِرِ. وقَوْله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا; لأن قوله: {أَهْلِهِنَّ} الْمُرَادُ بِهِ الْمَوَالِي; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا, وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِ غَيْرِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ الْمَوْلَى بَالِغًا عَاقِلًا جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا وَإِنَّمَا تُوَكِّلُ غَيْرَهَا بِالتَّزْوِيجِ" وَهُوَ قَوْلٌ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَقْدِهَا التَّزْوِيجَ وَبَيْنَ عَقْدِ غَيْرِهَا بِإِذْنِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا أَذِنَتْ لَا مَرْأَةٍ أُخْرَى فِي تَزْوِيجِهَا أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَنْكُوحَةً بِإِذْنِهَا, وَظَاهِرُ الْآيَةِ مُقْتَضٍ لِجَوَازِ نِكَاحِهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهَا, فَإِذَا وَكَّلَ مَوْلَاهَا أَوْ مَوْلَاتُهَا امْرَأَةً بِتَزْوِيجِهَا وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ قَدْ أَجَازَهُ, وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا خَصَّ الْآيَةَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَتْ هِيَ لَا تَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْكِيلُهَا غَيْرَهَا بِهِ; لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَمْلِكُهُ فَأَمَّا مَا لَا يَمْلِكُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِالْمُوَكَّلِ دُونَ الْوَكِيلِ, وَقَدْ يَصِحُّ عِنْدَنَا تَوْكِيلُ مَنْ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ إذَا عَقَدَ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَهِيَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ, فَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ إذَا وُكِّلَ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ وَلَا تَسْلِيمُهُ الْبُضْعَ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَالِكَةً لِعَقْدِ النِّكَاحِ لَمَا صَحَّ تَوْكِيلُهَا بِهِ لَغَيْرِهَا; إذْ كَانَتْ أَحْكَامُ الْعُقُودِ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْوَكِيلِ, فَلَمَّا صَحَّ تَوْكِيلُهَا بِهِ مَعَ تَعَلُّقِ أَحْكَامِهِ بِهَا دُونَ الْوَكِيلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَمْلِكُ الْعَقْدَ. وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرَّةَ تَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى نَفْسِهَا كَمَا جَازَ تَوْكِيلُهَا عَلَى غَيْرِهَا بِهِ وَهُوَ وَلِيُّهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِهَا إذَا نَكَحَهَا سَمَّى لَهَا مَهْرًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ; لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ سَمَّى وَبَيْنَ مِنْ لَمْ يُسَمِّ فِي إيجَابِهِ الْمَهْرَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} وَهَذَا إنَّمَا يُطْلَقُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ فِي الْمُعْتَادِ وَالْمُتَعَارَفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ وُجُوبَ دَفْعِ الْمَهْرِ إلَيْهَا, وَالْمَهْرُ وَاجِبٌ لِلْمَوْلَى دُونَهَا; لِأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكُ لِلْوَطْءِ الَّذِي أَبَاحَهُ لِلزَّوْجِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَبَدَلِهِ, كَمَا لَوْ آجَرَهَا لِلْخِدْمَةِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْأُجْرَةِ دُونَهَا, كَذَلِكَ الْمَهْرُ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا فَلَا تَسْتَحِقُّ قَبْضَ الْمَهْرِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ

وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إعْطَاءَهُنَّ الْمَهْرَ بِشَرْطِ إذْنِ الْمَوْلَى فِيهِ, فَيَكُونُ الْإِذْنُ الْمَذْكُورُ بَدِيًّا مُضْمَرًا فِي إعْطَائِهَا الْمَهْرَ كَمَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي التَّزْوِيجِ, فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِإِذْنِهِنَّ; فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إعْطَاؤُهُنَّ الْمَهْرَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] وَالْمَعْنَى: وَالْحَافِظَاتُ فُرُوجَهُنَّ وقَوْله تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَمَعْنَاهُ: وَالذَّاكِرَاتُ اللَّهَ وَتَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا الضَّمِيرِ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ نَفْيِ مِلْكِهَا لِتَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا وَأَنَّ الْمَوْلَى أَمْلَكُ بِذَلِكَ مِنْهَا; وقَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فَنَفَى مِلْكَهُ نَفْيًا عَامًا; وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا تَسْتَحِقُّ مَهْرَهَا وَلَا تَمْلِكُهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ أَضَافَ الْإِعْطَاءَ إلَيْهِنَّ وَالْمُرَادُ الْمَوْلَى, كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ صَبِيَّةً صَغِيرَةً أَوْ أَمَةً صَغِيرَةً بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْمَوْلَى جَازَ أَنْ يُقَالَ أَعْطِهِمَا مَهْرَيْهِمَا, وَيَكُونُ الْمُرَادُ إعْطَاءَ الْأَبِ أَوْ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِيَتِيمٍ قَدْ مَطَلَهُ بِهِ إنَّهُ مَانِعٌ لِلْيَتِيمِ حَقَّهُ وَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ وَيُقَالُ أَعْطِ الْيَتِيمَ حَقَّهُ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26] وَقَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ; وَإِعْطَاءُ الصِّغَارِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِعْطَاءِ أَوْلِيَائِهِمْ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوهُنَّ} إيتَاءَ مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ مَوَالِيهِنَّ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْأَمَةَ هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِقَبْضِ مَهْرِهَا وَأَنَّ الْمَوْلَى إذَا آجَرَهَا لِلْخِدْمَةِ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْأَجْرِ دُونَهَا, وَاحْتَجَّ لِلْمَهْرِ بقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ, وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَهْرُ يَجِبُ لَهَا لِأَنَّهُ بَدَلُ بُضْعِهَا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ لَهَا لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنَافِعِهَا. وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكُ لَمَنَافِعِهَا كَمَا كَانَ مَالِكًا لِبُضْعِهَا, فَمَنْ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ دُونَهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَ الْمَهْرِ دُونَهَا لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا مِلْكِهَا لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا وَلَا مَنَافِعَ بَدَنِهَا, وَالْمَوْلَى هُوَ الْعَاقِدُ فِي الْحَالَيْنِ وَبِهِ تَمَّتْ الْإِجَارَةُ وَالنِّكَاحُ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَحَكَى هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ بَعْضَ الْعِرَاقِيِّينَ أَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ; وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ زَعْمٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَشَدُّ إقْدَامِ مُخَالِفَيْنَا عَلَى الدَّعَاوَى عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ رَاعَى كَلَامَهُ وَتَفَقَّدَ أَلْفَاظَهُ قَلَّتْ دَعَاوِيهِ بِمَا لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إثْبَاتِهِ; فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَائِلُ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ, فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ لَا مَهْرَ فِيهِ مُسَمًّى. فَدَعْوَاهُ

أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ قَدْ أَكْذَبَهَا الْكِتَابُ, وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَهْرٌ وَيَسْتَبِيحُ بُضْعَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَهَذَا مَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ قَالَهُ; فَحَصَلَ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ بَاطِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَعْوَاهُ عَلَى الْكِتَابِ, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكِتَابَ بِخِلَافِ مَا قَالَ. وَالثَّانِي دَعْوَاهُ عَلَى بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ, بَلْ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ لِامْتِنَاعٍ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ, ثُمَّ يَسْقُطُ فِي الثَّانِي حِينَ يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ وَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ مَالَهَا وَلَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ, فَهَهُنَا حَالَانِ: إحْدَاهُمَا حَالٌ الْعَقْدُ يُثْبِتُ فِيهَا الْمَهْرَ عَلَى الْعَبْدِ, وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ هِيَ حَالُ انْتِقَالِهِ إلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الْعَقْدِ, فَيَسْقُطُ, كَمَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ مَالٌ فَقَضَاهُ إيَّاهُ كَانَ لَمَّا قَبَضَهُ حَالَانِ: إحْدَاهُمَا حَالُ قَبْضِهِ فَيَمْلِكُهُ مَضْمُونًا بِمِثْلِهِ ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِمَالِهِ عَلَيْهِ, وَكَمَا يَقُولُ فِي الْوَكِيلِ فِي الشِّرَى إنَّ الْمُشْتَرَى انْتَقَلَ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَمْلِكُهُ وَيَنْتَقِلُ فِي الثَّانِي مِلْكُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ, وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ لَا يَفْهَمُهَا إلَّا مَنْ ارْتَاضَ الْمَعَانِيَ الْفِقْهِيَّةَ وَجَالَسَ أَهْلَ فِقْهِ هَذَا الشَّأْنِ وَأَخَذَ عَنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَانْكِحُوهُنَّ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ; وَأَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَطْؤُهَا عَلَى وَجْهِ الزِّنَا; لِأَنَّ الْإِحْصَانَ هَهُنَا النِّكَاحُ وَالسِّفَاحَ الزِّنَا. {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} يَعْنِي: لَا يَكُونُ وَطْؤُهَا عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ مِنْهُ "; وَالْخِدْنُ هُوَ الصَّدِيقُ لِلْمَرْأَةِ يَزْنِي بِهَا سِرًّا, فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطْنَ وَزَجَرَ عَنْ الْوَطْءِ إلَّا عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكِ يمين.

مطلب: الفتاة تطلق على الأمة ولو عجوزا وَسَمَّى اللَّهُ الْإِمَاءَ الْفَتَيَاتِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَالْفَتَاةُ اسْمٌ لِلشَّابَّةِ, وَالْعَجُوزُ الْحُرَّةِ لَا تُسَمَّى فَتَاةً, وَالْأَمَةُ الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُسَمَّى فَتَاةً; وَيُقَالُ إنَّهَا سُمِّيَتْ فَتَاةً وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً لَا تُوَقَّرُ تَوْقِيرَ الْكَبِيرَةِ. وَالْفُتُوَّةُ حَالُ الْغِرَّةِ وَالْحَدَاثَةِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ حَدِّ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُرِئَ فَإِذَا أَحْصَنَّ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ, وَقُرِئَ بِضَمِّ الْأَلِفِ "; فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ: {أُحْصِنَّ} بِالضَّمِّ مَعْنَاهُ تَزَوَّجْنَ. وَعَنْ

عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ: "أَحْصَنَّ" بِالْفَتْحِ, قَالُوا: مَعْنَاهُ أَسْلَمْنَ; وَقَالَ الْحَسَنُ: "يُحْصِنُهَا الزَّوْجُ وَيُحْصِنُهَا الْإِسْلَامُ". وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حَدِّ الْأَمَةِ مَتَى يَجِبُ, فَقَالَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بِالضَّمِّ عَلَى التَّزْوِيجِ: إنَّ الْأَمَةَ لَا يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَإِنْ أَسْلَمَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ" وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقَائِلِينَ بِقَوْلِهِ. وَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: "فَإِذَا أَحْصَنَّ" بِالْفَتْحِ عَلَى الْإِسْلَامِ, جَعَلَ عَلَيْهَا الْحَدَّ إذَا أَسْلَمَتْ وَزَنَتْ وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْقَائِلِينَ بِقَوْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَسْلَمْنَ بَعِيدٌ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِيمَانِ قَدْ تَقَدَّمَ لهن بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} قَالَ: فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: "مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ فَإِذَا آمَنَّ". وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَّ لِأَنَّ قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إنَّمَا هُوَ فِي شَأْنِ النِّكَاحِ, وَقَدْ اسْتَأْنَفَ ذِكْرَ حُكْمٍ آخَرَ غَيْرَهُ وَهُوَ الْحَدُّ, فَجَازَ اسْتِئْنَافُ ذِكْرِ الْإِسْلَامِ, فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: "فَإِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ فَأَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ" هَذَا لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ; وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ سَائِغٍ لَمَا تَأَوَّلَهُ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْجَمَاعَةُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالنِّكَاحِ مُرَادَيْنِ بِاللَّفْظِ, لِاحْتِمَالِهِ لَهُمَا وَتَأْوِيلِ السَّلَفِ الْآيَةَ عَلَيْهِمَا. وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ وَالتَّزْوِيجُ شَرْطًا فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهَا حَتَّى إذَا لَمْ تُحْصِنْ لَمْ يَجِبْ, لِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ, قَالَ: "إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا, ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا, ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا, ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" وَالضَّفِيرُ الْحَبْلُ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال فِي كُلِّ مَرَّةٍ: "فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى" فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مَعَ عَدَمِ الْإِحْصَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ شَرْطِ اللَّهِ الْإِحْصَانَ فِي قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} وَهِيَ مَحْدُودَةٌ فِي حَالِ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَتْ الْحُرَّةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الرَّجْمُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً مُتَزَوِّجَةً, أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُنَّ وَإِنْ أُحْصِنَّ بِالْإِسْلَامِ وَبِالتَّزْوِيجِ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ حَدِّ الْحُرَّةِ, وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ افْتِرَاقُ حَالِهَا فِي حُكْمِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ, فَإِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً يَكُونُ عَلَيْهَا الرَّجْمُ وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ فَنِصْفُ الْحَدِّ, فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَوَهُّمَ مَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا نِصْفُ الْحَدِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ; فَهَذِهِ فَائِدَةُ شَرْطِ الْإِحْصَانِ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِّهَا. وَلَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهَا نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ مَعَ الْإِحْصَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْجَلْدَ; إذْ الرَّجْمُ لَا يَنْتَصِفُ; وقَوْله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ

مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أَرَادَ بِهِ الْإِحْصَانَ مِنْ جِهَةِ الْحُرِّيَّةِ لَا الْإِحْصَانَ الْمُوجِبَ لِلرَّجْمِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا نِصْفُ الرَّجْمِ لأنه لا يتبعض.

مطلب: إذا علقت الحكام بمعنان فحيث وجدت فالحكم ثابت وَخَصَّ اللَّهُ الْأَمَةَ بِإِيجَابِ نِصْفِ حَدِّ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا إذَا زَنَتْ, وَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ بِمَثَابَتِهَا; إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِنُقْصَانِ الْحَدِّ مَعْقُولًا مِنْ الظَّاهِرِ وَهُوَ الرِّقُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] خَصَّ الْمُحْصَنَاتِ بِالذِّكْرِ وَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ حُكْمَ الْمُحْصِنِينَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إذَا قُذِفُوا, إذْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْمُحْصَنَةِ الْعِفَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ, فَحَكَمُوا لِلرَّجُلِ بِحُكْمِ النِّسَاءِ بِالْمَعْنَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ إذَا عُلِّقَتْ بِمَعَانٍ فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ المواضع دون بعض.

فَصْلٌ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْوَاجِبِ عَلَى النَّدْبِ; لِأَنَّ النِّكَاحَ نَدْبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ, وَإِيتَاءُ الْمَهْرِ وَاجِبٌ; وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ثُمَّ قَالَ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وَيَصِحُّ عَطْفُ النَّدْبِ عَلَى الْوَاجِبِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ وَالْإِحْسَانُ نَدْبٌ. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هُوَ الزِّنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الضَّرَرُ الشَّدِيدُ فِي دِينٍ أَوَدُنْيَا, مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] . وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} , وَهَذَا شَرْطٌ إلَى الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ وَلَدُهُ عَبْدًا لَغَيْرِهِ, فَإِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ وَلَمْ يَأْمَنْ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ لَا فِي الْفِعْلِ وَلَا فِي التَّرْكِ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ النَّدْبِ, وَالِاخْتِيَارُ هُوَ تَرْكُ نِكَاحِ الْأَمَةِ رَأْسًا; فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ مُقْتَضِيَةً لِكَرَاهِيَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ إذَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ, وَمَتَى خَشِيَ الْعَنَتَ فَالنِّكَاحُ مُبَاحٌ إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَتْرُكَهُ رَأْسًا وَإِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ, لِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . وَإِنَّمَا نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى تَرْكِ نِكَاحِ الْأَمَةِ رَأْسًا مَعَ خَوْفِ الْعَنَتِ لِأَنَّ الْوَلَدَ المولود على فراش النكاح

مطلب: في بيان معنى التقية وحكمها

مطلب: في بيان معنى التقية وحكمها وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} يَعْنِي أَنْ تَخَافُوا تَلَفَ النَّفْسِ وَبَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَتَتَّقُوهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهَا. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَافِرًا وَلِيًّا فِي دِينِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} : إلَّا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَيَصِلَهُ لِذَلِكَ; فَجَعَلَ التَّقِيَّةَ صِلَةً لِقَرَابَةِ الْكَافِرِ. وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ إظْهَارِ الْكُفْرِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] وَإِعْطَاءُ التَّقِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ, بَلْ تَرْكُ التَّقِيَّةِ أَفْضَلُ, قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ: إنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَظْهَرَ. وَقَدْ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ خُبَيْبَ بْنَ عُدَيٍّ, فَلَمْ يُعْطِ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ, فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَعْطَى التَّقِيَّةَ, وأظهر

مطلب: فيمن نذر أن ينشيء ابنه الصغير في عبادة الله وأن يعلمه القرآن وعلوم الدين

مطلب: فيمن نذر أن ينشيء ابنه الصغير في عبادة الله وأن يعلمه القرآن وعلوم الدين قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ", وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "خَادِمًا لِلْبِيعَةِ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: "عَتِيقًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى". وَالتَّحْرِيرُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِتْقُ, مِنْ الْحُرِّيَّةِ. وَالْآخَرُ: تَحْرِيرُ الْكِتَابِ, وَهُوَ إخْلَاصُهُ مِنْ الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} إذَا أَرَادَتْ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ أَنَّهَا تُنْشِئُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَشْغَلُهُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا, وَإِذَا أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهَا تَجْعَلُهُ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ أَوْ عَتِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَقَارِبَةٌ, كَانَ نَذْرًا مِنْ قِبَلِهَا نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهَا: نَذَرْته ثُمَّ قَالَتْ: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَالنَّذْرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا بِأَنْ يَنْذِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُنَشِّئَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ, وَأَنْ لَا يَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِمَا, وَأَنْ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ وَعُلُومَ الدِّينِ. وَجَمِيعُ ذَلِكَ نُذُورٌ صَحِيحَةٌ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهَا: {نَذَرْتُ لَكَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى قُرْبَةً يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّذُورَ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ وَعَلَى أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهَا: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} أَرَادَتْ بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَبُلُوغِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَخْلُصَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ بِالْمَجْهُولِ; لِأَنَّهَا نَذَرَتْهُ وَهِيَ لَا تَدْرِي ذَكَرٌ هُوَ أم أنثى.

مطلب: للأم ضرب من الولاية على الولد في تعليمه وتأديبه إلى آخره

مطلب: للأم ضرب من الولاية على الولد في تعليمه وتأديبه إلى آخره وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ فِي تَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَتَرْبِيَتِهِ, لَوْلَا أَنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ فِي وَلَدِهَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ تَسْمِيَةَ وَلَدِهَا وَتَكُونُ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً, وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ الأب; لأنها قالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لَوَلَدِهَا هَذَا الِاسْمَ. وقَوْله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} الْمُرَادُ بِهِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: رَضِيَهَا لِلْعِبَادَةِ فِي النَّذْرِ الَّذِي نَذَرَتْهُ بِالْإِخْلَاصِ لِلْعِبَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ, وَلَمْ يَقْبَلْ قَبْلَهَا أُنْثَى فِي هَذَا المعنى. قوله تعالى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَضَمَّنَ مُؤْنَتَهَا, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كهاتين" , وأشار بإصبعيه, يعني به من

مطلب: في أن إطلال الغمامة عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة إرهاصا له

مطلب: في أن إطلال الغمامة عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة إرهاصا له وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَطْهِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] فَقَالَ قَائِلٌ: "كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى وَجْهِ إرْهَاصِ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ, كَحَالِ الشُّهُبِ وَإِظْلَالِ الْغَمَامَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ". قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين} قَالَ سَعِيدٌ: "أَخْلِصِي لِرَبِّك". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَدِيمِي الطَّاعَةَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ" أَطِيلِي قِيَامَ الصَّلَاةِ", وَأَصْلُ الْقُنُوتِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ, وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بالحال الأمر بإطالة القيام في

مطلب: في تحقيق معنى البشارة

مطلب: في تحقيق معنى البشارة قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} .

مطلب: في المباهلة وما رواه أصحاب السير في شأنها

مطلب: في المباهلة وما رواه أصحاب السير في شأنها قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} الِاحْتِجَاجُ الْمُتَقَدِّمُ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَهُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ وَفِيهِمْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْت وَلَدًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا حَكَى عَنْ الْمَسِيحِ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِنْجِيلِ; لِأَنَّ فِيهِ: "إنِّي ذَاهِبٌ إلَى أَبِي, وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ "; وَالْأَبُ السَّيِّدُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ, أَلَا تَرَاهُ قَالَ: وَأَبِي, وَأَبِيكُمْ؟ فَعَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُبُوَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لَلْبُنُوَّةِ, فَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ وَاعْتَرَفُوا بِهِ, وَأَبْطَلَ شُبْهَتَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بِأَمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ حِينَئِذٍ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الْآيَةَ; فَنَقَلَ رُوَاةُ السِّيَرِ وَنَقْلَةُ الْأَثَرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى الَّذِينَ حَاجُّوهُ إلَى الْمُبَاهَلَةِ, فَأَحْجَمُوا عَنْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنْ بَاهَلْتُمُوهُ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا, وَلَمْ يَبْقَ نَصْرَانِيٌّ, وَلَا نَصْرَانِيَّةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَحْضُ شُبَهِ النَّصَارَى فِي أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ ابْنُ الْإِلَهِ; وَفِيهِ دلالة على

مطلب: في أن ولد البنت هل ينسب إلى قوم أبيه أو أمه

مطلب: في أن ولد البنت هل ينسب إلى قوم أبيه أو أمه وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُسَمَّيَا ابْنَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِمَا, وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ إطْلَاقِ اسْمِ ذَلِكَ فِيهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّاسِ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي" ; وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى لَوَلَدِ فُلَانٍ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ وَوَلَدُ ابْنَةٍ: "إنَّ الْوَصِيَّةَ لَوَلَدِ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الِابْنَةِ". وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَلَدَ الِابْنَةِ يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فِي جَوَازِ نِسْبَتِهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ, وَأَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ النَّاسِ إنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْآبَاءِ وَقَوْمِهِمْ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَاشِمِيَّ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً رُومِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً أَنَّ ابْنَهُ يَكُونُ هَاشِمِيًّا مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ؟ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... نوهن أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ فَنِسْبَةُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُنُوَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخْصُوصٌ بِهِمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمَا; هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَعَالِمُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيمَنْ سِوَاهُمَا; لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى الْأَبِ وَقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} الآية. قوله تعالى: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ نَتَسَاوَى جَمِيعًا فِيهَا; إذْ كُنَّا جَمِيعًا عِبَادَ اللَّهِ, ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذه هي الكلمة التي تشهد العقول

مطلب: في الجواب عن إشكال من قال: إن القرآن نزل بعد إبراهيم عليه السلام مكيف يكون مسلما

مطلب: في الجواب عن إشكال من قال: إن القرآن نزل بعد إبراهيم عليه السلام مكيف يكون مسلما قَوْله تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا فِي إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: مَا كَانَ إلَّا يَهُودِيًّا, وَقَالَتْ النَّصَارَى: مَا كَانَ إلَّا نَصْرَانِيًّا; فَأَبْطَلَ اللَّهُ دَعْوَاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فَالْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة حَادِثَتَانِ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ, فَكَيْفَ يَكُونُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا, وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمْ سُمُّوا بِذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَهُوذَا, وَالنَّصَارَى سُمُّوا بِذَلِكَ; لِأَنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ نَاصِرَةَ قَرْيَةٍ بِالشَّامِّ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَهُودَ مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عَنْ مِلَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَالنَّصْرَانِيَّة مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عَنْ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ; فَلِذَلِكَ قَالَ تعالى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ

مطلب: في وجوب المحاجة في الدين

مطلب: في وجوب المحاجة في الدين وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَاجَّةِ فِي الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ, كَمَا احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبْطَلَ بِهَا شُبْهَتَهُمْ وَشَغَبَهُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ لِلْحَقِّ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَاجُ كُلُّهُ مَحْظُورًا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحَاجَّةِ بِالْعِلْمِ وَبَيْنَهَا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} : فِيمَا وَجَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ, وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَهُوَ شَأْنُ إبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} مَعْنَاهُ: تَأْمَنْهُ عَلَى قِنْطَارٍ; لِأَنَّ "الْبَاءَ" وَ "عَلَى" تَتَعَاقَبَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ, كَقَوْلِك: مَرَرْت بِفُلَانٍ وَمَرَرْت عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْقِنْطَارِ: "هُوَ أَلْفُ مِثْقَالٍ وَمِائَتَا مِثْقَالٍ". وَقَالَ أَبُو نَضِرَةَ: مِلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "سَبْعُونَ أَلْفًا". وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: "مِائَةُ رِطْلٍ". فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ, وَيُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمَانَةِ, كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانَ مَأْمُونًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابِيُّ مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْهُمْ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا ائْتُمِنُوهُ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يقتضي ظاهر الآية, إلا أنا خصصناه

باب الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه

بَابُ الْجَانِي يَلْجَأُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ يَجْنِي فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} مَوْجُودَةً فِي جَمِيعِ الْحَرَمِ, ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ, وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} يَقْتَضِي أَمْنَهُ عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَانِيًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جَنَى بَعْدَ دُخُولِهِ, إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا. وَمَعْلُومٌ أن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} هُوَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ, كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ آمِنٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ, كَمَا نَقُولُ: هَذَا مُبَاحٌ وَهَذَا مَحْظُورٌ; وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ, وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مُبِيحًا يَسْتَبِيحُهُ, وَلَا أَنَّ مُعْتَقِدًا لِلْحَظْرِ يَحْظُرُهُ, وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُبَاحِ:"افْعَلْهُ عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِيهِ, وَلَا ثَوَابَ" وَفِي الْمَحْظُورِ: "لَا تَفْعَلْهُ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِهِ". وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَحَظْرِ دَمِهِ, أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَأَخْبَرَ بِجَوَازِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ, وَأَمَرَنَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إذَا قَاتَلُونَا؟ وَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا} خَبَرًا لَمَا جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ مُخْبَرُهُ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كان آمنا} هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَنَهْيٌ لَنَا عَنْ قَتْلِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بِأَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَوْ أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ قَتْلٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَتِهِ, فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ قَتْلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ, تَسْقُطُ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِهِ; لِأَنَّ الْحَرَمَ وَغَيْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ; إذْ كَانَ عَلَيْنَا إيمَانُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ ظُلْمٍ يَقَعُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا إذَا أَمْكَنَنَا ذَلِكَ, عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقٍّ, فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ وَفِي غَيْرِهِ, إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ مِنْ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَانِي فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ الْجَانِي فِي غَيْرِهِ إذَا لَجَأَ إليه.

مطلب في حكم الجاني في غير الحرم إذا التجأ إليه

مطلب في حكم الجاني في غير الحرم إذا التجأ إلَيْهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَاذَ إلَيْهِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَا دَامَ فِيهِ, وَلَكِنَّهُ لَا يُبَايَعُ, وَلَا يُؤَاكَلُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ, وَإِنْ قتل

باب فرض الحج

بَابُ فَرْضِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى شَرِيطَةِ وُجُودِ السَّبِيلِ إلَيْهِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مِنْ حُكْمِ السَّبِيلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى الْحَجِّ لَزِمَهُ ذَلِكَ; إذْ كَانَتْ اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ إلَيْهِ هِيَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] يَعْنِي: مِنْ وُصُولٍ وَ {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] يَعْنِي: مِنْ وُصُولٍ, وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَرْطِ اسْتِطَاعَةِ السَّبِيلِ إلَيْهِ وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغُهُ بَيْتَ اللَّهِ, وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا" , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى

باب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بَابُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. مطلب: في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَخْرَجَ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ فِي قَوْلِهِ:

مطلب في من غصب متاع رجل يسعه قتله حتى يستنقذ المتاع منه

مطلب في من غصب متاع رجل يسعه قتله حتى يستنقذ المتاع منه وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مَتَاعَ رَجُلٍ: "وَسِعَكَ قَتْلُهُ حَتَّى تَسْتَنْقِذَ الْمَتَاعَ وَتَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ" وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ: "وَسِعَكَ أَنْ تَتْبَعَهُ حَتَّى تَقْتُلَهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْمَتَاعَ". قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ الْبُيُوتَ: "يَسَعُكَ قَتْلُهُ" وَقَالَ فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك, قَالَ "فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ" وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ. وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الْفَيْءِ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمُنْكَرِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ" يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ, فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ. وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ: إنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ, وَلَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ إذَا كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَظْرِهِ, وَمَتَى أَنْذَرَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعُوا منه

باب الاستعانة بأهل الذمة

بَابُ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ بِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ أَمْرَهُ وَيَثِقُ بِهِمْ فِي أَمْرِهِ; فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَهْلَ الْكُفْرِ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي خَوَاصِّ أُمُورِهِمْ, وَأَخْبَرَ عَنْ ضَمَائِرِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يَعْنِي: لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا يَجِدُونَ السَّبِيلَ إلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ أُمُورِكُمْ; لِأَنَّ الْخَبَالَ هُوَ الْفَسَادُ. ثم قال: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} قَالَ السُّدِّيُّ: "وَدُّوا ضَلَالَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ" وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "وَدُّوا أَنْ تَعَنَّتُوا فِي دِينِكُمْ فَتَحْمِلُوا عَلَى الْمَشَقَّةِ فِيهِ"; لِأَنَّ أَصْلَ الْعَنَتِ المشقة, فكأنه أخبر عن

مطلب: قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} وأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه

مطلب: قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} وأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وقَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} قيل في معنى {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُضَاعَفَةُ بِالتَّأْجِيلِ أَجَلًا بَعْدَ أَجَلٍ وَلِكُلِّ أَجَلٍ قِسْطٌ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَالِ. وَالثَّانِي: مَا يُضَاعِفُونَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, فَلَمَّا كَانَ الرِّبَا مَحْظُورًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَبِعَدَمِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ, وَيَلْزَمُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] إذْ لَمْ يَبْقَ لَهَا حُكْمٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} , قِيلَ: كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ; وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] وَكَمَا قَالَ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] أَيْ إلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَيُقَالُ: إنَّمَا خَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ دُونَ الطُّولِ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطُّولَ أَعْظَمُ, وَلَوْ ذَكَرَ الطُّولَ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِظَمِ; وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ذَكَاةُ الجنين ذكاة أمه" معناه: كذكاة أمه.

مطلب: في قول عمر رضي الله عنه "من خاف الله لم يشف غيظه"

مطلب: في قول عمر رضي الله عنه "من خاف الله لم يشف غيظه وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ

مطلب: في قوله تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة} وذكر ما فيه من دلائل النبوة

مطلب: في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} وذكر ما فيه من دلائل النبوة قَوْله تَعَالَى:. {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} قَالَ طَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ هَزِيمَةِ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِالرُّجُوعِ, فَكَانَ مَنْ ثَبَتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ الْحُجُفِ مُتَأَهِّبِينَ لِلْقِتَالِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَنَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ, فَنَامُوا دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَرْعَبْهُمْ الْخَوْفُ لِسُوءِ الظَّنِّ; قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنِمْنَا حَتَّى اصْطَفَقَتْ الْحُجُفُ مِنْ النُّعَاسِ, وَلَمْ يُصِبْ الْمُنَافِقِينَ ذَلِكَ بَلْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ, فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْت وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ وَنَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ; وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي الْعَدُوُّ فِيهَا مُطِلٌّ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ انْهَزَمَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَعْوَانِهِمْ وَقَدْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنَامُونَ وَهُمْ مُوَاجِهُونَ الْعَدُوَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطِيرُ فِيهِ النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ فَكَيْفَ بِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَالْعَدُوُّ قَدْ أَشَرَعُوا فِيهِمْ الْأَسِنَّةَ وَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لِقَتْلِهِمْ وَاسْتِيصَالِهِمْ. وَفِي ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج

باب فضل الرباط في سبيل الله تعالى

بَابُ فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ: "اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَابِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَصَابِرُوا وَعْدِي إيَّاكُمْ وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ وَرَابِطُوا الْخَيْلَ عَلَيْهِ". وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عبد الرحمن: "ورابطوا بانتظار الصلاة

سورة النساء

سورة النساء مدخل ... سورة النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: "هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ أَسْأَلُك بِاَللَّهِ وَبِالرَّحِمِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: "اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا". وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ". وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْد بْنِ مُقْرِنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ, مِنْهَا إبْرَارُ الْقَسَمِ"; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَكُمْ بالله فأعطوه". وأما قوله: {وَالْأَرْحَامَ} فَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِحَقِّ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] فَقَرَنَ قَطْعَ الرَّحِمِ إلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ, وَقَالَ تَعَالَى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} قِيلَ فِي الْإِلِّ: إنَّهُ الْقَرَابَةُ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النِّسَاءِ: 36] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الرَّحِمِ مَا يُوَاطِئُ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ, رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِي حَيَّانُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي نَاصِحٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ أَعْجَلُ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ مَا مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنْ الْبَغْيِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ الْمُرِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرحم يزيد الله بهما في العمر

باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنع الوصي من استهلاكها

بَابُ دَفْعِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ إلَيْهِمْ بِأَعْيَانِهَا وَمَنْعِ الْوَصِيِّ مِنْ اسْتِهْلَاكِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ وَجَعَلَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يَعْزِلُ مَالَ الْيَتِيمِ عَنْ مَالِهِ, فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَظُنُّ ذَلِكَ غَلَطًا مِنْ الرَّاوِي; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إيتَاؤُهُمْ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ; إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَجِبُ إعْطَاؤُهُ مَالَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ, وَإِنَّمَا غَلِطَ الرَّاوِي بِآيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شيبة قال: حدثنا جرير عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10] الْآيَةَ, انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ, فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيَحْبِسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ, فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ, فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ" فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إيتَاءَهُمْ أَمْوَالَهُمْ فِي حَالِ الْيُتْمِ, وَإِنَّمَا يَجِبُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ, وَأَطْلَقَ اسْمَ الْأَيْتَامِ عَلَيْهِمْ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيَتِيمِ كَمَا سَمَّى مُقَارَبَةَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بُلُوغَ الْأَجَلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَالْمَعْنَى مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ; وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ, فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَسَمَّاهُمْ يَتَامَى لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْبُلُوغِ, أَوْ لِانْفِرَادِهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ, مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي أَمْثَالِهِمْ ضَعْفُهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ عَلَى الْكَمَالِ حَسَبَ تَصَرُّفِ الْمُتَحَنِّكِينَ الَّذِينَ قَدْ جَرَّبُوا الْأُمُورَ وَاسْتَحْكَمَتْ آرَاؤُهُمْ; وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزٍ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ يُتْمُهُ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: "إذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ يُتْمُهُ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ يُتْمُهُ بَعْدُ", فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يَسْتَحْكِمْ رَأْيُهُ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدُهُ, فَجَعَلَ بَقَاءَ ضَعْفِ الرَّأْيِ مُوجِبًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ. وَاسْمُ الْيَتِيمِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ عَنْ أَبِيهِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ عَنْ زَوْجِهَا, قَالَ

باب تزويج الصغار

بَابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} . رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْت لِعَائِشَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الْآيَةَ؟ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا, فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قَالَتْ: وَاَلَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ, فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ تَأْوِيلٌ غَيْرُ هَذَا, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} يَقُولُ: وَمَا أَحَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَخَافُوا فِي النِّسَاءِ مِثْلَ الَّذِي خِفْتُمْ فِي الْيَتَامَى أَلَّا تُقْسِطُوا فِيهِنَّ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فَحَرَّجْتُمْ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ, وَكَذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا مِنْ الزِّنَا فَانْكِحُوا النِّسَاءَ نِكَاحًا طَيِّبًا مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَرْيَتِي تَكُونُ عِنْدَهُ النِّسْوَةُ وَيَكُونُ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ فَيَذْهَبُ مَالُهُ فَيَمِيلُ عَلَى مَالِ الْأَيْتَامِ, فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الْآيَةَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَزْوِيجِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ الصَّغِيرَيْنِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ" لِكُلِّ

باب هبة المرأة المهر لزوجها

بَابُ هِبَةِ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ لِزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قَالَا: "فَرِيضَةٌ", كَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى نِحْلَةِ الدَّيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ فُرِضَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ إذَا زَوَّجَ مُوَلِّيَتَهُ أَخَذَ صَدَاقَهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ", فَجَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ لَا يَحْبِسُوا عَنْهُنَّ الْمُهُورَ إذَا قَبَضُوهَا. إلَّا أَنَّ مَعْنَى النِّحْلَةِ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ فِي أَنَّهَا فَرِيضَةٌ, وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمَوَارِيثِ {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} . قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً وَالنِّحْلَةُ فِي الْأَصْلِ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا; لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ هُوَ قَبْلَهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ؟ فَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ مِنْ قِبَلِهَا عِوَضًا يَمْلِكُهُ, فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِإِزَائِهَا بَدَلٌ; وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ لَا الْمِلْكُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ المثنى في قوله تعالى: {نِحْلَةً} يَعْنِي: بِطِيبَةِ أَنْفُسِكُمْ, يَقُولُ: لَا تُعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ وَلَكِنْ آتَوْهُنَّ ذَلِكَ وَأَنْفُسُكُمْ بِهِ طَيِّبَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ لَهُنَّ دُونَكُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَمَّاهُ نِحْلَةً; لِأَنَّ النِّحْلَةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ وَلَيْسَ يَكَادُ يَفْعَلُهَا النَّاحِلُ إلَّا مُتَبَرِّعًا بِهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ, فَأُمِرُوا بِإِيتَاءِ النِّسَاءِ مُهُورَهُنَّ بِطِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَالْعَطِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُعْطِي بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ لِلْمَخْلُوِّ بِهَا لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ لَهُ, وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فَإِنَّهُ يَعْنِي عَنْ الْمَهْرِ, لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إيتَاءَهَا مَهْرَهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ. قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ فَهُوَ حَلَالٌ". وَقَالَ عَلْقَمَةُ لِامْرَأَتِهِ: أَطْعِمِينِي مِنْ الْهَنِيءِ الْمَرِيءِ. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا وَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ لَهُ لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ. وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ لِلزَّوْجِ وَالْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ فِي أخذه بقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . وَمِنْهَا تَسَاوِي حَالِ قَبْضِهَا لِلْمَهْرِ وَتَرْكِ قَبْضِهَا فِي جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ, وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يفرق بينهما.

باب دفع المال إلى السفهاء

بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السُّفَهَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا يَقْسِمُ الرَّجُلُ مَالَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ فَيَصِيرَ عِيَالًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ; إذْ هُمْ عِيَالٌ لَهُ, وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ"; فَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمُقْتَضَى حَقِيقَتِهَا; لِأَنَّ قَوْله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ} يَقْتَضِي خِطَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْ دَفْعِ مَالِهِ إلَى السُّفَهَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِهِ, لِعَجْزِ هَؤُلَاءِ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ, وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ الَّذِينَ لَا يُكْمِلُونَ لِحِفْظِ الْمَالِ. وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي حَيَاتِهِ بِمَالِهِ وَيَجْعَلَهُ فِي يَدِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ, وَأَنْ لَا يُوصِيَ بِهِ إلَى أَمْثَالِهِمْ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ إذَا كَانُوا صِغَارًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ إلَّا إلَى أَمِينٍ مُضْطَلِعٍ بِحِفْظِهِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ حِفْظِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قِوَامَ أَجْسَادِنَا بِالْمَالِ, فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ ثُمَّ حِفْظُ مَا بَقِيَ وَتَجَنُّبِ تَضْيِيعِهِ, وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي إصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ, مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26-27] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَتَحْصِينِ الدُّيُونِ بِالشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابِ وَالرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَكُمْ قَوَامًا عَلَيْهَا فَلَا تَجْعَلُوهَا فِي يَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَرَادَ: لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ, وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يَعْنِي: لَا يَقْتُلُ بعضكم بَعْضًا, وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] يُرِيدُ: مَنْ يَكُونُ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ السُّفَهَاءُ مَحْجُورًا عَلَيْهِمْ فَيَكُونُونَ مَمْنُوعِينَ من أموالهم إلى أن يزول السفه.

باب دفع المال إلى اليتيم

بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَرَنَا بِاخْتِبَارِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ; لِأَنَّ" حَتَّى غَايَةٌ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ, فَدَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُ فِي التِّجَارَةِ; لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ فِي الْعِلْمِ بِالتَّصَرُّفِ وَحِفْظِ الْمَالِ وَمَتَى أُمِرَ بِذَلِكَ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: جَائِزٌ لِلْأَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الشِّرَى وَالْبَيْعَ, وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيُّ أَبٍ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "لَا أَرَى إذْنَ الْأَبِ, وَالْوَصِيَّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ جَائِزًا, وَإِنْ لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ دَيْنٌ لَمْ يَلْزَمْ الصَّبِيَّ مِنْهُ شَيْءٌ". وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ فِي الْإِقْرَارِ: وَمَا أَقَرَّ بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْآدَمِيِّ أَوْ حَقٍّ فِي مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَلِيُّهُ مَنْ كَانَ أَوْ حَاكِمٌ, وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ, فَإِنْ فَعَلَ فَإِقْرَارُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ, وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ مَفْسُوخٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} وَالِابْتِلَاءُ هُوَ اخْتِبَارُهُمْ فِي عُقُولِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَحَزْمِهِمْ فيما يتصرفون فيه, فهو

مطلب في تفسير الرشد

مطلب في تفسير الرشد وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "فَإِنْ عَلِمْتُمْ مِنْهُمْ ذَلِكَ". وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْإِينَاسِ هُوَ الْإِحْسَاسُ, حُكِيَ عَنْ الْخَلِيلِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] يَعْنِي أَحْسَسْتهَا وَأَبْصَرْتهَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الرُّشْدِ هَهُنَا, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: "الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ" وَحِفْظِ الْمَالِ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ: "الْعَقْلُ". وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} قَالَ: "إذَا أَدْرَكَ بِحُلُمٍ وَعَقْلٍ وَوَقَارٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ اسْمُ الرُّشْدِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْلِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ رُشْدًا مَنْكُورًا وَلَمْ يَشْرُطْ سَائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ, اقْتَضَى ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ بِوُجُودِ الْعَقْلِ مُوجِبًا لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَمَانِعًا مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ; فَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي إبْطَالِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ, وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي حَنِيفَةَ; وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ البقرة. وقوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَهُوَ نَظِيرُ قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِيهَا أَيْضًا, وَتَقْدِيرُهُ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ إذَا بَلَغُوا وَآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا.

مطلب في أن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور من إفراط أو تقصير

مطلب في أن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور من إفراط أو تقصير وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} فَإِنَّ السَّرَفَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ الْمُبَاحِ إلَى الْمَحْظُورِ, فَتَارَةً يَكُونُ السَّرَفُ فِي التَّقْصِيرِ وَتَارَةً فِي الْإِفْرَاطِ لِمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَائِزِ فِي الْحَالَيْنِ. وقَوْله تعالى: {وَبِدَاراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: "مُبَادَرَةً" وَالْمُبَادَرَةُ الْإِسْرَاعُ فِي الشَّيْءِ, فَتَقْدِيرُهُ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُبَادَرَةً أَنْ يَكْبَرُوا فَيُطَالِبُوا بِأَمْوَالِهِمْ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي حَدِّ الْكِبَرِ اسْتَحَقَّ الْمَالَ إذَا كَانَ عَاقِلًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِطَ إينَاسُ الرُّشْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ, وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إمْسَاكُ مَالِهِ بَعْدَمَا يَصِيرُ فِي حَدِّ الْكِبَرِ, وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْكِبَرِ هَهُنَا مَعْنًى; إذْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَالِهِ قَبْلَ الْكِبَرِ وَبَعْدَهُ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي حَدِّ الْكِبَرِ اسْتَحَقَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ. وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ حَدَّ الْكِبَرِ فِي ذَلِكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً; لِأَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ جَدًّا, وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ جَدًّا وَلَا يَكُونُ فِي حَدِّ الْكِبَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب أكل ولي اليتيم من ماله

بَابُ أَكْلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ, فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنَّ فِي حِجْرِي أَيْتَامًا لَهُمْ أَمْوَالٌ, وَهُوَ يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْت تَهْنَأُ جَرْبَاءَهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: أَلَسْت تَبْغِي ضَالَّتَهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: أَلَسْت تَلُوطُ حِيَاضَهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: أَلَسْت تَفْرُطُ عَلَيْهَا يَوْمَ وُرُودِهَا؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: فَاشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا غَيْرَ نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ وَلَا مُضِرٍّ بِنَسْلٍ. وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْوَصِيُّ إذَا احْتَاجَ وَضَعَ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ وَلَا يَكْتَسِي عِمَامَةً". فَشَرَطَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ, وَلَمْ يَشْرُطْ فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَيْرِ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فَقَالُوا: فِينَا نَزَلَتْ, إنَّ الْوَصِيَّ كَانَ إذَا عَمِلَ فِي نَخْلِ الْيَتِيمِ كَانَتْ يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ. وَقَدْ طُعِنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ, وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُمْ الْأَكْلُ لِأَجْلِ عَمَلِهِمْ لَمَا

ذكر اختلاف الفقهاء في تصديق الوصي على دفع المال إلى اليتيم

ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَصْدِيقِ الْوَصِيِّ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْوَصِيِّ إذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ: "إنَّهُ يُصَدَّقُ" وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْفَقْت عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ, صُدِّقَ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ, وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَلَكَ الْمَالُ; وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ أَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْيَتِيمِ" وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, قَالَ: "لِأَنَّ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ غَيْرُ الَّذِي ائْتَمَنَهُ كَالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ" وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَا مُصَدَّقٍ فِيهِ; لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الْأَمَانَاتِ كَهُوَ فِي الْمَضْمُونَاتِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْأَمَانَاتِ مِنْ الْوَدَائِعِ كَمَا يَصِحُّ فِي أَدَاءِ الْمَضْمُونَاتِ مِنْ الدُّيُونِ؟ فَإِذًا لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيهِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُصَدَّقًا فِي الرَّدِّ فَمَا مَعْنَى الْإِشْهَادِ مَعَ قَبُولِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قِيلَ لَهُ: فِيهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ ظُهُورِ أَمَانَتِهِ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُ فِي زَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي أَنْ لَا يُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا قَدْ ظَهَرَ رَدُّهُ, وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْيَتِيمِ فِي أَنْ لَا يَدَّعِيَ مَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيهِ, وَفِيهِ أَيْضًا سُقُوطُ الْيَمِينِ عَنْ الْوَصِيِّ إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ; وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَادَّعَى الْيَتِيمُ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَصِيِّ مَعَ يَمِينِهِ, وَإِذَا أَشْهَدَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُضَمَّنَةٌ بِالْإِشْهَادِ وَإِنْ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إلَى الْيَتِيمِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ, فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ صَدَّقَهُ عَلَى الْهَلَاكِ لَمْ يُضَمِّنْهُ, كَمَا أَنَّ الْمُودِعَ إذَا صَدَّقَ الْمُودَعَ فِي هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ لَمْ يُضَمِّنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: "إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ الْأَيْتَامُ لَمْ يُصَدَّقُوا". فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ بَعِيدٌ مِنْ مَعَانِي الفقه منتقض

باب الفرائض

بَابُ الْفَرَائِضِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا النَّسَبُ وَالْآخَرُ السَّبَبُ فَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ, إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] وأنزل الله تعالى

باب ميراث أولاد الابن

بَابُ مِيرَاثِ أَوْلَادِ الِابْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ أَوْلَادُ الصُّلْبِ وَأَوْلَادُ الِابْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الصُّلْبِ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَنِي ابْنٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِحُكْمِ الْآيَةِ, وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنٍ كَانَ لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ عَلَى سِهَامِ مِيرَاثِ وَلَدِ الصُّلْبِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَوْلَادَ الذُّكُورِ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ. وَاسْمُ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ كَمَا يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الصُّلْبِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِ هَاشِمٍ وَمِنْ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْأَوْلَادِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ وَعَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ جَمِيعًا; إلَّا أَنَّ أَوْلَادَ الصُّلْبِ يَقَعُ عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْمُ حَقِيقَةً وَيَقَعُ عَلَى أَوْلَادِ الِابْنِ مَجَازًا, وَلِذَلِكَ لَمْ يُرَادُوا فِي حَالِ وُجُودِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ وَلَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي سِهَامِهِمْ, وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ حَالَيْنِ: إمَّا أَنْ يُعْدَمَ وَلَدُ الصُّلْبِ رَأْسًا فَيَقُومُونَ مَقَامَهُمْ, وَإِمَّا أَنْ لَا يَحُوزَ وَلَدُ الصُّلْبِ الْمِيرَاثَ فَيَسْتَحِقُّونَ بَعْضَ الْفَضْلِ أَوْ جَمِيعَهُ, فَإِمَّا أَنْ يَسْتَحِقُّوا مِنْ أَوْلَادِ الصُّلْبِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَدُ الصُّلْبِ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الصُّلْبِ حَقِيقَةً وَوَلَدَ الِابْنِ مَجَازًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. قِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ لَمْ يُرَادُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مَتَى وُجِدَ أَوْلَادُ الصُّلْبِ, فَإِنَّ وَلَدَ الِابْنِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ مَعَهُمْ بِالْآيَةِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ وَلَدُ الصُّلْبِ فِي حَالِ وُجُودِهِمْ وَوَلَدُ الِابْنِ فِي حَالِ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ, فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَالَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَفِي الْأُخْرَى هُوَ مَجَازٌ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: "قَدْ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِوَلَدِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ" وَكَانَ لأحدهما

باب الكلالة

بَابُ الْكَلَالَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ

مطلب: في قول عمر: "ثلاث لأن يكون بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها

مطلب: في قول عُمَرُ: "ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إلي من الدنيا وما فيها ... مطلب: في قول عُمَرُ: "ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إلي من الدنميا وما فيها". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَالرِّبَا" وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَا سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْته عَنْ الْكَلَالَةِ, حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: "يَكْفِيك آية الصيف"

مطلب: في قوله عليه السلام: "من قال في القوآن برأيهى فأصاب فقد أخطأ"

مطلب: في قوله عليه السلام: "من قال في القوآن برأيهى فأصاب فقد أخطأ" وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا رَوَى أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ;} إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَالَ فِيهِ بِمَا سَنَحَ فِي وَهْمِهِ وَخَطَرَ عَلَى بَالِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ, وَأَنَّ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى حُكْمِهِ وَاسْتَنْبَطَ مَعْنَاهُ فَحَمَلَهُ عَلَى الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهُ فَهُوَ مَمْدُوحٌ مَأْجُورٌ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ, قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: "الْكَلَالَةُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ وَلَا ابْنٌ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ كَلَالَةٌ, مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَيْ تَعَطَّفَ النَّسَبُ عَلَيْهِ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "مَنْ قَرَأَهَا يُورِثُ بِالْكَسْرِ أَرَادَ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَلَّذِي قَرَأَهُ بِالْكَسْرِ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْكَلَالَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْإِحَاطَةُ, فَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ, وَمِنْهُ الْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ; فَالْكَلَالَةُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَحَاطَ بِالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَتَكَلَّلَهُمَا وَتَعَطَّفَ عَلَيْهِمَا, وَالْوَلَدُ وَالْوَالِدُ لَيْسَا بِكَلَالَةٍ; لِأَنَّ أَصْلَ النَّسَبِ وَعَمُودَهُ الَّذِي إلَيْهِ يَنْتَهِي هُوَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ, وَمَنْ سِوَاهُمَا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا بِالِانْتِسَابِ عَنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوِلَادَةِ مِمَّنْ نُسِبَ إلَيْهِ كَالْإِكْلِيلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرَّأْسِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ وَأَنَّ الْوَلَدَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلَالَةِ كَذَلِكَ الْوَالِدُ; لِأَنَّ نِسْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْمَيِّتِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ; لِأَنَّ نَسَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ طَرِيقِ وِلَادٍ بَيْنَهُمَا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَنْ عَدَا الْوَلَدَ وَأَخْرَجَ الْوَلَدَ وَحْدَهُ مِنْ الْكَلَالَةِ, أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْوَالِدِ وَكَأَنَّهُ بَعْضُهُ وَلَيْسَ الْوَالِدُ مِنْ الْوَلَدِ كَمَا لَيْسَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْأُخُوَّةِ, فَاعْتَبَرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْكَلَالَةَ بِمَنْ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَبَعْضُهُ, فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْهُ فَلَيْسَ بِكَلَالَةٍ. وَقَدْ كَانَ اسْمُ الْكَلَالَةِ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: فَإِنِّي وَإِنْ كُنْت ابْنَ فَارِسِ عَامِرٍ ... وَفِي السِّرِّ مِنْهَا وَالصَّرِيحِ الْمُهَذَّبِ فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ كَلَالَةٍ ... أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوَ بِأُمٍّ ولا أب

باب العول

بَابُ الْعَوْلِ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا الْتَوَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَدَافَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَلَا أَيُّكُمْ أَخَّرَ; وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا هُوَ أَوْسَعُ لِي أَنْ أُقَسِّمَ الْمَالَ عَلَيْكُمْ بِالْحِصَصِ; وَأُدْخِلَ عَلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْلِ الْفَرِيضَةِ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ فِي بِنْتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ قَالَ: "صَارَ ثَمَنُهَا تِسْعًا", وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْهُ, وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوَّلُ مَنْ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِالْعَوْلِ, قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ الْعَبَّاسِ: أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ قَدَّمَ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ لَمَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ فَقِيلَ لَهُ: وَأَيُّهَا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ وَأَيُّهَا الَّتِي أَخَّرَ؟ قَالَ: كُلُّ فَرِيضَةٍ لَمْ تُزَلْ عَنْ فَرِيضَةٍ إلَّا إلَى فَرِيضَةٍ فَهِيَ الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ, وَكُلُّ فَرِيضَةٍ إذَا زَالَتْ عَنْ فَرْضِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَا بَقِيَ فَهِيَ الَّتِي أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى; فَأَمَّا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُمُّ; لِأَنَّهُمْ لَا يَزُولُونَ مِنْ فَرْضٍ إلَّا إلَى فَرْضٍ, وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ نَزَلْنَ مِنْ فَرْضٍ إلَى تَعْصِيبٍ مَعَ الْبِنْتَيْنِ وَالْإِخْوَةِ فَيَكُونُ لَهُنَّ مَا بَقِيَ مَعَ الذُّكُورِ, فَنَبْدَأُ بِأَصْحَابِ السِّهَامِ ثُمَّ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَا بَقِيَ إذَا كَانُوا عَصَبَةً. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقُلْنَا لَهُ: فَهَلَّا رَاجَعْت فِيهِ عُمَرَ فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ امْرَأً مَهِيبًا وَرِعًا; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ كَلَّمْت فِيهِ عُمَرَ لَرَجَعَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ ابْنَ عباس إمام عدل فأمضى أمرا

باب المشركة

بَابُ الْمُشْرَكَةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْرَكَةِ وَهِيَ أَنْ تَخْلُفَ الْمُوَرِّثَةُ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتِهَا لِأُمِّهَا وَإِخْوَتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمَّهَا, فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ, وَسَقَطَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ". وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانُوا مِائَةً أَكُنْتُمْ تَزِيدُونَهُمْ عَلَى الثُّلُثِ؟ " قَالُوا: لَا, قَالَ: "فَأَنَا لَا أُنْقِصُهُمْ مِنْهُ شَيْئًا"; وَجَعَلَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَصَبَةً فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ وَقَدْ حَالَتْ السِّهَامُ دُونَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ, ثُمَّ يَرْجِعُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَيُشَارِكُونَهُمْ فَيَكُونُ الثُّلُثُ الَّذِي أَخَذُوهُ بَيْنَهُمْ سَوَاءً" وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: "شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَشْرَكَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قَضَيْت عَامَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ هَذَا قَالَ: كَيْفَ قَضَيْت؟ قَالَ: جَعَلْته لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَلَمْ تُعْطِ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ شَيْئًا, قَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ حَتَّى احْتَجَّ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا أَبٌ وَلَيْسَ لَهُمْ أَبٌ وَلَنَا أُمٌّ كَمَا لَهُمْ, فَإِنْ كُنْتُمْ حَرَمْتُمُونَا بِأَبِينَا فَوَرِّثُونَا بِأُمِّنَا كَمَا وَرَّثْتُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمِّهِمْ وَاحْسَبُوا أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا, أَلَيْسَ قَدْ تَرَاكَضْنَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ: صَدَقْتُمْ فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي تَرْكِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ; وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فَنَصَّ عَلَى فَرْضِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ, وَبَيَّنَ أَيْضًا حُكْمَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُمْ فَرْضًا مُسَمًّى وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ التَّعْصِيبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ; وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا لأم وإخوة وأخوات لأب وأم أن

ذكر اختلاف السلف في ميراث الأخت مع البنت

ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مِيرَاثِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي رَجُلٍ خَلَفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَصَبَةً أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ, فَجَعَلُوهَا عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: "لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْعَصَبَةِ وَإِنْ بَعُدَ نَسَبُهُمْ, وَلَا حَظَّ لِلْأُخْتِ فِي الْمِيرَاثِ مَعَ الْبِنْتِ"; وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَضَى بِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ وَزَيْدًا كَانُوا يَجْعَلُونَ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً فَيُورَثُونَهُنَّ فَاضِلَ الْمَالِ, فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله؟

مطلب: اختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم

مطلب: اختلف السَّلَفُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ, فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ: "لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَهُمَا نِصْفَانِ" وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ: "الْمَالُ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ", وَقَالَا: "ذُو السَّهْمِ أَحَقُّ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ" وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ أَنَّ لَهُمَا الثُّلُثَ بِنَسَبِ الْأُمِّ وَمَا بَقِيَ فَلِابْنِ الْعَمِّ خَاصَّةً, وَلَمْ يَجْعَلُوا ابْنَ الْعَمِّ أَحَقَّ بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ لِاجْتِمَاعِ السَّهْمِ وَالتَّسْمِيَةُ لَهُ دُونَ الْآخَرِ, كَذَلِكَ حُكْمُ ابْنَيْ الْعَمِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَجْلِ اخْتِصَاصِهِ بِالسَّهْمِ وَالتَّعْصِيبِ. وَشَبَّهَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ بِالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ, وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مُشْبِهًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ نَسَبَهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ, فَاعْتُبِرَ فِيهَا أَقْرَبُهُمَا إلَيْهِ, وَهُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ, وَلَا يَسْتَحِقُّ بِقَرَابَتِهِ مِنْ الْأُمِّ سَهْمَ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ بَلْ إنَّمَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ حُكْمُ الْأُخُوَّةِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ ابْنَا الْعَمِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ; لِأَنَّك تُرِيدُ أَنْ تُؤَكِّدَ بِالْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ مَا لَيْسَ بِأُخُوَّةٍ, وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَكِّدَهُ بِهَا وَيَدُلُّك عَلَى هَذَا أَنَّ نِسْبَتَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ابْنُ الْعَمِّ لَا يُسْقِطُ سَهْمَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ بَلْ يَرِثُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ سَهْمُ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَمٍّ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَوْ تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَزَوْجًا وَأَخًا لِأُمٍّ هُوَ ابْنُ عَمٍّ أَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسَ وَلَمْ يَسْقُطْ سَهْمُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ابْنُ عَمٍّ؟ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَإِخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ والأم,

باب الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية

باب الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ, وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ هَذَيْنِ, وَلَيْسَتْ" أَوْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَحَدِهِمَا بَلْ قَدْ تَنَاوَلْتُهُمَا جَمِيعًا, وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} مُسْتَثْنًى عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ, وَمَتَى دَخَلَتْ "أَوْ" عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى" الْوَاوِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فَكَانَتْ" أَوْ" فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَنْزِلَةِ" الْوَاوِ" فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا. وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلتَّبْدِئَةِ بِهَا عَلَى الدَّيْنِ; لِأَنَّ "أَوْ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمِيرَاثِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ جَارِيَةٌ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَعَزْلِ حِصَّةِ الْوَصِيَّةِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَتْ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ فِي الثُّلُثَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ سِهَامُ سَائِرِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ جَارِيَةٌ فِي الثُّلُثَيْنِ دُونَ الثُّلُثِ الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ. فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ ذِكْرِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ لِيُعَلِّمَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُخَالِفَةً لِلدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ لَدَخَلَ النُّقْصَانُ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْوَرَثَةِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاقِي وَإِنْ اسْتَغْرَقَهُ وَبَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا, فَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ وَيَأْخُذُ شَبَهًا مِنْ الْغَرِيمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَهُوَ أَنَّ سهام أهل المواريث معتبرة بعد

باب مقدار الوصية الجائزة

بَابُ مِقْدَارُ الْوَصِيَّةِ الْجَائِزَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ; لِأَنَّهَا مَنْكُورَةٌ لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ; إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَصِيَّةُ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا بِجَمِيعِهِ, وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} فَأَطْلَقَ إيجَابَ الْمِيرَاثِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ, فَلَوْ اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَصَارَ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} مَنْسُوخًا بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ, فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي إيجَابِ الْمِيرَاثِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ, فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى بَعْضِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ حَتَّى نَكُونَ مُسْتَعْمِلِينَ لِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} يَعْنِي فِي مَنْعِ الرَّجُلِ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ تَأْوِيلِهِ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي الِاقْتِصَارِ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ, مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضَ أَبِي مَرَضًا شَدِيدًا قَالَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ بِمَكَّةَ مَرَضًا أَشْفَى مِنْهُ, فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي, أَفَأَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: "لَا" قَالَ: فَبِالشَّطْرِ؟ "قَالَ: "لَا" قال: فبالثلث؟ قال: "لثلث وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَإِنَّك إنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأَتِك" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي؟ قَالَ "إنَّك إنْ تُخَلَّفْ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا تَزْدَادُ بِهِ إلَّا رِفْعَةً وَدَرَجَةً, لَعَلَّك أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ", لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرَ ضُرُوبًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْفَوَائِدِ, منها: أن الوصية

مطلب: في الوضية بالزكاة والنذور وسائر الحقوق الواجبة لا تجوز إلا من الثلث

مطلب: في الوضية بالزكاة والنذور وسائر الحقوق الواجبة لا تجوز إلا مِنْ الثُّلُثِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ" وَحَدِيثُ ابن عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: "جَعَلْت لَك نَصِيبًا فِي مَالِك حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِكَ" يدل جميع ذلك على

باب الوصية للوارث

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَرَوَى عَمْرُو بْنُ خَارِجَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ". وَنَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِيهَا: "أَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" فَوَرَدَ نَقْلُ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَاسْتِفَاضَةِ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ مَا زَادَ, لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ نَقْلِ الِاسْتِفَاضَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُ وَتَلَقِّيهمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ. وَهَذَا عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَالنَّافِي لِلرَّيْبِ وَالشَّكِّ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ: "إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا أَجَازَتْهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ, وَتَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي لَا تَكُونُ هِبَةً مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ; لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ لَيْسَتْ بِإِجَازَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمَوْرُوثِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْوَرَثَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ فِي حَيَاتِهِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ. وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ". وقال ابن القاسم عن مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الَّذِي قَدْ بَانَ عَنْ أَبِيهِ وَالْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا, فَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَبَنَاتُهُ اللَّاتِي لَمْ يَبِنَّ وَكُلُّ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ احْتَلَمَ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا, وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ وَمَنْ خَافَ مِنْهُمْ أَنَّهُ إن لم يجز لحقه ضرر منه في قَطْعِ النَّفَقَةِ إنْ صَحَّ, فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا". وَقَوْلُ اللَّيْثِ فِي هَذَا كَقَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ أَجَازُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ جَازَتْ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَسْخُهَا فِي الْحَيَاةِ كَذَلِكَ لَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُمْ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا بَعْدُ شَيْئًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ جَازَ" وَهُوَ قَوْلُ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ, وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ وَرِثَهُ مَا يُسَمِّي لَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ أَكْثَرَ, وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَفَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وقَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فَجَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحُلَفَاءِ, وَلَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ مِيرَاثَ الْحُلَفَاءِ أَصْلًا بَلْ جَعَلَ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى مِنْهُمْ كَمَا جَعَلَ الِابْنَ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَوُو الْأَنْسَابِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّوَارُثِ فِي الْحَلِفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَقَالَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ, لَوْلَا قِيَامُ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ وَإِيجَابِ نَصِيبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ الْأَقْرَبِينَ, فَمَتَى عَدِمَ مَنْ وَجَبَ بِهِ تَخْصِيصُ الْوَصِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَالِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَاهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ: "إنَّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْعَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "لَيْسَ مِنْ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ أَحْرَى أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ وَارِثٌ مِنْكُمْ مَعْشَرَ هَمْدَانَ, فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلْيَضَعْ مَالَهُ حَيْثُ أَحَبَّ", وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ إذَا مَاتَ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمُونَ مَالَهُ مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَالٌ لَا مَالِكَ لَهُ فَيَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يَرَى, فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الرَّجُلُ مَعَ ابْنِهِ وَمَعَ أَبِيهِ وَالْبَعِيدُ عَنْ الْقَرِيبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ; لِأَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةِ الْأُبُوَّةِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ; لِأَنَّ سَبِيلَ الْمِيرَاثِ أَنْ لَا يَخُصَّ بِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دون

باب الضرار في الوصية

بَابُ الضِّرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يُقِرَّ فِي وَصِيَّتِهِ بِمَالٍ أَوْ بِبَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ زَبًّا لِلْمِيرَاثِ عَنْ وَارِثِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ. وَمِنْهَا أَنْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي مَرَضِهِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَى وَارِثِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي مَرَضِهِ وَيُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ مَالَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي مَرَضِهِ إضْرَارًا مِنْهُ بِوَرَثَتِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَعَدَّى فَيُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِمَّا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلٌّ مِنْ الْمُضَارَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ, وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي فَحْوَى قَوْلِهِ لِسَعْدٍ: "الثُّلُثُ والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصمد بن حسان قال: حدثنا سفيان الثوري عَنْ دَاوُد يَعْنِي ابْنَ أَبِي هِنْدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ" ثُمَّ قَرَأَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ: "فِي الْوَصِيَّةِ" {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ: "فِي الْوَصِيَّةِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا وَمُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَا: حَدَّثَنَا حُمَيَدٌ بْنُ زادويه قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بن المغيرة عن داود بن

باب من يحرم الميراث مع وجود النسب

بَابُ مَنْ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ, فَبَعْضُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ, فَمَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ وَأَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ; وَقَدْ بَيَّنَّا مِيرَاثَ هَؤُلَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْهُ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَمِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ, فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا, وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ ابْنِ بَابَاهُ1 عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ فَارْتَفَعُوا إلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ وَتَرَكَ أَخَاهُ مُسْلِمًا, فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص".

_ 1 قوله: "ابن باباه" اسمه عبد الله واسم أبيه باباه كما في خلاصة تهذيب الكمال "لمصححه".

مطلب: في قول مسروق: ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية

مطلب: في قَوْلُ مَسْرُوقٍ: مَا أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَضِيَّةً أعجب من قضية قضاها معاوية وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قَالَ مَسْرُوقٌ: مَا أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَضِيَّةً أَعْجَبُ مِنْ قَضِيَّةٍ قَضَاهَا مُعَاوِيَةُ قَالَ: كَانَ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَلَا يُوَرِّثُ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ مِنْ الْمُسْلِمِ, قَالَ: فَقَضَى بِهَا أَهْلُ الشَّامِ; قَالَ دَاوُد: فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَدَّهُمْ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ. وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشعبي: أن

مطلب: تأويل لا يقضى به على النص

مطلب: تأويل لا يقضى به على النص وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ, وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ فِيهَا قَوْلَهُ: "الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ" وَالتَّأْوِيلُ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ وَإِنَّمَا يُرَدُّ التَّأْوِيلُ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَيُحْمَلُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ دُونَ مُخَالِفَتِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ" يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ تُرِكَ عَلَى إسْلَامِهِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ رُدَّ إلَيْهِ; وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ مَا تَأَوَّلَهُ مُعَاذٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ خَبَرِ أُسَامَةَ فِي مَنْعِ التَّوَارُثِ, إذْ غَيْرُ جَائِزٍ رَدُّ النَّصِّ بِالتَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ. وَالِاحْتِمَالُ أَيْضًا لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ; لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ, فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مسروق: "ما أحدث في الإسلام قضية أعجب مِنْ قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا مُعَاوِيَةُ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ" فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْمَذْهَبِ لِإِخْبَارِهِ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ, وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَضِيَّةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يُوَرَّثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ قَبْلِ قَضِيَّةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يُوَرَّثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا عَلَيْهِمْ, بَلْ هُوَ سَاقِطُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ: إنَّ عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول; والله أعلم.

باب ميراث المرتد

بَابُ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ عَلَى أَنْحَاء ثَلَاثَةٍ: فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحَمَّادٌ وَالْحَكَمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَشَرِيكٌ: "يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ". وَقَالَ رَبِيعَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ أَبِي ليلى ومالك والشافعي:

مطلب: في حكم ردة الوارث بعد موت مورثه

مطلب: في حكم ردة الوارث بعد موت مورثه وَأَيْضًا لَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثًا فَمَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ لَوَرَثَتِهِ, وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ لَمْ يَبْطُلْ مِيرَاثُهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مُرْتَدًّا وَقْتَ الْمَوْتِ, فَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أَعْتَقَ بَعْدَ الْمَوْت قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ, والله أعلم.

باب حد الزانيين

بَابُ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَدَّ الزَّانِيَةِ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {سَبِيلاً} , قَالَ: وَقَالَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ قَبْلَ أَنْ

مطلب في أن رجم المحصن ثبت بالسنة

مطلب في أن رجم المحصن ثبت بالسنة قَالَ: وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَهُوَ سَبِيلُهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا; يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ حُكْمُ الزَّانِيَةِ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ مَا أَوْجَبَ مِنْ حَدِّهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا, وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا, وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُكْمًا عَامًّا فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ. وقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: "أَنَّ الْمُرَادَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الْبِكْرَيْنِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّهُ أَرَادَ الرَّجُلَيْنِ الزَّانِيَيْنِ". وَهَذَا التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ يُقَالُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّثْنِيَةِ هَهُنَا; إذْ كَانَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَجِيئَانِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ; لِأَنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, أَوْ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْجِنْسِ الشَّامِلِ لَجَمِيعِهِمْ; وَقَوْلُ الْحَسَنِ صَحِيحٌ وَتَأْوِيلُ السُّدِّيِّ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا, فَاقْتَضَتْ الْآيَتَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا أَنَّ حَدَّ الْمَرْأَةِ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسَ جَمِيعًا إلَى أَنْ تَمُوتَ, وَحَدَّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرُ وَالضَّرْبُ بِالنِّعَالِ; إذْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَخْصُوصَةً فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى بِالْحَبْسِ وَمَذْكُورَةً مَعَ الرَّجُلِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَذَى فَاجْتُمِعَ لَهَا الْأَمْرَانِ جَمِيعًا, وَلَمْ يَذْكُرْ لِلرِّجَالِ إلَّا الْأَذَى فَحَسْبُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا فَأَفْرَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالْحَبْسِ وَجُمِعَا جَمِيعًا فِي الْأَذَى, وَتَكُونُ فَائِدَةُ إفْرَادِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ إفْرَادَهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ تَمُوتَ وَذَلِكَ حُكْمٌ لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ الرَّجُلُ, وَجُمِعَتْ مَعَ الرَّجُلِ فِي الْأَذَى لَاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْحَبْسِ لِلْمَرْأَةِ مُتَقَدِّمًا لِلْأَذَى, ثُمَّ زِيدَ فِي حَدِّهَا وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّجُل الْأَذَى, فَاجْتَمَعَ لِلْمَرْأَةِ الْأَمْرَانِ وَانْفَرَدَ الرَّجُلُ بِالْأَذَى دُونَهَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَوْتِ أَوْ السَّبِيلَ قَدْ كَانَ حَدَّهَا, فَإِذَا أُلْحِقَ بِهِ الْأَذَى صَارَ مَنْسُوخًا; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخَ; إذْ كَانَ الْحَبْسُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمِيعَ حَدِّهَا, وَلَمَّا وَرَدَتْ الزِّيَادَةُ صَارَ بَعْضَ حَدِّهَا, فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كون

مطلب الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ

مطلب الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْتِيبِ الْآيَتَيْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ قَوْله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} نزلت قبل قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُوضَعَ فِي التِّلَاوَةِ بَعْدَهُ, فَكَانَ الْأَذَى حَدًّا لَهُمَا جَمِيعًا, ثُمَّ الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْأَذَى. وَذَلِكَ يَبْعُدُ مِنْ وَجْهٍ; لأن قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} " الهاء" التي في قوله: {يَأْتِيَانِهَا} كِنَايَةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُظْهِرٍ مُتَقَدِّمٍ مَذْكُورٍ فِي الْخِطَابِ أَوْ مَعْهُودٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ المخاطب, وليس في قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} دَلَالَةٌ مِنْ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَاحِشَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً رَاجِعَةً إلَى الْفَاحِشَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ; إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كِنَايَةً عَنْهَا لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ وَإِعْلَامِ الْمُرَادِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] لِأَنَّ مِنْ مَفْهُومِ ذِكْرِ الْإِنْزَالِ أَنَّهُ الْقُرْآنُ, وَفِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أَنَّهَا الْأَرْضُ, فَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ عَنْ ذِكْرِ الْمَكِنِيِّ عَنْهُ; فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ مَعَانِي الْآيَتَيْنِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَا نَزَلَتَا مَعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَذَى نَازِلًا بَعْدَ الْحَبْسِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى مَنْ أُرِيدَ بِالْحَبْسِ مِنْ النِّسَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا روي عن السدي أن قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} إنَّمَا كَانَ حُكْمًا فِي الْبِكْرَيْنِ خَاصَّةً, وَالْأَوْلَى فِي الثَّيِّبَاتِ دُونَ الْأَبْكَارِ. إلَّا أَنَّ هَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ, وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى حَقِيقَةِ مُقْتَضَاهُمَا; وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تُصْرَفُ وُجُوهُ الِاحْتِمَالِ فِي حُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَتَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي نَسْخِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الزَّانِيَيْنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّبِيلَ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُنَّ الْجَلْدُ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمُ لِلْمُحْصَنِ" وَعَنْ قَتَادَةَ مثل

مطلب: دلالة تكفي عن ذكر مرجع الضمير

مطلب: دلالة تكفي عن ذكر مرجع الضمير وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَا نَسَخَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ, فَقَالَ قَائِلُونَ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَدْ كان قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} فِي الْبِكْرَيْنِ, فَنُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, وَبَقِيَ حُكْمُ الثَّيِّبِ مِنْ النِّسَاءِ الْحَبْسُ فَنُسِخَ بِالرَّجْمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: نُسِخَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا, الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ". وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَاسِطَةُ حُكْمٍ, وَأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ حِينَئِذٍ; لَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَزَلَتْ كَانَ السَّبِيلُ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" وَلَمَّا صَحَّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِنَسْخِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ نَزَلَتْ بَعْدَهُ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ; إذْ نُسِخَ بِقَوْلِ: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى بِنَصِّ التَّنْزِيلِ. فإن قيل: فقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى كَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حُكْمَ الْمَرْأَةِ الثَّيِّبِ كَانَ الْحَبْسَ, وَإِنَّمَا قَالَ السُّدِّيُّ إنَّ الْأَذَى كَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ خَاصَّةً; وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ الْحَبْسِ وَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فِي الثَّيِّبِ, فَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ", فَلَمْ يَخْلُ الْحَبْسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ, وَهِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ; فَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ حِين كَانَ مَحْصُورًا فَاسْتَشْهَدَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" , وَقِصَّةُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَرَجْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمَا قَدْ نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ لَا يَتَمَارَوْنَ فِيهِ.

مطلب: في انكار الخوارج الرجم

مطلب: في انكار الخوارج الرجم فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْخَوَارِجُ بِأَسْرِهَا تُنْكِرُ الرَّجْمَ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَنْقُولًا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لَمَا جَهِلَتْهُ الْخَوَارِجُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ سَبِيلَ الْعِلْمِ بِمَخْبَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ السَّمَاعُ مِنْ نَاقِلِيهَا وَتَعَرُّفُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ, وَالْخَوَارِجُ لَمْ تُجَالِسْ فُقَهَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقَلَةَ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ وَانْفَرَدُوا عَنْهُمْ غَيْرَ قَابِلِينَ لَأَخْبَارِهِمْ; فَلِذَلِكَ شَكُّوا فِيهِ وَلَمْ يُثْبِتُوهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ أَوَائِلِهِمْ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ ثُمَّ جَحَدُوا مُحَامَلَةً مِنْهُمْ عَلَى مَا سَبَقُوا إلَى اعْتِقَادِهِ مِنْ رَدِّ أَخْبَارِ مَنْ لَيْسَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ, وَقَلَّدَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهِ, أَوْ الَّذِينَ عَرَفُوهُ كَانُوا عَدَدًا يَسِيرًا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ كِتْمَانُ مَا عَرَفُوهُ وَجَحَدُوهُ, وَلَمْ يَكُونُوا صَحَابَةً فَيَكُونُوا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعَايَنَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ السَّمَاعِ مِنْ الْمُعَايِنِينَ لَهُ, فَلَمَّا خَلَوْا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفُوهُ; أَلَا تَرَى أَنَّ فَرَائِضَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مَنْقُولَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَلَا يَعْرِفُهَا إلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا فَقِيهٌ قَدْ سَمِعَهَا فَثَبَتَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِينَ لَهَا وَإِمَّا رَجُلٌ صَاحِبُ مَوَاشٍ تَكْثُرُ بَلْوَاهُ بِوُجُوبِهَا فَيَتَعَرَّفُهَا لِيَعْلَمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا؟ وَمِثْلُهُ أَيْضًا إذَا كَثُرَ سَمَاعُهُ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا, وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ لَمْ يَعْلَمْهَا; وَهَذَا سَبِيلُ الْخَوَارِجِ فِي جُحُودِهِمْ الرَّجْمُ وَتَحْرِيمُ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ أَهْلُ الْعَدْلِ بِنَقْلِهِ دُونَ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَحْكَامًا: مِنْهَا اسْتِشْهَادُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى الزِّنَا. وَمِنْهَا الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَذَى لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا. وَمِنْهَا سُقُوطُ الْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِالتَّوْبَةِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَهَذِهِ التَّوْبَةُ إنَّمَا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِي إسْقَاطِ الْأَذَى دُونَ الْحَبْسِ, وَأَمَّا الْحَبْسُ فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ السَّبِيلِ, وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ السَّبِيلَ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ, وَنُسِخَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ, فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الشُّهُودِ بَاقٍ فِي الْحَدِّ الَّذِي نُسِخَ بِهِ الْحَدَّانِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]

مطلب في جواز تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما

مطلب في جواز تَعَمُّدَ النَّظَرِ إلَى الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فَلَمْ يُنْسَخْ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ ولم ينسخ الاستشهاد أيضا, وهذا

مطلب فيما تضمنه قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} من حقوق الورأة على الزوج

مطلب فيما تضمنه قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} من حقوق الورأة على الزوج وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَمْرٌ لِلْأَزْوَاجِ بِعِشْرَةِ نِسَائِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ, وَمِنْ الْمَعْرُوف أَنْ يُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَتَرْكِ أَذَاهَا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَالْمَيْلُ إلَى غَيْرِهَا وَتَرْكِ الْعُبُوسِ وَالْقُطُوبِ فِي وَجْهِهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .

مطلب: في كراهة الطلاق وقوله عليه السلام: "أبغض الحلال عند الله الطلاق"

مطلب: في كراهة الطلاق وقوله عليه السلام: "أبغض الحلال عند الله الطلاق" وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى إمْسَاكِهَا مَعَ كَرَاهَةٍ لَهَا; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوَافِقُ مَعْنَى ذَلِكَ, حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ وَاصِلٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ النِّيلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُهَلَّبُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ". فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّلَاقِ وَالنَّدْبِ إلَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهَا, وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْخِيرَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَنَا فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا نَكْرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الْآيَةَ, قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إيجَابَ الْمَهْرِ لَهَا تَمْلِيكًا صَحِيحًا وَمَنْعَ الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا, وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَالِمٌ لَهَا سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ بِهَا أَوْ أَمْسَكَهَا, وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي حَظْرَ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ, فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ إذَا طَلَّقَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي حَظْرِ الْأَخْذِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ; وَقَدْ خَصَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ;

مطلب: فيما تضمنه قوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا} من الأحكام

مطلب: فيما تضمنه قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} من الأحكام وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ هِبَةً لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا; لِأَنَّهَا مِمَّا آتَاهَا, وَعُمُومُ اللَّفْظِ قَدْ حَظَرَ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ وَيُحْتَجُّ فِيمَنْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَقَدْ أَعْطَاهَا صَدَاقَهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي أَعْطَاهَا عَيْنًا كَانَ أَوْ عَرَضًا عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ. وَيَحْتَجُّ بِهِ فِيمَنْ أَسَلَفَ امْرَأَتَهُ نَفَقَتَهَا لِمُدَّةٍ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ الْمُدَّةِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي مِيرَاثِهَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى بَعْدَ مَوْتِهَا مُسْتَبْدِلًا بِهَا مَكَانَ الْأُولَى, فَظَاهِرُ اللَّفْظِ قَدْ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْحَالَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا عَقِبَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوَّلِ الْخِطَابِ فِيمَا أَعْطَاهَا هُوَ الْمَهْرُ دُونَ غَيْرِهِ; إذْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَهْرِ دُونَ مَا سِوَاهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْخِطَابِ عُمُومًا فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ, وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ فِيهِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ خُصُوصَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ, وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ أَنَّ مَهْرَهَا وَاجِبٌ لَا يُبْطِلُهُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَ الِاسْتِبْدَالِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مَعَ شُمُولِ الْحَظْرِ لِسَائِرِ الْأَحْوَالِ إزَالَةُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ حُصُولِ الْبُضْعِ لَهَا وَسُقُوطِ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْهُ بِطَلَاقِهَا وَأَنَّ الثَّانِيَةَ قَدْ قَامَتْ مَقَامَ الْأُولَى فَتَكُونُ أَوْلَى بِالْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا فَنَصَّ عَلَى حَظْرِ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الْحَالِ, وَدَلَّ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ إذَا لَمْ يُبِحْ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ بِضْعِهَا, فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فِي اسْتِبَاحَةِ بُضْعِهَا وَكَوْنِهِ أَمْلَكَ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا. وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى حَظْرَ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى بِأَنْ جَعَلَهُ ظُلْمًا كَالْبُهْتَانِ, وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يُبَاهِتُ بِهِ مُخْبِرُهُ وَيُكَابِرُ بِهِ مِنْ يُخَاطِبُهُ, وَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَذِبِ وَأَفْحَشُهُ; فَشَبَّهَ أَخْذَ مَا أَعْطَاهَا بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْبُهْتَانِ فِي قُبْحِهِ فَسَمَّاهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .

مطلب: في قول الفراء أن الإفضاء هو الخلوة

مطلب: في قول الفراء أن الإفضاء هو الخلوة قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْإِفْضَاءَ هُوَ الْخَلْوَةُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ. وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ حُجَّةٌ فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ اللُّغَةِ, فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْإِفْضَاءِ يَقَعُ عَلَى الْخَلْوَةِ فَقَدْ مَنَعَتْ الْآيَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَالطَّلَاقِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} قَدْ أَفَادَ الْفُرْقَةَ وَالطَّلَاقَ, وَالْإِفْضَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ, وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بِنَاءٌ حَاجِزٌ عَنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ, فَسُمِّيت الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ وَالدُّخُولِ. وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَقُولُ: إنَّ الْفَضَاءَ السَّعَةُ, وَأَفْضَى: إذَا صَارَ فِي الْمُتَّسَعِ مِمَّا يَقْصِدُهُ. وَجَائِزٌ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ أَيْضًا أَنْ تُسَمَّى الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لَوُصُولِهِ بِهَا إلَى مَكَانِ الْوَطْءِ وَاتِّسَاعِ ذَلِكَ بِالْخَلْوَةِ, وَقَدْ كَانَ يَضِيقُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهَا قَبْلَ الْخَلْوَةِ, فَسُمِّيت الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لِهَذَا الْمَعْنَى, فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مَعَ إفْضَاءِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ, وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى مَكَانِ الْوَطْءِ وَبَذْلُهَا ذَلِكَ لَهُ وَتَمْكِينُهَا إيَّاهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا. فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُ الزَّوْجَ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمَرِيدُ لِلْفُرْقَةِ دُونَهَا, وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَهْرِهَا, وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَجَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فَقِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ النُّشُوزُ, وَقَالَ غَيْرُهُ: "هِيَ الزِّنَا". وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} . وَذَلِكَ غَلَطٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} قَدْ أَفَادَ حَالَ كَوْنِ النُّشُوزِ مِنْ قِبَلِهِ, وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ حَالٍ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى, وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَكُونُ النُّشُوزُ مِنْهَا وَافْتَدَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ مِنْهُ, فَهَذِهِ حَالٌ غَيْرُ تِلْكَ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَالَيْنِ مخصوصة بحكم دون الأخرى.

مطلب: في قوله تعالى: {وأخذن منكم ميثاقا غليظا}

مطلب: في قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ قَوْلُهُ: {فََإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . قَالَ قَتَادَةُ: "وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّاكِحِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ: اللَّهُ عَلَيْك لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي يُسْتَحَلُّ بِهَا الْفَرْجُ". وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ قَوْلُ

باب ما يحرم من النساء

بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ قَالَ: الَّذِي حَصَّلْنَاهُ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ, تَقُولُ الْعَرَبُ: "أَنْكَحْنَا الْفَرَا فَسَنَرَى" هُوَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ لِلْأَمْرِ يَتَشَاوَرُونَ فِيهِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ عَنْ مَاذَا يَصْدُرُونَ فِيهِ, مَعْنَاهُ: جمعنا بين الحمار وأتانه.

مطلب: في النكاح يطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازا

مطلب: في النكاح يطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذًا كَانَ اسْمُ النِّكَاحِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ مَوْضُوعًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ, ثُمَّ وَجَدْنَاهُمْ قَدْ سَمَّوْا الْوَطْءَ نَفْسَهُ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَمَنْكُوحَةٌ غَيْرُ مَمْهُورَةٍ ... وَأُخْرَى يُقَالُ لَهُ فَادِهَا يَعْنِي الْمَسْبِيَّةَ الْمَوْطُوءَةَ بِغَيْرِ مَهْرٍ وَلَا عَقْدٍ, وَقَالَ الْآخَرُ: وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... وَأُخْرَى عَلَى عَمٍّ وَخَالٍ تَلْهَفُ وَهَذَا يَعْنِي الْمَسْبِيَّةَ أَيْضًا; وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا: فَنَكَحْنَ1 أَبْكَارًا وَهُنَّ بِأُمَّةٍ ... أَعْجَلْنَهُنَّ مَظِنَّةَ الْإِعْذَارِ وَهُوَ يَعْنِي الْوَطْءَ أَيْضًا; وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ. وَقَدْ تَنَاوَلَ الِاسْمُ الْعَقْدَ أَيْضًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ دُونَ الْوَطْءِ, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْت مِنْ سِفَاحٍ" ; فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ, وَالثَّانِي: دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ, لَوْلَا ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: أَنَا مِنْ نِكَاحٍ, إذْ كَانَ السِّفَاحُ لَا يَتَنَاوَلُ اسْمَ النِّكَاحِ بِحَالٍ, فَدَلَّ قَوْلُهُ: "ولست من سفاح" بعد

_ 1 قوله: "فنكحن" إلى آخر البيت للنابغة الذبياني ومعنى المة بالكسر النعمة. وقوله: "العذار" وهو الخنان والمني نكحن وهي ماسوران لم يختن بعد كما في شرح البطليوس. "لمصححه".

مطلب" في مناظر جرت بين الإمام الشافعي مع بعض الناس في قوله: "إن الحرام لا يحرم الحلال",

مطلب" في مناظر جرت بين الإمام الشافعي مع بعض الناس في قوله: "إن الحرام لا يحرم الحلال", ... شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, فَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ لَنُقِلَ وَاسْتَفَاضَ, فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} : فَإِنَّكُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ كَانُوا مُقِرِّينَ عَلَى أَحْكَامِهِمْ, فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ فِيمَا لَمْ تَقُمْ عِنْدَهُمْ حُجَّةُ السَّمْعِ بِتَرْكِهِ, فَلَا احْتِمَالَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا; وقَوْله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} عِنْدَ ذِكْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا هَهُنَا, وَسَنَذْكُرُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} هَهُنَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَقَوْلِهِ: "لَا تَلْقَ فُلَانًا إلَّا مَا لَقِيت" يَعْنِي لَكِنْ مَا لَقِيت فَلَا لَوْمَ عَلَيْك فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} هَذِهِ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ النِّكَاحِ; وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: النِّكَاحُ بَعْدَ النَّهْيِ فَاحِشَةٌ, وَمَعْنَاهُ هُوَ فَاحِشَةٌ, فَـ "كَانَ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُلْغَاةٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ, قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّك لَوْ رَأَيْت دِيَارَ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ فَأَدْخَلَ" كَانَ" وَهِيَ مُلْغَاةٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا; لِأَنَّ الْقَوَافِيَ مَجْرُورَةٌ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ فَاحِشَةٌ فَلَا تَفْعَلُوا مِثْلَهُ, وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ, وَمَنْ قَالَ هَذَا جَعَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} فَإِنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاحِشَةٌ بَعْدَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ لَا مَحَالَةَ, وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ حُجَّةَ السَّمْعِ قَدْ كَانَتْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيَسْتَحِقُّونَ اللَّوْمَ عَلَيْهِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا سَلَفَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ وَوَطِئَهَا كَانَ وَطْؤُهُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ; لِأَنَّهُ سَمَّاهَا فَاحِشَةً, وقال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] قِيلَ لَهُ: الْفَاحِشَةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ, وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِهِ فَاحِشَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْفَاحِشَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ تَسْتَطِيلَ بِلِسَانِهَا عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا, وَقِيلَ فِيهَا: إنَّهَا الزِّنَا. فَالْفَاحِشَةُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ, وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى إذَا أُطْلِقَ فِيهِ اسْمُ الْفَاحِشَةِ كَانَ زِنًا, وَمَا كَانَ مِنْ وَطْءٍ عن عقد فاسد فإنه لا يسمى

مطلب اختلف السلف في التحريم بقليل الرضاع

مطلب اختلف السلف في التَّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ, فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ: "قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ يُحَرِّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ قَالَ اللَّيْثُ: "اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ فِي الْمَهْدِ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ". وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ".

مطلب: اختلف أهل لعلم في لبن الفحل

مطلب: اختلف أهل لعلم في لبن الفحل وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ, وَهُوَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَتَلِدُ مِنْهُ وَلَدًا وَيَنْزِلُ لَهَا لَبَنٌ بَعْدَ وِلَادَتِهَا مِنْهُ فَتُرْضِعُ بِهِ صَبِيَّا; فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ عَلَى أَوْلَادِ الرَّجُلِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهَا, وَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ مِنْ غَيْرِهَا. فَمِمَّنْ قَالَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْن الشَّرِيدِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ هَذِهِ غُلَامًا وَهَذِهِ جَارِيَةً, هَلْ يَصِحُّ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ: "لَا, اللِّقَاحُ وَاحِدٌ", وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ. وَذَكَرَ الْخَفَّافُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "كَرِهَهُ قَوْمٌ وَلَمْ يَرَ بِهِ قَوْمٌ بَأْسًا, وَمَنْ كَرِهَهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا" وَذَكَرَ عَبَّادُ بْن مَنْصُورٍ. قَالَ: قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: امْرَأَةُ أَبِي أَرْضَعَتْ جَارِيَةً مِنْ النَّاسِ بِلَبَانِ إخْوَتِي مِنْ أَبِي أَتَحِلُّ لِي؟ قَالَ: "لَا, أَبُوك أَبُوهَا" فَسَأَلْت طَاوُسًا وَالْحَسَنَ فَقَالَا مِثْلَ ذَلِكَ, وسألت مجاهدا فقال: "اختلف فيه

باب أمهات النساء والربائب

بَابُ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ الرَّبَائِبَ لَا يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا أَوْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مِنْ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ فِيمَا سَلَفَ, وَهُوَ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ, هَلْ يَحْرُمْنَ بالعقد دون الدخول؟ فروى

مطلب: افتى ابن مسعود بحل التزويج بأم المرأة قيل الدخول بها ثم رجع عن ذلك

مطلب: افتى ابن مسعود بحل التزويج بأم المرأة قيل الدخول بها ثم رجع عن ذلك وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَفْتَى فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ قَالَ: "لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا" فَلَمَّا أَتَى الْمَدِينَةَ رَجَعَ فَأَفْتَاهُمْ فَنَهَاهُمْ وَقَدْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَيُفْتِي بِهِ, يَعْنِي فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ, فَحَجَّ فَلَقِيَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَرَهُمْ ذَلِكَ فَكَرِهُوا. أَنْ يَتَزَوَّجَهَا, فَلَمَّا رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ نَهَى مَنْ كَانَ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ, وَكَانُوا أَحْيَاءَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ أَفْتَاهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ: "إنِّي سَأَلْت أَصْحَابِي فَكَرِهُوا ذَلِكَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا, قَالَ: "إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَزَوَّجُ أُمَّهَا, وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا", وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يُضَعِّفُونَ حَدِيثَ قَتَادَةَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ أَكْثَرَ مَا يَرْوِيهِ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رِجَالٌ, وَإِنَّ رِوَايَاتِهِ عَنْ سَعِيدٍ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَاتِ أَكْثَرِ أَصْحَابِ سَعِيدٍ الثِّقَاتِ; وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خِلَافَ رِوَايَةِ قَتَادَةَ. وَيُقَالُ إنَّ حَدِيثَ يَحْيَى وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ, وَالْفُقَهَاءُ لَا يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَرَدِّهَا, وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِهِ مَذْهَبُ الْقَوْمِ فِيهِ دُونَ اعْتِبَارِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ; وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فِي التَّحْرِيمِ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّخُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا العدة؟ وأما الموت

مطلب: الحلية اسم يختص بالزوجة دون المملوكة بملك اليمين

مطلب: الحلية اسم يختص بالزوجة دون المملوكة بملك اليمين قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَلِيلَةُ الِابْنِ هِيَ زَوْجَتُهُ, وَيُقَالُ إنَّمَا سُمِّيَتْ حَلِيلَةً; لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَعَهُ فِي فِرَاشٍ, وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا الْجِمَاعُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ, وَالْأَمَةُ إنْ اسْتَبَاحَ فَرْجَهَا بِالْمِلْكِ لَا تُسَمَّى حَلِيلَةً وَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ مَا لَمْ يَطَأْهَا, وَعَقْدُ نِكَاحِ الِابْنِ عَلَيْهَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَبِيهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِيلَةَ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَلَمَّا عُلِّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ ذِكْرِ الْوَطْءِ اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَهُنَّ بِالْعَقْدِ دُونَ شَرْطِ الْوَطْءِ; لِأَنَّا لَوْ شَرَطْنَا الْوَطْءَ لَكَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ, وَمِثْلُهَا يُوجِبُ النَّسْخَ; لِأَنَّهَا تُبِيحُ مَا حَظَرَتْهُ الْآيَةُ, وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} قَدْ تَنَاوَلَ عِنْدَ الْجَمْعِ تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى الْجَدِّ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صُلْبِ الْجَدِّ; لِأَنَّ إطْلَاقَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَاهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ, وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إلَى الْجَدِّ بِالْوِلَادَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي تَخْصِيصِهَا حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنْ الصُّلْبِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب: 37] لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إبَاحَةِ تَزْوِيجِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي. وَقَوْلُهُ: {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ هِيَ زَوْجَتُهُ; لِأَنَّهُ عَبَّرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْهُنَّ بِاسْمِ الْأَزْوَاجِ وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى بِذِكْرِ الْحَلَائِلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ; وَالْجَمْعُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا مَعًا فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا; لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَهُمَا, وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى بِجَوَازِ نِكَاحِهَا مِنْ الْأُخْرَى, وَلَا يَجُوزُ تَصْحِيحُ نكاحهما مع تحريم الله

مطلب: سئل علي عن وطء أختين بملك اليمين فقال: "أحلتهما آية وحرمهما آية" إلى آخره

مطلب: سئل علي عن وطء أختين بملك اليمين فقال: "أحلتهما آية وحرمهما آية" إلى آخره وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا أَبَاحَا ذَلِكَ وَقَالَا: "أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَمَّارٌ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ", وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" فَإِذَا أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَالْحَرَامُ أَوْلَى. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ الْغَافِقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي إيَاسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْت عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا هَلْ يَطَأُ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ: "أَعْتِقْ الْمَوْطُوءَةَ حَتَّى يَطَأَ الْأُخْرَى" وَقَالَ: "مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلَّا حَرَّمَ مِنْ الْإِمَاءِ مِثْلَهُ إلَّا عَدَدَ الْأَرْبَعِ" وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ, يَعْنُونَ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَقَوْلُهُ: "حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} , فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْإِبَاحَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ وَقَالَ: "لَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ". وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَاظِرًا فِيهِ غَيْرَ قَاطِعٍ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَ فِيهِ بِالْإِبَاحَةِ ثُمَّ وَقَفَ فِيهِ, وَقَطَعَ عَلِيٌّ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إذَا اجْتَمَعَا فَالْحَظْرُ أَوْلَى إذَا تَسَاوَى سَبَبَاهُمَا, وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ رَوَى إيَاسُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّك تَقُولُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ؟ فَقَالَ: "كَذَبُوا" وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي مُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِالْوَقْفِ فِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ: "أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ" وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى, وَإِنْكَارُهُ أَنْ يَكُونَ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ أَنَّ آيَتَيْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي مُقْتَضَاهُمَا, وَأَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ هُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ لِاقْتِضَاءِ حَقِيقَتِهِ أَنْ يَكُونَ شيء واحد مباحا محظورا في حال

مطلب لذا تساوى سببا الحظر والإباحة رجح بينهما الحظر

مطلب لذا تساوى سببا الحظر والإباحة رجح بينهما الحظر وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى لَوْ تَسَاوَتْ الْآيَتَانِ فِي إيجَابِ حُكْمَيْهِمَا أَنَّ فِعْلَ الْمَحْظُورِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ وَتَرْكَ الْمُبَاحِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ, وَالِاحْتِيَاطُ الِامْتِنَاعُ مِمَّا لَا يَأْمَنُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ بِهِ, فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ وَاجِبَةٌ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى; إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وُرُودُهَا فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَارِدٌ فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وَسَائِرُ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ تَحْرِيمُهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَارِدٌ فِي إبَاحَةِ الْمَسْبِيَّةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ; وَأَفَادَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ وَقَطْعَ الْعِصْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا, فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ إيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتِهَا لِمَالِكِهَا, فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ; إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ وَارِدَةٌ فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى, فَيُسْتَعْمَلُ حُكْمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي السَّبَبِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِضْ عَلَى حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ فِي الْآيَةِ, وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَلَا أُمِّ الْمَرْأَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَلَمْ يَكُنْ قَوْله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مُوجِبًا لَتَخْصِيصِهِنَّ لَوُرُودِهِ فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْآيَةِ الْأُخْرَى; كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي اعْتِرَاضِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ. وَامْتِنَاعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَتَيْنِ إذَا وَرَدَتَا فِي سَبَبَيْنِ: إحْدَاهُمَا فِي التَّحْلِيلِ وَالْأُخْرَى فِي التَّحْرِيمِ, أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَجْرِي عَلَى حُكْمِهَا فِي ذَلِكَ السَّبَبِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى, وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَيْضًا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَظْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالنِّكَاحِ وَالْأُخْرَى بِمِلْكِ الْيَمِينِ, نَحْوَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ بِنِكَاحٍ فَيَشْتَرِي أُخْتَهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهُمَا جَمِيعًا; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ قَدْ انْتَظَمَ مِلْكَ الْيَمِينِ كَمَا انْتَظَمَ النِّكَاحَ, وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جَمْعِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ, وَهُوَ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ نسب ولديهما وفي إيجاب

مطلب: النهي عندنا يقتضي الفساد

مطلب: النهي عندنا يقتضي الفساد فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: وُقُوعُ الْعُقْدَةِ مَنْهِيًّا عَنْهَا, وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنِعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ. فَلَوْ أَبْقَيْنَا عَقْدَهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كُنَّا مُثْبِتِينَ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْجَمْعُ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ عَقْدًا عَلَى أُخْتَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى لَهُ عَقْدٌ عَلَى أُخْتَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا أُخْتَيْنِ فِي حَالِ الْعَقْدِ, كَمَنْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا, أَشْبَهَ نِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي اسْتِوَاءِ حَالِ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا. فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَقْدُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَحَالِ الْإِسْلَامِ وَوَجَبَ التَّفْرِيقُ مَتَى طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ وَأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ; وَكَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ, وَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا قُلْنَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَاحْتَجَّ مَنْ خَيَّرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ, وَبِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُمَيْضَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: أَسْلَمْت وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ, فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ "أَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا" وَبِمَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا". فَأَمَّا حَدِيثُ فَيْرُوزَ فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "أَيَّتَهمَا شِئْت" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَحَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ, فَكَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ, فَلَزِمَهُ اخْتِيَارُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَمُفَارَقَةُ سَائِرِهِنَّ, كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا فَيُقَالُ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت; لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِعِلْمِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَشُكُّ أَهْلُ النَّقْلِ فِيهِ أَنَّ مَعْمَرًا1 أَخْطَأَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ, وَأَنَّ أَصْلَ هذا الحديث مقطوع من حديث

_ 1 قوله: أن معمرا" هو معمر بن راشد البصري ثم اليماني, انتهى مختصرا من خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".

فصل

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْمَنْصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ, وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا, رَوَاهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا" وَفِي بَعْضِهَا: "لَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى". عَلَى اخْتِلَافِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى; وَقَدْ تَلَقَّاهَا النَّاسُ بِالْقَبُولِ مَعَ تَوَاتُرِهَا وَاسْتِفَاضَتِهَا. وَهِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ, فَوَجَبَ استعمال حكمها مع الآية.

مطلب: شذت طائفة من الخوارجى بإباحة الجمع ببين غير الأختين من المحارم

مطلب: شذت طائفة من الخوارجى بإباحة الجمع ببين غير الأختين من المحارم وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ بِإِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ عَدَا الْأُخْتَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَأَخْطَأَتْ فِي ذَلِكَ وَضَلَّتْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْنَا, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إلَى الْآيَةِ, فَيَكُونُ قَوْله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مُسْتَعْمَلًا فِيمَنْ عَدَا الْأُخْتَيْنِ وَعَدَا مَنْ بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بَيْنَهُنَّ. وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مِنْ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ قَبْلَ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ مَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُنَّ أَوْ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بَعْدَ الْخَبَرِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مُرَتَّبٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ مِنْهُنَّ; لأن قوله: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَحْرِيمِهِنَّ, وَقَدْ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ

باب تحريم نكاح ذوات الأزواج

بَابُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَطْفًا عَلَى مَنْ حُرِّمَ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حَمَّادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ". وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ إتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْهُنَّ وَأَنَّ نِكَاحَهَا حَرَامٌ مَا دَامَتْ ذَاتَ زَوْجٍ, وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} , فَتَأَوَّلَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ, وَعُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ: أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ السَّبَايَا أُبِيحَ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ, وَوَجَبَ بِحُدُوثِ السَّبْيِ عَلَيْهَا دُونَ زَوْجِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا; وَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُهَا. وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ السَّبَايَا وَغَيْرِهِمْ; وَكَانُوا يَقُولُونَ: بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا

مطلب: في حكم الزوجين الحربيين إذا سبيا معا

مطلب: في حكم الزوجين الحربيين إذا سبيا معا وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا سُبِيَا مَعًا, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذَا سُبِيَ الْحَرْبِيَّانِ مَعًا وَهُمَا زَوْجَانِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ, وَإِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا سُبِيَا جَمِيعًا فَمَا كَانَا فِي الْمُقَاسِمِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ, فَإِذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَإِنْ شَاءَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَاِتَّخَذَهَا لَنَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ بَعْدَمَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا سُبِيَتْ ذَاتُ زَوْجٍ اُسْتُبْرِئَتْ بِحَيْضَتَيْنِ; لِأَنَّ زَوْجَهَا أَحَقُّ بِهَا إذَا جَاءَ فِي عِدَّتِهَا, وَغَيْرُ ذَاتِ الْأَزْوَاجِ بِحَيْضَةٍ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا سُبِيَتْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ بِدَلَالَةِ الْأَمَةِ الْمَبِيعَةِ وَالْمَوْرُوثَةِ, فَوَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِالسَّبْيِ نَفْسِهِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ حُدُوثِ الْمِلْكِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الرِّقِّ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ, فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ أَوْلَى; لِأَنَّ الْبَقَاءَ هُوَ آكَدُ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ مَعَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ مَا لَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ وَهُوَ حُدُوثُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ العقد

مطلب: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة أو ذمية

مطلب: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بينهما وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ, أَنَّهُمَا لَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ; لِأَنَّهُمَا لَمْ تَخْتَلِفْ بِهِمَا الدَّارَانِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَزَوْجِهَا إذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بِهِمَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ إذَا خَرَجَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً ثُمَّ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا زَوْجُهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا خِلَافٍ, وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي الْمُهَاجِرَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ

باب المهور

بَابُ الْمُهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فَعَقَدَ الْإِبَاحَةَ بِشَرِيطَةِ إيجَابِ بَدَلِ الْبُضْعِ هُوَ مَالٌ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَدَلَ الْبُضْعِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَا يُسَمَّى أَمْوَالًا. وَذَلِكَ; لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي إبَاحَةِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْ يَبْتَغِيَ الْبُضْعَ بِمَا يُسَمَّى أَمْوَالًا, كَقَوْلِهِ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ عَلَيْهِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ", وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ: "يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى قَلِيلِ الْمَهْرِ وَكَثِيرِهِ". وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ, فَقَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ, وَقَالَ آخَرُونَ: النَّوَاةُ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَقَلُّ الْمَهْرِ رُبْعُ دِينَارٍ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ دِرْهَمٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا لَا يَكُونُ مَهْرًا وَأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يُسَمَّى أَمْوَالًا, هَذَا مُقْتَضَى الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا, وَمَنْ كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ, فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ وَقَدْ أَجَزْتهَا مَهْرًا قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي الظَّاهِرُ, لَكِنْ أَجَزْنَاهَا بِالِاتِّفَاقِ, وَجَائِزٌ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ; وَأَيْضًا قَدْ رَوَى حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ, وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ; وَتَقْدِيرُهُ الْعَشَرَةَ مَهْرًا دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا يدل على أنه

طلب: في أن المنافع لا تكون مهرا

طلب: في أن المنافع لا تكون مهرا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مَالًا قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أَمْرٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الْإِيجَابَ, وَدَلَّ بِفَحْوَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَالًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَآتُوا} [النساء:4] مَعْنَاهُ: أَعْطُوا, وَالْإِعْطَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ; إذْ الْمَنَافِعُ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْإِعْطَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ; وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَأْكُولِ أو فيما يمكن صرفه بعد

مطلب: في قوله {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي} الآية

مطلب: في قوله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَجَعَلَ مَنَافِعَ الْحُرِّ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَشْرِطْ الْمَنَافِعَ لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا شَرَطَهَا لِشُعَيْبٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا شُرِطَ لِلْأَبِ لَا يَكُونُ مَهْرًا, فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ بَاطِلٌ فِي مَسْأَلَتِنَا وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً لَهَا وَأَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ, أَوْ لِأَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إلَى الْوَالِدِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الشِّغَارِ. وقَوْله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ صداقا لها; إذ

مطلب: في أنه عليه السلام كان له أن يتزوج بغير مهر

مطلب: في أنه عليه السلام كان له أن يتزوج بغير مهر وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا; فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ, وَكَانَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ الْأُمَّةِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِجَوَازِ مِلْكِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَمَا كَانَ مَخْصُوصًا بِجَوَازِ تَزْوِيجِ التِّسْعِ دُونَ الْأُمَّةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَكُونُ صَدَاقًا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {وَآتُوهُنَّ} [النساء:4] وَذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, وَإِعْطَاءُ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} وَالْعِتْقُ لَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِطِيبِ نَفْسِهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي الْعِتْقِ. قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ بِكَوْنِهِمْ مُحْصِنِينَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ حَالِهِمْ إذَا نَكَحُوا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ; فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَإِطْلَاقُ الْإِبَاحَةِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا انْتَظَمَهُ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ, وَإِنْ أَرَادَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ كَانَ إطْلَاقُ الْإِبَاحَةِ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِشَرِيطَةِ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِهِ, وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ, فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ الِاحْتِجَاجُ بِهِ, وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالتَّزْوِيجِ لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى وَرَدَ لَفْظٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا يُمْكِنُنَا اسْتِعْمَالُ ظَاهِرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ, فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ دُونَ الْإِجْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ, فَعَلَيْنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ; وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ عَنَّا اسْتِعْمَالَهُ إلَّا بِوُرُودِ بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ, وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَفَحْوَى الْآيَةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ مُحْصَنًا بِالنِّكَاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} والسفاح هو الزنا, فأخبر أن

باب المتعة

بَابٌ الْمُتْعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إبَاحَةِ نِكَاحِ مَا وَرَاءَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ثم قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} يعني: دخلتم بهن, {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} كَامِلَةً, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] . وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ الِانْتِفَاعُ, وَهُوَ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الدُّخُولِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] يَعْنِي تَعَجَّلْتُمْ الِانْتِفَاعَ بِهَا, وَقَالَ: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} [التوبة: 69] يَعْنِي: بِحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنْ الدُّنْيَا; فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُ فِي قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَعَنَى بِهِ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ, ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} اقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ النِّكَاحِ فِيمَنْ عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ, ثُمَّ قَالَ: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: نِكَاحًا تَكُونُوا بِهِ مُحْصِنِينَ عفائف {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ النِّكَاحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ بِقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَأَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ كَمَالَ الْمَهْرِ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَهْرَ أَجْرًا فِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَسَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا, وَكَذَلِكَ الْأُجُورُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُهُورُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْأَعْيَانِ, كَمَا سُمِّيَ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ أجرا.

مطلب: في دليل قول أبي حنيفة من استأجر امرأة فزنى بها لا حد عليه

مطلب: في دليل قول أبي حنيفة من استأجر امرأة فزنى بها لا حد عليه وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ الْمَهْرَ أَجْرًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا, فَهُوَ كَمَنْ قَالَ: "أُمْهِرُك كَذَا "; وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ نِكَاحًا فَاسِدًا; لِأَنَّهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ; وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ; وَرُوِيَ عَنْهُ فِيهَا أَقَاوِيلُ, رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ الْآيَةَ عَلَى إبَاحَةِ

باب الزيادة في المهور

بَابٌ الزِّيَادَةُ فِي الْمُهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمَهْرِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} , وَالْفَرِيضَةُ هَهُنَا التَّسْمِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ, كَفَرَائِضِ الْمَوَارِيثِ وَالصَّدَقَاتِ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أَنَّهُ مَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ حَطِّ بَعْضِ الصَّدَاقِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ هِبَةِ جَمِيعِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْإِبْرَاءِ, وَهُوَ بِالزِّيَادَةِ أَخَصُّ مِنْهُ بِغَيْرِهَا; لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِتَرَاضِيهِمَا, وَالْبَرَاءَةُ وَالْحَطُّ وَالتَّأْخِيرُ لَا يُحْتَاجُ فِي وُقُوعِهِ إلَى رِضَى الرَّجُلِ, وَالزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِهِمَا; فَلَمَّا عُلِّقَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الزِّيَادَةُ. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْحَطِّ وَالتَّأْجِيلِ; لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمِيعِ, فَلَا يُخَصُّ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْت يُسْقِطُ فَائِدَةَ ذِكْرِ تَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا وَإِضَافَةِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ إسْقَاطُ حُكْمِ اللَّفْظِ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَجْعَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءً. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ جَائِزَةٌ وَهِيَ ثَابِتَةٌ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا, وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ وَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ". وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَالشَّافِعِيُّ: "الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ" إذَا قَبَضَتْهَا جَازَتْ فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا, وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهَا بَطَلَتْ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "تَصِحُّ الزِّيَادَةُ, فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ نِصْفُ مَا زَادَهَا إلَيْهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وَهَبَهُ لَهَا يُقَوَّمُ بِهِ عَلَيْهِ, وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ تُقْبَضْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ; وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي مِلْكِهِمَا, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى الْبُضْعِ فَيَأْخُذَ مِنْهَا بَدَلَهُ فَهُمَا مَالِكَانِ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْبُضْعِ, فَلَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِي مِلْكِهِمَا وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَمَا جَازَتْ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ كَانَا مَالِكَيْنِ لِلْعَقْدِ;; إذْ كَانَ الْمِلْكُ هُوَ التَّصَرُّفُ وَتَصَرُّفُهُمَا جَائِزٌ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ على أنه إذا قبضها

مطلب: المهر المسمى يبطل قبل الدخول زإنما يجب نصف المسمى لها على معنى المتعة

مطلب: المهر المسمى يبطل قبل الدخول زإنما يجب نصف المسمى لها على معنى المتعة فَإِنْ قِيلَ: التَّسْمِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل

باب نكاح الإماء. مطلب: تخصيص الحكم بشيء في اللفظ لا يدل على نفيه عما عداه

باب نكاح الإماء. مطلب: تخصيص الحكم بشيء في اللفظ لا يدل على نفيه عما عداه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَى الْحَرَائِرِ الْمُؤْمِنَاتِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا الْحَرَائِرُ وَلَيْسَ فِيهَا حَظْرٌ لَغَيْرِهِنَّ لِأَنَّ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْحَالِ بِذِكْرِ الْإِبَاحَةِ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهَا, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء31] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَةِ الْقَتْلِ عند زوال هذه الحال, وقوله

مطلب: في تأويل أبي يوسف قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا}

مطلب: في تأويل أبي يوسف قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} عَلَى عَدَمِ الْحُرَّةِ فِي مِلْكِهِ وَأَنَّ وُجُودَ الطَّوْلِ هُوَ كَوْنُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ; لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لَلطَّوْلِ إلَيْهَا; إذْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا, فَكَانَ وُجُودُ الطَّوْلِ عِنْدَهُ هُوَ مِلْكُ وَطْءِ الْحُرَّةِ. وَهُوَ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِهَا; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَالِ لَا تُوجِبُ لَهُ مِلْكَ الْوَطْءِ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ, فَوُجُودُ الطَّوْلِ بِحَالِ مِلْكِ الْوَطْءِ أَخَصُّ مِنْهُ بِوُجُودِ الْمَالِ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى النِّكَاحِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا لِمِلْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ نِكَاحِ أُخْرَى, وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لِوُجُودِ الْمَالِ, فَإِذًا لَا حَظَّ لِوُجُودِ الْمَالِ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ; فَتَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ الْآيَةَ عَلَى مِلْكِ وَطْءِ الْحُرَّةِ أَصَحُّ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهَا على ملك المال.

باب نكاح الأمة الكتابية

بَابٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ, فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ فِي آخَرِينَ: "يَجُوزُ نِكَاحُهَا", وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَهُ إذَا كَانَ مَوْلَاهَا كَافِرًا وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ; وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إلَى أَنَّ وَلَدَهَا يَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ الْأَبِ, كَمَا يَكْرَهُ بَيْعَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ". وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة, وَدَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ كَهِيَ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ. وَمِمَّا يُخْتَصُّ مِنْهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قَالَ: "الْعَفَائِفُ". وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مُطَّرِفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

باب نكاح الأمة بغير إذن مولاها

بَابٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ بُطْلَانَ نِكَاحِ الْأَمَةِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ سَيِّدُهَا وَذَلِكَ لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يدل

مطلب: الفتاة تطلق على الأمة ولو عجوزا

مطلب: الفتاة تطلق على الأمة ولو عجوزا وَسَمَّى اللَّهُ الْإِمَاءَ الْفَتَيَاتِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَالْفَتَاةُ اسْمٌ لِلشَّابَّةِ, وَالْعَجُوزُ الْحُرَّةِ لَا تُسَمَّى فَتَاةً, وَالْأَمَةُ الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُسَمَّى فَتَاةً; وَيُقَالُ إنَّهَا سُمِّيَتْ فَتَاةً وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً لَا تُوَقَّرُ تَوْقِيرَ الْكَبِيرَةِ. وَالْفُتُوَّةُ حَالُ الْغِرَّةِ وَالْحَدَاثَةِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

باب حد الأمة والعبد

بَابُ حَدِّ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُرِئَ فَإِذَا أَحْصَنَّ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ, وَقُرِئَ بِضَمِّ الْأَلِفِ "; فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ: {أُحْصِنَّ} بالضم معناه تزوجن. وعن

مطلب: إذا علقت الحكام بمعنان فحيث وجدت فالحكم ثابت

مطلب: إذا علقت الحكام بمعنان فحيث وجدت فالحكم ثابت وَخَصَّ اللَّهُ الْأَمَةَ بِإِيجَابِ نِصْفِ حَدِّ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا إذَا زَنَتْ, وَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ بِمَثَابَتِهَا; إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِنُقْصَانِ الْحَدِّ مَعْقُولًا مِنْ الظَّاهِرِ وَهُوَ الرِّقُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] خَصَّ الْمُحْصَنَاتِ بِالذِّكْرِ وَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ حُكْمَ الْمُحْصِنِينَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إذَا قُذِفُوا, إذْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْمُحْصَنَةِ الْعِفَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ, فَحَكَمُوا لِلرَّجُلِ بِحُكْمِ النِّسَاءِ بِالْمَعْنَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ إذَا عُلِّقَتْ بِمَعَانٍ فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ المواضع دون بعض.

فصل

فَصْلٌ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْوَاجِبِ عَلَى النَّدْبِ; لِأَنَّ النِّكَاحَ نَدْبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ, وَإِيتَاءُ الْمَهْرِ وَاجِبٌ; وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ثُمَّ قَالَ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وَيَصِحُّ عَطْفُ النَّدْبِ عَلَى الْوَاجِبِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ وَالْإِحْسَانُ نَدْبٌ. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هُوَ الزِّنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الضَّرَرُ الشَّدِيدُ فِي دِينٍ أَوَدُنْيَا, مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] . وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} , وَهَذَا شَرْطٌ إلَى الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ وَلَدُهُ عَبْدًا لَغَيْرِهِ, فَإِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ وَلَمْ يَأْمَنْ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ لَا فِي الْفِعْلِ وَلَا فِي التَّرْكِ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ النَّدْبِ, وَالِاخْتِيَارُ هُوَ تَرْكُ نِكَاحِ الْأَمَةِ رَأْسًا; فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ مُقْتَضِيَةً لِكَرَاهِيَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ إذَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ, وَمَتَى خَشِيَ الْعَنَتَ فَالنِّكَاحُ مُبَاحٌ إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَتْرُكَهُ رَأْسًا وَإِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ, لِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . وَإِنَّمَا نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى تَرْكِ نِكَاحِ الْأَمَةِ رَأْسًا مَعَ خَوْفِ الْعَنَتِ لِأَنَّ الْوَلَدَ المولود على فراش النكاح

مطلب البيان من الله تعالى على وجهين

مَطْلَبُ الْبَيَانِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهَيْنِ وقَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: يُرِيدُ لِيُبَيِّنَ لَنَا مَا بِنَا الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَالْبَيَانُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالنَّصِّ وَالْآخَرُ بِالدَّلَالَةِ, وَلَا تَخْلُو حَادِثَةٌ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ إمَّا بِنَصٍّ وَإِمَّا بِدَلِيلٍ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] , وَقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] , وَقَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . وَقَوْلِهِ: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: "إنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْنَا وَبَيَّنَ لَنَا تَحْرِيمَهُ مِنْ النِّسَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِنَا مِنْ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ". وَقَالَ آخَرُونَ: "لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى اتِّفَاقِ الشَّرَائِعِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَهْدِيكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فِي بَيَانِ مَا لَكُمْ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ كَمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَاتُ وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةً فِي أَنْفُسِهَا, إلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي أَنْفُسِهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "يُبَيِّنُ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ لِتَجْتَنِبُوا الْبَاطِلَ وَتُحِبُّوا الْحَقَّ". وقَوْله تَعَالَى: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْإِجْبَارِ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا, وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ الْمُصِرِّينَ الْإِصْرَارَ وَلَا يُرِيدُ مِنْهُمْ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ. قَوْله تَعَالَى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} فَقَالَ قَائِلُونَ: "الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مُبْطِلٍ; لِأَنَّهُ يَتْبَعُ شَهْوَةَ نَفْسِهِ فِيمَا وَافَقَ الْحَقَّ أَوْ خَالَفَهُ وَلَا يَتْبَعُ الْحَقَّ فِي مُخَالِفَةِ الشَّهْوَةِ". وَقَالَ مُجَاهِدُ: "أَرَادَ بِهِ الزِّنَا". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "اليهود والنصارى".

وقوله: {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} يَعْنِي بِهِ الْعُدُولَ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ; وَتَكُونُ إرَادَتُهُمْ لِلْمِيلِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِعَدَاوَتِهِمْ, أَوْ لِلْأُنْسِ بِهِمْ وَالسُّكُونِ إلَيْهِمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ; فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إرَادَتَهُ لَنَا خِلَافُ إرَادَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ فِي اتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ مَذْمُومٌ, إلَّا أَنْ يُوَافِقَ الْحَقَّ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ غَيْرَ مَذْمُومٍ فِي اتِّبَاعِ شَهْوَتِهِ; إذْ كَانَ قَصْدُهُ اتِّبَاعَ الْحَقِّ. وَلَكِنْ مَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لَشَهْوَتِهِ; لِأَنَّ مَقْصِدَهُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ وَافَقَ شَهْوَتَهُ أَوْ خَالَفَهَا. قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} . التَّخْفِيفُ هُوَ تَسْهِيلُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ خِلَافُ التَّثْقِيلِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] , وقَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] , وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] , وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ; فَنَفَى الضِّيقَ وَالثِّقَلَ وَالْحَرَجَ عَنَّا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم: "جئتكم بالحنيفية السَّمْحَةِ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ حَرَّمَ عَلَيْنَا مَا ذَكَرَ تَحْرِيمَهُ مِنْ النِّسَاءِ فَقَدْ أَبَاحَ لَنَا غَيْرَهُنَّ مِنْ سَائِرِ النِّسَاءِ تَارَةً بِنِكَاحٍ وَتَارَةً بِمِلْكِ يَمِينٍ, وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ قَدْ أَبَاحَ لَنَا مِنْ جِنْسِهَا أَضْعَافَ مَا حَظَرَ فَجَعَلَ لَنَا مَنْدُوحَةً عَنْ الْحَرَامِ بِمَا أَبَاحَ مِنْ الحلال.

مطلب: في معنى المراد من قول ابن مَسْعُودٍ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حرم عليكم" وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ بِالشِّفَاءِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ جَعَلَ لَنَا مَنْدُوحَةً وَغِنًى عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا أَبَاحَهُ لَنَا مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ حَتَّى لَا يَضُرَّنَا فَقْدُ مَا حُرِّمَ فِي أُمُورِ دُنْيَانَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم "أنه مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا". وَهَذِهِ الْآيَاتُ يُحْتَجُّ بِهَا فِي الْمَصِيرِ إلَى التَّخْفِيفِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَسَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ, وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَ; لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنَّا, وَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ غَايَةُ التَّثْقِيلِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي كِتَابِهِ.

بَابٌ التِّجَارَاتُ وَخِيَارُ الْبَيْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ هَذَا الْعُمُومُ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ

بِالْبَاطِلِ وَأَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: {أَمْوَالَكُمْ} يَقَعُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ وَمَالِ نَفْسِهِ, كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قَدْ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ غَيْرِهِ وَقَتْلِ نَفْسِهِ; فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} نَهْيٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عَنْ أَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ. وَأَكْلُ مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ إنْفَاقُهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ; وَأَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَ السُّدِّيُّ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالْبَخْسِ وَالظُّلْمِ, وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: أَنْ يَأْكُلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ, فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَى أَنْ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي النُّورِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ النَّاسَ تَحَرَّجُوا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَنْ يَأْكُلُوا عِنْدَ أَحَدٍ لَا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ لَمْ تَكُنْ مَحْظُورَةً قَطُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ, وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ عِنْدَ غَيْرِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَكْلَ عِنْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ, فَهَذَا لَعَمْرِي قَدْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ. وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "هِيَ مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ". وَنَظِيرُ مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ". وَعَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْغَيْر مَعْقُودٌ بِصِفَةٍ, وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ بِالْبَاطِلِ; وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَكْلَ أَبِدَالِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ, وَكَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولِ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ نَحْوَ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ, فَيَكُونُ أَكْلُ ثَمَنِهِ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ; وَكَذَلِكَ ثَمَنُ كُلِّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَالْقِرْدِ وَالْخِنْزِيرِ وَالذُّبَابِ وَالزَّنَابِيرِ وَسَائِرِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ, فَالِانْتِفَاعُ بِأَثْمَانِ جَمِيعِ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ, وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ, وَكَذَلِكَ ثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَأَخَذَ ثَمَنَهُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِ ثَمَنِهِ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى مُشْتَرِيهِ, وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَرَبِحَ فِيهِ وَقَدْ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِ بِعِينَةٍ1 وَقَبَضَهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ; لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَهُ مِنْ وجه محظور; وقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} مُنْتَظِمٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَنَظَائِرهَا مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِبَاحَةَ لِلْمَالِ مِنْ

_ 1 قوله: "بعينة" وذلك كما لو باع رجل سلعة من آخر بثمن نعلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها بأقل من الثمن الذي باعها به "لمصححه".

صَاحِبِهِ؟ قِيلَ لَهُ: كُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعُقُودِ وَأَطْلَقَهُ مِنْ جَوَازِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ بِإِبَاحَتِهِ إيَّاهُ فَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ; لِأَنَّ الْحَظْرَ فِي أَكْلِ الْمَالِ مُقَيَّدٌ بِشَرِيطَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ, وَمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَلَّهُ فَلَيْسَ بِبَاطِلٍ بَلْ هُوَ حَقٌّ; فَنَحْتَاجُ أَنْ نَنْظُرَ إلَى السَّبَبِ الَّذِي يَسْتَبِيحُ أَكْلَ هَذَا الْمَالِ, فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِبَاطِلٍ وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ, وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَقَدْ اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} اقْتَضَى إبَاحَةَ سَائِرِ التِّجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَنْ تَرَاضٍ. وَالتِّجَارَةُ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَقْصُودِ بها طلب الأرباح قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10, 11] فَسَمَّى الْإِيمَانَ تِجَارَةً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا بِالتِّجَارَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا الْأَرْبَاحُ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] . كَمَا سَمَّى بَذْلَ النُّفُوسِ لِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى شِرًى, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111] فَسَمَّى بَذْلَ النُّفُوسِ شِرَاءً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] فَسَمَّى ذَلِكَ بَيْعًا وَشِرَاءً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا بِعُقُودِ الْأَشْرِبَةِ وَالْبِيَاعَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْأَعْوَاضُ. كَذَلِكَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تِجَارَةً لِمَا اسْتَحَقَّ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْأَبْدَالِ الْجَسِيمَةِ, فَتَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} عُقُودُ الْبَيَّاعَاتِ وَالْإِجَارَاتُ وَالْهِبَاتُ الْمَشْرُوطَةُ فِيهَا الْأَعْوَاضُ; لِأَنَّ الْمُبْتَغَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فِي عَادَاتِ النَّاسِ تَحْصِيلُ الْأَعْوَاضِ لَا غَيْرُ. وَلَا يُسَمَّى النِّكَاحُ تِجَارَةً فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ, إذْ لَيْسَ الْمُبْتَغَى مِنْهُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَعَمِّ تَحْصِيلُ الْعِوَضِ الَّذِي هُوَ مَهْرٌ, وَإِنَّمَا الْمُبْتَغَى فِيهِ أَحْوَالُ الزَّوْجِ مِنْ الصَّلَاحِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالشَّرَفِ وَالْجَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ, فَلَمْ يُسَمَّ تِجَارَةً لِهَذَا الْمَعْنَى; وَكَذَلِكَ الْخَلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ لَيْسَ يَكَادُ يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تِجَارَةً. وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِصَاصِ اسْمِ التِّجَارَةِ بِمَا وَصَفْنَا, قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "إنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يُزَوِّجُ أَمَتَهُ وَعَبْدَهُ وَلَا يُكَاتِبُ وَلَا يُعْتِقُ عَلَى مَالٍ وَلَا يَتَزَوَّجُ هُوَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا; لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ التِّجَارَةِ"; وَقَالُوا: "إنَّهُ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَعَبِيدَهُ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ; إذْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ التِّجَارَةِ"; وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمُضَارِبِ وَشَرِيكِ الْعِنَانِ; لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ أَنَّ الْبُيُوعَ مِنْ التِّجَارَاتِ.

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ كَيْفَ هُوَ, قَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ بِعْنِي عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ قَدْ بِعْتُك لَمْ يَقَعْ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَلَ الْأَوَّلُ" وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ إيجَابُ الْبَيْعِ وَلَا قَبُولُهُ إلَّا بِلَفْظِ الْمَاضِي, وَلَا يَقَعُ بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ" بِعْنِي" إنَّمَا هُوَ سَوْمٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِلْعَقْدِ, وَالْأَمْرُ بِالْبَيْعِ لَيْسَ بِبَيْعٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أَشْتَرِي مِنْك" لَيْسَ بِشَرًى وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ يَشْتَرِيهِ; لِأَنَّ الْأَلِفَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْبَائِعِ" اشْتَرِ مِنِّي" وَقَوْلُهُ: "أَبِيعُك" لَيْسَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْعَقْدِ, وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ سَيَعْقِدُ أَوْ أَمْرٌ بِهِ. وَقَالُوا فِي النِّكَاحِ: "الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ" إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: إذَا قَالَ: "زَوَّجَنِي بِنْتَك" فَقَالَ: "قَدْ زَوَّجْتُك" أَنَّهُ يَكُونُ نِكَاحًا وَلَا يَحْتَاجُ الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى قَبُولٍ, لِحَدِيثِ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا فَرَاجَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُعْطِيهَا, إلَى أَنْ قَالَ لَهُ: "زَوَّجْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ" فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: "زَوِّجْنِيهَا" مَعَ قَوْلِهِ: "زَوَّجْتُكهَا" عَقْدًا وَاقِعًا; وَلِأَخْبَارٍ أُخَرَ قَدْ رُوِيت فِي ذَلِكَ; وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصِدُ فِي النِّكَاحِ الدُّخُولَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَمَةِ, وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ قَوْلِهِ: "زَوِّجْنِي" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "قَدْ زَوَّجْتُك" فَلَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي النِّكَاحِ بِمَا وَصَفْنَا كَانَ قَوْلُهُ: "قَدْ تَزَوَّجْتُك" وَقَوْلُهُ: "زَوِّجِينِي نَفْسَك" سَوَاءً. وَلَمَّا كَانَتْ الْعَادَةُ فِي الْبَيْعِ دُخُولَهُمْ فِيهِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ بَدِيًّا كَانَ ذَلِكَ سَوْمًا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا, فَحَمَلُوهُ عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ إيجَابَ التَّمْلِيكِ وَإِيقَاعَ الْعَقْدِ إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الْعَقْدُ, وَهُوَ أَنْ يُسَاوِمَهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَزِنَ لَهُ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذَ الْمَبِيعَ, فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَقْدًا لِوُقُوعِ تَرَاضِيهِمَا بِهِ وَتَسْلِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَرَيَانَ الْعَادَةِ بِالشَّيْءِ كَالنُّطْقِ بِهِ; إذْ كَانَ الْمَقْصِدُ مِنْ الْقَوْلِ الْإِخْبَارَ عَنْ الضَّمِيرِ وَالِاعْتِقَادَ فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَجْرَوْا ذَلِكَ مَجْرَى الْعَقْدِ, وَكَمَا يُهْدِي الْإِنْسَانُ لَغَيْرِهِ فَيَقْبِضَهُ فَيَكُونَ قَبُولًا لِلْهِبَةِ; وَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٍ ثُمَّ قَالَ: "مَنْ شَاءَ فَلِيَقْتَطِعْ" فَقَامَ الِاقْتِطَاعُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْقَبُولِ لِلْهِبَةِ فِي إيجَابِ التَّمْلِيكِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هِيَ طُرُقُ التَّرَاضِي الْمَشْرُوطِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إذَا قَالَ: "بِعْنِي هَذَا بِكَذَا" فَقَالَ: "قَدْ بِعْتُك" فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ حَتَّى يَقُولَ: "قَدْ زَوَّجْتُكهَا" وَيَقُولَ الْآخَرُ: "قَدْ قَبِلْت تَزْوِيجَهَا" أَوْ يَقُولَ الْخَاطِبُ: "زَوِّجْنِيهَا" وَيَقُولَ الْوَلِيُّ: "قَدْ زَوَّجْتُكهَا" فَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى قَوْلِ الزَّوْجِ قَدْ قَبِلْت.

فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْمُتَسَاوِمَيْنِ إذَا تَسَاوَمَا عَلَى السِّلْعَةِ ثُمَّ وَزَنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ وَهُوَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ, غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَيْعًا; لِأَنَّ لِعَقْدِ الْبَيْعِ صِيغَةٌ وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِالْقَوْلِ, وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيمَا وَصَفْت; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَبَيْعِ الْحَصَاةِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي أَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوُقُوعِهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت, وَلَيْسَ مَا أَجَازَهُ أَصْحَابُنَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُلَامَسَةِ هُوَ وُقُوعُ الْعَقْدِ بِاللَّمْسِ وَالْمُنَابَذَةُ وُقُوعُ الْعَقْدِ بِنَبْذِهِ إلَيْهِ, وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَصَاةُ هُوَ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ حَصَاةً; فَتَكُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ عِنْدَهُمْ مُوجِبَةً لِوُقُوعِ الْبَيْعِ, فَهَذِهِ بُيُوعٌ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي عَلَّقُوا وُقُوعَ الْبَيْعِ بِهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ أَصْحَابُنَا فَهُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَا عَلَى ثَمَنٍ يَقِفُ الْبَيْعُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَزِنُ لَهُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَيُسَلِّمُ الْبَائِعُ إلَيْهِ الْمَبِيعَ, وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْبَيْعِ وَأَحْكَامِهِ, فَلَمَّا فَعَلَا مُوجِبَ الْعَقْدِ مِنْ التَّسْلِيمِ صَارَ ذَلِكَ رِضًى مِنْهُمَا بِمَا وَقَفَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مِنْ السَّوْمِ وَلَمْسِ الثَّوْبِ وَوَضْعِ الْحَصَاةِ وَنَبْذُهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ وَلَا مِنْ أَحْكَامِهِ, فَصَارَ الْعَقْدُ مُعَلَّقًا عَلَى خَطَرٍ فَلَا يَجُوزُ, وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْبِيَاعَاتِ عَلَى الْأَخْطَارِ, وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: "بِعْتُكَهُ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَإِذَا جَاءَ غَدٌ" وَنَحْوَ ذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} عُمُومٌ فِي إطْلَاقِ سَائِرِ التِّجَارَاتِ وَإِبَاحَتِهَا, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] فِي اقْتِضَاءِ عُمُومِهِ, لِإِبَاحَةِ سَائِرِ الْبُيُوعِ إلَّا مَا خَصَّهُ التَّحْرِيمُ; لِأَنَّ اسْمَ التِّجَارَةِ أَعَمُّ مِنْ اسْمِ الْبَيْعِ لِأَنَّ اسْمَ التِّجَارَةِ يَنْتَظِمُ عُقُودَ الْإِجَارَاتِ وَالْهِبَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْأَعْوَاضِ وَالْبِيَاعَاتِ. فَيُضَمَّنُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَهْيٌ مَعْقُودٌ بِشَرِيطَةٍ مُحْتَاجَةٍ إلَى بَيَانٍ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بَاطِلٍ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ حُكْمُ اللَّفْظِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: إطْلَاقُ سَائِرِ التِّجَارَاتِ, وَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهَا لَا إجْمَالَ فِيهِ وَلَا شَرِيطَةَ, فَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرُهُ لَأَجَزْنَا سَائِرَ مَا يُسَمَّى تِجَارَةً, إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّ مِنْهَا أَشْيَاءَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْخَمْرُ وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ يَقْتَضِي سَائِرَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" وَقَالَ فِي الْخَمْرِ: "إنَّ الَّذِي حَرَّمَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا" وَلَعَنَ بَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَبَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ

وَنَحْوِهَا مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَجْهُولَةِ وَالْمَعْقُودَةِ عَلَى غَرَرٍ, جَمِيعُ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ مِنْ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ, فَمَنْ قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ كَانَ تَقْدِيرُهُ: إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ, فَتَكُونُ التِّجَارَةُ الْوَاقِعَةُ عَنْ تَرَاضٍ مُسْتَثْنَاةً مِنْ النَّهْي عَنْ أَكْلِ الْمَالِ; إذْ كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ وَمِنْ غَيْرِ جِهَةِ التِّجَارَةِ, فَاسْتَثْنَى التِّجَارَةَ مِنْ الْجُمْلَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَمَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ كَانَ تَقْدِيرُهُ: إلَّا أَنْ تَقَعَ تِجَارَةٌ, كَقَوْلِ الشَّاعِر: فِدَى لِبَنِي شَيْبَانَ رَحْلِي وَنَاقَتِي ... إذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ يَعْنِي: إذَا حَدَثَ يَوْمٌ كَذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ عَلَى إطْلَاقِهِ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُ شَيْءٌ, وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَنْزِلَةِ: لَكِنْ إنْ وَقَعَتْ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ فَهُوَ مُبَاحٌ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْمَكَاسِبِ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ التِّجَارَةَ الْوَاقِعَةَ عَنْ تَرَاضٍ, وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وقَوْله تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] , فَذَكَرَ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبَ الْمَعَاشِ مَعَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

بَابٌ خِيَارُ الْمُتَبَايِعَيْنِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "إذَا عُقِدَ بَيْعٌ بِكَلَامٍ فَلَا خِيَارَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا" وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا عَقَدَا فَهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "هُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا فِي بُيُوعٍ ثَلَاثَةٍ: بَيْعُ مُزَايَدَةِ الْغَنَائِمِ وَالشَّرِكَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَالشَّرِكَةُ فِي التِّجَارَةِ, فَإِذَا صَافَقَهُ فَقَدْ وَجَبَ وَلَيْسَا فِيهِ بِالْخِيَارِ". وَوَقْتُ الْفُرْقَةِ أَنْ يَتَوَارَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ; وَقَالَ اللَّيْثُ: "التَّفَرُّقُ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا". وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الْخِيَارَ يَقُولُ: إذَا خَيَّرَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَاخْتَارَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. وَرُوِيَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ

تَرَاضٍ مِنْكُمْ} يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَكْلِ بِوُقُوعِ الْبَيْعِ عَنْ تَرَاضٍ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ, إنْ كَانَتْ التِّجَارَةُ إنَّمَا هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ, وَلَيْسَ التَّفَرُّقُ وَالِاجْتِمَاعُ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ تِجَارَةً فِي شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ, فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ أَكْلَ مَا اشْتَرَى بَعْدَ وُقُوعِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ فَمَانِعُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ الْخِيَارِ خَارِجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ مُخَصِّصٌ لَهَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة1] , فَأَلْزَمَ كُلَّ عَاقِدٍ الْوَفَاءَ بِمَا عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ عَقْدٌ قَدْ عَقَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ; وَفِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ نَفْيٌ لِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] , ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهُودِ بِأَخْذِ الرَّهْنِ وَثِيقَةً بِالثَّمَنِ, وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ عَقْدِهِ الْبَيْعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ عَقْدِهِ الْمُدَايَنَةَ, وَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ بِالْعَدْلِ, وَأَمَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْإِمْلَاءِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقْدَهُ الْمُدَايَنَةَ قَدْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الْمُدَايَنَةِ مُوجِبًا لِلْحَقِّ عَلَيْهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لَمَا قَالَ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] , وَلَمَا وَعَظَهُ بِالْبَخْسِ وَهُوَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ; لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الدَّيْنِ لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّتِهِ, وَفِي إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْحَقَّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْخِيَارِ وَإِيجَابِ الْبَتَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] تَحْصِينًا لِلْمَالِ وَاحْتِيَاطًا لِلْبَائِعِ مِنْ جُحُودِ الْمَطْلُوبِ أَوْ مَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] , وَلَوْ كَانَ لَهُمَا الْخِيَارُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِشْهَادِ احْتِيَاطٌ وَلَا كَانَ أَقَوْمَ لِلشَّهَادَةِ; إذْ لَا يُمْكِنُ لِلشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ بِثُبُوتِ الْمَالِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] و"إذَا" هِيَ لِلْوَقْتِ, فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّبَايُعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْفُرْقَةِ, ثُمَّ أَمَرَ بِرَهْنٍ مَقْبُوضٍ فِي السَّفَرِ بَدَلًا مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِالْإِشْهَادِ فِي الْحَضَرِ. وَفِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ إبْطَالُ الرَّهْنِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ إعْطَاءُ الرَّهْنِ بِدَيْنٍ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ, فَدَلَّتْ الْآيَةُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَعَلَى التَّبَايُعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي تَحْصِينِ الْمَالِ تَارَةً بِالْإِشْهَادِ وَتَارَةً بِالرَّهْنِ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ أَوْجَبَ مِلْكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَمِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ بِغَيْرِ خِيَارٍ لَهُمَا; إذْ كَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ نَافِيًا لِمَعَانِي الْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ وَنَافِيًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ يَنْصَرِفُ إلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ حَاضِرِينَ الْعَقْدَ وَيَفْتَرِقَانِ بِحَضْرَتِهِمْ فَتَصِحُّ حِينَئِذٍ شَهَادَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ, وَإِمَّا أَنْ يَتَعَاقَدَا فِيمَا بَيْنَهُمَا عَقْدَ مُدَايَنَةٍ ثُمَّ يَفْتَرِقَانِ وَيُقِرَّانِ عِنْدَ الشُّهُودِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِهِ أَوْ يُرْهِنُهُ بِالدَّيْنِ رَهْنًا فَيَصِحُّ. قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا خِلَافُ الْآيَةِ وَفِيهِمَا إبْطَالُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] , فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ عِنْدَ وُقُوعِهِ بِلَا تَرَاخٍ احْتِيَاطًا لَهُمَا, وَزَعَمْت أَنْتَ أَنَّهُ يَشْهَدُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ, وَجَائِزٌ أَنْ تَهْلِكَ السِّلْعَةُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَيَبْطُلُ الدَّيْنُ, أَوْ يَجْحَدُهُ إلَى أَنْ يَفْتَرِقَا وَيَشْهَدَا, وَجَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ فَلَا يَصِلُ الْبَائِعُ إلَى تَحْصِينِ مَالِهِ بِالْإِشْهَادِ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] فَنَدَبَ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى التَّبَايُعِ عِنْدَ وُقُوعِهِ, وَلَمْ يَقُلْ: "إذَا تَبَايَعْتُمْ وَتَفَرَّقْتُمْ" وَمُوجِبُ الْخِيَارِ مُثْبَتٌ فِي الْآيَةِ مِنْ التَّفَرُّقِ مَا لَيْسَ فِيهَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَإِنْ تَرَكَا الْإِشْهَادَ إلَى بَعْدِ الِافْتِرَاقِ كَانَ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَدَبَ إلَى الْإِشْهَادِ, وَعَسَى أَنْ يَمُوتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِشْهَادِ أَوْ يَجْحَدُهُ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ إيجَابُ الْخِيَارِ مَسْقَطًا لِمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ وَتَحْصِينِ الْمَالِ بِالْإِشْهَادِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَتَاتًا لَا خِيَارَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ شَرَطَا فِي الْبَيْعِ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِثَلَاثٍ كَانَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ صَحِيحًا مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ, وَلَمْ يَكُنْ مَا تَلَوْت مِنْ آيَةِ الدَّيْنِ وَكَتْبُ الْكِتَابِ وَالْإِشْهَادُ وَالرَّهْنُ مَانِعًا وُقُوعِهِ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ وَصِحَّةِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ, فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ الشَّهَادَةِ وَالرَّهْنِ. قِيلَ لَهُ: الْآيَةُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْإِشْهَادِ لَمْ تَتَضَمَّنْ الْبَيْعَ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنَّمَا تَضَمَّنَتْ بَيْعًا بَاتًّا, وَإِنَّمَا أَجَزْنَا شَرْطَ الْخِيَارِ بِدَلَالَةٍ خَصَصْنَاهُ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فِي الْمُدَايَنَاتِ وَاسْتَعْمَلْنَا حُكْمَهَا فِي الْبِيَاعَاتِ الْعَارِيَّةِ مِنْ شَرْطِ الْخِيَارِ, فَلَيْسَ فِيمَا أَجَزْنَا مِنْ الْبَيْعِ الْمَعْقُودِ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ مَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ حُكْمِ الْآيَةِ بِمَا انْتَظَمْته مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ وَصِحَّةِ إقْرَارِ الْعَاقِدِ فِي الْبِيَاعَاتِ الَّتِي لَمْ يُشْرَطْ فِيهَا خِيَارٌ, وَالْبَيْعُ الْمَعْقُودُ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهَا لِمَا وَصَفْنَا حَتَّى يَسْقُطَ الْخِيَارُ وَيَتِمَّ الْبَيْعُ, فَحِينَئِذٍ يَكُونَانِ مَنْدُوبَيْنِ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْإِقْرَارِ دُونَ التَّبَايُعِ; وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ فِي كُلِّ بَيْعٍ وَتَمَّ الْبَيْعُ عَلَى حَسَبِ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ مُخَالِفُونَا لَمْ يَبْقَ لِلْآيَةِ مَوْضِعٌ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ حُكْمُهَا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الرِّضَى بِالْبَيْعِ لِيَرْتَئِيَ فِي إبْرَامِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ, فَإِذَا تَعَاقَدَا عَقْدَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ

الْخِيَارِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِتَمْلِيكِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ لَصَاحِبِهِ, فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الرِّضَى بِهِ, وَوُجُودُ الرِّضَى مَانِعٌ مِنْ الْخِيَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَصَاحِبِهِ "اخْتَرْ" فَاخْتَارَهُ وَرَضِيَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِخِيَارِهِمَا؟ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ رِضَاهُمَا بِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ, وَالرِّضَى مَوْجُودٌ مِنْهُمَا بِنَفْسِ الْمُعَاقَدَةِ, فَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى رِضًى ثَانٍ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ بَعْدَ رِضَاهُمَا بِهِ بَدِيًّا بِالْعَقْدِ رِضًى آخَرُ لَجَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ رِضًى ثَانٍ وَثَالِثٌ, وَكَانَ لَا يَمْنَعُ رِضَاهُمَا بِهِ مِنْ إثْبَاتِ خِيَارٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ, فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا صَحَّ أَنَّ رِضَاهُمَا بِالْبَيْعِ هُوَ إبْطَالٌ لِلْخِيَارِ وَإِتْمَامٌ لِلْبَيْعِ. وَإِنَّمَا صَحَّ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ رِضًى بِإِخْرَاجِ شَيْئِهِ مِنْ مِلْكِهِ حِينَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الْخِيَارَ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَازَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ قَدْ أَثْبَتَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ مَعَ وُجُودِ الرِّضَى بِالْبَيْعِ, وَلَمْ يَمْنَعْ رِضَاهُمَا مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ, فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ رِضَاهُمَا بِهِ مِنْ إثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارُ الْعَيْبِ مِنْ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي شَيْءٍ; وَذَلِكَ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا عَقَدَ لَهُ صَاحِبُهُ مِنْ جِهَتِهِ لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ, فَلَيْسَ لِهَذَا الْخِيَارُ تَأْثِيرٌ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ, بَلْ الْمِلْكُ وَاقِعٌ مَعَ وُجُودِ الْخِيَارِ لِأَجْلِ وُجُودِ الرِّضَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ, وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ عَلَى وُقُوعِ الْقَائِلِينَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ وُقُوعِ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا مَلَّكَهُ إيَّاهُ صَاحِبُهُ مَعَ وُجُودِ الرِّضَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّضَى بِهِ بَدِيًّا بِإِيجَابِهِ لَهُ الْعَقْدَ وَبَيْنَهُ إذَا قَالَ: "قَدْ رَضِيت فَاخْتَرْ" وَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ; فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ فِيمَا فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارُ الْعَيْبِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْخِيَارَيْنِ فِي بَابِ وُقُوعِ الْمِلْكِ بِهِ, وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِيَارٍ غَيْرِ نَافٍ لِلْمِلْكِ, وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ جَهَالَةِ صِفَاتِ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ أَوْ لِفَوْتِ جُزْءٍ مِنْهُ مُوجِبٍ لَهُ بِالْعَقْدِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّضَى بِالْعَقْدِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى وُقُوعِ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَبُطْلَانِ الْخِيَارِ بِهِ, وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفُرْقَةِ دَلَالَةٌ عَلَى الرِّضَى وَلَا عَلَى نَفْيِهِ; لِأَنَّ حُكْمَ الْفُرْقَةِ وَالْبَقَاءِ فِي الْمَجْلِسِ سَوَاءٌ فِي نَفْيِ دَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَى, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا وَقَعَ بِالرِّضَى بَدِيًّا بِالْعَقْدِ لَا بِالْفُرْقَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ فُرْقَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَمْلِيكٌ وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ, بَلْ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي فَسْخِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ, مِنْ ذَلِكَ الْفُرْقَةِ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعَنْ السَّلْمِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِرَأْسِ الْمَالِ وَعَنْ الدَّيْنِ قَبْلَ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا, فَلَمَّا وَجَدْنَا الْفُرْقَةَ فِي الْأُصُولِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ إنَّمَا تَأْثِيرُهَا فِي إبْطَالِ الْعَقْدِ دُونَ جَوَازِهِ وَلَمْ نَجِدْ فِي الْأُصُولِ فُرْقَةً

مُؤَثِّرَةً فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَجَوَازِهِ ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَوُقُوعَ الْفُرْقَةِ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْكِتَابِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ افْتِرَاقُهُمَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَنْ قَبْضٍ صَحِيحٍ, فَإِنْ كَانَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ثَابِتًا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ مَعَ التَّقَابُضِ وَالْعَقْدُ لَمْ يَتِمَّ مَا بَقِيَ الْخِيَارُ, فَإِذَا افْتَرَقَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ بِالِافْتِرَاقِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ صِحَّتِهِ, فَإِذَا كَانَا قَدْ افْتَرَقَا عَنْهُ وَلَمَّا يَصِحَّ بَعْدُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ بِالِافْتِرَاقِ فَيَكُونُ الْمُوجِبُ لِصِحَّتِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِبُطْلَانِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" فَأَحَلَّ لَهُ الْمَالَ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ, وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ, فَوَجَبَ بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ أَنْ يَحِلَّ لَهُ; وَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ كَدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي, فَأَبَاحَ بَيْعُهُ إذَا جَرَى فِيهِ الصَّاعَانِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الِافْتِرَاقَ, فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ إذَا اكْتَالَهُ مِنْ بَائِعِهِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي تَعَاقَدَا فِيهِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ" فَلَمَّا أَجَازَ بَيْعَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَشْرُطْ فِيهِ الِافْتِرَاقَ, فَوَجَبَ بِقَضِيَّةِ الْخَبَرِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ, وَذَلِكَ يَنْفِي خِيَارَ الْبَائِعِ لِأَنَّ مَا لِلْبَائِعِ فِيهِ خِيَارٌ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ, وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا وَلَهُ ثَمَرَةٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ" , فَجَعَلَ الثَّمَرَةَ وَمَالَ الْعَبْدِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّفْرِيقِ, وَمُحَالٌ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ مِلْكِ الْأَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ"; وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ بَعْدَ الشِّرَى, وَأَنَّهُ مَتَى صَحَّ لَهُ الْمِلْكُ عَتَقَ عَلَيْهِ, فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ عِتْقَهُ بِالشِّرَى مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْفُرْقَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَيَقْصُرُ, فَلَوْ عَلَّقْنَا وُقُوعَ الْمِلْكِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَأَوْجَبَ بُطْلَانَهُ لِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْخِيَارِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْمِلْكِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا وَشَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا بِمِقْدَارِ قُعُودِ فُلَانٍ فِي مَجْلِسِهِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْخِيَارِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ؟ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي بَرْزَةَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا". وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْبَيْعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَائِعِهِ مَا لَمْ

يَفْتَرِقَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَإِذَا كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَايَعَ الرَّجُلَ وَلَمْ يُخَيِّرْهُ وَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيْهَةً ثُمَّ رَجَعَ. فَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا" وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ, وَقَدْ عَقَلَ مِنْ مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرْقَةَ الْأَبَدَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فَلَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَافَ أَنْ يَكُونَ بَائِعُهُ مِمَّنْ يَرَى الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ فَيُحْذَرُ مِنْهُ بِذَلِكَ حَذَرًا مِمَّا لَحِقَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ, حَتَّى خُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ فَحَمَلَهُ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ وَلَمْ يُجِزْ الْبَرَاءَةَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَهُ لِمُبْتَاعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ, وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "مَا أَدْرَكَتْ الصَّفْقَةُ حَيًّا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ", وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالصَّفْقَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ, وَذَلِكَ يَنْفِي الْخِيَارَ.

مطلب: في قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار" وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا", وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "الْبَائِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا", فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ تَقْتَضِي حَالَ التَّبَايُعِ وَهِيَ حَالُ السَّوْمِ, فَإِذَا أَبْرَمَا الْبَيْعَ وَتَرَاضَيَا فَقَدْ وَقَعَ الْبَيْعُ, فَلَيْسَا مُتَبَايِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ الْمُتَضَارِبَيْنِ وَالْمُتَقَايِلِينَ إنَّمَا يَلْحَقُهُمَا هَذَا الِاسْمُ فِي حَالِ التَّضَارُبِ وَالتَّقَايُلِ, وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْفِعْلِ لَا يُسَمَّيَانِ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَانَا مُتَقَايِلَيْنِ وَمُتَضَارِبَيْنِ; وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ مَعْنَى اللَّفْظِ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّأْوِيلُ يُودِي إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ الْمُتَسَاوِمَيْنِ قَبْلَ وُجُودِ التَّرَاضِي بِالْعَقْدِ هُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا فِي إيقَاعِ الْعَقْدِ أَوْ تَرْكِهِ. قِيلَ لَهُ: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ, وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ لِلْمُشْتَرِي "قَدْ بِعْتُك" أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ رُجُوعٌ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي, كَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى وَلَا لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ; فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَأَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْعِتْقِ وَالْخُلْعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْمُتَسَاوِمَانِ مُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ وُقُوعِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ لَهُ: جَائِزٌ إذَا قَصَدَا إلَى الْبَيْعِ بِإِظْهَارِ السَّوْمِ فِيهِ كَمَا نُسَمِّي الْقَاصِدَيْنِ إلَى الْقَتْلِ مُتَقَاتِلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمَا قَتْلٌ بَعْدُ, وَكَمَا قِيلَ لِوَلَدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ: الذَّبِيحَ

لِقُرْبِهِ مِنْ الذَّبْحِ وَإِنْ لَمْ يُذْبَحْ; وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَالْمَعْنَى فِيهِ مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] وَأَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْبُلُوغِ. فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا أَنْ يُسَمَّى الْمُتَسَاوِمَانِ مُتَبَايِعَيْنِ إذَا قَصَدَا إيقَاعَ الْعَقْدِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا, وَاَلَّذِي لَا يَخْتَلُّ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ مِنْهُمَا لَا يُسَمَّيَانِ مُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ إذَا انْقَضَتْ زَالَ عَنْ فَاعِلِيهَا الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَهَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ, إلَّا فِي أَسْمَاءِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ; وَإِنَّمَا يُقَالُ كَانَا مُتَبَايِعَيْنِ وَكَانَا مُتَقَايِلَيْنِ وَكَانَا مُتَضَارِبَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لَهُمَا بَعْدَ إيقَاعِ الْعَقْدِ أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ مِنْهُمَا الْإِقَالَةُ وَالْفَسْخُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مُتَقَايِلَانِ فِي حَالِ فِعْلِ الْإِقَالَةِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَا مُتَقَايِلَيْنِ مُتَفَاسِخَيْنِ وَمُتَبَايِعَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَيْهِمَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ حَالَ السَّوْمِ وَإِيقَاعَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً, وَأَنَّ هَذَا الِاسْمَ إنَّمَا يَلْحَقُهُمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَقْدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمَا كَانَا مُتَبَايِعَيْنِ وَذَلِكَ مَجَازٌ, وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ حَالُ التَّبَايُعِ, وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "قَدْ بِعْتُك" فَأَطْلَقَ اسْمَ الْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ, فَهَذِهِ هِيَ الْحَالُ الَّتِي هُمَا مُتَبَايِعَانِ فِيهَا وَهِيَ حَالُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْقَبُولِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَيَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَذِهِ الْحَالُ قَوْلُهُ: "الْمُتَبَايِعَانِ" وَإِنَّمَا الْبَائِعُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ, فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْبَائِعُ قَدْ بِعْت فَهُمَا بِالْخِيَارِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ بِبَائِعٍ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ: إذَا بَاعَ الْبَائِعُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْوِيلِ قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار مَا لَمْ يَفْتَرِقَا" فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْن الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا قَالَ الْبَائِعُ قَدْ بِعْتُك فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي قَبِلْت, قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: "هُمَا الْمُتَسَاوِيَانِ, فَإِذَا قَالَ بِعْتُك بِعَشْرَةٍ فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الرُّجُوعِ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي, وَمَتَى قَامَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبُولِ الْبَيْعِ بَطَلَ الْخِيَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إجَازَتُهُ". فَحَمَلَهُ مُحَمَّدُ عَلَى الِافْتِرَاقِ بِالْقَوْلِ وَذَلِكَ سَائِغٌ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] , وَيُقَالُ: تَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِي كَذَا فَافْتَرَقُوا عَنْ كَذَا, يُرَادُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ عَلَى قَوْلٍ وَالرِّضَى بِهِ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ فِي الْمَجْلِسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِافْتِرَاقُ بِالْقَوْلِ, مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ:

حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةُ خِيَارٍ, وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ". وَقَوْلُهُ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا" هُوَ عَلَى الِافْتِرَاقِ بِالْقَوْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: "وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ"؟ وَهَذَا هُوَ افْتِرَاقُ الْأَبْدَانِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِالْقَوْلِ وَصِحَّةُ وُقُوعِ الْعَقْدِ بِهِ, وَالِاسْتِقَالَةُ هُوَ مَسْأَلَةُ الْإِقَالَةِ; وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى نَفْيِ الْخِيَارِ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَقْدِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لَمَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يَسْأَلَهُ الْإِقَالَةَ بَلْ كَانَ هُوَ يَفْسَخُهُ بِحَقِّ الْخِيَارِ الَّذِي لَهُ فِيهِ, وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَحُصُولِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا عَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهِ, فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخِيَارِ وَصِحَّةِ الْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ: "وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى إقَالَتِهِ إذَا سَأَلَهُ إيَّاهَا مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ مَكْرُوهٌ لَهُ أَنْ لَا يُجِيبَهُ إلَيْهَا, وَأَنَّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ مُخَالِفٌ لَهُ إذَا لَمْ يُفَارِقْهُ فِي أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ إجَابَتِهِ إلَى الْإِقَالَةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَيُكْرَهُ لَهُ قَبْلَهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّعَانِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ الْقَسْمَلِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا" , فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ كُلَّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا إلَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِنَفْيِهِ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ السَّوْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا قَدْ تَبَايَعَا لَمْ يَنْفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَايُعَهُمَا مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفِي مَا قَدْ أَثْبَتَ; فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُتَسَاوِمَانِ اللَّذَانِ قَدْ قَصَدَا إلَى التَّبَايُعِ وَأَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ لِلْمُشْتَرِي وَقَصَدَ الْمُشْتَرِي إلَى شِرَائِهِ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ لَهُ "بِعْنِي" فَنَفَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ حَتَّى يَفْتَرِقَا بِالْقَوْلِ وَالْقَبُولِ; إذْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ "بِعْنِي" قَبُولًا لِلْعَقْدِ وَلَا مِنْ أَلْفَاظِ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِهِ, فَإِذَا قَالَ "قَدْ قَبِلْت" وَقَعَ الْبَيْعُ; فَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاقُ الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَ نَظَائِرِهِ فِي إطْلَاقِ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْيِهِ الْبَيْعَ حَالَ إيقَاعِ الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؟ وَإِنَّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ لِمَا لَهُمَا فِيهِ مِنْ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ اسْمِ الْبَيْعِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثْبَتَ بَيْنَهُمَا الْبَيْعَ إذَا شَرَطَا فِيهِ الْخِيَارَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ

مُوجِبًا لِنَفْيِ اسْمِ الْبَيْعِ عَنْهُ; لِأَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ"؟ فَجَعَلَ بَيْعَ الْخِيَارِ بَيْعًا, فَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا" حَالَ وُقُوعِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَمَا نَفَى الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ كَمَا لَمْ يَنْفِهِ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارٌ مَشْرُوطٌ بَلْ أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ بَيْعًا; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا" إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْبَيْعِ. وَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: "اشْتَرِ مِنِّي" أَوْ قَوْلَ الْمُشْتَرِي "بِعْنِي" لَيْسَ بِبَيْعٍ حَتَّى يَفْتَرِقَا بِأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ "قَدْ بِعْت" وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي "قَدْ اشْتَرَيْت" فَيَكُونَا قَدْ افْتَرَقَا وَتَمَّ الْبَيْعُ, وَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِيَارٌ مَشْرُوطٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا, وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا بَعْدَ حُصُولِ الِافْتِرَاقِ فِيهِمَا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. وَأَكْثَرُ أَحْوَالِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا" احْتِمَالُهُ لِمَا وَصَفْنَا وَلِمَا قَالَ مُخَالِفُنَا; وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِالِاحْتِمَالِ بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ. وَيَدُلُّ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالْعِتْقَ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحَ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا تَعَاقَدَاهُ بَيْنَهُمَا صَحَّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ يَثْبُتُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا, وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ مَشْرُوطٍ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: "لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ1 عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] وَمَعْنَاهُ: يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: قُتِلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ, إذَا قُتِلَ بَعْضُهُمْ. وَقِيلَ: إنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ فَهُمْ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ, فَلِذَلِكَ قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَأَرَادَ قَتْلَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ إذَا أَلِمَ بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ وَقَالَ: الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي أَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] . وَيَحْتَمِلُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي طَلَبِ الْمَالِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَ نَفْسَهُ عَلَى الْغَرَرِ الْمُؤَدِّي إلَى التَّلَفِ. وَيَحْتَمِلُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي حَالِ غَضَبٍ أَوْ ضَجَرٍ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً لاحتمال اللفظ لها.

_ 1 قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} الآية, قرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم, وحتى يقتلوكم وإن قتلوكم كله بغير ألف وقرأ الباقون بالألف "لمصححه".

وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} فَإِنَّهُ قِيلَ فِيمَا عَادَ إلَيْهِ هَذَا الْوَعِيدُ وُجُوهُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَيَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْخَصْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: "فِي قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ خَاصَّةً". وَقِيلَ: إنَّهُ عَائِدٌ عَلَى فِعْلِ كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء: 19] لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مَقْرُونٌ بِالْوَعِيدِ, وَالْأَظْهَرُ عَوْدُهُ إلَى مَا يَلِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ. وقيد الوعيد بقوله: {عُدْوَاناً وَظُلْماً} لِيَخْرُجَ مِنْهُ فِعْلُ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَمَا كَانَ طَرِيقَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ إلَى حَدِّ التَّعَمُّدِ وَالْعِصْيَانِ. وَذَكَرَ الظُّلْمَ وَالْعُدْوَانَ مَعَ تَقَارُبِ مَعَانِيهِمَا; لِأَنَّهُ يَحْسُنُ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ, كَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: وَقَدَدْتُ الْأَدِيمَ لِرَاهِشِيهِ ... وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا وَالْكَذِبُ هُوَ الْمَيْنُ; وَحَسُنَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَكَقَوْلِ بِشْرِ بْنِ حَازِمٍ: فَمَا وَطِئَ الْحَصَى مِثْلُ ابْنِ سُعْدَى ... وَلَا لَبِسَ النِّعَالَ وَلَا احْتَذَاهَا وَالِاحْتِذَاءُ هُوَ لُبْسُ النَّعْلِ. وَكَمَا تَقُولُ: بُعْدًا وَسُحْقًا, وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ, وَحَسُنَ لَاخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّمَنِّي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ وَيُذْكَرُ الرِّجَالُ وَلَا تُذْكَرُ النِّسَاءُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الْآيَةَ, وَنَزَلَتْ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "لَا يَتَمَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ وَمَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ شَيْئًا وَلَا الصَّبِيَّ وَيَجْعَلُونَ الْمِيرَاثَ لِمَنْ يُحِبُّونَ فَلَمَّا أُلْحِقَ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا وَلِلصَّبِيِّ نَصِيبُهُ وَجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ, قَالَتْ النِّسَاءُ: لَوْ كَانَ أَنْصِبَاؤُنَا فِي الْمِيرَاثِ كَأَنْصِبَاءِ الرِّجَالِ وَقَالَ الرِّجَالُ: إنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} يَقُولُ: الْمَرْأَةُ تُجْزَى بِحَسَنَاتِهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا كَمَا يُجْزَى الرَّجُلُ; قَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} وَنَهَى اللَّهُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَهُ فِي إعْطَائِهِ ما أعطى

الْآخَرَ لَفَعَلَ, وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ بُخْلٍ وَلَا عَدَمٍ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ لِيُعْطِيَ مَا هُوَ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْحَسَدِ وَهُوَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ إلَيْهِ, وَهُوَ مِثْلُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: "لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ رَازِقُهَا" , فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا كَانَتْ قَدْ رَكَنَتْ إلَيْهِ وَرَضِيت بِهِ, وَأَنْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِهِ كَذَلِكَ; فَمَا ظَنُّك بِمَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَا قَدْ صَارَ لِغَيْرِهِ وَمَلَكَهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا" , يَعْنِي أَنْ تَسْعَى فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا وَتَحْصِيلِهِ لِنَفَسِهَا. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناء الليل والنهار".

مطلب: التمني على وجهين محظور وغير محظور قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالتَّمَنِّي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُلُ أَنْ تَزُولَ نِعْمَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ, فَهَذَا الْحَسَدُ, وَهُوَ التَّمَنِّي الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ, فَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ إذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ, وَمَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ. وَمِنْ التَّمَنِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنْ يَتَمَنَّى مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ, مِثْلُ أَنْ تَتَمَنَّى الْمَرْأَةُ أَنْ تَكُونَ رَجُلًا أَوْ تَتَمَنَّى حَالَ الْخِلَافَةِ وَالْإِمَامَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ وَلَا تَقَعُ. وقَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَظًّا مِنْ الثَّوَابِ قَدْ عَرَضَ لَهُ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِهِ وَلُطِفَ لَهُ فِيهِ حَتَّى اسْتَحَقَّهُ وَبَلَغَ عُلُوَّ الْمَنْزِلَةِ بِهِ, فَلَا تَتَمَنَّوْا خِلَافَ هَذَا التَّدْبِيرِ, فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ غَيْرُ مَبْخُوسٍ وَلَا مَنْقُوصٍ وَالْآخَرُ: أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبَ فَلَا يُضَيِّعُهُ بِتَمَنِّي مَا لِغَيْرِهِ مُحْبِطًا لِعَمَلِهِ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا, فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ إنْ احْتَجْتُمْ إلَى مَا لِغَيْرِكُمْ فَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَكُمْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ, لَا بِأَنْ تَتَمَنَّوْا مَا لِغَيْرِكُمْ; إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُغْنِي إنْ تَكُنْ مَعْقُودَةً بِشَرِيطَةِ الْمَصْلَحَةِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب.

بَابِ الْعَصَبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "الْمَوَالِي هَهُنَا الْعَصَبَةُ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الْمَوَالِي الْوَرَثَةُ". وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْمَوْلَى مِنْ وَلِيَ الشَّيْءَ يَلِيهِ, وَهُوَ اتِّصَالُ الْوِلَايَةِ فِي التَّصَرُّفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَوْلَى لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: فَالْمَوْلَى الْمُعْتِقُ; لِأَنَّهُ وَلِيُّ نِعْمَةٍ فِي عِتْقِهِ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَوْلَى النِّعْمَةِ. وَالْمَوْلَى الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ لِاتِّصَالِ وِلَايَةِ مَوْلَاهُ بِهِ فِي إنْعَامِهِ عَلَيْهِ, وَهَذَا كَمَا يُسَمَّى الطَّالِبُ غَرِيمًا; لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ بِحَقِّهِ وَيُسَمَّى الْمَطْلُوبُ غَرِيمًا لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ وَلِلُزُومِ الدَّيْنِ إيَّاهُ. وَالْمَوْلَى الْعَصَبَةُ, وَالْمَوْلَى الْحَلِيفُ; لِأَنَّ الْمُحَالِفَ يَلِي أَمْرَهُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ. وَالْمَوْلَى ابْنُ الْعَمِّ; لِأَنَّهُ يَلِيهِ بِالنُّصْرَةِ لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا. وَالْمَوْلَى الْوَلِيُّ; لِأَنَّهُ يَلِي بِالنُّصْرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] أَيْ يَلِيهِمْ بِالنُّصْرَةِ وَلَا نَاصِرَ لِلْكَافِرِينَ يُعْتَدُّ بِنُصْرَتِهِ. وَيُرْوَى لِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لا تظهرن لنا ما كان فونا فَسَمَّى بَنِي الْعَمِّ مَوَالِيَ. وَالْمَوْلَى مَالِكُ الْعَبْدِ; لِأَنَّهُ يَلِيهِ بِالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْحِمَايَةِ. فَاسْمُ الْمَوْلَى يَنْصَرِفُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْلَى وَمَوَالٍ أَسْفَلُ: إنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لِامْتِنَاعِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ اللَّفْظِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ, وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ, فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْمَوْلَى هَهُنَا الْعَصَبَةُ لِمَا رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ, مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِلْمَوَالِي الْعَصَبَةِ, وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا1 فَأَنَا وَلِيُّهُ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ, فَمَا أَبَقْت السِّهَامُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ". وَرُوِيَ: "فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" ; وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوَالِي عَصَبَةً. وَقَوْلُهُ: "فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} هُمْ الْعَصَبَاتُ, وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَا فَضَلَ عَنْ سِهَامِ ذَوِي السِّهَامِ فَهُوَ لِأَقْرَبِ الْعَصَبَاتِ إلَى الْمَيِّتِ. وَالْعَصَبَاتُ هُمْ الرِّجَالُ الَّذِينَ تَتَّصِلُ قَرَابَتُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ بِالْبَنِينَ وَالْآبَاءِ, مِثْلُ الْجَدُّ وَالْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ, وَكَذَلِكَ مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمْ الْبَنُونَ وَالْآبَاءُ, إلَّا الْأَخَوَاتُ فَإِنَّهُنَّ عَصَبَةٌ مَعَ الْبَنَاتِ خَاصَّةً:. وَإِنَّمَا يَرِثُ مِنْ الْعَصَبَاتِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَلَا مِيرَاثَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ الْأَقْرَبِ; وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ لَا يتصل نسبه بالميت إلا من

_ 1 قوله: "او ضياعا" بفتح ىالضاد وكسرها: العيال "لمصححه".

قِبَلِ النِّسَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ. وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَصَبَةٌ لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ وَلِأَوْلَادِهِ, وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ الْمُعْتَقِ الذُّكُورُ مِنْهُمْ يَكُونُونَ عَصَبَةً لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ إذَا مَاتَ أَبُوهُمْ, وَيَصِيرُ وَلَاؤُهُ لَهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ مِنْ وَلَدِهِ. وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ النِّسَاءِ عَصَبَةً بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أُعْتِقَتْ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أُعْتِقَتْ. وَإِنَّمَا صَارَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَصَبَةً بِالسُّنَّةِ, وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إذْ كَانَ عَصَبَةً وَيَعْقِلُ عَنْهُ كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَنُو أَعْمَامِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَيِّتُ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَقْرِبَاءِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَلَا مِنْ وَالِدَيْهِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ مِنْ ذَوِي نِسْبَةٍ مِنْ الْمَيِّتِ نَحْوُ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ, جَازَ دُخُولُهُ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ, فَيَسْتَحِقُّ بِأَصْلِ السِّهَامِ لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَيِّتِ; إذْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ, فَيَكُونُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ قَدْ وَرِثَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِيرَاثِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ مِنْ الْأَعْلَى, فَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك وَالثَّوْرَيْ وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "لَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مِنْ الْمَوْلَى الْأَعْلَى". وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: "يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى" وَذَهَبَ فِيهِ إلَى حَدِيثٍ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَوَهْبُ بْنُ خَالِدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَوْسَجَةِ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ, فَمَاتَ الْمُعْتِقُ وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْمُعْتَقَ, فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ لِلْغُلَامِ الْمُعْتَقِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُعَارِضٌ فَوَجَبَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ لَكِنَّهُ لِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ; لِأَنَّهُ كَانَ مَالًا لَا وَارِثَ لَهُ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْفُقَرَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الْأَسْبَابُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْمِيرَاثُ هِيَ الْوَلَاءُ وَالنَّسَبُ وَالنِّكَاحُ, وَكَانَ ذَوُو الْأَنْسَابِ يَتَوَارَثُونَ وَكَذَلِكَ الزَّوْجَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ الْمِيرَاثَ لِلْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ أَنْ يُوجِبَهُ لِلْأَسْفَلِ مِنْ الْأَعْلَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ; لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي ذَوِي الْأَنْسَابِ مَنْ يَرِثُ غَيْرَهُ وَلَا يَرِثُهُ هُوَ إذَا مَاتَ; لِأَنَّ امْرَأَةً لَوْ تَرَكَتْ أُخْتًا أَوْ ابْنَةً وَابْنَ أَخِيهَا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ, وَلَوْ كَانَ مَكَانَهَا مَاتَ ابْنُ الْأَخِ وَخَلَّفَ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا وَعَمَّتَهُ لَمْ تَرِثْ الْعَمَّةُ شَيْئًا, فَقَدْ وَرِثَهَا ابْنُ الْأَخِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا تَرِثُهُ هِيَ, وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} رَوَى طَلْحَةُ بْنُ

مُصَرِّفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ, فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} نُسِخَتْ; ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} , قَالَ: مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ, وَيُوصِي لَهُ, وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ أَيُّهُمَا مَاتَ وَرِثَهُ الْآخَرُ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] , يَقُولُ: إلَّا أَنْ يُوصُوا لِأَوْلِيَائِهِمْ الَّذِينَ عَاقَدُوا لَهُمْ وَصِيَّةً, فَهُوَ لَهُمْ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ, فَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ. وَرَوَى أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَمُوتُ فَيَرِثُهُ, فَعَاقَدَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا فَمَاتَ فَوَرِثَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هَذَا فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ رِجَالًا وَيُوَرِّثُونَهُمْ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ أَنْ يُجْعَلَ لَهُمْ مِنْ الْوَصِيَّةِ, وَرَدَّ الْمِيرَاثَ إلَى الْمَوَالِي مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ وَالْعَصَبَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ, وَهُوَ الْمِيرَاثُ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالْمُوَالَاةِ; ثُمَّ قَالَ قَائِلُونَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] . وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ مِنْ الْأَصْلِ, وَلَكِنَّهُ جَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوَالِي الْمُعَاقَدَةِ, فَنَسَخَ مِيرَاثَهُمْ فِي حَالِ وُجُودِ الْقَرَابَاتِ وَهُوَ بَاقٍ لَهُمْ إذَا فَقَدَ الْأَقْرِبَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لَهُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: "إذَا جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لِمَنْ وَالَاهُ, وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَقَدْ وَالَاهُ وَمِيرَاثُهُ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ إذَا لَمْ يَدَعْ وَارِثًا غَيْرَهُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْآيَةُ تُوجِبُ الْمِيرَاثَ لِلَّذِي وَالَاهُ وَعَاقَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا; لِأَنَّهُ كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ, وَحَكَمَ اللَّهُ بِهِ فِي نَصِّ التَّنْزِيلِ, ثُمَّ قَالَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] فَجَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْمُعَاقِدِينَ الْمَوَالِي, فَمَتَى فُقِدَ ذَوُو الْأَرْحَامِ

وَجَبَ مِيرَاثُهُمْ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ; إذْ كَانَتْ إنَّمَا نَقَلَتْ مَا كَانَ لَهُمْ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ إذَا وُجِدُوا, فَإِذَا لَمْ يُوجَدُوا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهَا, فَهِيَ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ الرَّمْلِيُّ وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَوْهَبٍ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ تَمِيمِ الدَّارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: "هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ", فَقَوْلُهُ: "هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَمَاتِهِ" يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلَاهُمْ بِمِيرَاثِهِ; إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَهُمَا وِلَايَةٌ إلَّا فِي الْمِيرَاثِ, وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} يَعْنِي وَرَثَةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ فَوَالَى رَجُلًا هَلْ بِذَلِكَ بَأْسٌ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ, قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ قَوْمٍ ضَمِنُوا جَرَائِرَهُ وَحَلَّ لَهُمْ مِيرَاثُهُ". وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ بِأَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فَمِيرَاثُهُ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ". وَقَدْ رَوَى أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ" وَقَالَ: "لَا يَتَوَلَّى مَوْلَى قَوْمٍ إلَّا بِإِذْنِهِمْ", وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الْمُوَالَاةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "إلَّا بِإِذْنِهِمْ" فَأَجَازَ الْمُوَالَاةَ بِإِذْنِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِهِ, إلَّا أَنَّهُ كَرِهَهُ إلَّا بِإِذْنِ الْأَوَّلِينَ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لَا يَصِحُّ النَّقْلُ عَنْهُ; وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ". فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ, وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" قَالَ: فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حِلْفِ الْإِسْلَامِ وَمَنْعَ التَّوَارُثِ بِهِ. قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيِ الْحِلْفِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانُوا يَتَحَالَفُونَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ حِلْفَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَنْ يُعَاقِدَهُ فَيَقُولُ: "هَدْمِي هَدْمُكَ وَدَمِي دَمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ" وَكَانَ فِي هَذَا

الْحِلْفِ أَشْيَاءُ قَدْ حَظَرَهَا الْإِسْلَامُ, وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَشْرِطُ أَنْ يُحَامِيَ عَلَيْهِ وَيَبْذُلَ دَمَهُ دُونَهُ وَيَهْدِمَ مَا يَهْدِمُهُ فَيَنْصُرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ; وَقَدْ أَبْطَلَتْ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْحِلْفَ وَأَوْجَبَتْ مَعُونَةَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يُتَنَصَّفَ مِنْهُ وَأَنْ لَا يُلْتَفَتَ إلَى قَرَابَةٍ وَلَا غَيْرِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] , فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ فِي الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ وَأَمَرَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَأَبْطَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مَعُونَةِ الْقَرِيبِ وَالْحَلِيفِ عَلَى غَيْرِهِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مظلوما.

مطلب: في معنى قوله: "انصر أخاك ظالما أَوْ مَظْلُومًا" وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" قَالُوا: يَا رَسُولُ اللَّهِ هَذَا يُعِينُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ يُعِينُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "أَنْ تَرُدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ مَعُونَةٌ مِنْكَ لَهُ". وَكَانَ فِي حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَرِثَهُ الْحَلِيفُ دُونَ أَقْرِبَائِهِ فَنَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" التَّحَالُفَ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمُحَامَاةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي دِينٍ أَوْ حُكْمٍ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ دُونَ مَا يَعْقِدُهُ الْحَلِيفُ عَلَى نَفْسِهِ, وَنَفَى أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْحَلِيفُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْأَقَارِبِ; فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ زَادَهُ شِدَّةً وَتَغْلِيظًا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَإِبْطَالِهِ, فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجُزْ الْحِلْفُ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَنَاصُرِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَاوُنِهِمْ فَحِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّوَارُثِ بِالْمُوَالَاةِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ إنَّهُ جَائِزٌ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِيرَاثَهُ لِغَيْرِهِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَيَزْوِيَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ, جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ; إذْ كَانَتْ الْمُوَالَاةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِعَقْدِهِ وَإِيجَابِهِ وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِوَلَائِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ, فَأَشْبَهَتْ الْوَصِيَّةَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ وَإِيجَابِهِ وَمَتَى شَاءَ رَجَعَ فِيهَا; إلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُ الْوَصِيَّةَ مِنْ وَجْهٍ, وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ذَا رَحِمٍ كَانَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؟ وَلَمْ يَكُنْ فِي الثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ فَيَجُوزُ لَهُ مِنْهُ الثُّلُثُ بَلْ لَا يُعْطَى شَيْئًا إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ, فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ مِنْ وَجْهٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ, وَيُفَارِقُهَا مِنْ وَجْهٍ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . رَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ امْرَأَتَهُ, فَأَتَى أَخُوهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقِصَاصُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الْآيَةَ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَطَمَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ, فَاسْتَعْدَتْ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] , ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ, وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَطَمَهَا; لِأَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ, وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ضَرْبَهَا عِنْدَ النُّشُوزِ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ضَرْبُهُ إيَّاهَا لِأَجْلِ النُّشُوزِ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَاصَ. قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إبَاحَةُ الضَّرْبِ عِنْدَ النُّشُوزِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} نَزَلَ بَعْدُ, فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْئًا, فَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} قِيَامَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ لِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ وَبِمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدِهَا: تَفْضِيلُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبِهَا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ إمْسَاكَهَا فِي بَيْتِهِ وَمَنْعِهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ أَمْرِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةٌ. وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وقوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} مُنْتَظِمٌ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِمَّا يَلْزَمُ الزَّوْجَ لَهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي النِّسَاءِ الصَّالِحَةَ; وَقَوْلُهُ: {قَانِتَاتٌ} , رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: "مُطِيعَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَزْوَاجِهِنَّ" وَأَصْلُ الْقُنُوتِ مُدَاوَمَةُ الطَّاعَةِ, وَمِنْهُ الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ لِطُولِ الْقِيَامِ. وَقَوْلُهُ: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} , قَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: "حَافِظَاتٌ لِمَا غَابَ عَنْهُ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ مَالِهِ وَمَا

يَجِبُ مِنْ رِعَايَةِ حَالِهِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ نَفْسِهَا لَهُ". قَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} : "أَيْ بِمَا حَفِظَهُنَّ اللَّهُ فِي مُهُورِهِنَّ وَإِلْزَامِ الزَّوْجِ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ". وَقَالَ آخَرُونَ: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} : "إنَّهُنَّ إنَّمَا صِرْنَ صَالِحَاتٍ قَانِتَاتٍ حَافِظَاتٍ بِحِفْظِ اللَّهِ إيَّاهُنَّ مِنْ مَعَاصِيهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمَا أَمَدَّهُنَّ بِهِ مِنْ أَلْطَافِهِ وَمَعُونَتِهِ" وَرَوَى أَبُو مَعْشَرٍ عن سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: خَيْرُ النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْكَ وَإِذَا غِبْت عَنْهَا خَلَفَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الْآيَةَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

بَابُ النَّهْي عَنْ النُّشُوزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} . قِيلَ فِي مَعْنَى تَخَافُونَ مَعْنَيَانِ: أَحَدِهِمَا: يَعْلَمُونَ; لِأَنَّ خَوْفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْعِلْمِ بِمَوْقِعِهِ, فَجَازَ أَنْ يُوضَعَ مَكَانَ" يَعْلَمُ" "يَخَافُ" كَمَا قَالَ أَبُو مِحْجَنِ الثَّقَفِيِّ: وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَيَكُونُ خِفْت بِمَعْنَى ظَنَنْت, وَقَدْ ذَكَرُهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: "هُوَ الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَمْنِ, كَأَنَّهُ قِيلَ: تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ بِعِلْمِكُمْ بِالْحَالِ الْمُؤْذِنَةِ بِهِ". وَأَمَّا النُّشُوزُ, فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَطَاءً وَالسُّدِّيَّ قَالُوا: "أَرَادَ بِهِ مَعْصِيَةَ الزَّوْجِ فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنْ طَاعَتِهِ", وَأَصْلُ النُّشُوزِ التَّرَفُّعُ عَلَى الزَّوْجِ بِمُخَالَفَتِهِ, مَأْخُوذٌ مِنْ نَشَزِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا. وقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} , يَعْنِي خَوِّفُوهُنَّ بِاَللَّهِ وَبِعِقَابِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "هَجْرُ الْكَلَامِ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "هَجْرُ الْجِمَاعِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: "هَجْرُ الْمُضَاجَعَةِ". وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إذَا أَطَاعَتْهُ فِي الْمَضْجَعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "إذَا نَشَزَتْ عَنْ فِرَاشِهِ يَقُولُ لَهَا اتَّقِي اللَّهَ وَارْجِعِي". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةٍ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ بِعَرَفَاتٍ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ, وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ, وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الضَّرْبُ غَيْرُ المبرح بالسواك

وَنَحْوِهِ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: "ضَرْبًا غَيْرَ شَائِنٍ". ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمَرْأَةِ مَثَلُ الضِّلْعِ مَتَى تُرِدْ إقَامَتَهَا تَكْسِرْهَا, وَلَكِنْ دَعْهَا تستمتع بها". وقال الحسن: {وَاضْرِبُوهُنَّ} قَالَ: "ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَغَيْرَ مُؤَثِّرٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الحسن وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قَالَ: "إذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا, فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ, فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ" ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} قَالَ: لَا تَعَلَّلُوا عَلَيْهِنَّ بِالذُّنُوبِ.

بَابُ الْحَكَمَيْنِ كَيْفَ يَعْمَلَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ, فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ: "أَنَّهُ السُّلْطَانُ الَّذِي يَتَرَافَعَانِ إلَيْهِ" وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ لِمَا فِي نَسَقِ الْآيَةِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ, وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} , وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْحَاكِمِ النَّاظِرِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَالْمَانِعِ مِنْ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَمْرَ الزَّوْجِ وَأَمَرَهُ بِوَعْظِهَا وَتَخْوِيفِهَا بِاَللَّهِ ثُمَّ بِهِجْرَانِهَا فِي الْمَضْجَعِ إنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ثُمَّ بِضَرْبِهَا إنْ أَقَامَتْ عَلَى نُشُوزِهَا, ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ بَعْدَ الضَّرْبِ لِلزَّوْجِ إلَّا الْمُحَاكَمَةَ إلَى مَنْ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْهُمَا مِنْ الظَّالِمِ وَيَتَوَجَّهُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ الْحَكَمَيْنِ, فَغَضِبَ وَقَالَ: "مَا وُلِدْت; إذْ ذَاكَ"; فَقُلْت: إنَّمَا أَعْنِي حَكَمَيْ شِقَاقٍ, قَالَ: "إذَا كَانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ دَرْءٌ1 وَتَدَارُؤٌ بَعَثُوا حَكَمَيْنِ فَأَقْبَلَا عَلَى الَّذِي جَاءَ التَّدَارُؤُ مِنْ قِبَلِهِ فَوَعَظَاهُ, فَإِنْ أَطَاعَهُمَا وَإِلَّا أَقْبَلَا عَلَى الْآخَرِ, فَإِنْ سَمِعَ مِنْهُمَا وَأَقْبَلَ إلَى الَّذِي يُرِيدَانِ وَإِلَّا حَكَمَا بَيْنَهُمَا, فَمَا حَكَمَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ". وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْمُخْتَلِعَةِ: "يَعِظُهَا فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا وَإِلَّا ضَرَبَهَا, فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا رَفَعَ أَمْرَهَا إلَى السُّلْطَانِ, فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ, فَيَقُولُ الْحَكَمُ الَّذِي مِنْ أَهْلِهَا يَفْعَلُ كَذَا وَيَفْعَلُ كَذَا, وَيَقُولُ الْحَكَمُ الَّذِي مِنْ أَهْلِهِ تَفْعَلُ بِهِ كَذَا وَتَفْعَلُ بِهِ كَذَا, فَأَيُّهُمَا كَانَ أَظْلَمَ رَدَّهُ إلَى السُّلْطَانِ وَأَخَذَ فَوْقَ يَدِهِ, وَإِنْ كَانَتْ نَاشِزًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْلَعَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا نَظِيرُ الْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَالْإِيلَاءِ فِي بَابِ أَنَّ الحاكم هو الذي

_ 1 قوله: "درء" الدرء الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ. "لمصححه".

يَتَوَلَّى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُهُ حُكْمُ اللَّهِ, فَإِذَا اخْتَلَفَا وَادَّعَى النُّشُوزَ وَادَّعَتْ هِيَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حُقُوقِهَا, حِينَئِذٍ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَتَوَلَّيَا النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَيَرُدَّا إلَى الْحَاكِمِ مَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمَا. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهَا وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِهِ لِئَلَّا تَسْبِقَ الظِّنَّةُ إذَا كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ بِالْمَيْلِ إلَى أَحَدِهِمَا, فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِهِ وَالْآخَرُ مِنْ قِبَلِهَا زَالَتْ الظِّنَّةُ وَتَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّنْ هُوَ مِنْ قِبَلِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا قَوْلُهُ: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} عَلَى أَنَّ الَّذِي مِنْ أَهْلِهِ وَكِيلٌ لَهُ, وَاَلَّذِي مِنْ أَهْلِهَا وَكِيلٌ لَهَا, كَأَنَّهُ قَالَ: فَابْعَثُوا رَجُلًا مِنْ قِبَلِهِ وَرَجُلًا مِنْ قِبَلِهَا; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَجْمَعَا إنْ شَاءَا وَإِنْ شَاءَا فَرَّقَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا. وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا أَمْرَ الْحَكَمَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَكَذُّبٌ عَلَيْهِمْ, وَمَا أَوْلَى بِالْإِنْسَانِ حِفْظُ لِسَانِهِ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِكَلَامِهِ قَلَّ كَلَامُهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ. وَأَمْرُ الْحَكَمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَلِّهِمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا وَكِيلَيْنِ لَهُمَا, أَحَدُهُمَا وَكِيلُ الْمَرْأَةِ وَالْآخَرُ وَكِيلُ الزَّوْجِ؟ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: أَتَى عَلِيًّا رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ, فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا شَأْنُ هَذَيْنِ؟ قَالُوا: بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ, قَالَ: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} , فَقَالَ عَلِيٌّ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تَفَرَّقَا. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ, فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا, فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْت وَاَللَّهِ لَا تَنْفَلِت مِنِّي حَتَّى تُقِرَّ كَمَا أَقَرَّتْ. فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ أَنَّ قَوْلَ الْحَكَمَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسَاءَةِ إلَيْهَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالنُّشُوزِ لَمْ يُجْبِرْهَا الْحَاكِمُ عَلَى خُلْعٍ وَلَا عَلَى رَدِّ مَهْرِهَا; فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُمَا قَبْلَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بَعْثِهِمَا لَا يَجُوزُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَى الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ وَلَا إخْرَاجُ الْمَهْرِ عَنْ مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا; فَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُمَا لَا يَجُوزُ خَلْعُهُمَا إلَّا بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا إلَّا بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ; لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فكيف

يَمْلِكُهُ الْحَكَمَانِ؟ وَإِنَّمَا الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ لَهُمَا أَحَدُهُمَا وَكِيلُ الْمَرْأَةِ وَالْآخَرُ وَكِيلُ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي التَّفْرِيقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ إنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ جُعِلَ إلَيْهِ ذَلِكَ. قَالَ إسْمَاعِيلُ: "الْوَكِيلُ لَيْسَ بِحَكَمٍ وَلَا يَكُونُ حَكَمًا إلَّا وَيَجُوزُ أَمْرُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَبَى". وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ; لِأَنَّ مَا ذَكَرَ لَا يَنْفِي مَعْنَى الْوَكَالَةِ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا أَيْضًا إلَّا وَيَجُوزُ أَمْرُهُ عَلَيْهِ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ. فَجَوَازُ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ عَلَيْهِمَا لَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حَدِّ الْوَكَالَةِ, وَقَدْ يَحْكُمُ الرَّجُلَانِ حُكْمًا فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُمَا فِيمَا يَتَصَرَّفُ بِهِ عَلَيْهِمَا, فَإِذَا حَكَمَ بِشَيْءٍ لَزِمَهُمَا, بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ فِي شِقَاقِ الزَّوْجَيْنِ لَيْسَ يُغَادِرُ أَمْرُهُمَا مِنْ مَعْنَى الْوَكَالَةِ شَيْئًا; وَتَحْكِيمُ الْحَكَمِ فِي الْخُصُومَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يُشْبِهُ حُكْمَ الْحَاكِمِ مِنْ وَجْهٍ وَيُشِبْهُ الْوَكَالَةَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَالْحَكَمَانِ فِي الشِّقَاقِ إنَّمَا يَتَصَرَّفَانِ بِوَكَالَةٍ مَحْضَةٍ كَسَائِرِ الْوِكَالَاتِ. قَالَ إسْمَاعِيلُ: "وَالْوَكِيلُ لَا يُسَمَّى حَكَمًا". وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ; لِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ هَهُنَا الْوَكِيلُ حَكَمًا تَأْكِيدًا لِلْوَكَالَةِ الَّتِي فُوِّضَتْ إلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ الْحَكَمَيْنِ يَجُوزُ أَمْرُهُمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ أَبَيَا" فَلَيْسَ كَذَلِكَ, وَلَا يَجُوزُ أَمْرُهُمَا عَلَيْهِمَا إذَا أَبَيَا; لِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ, وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمَا وَيَعْرِفُ أُمُورَ الْمَانِعِ مِنْ الْحَقِّ مِنْهُمَا حَتَّى يَنْقُلَا إلَى الْحَاكِمِ مَا عَرَفَاهُ مِنْ أَمْرِهِمَا, فَيَكُونُ قَوْلُهُمَا مَقْبُولًا فِي ذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا, وَيَنْهَى الظَّالِمُ مِنْهُمَا عَنْ ظُلْمِهِ; فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا سُمِّيَا حَكَمَيْنِ لِقَبُولِ قَوْلِهِمَا عَلَيْهِمَا, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا سُمِّيَا بِذَلِكَ; لِأَنَّهُمَا إذَا خَلَعَا بِتَوْكِيلٍ مِنْهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِهِمَا وَتَحَرِّيهِمَا لِلصَّلَاحِ سُمِّيَا حَكَمَيْنِ; لِأَنَّ اسْمَ الْحَكَمِ يُفِيدُ تَحَرِّيَ الصَّلَاحِ فِيمَا جُعِلَ إلَيْهِ وَإِنْفَاذَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ, فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِهِمَا وَأَنْفَذَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ حُكْمًا مِنْ جَمْعٍ أَوْ تَفْرِيقٍ مَضَى مَا أَنْفَذَاهُ فَسُمِّيَا حَكَمَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَلَمَّا أَشْبَهَ فِعْلُهُمَا فِعْلَ الْحَاكِمِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا بِمَا وُكِّلَا بِهِ عَلَى جِهَةِ تَحَرِّي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَسُمِّيَا حَكَمَيْنِ, وَيَكُونَانِ مَعَ ذَلِكَ وَكِيلَيْنِ لَهُمَا; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدٍ وِلَايَةٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ مِنْ خُلْعٍ أَوْ طَلَاقٍ إلَّا بِأَمْرِهِمَا. وَزَعَمَ أَنَّ عَلِيًّا إنَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ النَّكِيرُ عَلَى الزَّوْجِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِكِتَابِ اللَّهِ, قَالَ: "وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِالتَّوْكِيلِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ بِعَدَمِ الرِّضَا بِكِتَابِ اللَّهِ"; وَلَيْسَ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرَ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا قَالَ: "أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا" قَالَ عَلِيٌّ: "كَذَبْت أَمَا وَاَللَّهِ لَا تَنْفَلِتْ مِنِّي حَتَّى تُقِرَّ كَمَا أَقَرَّتْ" فَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الزَّوْجِ تَرْكَ التَّوْكِيلِ بِالْفُرْقَةِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُوَكِّلَ بِالْفُرْقَةِ, وَمَا قَالَ الرَّجُلُ لَا أَرْضَى بِكِتَابِ اللَّهِ حَتَّى يُنْكِرَ عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا قَالَ لَا أَرْضَى بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ رِضَى الْمَرْأَةِ بِالتَّحْكِيمِ; وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ عَلَيْهِ غَيْرُ نَافِذَةٍ إلَّا بَعْدَ تَوْكِيلِهِ بِهَا. قَالَ: "وَلَمَّا

قَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} عَلِمْنَا أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يُمْضِيَانِ أَمْرَهُمَا وَأَنَّهُمَا إنْ قَصَدَا الْحَقَّ وَفَّقَهُمَا اللَّهُ لِلصَّوَابِ مِنْ الْحُكْمِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يُقَالُ لِلْوَكِيلَيْنِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَعَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ". وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْفِي مَعْنَى الْوَكَالَةِ; لِأَنَّ الْوَكِيلَيْنِ إذَا كَانَا مُوَكَّلَيْنِ بِمَا رَأَيَا مِنْ جَمْعٍ أَوْ تَفْرِيقٍ عَلَى جِهَةِ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا يُمْضِيَانِهِ مِنْ ذَلِكَ, وَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُوَفِّقُهُمَا لِلصَّلَاحِ إنْ صَلُحَتْ نِيَّاتُهُمَا, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْحَكَمِ; إذْ كُلُّ مَنْ فُوِّضَ إلَيْهِ أَمْرٌ يُمْضِيهِ عَلَى جِهَةِ تَحَرِّي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ, فَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا لَاحِقَةٌ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا: "مَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ", وَهَذَا عِنْدَنَا كَذَلِكَ أَيْضًا. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إنَّ فِعْلَ الْحَكَمَيْنِ فِي التَّفْرِيقِ وَالْخُلْعِ جَائِزٌ بِغَيْرِ رِضَى الزَّوْجَيْنِ, بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إلَّا بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ وَلَا يَكُونَانِ حَكَمَيْنِ إلَّا بِذَلِكَ, ثُمَّ مَا حَكَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ; وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيُخْرِجَا الْمَالَ عَنْ مِلْكِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] , وَهَذَا الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ هَهُنَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وَحَظَرَ اللَّهُ عَلَى الزَّوْجِ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا عَلَى شَرِيطَةِ الْخَوْفِ مِنْهُمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ, فَأَبَاحَ حِينَئِذٍ أَنْ تَفْتَدِيَ بِمَا شَاءَتْ وَأَحَلَّ لِلزَّوْجِ أَخْذَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُوقِعَا خُلْعًا أَوْ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمَا وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ فَالْقَائِلُ بِأَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنْ الزَّوْجِ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَمَنَعَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَاهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] , فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِ أَحَدٍ وَدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" , وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ", فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِهَا وَدَفْعِهِ إلَى زَوْجِهَا, وَلَا يَمْلِكُ إيقَاعَ طَلَاقٍ عَلَى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ وَلَا رِضَاهُ; وَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ إسْقَاطُهُ وَنَقْلُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ هُوَ لَهُ, فَالْحَكَمَانِ إنَّمَا يُبْعَثَانِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا وَلِيَشْهَدَا عَلَى

الظَّالِمِ مِنْهُمَا كَمَا رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الْآيَةَ, قَالَ: "إنَّمَا يُبْعَثُ الْحَكَمَانِ لِيُصْلَحَا, فَإِنْ أَعْيَاهُمَا أَنْ يُصْلِحَا شَهِدَا عَلَى الظَّالِمِ بِظُلْمِهِ, وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا الْفُرْقَةُ وَلَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ" وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي فَحْوَى الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَلَمْ يَقُلْ: إنْ يُرِيدَا فُرْقَةً, وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْحَكَمَانِ لِيَعِظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَإِعْلَامَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ هُوَ عَلَى يَدِهِ, فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الظَّالِمُ أَنْكَرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَقَالَا لَهُ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَهَا لِتَخْلَعَ مِنْكَ, وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةُ قَالَا لَهَا قَدْ حَلَّتْ لَكَ الْفِدْيَةُ, وَكَانَ فِي أَخْذِهَا مَعْذُورًا لِمَا يَظْهَرُ لِلْحَكَمَيْنِ مِنْ نُشُوزِهَا, فَإِذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْحَكَمِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ مَا لَهُ مِنْ التَّفْرِيقِ وَالْخُلْعِ; كَانَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا وَكِيلَيْنِ جَائِزٌ لَهُمَا أَنْ يَخْلَعَا إنْ رَأَيَا وَأَنْ يَجْمَعَا إنْ رَأَيَا ذَلِكَ صَلَاحًا, فَهُمَا فِي حَالٍ شَاهِدَانِ, وَفِي حَالٍ مُصْلِحَانِ وَفِي حَالٍ آمِرَانِ بِمَعْرُوفٍ وَنَاهِيَانِ عَنْ مُنْكَرٍ وَوَكِيلَانِ فِي حَالٍ إذَا فُوِّضَ إلَيْهِمَا الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَخْلَعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ, فَهُوَ تَعَسُّفٌ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَاَللَّهُ أعلم بالصواب.

بَابُ الْخُلْعُ دُونَ السُّلْطَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ الْخُلْعُ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: "لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَ غَيْرِ سُلْطَانٍ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] اقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ أَخْذِهِ ذَلِكَ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَكَمَا جَازَ عَقْدُ النِّكَاحِ وَسَائِرُ الْعُقُودِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ, كَذَلِكَ يَجُوزُ الْخُلْعُ; إذْ لَا اخْتِصَاصَ فِي الْأُصُولِ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِكَوْنِهَا عِنْدَ السُّلْطَانِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فَقَرَنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إلْزَامَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَأَمَرَ بِهِ كَمَا أَمَرَ بِهِمَا, كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] , وَكَفَى بذلك دلالة

عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّهِمَا وَوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] . وَقَالَ فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ, وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ, وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ إلَّا كَانَتْ وَكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَطَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَعْرُوفِ لَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ, فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ هَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ"؟ قَالَ: أَبَوَايَ, قَالَ: أَذِنَا لَكَ؟ قَالَ: لَا, قَالَ: "ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا". وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاهِدَ إلَّا بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ إذَا قَامَ بِجِهَادِ الْعَدُوِّ مَنْ قَدْ كَفَاهُ الْخُرُوجَ, قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ قَدْ قَامَ بِفَرْضِ الْخُرُوجِ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْن أَبَوَيْهِ, وَقَالُوا فِي الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهِ قِتَالٌ: لَا بَأْسَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ الْجِهَادِ إلَّا بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ إذَا قَامَ بِالْفَرْضِ غَيْرُهُ, لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَتْلِ وَفَجِيعَةِ الْأَبَوَيْنِ بِهِ, فَأَمَّا التِّجَارَاتُ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلْقَتْلِ فَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ مَنْعُهُ مِنْهَا; فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْذَانِهِمَا. وَمِنْ أَجْلِ مَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَعْظِيمِ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ الْكَافِرَ إذَا كَانَ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] , فَأَمَرَ تَعَالَى بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحَالِ الَّتِي يُجَاهِدَانِهِ فِيهَا عَلَى الْكُفْرِ, وَمِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُشْهِرَ عَلَيْهِمَا سِلَاحًا وَلَا يَقْتُلَهُمَا إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ تَرَكَ قَتْلَهُ, فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ; لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِتَمْكِينِهِ غَيْرِهِ مِنْهُ, وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَمْكِينِ غَيْرِهِ مِنْ قَتْلِهِ كَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ, فَجَازَ لَهُ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَتْلُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَكَانَ مُشْرِكًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُسْلِمِ يَمُوتُ أَبَوَاهُ وَهُمَا كَافِرَانِ:

إنَّهُ يُغَسِّلُهُمَا وَيَتْبَعُهُمَا وَيَدْفِنُهُمَا; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الصحبة بالمعروف التي أمره الله بها. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وَمَا ضَمِيرُهُ؟ قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ: اسْتَوْصُوا بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا, وَيَحْتَمِلُ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَبِذِي الْقُرْبَى} أَمْرٌ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْقَرَابَةِ, عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قوله تعالى: {وَالْأَرْحَامَ} , فَبَدَأَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ سَائِرُ الشَّرَائِعِ وَالنُّبُوَّاتِ وَبِحُصُولِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى سَائِرِ مَصَالِحِ الدِّينِ, ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَجِبُ لِلْأَبَوَيْنِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَقَضَاءِ حُقُوقِهِمَا وَتَعْظِيمِهِمَا, ثُمَّ ذَكَرَ الْجَارَ ذَا الْقُرْبَى وَهُوَ قَرِيبُك الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَهُ حَقُّ الْقَرَابَةِ وَأَوْجَبَ لَهُ الدِّينُ الْمُوَالَاةَ وَالنُّصْرَةَ, ثُمَّ ذَكَرَ الْجَارَ الْجُنُبَ وَهُوَ الْبَعِيدُ مِنْكَ نَسَبًا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا فَيَجْتَمِعُ حَقُّ الْجِوَارِ وَمَا أَوْجَبَهُ لَهُ الدِّينُ بِعِصْمَةِ الْمِلَّةِ وَذِمَّةِ عَقْدِ النِّحْلَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: "الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى الْقَرِيبُ فِي النَّسَبِ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْجِوَارِ, وَحَقُّ الْقَرَابَةِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ, وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ, وَجَارٌ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ: الْمُشْرِكُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ". وقوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ: "أَنَّهُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ" وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: "أَنَّهُ الزَّوْجَةُ", وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ الْمُنْقَطِعُ إلَيْكَ رَجَاءَ خَيْرِكَ". وَقِيلَ: "هُوَ جَارٍ الْبَيْتِ دَانِيًا كَانَ نَسَبُهُ أَوْ نَائِيًا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا آمَنَ مَنْ أَمْسَى شَبْعَانَ وَأَمْسَى جَارُهُ جَائِعًا". وَرَوَى عُمَرُ بْنُ هَارُونَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ

الْجِوَارِ وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ وَتَعْطِيلُ الْجِهَادِ} . وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَظِّمُ الْجِوَارَ وَتُحَافِظُ عَلَى حِفْظِهِ وَتُوجِبُ فِيهِ مَا تُوجِبُ فِي الْقَرَابَةِ, قَالَ زُهَيْرٌ: وَجَارُ الْبَيْتِ وَالرَّجُلُ الْمُنَادِي ... أَمَامَ الْحَيِّ عَقْدُهُمَا سَوَاءُ يُرِيدُ بِالرَّجُلِ الْمُنَادِي مَنْ كَانَ مَعَكَ فِي النَّادِي, وَهُوَ مَجْلِسُ الْحَيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أَنَّهُ الْجَارُ الَّذِي يُلَاصِقُ دَارُهُ دَارِهِ وَإِنَّ اللَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ عَلَى الْجَارِ غَيْرِ الْمُلَاصِقِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدٍ بْنُ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ وَرَّاقُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ الْأَزْدِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا, فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا, وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَابْدَأْ بِاَلَّذِي سَبَقَ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جِوَارٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ السِّفْرِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي نَزَلْت بِمَحَلَّةِ بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّ أَشَدَّهُمْ لِي أَذًى أَقْرَبُهُمْ مِنْ جِوَارِي, فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا أَنْ يَأْتُوا بَابَ الْمَسْجِدِ فَيَقُومُوا عَلَى بَابِهِ فَيَصِيحُوا ثَلَاثًا أَلَا إنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جِوَارٌ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ قَالَ: قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَرْبَعِينَ دَارًا؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ هَكَذَا وَأَرْبَعِينَ هَكَذَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الِاجْتِمَاعَ فِي مَدِينَةِ جِوَارًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:60] فَجَعَلَ تَعَالَى اجْتِمَاعَهُمْ مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ جِوَارًا. وَالْإِحْسَانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا الْمُوَاسَاةُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ إذَا خَافَ عَلَيْهِ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ مِنْ جِهَةِ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ, وَمِنْهَا حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُ وَالْمُحَامَاةُ دُونَهُ مِمَّنْ يُحَاوِلُ ظُلْمَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْفِعَالِ. وَمِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ الْجِوَارِ الشُّفْعَةَ لِمَنْ بيعت دار إلى جنبه; والله الموفق.

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "الشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ أَحَقُّ مِنْ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ, ثُمَّ الشَّرِيكُ فِي الطَّرِيقِ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ الْمُلَازِقِ, ثُمَّ الْجَارُ الْمُلَازِقُ بَعْدَهُمَا" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا شُفْعَةَ إلَّا

فِي مُشَاعٍ, وَلَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ لَا بَيَاضَ لَهَا1 وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَسْمَ". وَقَدْ رُوِيَ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ, رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي حَفْصِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ شُرَيْحٌ: "كَتَبَ إلَيَّ عُمَرُ أَنْ أَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ". وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: "الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ2 وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ, وَالْجَارُ أَحَقُّ مِمَّنْ سِوَاهُ". وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: "كَانَ يُقَالُ: الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ, وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِمَّنْ سِوَاهُ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "إذَا لَمْ يَكُنْ شَرِيكٌ فَالْجَارُ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ" وَقَالَ طَاوُسٌ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "إذَا حُدَّتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ", قَالَ طَاوُسٌ: "الْجَارُ أَحَقُّ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ مَا رَوَى حُسَيْنٌ الْمُعَلَّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِيكٌ إلَّا الْجَارَ؟ فَقَالَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ3 مَا كَانَ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ" وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: عَرَضَ سَعْدٌ بَيْتًا لَهُ, فَقَالَ: خُذْهُ فَإِنِّي قَدْ أُعْطِيت بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا تُعْطِينِي وَلَكِنَّكَ أَحَقُّ بِهِ; لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ". وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ". وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ, عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا". وَرَوَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الْجَارِ" ; وَقَتَادَةُ عَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ يَقُولَانِ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِوَارِ, وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِوَارِ. فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا دَفَعَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَعَ شُيُوعِهَا وَاسْتِفَاضَتِهَا فِي الْأُمَّةِ, فَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْقَوْلِ بِهَا كَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

_ 1 قوله: "لا بياض لها" البياض الأرض التي لا عمارة فيها كما في لسان العرب. "لمصححه". 2 قوله: "الخليط" الشريك المشاركة في الشيوع, والخليط المشاركة في حقوق المال, كذا في النهاية. "لمصححه". 3 قوله: "بسقبه" الصقب والسقب بفتحتين بمعنى القرب أي أحق من غيره بسبب قربه كما في الزرقاني. "لمصححه".

وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ, فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ; وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ أَبُو قَتِيلَةَ الْمَدَنِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ هَؤُلَاءِ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَصْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَقْطُوعٌ, رَوَاهُ مَعْنٌ وَوَكِيعٌ وَالْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ. وَلَوْ ثَبَتَ مَوْصُولًا لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَاهَا نَحْوُ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ; لِأَنَّهَا فِي حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُسْتَفِيضِ الَّذِي لَا تَجُوزُ مُعَارَضَتُهُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَلَوْ ثَبَتَ مِنْ وُجُوهٍ يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَنْفِي أَخْبَارَ إيجَابِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ, ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ , فَأَمَّا قَوْلُهُ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي إيجَابِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهَا, وَلَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ وَلَا حِكَايَةِ قَوْلٍ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ" فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي, إذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ, وَلَا أَنَّهُ قَضَى بِهِ; وَإِذَا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ, كَمَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ, لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَةً بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ; فَهَذَا وَجْهُ مَنْعِ الِاعْتِرَاضِ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُرْدِفُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ, فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى وُجُوبَ الشُّفْعَةِ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ, فَأَفَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ الشُّفْعَةِ لِغَيْرِ الْجَارِ الْمُلَاصِقِ; لِأَنَّ صَرْفَ الطُّرُقِ يَنْفِي الْمُلَاصَقَةِ; لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ طَرِيقًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى حَمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ نَفْيَ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ, وَوُقُوعُ الْحُدُودِ وَصَرْفُ الطُّرُقِ إنَّمَا هُوَ الْقِسْمَةُ, فَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَفَادَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا شُفْعَةَ فِيهَا, كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي قِسْمَةٍ; وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الملك بن أبي سليمان عن عطاء عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال:

"الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ1 يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا". فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ قَدْ رُوِيَا عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَجْعَلَهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا; وَقَدْ يُمْكِنُنَا اسْتِعْمَالَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَمُخَالِفُونَا يَجْعَلُونَهُمَا متعارضين ويسقطون أحدهما بالآخر.

_ 1 قوله: "بصقبه" الصقب والسقب بفتحتين بمعنى القرب, أي أحق من غيره بسبب قربه كما في الزرقاني. لمصححه".

مَطْلَبٌ: إذَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى سَبَبٍ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَيْضًا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَلَامًا خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ, فَنَقَلَ الرَّاوِي لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ نَقْلَ السَّبَبِ, نَحْوُ أَنْ يَخْتَصِمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا جَارٌ وَالْآخِرُ شَرِيكٌ, فَيَحْكُمُ بِالشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ; وَقَالَ: فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ الْمَقْسُومِ مَعَ الْجَارِ; كَمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ" وَهُوَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ كَلَامٌ خَارِجٌ عَلَى سَبَبٍ اقْتَصَرَ فِيهِ رَاوِيهِ عَلَى نَقْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ ذِكْرِ السَّبَبِ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سُئِلَ عَنْ النَّوْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا بِيعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ" يَعْنِي فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ; كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَتْ أَخْبَارُ إيجَابِ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ وَأَخْبَارُ نَفْيِهَا, لَكَانَتْ أَخْبَارُ الْإِيجَابِ أَوْلَى مِنْ أَخْبَارِ النَّفْيِ; لِأَنَّ الْأَصْلُ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهَا, فَخَبَرُ نَفْيِ الشُّفْعَةِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ وَخَبَرُ إثْبَاتِهَا نَاقِلٌ عَنْهُ وَارِدٌ بَعْدَهُ فَهُوَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا أَكْثَرُهَا يَنْفِي هَذَا التَّأْوِيلَ; لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ جَارَ الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ دَارِهِ, وَالشَّرِيكُ لَا يُسَمَّى جَارَ الدَّارِ; وَحَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ فِيهِ: "يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا" وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الشَّرِيكِ فِي الْمَبِيعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّرِيكَ لَا يُسَمَّى جَارًا; لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْجِوَارِ بِالشَّرِكَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَرِيكَيْنِ فِي شَيْءٍ جَارَيْنِ, كَالشَّرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ وَدَابَّةٍ وَاحِدَةٍ, فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمُ الْجَارِ بِالشَّرِكَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ لَا يُسَمَّى جَارًا, وَإِنَّمَا الْجَارُ هُوَ الَّذِي يَنْفَرِدُ حَقُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ حَقِّ الشَّرِيكِ وَيَتَمَيَّزُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ; لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُصُولَ الجوار بالقسمة. والدليل عليه أن الشركة في سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لَا تُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِعَدَمِ حُصُولِ الْجِوَارِ بِهَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعَقَارِ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْجِوَارِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ, وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ مِنْ الْجَارِ

لِمَزِيَّةٍ حَصَلَتْ لَهُ مَعَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْجِوَارِ بالقسمة. والدليل عليه أن الشركة في سائر الْأَشْيَاءِ لَا تُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِعَدَمِ حُصُولِ الْجِوَارِ بِهَا, كَمَا أَنَّ الْأَخَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ, وَإِنْ كَانَتْ الْأُخُوَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ يُسْتَحَقُّ بِهَا التَّعْصِيبُ وَالْمِيرَاثُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا التَّعْصِيبُ; إذْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ, إلَّا أَنَّهَا أَكَّدَتْ تَعْصِيبَ الْقَرَابَةِ مِنْ الْأَبِ; كَذَلِكَ الشَّرِيكُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِالشَّرِكَةِ; لِمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حُصُولِ الْجِوَارِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ, وَالشَّرِيكُ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ لِمَزِيَّةٍ حَصَلَتْ لَهُ كَمَا وُصِفَ بِالتَّعْصِيبِ, وَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ هُوَ الْجِوَارُ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ هُوَ دَوَامُ التَّأَذِّي بِالشَّرِيكِ, وَكَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْجِوَارِ; لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ فِي الْإِشْرَافِ عَلَيْهِ وَمُطَالَعَةِ أُمُورِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَحْوَالِهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ; وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْجَارِ غَيْرِ الْمُلَاصِقِ; لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ طَرِيقًا يَمْنَعُهُ التَّشَرُّفَ عَلَيْهِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى أُمُورِهِ. وأما قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ; وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "هُوَ الضَّيْفُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَعْنَاهُ صَاحِبُ الطَّرِيقِ; وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ: ابْنُ مَاءٍ, قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الضَّيْفِ فَقَوْلُهُ سَائِغٌ أَيْضًا; لِأَنَّ الضَّيْفَ كَالْمُجْتَازِ غَيْرِ الْمُقِيمِ, فَسُمِّيَ ابْنُ السَّبِيلِ تَشْبِيهًا بِالْمُسَافِرِ الْمُجْتَازِ, وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: عَابِرُ السَّبِيلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ وَلَيْسَ مَعَهُ نَفَقَتُهُ" وَهَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِرْ فِي الطَّرِيقِ لَا يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ كَمَا لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا وَلَا عَابِرَ سَبِيلٍ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَعْنِي الْإِحْسَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ وَمَا يَقْبِضُ بِهَا لِسَانَهُ, وَرَوَتْهُ أَيْضًا أُمُّ سَلَمَةَ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِي عُمَارَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْغَنَمُ بَرَكَةٌ وَالْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا, وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَالْمَمْلُوكُ أَخُوكَ فَأَحْسِنْ إلَيْهِ فَإِنْ وَجَدْتَهُ مَغْلُوبًا فَأَعِنْهُ". وَرَوَى مُرَّةُ الطَّيِّبُ1 عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" قيل:

_ 1 قوله: "مرة الطب" هو مرة بن شراحيل الهمداني, روى عن أبي بكر وعمر وجماعة, يفال له مرة............==

يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ حَدَّثْتَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مَمْلُوكِينَ وَأَتْبَاعًا؟ قَالَ: "بَلَى, فَأَكْرِمُوهُمْ كَكَرَامَةِ أَوْلَادِكُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد قَالَ: مَرَرْت عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ بِالرَّبِذَةِ, فَسَمِعْته يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَمَالِيكُ هُمْ إخْوَانُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَوَّلَكُمْ إيَّاهُمْ, فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تلبسون".

مطلب: في معنى البخل لغة وشرعا قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . قِيلَ فِي مَعْنَى الْبُخْلِ فِي اللُّغَةِ: إنَّهُ مَشَقَّةُ الْإِعْطَاءِ, وَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ مَا لَا يَنْفَعُ مَنْعُهُ وَلَا يَضُرُّ بَذْلُهُ. وَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ, وَنَظِيرُهُ الشُّحُّ, وَنَقِيضُهُ الْجُودُ. وَقَدْ عُقِلَ مِنْ مَعْنَاهُ فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ أَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ. وَيُقَالُ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَى جِهَةِ أَنَّ فَاعِلَهُ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً بِالْمَنْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] فَأَطْلَقَ الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ فِي مَالِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ إذْ بَخِلُوا بِمَا أُعْطُوا مِنْ الرِّزْقِ. وَكَتَمُوا مَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَفِيمَنْ كَتَمَ نِعَمَ اللَّهِ وَأَنْكَرَهَا, وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاعْتِرَافُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ وَجَاحِدُهَا كَافِرٌ, وَأَصْلُ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْطِيَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِتْمَانِهَا وَجُحُودِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ, لَا عَلَى جِهَةِ الْفَخْرِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ وَالشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخَرَ, وَأَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَلَا فَخْرَ" فَأَخْبَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ وَأَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ إخْبَارُهُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَى" وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْهُ, وَلَكِنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . [لنجم: 32] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَمْدَحُ رَجُلًا فَقَالَ: "لَوْ سَمِعَكَ لَقَطَعْت ظَهْرَهُ". وَرَأَى الْمِقْدَادُ رَجُلًا يمدح عثمان

_ == الطب ومرة الخير, قال الحارث الغنوي: سجد حتى اكل التراب جبهته. هكذا في خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".

فِي وَجْهِهِ فَحَثَا فِي وَجْهِهِ التُّرَابَ وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ". وَقَدْ رُوِيَ: "إيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ". فَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ فَقَدْ كُرِهَ, وَأَمَّا أَنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ أَوْ يَذْكُرَهَا غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ فَهَذَا نَرْجُو أَنْ لَا يَضُرَّ; إلَّا أَنَّ أَصْلَحَ الْأَشْيَاءِ لِقَلْبِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَغْتَرَّ بِمَدْحِ النَّاسِ لَهُ وَلَا يَعْتَدَّ بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ أَعَدَّ لِلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَاَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِيَاءَ النَّاسِ عَذَابًا مُهِينًا; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الثَّوَابَ; لِأَنَّ مَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ عِوَضًا مِنْ الدُّنْيَا كَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ, فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّ كُلَّ مَا أُرِيدَ بِهِ عِوَضٌ مِنْ أَعْوَاضِ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ, كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ وَعَلَى الصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْقُرَبِ, أَنَّهُ مَتَى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِوَضًا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ بَابِ الْقُرْبَةِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ سَبِيلُهَا أَنْ لَا تُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا الْأُجْرَةَ وَأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَيْهَا بَاطِلَةٌ قَوْله تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَبْرِ; لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْإِنْفَاقِ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ; لِأَنَّ عُذْرَهُمْ وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُمَكَّنِينَ مِمَّا دُعُوا إلَيْهِ وَلَا قَادِرِينَ عَلَيْهِ, كَمَا لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى: "مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ أَبْصَرَ" وَلَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ: "مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا"; وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَطَعَ عُذْرَهُمْ مِنْ فِعْلِ مَا كَلَّفَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ وَأَنَّهُمْ مُمَكَّنُونَ مِنْ فِعْلِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} , فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ1 اللَّهَ هُنَاكَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَا عَمِلُوهُ, لَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ عَالِمٌ بِأَسْرَارِهِمْ, فَيُقِرُّونَ بِهَا وَلَا يَكْتُمُونَهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ أَسْرَارَهُمْ هُنَاكَ كَمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهَا فِي الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قِيلَ لَهُ: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ مَوَاطِنُ فَمَوْطِنٌ لَا تَسْمَعُ فِيهِ إلَّا هَمْسًا أَيْ صَوْتًا خَفِيَا, وَمَوْطِنٌ يَكْذِبُونَ فِيهِ فَيَقُولُونَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ, وَمَوْطِنٌ يَعْتَرِفُونَ فِيهِ بِالْخَطَإِ وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى الدُّنْيَا; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَالَ ابن عباس:

_ 1 قوله" لا يكتمون" أي لا يقدرون أن يكتموا كما كانوا مقيدرين على الكتمان في الدنيا "لمصححه"

إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي بَعْدَمَا نَطَقَتْ جَوَارِحُهُمْ بِفَضِيحَتِهِمْ وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِكِتْمَانِهِمْ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ, فَكَانَ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَادِرِينَ هُنَاكَ عَلَى الْكِتْمَانِ; لِأَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُهُ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْكِتْمَانَ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَخْبَرُوا عَلَى مَا تَوَهَّمُوا, وَلَا يُخْرِجُهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَتَمُوا, وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] , وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ثُمَّ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قَالَ: "كَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: "شُرِبَتْ الْخَمْرَ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَاَلَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ, وَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلَاةُ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ تَرَكُوهَا, ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي الْمَائِدَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ السُّكْرُ مِنْ الشَّرَابِ, وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَزِينٍ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شُرْبَهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ; فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} النَّهْيَ عَنْ شُرْبِهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا سُكَارَى عِنْدَ لُزُومِ فَرْضِ الصَّلَاةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إنَّمَا أَفَادَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ, وَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا يَكُنْ مِنْكُمْ شُرْبٌ تَصِيرُونَ بِهِ إلَى حَالِ السُّكْرِ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِفِعْلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا مَنْهِيِّينَ عَنْ تَرْكِهَا, قَالَ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} , وَقَدْ عِلْمنَا أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَاةِ, كَانَ فِي مَضْمُونِ هَذَا اللَّفْظِ النَّهْيُ عَمَّا يُوجِبُ السُّكْرَ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ, كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نُهِينَا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ". وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} , كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ. وَلَمْ يُوجِبْ كَوْنُ الْإِنْسَانِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا

سُقُوطَ فَرْضِ الصَّلَاةِ; وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ, وَهُوَ مَأْمُورٌ مَعَ ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ لَهَا; كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ إنَّمَا دَلَّ عَلَى حَظْرِ شُرْبٍ يُوجِبُ السُّكْرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ, وَفَرْضُ الصَّلَاةِ قَائِمٌ عَلَيْهِ. فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي رَزِينٍ, وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ السَّلَفِ فِي حَظْرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ السُّكْرِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ شُرْبٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ سَكْرَانَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ, فَيَكُونُ ذَلِكَ حَظْرًا قَائِمًا, فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَشْرَبَ حَتَّى أَنَّهُ كَانَ سَكْرَانَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِهَا مَأْمُورًا بِإِعَادَتِهَا فِي حَالِ الصَّحْوِ, أَوْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى فِعْلِهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ; وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْآيَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي قَدْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ إلَى حَالٍ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ, وَأَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي يَدْرِي مَا يَقُولُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ; وَهَذَا يَشْهَدُ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا انْصَرَفَ إلَى الشُّرْبِ لَا إلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ; لِأَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ, وَاَلَّذِي يَعْقِلُ مَا يَقُولُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ النَّهْيُ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ إبَاحَةَ فِعْلِ الصَّلَاةِ إذَا عَلِمَ مَا يَقُولُ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا حَظَرَتْ عَلَيْهِ الشُّرْبَ لَا فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَكْلِيفُ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. وَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ" أَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ" وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ. وقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ عَدَمِ إقَامَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا, فَلَوْلَا أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِهَا وَفُرُوضِهَا لَمَا مَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَجْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ, وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِرَاءَةَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ نَفْيَ الْعِلْمِ بِمَا يَقُولُ, وَهَذَا عَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْكَلَامِ, وَمَنْ صَارَ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ السُّكْرِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إحْضَارُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا فِعْلُ سَائِرِ أَرْكَانِهَا, فَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ; لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ وَلَا سَائِرُ أَفْعَالِهَا, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُحْدِثٍ. قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت فِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ هذه

حاله فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ شَرَائِطِهَا, إلَّا أَنَّ اخْتِصَاصَهُ الْقَوْلِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الصَّلَاةِ وَأَحْوَالِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلٌ مَفْعُولٌ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ مِنْ السُّكْرِ عَلَى حَالٍ لَمْ يُمْكِنْهُ إقَامَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ فِعْلُهَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ, وَأَنَّ وُجُودَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا مِنْ فُرُوضِهَا وَشَرَائِطِهَا, وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] فِي إفَادَتِهِ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ قِيَامًا مَفْرُوضًا, وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] فِي دَلَالَتِهِ عَلَى فَرْضِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ تَنَازَعُوا تَأْوِيلَهُ, فَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} : "إلَّا أَنْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ وَلَا تَجِدُونَ مَا تَتَيَمَّمُونَ بِهِ وَتُصَلُّونَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ, وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ الْمَمَرُّ فِي الْمَسْجِدِ". وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ, وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ, فَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَهُوَ جُنُبٌ". وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: "كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْجُنُبُ لَا يَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ وَيُجْتَازُ" وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ. وَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ مَا تَأَوَّلَهُ شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} قَالَ: "الْجُنُبُ يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَجْلِسُ", وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ; وَيُقَالُ إنَّ أَحَدًا لَمْ يَرْفَعْهُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ مَعْمَرٍ وَسَائِرُ النَّاسِ وَقَفُوهُ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "لَا يَدْخُلُهُ إلَّا طَاهِرًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْقُعُودَ فِيهِ أَوْ الِاجْتِيَازَ", وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا يَمُرُّ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَابُهُ إلَى الْمَسْجِدِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَمُرُّ فِيهِ وَلَا يَقْعُدُ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ فِي الْمَسْجِدِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَسْرَةُ بِنْتُ دَجَاجَةٍ قَالَتْ: سَمِعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ, فَقَالَ: "وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ" ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يَصْنَعْ, الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ تَنْزِلَ لَهُمْ رخصة, فخرج

إلَيْهِمْ بَعْدُ فَقَالَ: "وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ" وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الِاجْتِيَازِ وَبَيْنَ الْقُعُودِ, فَهُوَ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ الشَّارِعَةِ لِئَلَّا يَجْتَازُوا فِي الْمَسْجِدِ إذَا أَصَابَتْهُمْ جَنَابَةٌ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْقُعُودَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: "وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ" مَعْنًى; لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْهُمْ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَوْنِ الْبُيُوتُ شَارِعَةً إلَيْهِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ لِئَلَّا يُضْطَرُّوا عِنْدَ الْجَنَابَةِ إلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ; إذْ لَمْ يَكُنْ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ غَيْرُ مَا هِيَ شَارِعَةٌ إلَى الْمَسْجِدِ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْمُطَّلِبِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَجْلِسَ فِيهِ وَهُوَ جُنُبٌ, إلَّا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُهُ جُنُبًا وَيَمُرُّ فِيهِ; لِأَنَّ بَيْتَهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِحَظْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِيَازَ كَمَا حَظَرَ عَلَيْهِمْ القعود.

مطلب: ورد من بعض الخصوصيات لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وَمَا ذُكِرَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ صَحِيحٌ, وَقَوْلُ الرَّاوِي: "لِأَنَّهُ كَانَ بَيْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ" ظَنًّا مِنْهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ الشَّارِعَةِ إلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ الْمُرُورَ لِأَجْلِ كَوْنِ بُيُوتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ, وَإِنَّمَا كَانَتْ الْخُصُوصِيَّةُ فِيهِ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ, كَمَا خُصَّ جَعْفَرُ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ الشُّهَدَاءِ, وَكَمَا خُصَّ حَنْظَلَةُ بِغَسْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ حِينَ قُتِلَ جُنُبًا, وَخُصُّ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى صُورَتِهِ, وَخُصَّ الزُّبَيْرُ بِإِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَمَّا شَكَا مِنْ أَذَى الْقَمْلِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مُجْتَازِينَ وَغَيْرَ مُجْتَازِينَ. وَأَمَّا مَا رَوَى جَابِرٌ: "كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَهُوَ جُنُبٌ" فَلَا حُجَّةَ فِيهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: "كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَحْظُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ; وَلَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رُوِيَ مَا وَصَفْنَا لَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى; لِأَنَّهُ طَارِئٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا وَلَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ حَظْرُ الْقُعُودِ فِيهِ لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الِاجْتِيَازِ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ; وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي حَظْرِ الْقُعُودِ فِيهِ هُوَ الْكَوْنُ فِيهِ جُنُبًا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الِاجْتِيَازِ,

وَكَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ الْقُعُودُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ حُكْمُ الِاجْتِيَازِ فِيهِ حُكْمَ الْقُعُودِ فَكَانَ الِاجْتِيَازُ بِمَنْزِلَةِ الْقُعُودِ, كَذَلِكَ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الِاجْتِيَازُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا; وَالْعِلَّةُ فِي الْجَمِيعِ حَظْرُ الْكَوْنِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ, فَإِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَافِرُ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ, أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نَهْيٌ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَمَفْهُومُ الْخِطَابِ, وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَسْجِدِ عُدُولٌ بِالْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ بِأَنْ تَجْعَلَ الصَّلَاةَ عِبَارَةً عَنْ مَوْضِعِهَا, كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ أَوْ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ مِنْهُ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] يَعْنِي بِهِ مَوَاضِعَ الصَّلَوَاتِ. وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَلَا دَلَالَةَ تُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةً الصَّلَاةُ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ قَوْلٌ مَشْرُوطٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّكْرِ, وَفِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ مَشْرُوطَةٌ, فَمَنَعَ مِنْ أَجْلِ الْعُذْرِ عَنْ إقَامَتِهَا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ, فَيَكُونُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَيْهَا مُوَافِقًا لِظَاهِرِهَا وَحَقِيقَتِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْمُسَافِرَ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُسَمَّى عَابِرَ سَبِيلٍ, وَلَوْلَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ; لَمَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسَافِرُ عَابِرَ سَبِيلٍ; لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ, كَمَا يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ; فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي حَالِ السَّفَرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا, فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَازَ التَّيَمُّمُ لِلْجُنُبِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَالصَّلَاةُ بِهِ, وَالثَّانِي: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جُنُبًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَيَمِّمًا; فَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غَايَةٌ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْغَايَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَاخِلَةٌ فِي الْحَظْرِ إلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا بِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ, وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ غُسْلِهِ شَيْءٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَخَافُهُ; فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَالْغَايَةُ خَارِجَةٌ مِنْ الْجُمْلَةِ; لِأَنَّهُ بِدُخُولِ أَوَّلِ اللَّيْلِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّوْمِ; لِأَنَّ" إلَى" غَايَةٌ كَمَا أَنَّ" حَتَّى" غَايَةٌ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُهَا

فِي الْكَلَامِ تَارَةً وَخُرُوجُهَا أُخْرَى, وَحُكْمُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ فِي دُخُولِهَا أَوْ خُرُوجِهَا. وَسَنَذْكُرُ أَحْكَامَ الْجَنَابَةِ وَمَعْنَاهَا وَحُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ, أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ لَمْ يَقْدُمْ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ حَتَّى يَقْدُمَ; لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَمَا قَدِمَ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا, وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ صَحِيحًا قَبْلَ طَمْسِ الْوُجُوهِ وَلَمْ يُوجَدْ الطَّمْسُ أَصْلًا, وَكَانَ ذَلِكَ إيمَانًا قَبْلَ طَمْسِ الْوُجُوهِ وَمَا وُجِدَ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص: 3] فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعِتْقِ لِلرَّقَبَةِ أَمْرًا صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْمَسِيسُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا وَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ لِلْيَهُودِ وَلَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ يَقَعْ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا, مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ وَزَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ وَأَسَدُ بْنُ سَعْيَةَ وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَمُخَيْرِيقٌ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ, وَإِنَّمَا كَانَ الْوَعِيدُ الْعَاجِلُ مُعَلَّقًا بِتَرْكِ جَمِيعِهِمْ الْإِسْلَامَ; وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ; إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْآيَةِ تَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا إنْ لَمْ يُسْلِمُوا. قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} . قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "هُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ, وَقَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى" وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ تَزْكِيَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَنَالَ بِهَا شيئا من الدنيا".

مطلب: في بيان التزكية المنهي عنها قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّزْكِيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, وَقَالَ اللَّهُ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ} . قَوْله تَعَالَى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ: "أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هَهُنَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً". وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَرَبُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ"; وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّ أَوَّلَ الْخِطَابِ فِي ذِكْرِ الْيَهُودِ, وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَقْرَءُونَ فِي كُتُبِهِمْ مَبْعَثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

وَصِفَتَهُ وَحَالَ نُبُوَّتِهِ, وَكَانُوا يُوعِدُونَ الْعَرَبَ بِالْقَتْلِ عِنْدَ مَبْعَثِهِ; لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ, وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ, فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ حَسَدُوا الْعَرَبَ وَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ بِهِ وَجَحَدُوا مَا عَرَفُوهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] فَكَانَتْ عَدَاوَةُ الْيَهُودِ لِلْعَرَبِ ظَاهِرَةً بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا مِنْهُمْ; فَالْأَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ حَسَدُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَرَبِ. وَالْحَسَدُ هُوَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إنَّ كُلَّ أَحَدٍ تَقْدِرُ أَنْ تُرْضِيَهُ إلَّا حَاسِدَ نِعْمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إلَّا زَوَالُهَا; وَالْغِبْطَةُ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ; لِأَنَّهَا تَمَنِّي مِثْلِ النِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا بَلْ مَعَ سُرُورٍ مِنْهُ بِبَقَائِهَا عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} قِيلَ فِيهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجَدِّدُ لَهُمْ جُلُودًا غَيْرَ الْجُلُودِ الَّتِي احْتَرَقَتْ; وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْجِلْدَ لَيْسَ بَعْضَ الْإِنْسَانِ, وَكَذَلِكَ اللَّحْمُ وَالْعَظْمُ, وَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ اللَّابِسُ لِهَذَا الْبَدَنِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْجِلْدَ هُوَ بَعْضُ الْإِنْسَانِ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الشَّخْصِ بِكَمَالِهِ, فَإِنَّهُ يَقُولُ إنَّ الْجُلُودَ تُجَدَّدُ بِأَنْ تُرَدُّ إلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ, كَمَا يُقَالُ لِخَاتِمٍ كُسِرَ ثُمَّ صِيغَ خَاتَمٌ آخَرُ: هَذَا الْخَاتِمُ غَيْرُ ذَاكَ الْخَاتَمِ, وَكَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَطَعَ قَمِيصَهُ قَبَاءً: هَذَا اللِّبَاسُ غَيْرُ ذَاكَ اللِّبَاسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّبْدِيلُ إنَّمَا هُوَ لِلسَّرَابِيلِ الَّتِي قَدْ أُلْبِسُوهَا; وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ; لِأَنَّ السَّرَابِيلَ لَا تُسَمَّى جُلُودًا; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي الْمَأْمُورِينَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ, فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَكْحُولٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "إنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ, أَمَرَ بِأَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ مَفَاتِيحُ الْكَعْبَةِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "هُوَ فِي كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءِ "; وَهَذِهِ أَوْلَى; لِأَنَّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} خِطَابٌ يَقْتَضِي عُمُومُهُ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ; وَأَظُنُّ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ ذَهَبَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِوُلَاةِ الْأَمْرِ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ مُنْصَرِفًا إلَيْهِمْ; وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ; إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْخِطَابِ عُمُومًا فِي سَائِرِ النَّاسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ

خَاصًّا فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فَهُوَ أَمَانَةٌ, فَعَلَى الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا; فَمِنْ الْأَمَانَاتِ الْوَدَائِعُ وَعَلَى مُودَعِيهَا رَدُّهَا إلَى مَنْ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا, وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ فِيهَا إنْ هَلَكَتْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ الضَّمَانُ, ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بِضَاعَةً فَضَاعَتْ مِنْ بَيْنِ ثِيَابِي, فَضَمَّنَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "اُسْتُوْدِعْت سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ, فَذَهَبَتْ, فَقَالَ لِي عُمَرُ: ذَهَبَ لَكَ مَعَهَا شَيْءٌ؟ قُلْت: لَا, فَضَمَّنَنِي". وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا اُسْتُوْدِعَ مَتَاعًا فَذَهَبَ مِنْ بَيْنِ مَتَاعِهِ, فَلَمْ يُضَمِّنْهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: هِيَ أَمَانَةٌ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ اُسْتُوْدِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُبَيْهٍ الْحَجَبِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ وَلَا عَلَى مُؤْتَمَنٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ" يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ; لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ;; إذْ كَانَ الْمُعِيرُ قَدْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْيِ ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ الْمُودَعُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي تَضْمِينِ الْوَدِيعَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُودَعُ اعْتَرَفَ بِفِعْلٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ عنده, فلذلك ضمنه. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ مِنْ السَّلَفِ فِيهِ, فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ: "أَنَّ الْعَارِيَّةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إذَا هَلَكَتْ" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنٌ لِمَا اسْتَعَارَهُ إلَّا الْحَيَوَانَ وَالْعَقْلَ; فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعَقْلِ الضَّمَانَ فَهُوَ ضَامِنٌ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَضْمَنُ الْحَيَوَانَ فِي الْعَارِيَّةِ وَيَضْمَنُ الْحُلِيَّ وَالثِّيَابَ وَنَحْوَهَا". وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا ضَمَانَ فِي الْعَارِيَّةِ وَلَكِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَتَبَ إلَيَّ بِأَنْ أُضَمِّنَهَا فَالْقَضَاءُ الْيَوْمَ عَلَى الضَّمَانِ ": وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "كُلُّ عَارِيَّةٍ مَضْمُونَةٌ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ ضَمَانِهَا عِنْدَ الْهَلَاكِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهَا أَنَّ المعير قد

ائْتَمَنَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَيْهَا حِينَ دَفَعَهَا إلَيْهِ, وَإِذَا كَانَ أَمِينًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا; لِأَنَّا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ" وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْ كُلِّ مُؤْتَمَنٍ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ مَقْبُوضَةً بِإِذْنِ مَالِكِهَا لَا عَلَى شَرْطِ الضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْهَا كَالْوَدِيعَةِ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى نَفْيِ ضَمَانِ الثَّوْبِ الْمُسْتَأْجَرِ مَعَ شَرْطِ بَذْلِ الْمَنَافِعِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ ضَمَانَ بَدَلِ الْمَقْبُوضِ, فَالْعَارِيَّةُ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً; إذْ لَيْسَ فِيهَا ضَمَانٌ مَشْرُوطٌ بِوَجْهٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ مَقْبُوضٌ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا, فَوَجَبَ أَنْ لَا تُضْمَنَ الْعَارِيَّةُ; إذْ كَانَتْ مَقْبُوضَةً لِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْهِبَةُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ; لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِإِذْنِ مَالِكِهَا لَا عَلَى شَرْطِ ضَمَانِ الْبَدَلِ وَهِيَ مَعْرُوفٌ وَتَبَرُّعٌ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ كَذَلِكَ; إذْ هِيَ مَعْرُوفٌ وَتَبَرُّعٌ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ لَوْ نَقَصَتْ بِالِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ النُّقْصَانَ, فَإِذَا كَانَ الْجُزْءُ مِنْهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ مَعَ حُصُولِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْكُلَّ; لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ ضَمَانُهُ بِالْقَبْضِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ, كَالْغَصْبِ وَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ; فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْفَائِتَ بِالنُّقْصَانِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَجَبَ أَنْ لَا يُضْمَنَ الْجَمِيعُ كَالْوَدَائِعِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَلْفَاظِ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي الْعَارِيَّةِ, فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الضَّمَانَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَعْضُهُمْ. وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمَيَّةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ أَدْرَاعًا مِنْ حَدِيدٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ, فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدٌ مَضْمُونَةٌ فَقَالَ: مَضْمُونَةٌ فَضَاعَ بَعْضُهَا, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ" فَقَالَ: لَا, أَنَا أَرْغَبُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَرَوَاهُ إسْرَائِيلُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ, قَالَ: اسْتَعَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا فَضَاعَ بَعْضُهَا, فَقَالَ: "إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ" فَقَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَوَصَلَهُ شَرِيكٌ وَذَكَرَ فِيهِ الضَّمَانَ وَقَطَعَهُ إسْرَائِيلُ وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّمَانَ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دُرُوعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ, فَقَالَ لَهُ: أَمُؤَدَّاةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَارِيَّةُ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ". وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْزُوَ حُنَيْنًا; وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ضَمَانٍ. وَيُقَالُ إنَّهُ لَيْسَ فِي رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ أَحْفَظُ وَلَا أَتْقَنُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ, وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّمَانَ, وَلَوْ تَكَافَأَتْ الرُّوَاةُ فِيهِ حَصَلَ مُضْطَرِبًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ". وَإِنْ صَحَّ ذِكْرُ الضَّمَانِ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ ضَمَانُ الْأَدَاءِ, كَمَا

رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ صَفْوَانَ أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ مَضْمُونَةٌ حَتَّى أُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ", وَكَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا ضُمِنَتْ الْعَارِيَّةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِصَفْوَانَ: "أَعِرْنَا سِلَاحَكَ وَهِيَ عَلَيْنَا ضَمَانٌ حَتَّى نَأْتِيَكَ بِهَا" , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لَهُ ضَمَانَ الرَّدِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ صَفْوَانَ كَانَ حَرْبِيًّا كَافِرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ, فَظَنَّ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا عَلَى جِهَةِ اسْتِبَاحَةِ مَالِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ, وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَغَصْبًا تَأْخُذُهَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: "لَا, بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى أُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ وَعَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ"; فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا عَلَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ يَأْخُذُهَا عَلَى سَبِيلِ مَا تُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَمْوَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ; وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا ضَامِنٌ لِحَاجَتِكَ, يَعْنِي الْقِيَامَ بِهَا وَالسَّعْيَ فِيهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا; قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ نَاقَةً: بِتِلْكَ أُسَلِّي حَاجَةً إنْ ضَمِنْتهَا ... وَأُبْرِئُ هَمًّا كَانَ فِي الصَّدْرِ دَاخِلَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: "إنْ ضَمِنْتهَا" يَعْنِي إنْ هَمَمْت بِهَا وَأَرَدْتهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُسَلِّمُ لِلْمُخَالِفِ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِمَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ الضَّمَانِ, وَنَقُولُ: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: "عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ" فَجَعَلَ الْأَدْرَاعُ الَّتِي قَبَضَهَا مَضْمُونَةً, وَهَذَا يَقْتَضِي ضَمَانَ عَيْنِهَا بِالرَّدِّ لَا ضَمَانَ قِيمَتِهَا,; إذْ لَمْ يَقُلْ أَضْمَنُ قِيمَتَهَا; وَغَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فِيمَا ادَّعَى الْمُخَالِفُ إثْبَاتَ ضَمِيرٍ فِي اللَّفْظِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ, وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَقَدَ مِنْهَا أَدْرَاعًا قَالَ لِصَفْوَانَ: "إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ", فَلَوْ كَانَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ قَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ لَمَا قَالَ: "إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ" وَهُوَ غَارِمٌ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغُرْمَ لَمْ يَجِبْ بِالْهَلَاكِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَغْرَمَهَا إذَا شَاءَ ذَلِكَ صَفْوَانُ مُتَبَرِّعًا بِالْغُرْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَقْرَضَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ أَيْضًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى عَبْدِ اللَّهِ أَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهَا فَقَالَ لَهُ: "خُذْهَا فَإِنَّ جَزَاءَ الْقَرْضِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ "؟ فَلَوْ كَانَ الْغُرْمُ لَازِمًا فِيمَا فُقِدَ مِنْ الْأَدْرَاعِ لَمَا قَالَ: "إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ". وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِقِيمَةِ مَا فُقِدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا, فَإِنَّ فِي قَلْبِيِّ الْيَوْمَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةَ الْقِيمَةِ; لِأَنَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: إنَّ صَفْوَانَ لَمَّا كَانَ حَرْبِيًّا جَازَ أَنْ يَشْرِطَ لَهُ ذَلِكَ; إذْ قَدْ يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا لَا يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَنَا بَعْضَنَا لِبَعْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْهُمْ الْأَحْرَارَ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِيمَا بيننا؟ وكان

أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَأْبَى هَذَا التَّأْوِيلَ وَيَقُولُ: لَا يَصِحُّ شَرْطُ الضَّمَانِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فِيمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطْنَا لَهُمْ ضَمَانَ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَصِحَّ؟. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِضَمَانِ الْعَارِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عن سمرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ" وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ رَدَّ الْمَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ, وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ عَلَيْهِ رَدَّ الْعَارِيَّةِ, فَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ أَيْضًا بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} , وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ حُبَابِ الْحُلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ ثَابِتٌ الْأَعْرَجُ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ وَإِذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وَإِذَا اُسْتُرْحِمْت رَحِمَتْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ, فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إنَّكَ لَتَشْتُمَنِي وَفِي ثَلَاثُ خِصَالٍ: إنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوَدِدْتُ بِاَللَّهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ, وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ وَلَعَلِّي لَا أُقَاضَى إلَيْهِ أَبَدًا, وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ وَمَا لِي مِنْ سَائِمَةٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى, وأن يخشوه وَلَا يَخْشَوْا النَّاسَ, وَأَنْ لَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ثُمَّ قَرَأَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] الْآيَةَ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .

بَابُ فِي طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ أُولِي الْأَمْرِ, فَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: "أَنَّهُمْ أُولُو الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ", وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُرَادِينَ بِالْآيَةِ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا; لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ يَلُونَ أَمْرَ تَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا وَقِتَالِ الْعَدُوِّ, وَالْعُلَمَاءَ يَلُونَ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَمَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزُ, فَأَمَرَ النَّاسَ بِطَاعَتِهِمْ وَالْقَبُولَ مِنْهُمْ مَا عَدَلَ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ عُدُولًا مَرْضِيِّينَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ فِيمَا يُؤَدُّونَ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء: 7] . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ هَهُنَا أَنَّهُمْ الْأُمَرَاءُ; لِأَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ; وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَمْلِكُ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ, ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ مَا دَامُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ وَلَيْسَ بِمُمْتَنَعٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِطَاعَةِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا وَالْعُلَمَاءُ; إذْ لَيْسَ فِي تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِيفِ مِنْ مِنًى فَقَالَ: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا, فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لا يغل1 عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لِلَّهِ تَعَالَى" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "وَطَاعَةُ ذَوِي الْأَمْرِ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "وَالنَّصِيحَةُ لِأُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ, فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ". وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءَ. وقَوْله تَعَالَى عَقِيبَ ذَلِكَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ الْفُقَهَاءُ; لِأَنَّهُ أَمَرَ سَائِرَ النَّاسِ بِطَاعَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , فَأَمَرَ أُولِي الْأَمْرِ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ كَانَتْ الْعَامَّةُ وَمَنْ لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُمْ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّدِّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَالسُّنَّةِ وَوُجُوهَ دَلَائِلِهِمَا عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَثَبَتَ أَنَّهُ خطاب للعلماء.

_ 1 قوله عليه السلام: "لا يغل" فيه روايتان, بفتح الياء وكسر الغين وبضم الياء زكسر الغين, فمعنى الول: لا يدخل قلبه حقد يزيله عن الخق, ومعنى الثاني: لا يكون في قلبه غش ولكن يكون مخلصا في هذه الأشياء لله تعالى. "لمصححه".

مطلب: فِي إبْطَالِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مَعْصُومًا وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ فِي الْإِمَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} , قَالَ: فَلَيْسَ يَخْلُو أُولُو الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا الْفُقَهَاءَ أَوْ الْأُمَرَاءَ أَوْ الْإِمَامَ الَّذِي يَدْعُونَهُ, فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْفُقَهَاءَ وَالْأُمَرَاءَ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ, وَالْفُقَهَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَقَدْ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِمْ. وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْإِمَامَةِ فَإِنَّ شَرْطَ الْإِمَامِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِمَامَ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إمَامٌ مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ لَكَانَ الرَّدُّ إلَيْهِ وَاجِبًا وَكَانَ هُوَ يَقْطَعُ الْخِلَافَ وَالتَّنَازُعَ, فَلَمَّا أَمَرَ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْإِمَامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي الْإِمَامَةِ, وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إمَامٌ تَجِبُ طَاعَتُهُ لَقَالَ: فَرُدُّوهُ إلَى الْإِمَامِ; لِأَنَّ الْإِمَامَ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَقْضِي قَوْلُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, فَلَمَّا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَالْفُقَهَاءِ وَأَمَرَ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْإِمَامِ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ غَيْرُ مَفْرُوضِ الطَّاعَةِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا, وَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَزَعَمَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ; لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ جَمَاعَةٌ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ إمَامًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أُمَرَاءَ وَقَدْ كَانَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِمَعْصِيَةٍ, وَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةٌ.

مطلب: قي بيان مراد من قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَمَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ وَالسُّدِّيِّ: "إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ إلَى كِتَابِ الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ بِاسْمِهِ وَمَعْنَاهُ, وَالثَّانِي: الرَّدُّ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَاعْتِبَارِهِ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَائِرِ; وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا, فَوَجَبَ إذَا تَنَازَعْنَا فِي شَيْءٍ رَدُّهُ إلَى نَصِّ

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنْ وَجَدْنَا الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَإِنْ لَمْ نَجِدْ فِيهِ نَصًّا مِنْهُمَا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْهُمَا; لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالرَّدِّ فِي كُلِّ حَالٍ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالرَّدِّ إلَيْهِمَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَعَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ فَحْوَى الْكَلَامِ وَظَاهِرُهُ الرَّدُّ إلَيْهِمَا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِهِ لَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِاللُّغَةِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ مِمَّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ, فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَرْكُ التَّنَازُعِ وَالتَّسْلِيمُ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} , فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْت فَإِنَّ مَعْنَاهُ: اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيهِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ; وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ فَفِي اعْتِقَادِهِ لِلْإِيمَانِ اعْتِقَادٌ لِالْتِزَامِ حُكْمِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} عَلَى مَا قَدْ أَفَادَهُ بَدِيًّا فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ, وَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ وَهُوَ رَدُّ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّنَازُعُ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ; وَعَلَى أَنَّا نَرُدُّ جَمِيعَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَقِّ الْعُمُومِ وَلَا نُخْرِجُ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ دليل.

مطلب: يجوز الاجتهاد في حالين مع وجوده صلى الله عليه وسلم فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ مُخَاطَبِينَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ عَلَيْهِمْ التَّسْلِيمُ لَهُ وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ دُونَ تَكَلُّفِ الرَّدِّ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ, ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَنْصُوصِ وَتَرْكُ تَكَلُّفِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ وَذَلِكَ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَرَدَّ الْحَوَادِثِ إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْمَنْصُوصِ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِي حَالٍ; فَأَمَّا الْحَالَانِ اللَّتَانِ كَانَتَا يَجُوزُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِحْدَاهُمَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ عَنْ حَضْرَتِهِ, كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ تَقْضِي إنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ, قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو, قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ

رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ"; فَهَذِهِ إحْدَى الْحَالَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَالُ الْأُخْرَى: أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ وَرَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى نَظِيرِهَا لِيَسْتَبْرِئَ فِي اجْتِهَادِهِ وَهَلْ هُوَ مَوْضِعٌ لِذَلِكَ, وَلَكِنْ إنْ أَخْطَأَ وَتَرَكَ طَرِيقَ النَّظَرِ أَعْلَمَهُ وَسَدَّدَهُ, وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بَعْدَهُ. فَالِاجْتِهَادُ بِحَضْرَتِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَائِغٌ, كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: جَاءَ خَصْمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عُقْبَةُ" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْضِي بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ قَالَ: "اقْضِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأَتْ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ" ; فَأَبَاحَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ بِحَضْرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِالِاجْتِهَادِ صَدَرَ عِنْدَنَا عَنْ الْآيَةِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} لِأَنَّا مَتَى وَجَدْنَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا مُوَاطِئًا لِمَعْنَى قَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ عَنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا مُبْتَدَأً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَحْوِ قَطْعِهِ السَّارِقَ وَجَلْدِهِ الزَّانِيَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا; فَقَوْلُ الْقَائِلِ" إنَّ الِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لَمْ يَكُنْ سَائِغًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ رَدَّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ وَاجِبًا حِينَئِذٍ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَرْكُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّسْلِيمُ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ" غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ بِحَضْرَتِهِ عَلَى جِهَةِ إمْضَاءِ الْحُكْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ, فَهَذَا لَعَمْرِي اجْتِهَادٌ مُطْرَحٌ لَا حُكْمَ لَهُ, وَلَمْ يَكُنْ يَسُوغُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ وُجُوبُ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} , وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فَأَكَّدَ جَلَّ وَعَلَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ وُجُوبَ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَبَانَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ, وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] , فَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ, وَجَعَلَ مُخَالِفَ أَمْرِ الرَّسُولِ وَالْمُمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا جَاءَ بِهِ وَالشَّاكَّ فِيهِ خَارِجًا مِنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

قِيلَ فِي الْحَرَجِ هَهُنَا إنَّهُ الشَّكُّ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ وَلَا ضِيقِ صَدْرٍ بِهِ بَلْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ التَّسْلِيمِ, وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَلَّا كَانَ أَمْرُ الرَّسُولِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَانَتْ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهَا إرَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَامِرَهُ, وَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ" افْعَلْ" وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَاحِدًا لِآمِرَيْنِ كَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ قَائِلَيْنِ وَلَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلَيْنِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} قِيلَ: الثُّبَاتُ الْجَمَاعَاتُ, وَاحِدُهَا ثُبَةٌ. وَقِيلَ: الثُّبَةُ عُصْبَةٌ مُنْفَرِدَةٌ مِنْ عُصَبٍ. فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ يَنْفِرُوا فِرَقًا فِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ, فِرْقَةٌ فِي جِهَةٍ وَفِرْقَةٌ فِي جِهَةٍ, أَوْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ. وقَوْله تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} مَعْنَاهُ: خُذُوا سِلَاحَكُمْ, فَسَمَّى السِّلَاحَ حِذْرًا; لِأَنَّهُ يُتَّقَى بِهِ الْحَذَرُ; وَيَحْتَمِلُ: احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ بِأَخْذِ سِلَاحِكُمْ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ عَلَى حَالِ افْتِرَاقِ الْعُصَبِ أَوْ اجْتِمَاعِهَا بِمَا هُوَ أَوْلَى فِي التَّدْبِيرِ. وَالنُّفُورُ هُوَ الْفَزَعُ, نَفَرَ يَنْفِرُ نُفُورًا إذَا فَزِعَ, وَنَفَرَ إلَيْهِ إذَا فَزِعَ مِنْ أَمْرٍ إلَيْهِ; وَالْمَعْنَى: انْفِرُوا إلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ; وَالنَّفَرُ جَمَاعَةٌ تَفْزَعُ إلَى مِثْلِهَا, وَالنَّفِيرُ إلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ, وَالْمُنَافَرَةُ: الْمُحَاكَمَةُ لِلْفَزَعِ إلَيْهَا فِيمَا يَنُوبُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا; وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْحَاكِمَ: أَيُّنَا أَعَزُّ نَفَرًا؟. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخٌ; رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} قَالَ: "عُصَبًا وَفِرَقًا". وَقَالَ فِي بَرَاءَةٍ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] الْآيَةَ, وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] الْآيَةَ. قَالَ: فَنَسَخَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً

فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] وَتَمْكُثُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَاكِثُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيُنْذِرُونَ إخْوَانَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنْ الْغَزَوَاتِ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَا نَزَلَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَحُدُودِهِ. قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . قيل: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فِي طَاعَةِ اللَّهِ; لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى ثَوَابِ اللَّهِ فِي جَنَّتِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَوْلِيَائِهِ, وَقِيلَ: دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِيُؤَدِّيَ إلَى ثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ, فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ فِي الطَّاغُوتِ إنَّهُ الشَّيْطَانُ, قَالَهُ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "هُوَ الْكَاهِنُ". وَقِيلَ: "كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ". وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} الْكَيْدُ هُوَ السَّعْيُ فِي فَسَادِ الْحَالِ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِيَالِ وَالْقَصْدُ لِإِيقَاعِ الضَّرَرِ قَالَ الْحَسَنُ: "إنَّمَا قَالَ: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} لِأَنَّهُ كَانَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَيْهِمْ, فَلِذَلِكَ كَانَ ضَعِيفًا". وَقِيلَ: إنَّمَا سَمَّاهُ ضَعِيفًا لِضَعْفِ نُصْرَتِهِ لِأَوْلِيَائِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} , فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: اخْتِلَافُ تَنَاقُضٍ بِأَنْ يَدْعُوَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إلَى فَسَادِ الْآخَرِ, وَاخْتِلَافُ تَفَاوُتٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ بَلِيغًا وَبَعْضُهُ مَرْذُولًا سَاقِطًا; وَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَنْفِيَّانِ عَنْ الْقُرْآنِ, وَهُوَ إحْدَى دَلَالَاتِ إعْجَازِهِ; لِأَنَّ كَلَامَ سَائِرِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ إذَا طَالَ مِثْلَ السُّوَرِ الطِّوَالِ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخْتَلِفَ اخْتِلَافَ التَّفَاوُتِ. وَالثَّالِثُ: اخْتِلَافُ التَّلَاؤُمِ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُتَلَائِمًا فِي الْحُسْنِ, كَاخْتِلَافِ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ وَمَقَادِيرِ الْآيَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. فَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ الْحَضَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي يَلْزَمُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: "هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ", وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْوُلَاةِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: أَوَّلُوا الْأَمْرَ مَنْ يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النَّاسِ, وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ" مَنْ يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النَّاسِ" وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى الْفُقَهَاءُ أُولِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَوَامِرَ اللَّهِ وَنَوَاهِيَهُ وَيَلْزَمُ غَيْرَهُمْ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِيهَا, فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمُّوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لِيَتَفَقَّهُوا

فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] , فَأَوْجَبَ الْحَذَرَ بِإِنْذَارِهِمْ وَأَلْزَمَ الْمُنْذَرِينَ قَبُولَ قَوْلِهِمْ, فَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إطْلَاقُ اسْمِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ; وَالْأُمَرَاءُ أَيْضًا يُسَمُّونَ بِذَلِكَ لِنَفَاذِ أُمُورِهِمْ عَلَى مَنْ يَلُونَ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} , فَإِنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ الِاسْتِخْرَاجُ, وَمِنْهُ اسْتِنْبَاطُ الْمِيَاهِ وَالْعُيُونِ; فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا اُسْتُخْرِجَ حَتَّى تَقَعَ عَلَيْهِ رُؤْيَةُ الْعُيُونِ أَوْ مَعْرِفَةُ الْقُلُوبِ; والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلام.

مطلب: فيما دلت عليه هذه الآية من وجوب القول بالقياس وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ إذَا كَانُوا بِحَضْرَتِهِ وَإِلَى الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْغَيْبَةِ عَنْ حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَهَذَا لَا مَحَالَةَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِنْبَاطِهِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُودَعٌ فِي النَّصِّ قَدْ كَلَّفَنَا الْوُصُولَ إلَى عِلْمِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ وَاسْتِنْبَاطِهِ فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بَلْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَهُ وَالتَّوَصُّلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِرَدِّهِ إلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَنْصُوصِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَامِّيَّ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كان مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِدَلَائِلِهَا; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إلَى الرَّسُولِ, وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ, ثُمَّ قَالَ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وَلَمْ يَخُصَّ أُولِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ دُونَ الرَّسُولِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْجَمِيعِ الِاسْتِنْبَاطَ وَالتَّوَصُّلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالِاسْتِدْلَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا اسْتِنْبَاطًا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ, إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْأَرَاجِيفِ الَّتِي كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ بِهَا, فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا وَرَدِّ ذَلِكَ إلَى الرَّسُولِ, وَإِلَى الْأُمَرَاءِ حَتَّى لَا يُفْتُوا1 فِي أَعْضَادِ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ شَيْءٌ يُوجِبُ الْخَوْفَ, وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُوجِبُ الْأَمْنَ لِئَلَّا يَأْمَنُوا فَيَتْرُكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْكُفَّارِ; فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. قِيلَ لَهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى أَمْرِ الْعَدُوِّ; لِأَنَّ الْأَمْنَ والخوف قد يكونان فيما

_ 1 قوله: "لا يفتوا" يقال فت في عضد فلان أي أضعفه وأوهنه. "لمصححه".

يَتَعَبَّدُونَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِيمَا يُبَاحُ وَيُحْظَرُ وَمَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ, ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ; فَإِذَا لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا يُنْفِقُ مِنْ الْأَرَاجِيفِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ فِي أَمْرِ الْعَدُوِّ, بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ, وَحَظَرَ بِهِ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ مِنْ حَوَادِثِ الْأَحْكَامِ مَا فِيهِ حَظْرٌ أَوْ إبَاحَةٌ أَوْ إيجَابٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ, وَأَلْزَمَهُمْ رَدَّهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لِيَسْتَنْبِطُوا حُكْمَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِنَظَائِرِهِ مِنْ الْمَنْصُوصِ. وَأَيْضًا فَلَوْ سَلَّمْنَا لَك أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ; لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ إذَا جَازَ اسْتِنْبَاطُ تَدْبِيرِ الْجِهَادِ وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ بِأَخْذِ الْحَذَرِ تَارَةً وَالْإِقْدَامِ فِي حَالٍ وَالْإِحْجَامِ فِي حَالٍ أُخْرَى, وَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ مِمَّا تَعَبَّدْنَا اللَّهَ بِهِ وَوُكِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى آرَاءِ أُولِي الْأَمْرِ وَاجْتِهَادِهِمْ فَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مِنْ تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّظَائِرِ مِنْ سَائِرِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ, إذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى, وَيَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فِي مِثْلِهِ كَمَنْ أَبَاحَ الِاسْتِنْبَاطَ فِي الْبُيُوعِ خَاصَّةً وَمَنَعَهُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ أَوْ أَبَاحَهُ فِي الصَّلَاةِ وَمَنَعَهُ فِي الْمَنَاسِكِ, وَهَذَا خَلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الِاسْتِنْبَاطُ مَقْصُورًا عَلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ دُونَ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. قِيلَ لَهُ: الدَّلِيلُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا لَا يَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ تَنَازُعٌ; إذْ كَانَ أَمْرًا مَعْقُولًا فِي اللَّفْظِ, فَهَذَا لَيْسَ بِاسْتِنْبَاطٍ بَلْ هُوَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ, وَذَلِكَ عِنْدَنَا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] أَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ, وَهَذَا لَا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ خِلَافٌ; فَإِنْ أَرَدْت بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا هَذَا الضَّرْبَ مِنْ دَلَائِلِ الْخِطَابِ فَإِنَّ هَذَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِنْبَاطٍ. وَإِنْ أَرَدْت بِالدَّلِيلِ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ, فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ; وَلَوْ كَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنْ الدَّلِيلِ لَمَا أَغْفَلَتْهُ الصَّحَابَةُ وَلَاسْتَدَلَّتْ بِهِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ, وَلَوْ فَعَلُوا هَذَا لَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَظَهَرَ, فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُمْ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِك. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إيجَابُ الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ; إذْ لَيْسَ يُوجَدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الدَّلَالَةِ, وَقَدْ أَمَرْنَا بِاسْتِنْبَاطِ سَائِرِ مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ, فَعَلَيْنَا اسْتِنْبَاطُ حُكْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ; إذْ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ الْقِيَاسِ مُفْضِيًا بِنَا إلَى الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ; إذْ كَانَ الْقَائِسُ يُجَوِّزُ عَلَى نَفْسِهِ الْخَطَأَ وَلَا يُجَوِّزُ الْقَطْعَ بِأَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ قِيَاسُهُ وَاجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ, عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الِاسْتِنْبَاطَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: "إنَّ الْقَائِسَ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّ قِيَاسَهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ" خَطَأٌ لَا نَقُولُ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ, وَهَذَا عِنْدَنَا عِلْمٌ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ, فَاسْتِنْبَاطُهُ حُكْمُ الْحَوَادِثِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُوجِبِهِ وَمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالْإِمَامَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَعَرَفَهُ الْإِمَامُ وَلَزَالَ مَوْضِعُ الِاسْتِنْبَاطِ وَسَقَطَ الرَّدُّ إلَى أُولِي الْأَمْرِ, بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ الرَّدُّ إلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَعْرِفُ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ بَاطِلِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: التَّحِيَّةُ الْمِلْكُ, وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَسِيرُ بِهِ إلَى النُّعْمَانِ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِ يَعْنِي: عَلَى مُلْكِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "حَيَّاك اللَّهُ" أَيْ" مَلَّكَك اللَّهُ". وَيُسَمَّى السَّلَامُ تَحِيَّةً أَيْضًا; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ حَيَّاك اللَّهُ فَأُبْدِلُوا مِنْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالسَّلَامِ وَأُقِيمَ مَقَامَ قَوْلِهِمْ حَيَّاك اللَّهُ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْت أَوَّلَ مَنْ حَيَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ فَقُلْت: السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: يُحَيُّونَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ1 يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الرَّيْحَانَ. وَيُقَالُ لَهُمْ" حَيَّاكُمْ اللَّهُ" وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَلَّكَك اللَّهُ; فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} عَلَى حَقِيقَتِهِ أَفَادَ أَنَّ مَنْ مَلَّكَ غَيْرَهُ شَيْئًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهُ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهَا مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا, فَإِذَا أُثِيبَ مِنْهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا; لِأَنَّهُ أَوْجَبَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ رَدٍّ لِمَا جِيءَ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمَهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب قال: أخبرني أسامة بن

_ 1 قوله: "السباسب" هو عيد للنصارى ويسمونه يوم الشانين, وفي الحديث: "إن الله أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد". "لمصححه".

زَيْدٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ حَدَّثَهُ عَنْ أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَسْتَرِدُّ مَا وَهَبَ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ قَيْأَهُ, فَإِذَا اسْتَرَدَّ الْوَاهِبُ فَلْيُوَقَّفْ وَلْيُعَرَّفْ1 بِمَا اسْتَرَدَّ ثُمَّ لِيُدْفَعْ إلَيْهِ مَا وَهَبَ". وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مَجْمَعٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُعْطِي عَطِيَّةً أَوْ يَهَبُ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا. إلَّا الْوَالِدُ2 فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ, وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ" وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ, وَالْآخَرِ: كَرَاهَتُهُ وَأَنَّهُ مِنْ لُؤْمِ الْأَخْلَاقِ وَدَنَاءَتِهَا فِي الْعَادَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الرَّاجِعَ فِي الْهِبَةِ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ. وَهُوَ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالْكَلْبِ إذَا عَادَ فِي قَيْئِهِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْكَلْبِ, فَمَا شَبَّهَهُ بِهِ فَهُوَ مِثْلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ لَمَا شَبَّهَ الرَّاجِعُ بِالْكَلْبِ الْعَائِدِ فِي الْقَيْءِ, لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَشْبِيهُ مَا لَا يَقَعُ بِحَالٍ بِمَا قَدْ صَحَّ وُجُودُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مَعَ اسْتِقْبَاحِ هَذَا الْفِعْلِ وَكَرَاهَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ ذَلِكَ فِي رَدِّ السَّلَامِ, مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "السَّلَامُ تَطَوُّعٌ وَرَدُّهُ فَرِيضَةٌ" وَذَكَرَ الْآيَةَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ فِي. أَنَّهُ خَاصٌّ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَامٌّ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ, فَقَالَ عَطَاءٌ: "هُوَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: "هُوَ عَامٌّ فِي الْفَرِيقَيْنِ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "تَقُولُ لِلْكَافِرِ وَعَلَيْكُمْ وَلَا تَقُلْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكُفَّارِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ بِالسَّلَامِ فَإِنْ بَدَءُوكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا رَدُّ السَّلَامِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ, إذَا سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَرَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَجْزَأَ. وَأَمَّا قوله تعالى: {بِأَحْسَنَ مِنْهَ} إذَا أُرِيدَ بِهِ رَدُّ السَّلَامِ فَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدُّعَاءِ, وَذَلِكَ إذَا قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" يقول هو: "وعليكم السلام

_ 1 قوله: "فليوقف وليعرف" لفظهما مبني للمفعول من باب التفعيل, هكذا في أبي داود, ومثله في جامع الأصول والجامع الكبير للسيوطي. والذي ظهر أن معناه يعرف الواهب بكراهة استرداده لما وهبه لعله تدع عن ذلك, فإذا لم يرتدع يدفع إليه ما وهب. "لمصححه". 2 قوله: إلا الوالد فيما يعطى ولده" هكذا في سنن أبي داود ومثله في جامع الصول قال ابن رسلان: قال بهذا الاستثناء مالك والشافعي. "لمصححه".

وَرَحْمَةُ اللَّهِ" وَإِذَا قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" قَالَ هُوَ: "وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ". قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ وَكَانُوا يُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مَكَّةَ فَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ". وَفِي نَسَقِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّأْوِيلِ الْأَخِيرِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وقوله تعالى: {أَرْكَسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "رَدَّهُمْ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَرْكَسَهُمْ أَهْلَكَهُمْ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "أَرْكَسَهُمْ نَكَسَهُمْ". قَالَ الْكِسَائِيُّ: "أَرْكَسَهُمْ وَرَكَسَهُمْ بِمَعْنًى" وَإِنَّمَا الْمَعْنَى رَدَّهُمْ فِي حُكْمِ الْكُفْرِ مِنْ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ, وَقِيلَ مِنْ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ; لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الِارْتِدَادَ بَعْدَمَا كَانُوا عَلَى النِّفَاقِ. وَإِنَّمَا وُصِفُوا بِالنِّفَاقِ وَقَدْ أَظْهَرُوا الِارْتِدَادَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلُ مِنْ إضْمَارِ الْكُفْرِ, قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: هَذَا يَحْسُنُ مَعَ عَلَمِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ, كَمَا تَقُولُ: "هَذِهِ الْعَجُوزُ هِيَ الشَّابَّةُ" يَعْنِي هِيَ الَّتِي كَانَتْ شَابَّةً, وَلَا يَجُوزُ" هَذِهِ شَابَّةٌ". فَأَبَانَ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَحْوَالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لَكُمْ الْإِسْلَامَ وَإِذَا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ, وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُحْسِنُوا بِهِمْ الظَّنَّ وَأَنْ يُجَادِلُوا عَنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} يَعْنِي هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادَاتهمْ لِئَلَّا يُحْسِنَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ الظَّنَّ وَلِيَعْتَقِدُوا مُعَادَاتِهِمْ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: حَتَّى يُسْلِمُوا وَيُهَاجِرُوا; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ, وَأَنَّهُمْ وَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ تَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَالَاةٌ إلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ, وهو كقوله تعالى: {امَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] وَهَذَا فِي حَالِ مَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ, وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا". فَكَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا إلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَنُسِخَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا

عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْهِجْرَةِ, فَقَالَ: "وَيْحَك إنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ فَهَلْ لَك مِنْ إبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَهَلْ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِك شَيْئًا" فَأَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْهِجْرَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عن إسْمَاعِيلَ بْن أَبِي خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ قَالَ: أَتَى رِجْلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ, وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَرَأَى فَرْضَ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَائِمًا. وقَوْله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْهِجْرَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَدْ انْتَظَمَ الْإِيمَانَ وَالْهِجْرَةَ جَمِيعًا, وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} رَاجِعٌ إلَيْهِمَا; وَلِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} , قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَصِلُونَ بِمَعْنَى يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ, كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ أَبَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالْأُنُوفُ رَوَاغِمُ وَقَالَ زَيْدُ الْخَيْرِ: إذَا اتَّصَلَتْ تُنَادِي يَا لَقَيْسٍ ... وَخَصَّتْ بِالدُّعَاءِ بَنِي كِلَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِانْتِسَابُ يَكُونُ بِالرَّحِمِ وَيَكُونُ بِالْحَلِفِ وَبِالْوَلَاءِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ أَيْضًا رِجْلٌ فِي عَهْدِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُوَادَعَةِ فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَتْ بَنُو كِنَانَةَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} إلَى قَوْله تَعَالَى:

{فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} , وَفِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] قَالَ: ثُمَّ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَاتِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] إلَى قَوْلِهِ: {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11] . وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} : إلَّا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَمَانٌ فَلَهُمْ مِنْهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "هَؤُلَاءِ بَنُو مُدْلِجٍ, كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ, فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ مَا حَرَّمَ مِنْ قريش".

مطلب: إذا عقد الإمام عهدا بينه زبين قوم يدخل من كان في حيزهم وأهل نصرتهم قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا عَقَدَ الْإِمَامُ عَهْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا مَحَالَةَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ بِالرَّحِمِ أَوْ الْحِلْفِ أَوْ الْوَلَاءِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِهِمْ وَمِنْ أَهْلِ نُصْرَتِهِمْ, وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَهْدِ مَا لَمْ يَشْرِطْ, وَمَنْ شَرَطَ مِنْ أَهْلِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى دُخُولَهُ فِي عَهْدِ الْمُعَاهَدِينَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِمْ إذَا عَقَدَ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو كِنَانَةَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ" فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مُعَاهَدَةَ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَادَعَتَهُمْ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] , فَهُوَ كَمَا قَالَ; لِأَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ, فَأُمِرُوا أَنْ لَا يَقْبَلُوا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ, فَنَسَخَ بِهِ الْهُدْنَةَ وَالصُّلْحَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَمَرَنَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {"قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ. وَأَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَقَدْ كَانُوا أَسْلَمُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَرَجَعَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَمَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ, فَهَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي نَسْخِ مُعَاهَدَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ وَالدُّخُولِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا فَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا بَعْدَمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَ أَهْلَهُ عَلَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ, فَاسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَنْ الْعَهْدِ وَالصُّلْحِ. إلَّا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لِعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ أَوْ خَوْفٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ

ذَرَارِيِّهِمْ, جَازَ لَهُمْ مُهَادَنَةُ الْعَدُوِّ وَمُصَالَحَتِهِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا إلَيْهِمْ; لِأَنَّ حَظْرَ الْمُعَاهَدَةِ وَالصُّلْحِ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ قُوَّتِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ وَاسْتِعْلَائِهِمْ عَلَيْهِمْ, وَقَدْ كَانَتْ الْهُدْنَةُ جَائِزَةً مُبَاحَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ, إنَّمَا حُظِرَتْ لِحُدُوثِ هَذَا السَّبَبِ, فَمَتَى زَالَ السَّبَبُ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا مِنْ خَوْفِهِمْ الْعَدُوَّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ مِنْ جَوَازِ الْهُدْنَةِ; وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِذَوِي الْأَرْحَامِ, فَمَتَى لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا عَادَ حُكْمُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: "ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ" وَالْحَصْرُ الضِّيقُ, وَمِنْهُ الْحَصْرُ فِي الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ لَقِرَاءَتِهِ, وَمِنْهُ الْمَحْصُورُ فِي حَبْسٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ: "هُوَ الَّذِي حَصِرَ صَدْرُهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ كَانُوا قَوْمًا مُشْرِكِينَ مُحَالِفِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَ قَوْمِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْدِ وَأَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ, فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِالْكَفِّ عَنْ هَؤُلَاءِ إذَا اعْتَزَلُوهُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُسْلِمِينَ كَرِهُوا قِتَالَ قَوْمِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ الرَّحِمِ, وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ قَطُّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ مَعَهُمْ وَلَا كَانُوا قَطُّ مَأْمُورِينَ بِقِتَالِ أَمْثَالِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} يَعْنِي إنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ ظَالِمِينَ لَهُمْ; يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ, إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُشْرِكِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفٌ, فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ إذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ قِتَالَ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ أَيْضًا. وَالتَّسْلِيطُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ لِيُقَاتِلُوكُمْ, وَالثَّانِي إبَاحَةُ الْقِتَالِ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} , قال مجاهد:

"نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْلِمُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَهُنَا وَهَهُنَا, فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا يُصْلِحُوا". وَذَكَرَ أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: "نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ, وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ, فَقَالَ: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} . وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ إذَا جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} , والفتنة ههنا الشرك; وقوله: {أُرْكِسُوا فِيهَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ, فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَفِّ عَنْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا إذَا اعْتَزَلُونَا وَأَلْقَوْا إلَيْنَا السَّلَمَ, وَهُوَ الصُّلْحُ, كَمَا أَمَرَنَا بِالْكَفِّ عَنْ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَعَنْ الَّذِينَ جَاءُونَا وَقَدْ حُصِرَتْ صُدُورُهُمْ; وَكَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] وَكَمَا قَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] , فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا, ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَجَائِزٌ لِلْمُسْلِمِينَ تَرْكُ قِتَالِ مَنْ لَا يُقَاتِلُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ, إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ مَنْ اعْتَزَلَنَا وَكَفَّ عَنْ قِتَالِنَا مَنْسُوخٌ. وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ غَيْرُ ثَابِتٍ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا حَظْرُ قِتَالِ مَنْ كَفَّ عَنْ قِتَالِنَا مِنْ الْكُفَّارِ, وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَحْظُرُ قِتَالَ مَنْ اعْتَزَلَ قِتَالَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ تَرْكِ قِتَالِهِمْ لَا فِي حَظْرِهِ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى نَسْخِ حَظْرِ الْقِتَالِ لِمَنْ كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

بَابُ قَتْلِ الْخَطَإِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" كَانَ" هَهُنَا, فَقَالَ قَتَادَةُ: "مَعْنَاهُ مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "مَا كَانَ لَهُ سَبَبُ جَوَازِ قَتْلٍ". وَقَالَ آخَرُونَ: "مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا سلف كما ليس له الآن".

مطلب: في معنى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا خَطَأً} وفيه فوائد شريفة وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي مَعْنَى "إلَّا" فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً, فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ, وَهُوَ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا الْأَوَارِيَ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ قَدْ أَفَادَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ, وَهُوَ أَنْ يَرَى عَلَيْهِ سِيمَا الْمُشْرِكِينَ أَوَيَجِدُهُ فِي حَيِّزِهِمْ فَيَظُنَّهُ مُشْرِكًا فَجَائِزٌ لَهُ قَتْلُهُ وَهُوَ خَطَأٌ; كَمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَاتَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَخْطَأَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِأَبِيهِ يَحْسَبُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ وَكَرُّوا عَلَيْهِ بِأَسْيَافِهِمْ, فَطَفِقَ حُذَيْفَةُ يَقُولُ: إنَّهُ أَبِي فَلَمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ, فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَبَلَغَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَادَتْ حُذَيْفَةَ عِنْدَهُ خَيْرًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ مَعْنَاهُ: وَلَا خَطَأَ; لِأَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ غَيْرُ مُبَاحٍ بِحَالِ قِتَالٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ" إلَّا" لَمْ تُوجَدْ بِمَعْنَى" وَلَا". وَالثَّانِي: مَا أَنْكَرَهُ مِنْ امْتِنَاعِ إبَاحَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ مَوْجُودٌ فِي حَظْرِهِ لِأَنَّ الْخَطَأَ إنْ كَانَ لَا تَصِحُّ إبَاحَتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ, فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ حَظْرُهُ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} إيجَابُ الْعِقَابِ لِقَاتِلِهِ لِاقْتِضَاءِ إطْلَاقِ النَّهْيِ لِذَلِكَ وَأَفَادَ بِذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَأْثَمِ, ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا خَطَأً} فَإِنَّهُ لَا مَأْثَمَ عَلَى فَاعِلِهِ, إنَّمَا أُدْخِلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَأْثَمِ وَأُخْرِجَ مِنْهُ قَاتِلُ الْخَطَإِ, وَالِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ وَجْهِهِ, إنَّمَا دَخَلَ عَلَى الْمَأْثَمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْقَتْلِ وَأَخْرَجَ قَاتِلَ الْخَطَإِ مِنْهُ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ فَيَكُونُ مُبِيحًا لِمَا حَظَرَهُ بِلَفْظِ الْجُمْلَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ سَائِغٌ; وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ فِيمَنْ يَظُنُّهُ مُشْرِكًا فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ إبَاحَةً, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَطَأً عِنْدَ الْقَاتِلِ, وَإِذَا كَانَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ الَّذِي فِي حَيِّزِ الْعَدُوِّ قَصْدٌ بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ خَطَأً عِنْدَ الْقَاتِلِ, وَإِنَّمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ مَأْمُورٍ بِهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادُ الْآيِ; لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

قَتْلَ خَطَأٍ عِنْدَ الْقَاتِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ" لَا تَقْتُلْهُ عَمْدًا" اقْتَضَى النَّهْيَ قَتْلًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ الْقَاتِلِ, وَإِذَا قَالَ" لَا تَقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ" فَإِنَّمَا حَظَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا بهذه الصفة؟ فكذلك قوله: {إِلَّا خَطَأً} إذَا كَانَ قَدْ اقْتَضَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْخَطَإِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ, وَذَلِكَ مُحَالٌ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ; لِأَنَّ الْخَطَأَ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْقَاتِلُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ, وَالْحَالُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَظْرٌ وَلَا إبَاحَةٌ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْقَتْلُ عَلَى أَنْحَاءٍ أَرْبَعَةٍ عَمْدٌ, وَخَطَأٌ, وَشِبْهُ عَمْدٍ, وَمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ. فَالْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْمَقْصُودِ بِهِ. وَالْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ رَمْيَ مُشْرِكٍ أَوْ طَائِرٍ فَيُصِيبَ مُسْلِمًا, وَالثَّانِي: أَنْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَيْهِ لِبَاسُهُمْ; فَالْأَوَّلُ خَطَأٌ فِي الْفِعْلِ وَالثَّانِي خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ. وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ عَصًا; وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ, فَهُوَ قَتْلُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ; لِأَنَّ الْعَمْدَ مَا قُصِدَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ, وَالْخَطَأَ أَيْضًا الْفِعْلُ فِيهِ مَقْصُودٌ إلَّا أَنَّهُ يَقَعُ الْخَطَأُ تَارَةً فِي الْفِعْلِ وَتَارَةً فِي الْقَصْدِ, وَقَتْلُ السَّاهِي غَيْرُ مَقْصُودٍ أَصْلًا فَلَيْسَ هُوَ فِي حَيِّزِ الْخَطَإِ وَلَا الْعَمْدِ, إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخَطَإِ فِي الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ أُلْحِقَ بِحُكْمِ الْقَتْلِ مَا لَيْسَ بِقَتْلٍ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عَمْدًا وَلَا غَيْرَ عَمْدٍ, وَذَلِكَ نَحْوُ حَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إذَا عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ; هَذَا لَيْسَ بِقَاتِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ; إذْ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ فِي قَتْلِهِ; لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَّا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً أَوْ مُتَوَلِّدًا, وَلَيْسَ مِنْ وَاضِعِ الْحَجَرِ وَحَافِرِ الْبِئْرِ فِعْلٌ فِي الْعَاثِرِ بِالْحَجَرِ وَالْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَوَلُّدًا, فَلَمْ يَكُنْ قَاتِلًا فِي الْحَقِيقَةِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ, وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ الْعَاقِلَةِ. وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ متواترة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ, وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ; مِنْهَا مَا رُوِيَ الْحَجَّاجِ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ وَيَفُكُّوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ, ثُمَّ كَتَبَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتَوَلَّى مَوْلَى رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ" وَرَوَى مُجَالِدُ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ, فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَتَرَكَ زَوْجَهَا

وَوَلَدَهَا, فَقَالَ عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ: مِيرَاثُهَا لَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا, مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا"; قَالَ: وَكَانَتْ حُبْلَى, فَأَلْقَتْ جَنِينًا, فَخَافَ عَاقِلَةُ الْقَاتِلَةِ أَنْ يُضَمِّنَهُمْ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا سَجْعُ الْجَاهِلِيَّةِ" فَقَضَى فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْجَنِينِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً, فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: أَنُودِيَ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ; فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ هَذَا لَقَوْلُ الشَّاعِرِ, فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ". وَرَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: اخْتَصَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ فِي وَلَاءِ مَوَالِي صَفِيَّةَ إلَى عُمَرَ, فَقَضَى بِالْمِيرَاثِ لَلزُّبَيْرِ وَالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ فِي قَوْمٍ أَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ, وَعَنْ عُمَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَحَيٍّ آخَرَ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ" , وَقَالَ لِأَبِي رَمَثَةَ وَابْنِهِ: إنَّهُ "لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ" , وَالْعُقُولُ أَيْضًا تَمْنَعُ أَخْذَ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ; لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَفَتْ أَنْ يُؤْخَذَ الْإِنْسَانُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ, وَلَيْسَ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَخْذُهُمْ بِذَنْبِ الْجَانِي, إنَّمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا عَلَى الْقَاتِلِ وَأَمْرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالدُّخُولِ مَعَهُ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُمْ ذَنْبُ جِنَايَتِهِ, وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ حُقُوقًا لِلْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يُذْنِبُوهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ, وَأَمَرَ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ, وَأَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ; وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا لِلْمُوَاسَاةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ; فَكَذَلِكَ أَمَرْت الْعَاقِلَةَ بِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ عَنْ قَاتِلِ الْخَطَإِ عَلَى جِهَةِ الْمُوَاسَاةِ مِنْ غَيْرِ إجْحَافٍ بِهِمْ وَبِهِ, وَإِنَّمَا يَلْزَمُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي أُعْطِيَّاتِهِمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَمُؤَجِّلَةٌ ثَلَاثُ سِنِينَ; فَهَذَا مِمَّا نُدِبُوا إلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَدْ كَانَ تَحَمُّلُ الدِّيَاتِ مَشْهُورًا فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ, وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِهِمْ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمْ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْت لأتمم

مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ", فَهَذَا فِعْلٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ مَقْبُولٌ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ; وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ" "وَلَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ". لَا يَنْفِي وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَامَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ أَوْ يُطَالَبَ بِذَنْبِ سِوَاهُ. وَلِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وُجُوهٌ سَائِغَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ بَدِيًّا بِإِيجَابِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ كَانَ مِنْهُ, كَمَا أَوْجَبَ الصَّدَقَاتِ فِي مَالِ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْضُوعَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ, وَلِذَلِكَ أَوْجَبَهَا أَصْحَابُنَا عَلَى أَهْلِ دِيوَانِهِ دُونَ أَقْرِبَائِهِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْحِمَايَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ؟ فَلَمَّا كَانُوا مُتَنَاصِرِينَ فِي الْقِتَالِ وَالْحِمَايَةِ أُمِرُوا بِالتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى تَحَمُّلِ الدِّيَةِ لِيَتَسَاوَوْا فِي حَمْلِهَا كَمَا تُسَاوَوْا فِي حِمَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عِنْدَ الْقِتَالِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ زَوَالُ الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ, وَهُوَ دَاعٍ إلَى الْأُلْفَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فَتَحَمَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ مَا قَدْ لَحِقَهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ الْعَدَاوَةِ وَإِلَى الْأُلْفَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ؟ كَمَا لَوْ قَصَدَهُ إنْسَانٌ بِضَرَرٍ فَعَاوَنَهُ وَحَمَاهُ عَنْهُ انْسَلَّتْ سَخِيمَةُ قَلْبِهِ وَعَادَ إلَى سَلَامَةِ الصَّدْرِ وَالْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا تَحَمَّلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ حَمَلَ عَنْهُ الْقَاتِلُ إذَا جَنَى أَيْضًا, فَلَمْ يَذْهَبْ حَمْلُهُ لِلْجِنَايَةِ عَنْهُ ضَيَاعًا بَلْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ مَحْمُودٌ يُسْتَحَقُّ مِثْلُهُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ كُلُّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ, وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْمُلْحِدُ الْمُتَعَلِّقُ بِمِثْلِهِ مِنْ ضِيقِ عَقْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ; وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى حُسْنِ هِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دِيَةِ الْخَطَإِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ, قَالَ أَصْحَابُنَا: "كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ فَهِيَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ". وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الشُّعَبِيِّ وَالْحَكَمُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَا: "أَوَّلُ مَنْ فَرَضَ الْعَطَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفَرَضَ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَثُلُثَيْ الدِّيَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَالنِّصْفُ فِي سَنَتَيْنِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي عَامِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ فَصَارَ إجْمَاعًا لَا يَسَعُ خِلَافُهُ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْعَاقِلَةِ مَنْ هُمْ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: "الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا, وَالْعَاقِلَةُ هُمْ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أُعْطِيَّاتِهِمْ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا

ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ, فَإِنْ أَصَابَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ, وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فُرِضَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي, فَيُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ وَيَضُمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةً". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: "وَيَعْقِلُ عَنْ الْحَلِيفِ حُلَفَاؤُهُ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَيْسَ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَوْلَى بِهَا مِنْ سَائِرِ الْعَاقِلَةِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "الدِّيَةُ عَلَى الْقَبَائِلِ عَلَى الْغَنِيِّ عَلَى قَدْرِهِ وَمَنْ دُونَهُ عَلَى قَدْرِهِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَنِصْفًا" وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ أُعْطِيَّاتِهِمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "تَجْعَلُ الدِّيَةُ ثُلُثًا فِي الْعَامِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ الرَّجُلُ وَلَكِنْ تَكُونُ عِنْدَ الْأَعْطِيَةِ عَلَى الرِّجَالِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْن صَالِحٍ: "الْعَقْلُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ فِي أَعْطِيَةِ الْمُقَاتَلَةِ" وَقَالَ اللَّيْثُ: "الْعَقْلُ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَأْخُذُ مَعَهُمْ الْعَطَاءَ وَلَا يَكُونُ عَلَى قَوْمِهِ مِنْهُ شَيْءٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَحْمِلُ الْعَقْلَ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ". وَرَوَى الْمَزْنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "أَنَّ الْعَقْلَ عَلَى ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَالْحُلَفَاءِ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ بَنِي أَبِيهِ ثُمَّ مِنْ بَنِي جَدِّهِ ثُمَّ مِنْ بَنِي جَدِّ أَبِيهِ, فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ الْبَعْضِ حَمَلَ الْمَوَالِي الْمُعْتَقُونَ الْبَاقِي, فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضٍ وَلَهُمْ عَوَاقِلُ عَقَلَتْهُمْ عَوَاقِلُهُمْ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذُو نَسَبٍ وَلَا مَوْلَى مِنْ أَعْلَى حَمْلٍ عَلَى الْمَوَالِي مِنْ أَسْفَلَ, وَيَحْمِلُ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ نِصْفَ دِينَارٍ وَمَنْ كَانَ دُونَهُ رُبْعَ دِينَارٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى هَذَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ وَقَالَ: لَا يَتَوَلَّى مَوْلَى قَوْمٍ إلَّا بِإِذْنِهِمْ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطُ اعْتِبَارِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ, وَأَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ مِنْ الْجَانِي سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمٍ حِينَ قَتَلَ مُسْلِمًا وَهُوَ يَظُنُّهُ كَافِرًا: "إنَّ عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك الدِّيَةَ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ مِنْهُمْ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاوِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ, وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ, وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: "عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك الدِّيَةُ". وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ, ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَرَى الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ, ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ الدَّوَاوِينَ فَجَمَعَ بِهَا النَّاسَ وَجَعَلَ أَهْلَ كُلِّ رَايَةٍ وَجُنْدٍ يَدًا وَاحِدَةً وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ, فَصَارُوا يَتَنَاصَرُونَ بِالرَّايَاتِ وَالدَّوَاوِينِ وَعَلَيْهَا يَتَعَاقَلُونَ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَلَى الْقَبَائِلِ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْقَبَائِلِ; فَالْمَعْنَى الَّذِي تَعَاقَلُوا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ النُّصْرَةُ, فَإِذَا

كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ النُّصْرَةُ بِالرَّايَاتِ وَالدَّوَاوِينِ تَعَاقَلُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مِنْ الْقَبِيلَةِ, فَإِذَا فُقِدَتْ الرَّايَاتُ تَنَاصَرُوا بِالْقَبَائِلِ وَبِهَا يَتَعَاقَلُونَ أَيْضًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلنُّصْرَةِ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي الْعَقْلِ لِعَدَمِ النُّصْرَةِ فِيهِنَّ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ النُّصْرَةِ فِي الْعَقْلِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ بِالْحِلْفِ فَإِنَّ سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ رَوَى عَنْ جبير بن مطعم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفَ الْجَاهِلِيَّةِ, وَقَدْ كَانَ الْحِلْفُ عِنْدَهُمْ كَالْقَرَابَةِ فِي النُّصْرَةِ وَالْعَقْلِ, ثُمَّ أَكَّدَهُ الْإِسْلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ". وَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ خَيْلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ, فَرَبَطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ, فَقَالَ: عَلَامَ أُحْبَسُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك". فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفَ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ". قِيلَ لَهُ: مَعْنَاهُ نَفْيُ التَّوَارُثِ بِهِ مَعَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُورِثُونَ الْحَلِيفَ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ, فَأَمَّا حُكْمُ الْحِلْفِ فِي الْعَقْلِ وَالنُّصْرَةِ فَبَاقٍ ثَابِتٌ; وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ثَابِتٌ يُعْقَلُ بِهِ, لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِنَّمَا أَلْزَمَ أَصْحَابُنَا كُلَّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى لُزُومِهِ هَذَا الْقَدْرَ, وَمَا زَادَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْزَمْ. وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ مَعَهُمْ فِي الْعَقْلِ, وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: "لَا يَدْخُلُ فِيهِ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "أَنَّهُ يَعْقِلُ مَعَهُمْ" وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُهُ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَلْزَمُ الْقَاتِلَ وَالْعَاقِلَةُ تَعْقِلُ عَنْهُ عَلَى جِهَةِ الْمُوَاسَاةِ وَالنُّصْرَةِ, فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْعَاقِلَةَ إلَّا الْمُتَيَقِّنَ; وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا عَدَا حِصَّةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لَازِمٌ لِلْعَاقِلَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ, فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَازِمًا لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى لُزُومِهِ الْعَاقِلَةَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا تَعْقِلُ عَنْهُ, فَعَقْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى, فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الْجَانِي لَدَخَلَ مَعَ سَائِرِ الْعَاقِلَةِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ, فَإِذَا كَانَ هُوَ الْجَانِي فَهُوَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ مَعَهُمْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي التَّنَاصُرِ وَالْمُوَاسَاةِ. قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يُجْزِي فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الصَّبِيُّ إذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا" وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشُّعَبِيِّ: "لَا يُجْزِي

إلَّا مَنْ صَامَ وَصَلَّى". وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِهِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} , وَهَذِهِ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ" فَأَثْبَتَ لَهُ حُكْمَ الْفِطْرَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ, فَوَجَبَ جَوَازُهُ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} مُنْتَظِمٌ لِلصَّبِيِّ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْكَبِيرَ, فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} , وَلَمْ يَشْرِطْ اللَّهُ عَلَيْهَا الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ مُوجِبُ النَّسْخِ; وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا أَسْلَمَ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ كَانَ مُجْزِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ لِحُصُولِ اسْمِ الْإِيمَانِ, فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا كَانَ دَاخِلًا فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا يُجْزِي إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَامَ وَصَلَّى. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَسْلَمَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ الصَّوْمِ, فَمِنْ أَيْنَ شَرَطْت مَعَ الْإِيمَانِ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرِطْهُمَا؟ وَلِمَ زِدْت فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا وَحَظَرْت مَا أَبَاحَتْهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُوجِبُ ذَلِكَ وَفِيهِ إيجَابُ نَسْخِ الْقُرْآنِ؟ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ حُكْمُ الصَّبِيِّ حُكْمُ الرَّجُلِ فِي بَابِ التَّوَارُثِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِهِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي جَوَازِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ, إذْ كَانَتْ رَقَبَةً تَامَّةً لَهَا حُكْمُ الْإِيمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يَقْتَضِي حَقِيقَةَ رَقَبَةٍ بَالِغَةٍ مُعْتَقِدَةً لِلْإِيمَانِ لَا مَنْ لَهَا حُكْمُ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ, وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الرَّقَبَةَ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُهَا مُرَادَةً بِالْآيَةِ; فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ لَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ السِّمَةُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَهُوَ الطِّفْلُ الَّذِي لَا اعْتِقَادَ لَهُ. قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ جَائِزٌ فِي كَفَّارَةِ الْخَطَإِ إذَا كَانَ قَدْ صَامَ وَصَلَّى, وَلَمْ يَشْرِطْ أَحَدٌ وُجُودَ الْإِيمَانِ مِنْهُ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَلَيْسَ لَهُ اعْتِقَادٌ صَحِيحٌ لِلْإِيمَانِ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ سُقُوطُ اعْتِبَارِ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لِلرَّقَبَةِ; وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلِمْنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهِ بِمَنْ لَحِقَتْهُ سِمَةُ الْإِيمَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ سُمِّيَ, وَالصَّبِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا, فوجب جوازه عن الكفارة.

مطلب: تصح البراءة ما لم يردها المبرأ تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مَا لَمْ يَرُدَّهَا الْمُبَرَّأُ. قَوْله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا أَنْ يُبَرِّئَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ مِنْ الدِّيَةِ; فَسُمِّيَ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا صَدَقَةً. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ

فَقَالَ: "قَدْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك" أَنَّ ذَلِكَ بَرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ إلَى قَبُولِ الْمُبَرَّأِ مِنْهُ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْبَرَاءَةَ وَاقِعَةٌ مَا لَمْ يَرُدَّهَا الْمُبَرَّأُ مِنْهُ. وَقَالَ زَفَرُ: "لَا يُبْرِئُ الْغَرِيمُ مِنْ الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ الْبَرَاءَةَ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ" وَجَعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْأَعْيَانِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرِطْ الْقَبُولَ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ كَالْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْعِتْقِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا رَدَّ الْمُبَرَّأُ مِنْهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الدَّيْنِ عَادَ الدَّيْنُ" وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "لَا يَعُودُ" وَجَعَلُوهُ كَالْعِتْقِ وَالْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ الدَّيْنِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ثَوْبٍ بَرِئَ فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ الْبَرَاءَةُ وَعَادَ الدَّيْنُ؟ وَالْعِتْقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الدَّمِ لَا يَنْفَسِخَانِ بِحَالٍ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُقُوعِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الدَّيْنِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ, وَقَدْ حُكِمَ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ بِهَا, وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ إذَا مَلَكَهَا غَيْرُهُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ, فَلَا يَمْلِكُ, مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: "قَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ هَذَا الْعَبْدِ" فَلَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبِلَ الْبَرَاءَةَ, وَإِذَا قَالَ: "قَدْ تَصَدَّقْت بِمَا لِي عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ, أَوْ قَدْ وَهَبْت لَك مَا لِي عَلَيْك" صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ وَهُوَ غَنِيٌّ فَقَالَ: "قَدْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك" بَرِئَ مِنْهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَهْلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالْوَرَثَةِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} مَعْنَاهُ: إلَى وَرَثَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ: "إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِزَوْجَاتِهِ, إلَّا أَنِّي قَدْ تَرَكْت الْقِيَاسَ وَجَعَلْته لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَهْلُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ وَعَلَى أَتْبَاعِ الرَّجُلِ وَأَشْيَاعِهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [العنكبوت: 33] فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ مَنْزِلِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَغَيْرِهِمْ, وَقَالَ: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:170] وَيَقَعُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُ فِي دِينِهِ كَقَوْلِهِ: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] فَسَمَّى أَتْبَاعَهُ فِي دِينِهِ أَهْلَهُ; وَقَالَ فِي ابْنِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . فَاسْمُ الْأَهْلِ يَقَعُ عَلَى مَعَانِي مُخْتَلِفَةٍ, وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْأَهْلِ وَيُرَادُ بِهِ الْآلُ وَهُوَ قَرَابَاتُهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ, كَمَا يُقَالُ آلُ النَّبِيِّ وَأَهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَهُمَا سَوَاءٌ.

بَابُ شِبْهِ الْعَمْدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمْدَ مَا كَانَ بِسِلَاحٍ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَاهُ,

مِثْلُ الذَّبْحِ بِلِيطَةِ قَصَبَةٍ أَوْ شَقَّةِ الْعَصَا أَوْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَهُ حَدٌّ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ أَوْ بِحَرْقِهِ بِالنَّارِ; فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ فِيهِ الْقِصَاصُ; وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلِ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ, وَكَذَلِكَ التَّغْرِيقُ فِي الْمَاءِ; وَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ" وَلَا يَكُونُ التَّغْلِيظُ عِنْدَهُ إلَّا فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ خَاصَّةً دُونَ عَدَدِهَا. وَلِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ بَلْ بِأَيِّ شَيْءٍ ضَرَبَهُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ مُغَلَّظًا إذَا كَانَ مِنْ الْإِبِلِ بِقِسْطِ مَا يَجِبُ. وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ مَا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ كَاللَّطْمَةِ الْوَاحِدَةِ وَالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ بِالسَّوْطِ, وَلَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ جُمْلَتُهُ مِمَّا يَقْتُلُ كَانَ عَمْدًا وَفِيهِ الْقِصَاصُ بِالسَّيْفِ, وَكَذَلِكَ إذَا غَرَّقَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ; وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ, إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: "وَمَا كَانَ مِنْ شِبْهِ الْعَمْدِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ, يَبْدَأُ بِمَالِهِ فَيُؤْخَذُ حَتَّى لَا يُتْرَكُ لَهُ شَيْءٌ, فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا ضَرَبَهُ بِعَصَا أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا فَهُوَ عَمْدٌ وَفِيهِ الْقِصَاصُ, وَمِنْ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَهُ فِي نَائِرَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ, فَتَكُونُ فِيهِ الْقَسَامَةُ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "شِبْهُ الْعَمْدِ بَاطِلٌ, إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ". وَقَالَ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ: "شِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِيَدِهِ فَيَمُوتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ وَلَا قَوَدَ فِيهِ, وَالْعَمْدُ مَا كَانَ بِسِلَاحٍ وَفِيهِ الْقَوَدُ, وَالنَّفْسُ يَكُونُ فِيهَا الْعَمْدُ وَشِبْهُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأُ, وَالْجِرَاحَةُ لَا يَكُونُ فِيهَا إلَّا خَطَأٌ أَوْ عَمْدٌ". وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ الثَّوْرِيِّ قَالَ: "إذَا حَدَّدَ عُودًا أَوْ عَظْمًا فَجَرَحَ بِهِ بَطْنَ حَرٍّ فَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ لَيْسَ فِيهِ قَوَدٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ شِبْهِ الْعَمْدِ: "الدِّيَةُ فِي مَالِهِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَامًا فَعَلَى الْعَاقِلَةِ; وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا أَوْ سَوْطٍ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَمُوتَ, فَإِنْ ثَنَّى بِالْعَصَا فَمَاتَ مَكَانَهُ فَهُوَ عَمْدٌ يُقْتَلُ بِهِ, وَالْخَطَأُ عَلَى الْعَاقِلَةِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا ضَرَبَهُ بِعَصًا ثُمَّ عَلَا فَقَتَلَهُ مَكَانَهُ مِنْ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ, وَإِنْ عَلَا الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهَا فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْخَطَأُ عَلَى الْعَاقِلَةِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "الْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَهُ إنْسَانٌ, فَإِنْ ضَرَبَهُ بِأُصْبُعِهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ دُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ وَالْخَطَأُ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّيْثَ كَانَ لَا يَرَى شِبْهَ الْعَمْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا. وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا عَمَدَ رِجْلٌ بِسَيْفٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ سِنَانِ رُمْحٍ أَوْ مَا يُشَقُّ بِحَدِّهِ فَضَرَبَ بِهِ أَوْ رَمَى بِهِ الْجِلْدَ أَوْ اللَّحْمَ فَجَرَحَهُ جُرْحًا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ, وَإِنْ شَدَخَهُ بِحَجَرٍ أَوْ تَابَعَ عَلَيْهِ الْخَنْقَ وَوَالَى بِالسَّوْطِ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أَوْ طَبَقَ عَلَيْهِ مُطْبِقًا بِغَيْرِ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مِمَّا

الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ, وَإِنْ ضَرَبَهُ بِعَمُودٍ أَوْ بِحَجَرٍ لَا يَشْدَخُ أَوْ بِحَدِّ سَيْفٍ وَلَمْ يَجْرَحْ أَوْ أَلْقَاهُ فِي بَحْرٍ قَرِيبِ الْبَرِّ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ أَوْ مَا الْأَغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ بِمِثْلِهِ فَمَاتَ فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَوْشَنَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ السَّدُوسِيِّ عَنْ رِجْلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ, فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:"أَلَّا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ فَقَتَلْتهَا, فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَقَضَى فِيمَا فِي بَطْنِهَا بِالْغُرَّةِ. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلْتهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا, فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ, وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا فَفِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهَا ضَرَبْتهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَفِي الْآخَرِ أَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِحَجَرٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَشَدَ النَّاسَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ, فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةَ فَقَالَ: إنَّنِي كُنْت بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لِي, وَإِنَّ إحْدَاهُمَا ضَرَبَتْ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلْتهَا وَجَنِينَهَا, فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ وَأَنْ تُقْتَلَ مَكَانَهَا. وَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ; فَذَكَرَ أَبُو عَاصِمٍ وَالْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْمَرْأَةِ. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ دِينَارٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِإِسْنَادِهِ, وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُقْتَلَ, وَذَكَرَ أَبُو عَاصِمٍ وَالْحَجَّاجُ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ, فَاضْطَرَبَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَرَجَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ قَلْبَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا فَمَاتَتْ, فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَقَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. فَكَانَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْمَرْأَةِ مُخْتَلِفًا مُتَضَادًّا; وَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا الْقِصَاصُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي بَعْضِهَا; قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ: "إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ" فَتَضَادَّتْ الْأَخْبَارُ فِي قِصَّةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَسَقَطَتْ وَبَقِيَ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا شِبْهُ الْعَمْدِ". وَإِثْبَاتُ شِبْهِ الْعَمْدِ ضَرْبٌ مِنْ الْقَتْلِ دُونَ الْخَطَإِ فِيهِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عِنْدَنَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ, وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ شِبْهِ الْعَمْدِ; فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ: "لَا أَعْرِفُ إلَّا خَطَأً أَوْ عَمْدًا" فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ كُلِّهِمْ. وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ الثَّقِيلِ وَلَيْسَ فِيهِمَا قَوَدٌ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَضْرِبُ أَخَاهُ بِمِثْلِ آكِلَةِ اللَّحْمِ وَهِيَ الْعَصَا ثُمَّ يَقُولُ لَا قَوَدَ عَلَيَّ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا أَقَدْته", فَكَانَ هَذَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَمْدِ; لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقْتَلُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى شِبْهِ الْعَمْدِ وَأَنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ وَلَا خَطَأٍ مَحْضٍ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي الْخَطَإِ, ثُمَّ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَسْنَانِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْخَطَإِ; مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ, كُلُّ هَؤُلَاءِ أَثْبَتَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي الْخَطَإِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; فَثَبَتَ بِذَلِكَ شِبْهُ الْعَمْدِ. وَلَمَّا ثَبَتَ شِبْهُ الْعَمْدِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْآثَارِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ, احْتَجْنَا أَنَّ نَعْتَبِرَ شِبْهَ الْعَمْدِ, فَوَجَدْنَا عَلِيًّا قَالَ: "شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ الْعَظِيمِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ; إذْ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ هَذَا الِاسْمُ لِضَرْبٍ مِنْ الْقَتْلِ; فَعَلِمْنَا أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُسَمِّ الْقَتْلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ شِبْهَ الْعَمْدِ إلَّا تَوْقِيفًا, وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَجَرَ الْعَظِيمَ إلَّا وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَسَاوِيَانِ عِنْدَهُ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَعْمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقِّيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا" فَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ: مِنْهَا إثْبَاتُهُ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قِسْمًا غَيْرَ الْعَمْدِ وَغَيْرَ الْخَطَإِ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ, وَمِنْهَا إيجَابُهُ الدِّيَةَ فِي قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُقْتَلُ مِثْلُهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُقْتَلُ مِثْلُهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَالِي الضَّرْبَ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ, وَمِنْهَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالسَّوْطُ لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ وَالْعَصَا يَقْتُلُ مِثْلُهَا فِي الْأَكْثَرِ, فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا يَقْتُلُ وَبَيْنَ مَا لَا يَقْتُلُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ

قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْحَدِيدَةِ خَطَأٌ وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الضُّبَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي عَازِبٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَّا السَّيْفُ وَفِي كُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ". وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَرَحَهُ بِسِكِّينٍ صَغِيرَةٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْكَبِيرَةِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فِي سُقُوطِهِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ مُتَعَلِّقٌ بِالْآلَةِ, وَهِيَ أَنْ تَكُونَ سِلَاحًا أَوْ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ" أَنَّ الْعَمْدَ لَا يَكُونُ خَطَأً وَلَا الْخَطَأُ عَمْدًا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْحَدِيثِ. قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ خَطَأَ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ عَمْدٌ فِي الْفِعْلِ, وَذَلِكَ مَعْنًى صَحِيحٌ لِأَنَّهُ دَلَّ بِهِ عَلَى التَّغْلِيظِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمْدٌ وَعَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وَقَوْلُهُ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَسَائِرُ الْآيِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ الْقِصَاصِ يُوجِبُهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ. قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ, وَهَذَا لَيْسَ بِعَمْدٍ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَارِدَةٌ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ, فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ لَا يُعْتَرَضُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِبْهَ الْعَمْدِ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ, فَلَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْخَطَإِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الدِّيَةُ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا الْقِصَاصَ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا اضْطِرَابَ الْحَدِيثِ وَمَا عَارَضَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ, وَلَوْ ثَبَتَ الْقَوَدُ أَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِعُمُومٍ فِي جَمِيعِ مَنْ قُتِلَ بِمِسْطَحٍ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِيهِ حَدِيدٌ وَأَصَابَهَا الْحَدِيدُ دُونَ الْخَشَبِ, فَمِنْ أَجْلِهِ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْقَوَدَ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ بِالْحِجَارَةِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ. قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ لَهَا مَرْوَةَ, وَهِيَ الَّتِي لَهَا حَدٌّ يَعْمَلُ عَمَلَ

السِّكِّينِ, فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ. وَأَيْضًا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا وَأَلْقَاهَا فِي نَهْرٍ وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ, فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ, فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ مُسْتَأْمَنًا فَقَتَلَ الْجَارِيَةَ وَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخِذَ وَهُوَ حَرْبِيٌّ لِقُرْبِ مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُحَارَبٌ حَرْبِيٌّ وَرَجَمَهُ, كَمَا سَمَلَ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ اسْتَاقُوا الْإِبِلَ وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا, ثُمَّ نُسِخَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ المثلة.

فَصْلٌ وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ الْآلَةِ, وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ بِحَجَرٍ شَجَّهُ أَوْ بِحَدِيدٍ, وَفِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ التَّغْلِيظِ إذَا تَعَذَّرَ فِيهِ الْقِصَاصُ; وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ الْعَمْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَقَالَ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] , وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ وُقُوعِهَا بِحَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي إثْبَاتِ خَطَإِ الْعَمْدِ فِي الْقَتْلِ, وَذَلِكَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ, وَلَمْ يَرِدْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تَوْقِيفٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِيهِ, وَأَثْبَتُوا فِيهِ التَّغْلِيظَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ فِيهِ الْقِصَاصُ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ حِينَ كَانَ عَمْدًا فِي الْفِعْلِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ" أَنَّهُ قَضَى عَلَى قَتَادَةَ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ مُغَلَّظَةٌ "; حِينَ كَانَ عَمْدًا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ, كَذَلِكَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا كَانَ عَمْدًا قَدْ سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ إيجَابُ قِسْطِهِ مِنْ الدِّيَةِ مُغَلَّظًا; وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهَا بِأَيِّ شَيْءٍ جَرَحَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا الْخَطَأَ وَشِبْهَ الْعَمْدِ وَبَيَّنَّا الْعَمْدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مَبْلَغُ الدِّيَةِ مِنْ الْإِبِلِ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِقْدَارِ الدِّيَةِ وَأَنَّهَا مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ, فَمِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بِخَيْبَرَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: "أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ دِيَةَ الْخَطَإِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا

يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: أَتَيْت أَنَا وَعَمِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي عِنْدَ هَذَا دِيَةَ أَبِي فَمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِيهَا قَالَ: "أَعْطِهِ دِيَةَ أَبِيهِ" وَكَانَ قُتِلَ فِي الْجَاهِلَةِ, قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِأُمِّي فِيهَا حَقٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَانَتْ دِيَتُهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ أَحْكَامًا: مِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ, والله أعلم.

بَابُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ, فَرَوَى عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا: "عِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ". وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْمَاسًا أَيْضًا. وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ وَإِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلِيٍّ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ أَرْبَاعًا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ أَرْبَعَةُ أَسْنَانٍ مِثْلُ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ". وَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "فِي الْخَطَإِ ثَلَاثُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ" وَرُوِيَ عَنْهُمَا مَكَانُ الْجِذَاعِ الْحِقَاقُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ أَخْمَاسٌ, إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْأَسْنَانِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ" وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنِ تَوْبَةَ التَّمَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ جَعَلَ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ أَخْمَاسًا. وَاتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْأَخْمَاسِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ; وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ كَيْفِيَّةِ الْأَسْنَانِ, فَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا وَذَكَرَ الْأَسْنَانَ مِثْلَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَخْمَاسَ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: خِشْفُ بْنُ مَالِكٍ مَجْهُولٌ. قِيلَ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِهِ فِي إثْبَاتِ

الْأَخْمَاسِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ فِي الْخَطَإِ مَكَانَ بَنِي لَبُونٍ بَنِي مَخَاضٍ أَوْلَى; لِأَنَّ بَنِي لَبُونٍ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِ مَخَاضٍ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ" فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ بَنَاتِ مَخَاضٍ إذَا أَوْجَبَ عِشْرِينَ بَنِي لَبُونٍ وَعِشْرِينَ بَنَاتِ مَخَاضٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ بَنِي لَبُونٍ فَوْقَ بَنِي مَخَاضٍ, وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ زِيَادَةِ مَا بَيْنَ بَنِي لَبُونٍ وَبَنَاتِ مَخَاضٍ إلَّا بِتَوْقِيفٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ" يَقْتَضِي جَوَازَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ, فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَهُوَ ثَابِتٌ. وَمَا زَادَ فَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ فَلَا يَثْبُتُ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَسْنَانِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ قَالَ بِالْأَخْمَاسِ خِلَافَةَ; وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, فَكَانَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى إثْبَاتِ الْأَخْمَاسِ وَثُبُوتِ كَيْفِيَّتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَإِنْ قِيلَ إيجَابُ بَنِي لَبُونٍ أَوْلَى مِنْ بَنِي مَخَاضٍ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ وَلَا تُؤْخَذُ بَنُو مَخَاضٍ. قِيلَ لَهُ: ابْنُ اللَّبُونِ يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ, وَكَذَلِكَ ابْنُ مَخَاضٍ يُؤْخَذُ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الدِّيَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالزَّكَاةِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ الْمُخَالِفِ أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَلَا يَجِبُ مِثْلُهَا فِي الزَّكَاةِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَرْبَاعًا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ, وَهِيَ مِثْلُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: "فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلٍ عَامُهَا كُلُّهَا خَلِفَةٌ". وَعَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "ثَلَاثُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَأَرْبَعُونَ جَذَعَةً خِلْفَةً". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ: "فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ثَنِيَّةٌ إلَى بَازِلِ عَامِهَا, كُلِّهَا خَلِفَةٌ". وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَرْبَاعٌ" عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ: ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خَلِفَةٌ, وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَوَامِلُ" وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ

مِنْ السَّلَفِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "أَنَّ الدِّيَةَ الْمُغَلَّظَةَ فِي الرَّجُلِ يَحْذِفُ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْتُلَهُ فَتَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً وَهِيَ حَالَّةٌ" قَالَ: "وَالْجَدُّ إذَا قَتَلَ وَلَدَ وَلَدِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَبِ, فَإِنْ قَطَعَ يَدَ الْوَلَدِ وَعَاشَ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةٌ "; وَقَالَ مَالِكٌ: "تُغَلَّظُ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ أَيْضًا, وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْحِقَّةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ الْجَذَعَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْخَلِفَةِ فَيَعْرِفُ كَمْ قِيمَتَهُنَّ, ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى دِيَةِ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا مِنْ الْأَسْنَانِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ وَعِشْرِينَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَعِشْرِينَ حِقَّةً وَعِشْرِينَ جَذَعَةً, ثُمَّ يَنْظُرُ كَمْ فَضَلَ مَا بَيْنَ دِيَةِ الْخَطَإِ وَالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَيُزَادُ فِي الرِّقَّةِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ" قَالَ: "وَهُوَ عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ, وَإِنْ صَارَتْ دِيَةُ التَّغْلِيظِ ضِعْفَيْ دِيَةِ الْخَطَإِ زِيدَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَرِقِ بِقَدْرِ ذَلِكَ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ مِنْ الْوَرِقِ: "يُزَادُ عَلَيْهَا بِقَدْرِ مَا بَيْنَ دِيَةِ الْخَطَإِ إلَى دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ" نَحْوَ مَا قَالَ مَالِكٌ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ أَخْمَاسٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحِجَاجِ, ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ أَرْبَاعًا وَبَعْضُهُمْ أَثْلَاثًا, كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْأَرْبَاعِ أَوْلَى; لِأَنَّ فِي الْأَثْلَاثِ زِيَادَةُ تَغْلِيظٍ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا دَلَالَةٌ, وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ" يُوجِبُ جَوَازَ الْكُلِّ, وَالتَّغْلِيظُ بِالْأَرْبَاعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ, فَظَاهِرُ الْخَبَرِ يَنْفِيهَا فَلَمْ نُثْبِتْهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي إثْبَاتِ الْخَلِفَاتِ وَهِيَ الْحَوَامِلُ إثْبَاتُ زِيَادَةِ عَدَدٍ فَلَا يَجُوزُ; لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ لِأَجْلِ الْأَوْلَادِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا خَلِفَةٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". وَقَدْ احْتَجَجْتُمْ بِهِ فِي إثْبَاتِ شِبْهِ الْعَمْدِ, فَهَلَّا أَثْبَتُّمْ الْأَسْنَانَ قِيلَ لَهُ: أَثْبَتْنَا بِهِ شِبْهَ الْعَمْدِ لِاسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ فِي إثْبَاتِ شِبْهِ الْعَمْدِ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَكَانَ مَشْهُورًا, وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي إثْبَاتِ شِبْهِ الْعَمْدِ; وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَشْتَمِلَ خَبَرٌ عَلَى مَعَانِي فَيَثْبُتُ بَعْضُهَا وَلَا يَثْبُتُ بَعْضٌ إمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ, وَأَمَّا التَّغْلِيظُ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَصْلُ الدِّيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مِنْ الْإِبِلِ وَأَنَّ الْوَرِقَ وَالذَّهَبَ مَأْخُوذَانِ عَنْهَا عَلَى أَنَّهُمَا قِيمَةٌ لَهَا, أَوْ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ فِي الْأَصْلِ وَاجِبَةً فِي أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْإِبِلِ, لَا عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا بَدَلٌ مِنْ بَعْضٍ, فَإِنْ كَانَتْ الْإِبِلُ هِيَ الدِّيَةُ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بَدَلًا مِنْهَا; فَلَا اعْتِبَارَ بِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ مِنْ إيجَابِ فَضْلِ مَا بَيْنَ دِيَةِ الْخَطَإِ إلَى الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ, وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ إنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْإِبِلِ عَلَى أَسْنَانِ

التَّغْلِيظِ, وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْخَطَإِ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهَا قِيمَةُ الْإِبِلِ عَلَى أَسْنَانِ الْخَطَإِ وَأَنْ لَا تُعْتَبَرَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الدِّيَاتِ مِقْدَارًا مَحْدُودًا, فَلَا يُقَالُ إنَّ الدِّيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَلَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَلَا مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ, بَلْ يُنْظَرُ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ إلَى قِيمَةِ الْإِبِلِ فَإِنْ كَانَتْ سِتَّةَ آلَافٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ, وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا أَوْجَبَ ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ قِيمَتُهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ. فَلَمَّا قَالَ السَّلَفُ فِي الدِّيَةِ أَحَدُ قَوْلَيْنِ إمَّا عَشَرَةُ آلَافٍ وَإِمَّا اثْنَا عَشَر أَلْفًا وَقَالُوا إنَّهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ, حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهَا غَيْرُ سَائِغٍ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ هِيَ دِيَاتٌ بِأَنْفُسِهَا لَا بَدَلًا مِنْ غَيْرِهَا; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيظُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إثْبَاتَ التَّغْلِيظِ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ, وَلَا تَوْقِيفَ فِي إثْبَاتِ التَّغْلِيظِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا اتِّفَاقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْإِبِلِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَسْنَانِ لَا مِنْ جِهَةِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ; وَفِي إثْبَاتِ التَّغْلِيظِ مِنْ جِهَةِ زِيَادَةِ الْوَزْنِ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ خُرُوجٌ عَنْ الْأُصُولِ. وَوَجْهٌ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَيْسَتْ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ عَنْ الْإِبِلِ, وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ, وَإِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ بِالدَّنَانِيرِ; فَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ هِيَ الْوَاجِبَةُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بَدَلٌ مِنْهَا لَمَا جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ; لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ, فَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا دِيَاتٌ بِأَنْفُسِهَا لَيْسَتْ أَبْدَالًا عَنْ غَيْرِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ الْوَرِقِ مَا اخْتَلَفَ عَنْهُ فِيهِ, فَرَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: "اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا" وَرَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ" عَشَرَةُ آلَافٍ" وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ فِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ التَّغْلِيظِ فِيهَا سَاقِطٌ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّغْلِيظِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ لَمَّا كَانَ التَّغْلِيظُ فِيهَا وَاجِبًا, وَلَوْ كَانَ التَّغْلِيظُ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ وَاجِبًا لَاخْتَلَفُوا فِيهِ حَسْبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِبِلِ; فَلَمَّا لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَفِي الدَّرَاهِمِ عَشَرَةُ آلَافٍ أَوْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ, ثَبَتَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ نَفْيُ التَّغْلِيظِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ لَوْ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ لَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ: إنَّ هَذَا كَمَا يَقُولُونَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ" إنَّهُ إنْ جَاءَ بِالْقِيمَةِ دَرَاهِمَ قُبِلَتْ مِنْهُ" وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. قِيلَ لَهُ: الْقَاضِي عِنْدَنَا لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: "إنْ شِئْت

فَأَعْطِهَا عَبْدًا وَسَطًا وَإِنْ شِئْت قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ" فَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ, وَالدِّيَةُ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ الْإِبِلَ إذَا قَضَى بِذَلِكَ; وَعَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي وَقْتِ مَا يُعْطِي قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ, وَالْإِبِلُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا إذَا أَرَادَ الْقَضَاءَ بِالدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَوْ زَادَتْ.

مَطْلَبٌ: فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ وَزَفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ: "الْقَتْلُ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ كَهُوَ فِي غَيْرِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ". وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ هَلْ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِ؟ قَالَ: "بَلَغَنَا أَنَّهُ إذَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ زِيدَ عَلَى الْعَقْلِ ثُلُثَهُ وَيُزَادُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ". وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ, وَذَكَرَ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَالَ: "الدِّيَةُ فِي هَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ, وَكَذَلِكَ الْجِرَاحُ, وَكَذَلِكَ التَّغْلِيظُ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَذَوِي الرَّحِمِ" وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِمَكَّةَ بِدِيَةٍ وَثُلُثٍ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عِنْدَ الْبَيْتِ, فَسَأَلَ عُمَرُ عَلِيًّا, فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "دِيَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ" فَلَمْ يَرَ فِيهِ عَلِيٌّ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ, وَلَمْ يُخَالِفْهُ عُمَرُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, وَلَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَرَمِ كَهِيَ فِي الْحِلِّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى, وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ كَذَلِكَ; إذْ الدِّيَةُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْحَرَمِ وَلَا بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى, فَلَوْ كَانَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ تَأْثِيرٌ فِي إلْزَامِ الْغُرْمِ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ, فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: "الدِّيَةُ فِي الْحَرَمِ كَهِيَ فِي غَيْرِهِ, وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ". وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي الْحَرَمِ زِيدَ عَلَى دِيَتِهِ مِثْلُ ثُلُثِهَا" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ, فَمِنْ الدَّرَاهِمِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ". وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الدِّيَةَ إلَّا مِنْ الْإِبِلِ وَالْوَرِقِ وَالذَّهَبِ

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "مِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَمِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ". وَقَالَ مَالِكٌ: "أَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِّ وَمِصْرَ, وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ, وَأَهْلُ الْإِبِلِ أَهْلُ الْبَوَادِي". وَقَالَ مَالِكٌ: "وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ إلَّا الْإِبِلُ وَمِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ إلَّا الذَّهَبُ وَمِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إلَّا الْوَرِقُ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "الدِّيَةُ مِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَا شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ يَمَانِيَّةٍ, وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فِي الدِّيَةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا, وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ الْحُلَلِ إلَّا الْيَمَانِيَّةُ قِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدِّيَةُ قِيمَةُ النَّفْسِ, وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ, وَأَنَّهَا غَيْرُ مَوْكُولَةٍ إلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورِ الْمِثْلِ وَنَحْوِهِمَا; وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى إثْبَاتِ عَشَرَةِ آلَافٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ, فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ. وَقَدْ رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الْإِبِلَ فِي الدِّيَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ, قَوَّمَ كُلَّ بَعِيرٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الدِّيَةِ عَشْرَةُ آلَافٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَنْ رَوَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا عَلَى أَنَّهَا وَزْنُ سِتَّةٍ فَتَكُونُ عَشَرَةَ آلَافٍ وَزْنِ سَبْعَةٍ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الْوَرِقِ قِيمَةَ الْإِبِلِ لَا أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ, وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الْوَرِقِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الدِّيَةُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا" وَبِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا, وَرَوَى نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ, وَالشُّعَبِيُّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ; وَيُقَالُ إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ غَلِطَ فِي وَصْلِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزْنُ سِتَّةٍ, وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِالِاحْتِمَالِ وَيَثْبُتُ عَشَرَةُ آلَافٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ, وَقَدْ جَعَلَ فِي الشَّرْعِ كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قِيمَةً لِدِينَارٍ, أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ مِائَتَا الدِّرْهَمِ نِصَابًا بِإِزَاءِ الْعِشْرِينَ دِينَارًا؟ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بِإِزَاءِ كُلِّ دِينَارٍ

مِنْ الدِّيَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّيَةَ مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا كَانَتْ قِيمَةَ النَّفْسِ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ إلَّا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَقِيَمِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ, إلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيمَتَهَا مِنْ الْإِبِلِ اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِيهَا وَلَمْ يُوجِبْهَا مِنْ غَيْرِهَا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ دِيَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَزَفَرُ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ دِيَةُ الْكَافِرِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِيَاتُ نِسَائِهِمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانمِائَةِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى النِّصْفِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّيَاتِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَالدِّيَةُ اسْمٌ لَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْحُرِّ; لِأَنَّ الدِّيَاتِ قَدْ كَانَتْ مُتَعَالِمَةً مَعْرُوفَةً بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ, فَرَجَعَ الْكَلَامُ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً ثُمَّ لَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} كَانَتْ هَذِهِ الدِّيَةُ هِيَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَدِيًّا; إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ دِيَةً; لِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْكَافِرِ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُسْلِمِ, وَأَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} رَاجِعًا إلَيْهَا, كَمَا عَقَلَ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ أَنَّهَا الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ, وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ, وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ, كَمَا أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَلَا يُخْرِجُهَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ دِيَةً كَامِلَةً لَهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي الْآيَةِ فَقَالَ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} , فَكَمَا اقْتَضَى فِيمَا ذَكَرَهُ لِلْمُسْلِمِ كَمَالَ الدِّيَةِ كَذَلِكَ دِيَةُ الْمُعَاهَدِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اللَّفْظِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُفِ عِنْدَهُمْ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ دِيَةَ

الْمَرْأَةِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الدِّيَةِ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ مُقَيَّدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الدِّيَةِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ كَمَالُهَا؟. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ الْمُؤْمِنُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ; فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِيمَانِ لِلْقَتِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَنْ إعَادَتِهِ فِي الْقَتِيلِ الثَّالِثِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ ذِكْرُ الْقَتِيلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً وَحُكْمُهُ, وَذَلِكَ عُمُومٌ يَقْتَضِي سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ, فَغَيْرُ جَائِزٍ إعَادَةُ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَعَ شُمُولِ أَوَّلِ الْآيَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُؤْمِنَ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. وَالثَّانِي: لَمَّا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ وَجَبَ إجْرَاؤُهُ فِي الْجَمِيعِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ, وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَاهَدِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُعَاهَدًا مِثْلَهُمْ, أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "إنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ" يُفِيدُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ مِثْلُهُمْ؟ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَاهَدًا مِثْلَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ بَيَانَ حُكْمِ الْمُؤْمِنِ إذَا كَانَ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَقَيَّدَهُ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ؟ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ لَمَا كَانَتْ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ; لِأَنَّ أَهْلَهُ كُفَّارٌ لَا يَرِثُونَهُ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَفَسَادَ هَذَا التَّأْوِيلِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الْآيَةَ, قَالَ: "كَانَ إذَا قَتَلَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَتِيلًا أَدُّوا نِصْفَ الدِّيَةِ, وَإِذَا قَتَلَ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَدُّوا الدِّيَةَ إلَيْهِمْ, قَالَ: فَسَوَّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ: "أَدُّوا الدِّيَةَ" ثُمَّ قَالَ: "سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَةِ" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الدِّيَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَدَّ بَنِي النَّضِيرِ إلَى نِصْفِهَا لَقَالَ: سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ, وَلَمْ يَقُلْ: سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ" وَهُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ. وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ وَكَانَا مُشْرِكَيْنِ دِيَةَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْت نَافِعَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ "وَدَى ذِمِّيًّا دِيَةَ مُسْلِمٍ". وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ يُوجِبَانِ مُسَاوَاةَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ فِي الدِّيَةِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُمَا بِمَا فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ

كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ دِيَةَ الْمُسْلِمِ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ الدِّيَةِ مُبَيَّنًا فِي الْكِتَابِ, كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارِدًا مَوْرِدَ الْبَيَانِ, وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَّ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالُوا "دِيَةُ الْمُعَاهَدِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: "كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَجْعَلُونَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا كَانُوا مُعَاهَدَيْنِ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْن أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ أُخْبَرْهُ: أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ السَّمَوْأَلِ يَهُودِيِّ قُتِلَ بِالشَّامِّ, فَجَعَلَ عُمَرُ دِيَتَهُ أَلْفَ دِينَارٍ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ" وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالشُّعَبِيِّ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ كَافِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ, فَقَضَى عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ مَعَ مُوَافَقَتِهَا لِظَاهِرِ الْآيَةِ تُوجِبُ مُسَاوَاةَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ فِي الدِّيَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ". قَالَ سَعِيدٌ: "وَقَضَى عُثْمَانُ فِي دِيَةِ الْمُعَاهَدِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا خِلَافَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا رَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: وَدِيَةُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَبِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "دِيَةُ الْمَجُوسِ ثَمَانُمِائَةٍ". قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا حُضُورَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عَنْهُمْ مِقْدَارَ الدِّيَةِ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ, فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَعَرَفَهُ هَؤُلَاءِ وَلَمَّا عَدَلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "دِيَةُ الْمُعَاهَدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ" وَأَنَّهُ وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ دِيَةَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ; وَهَذَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ, وَلَوْ تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ لَكَانَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَوْلَى فَوَجَبَ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّيَاتِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ; لِأَنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ لَا سِيَّمَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: قوله تعالى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} عَطْفًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاوِي الدِّيَتَيْنِ, كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ عَبْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَمَنْ اسْتَهْلَكَ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ, لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَسَاوِي الْقِيمَتَيْنِ. قِيلَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مِنْ

الْمَالِ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْحُرِّ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمِقْدَارِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ, فَمَتَى أُطْلِقَتْ كَانَ مِنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ هَذَا الْقَدْرُ, فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الدِّيَةِ قَدْ أَنْبَأَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى, وَعَطْفُهَا عَلَى الدِّيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَ تَسَاوِي اللَّفْظِ فِيهِمَا بِأَنَّهَا دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ أَيْضًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ والمآب.

بَابُ الْمُسْلِمِ يُقِيمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قَالَ: "يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَقَوْمُهُ كُفَّارًا فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَكِنْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا قُتِلَ وَلَهُ أَقَارِبُ كُفَّارٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ, وَأَنَّ كَوْنَ أَقْرِبَائِهِ كُفَّارًا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ دِيَتِهِ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ حَيْثُ لَا يَرِثُونَهُ. وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} الْآيَةَ, قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْلِمَ, ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً فِي سَرِيَّةٍ أَوْ غُزَاةٍ, فَيَعْتِقُ الَّذِي يُصِيبُهُ رَقَبَةً". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهُ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْقَرَابَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ قِيمَةِ دَمِهِ, كَسَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ, عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: "هُوَ الْمُسْلِمُ يَكُونُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَدْرِي فَفِيهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ". وَهَذَا عَلَى أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} قَالَ: "هُوَ الْمُؤْمِنُ يُقْتَلُ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ, فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ, وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ أَدَّى دِيَتَهُ إلَى قَرَابَتِهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَقْرِبَاءَهُ لَا يَرِثُونَهُ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْفَ يَأْخُذُونَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ حَرْبٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدِّيَةُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمُسْلِمٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا وَارِثَ لَهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَمُحَمَّدٌ فِي الْحَرْبِيِّ يُسَلَّمُ. فيقتله مسلم

مُسْتَأْمَنٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ, وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ خَاصَّةً, وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ, فِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ". وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَقْتُلَهُ رِجْلٌ مُسْلِمٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا أَنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا, وَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ مِيزَابٌ عَمِلَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إنَّمَا كَانَ فِي صُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُورَثْ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ وَرَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ مِيرَاثَهُ, فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ; ثُمَّ نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "مَنْ أَقَامَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَإِنْ انْتَحَلَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَوُّلِ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْمُشْرِكِينَ, وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فَأَقَامَ بِبِلَادِهِمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ يُحْكَمُ فِيهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إذَا لَحِقَ الرَّجُلُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْغَارَةِ أَوْ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا عَقْلَ فِيهِ وَلَا قَوَدَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ, وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أَوْ رَجُلًا أَسْلَمَ هُنَاكَ; وَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ الَّذِي يُسْلِمُ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ عَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا, أَوْ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ قَرَابَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَبِأَنْ يَكُونَ ذَا نَسَبٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ, فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرَ لَأَسْقَطْنَا دِيَةَ مَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ ذَا قَرَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ ذَلِكَ, فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنِهِ ذَا قَرَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ دَمِهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ أَوْ الْقَوَدِ إذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ, فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ خَطَأُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنما أوجب

فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْ الدِّيَةَ; وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ; إذْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَوْجَبْت الدِّيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُؤْمِنُ مُرَادًا بِالْمُؤْمِنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ; لِأَنَّ فِيهَا إيجَابُ الدِّيَةِ وَالرَّقَبَةِ, فَيَمْتَنِعُ أَنْ نَعْطِفَهُ عَلَيْهِ وَنَشْرِطُ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَنُوجِبُ فِيهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَهَا بَدِيًّا مَعَ الدِّيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ" هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ, فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْأَوَّلِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ, فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ, فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلُ, فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ, وَقَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: "لَا تُرَاءَى نَارَاهُمَا". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَقَامَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ أَوْ قَالَ: لَا ذِمَّةَ لَهُ" ; قَالَ ابْنُ عَائِشَةَ: هُوَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ فَيُقِيمُ مَعَهُمْ فَيَغْزُونَ, فَإِنْ أُصِيبَ فَلَا دِيَةَ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ. وَقَوْلُهُ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ" يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ, وَلَمَّا أَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ كَانَ مَشْكُوكًا فِي أَنَّهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ, أَوْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبَرَّعَ بِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ وَاجِبًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى نِصْفِهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ: أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَةِ وَصَاحِبٌ لِي, فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ اللَّيْثِيَّ, فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ حَدَّثَ هَذَيْنِ فَقَالَ بِشْرٌ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ اللَّيْثِيُّ وَكَانَ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيَّةً فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ, فَشَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ السَّرِيَّةِ وَمَعَهُ السَّيْفُ

شَاهِرَهُ, فَقَالَ الشَّاذُّ: إنِّي مُسْلِمٌ, فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ, فَنَمَا الْحَدِيثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا, فَقَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ إلَّا تَعَوُّذًا مِنْ الْقَتْلِ, فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا تُعْرَفُ الْمُسَاءَةُ فِي وَجْهِهِ, وَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيمَانِ الْمَقْتُولِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ; لِأَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا لَمْ يُهَاجِرْ بَعْدَ إسْلَامِهِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى الْحُرُقَاتِ1 فَنُذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا, فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا, فَلَمَّا غَشَّيْنَاهُ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ, فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ, فَذَكَرْته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ, قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى أَنِّي وَدِدْت أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إلَّا يَوْمَئِذٍ". وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِهِ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُخْبِرَ بِإِسْلَامِ هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى أُسَامَةَ دِيَةً وَلَا قَوَدًا. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} إنَّمَا كَانَ حُكْمًا لِمَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ وهو منسوخ بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فَإِنَّهُ دَعْوَى لِنَسْخِ حُكْمٍ ثَابِتٍ فِي الْقُرْآنِ بِلَا دَلَالَةٍ, وَلَيْسَ فِي نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ وَإِثْبَاتِهِ بِالرَّحِمِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذَا الْحُكْمِ, بَلْ هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ. وَعَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ مَا كَانَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ قَدْ كَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْقَرَابَاتِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا, وَإِنَّمَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ قَاطِعَةً لِلْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ, فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِأَسْبَابٍ أُخَرَ, فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دِيَةً وَاجِبَةً لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ أَقْرِبَائِهِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مُهْمَلًا لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ, فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ دِيَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَلَا لِغَيْرِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْحَرْبِ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ; وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} يُفِيدُ أَنَّهُ مَا لَمْ يُهَاجِرْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ فِي أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ وَإِنْ كَانَ دَمُهُ مَحْظُورًا; إذْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهِمْ قَدْ تَصِحُّ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رَحِمٌ بَعْدَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِي الْوَطَنِ بَلَدٌ أَوْ قَرْيَةٌ أَوْ صُقْعٌ, فنسبه الله إليهم بعد

_ 1 قوله: "الحرقات" بضم الحاء المهملة وفتح الراء والقاف: موضع معروف من بلاد جهينة, كذا في ابن رسلان "لمصححه".

الْإِسْلَامِ; إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِهِمْ, وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ, فَإِنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] فَجَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ إقَامَتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ, وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [لأنفال: 72] وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَلتُّجَّارِ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَنْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ, وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَحَدٍ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَبْدَانُ الْمَرْوَزِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ" فَإِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ إبَاقَ الْعَبْدِ لَا يُبِيحُ دَمَهُ, وَاللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَدُخُولِ التَّاجِرِ إلَيْهَا بأمان فلا يبيح دمه.

مطلب: في حكم دم المسلم وماله إذا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ مَنْ أَصَابَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ, وَإِنْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ أُقِيدَ بِهِ; فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ لِدَمِهِ قِيمَةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي وُجُوبِ بَدَلِهِ فِي الْعَمْدِ وَدِيَتِهِ فِي الْخَطَإِ, فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْخَطَإِ شَيْءٌ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعَبْدِ فِيهِ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِدَمِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَيْنَا وَكَانَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الدَّمِ أَجْرَوْهُ أَصْحَابُنَا مُجْرَى الْحَرْبِيِّ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ مُتْلِفِ مَالِهِ; لِأَنَّ دَمَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ مَالِهِ, وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِ نَفْسِهِ. فَمَالُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ ضَمَانٌ, وَأَنْ يَكُونَ كَمَالُ الْحَرْبِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ مُبَايَعَتَهُ عَلَى سَبِيلِ مَا يَجُوزُ مُبَايَعَةُ الْحَرْبِيِّ مِنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجْرَاهُ مُجْرَى الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إقَامَتَهُ هُنَاكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَمَانِ وَهُوَ مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ, فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ قَاتِلِهِمَا; وَاَللَّهُ أعلم.

ذِكْرُ أَقْسَامِ الْقَتْلِ وَأَحْكَامِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَتْلُ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: وَاجِبٌ, وَمُبَاحٌ, وَمَحْظُورٌ, وَمَا لَيْسَ

بِوَاجِبٍ وَلَا مَحْظُورٍ وَلَا مُبَاحٍ. فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُحَارِبِينَ لَنَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا فِي أَيْدِينَا بِالْأَسْرِ أَوْ بِالْأَمَانِ أَوْ الْعَهْدِ, وَذَلِكَ فِي الرِّجَالِ مِنْهُمْ دُونَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يُقَاتِلْنَ وَدُونَ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ, وَقَتْلُ الْمُحَارِبِينَ إذَا خَرَجُوا مُمْتَنِعِينَ وَقُتِلُوا وَصَارُوا فِي يَدِ الْإِمَامِ قَبْلَ التَّوْبَةِ, وَقَتْلُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا قَاتَلُونَا, وَقَتْلُ مَنْ قَصَدَ إنْسَانًا مَحْظُورَ الدَّمِ بِالْقَتْلِ فَعَلَيْنَا قَتْلُهُ, وَقَتْلُ السَّاحِرِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ رَجْمًا, وَكُلُّ قَتْلٍ وَجَبَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ; فَهَذِهِ ضُرُوبُ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ الْقَتْلُ الْوَاجِبُ لِوَلِيِّ الدَّمِ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ, فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْعَفْوِ, فَالْقَتْلُ هَهُنَا مُبَاحٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ; وَكَذَلِكَ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا صَارُوا فِي أَيْدِينَا, فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِبْقَاءِ, وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَأَمْكَنَهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ وَبَيْنَ أَنْ يَأْسِرَ. وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ: مِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ, وَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَارِي مِنْ الشُّبْهَةِ, فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ; وَمِنْهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ, وَهُوَ قَتْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَتْلُ الْأَبِ ابْنَهُ وَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَمَا يَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ; وَمِنْهَا مَا لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ, وَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَقَتْلُ الْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَتْلُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ; هَذِهِ ضُرُوبٌ مِنْ الْقَتْلِ مَحْظُورَةٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِيهَا شَيْءٌ غَيْرُ التَّعْزِيرِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُبَاحٍ وَلَا مَحْظُورٍ فَهُوَ قَتْلُ الْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ, وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ فِيمَا سَلَفَ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: "هُوَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُقْتَلُ خَطَأً فَتَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ", وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: "أَرَادَ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ, وَكَانُوا لَا يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الذِّمِّيِّ" وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ كَافِرًا ذَا عَهْدٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إضْمَارُ الْإِيمَانِ لَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَوَصَفَهُ بِالْإِيمَانِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَاقْتَضَى الْإِطْلَاقُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَافِرَ الْمُعَاهَدَ تَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ, وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَافِرُ الْمُعَاهَدُ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَنَصَّ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ; وَذَكَرَ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] , وَقَالَ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] , وَخَصَّهُ بِالْعَمْدِ; فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ مَذْكُورًا بِعَيْنِهِ وَمَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِمَا,; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ; وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ الْكَفَّارَةُ"; وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ فِي الْعَمْدِ زِيَادَةٌ فِي حُكْمِ النَّصِّ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ; وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ قِيَاسًا وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ. وَأَيْضًا لَمَّا نَصَّ اللَّهُ عَلَى حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" فَمُوجِبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَامِدِ مُدْخِلٌ فِي أَمْرِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ فَهِيَ فِي الْعَمْدِ أَوْجَبُ; لِأَنَّهُ أَغْلَظُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةً بِالْمَأْثَمِ فَيُعْتَبَرُ عِظَمُ الْمَأْثَمِ فِيهَا; لِأَنَّ الْمُخْطِئَ غَيْرُ آثِمٍ, فَاعْتِبَارُ الْمَأْثَمِ فِيهِ سَاقِطٌ; وَأَيْضًا قَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُجُودَ السَّهْوِ عَلَى السَّاهِي, وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِدِ وَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ أَغْلَظَ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ضَمْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْلَةَ عَنْ الْعَرِيفِ بْنِ الدِّيلِيِّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ يَعْنِي النَّارَ بِالْقَتْلِ, فَقَالَ: "أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ". قِيلَ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهَانِئُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَخِي إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي عَبْلَةَ, فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْقَتْلِ; وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ مِنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا رَوَاهُ ضَمْرَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْوِيلٌ مِنْ الرَّاوِي فِي قَوْلِهِ: "أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ" لِأَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي بِالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَقَبَةَ الْقَتْلِ لَذَكَرَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً, فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْ لَهُمْ الْإِيمَانَ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ; وَأَيْضًا فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُعْتِقُوا عَنْهُ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عِتْقُهَا عَنْهُ; وَأَيْضًا فَإِنْ عَتَقَ الْغَيْرُ عَنْ الْقَاتِلِ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ. قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} جَعَلَ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ رَقَبَةِ الْقَتْلِ الْإِيمَانَ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْكَافِرَةِ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدْ صَارَتْ شَرْطًا فِي الْفَرْضِ, وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً

مُؤْمِنَةً لَمْ تُجْزِهِ الْكَافِرَةُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا مَقْرُونَةً بِصِفَةٍ هِيَ قُرْبَةٌ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْكُفَّارِ الذِّمِّيِّينَ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا, وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ صِفَةً زَائِدَةً, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِي إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ التَّفْرِيقُ لِإِيجَابِهِ إيَّاهُ بِصِفَةٍ هِيَ قُرْبَةٌ, فَوَجَبَتْ حِينَ أَوْجَبَهَا كَمَا وَجَبَ الْمَنْذُورُ مِنْ الصَّوْمِ. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إذَا صَامَ بِالْأَهِلَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النُّقْصَانُ, وَأَنَّهَا إنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَوْ تَامَّةً أَجْزَأْته, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ", فَأَمَرَ بِاعْتِبَارِ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ وَأَمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِاعْتِبَارِ الثَّلَاثِينَ; وَإِنْ ابْتَدَأَ صِيَامَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَ الشَّهْرُ الثَّانِي بِالْهِلَالِ وَبَقِيَّةُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْعَدَدِ تَمَامُ ثَلَاثِينَ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْأَهِلَّةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ صَوْمِهِ بِالْهِلَالِ, وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . أَنَّهَا بَقِيَّةُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَرَبِيعٍ الْأَوَّلَ وَبَقِيَّةٍ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرَ, فَاعْتُبِرَ الْكَسْرُ بِالْأَيَّامِ عَلَى التَّمَامِ وَسَائِرُ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ; وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَلَّفَنَا التَّتَابُعُ عَلَى حَسْبِ الْإِمْكَانِ, وَفِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو مِنْ حَيْضٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ, وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: "تَحِيضِي1 فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ", فَأَخْبَرَ أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ حَيْضَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ; فَإِذَا كَانَ تَكْلِيفُ صَوْمِ التَّتَابُعِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهَا فِي الْعَادَةِ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا سَقَطَ حُكْمُ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَمْ يَقْطَعْ حُكْمَ التَّتَابُعِ وَصَارَتْ أَيَّامُ الْحَيْضِ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ; وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ2, وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهَا تُسْتَقْبَلُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا مَرِضَ فِي الشَّهْرَيْنِ فَأَفْطَرَ اسْتَقْبَلَ" وَقَالَ مَالِكٌ: "يَصِلُ وَيُجْزِيهِ" وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ فِي الْعَادَةِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِلَا مَرَضٍ وَلَا يُمْكِنُهَا ذَلِكَ بِلَا حَيْضٍ. وَوَجْهٌ آخر, وهو

_ 1 قوله: "تحيضي" يقال تحيضت المراة إذا قعدت أيام حيضها تنتظر انقطاعه, أراد عدي نفسك حائضا وافعلي ما تفعل الحائض. وإنما خص الست والسبع لأنها الغالب على أيام الحيض. كذا في النهاية, "لمصححه". 2 قوله: "وهو قول الشافعي" في بعض النسخ "الشعبي" مكان "الشافعي" "لمصححه".

أَنَّ حُدُوثَ الْمَرَضِ لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ بَلْ الْإِفْطَارُ بِفِعْلِهِ, وَالْحَيْضُ يُنَافِي الصَّوْمَ لَا بِفِعْلِهَا, فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ وَلَمْ يَقْطَعْ التَّتَابُعَ. قَوْله تَعَالَى {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ اعْمَلُوا بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ مِنْ اللَّهِ; أَيْ لِيَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَكُمْ فِيمَا اقْتَرَفْتُمُوهُ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَقِيلَ إنَّهُ خَاصٌّ فِي سَبَبِ الْقَتْلِ, فَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً مِنْ اللَّهِ, كَمَا قَالَ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] وَالْمَعْنَى: وَسَّعَ عَلَيْكُمْ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} الْآيَةَ. رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ سَرِيَّةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَتْ رَجُلًا وَمَعَهُ غُنَيْمَاتٌ لَهُ, فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ, فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ; فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا. النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: لِمَ قَتَلْته وَقَدْ أَسْلَمَ؟ فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا مِنْ الْقَتْلِ, فَقَالَ: "هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ وَحَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ إلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غُنَيْمَاتِهِ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: الْقَاتِلُ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ قَتَلَ عَامِرَ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ, فَلَمَّا دُفِنَ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَكُمْ عِظَمَ الدَّمِ عِنْدَهُ" ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ لِمُحَلَّمِ بْنِ جَثَّامَةَ, وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَتَلَ فِي سَرِيَّةٍ رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهِ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " "قَتَلْته بَعْدَمَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا, فَقَالَ: هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ وَذَكَرْنَا أَيْضًا حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ اللَّيْثِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ, فَقَتَلَهُ, فَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ, أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ لَقِيت رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ أَسْلَمْت لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقْتُلْهُ" فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ يَدِي, قَالَ: "لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْته فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا شَرَعَ أَحَدُكُمْ الرُّمْحَ إلَى الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ سِنَانُهُ عِنْدَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلْيُرْجِعْ عَنْهُ الرُّمْحَ" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَمَنَةَ الْمُسْلِمِ وَعِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ, وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ أمنة

الْكَافِرِ وَعِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ"; وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ فِي آثَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إلا اللَّهُ وَفِي بَعْضِهَا: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّي فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" رَوَاهُ عُمَرُ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَرَادَ قَتْلَ الْعَرَبِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ, فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إلَّا بِحَقِّهَا, وَهَذَا مِنْ حَقِّهَا"; فَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ, وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} , فَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ إيمَانِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ, وَأَمَرَنَا بِإِجْرَائِهِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُغَيَّبِ عَلَى خِلَافِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ إذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ; وَهُوَ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ, أَوْ قَالَ إنِّي مُسْلِمٌ, أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ قوله تعالى: {لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} إنَّمَا مَعْنَاهُ: لِمَنْ اسْتَسْلَمَ فَأَظْهَرَ الِانْقِيَادَ لِمَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَإِذَا قُرِئَ" السَّلَامُ" فَهُوَ إظْهَارُ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ, وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا لِمَنْ أَظْهَرَ بِهِ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ; وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ أَسْلَمْت وَاَلَّذِي قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: "قَتَلْته بَعْدَمَا أَسْلَمَ؟ " فَحَكَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِإِظْهَارِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ: "لَوْ أَنَّ يَهُودِيَّا أَوَنَصْرَانِيًّا قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُسْلِمًا; لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ إنَّ دِينَنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ, فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَمَلَ عَلَى رِجْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَانَ هَذَا مُسْلِمًا, وَإِنْ رَجَعَ عَنْ هَذَا ضُرِبَ عُنُقُهُ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الدليل على الإسلام".

مطلب: في بيان المراد مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلله إلا الله" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يُجْعَلْ الْيَهُودِيُّ مُسْلِمًا بِقَوْلِهِ: "أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ"; لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَقُولُونَ, وَيَقُولُونَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ; فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِ, وَلَيْسَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم

كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ, فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ مِنْهُمْ إنِّي مُسْلِمٌ وَإِنِّي مُؤْمِنٌ تَرْكًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ وَدُخُولًا فِي الْإِسْلَامِ, فَكَانَ يُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْمَحُ بِهِ إلَّا وَقَدْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ, فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ" وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ دُونَ الْيَهُودِ; لِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يُطْلِقُونَ ذَلِكَ وَإِنْ نَاقَضُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّفْصِيلِ فَيُثْبِتُونَهُ ثَلَاثَةً; فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" إنَّمَا كَانَ عَلَمًا لِإِسْلَامِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ إلَّا اسْتِجَابَةً لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُوَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُونَ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ, فَمَتَى أَظْهَرَ مِنْهُمْ مُظْهِرٌ الْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا قَالَ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" وَلَمْ يَقُلْ إنِّي دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بَرِئَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَلَا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ, لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُسْلِمًا. وَأَحْسَبُ أَنِّي قَدْ رَأَيْت عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلَ هَذَا, إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ خِلَافُ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ, وَوَجْهُ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ رَسُولٌ إلَيْكُمْ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بَعْدُ وَسَيُبْعَثُ; فَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ إقَامَتِهِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ فِي إظْهَارِهِ لِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ حَتَّى يَقُولَ إنِّي دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يَقُولَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ; فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} لَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَنْفُوا عَنْهُ الْإِسْلَامَ وَلَا تُثْبِتُوهُ وَلَكِنْ تَثَبَّتُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى تَعْلَمُوا مِنْهُ مَعْنَى مَا أَرَادَ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إليكم السلام لست مؤمنا} فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ وَالنَّهْيُ عَنْ نَفْيِ سِمَةِ الْإِيمَانِ عَنْهُ, وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنْ نَفْيِ سِمَةِ الْإِيمَانِ عَنْهُ إثْبَاتُ الْإِيمَانِ وَالْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّا مَتَى شَكَكْنَا فِي إيمَانِ رِجْلٍ لَا نَعْرِفُ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ وَلَا بِكُفْرِهِ وَلَكِنْ نَتَثَبَّتْ حَتَّى نَعْلَمَ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَنَا مُخْبِرٌ بِخَبَرٍ لَا نَعْلَمُ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُكَذِّبَهُ, وَلَا يَكُونُ تَرَكْنَا لِتَكْذِيبِهِ تَصْدِيقًا مِنَّا لَهُ; كَذَلِكَ مَا وُصِفَ مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ لَيْسَ فِيهِ إثْبَاتِ إيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ وَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرِ بِالتَّثَبُّتِ حَتَّى نَتَبَيَّنَ إلَّا أَنَّ الْآثَارَ الَّتِي قَدْ ذكرنا قد

أَوْجَبَتْ لَهُ الْحُكْمَ بِالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَتَلْت مُسْلِمًا؟ وقَتَلْته بَعْدَ مَا أَسْلَمَ؟ " وَقَوْلُهُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا" فَأَثْبَتَ لَهُمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ; وَكَذَلِكَ قَوْله فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ اللَّيْثِيِّ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا", فَجَعَلَهُ مُؤْمِنًا بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ; وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ إثْبَاتُ الْإِيمَانِ لَهُ فِي الْحُكْمِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَعْصِمُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِهِمْ الْكُفْرِ وَعِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِفَاقِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ لِقَائِلِهِ بِالْإِسْلَامِ. قَوْله تَعَالَى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَعْنِي بِهِ الْغَنِيمَةَ. وَإِنَّمَا سَمَّى مَتَاعَ الدُّنْيَا عَرَضًا لِقِلَّةِ بَقَائِهِ, عَلَى مَا رُوِيَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَخَذَ مَا مَعَهُ. قَوْله تَعَالَى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَعْنِي بِهِ السَّيْرَ فِيهَا وقَوْله تَعَالَى: "فَتَثَبَّتُوا" قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ, وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِيَارَ التَّبَيُّنَ لِأَنَّ التَّثَبُّتَ إنَّمَا هُوَ لِلتَّبَيُّنِ, وَالتَّثَبُّتُ إنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} قَالَ الْحَسَنُ: "كُفَّارًا مِثْلَهُمْ" وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "كُنْتُمْ مُسْتَخِفِّينَ بِدِينِكُمْ بَيْنَ قَوْمِكُمْ كَمَا استخفوا. وقوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يَعْنِي بِإِسْلَامِكُمْ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] , وَقِيلَ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِكُمْ حَتَّى أَظْهَرْتُمْ دِينَكُمْ. قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الْآيَةَ; يَعْنِي بِهِ تَفْضِيلَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ وَالْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ بِبَيَانِ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنْ مَنْزِلَةِ الثَّوَابِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلْقَاعِدِينَ عَنْ الْجِهَادِ; وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ شَرَفَ الْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ شَرَفِ الْعَمَلِ, فَذَكَرَ بَدِيًّا أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ, ثُمَّ بَيَّنَ التَّفْضِيلَ بِقَوْلِهِ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} . مطلب: في أن الأغلب على كلمة "غير" أن تكون صفة لا استثناء وفي الفرق بين المعنيين وَقَدْ قُرِئَ "غَيْرُ" بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ, فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِلْقَاعِدَيْنِ, وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ; وَيُقَالُ إنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهَا الرَّفْعُ, لِأَنَّ الصِّفَةَ أُغْلَبُ عَلَى "غَيْرِ" مِنْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ

وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا جَائِزًا; وَالْفَرْقُ بَيْنَ" غَيْرِ" إذَا كَانَتْ صِفَةً وَبَيْنَهَا إذَا كَانَتْ اسْتِثْنَاءً كَأَنَّهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ تُوجِبُ إخْرَاجَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ, نَحْوِ" جَاءَنِي الْقَوْمُ غَيْرُ زَيْدٍ" وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فِي الصِّفَةِ; لِأَنَّك تَقُولُ: "جَاءَنِي رَجُلٌ غَيْرُ زَيْدٍ" و" غَيْرُ" هَهُنَا صِفَةٌ وَفِي الْأَوَّلِ اسْتِثْنَاءٌ, وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ مُخَصَّصَةٌ عَلَى حَدِّ النَّفْيِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ; لِأَنَّهُ وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى كَمَا وَعَدَ الْمُجَاهِدِينَ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ أَشْرَفَ وَأَجْزَلَ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقُعُودُ عَنْ الْجِهَادِ مُبَاحًا إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ لَمَا وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الثَّوَابَ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} ذكر ههنا: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} وذكر في أول الآية: {دَرَجَةً} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى أَهْلِ الضَّرَرِ فُضِّلُوا عَلَيْهِمْ دَرَجَةً وَاحِدَةً, وَالثَّانِي عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الضَّرَرِ فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِمْ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَجْرًا عَظِيمًا. وَقِيلَ إنَّ الْأَوَّلَ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فَفُضِّلُوا دَرَجَةً وَاحِدَةً, وَالْآخَرُ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فَفُضِّلُوا دَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ بِالْأَوَّلِ دَرَجَةَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَشَرَفُ الدِّينِ, وَأَرَادَ بِالْآخَرِ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مُسَاوَاةِ أُولِي الضَّرَرِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّسَاوِي; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَرَدَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَخْرَجُ الْآيَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ وَحَثًّا عَلَيْهِ, فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ; إذْ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ لَا مِنْ حَيْثُ أُلْحِقُوا بِالْمُجَاهِدِينَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الْآيَةَ. قِيلَ فِيهِ تُقْبَضُ أَرْوَاحُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَحْشُرُهُمْ إلَى النَّارِ. وَقِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَوْفًا وَإِذَا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا لَهُمْ الْكُفْرَ وَلَا يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ, فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَبِتَرْكِهِمْ الْهِجْرَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْهِجْرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ, لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهَا; وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ, وَهَذَا نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَمَا ذَمَّهُمْ على

تَرْكِهِ وَلَمَا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إلَى أَيِّ أَرْضٍ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْهِجْرَةِ وَأَعْطَوْا الْمُشْرِكِينَ الْمَحَبَّةَ وَقُتِلَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ عَلَى ظَاهِرِ الرِّدَّةِ, ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ الَّذِينَ أَقْعَدَهُمْ الضَّعْفُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} يَعْنِي طَرِيقًا إلَى الْمَدِينَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ: عَسَى مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَقِيلَ: إنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ; لِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْ شَكٍّ وَقِيلَ: إنَّمَا هَذَا عَلَى شَكِّ الْعِبَادِ, أَيْ كُونُوا أَنْتُمْ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} ; قِيلَ فِي الْمُرَاغَمِ إنَّهُ أَرَادَ مُتَّسَعًا لِهِجْرَتِهِ; لِأَنَّ الرَّغْمَ أَصْلُهُ الذُّلُّ, تَقُولُ: فَعَلْت ذَلِكَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ فُلَانٍ, أَيْ فَعَلْته عَلَى الذُّلِّ وَالْكُرْهِ. وَالرَّغَامُ التُّرَابُ; لِأَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِمَنْ رَامَهُ مَعَ احْتِقَارِهِ وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَهُ أَيْ أَلْصَقْهُ بِالتُّرَابِ إذْلَالًا لَهُ; فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أَيْ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُتَّسَعًا سَهْلًا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فَمُرَاغَمٌ وَذَلُولٌ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقِيلَ فِي الْمُرَاغَمِ إنَّهُ مَا يُرْغَمُ بِهِ مَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَأَمَّا قوله تعالى: {وَسَعَةً} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ السَّعَةُ فِي إظْهَارِ الدِّينِ لِمَا كَانَ يَلْحَقُهُمْ مِنْ تَضْيِيقِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى يَمْنَعُوهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ. وقوله عز وجل: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فِيهِ إخْبَارٌ بِوُجُوبِ أَجْرِ مَنْ هَاجَرَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ هِجْرَتُهُ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مُتَوَجِّهًا لِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْبِ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِ بِقَدْرِ نِيَّتِهِ وَسَعْيِهِ وَإِنْ اُقْتُطِعَ دُونَهُ, كَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ أَجْرَ مَنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ هِجْرَتُهُ. وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَنْ خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ ثُمَّ مَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ, وَكَذَلِكَ الْحَاجُّ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الذي قصد

لِلْحَجِّ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ لَهُ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَالنَّفَقَةِ, فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَسَبًا لِلْأَوَّلِ كَانَ الَّذِي وَجَبَ أن يقضي عنه ما بقي.

مطلب: فيمن قَالَ: "إنْ خَرَجْت مِنْ دَارِي إلَّا إلَى الصلاة فعبدي حر" فخرج إليها ثم لم يصل وتوجه إلى حاجة اخرى لم يحنث وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: "إنْ خَرَجْت مِنْ دَارِي إلَّا إلَى الصَّلَاةِ أَوْ إلَى الْحَجِّ فَعَبْدِي حُرٌّ" فَخَرَجَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ ثُمَّ لَمْ يَصِلْ وَلَمْ يَحُجَّ وَتَوَجَّهَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ; لِأَنَّ خُرُوجَهُ بَدِيًّا كَانَ لِلصَّلَاةِ أَوَلِلْحَجِّ لِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لَهُ, كَمَا كَانَ خُرُوجُ مَنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا قُرْبَةً وَهِجْرَةً لِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ وَاقْتِطَاعِ الْمَوْتِ لَهُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُبْطِلْ حُكْمَ الْخُرُوجِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وُجِدَ بَدِيًّا عَلَيْهِ, وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى, فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ" فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنِّيَّاتِ, فَإِذَا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى نِيَّةِ الْهِجْرَةِ كَانَ مُهَاجِرًا, وَإِذَا كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْغَزْوِ كَانَ غَازِيًا. وَاسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ سَهْمُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِوَرَثَتِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا; لِأَنَّ كَوْنَهَا غَنِيمَةً مُتَعَلِّقٌ بِحِيَازَتِهَا; إذْ لَا تَكُون غَنِيمَةً إلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] , فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمَ فَهُوَ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا فَلَا سَهْمَ لَهُ; وقَوْله تَعَالَى {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ سَهْمِهِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ غَازِيًا مِنْ بَيْتِهِ فَمَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ, وَقَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا وَجَبَ أَجْرُ الَّذِي خَرَجَ مُهَاجِرًا وَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ دَارَ هِجْرَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ وَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ, وَالْآخَرُ: الْخَوْفُ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مَا هُوَ؟ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ الْحَضَرَ أَرْبَعًا وَصَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَالْخَوْفِ رَكْعَةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَوَى يَزِيدُ

الْفَقِيرُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةً رَكْعَةً". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَصَرَ الْعَدَدَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى ثِنْتَيْنِ. وَرَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قَصْرُهَا فِي الْخَوْفِ وَالْقِتَالِ وَالصَّلَاةُ فِي كُلِّ حَالٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا, فَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَلَاةُ النَّاسِ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ بِقَصْرٍ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْقَصْرِ, وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا هُوَ قَصْرُ حُدُودِ الصَّلَاةِ وَأَنْ تُكَبِّرَ وَتَخْفِضَ رَأْسَك وَتُومِئَ إيمَاءً". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَوْلَى الْمَعَانِي وَأَشْبَهِهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ فِي أَنَّهُ قَصْرٌ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ, وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ قَصْرًا; إذْ كَانَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ يُفْسِدُهَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُصَلِّيهِ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةٌ; لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِاَلَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ يَمْضُونَ إلَى تُجَاهِ الْعَدُوِّ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّيَ بِهَا رَكْعَةً وَيُسَلِّمَ بِتِلْكَ, فَيَصِيرُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ, ثُمَّ يَقْضُونَ رَكْعَةً رَكْعَةً; فَيَكُونُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّهُ قَصْرٌ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ: إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ; لِأَنَّ الْآثَارَ قَدْ تَوَاتَرَتْ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ مَعَ اخْتِلَافِهَا, وَكُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِلرَّكْعَتَيْنِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعَةً, إلَّا أَنَّهَا لِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَالْقَضَاءُ لِرَكْعَةٍ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُكْمُ الْمَأْمُومِينَ فِيهَا, فَلَمَّا نَقَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ, عَلِمْنَا أَنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الْخَائِفِ كَفَرْضِ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ رَكْعَةً رَكْعَةً مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً رَكْعَةً عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَصْرُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ أَوْ الْمَشْيِ وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ دُونَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَأَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْقَصْرِ مَا وُصِفَ دُونَ نُقْصَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ, مَا رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي وَصَاحِبٌ لِي خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَكُنْت أُتِمُّ وَكَانَ صَاحِبِي يَقْصُرُ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتَ الَّذِي تَقْصُرُ وَصَاحِبُك الَّذِي كَانَ يُتِمُّ. فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ, وَأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَيْسَتَا بِقَصْرٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ قَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ جَمِيعَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ عَلَى مَا وَصَفَ دُونَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ.

فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؟ فَقَالَ: عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ, فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَصْرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَهُمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ مِنْ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَمِنْ صِفَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي وَهْمِ عُمَرَ وَيَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ مَا ذُكِرَ, وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْأَمْنِ لَا عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَصْرَ الْآيَةِ هُوَ فِي الْعَدَدِ فَأَجَابَهُ بِمَا وَصَفَ; وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا, مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقْصُرُ فِي مَغَازِيهِ, ثُمَّ قَصَرَ فِي الْحَجِّ فِي حَالِ الْأَمْنِ وَزَوَالِ الْقِتَالِ, فَقَالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَسْقَطَ عَنْكُمْ فِي السَّفَرِ فَرْضَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ رَوَى عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ أَنَّهَا تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ بَدِيًّا أَنَّ قَصْرَ الْخَوْفِ هُوَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ, فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ: "صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ" عَلِمَ أَنَّ قَصْرَ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. وَإِذَا صَحَّ بِمَا وَصَفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ تَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَلَا عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ; إذْ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِ الْمُسَافِرِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ إلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ, فَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعَةً وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الِاثْنَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ, وَإِنْ قَعَدَ فِيهِمَا مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ, بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعَةً بِتَسْلِيمَةٍ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: "إذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَعَادَ" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا صَلَّى أَرْبَعًا مُتَعَمِّدًا أَعَادَ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ, فَإِذَا طَالَ فِي سَفَرِهِ وَكَثُرَ لَمْ يُعِدْ" قَالَ: "وَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَبْتَدِئَهَا بِالنِّيَّةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ", وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ, ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُتِمَّ فَصَلَّى أَرْبَعًا أَعَادَ, وَإِنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بَعْدَ مَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ بَدَا لَهُ فَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَجْزَتْهُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ, فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ" قَالَ: "وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا افْتَتَحَ الْمَكْتُوبَةَ يَنْوِي أَرْبَعًا فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَدَا لَهُ فَسَلَّمَ, أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ, وَلَوْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُسَافِرِينَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ فَإِنَّهُمْ يَقْعُدُونَ وَيَتَشَهَّدُونَ وَلَا يَتْبَعُونَهُ". وَقَالَ الأوزاعي:

"يُصَلِّي الْمُسَافِرُ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَصَلَّاهَا فَإِنَّهُ يُلْغِيهَا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ, فَإِذَا أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ كَانَ عَلَى أَصْلِ فَرْضِهِ أَرْبَعًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ حُكْمُ الْقَصْرِ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ, وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِي قَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ كُلِّهَا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ, فَثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانُهُ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى, قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْأَمْنِ, فَقَالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". وَصَدَقَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا هِيَ إسْقَاطُهُ عَنَّا, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ رَكْعَتَانِ; وَقَوْلُهُ: "فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" يُوجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ, فَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالْقَصْرِ فَالْإِتْمَامُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ" فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَرْضَ رَكْعَتَانِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِقَصْرٍ بَلْ هُوَ تَمَامٌ, كَمَا ذَكَرَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَعَزَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ" وَذَلِكَ يَنْفِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: حَجَجْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ, وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ, وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: "صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ, وَصَحِبْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وَرَوَى بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ حَتَّى يَئُوبَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ يَمُوتَ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ, وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ, وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيّ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ, فَقَالَ: "رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ". فَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي فِعْلِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِمَا, وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا فَرْضُ الْمُسَافِرِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فِي الْكِتَابِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ, وَفِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ كَبَيَانِهِ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, وَفِي فِعْلِهِ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ, كَفِعْلِهِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ

كَانَ مُرَادُ اللَّهِ الْإِتْمَامُ أَوْ الْقَصْرُ عَلَى مَا يَخْتَارُهُ الْمُسَافِرُ لَمَا جَازَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْبَيَانِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرَ, وَكَانَ بَيَانُهُ لِلْإِتْمَامِ فِي وَزْنِ بَيَانِهِ لِلْقَصْرِ, فَلَمَّا وَرَدَ الْبَيَانُ إلَيْنَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقَصْرِ دُونَ الْإِتْمَامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرَادُ اللَّهِ فِي رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ إفْطَارٍ أَوْ صَوْمٍ وَرَدَ الْبَيَانُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَارَةً بِالْإِفْطَارِ وَتَارَةً بِالصَّوْمِ؟ وَأَيْضًا لَمَّا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعًا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ, فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ, فَلَوَدِدْت أَنَّ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ; وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ; وَقَالَ عُثْمَانُ: أَنَا إنَّمَا أَتْمَمْت; لِأَنِّي تَأَهَّلْت بِهَذَا الْبَلَدِ وَسَمِعْت النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: "مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ", فَلَمْ يُخَالِفْهُمْ عُثْمَانُ فِي مَنْعِ الْإِتْمَامِ وَإِنَّمَا اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ قَدْ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَصَارَ مِنْ أَهْلِهَا; وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي أَهْلِ مَكَّةَ إنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا" وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ", فَأَخْبَرَتْ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَانِ وَفَرْضَ الْمُقِيمِ أَرْبَعٌ كَفَرْضِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَمَا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لِلْمُسَافِرِ تَرْكُ الْأُخْرَيَيْنِ لَا إلَى بَدَلٍ وَمَتَى فَعَلَهُمَا فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُمَا عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا نَفْلٌ; لِأَنَّ هَذِهِ صُورَةُ النَّفْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ, وَإِذَا تَرَكَهُ تَرَكَهُ لَا إلَى بَدَلٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَتَمَّ, وَهَذَا صَحِيحٌ, وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِي الْفِعْلِ وَأَتَمَّ فِي الْحُكْمِ, كَقَوْلِ عُمَرَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَصْلِ. وَهَذَا فَاسِدٌ; لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ يُغَيِّرُ الْفَرْضَ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ فَرْضُهُمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعٌ وَلَوْ دَخَلَا فِي الْجُمُعَةِ صَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا مُخَيَّرَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَالرَّكْعَتَيْنِ؟ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِنَا. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "يُصَلِّي صَلَاةَ مُقِيمٍ وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رَكْعَةً صَلَّى رَكْعَتَيْنِ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا

أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" فَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَضَاءِ الْفَائِتِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ, وَاَلَّذِي فَاتَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا; وَأَيْضًا قَدْ صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ وَيَلْزَمُهُ سَهْوُهُ وَانْتَفَى عَنْهُ سَهْوَ نَفْسِهِ لِأَجْلِ إمَامِهِ, كَذَلِكَ لَزِمَهُ حُكْمُ صَلَاتِهِ فِي الْإِتْمَامِ. وَأَيْضًا لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ كَذَلِكَ دُخُولُهُ مَعَ الْإِمَامِ, وَيَكُونُ دُخُولُهُ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ كَدُخُولِهِ فِي أَوَّلِهَا, كَمَا كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي التَّشَهُّدِ كَهِيَ في أولها والله أعلم.

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ سَائِرِ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ سَفَرُهُمْ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْفَارِ. وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَتَّجِرُ إلَى الْبَحْرَيْنِ, فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ أُصَلِّي؟ فَقَالَ: "رَكْعَتَيْنِ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُمَا خَرَجَا إلَى الطَّائِفِ فَقَصَرَا الصَّلَاةَ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ". وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "لَا أَرَى أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقْصُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ; وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ مَخْصُوصٌ بِالْحَجِّ وَالْجِهَادِ, وَقَوْلُ عُمَرَ صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ, وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" عَامٌّ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ "أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ" وَلَمْ يَقُلْ" فِي حَجٍّ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَصْرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُسَافِرِينَ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِالسَّفَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْأَسْفَارِ فِيهِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا. وَمَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} عَلَى عَدَدِ الرَّكَعَاتِ يَحْتَجُّ بِعُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَسْفَارِ إذَا كَانَ خَائِفًا مِنْ الْعَدُوِّ, ثُمَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا كَانَ سَفَرُهُ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقُرْبَةِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ هُوَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ ثَلَاثًا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "إنْ خَرَجَ إلَى الصَّيْدِ وَهُوَ مَعَاشُهُ قَصَرَ, وَإِنْ خَرَجَ مُتَلَذِّذًا لَمْ أَسْتَحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يَقْصُرْ وَلَمْ يَمْسَحْ مَسْحَ السَّفَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

مطلب: الملاح يقصر في السفينة إذا كان مسافرا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَلَّاحِ هَلْ يَقْصُرُ فِي السَّفِينَةِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَقْصُرُ إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ حَتَّى يَصِيرَ إلَى قَرْيَتِهِ فَيُتِمَّ" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا كَانَ فِيهَا أَهْلُهُ وَقَرَارُهُ يَقْصُرُ إذَا أَكْرَاهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى حَيْثُ أَكْرَاهَا, فَإِذَا انْتَهَى أَتَمَّ الصَّلَاةَ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا كَانَتْ السَّفِينَةُ بَيْتَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ غَيْرَهَا فَهُوَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ يُتِمُّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَوْنُ الْمَلَّاحِ مَالِكًا لِلسَّفِينَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ, كَالْجَمَّالِ مَالِكٌ لِلْجِمَالِ الَّتِي يَنْتَقِلُ بِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ أَحْكَامِ الصَّوْمِ. وَشَرَطَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا أَمْيَالٌ فَمَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْقَفْلِ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ, وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يَوْمٌ تَامٌّ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ", وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ". وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُتِمُّ فِيهَا الصَّلَاةَ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قَصَرَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعٍ أَتَمَّ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ قَصَرَ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إنْ مَرَّ الْمُسَافِرُ بِمِصْرِهِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ مَاضٍ فِي سَفَرِهِ قَصَرَ فِيهِ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يُقِمْ بِهِ عَشْرًا, وَإِنْ أَقَامَ بِهِ عَشْرًا أَوْ بِغَيْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وجابر: أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَكَانَ مُقَامُهُ إلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِ. وَأَيْضًا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: "إذَا قَدِمْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي نَفْسِك أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ بِهَا, وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْهَا "; وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَنْ أَجْمَعَ عَلَى أَرْبَعٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَتَمَّ الصَّلَاةَ". قِيلَ لَهُ: رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "إذَا أَقَامَ الْمُسَافِرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمَا كَانَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَلْيَقْصُرْ", وَإِنْ جَعَلْنَا الرِّوَايَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ سَقَطَتَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ شَيْءٌ, وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ; وَأَيْضًا

مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ, وَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَا دُونَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ, فَيُثْبِتُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ أَنَّهَا إقَامَةٌ صَحِيحَةٌ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا دُونَهَا; وَكَذَلِكَ السَّلَفُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الثَّلَاثِ أَنَّهَا سَفَرٌ صَحِيحٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ الْقَصْرِ وَالْإِفْطَارِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهَا فَلَمْ يَثْبُتْ, وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الخوف عَلَى ضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ; وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيهَا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ تَقُومُ طَائِفَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إلَى مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيَقْضُونَ رَكْعَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيَقْضُونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا كَانَ الْعَدُوُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ جُعِلَ النَّاسُ طَائِفَتَيْنِ, فَيُكَبِّرُ وَيُكَبِّرُونَ وَيَرْكَعُ وَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا مَعَهُ, وَسَجَدَ الْإِمَامُ وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ, وَيَقُومُ الصَّفُّ الْآخَرُ فِي وُجُوهِ الْعَدُوِّ, فَإِذَا قَامُوا مِنْ السُّجُودِ سَجَدَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ, فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ سُجُودِهِمْ قَامُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ, فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ, وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي دُبُرِ الْقِبْلَةِ قَامَ الْإِمَامُ وَمَعَهُ صَفٌّ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ وَالصَّفُّ الْآخَرُ مُسْتَقْبِلٌ الْعَدُوَّ, فَيُكَبِّرُ وَيُكَبِّرُونَ جَمِيعًا وَيَرْكَعُ وَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا, ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الَّذِي مَعَ الْإِمَامِ سَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ فَيَكُونُونَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ, ثُمَّ يَجِيءُ الْآخَرُونَ فَيَسْجُدُونَ وَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ جَمِيعًا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ, فَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا وَيَسْجُدُ الصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ, ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ, وَيَجِيءُ الْآخَرُونَ فَيَسْجُدُونَ مَعَهُ وَيَفْرُغُونَ, ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَهُمْ جَمِيعًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ, إحْدَاهَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ, وَالْأُخْرَى مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي الْقِبْلَةِ, وَإِذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَمِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثَةُ أنه لا تصلي بعد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا تُصَلَّى بِإِمَامَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ: "إنْ فَعَلْت كَذَلِكَ جَازَ" وَقَالَ مَالِكٌ: "يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَيَقُومُ قَائِمًا وَتُتِمُّ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَةً أُخْرَى, ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ, ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مَكَانِ

الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ فَيَقُومُونَ مَكَانَهُمْ, وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُ وَيَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ" قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: "لَا يُسَلِّمُ الْإِمَامُ حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنْفُسِهَا, ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ" لِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ; ثُمَّ رَجَعَ إلَى حَدِيثِ الْقَاسِمِ1 وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يُسَلِّمُ, ثُمَّ تَقُومُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ, إلَّا أَنَّهُ قَالَ: "الْإِمَامُ لَا يُسَلِّمُ حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنْفُسِهَا, ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, إلَّا أَنَّهُ قَالَ: "الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إذَا صَلَّتْ مَعَ الْإِمَامِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَتْ لِأَنْفُسِهَا الرَّكْعَةَ الَّتِي لَمْ يُصَلُّوهَا مَعَ الْإِمَامِ, ثُمَّ تَنْصَرِفُ وَتَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَتَقْضِيَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشَدُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ مُوَافَقَةً لِظَاهِرِ الْآيَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} , وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ بِإِزَاءِ العدو; لأنه قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الطَّائِفَةَ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ; وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ; لِأَنَّهَا تَحْرُسُ هَذِهِ الْمُصَلِّيَةَ; وَقَدْ عُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ جَمِيعًا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَعَ الْإِمَامِ لَمَا كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَائِمَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَكُونُونَ جَمِيعًا مَعَهُ, وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يَكُونُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَفِي الْآيَةِ الْأَمْرُ لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ السُّجُودِ مِنْ وَرَائِهِمْ, وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا. ثُمَّ قَالَ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُهُمْ طَائِفَتَيْنِ فِي الْأَصْلِ: طَائِفَةٌ مَعَهُ, وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ; لأنه قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} وَعَلَى مَذْهَبِ مُخَالِفِنَا هِيَ مَعَ الْإِمَامِ لَا تَأْتِيهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} , وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ, وَمُخَالِفُنَا يَقُولُ: يَفْتَتِحُ الْجَمِيعُ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَيَكُونُونَ حِينَئِذٍ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ فَاعِلِينَ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ; وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُوَافِقَةٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَوْلُنَا مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأُصُولِ, وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا سَجَدَ

_ 1 قوله: "رجع إلى حديث القاسم" يعني القاسم ين محمد بن أبي بكر الصديق, قال ابن عبد البر: هذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رمان وغنا اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن المأمون إنما يقضي بعد سلام الإمام, كذا في الزرقاني على الموطأ, "لمصححه".

فَاسْجُدُوا" وَقَالَ: "إنِّي امْرُؤٌ قَدْ بَدَّنْتُ1 فَلَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ". وَمِنْ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى تَقْضِي صَلَاتَهَا وَتَخْرُجَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمَامِ. وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَأْمُومَ مَأْمُورٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَهُ; وَأَيْضًا جَائِزٌ أَنْ يَلْحَقَ الْإِمَامَ سَهْوٌ يَلْزَمُ الْمَأْمُومَ وَلَا يُمَكَّنُ الْخَارِجِينَ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَرَاغِهِ أَنْ يَسْجُدُوا. وَيُخَالِفُ هَذَا الْقَوْلُ الْأُصُولَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى, وَهِيَ اشْتِغَالُ الْمَأْمُومِ بِقَضَاءِ صَلَاتِهِ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ أَوْ جَالِسٌ تَارِكٌ لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ, فَيَحْصُلُ بِهِ مُخَالَفَةُ الْإِمَامِ فِي الْفِعْلِ وَتَرْكِ الْإِمَامِ لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَأْمُومِ, وَذَلِكَ يُنَافِي مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَالِائْتِمَامِ وَمَنْعِ الْإِمَامِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَأْمُومِ; فَهَذَانِ وَجْهَانِ أَيْضًا خَارِجَانِ مِنْ الْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَخْصُوصَةً بِجَوَازِ انْصِرَافِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَبْلَ الْإِمَامِ كَمَا جَازَ الْمَشْيُ فِيهَا. قِيلَ لَهُ: الْمَشْيُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأُصُولِ, وَهُوَ الرَّاكِبُ الْمُنْهَزِمُ. يُصَلِّي وَهُوَ سَائِرٌ بِالِاتِّفَاقِ; فَكَانَ لِمَا ذَكَرْنَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, فَجَازَ أَنْ لَا تَفْسُدَ صَلَاةُ الْخَوْفِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي سَبَقِهِ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي, قَدْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "من قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ" , وَالرَّجُلُ يَرْكَعُ وَيَمْشِي إلَى الصَّفِّ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ; وَرَكَعَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَمَشَى إلَى الصَّفِّ, فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ" وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ, فَكَانَ لِلْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ نَظَائِرُ فِي الْأُصُولِ وَلَيْسَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ نَظِيرٌ, فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَشْيَ فِيهَا اتِّفَاقٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, وَلَمَّا قَامَتْ بِهِ الدَّلَالَةُ سَلَّمْنَاهُ لَهَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَوَاجِبٌ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُصُولِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهِ عَنْهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ عَلَى مَا وُصِفَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ, ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أُولَئِكَ وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى, ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ, ثُمَّ قَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ وَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ; قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ نَافِعٌ وَخَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ; وقال أبو داود: وكذلك قول مسروق

_ 1 قوله: "قد بدنت" قال أبو عبيد: روي بدنت بضم الدال مخقففة وإنما هي بدنت بالتشديد أي كبرت وأسنتو والتخفيف من البدانة وهي كثرة اللحم, ولم يكن عليه الضلاة والسلام سمينا, لكن تعقبه في النهاية فليراجع "لمصححه".

وَيُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَكَذَلِكَ رَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ فَعَلَهُ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: "فَقَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً" عَلَى أَنَّهُمْ قَضَوْا عَلَى وَجْهٍ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ, وَهُوَ أَنْ تَرْجِعَ الثَّانِيَةُ إلَى مَقَامِ الْأُولَى وَجَاءَتْ الْأُولَى فَقَضَتْ رَكْعَةً وَسَلَّمَتْ ثُمَّ جَاءَتْ الثَّانِيَةُ فَقَضَتْ رَكْعَةً وَسَلَّمَتْ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ خُصَيْفٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ, قَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ, فَصَفَّ مَعَهُ صَفًّا وَأَخَذَ صَفٌّ السِّلَاحَ وَاسْتَقْبَلُوا الْعَدُوَّ, فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ, ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعَ الصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ, ثُمَّ تَحَوَّلَ الصَّفُّ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ, وَتَحَوَّلَ الْآخَرُونَ فَقَامُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَرَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعُوا وَسَجَدَ وَسَجَدُوا, ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ الَّذِينَ صَلُّوا مَعَهُ وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَقَضَوْا رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغُوا أَخَذُوا السِّلَاحَ, وَتَحَوَّلَ الْآخَرُونَ وَصَلُّوا رَكْعَةً; فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ; فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْصِرَافَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى, وَهُوَ مَعْنَى مَا أَجْمَلَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ قَضَتْ رَكْعَةً لِأَنْفُسِهَا قَبْلَ قَضَاءِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا, وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا; لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ أَدْرَكَتْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةَ لَمْ تُدْرِكْ, فَغَيْرُ جَائِزٍ لِلثَّانِيَةِ الْخُرُوجُ مِنْ صَلَاتِهَا قَبْلَ الْأُولَى; وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ حُكْمِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى أَنْ تُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الثَّانِيَةِ أَنْ تَقْضِيَهُمَا فِي مَقَامَيْنِ لَا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ سَبِيلَ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ تَكُونَ مَقْسُومَةً بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى التَّعْدِيلِ بَيْنَهُمَا فِيهَا. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ مُرْسَلًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى صَلَّتْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا يَزِيدَ بْنَ رُومَانَ; وَقَدْ خُولِفَ فِيهِ فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْن أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّ صَفًّا خَلْفَهُ وَصَفَّ مَصَافَّ الْعَدُوِّ, فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً, ثُمَّ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ وَجَاءَ أُولَئِكَ, فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً, ثُمَّ قَامُوا فَقَضَوْا رَكْعَةً رَكْعَةً. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَمْ تَقْضِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ; وَهَذَا أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ صَالِحٍ مِثْلَ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ. وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِ الرِّقَاعِ; وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ كثير عن أبي سلمة عن جابرقال:

كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِ الرِّقَاعِ, فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ, ثُمَّ انْصَرَفُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ; فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا وَكُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى وُجُوهٍ أُخَرَ, فَاتَّفَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَحُذَيْفَةُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهُونَ الْعَدُوَّ, ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً, وَأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَقْضِ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ عَلَى مَا قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِيهِ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَرَوَى أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ نَحْوَ الْمَذْهَبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي الْقِبْلَةِ. وَرَوَى أَيُّوبُ وَهِشَامٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَكَذَلِكَ رَوَاهُ دَاوُد بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ, وَكَذَلِكَ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ عَنْ أَبِي مُوسَى مِنْ فِعْلِهِ. وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ قَبْلُ هَذَا, وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا فِيهَا. وَرُوِيَ فِيهَا نَوْعٌ آخَرُ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ وَابْنُ لَهِيعَةَ قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ: هَلْ صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ; قَالَ مَرْوَانُ: مَتَى؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ, فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا الَّذِينَ مَعَهُ وَاَلَّذِينَ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ, ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَرَكَعَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ, ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ, ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ فَذَهَبُوا إلَى الْعَدُوِّ فَقَابَلُوهُمْ وَأَقْبَلَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ كَمَا هُوَ, ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ, ثُمَّ أَقْبَلَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ وَمَنْ مَعَهُ, ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا جَمِيعًا; فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ:

حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَوْفِ الظُّهْرِ, فَصَفَّ بَعْضَهُمْ خَلْفَهُ وَبَعْضَهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ سَلَّمَ, فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلُّوا فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ, ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلُّوا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ; فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا وَلِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ, وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي الْحَسَنُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْيَشْكُرِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ قَدَّمْنَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَابِرًا رَوَيَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً رَكْعَةً فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ وَأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَكْعَةً فِي جَمَاعَةٍ وَفَعَلَهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; فَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي الْقِبْلَةِ إلَى حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الرِّوَايَاتُ وَذَلِكَ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً وَاحِدَةً فَتَتَضَادُّ الرِّوَايَاتُ فِيهَا وَتَتَنَافَى, بَلْ كَانَتْ صَلَوَاتٍ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ; بِعُسْفَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ, وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِبَطْنِ النَّخْلِ; وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَزْوَةِ نَجْدٍ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ بِذَاتِ الرِّقَاعِ, وَصَلَّاهَا فِي حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِدَّةَ صَلَوَاتٍ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: "إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بِذَاتِ الرِّقَاعِ, وَفِي حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّاهَا بِذَاتِ الرِّقَاعِ; وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ فِيهِ مِنْ صِفَةِ صَلَاتِهِ خِلَافَ صِفَةِ الْأُخْرَى; وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِعُسْفَانَ, وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّاهَا بِعُسْفَانَ; فَرُوِيَ تَارَةً نَحْوُ حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ وَتَارَةً عَلَى خِلَافِهِ. وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد صلى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا عَلَى حَسَبِ وُرُودِ الرِّوَايَاتِ بِهَا وَعَلَى مَا رَآهُ النَّبِيُّ احْتِيَاطًا فِي الْوَقْتِ مِنْ كَيْدِ الْعَدُوِّ وَمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَذَرِ وَالتَّحَرُّزِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ أَخْذِ الْحَذَرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} , وَلِذَلِكَ كَانَ الِاجْتِهَادُ سَائِغًا فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهَا; لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا مَا وَافَقَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَالْأُصُولِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ الْحُكْمُ مِنْهَا وَاحِدًا وَالْبَاقِي مَنْسُوخٌ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ تَوْسِعَةً وَتَرْفِيهًا لِئَلَّا يُحْرَجَ مَنْ ذَهَبَ إلَى بَعْضِهَا, وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا كَاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي

التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَفِي تَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا الْكَلَامُ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَفْضَلِ; فَمَنْ ذَهَبَ إلَى وَجْهٍ مِنْهَا فَغَيْرُ مُعَنَّفٍ عَلَيْهِ فِي اخْتِيَارِهِ, وَكَانَ الْأَوْلَى عِنْدَنَا مَا وَافَقَ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَالْأُصُولَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ مُقِيمًا حِينَ صَلَّاهَا كَذَلِكَ, وَيَكُونُ قَوْلُهُمَا" إنَّهُ سَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ" الْمُرَادُ بِهِ تَسْلِيمُ التَّشَهُّدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يَنْفِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْخَبَرِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ السُّجُودِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ مُقِيمًا فِي بَادِيَةٍ وَهِيَ ذَاتُ الرِّقَاعِ وَلَيْسَتْ مَوْضِعَ إقَامَةٍ وَلَا هِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَدِينَةِ؟ قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمْ يَنْوِ سَفَرَ ثَلَاثٍ وَإِنَّمَا نَوَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ إلَيْهِ سَفَرَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ, فَيَكُونُ مُقِيمًا عِنْدَنَا; إذْ لَمْ يُنْشِئْ سَفَرَ ثَلَاثٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ; وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعَادُ الْفَرْضُ فِيهِ, وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا; وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صَلَاةَ خَوْفٍ وَإِنَّمَا هِيَ صَلَاةٌ عَلَى هَيْئَةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْعُولَةِ فِي حَالِ الْأَمْنِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّهُ لَا تُصَلَّى بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُصَلَّى عِنْدَ الْخَوْفِ بِإِمَامَيْنِ; فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى ظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} فَخَصَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ, وَأَبَاحَ لَهُمْ فِعْلَهَا مَعَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ الَّتِي مِثْلُهَا لَا يُوجَدُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ; فَغَيْرُ جَائِزٍ بَعْدَهُ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَهَا إلَّا بِإِمَامَيْنِ; لِأَنَّ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الثَّانِي كَهِيَ خَلْفَ الْأَوَّلِ, فَلَا يُحْتَاجُ إلَى مَشْيٍ وَاخْتِلَافٍ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ مِمَّا هُوَ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا تَخْصِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ بِهَا بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} لَيْسَ بِمُوجِبٍ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ; لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} هو الذي قال: {وَاتَّبِعُوهُ} [سبأ:20] , فَإِذَا وَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا فَعَلَيْنَا اتِّبَاعَهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ, أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ}

[المائدة: 42] فِيهِ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُخَاطَبَةِ, وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ مُرَادُونَ بِالْحُكْمِ مَعَهُ. وَأَمَّا إدْرَاكُ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَرْكُهَا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِتَرْكِ الْفَرْضِ لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْفَضْلِ, فَلَمَّا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا بَطَلَ اعْتِلَالُهُ بِذَلِكَ وَصَحَّ أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى, الْوَجْهِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَائِزٌ بَعْدَهُ كَمَا جَازَ مَعَهُ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ جَوَازَ فِعْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى وَحُذَيْفَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ, مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُحْكَى عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ, وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا لَا يَسَعُ خِلَافُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً" إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ: "يَقُومُ الْإِمَامُ قَائِمًا حَتَّى يُتِمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ, ثُمَّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً أُخْرَى, ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَتَقُومُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ رَكْعَتَيْنِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ شَاءَ الْإِمَامُ ثَبَتَ جَالِسًا حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى لِأَنْفُسِهِمْ, وَإِنْ شَاءَ كَانَ قَائِمًا, وَيُسَلِّمُ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يَقُومُ صَفٌّ خَلْفَهُ وَصَفٌّ مُوَازِي الْعَدُوِّ, فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً, ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مَقَامِ أُولَئِكَ وَيَجِيءُ هَؤُلَاءِ, فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَيَجْلِسُونَ, فَإِذَا قَامَ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ وَجَاءَ أُولَئِكَ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَالْإِمَامُ قَائِمٌ; لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُمْ قِرَاءَةٌ, وَجَلَسُوا, ثُمَّ قَامُوا يُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ, فَإِذَا جَلَسُوا وَسَلَّمَ الْإِمَامُ ذَهَبُوا إلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ", وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ التَّعْدِيلَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ, فَيُصَلِّي بِكُلِّ وَاحِدَةٍ رَكْعَةً; وَقَدْ تُرِكَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ جَعَلَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إنَّمَا صَلَّتْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إنَّهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ, أَنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ" فَلَمْ يَقْسِمْ الصَّلَاةَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ تُصَلِّيَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَعَهُ رَكْعَةً عَلَى حِيَالِهَا; وَمَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ الْإِمَامَ أَنْ يَقُومَ قَائِمًا حَتَّى تَفْرُغَ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ, وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ مَذْهَبِ مالك والشافعي; والله أعلم بالصواب.

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقِتَالِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا يُصَلِّي فِي حَالِ الْقِتَالِ, فَإِنْ قَاتَلَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ" وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يُصَلِّي إيمَاءً إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ مِنْ الْقِتَالِ كَبَّرَ بَدَلَ كُلِّ رَكْعَةٍ تَكْبِيرَةً". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يَضْرِبَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ, فَإِنْ تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي مَوَاضِعَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ, وَلَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ حَتَّى كَانَ هُوِيٌّ1 مِنْ اللَّيْلِ, ثُمَّ قَالَ: "مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى" , ثُمَّ قَضَاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِتَالَ شَغَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ, وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ جَائِزَةً فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا كَمَا لَمْ يَتْرُكْهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فِي غَيْرِ قِتَالٍ. وَقَدْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَفْرُوضَةً فِي حَالِ الْخَوْفِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ; وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ يُنَافِي الصَّلَاةَ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ. وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ فِعْلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ, كَانَ حُكْمُهُ فِي الْخَوْفِ كَهُوَ فِي غَيْرِهِ, مِثْلُ الْحَدَثِ وَالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ; وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْمَشْيُ فِيهَا; لِأَنَّ الْمَشْيَ لَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ, وَلِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ لَا يُفْسِدُهَا, فَسَلَّمْنَاهُ لِلْإِجْمَاعِ, وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أصله. وقوله تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَ الْإِمَامِ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, وَضَمِيرُهَا ظَاهِرٌ فِي نَسَقِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} . وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ مَعَ الْإِمَامِ بِأَخْذِ السِّلَاحِ, وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ; لِأَنَّ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ طَائِفَةً غَيْرَ مُصَلِّيَةٍ حَامِيَةً لَهَا قَدْ كَفَتْ هَذِهِ أَخْذَ الْحَذَرِ, ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} إنما أريد

_ 1 قوله: "هوي" بفتح الهاء وضمها كسر الواو وتشديد الياء: الحين الطويل من الليل "لمصححه".

بِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَ الْإِمَامِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} , وَلَوْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ بَدِيًّا لَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا بَدِيًّا لَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} , فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ جَمِيعًا; لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَارَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ, وَذَلِكَ أَوْلَى بِطَمَعِ الْعَدُوِّ فِيهِمْ; إذْ قَدْ صَارَتْ الطَّائِفَتَانِ جَمِيعًا فِي الصَّلَاةِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قوله: {وَلْيَأْخُذُوا وَأَسْلِحَتَهُمْ} إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى; وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي تَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ بَدِيًّا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الصَّلَاةِ, وَأَنَّهَا إنَّمَا تَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ مَجِيئِهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَلِذَلِكَ أُمِرَتْ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ جَمِيعًا لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فِي الصَّلَاةِ فَيَشْتَدُّ طَمَعُ الْعَدُوِّ فِيهَا لِعِلْمِهِمْ بِاشْتِغَالِهَا بِالصَّلَاةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ بِعُسْفَانَ1 بَعْدَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ: "دَعُوهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ بَعْدَهَا صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ, فَإِذَا صَلُّوهَا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ" فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوْفَ; وَلِذَلِكَ أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ جَمِيعًا, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا جَازَ أَخْذُ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ عَمَلٌ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِيهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} إخْبَارٌ عَمَّا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْإِيقَاعِ بِالْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ, فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} فِيهِ إبَاحَةُ وَضْعِ السِّلَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالْوَحْلِ وَالطِّينِ; وَسَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَذَى الْمَطَرِ وَالْمَرَضِ وَرَخَّصَ فِيهِمَا جَمِيعًا فِي وَضْعِ السِّلَاحِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي وَحْلٍ وَطِينٍ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْإِيمَاءِ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّى بَيْنَ أَذَى الْمَطَرِ وَالْمَرَضِ فِيمَا وَصَفْنَا, وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ الْعَدُوِّ وَأَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْهُ فَيَكُونُ سِلَاحُهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُمْ أَخْذُهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ. قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الذِّكْرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] يُرْوَى أَنَّ عَبْدَ الله بن

_ 1 قوله: "أَلَا تَرَى أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لأصحابه بعسفان إلى آخره" لأن خالدا رضي الله عنه لم يكن إذ ذاك أسلم وكان قائدا للمشركين في تلك الغزوة كما في صحيح أبي داود "لمصححه".

مَسْعُودٍ رَأَى النَّاسَ يَصِيحُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا هَذَا النُّكْرُ؟ قَالُوا: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] ؟ فَقَالَ: إنَّمَا يَعْنِي بِهَذِهِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ إنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا, وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَصَلِّ عَلَى جَنْبِك. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] : هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فعلى جنبه.

مطلب: الذكر على وجهين أفضلهما القلبي وهو الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله إلى آخره فَهَذَا الذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الصَّلَاةِ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى, وَفِيهَا أَيْضًا أَذْكَارٌ مَسْنُونَةٌ وَمَفْرُوضَةٌ. وَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي فِي قَوْله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} فَلَيْسَ هُوَ الصَّلَاةُ, وَلَكِنَّهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ, وَهُوَ الْفِكْرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِيمَا فِي خَلْقِهِ وَصُنْعِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى حُكْمِهِ وَجَمِيلِ صُنْعِهِ. وَالذِّكْرُ الثَّانِي: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ; وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ إلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ", وَالذِّكْرُ الْأَوَّلُ أَشْرَفُهُمَا وَأَعْلَاهُمَا مَنْزِلَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الذِّكْرِ الصَّلَاةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "فَإِذَا رَجَعْتُمْ إلَى الْوَطَنِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ فَأَتِمُّوا الصَّلَاةَ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ". وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: "فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُتِمُّوا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا غَيْرَ مُشَاةٍ وَلَا رُكْبَانٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ تَأَوَّلَ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} عَلَى أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ, جَعَلَ قَوْلَهُ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عَلَى إتْمَامِ الرَّكَعَاتِ عِنْدَ زَوَالِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ فِعْلِهَا بِالْإِيمَاءِ أَوْ عَلَى إبَاحَةِ الْمَشْيِ فِيهَا, جَعَلَ قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أَمْرًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَفْعُولَةِ قَبْلَ الْخَوْفِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} . رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطِيَّةَ: "مَفْرُوضًا". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "مَوْقُوتًا مُنَجَّمًا, كُلَّمَا مَضَى نَجْمٌ جَاءَ نَجْمٌ آخَرُ". وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِثْلَ ذَلِكَ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ إيجَابَ الفرض ومواقيته; لأن قوله تعالى: {كِتَاباً} معناه فرضا, وقوله: {مَوْقُوتاً} مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ مُعَيَّنَةٍ, فَأَجْمَلَ ذِكْرَ الْأَوْقَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَحْدِيدِ أَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا, وَبَيَّنَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْدِيدَهَا وَمَقَادِيرَهَا. فَمِمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ قَوْلَهُ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] ذَكَرَ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قَالَ: "إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ" {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] قَالَ: "بُدُوُّ اللَّيْلِ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ". وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي دُلُوكِهَا أَنَّهُ زَوَالُهَا. وَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "إنَّ دُلُوكَهَا غُرُوبُهَا" وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ نَحْوُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا تَأَوَّلُوا الْآيَةَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ الزَّوَالِ وَمِنْ الْغُرُوبِ دَلَّ عَلَى احْتِمَالِهَا لَهُمَا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِمَا; وَالدُّلُوكُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ, فَدُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا, وَقَدْ تَمِيلُ تَارَةً لِلزَّوَالِ وَتَارَةً لِلْغُرُوبِ; وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ دُلُوكَهَا هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ وَغَسَقَ اللَّيْلِ نِهَايَتُهُ وَغَايَتُهُ; لِأَنَّهُ قَالَ: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَ "إلَى" غَايَةٌ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَا يَتَّصِلُ بِغَسَقِ اللَّيْلِ; لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَقْتُ الْعَصْرِ, فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالدُّلُوكِ هَهُنَا هُوَ الْغُرُوبُ وَغَسَقُ اللَّيْلِ هَهُنَا هُوَ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ; لِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَتَّصِلُ بِغَسَقِ اللَّيْلِ وَيَكُونُ نِهَايَةً لَهُ; وَاحْتِمَالُ الزَّوَالِ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ; لِأَنَّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقْتُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ, فَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِصَلَاةٍ, فَيَدْخُلُ فِيهِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَتَمَةُ أَيْضًا; لِأَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَالْمَرَافِقُ دَاخِلَةٌ فيها, وقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا} [النساء: 43] وَالْغُسْلُ دَاخِلٌ فِي شَرْطِ الْإِبَاحَةِ; فَإِنْ حُمِلَ الْمَعْنَى عَلَى الزَّوَالِ انْتَظَمَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ. ثُمَّ قَالَ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَهُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ, فَتَنْتَظِمُ الْآيَةُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ; وَهَذَا مَعْنًى قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ إفْرَادُهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِالذِّكْرِ; إذْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَقْتٌ لَيْسَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ, فَأَبَانَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى وَقْتِ الْعَتَمَةِ وَقْتًا لِصَلَوَاتٍ مَفْعُولَةٍ فِيهِ, وَأَفْرَدَ الْفَجْرَ بِالذِّكْرِ; إذْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظُّهْرِ فَاصِلَةُ وَقْتٍ لَيْسَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا بَيَانَ وَقْتِ صَلَاتَيْنِ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالدُّلُوكِ الْغُرُوبَ وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ

عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الظُّهْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْفَجْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] أَقِمْ الصَّلَاةَ مَعَ غَسَقِ اللَّيْلِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وَمَعْنَاهُ: مَعَ أَمْوَالِكُمْ; وَيَكُونُ غَسَقُ اللَّيْلِ حِينَئِذٍ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَقْتَ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ; وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "دُلُوكُ الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تَجِبُ الشَّمْسُ"; قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "دُلُوكُ الشَّمْسِ: حِين تَجِبُ, إلَى غَسَقِ: اللَّيْلِ حِين يَغِيبُ الشَّفَقُ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: "هَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ", وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "غَسَقُ اللَّيْلِ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ", وَقَالَ الْحَسَنُ: "غَسَقُ اللَّيْلِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ", وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "غَسَقُ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ". وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: "غَسَقُ اللَّيْلِ انْتِصَافُهُ". وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "غَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ". فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا احْتِمَالٌ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] , رَوَى عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] قَالَ: "صَلَاةُ الْفَجْرِ, وَالْأُخْرَى الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ" {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] قَالَ: "الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ". فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] قَالَ: "الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ". وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] الْفَجْرَ {وَعَشِيّاً} [الروم: 18] الْعَصْرَ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] الظُّهْرَ". وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ. وَرَوَى أَبُو رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] قَالَ: "الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ" وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] . وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةٌ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ أَيْضًا. فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا فِيهَا ذِكْرُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لَهَا, إلَّا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الدُّلُوكِ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ أَوَّلَ وَقْتٍ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ, وَوَقْتُ الزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ مَعْلُومَانِ, وقَوْله تَعَالَى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ نِهَايَةِ الْوَقْتِ بِلَفْظٍ غَيْرِ مُحْتَمِلٍ لِلْمَعَانِي, وَقَوْلُهُ: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَغْرِبَ كَانَ مَعْلُومًا, وَكَذَلِكَ {تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لِأَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ مَعْلُومٌ, وَقَوْلُهُ: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود:

114] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَحْدِيدِ الْوَقْتِ لَاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَسَطَ النَّهَارِ هُوَ وَقْتُ الزَّوَالِ, فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ فَهُوَ طَرَفٌ, وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَهُوَ طَرَفٌ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَصْرَ; لِأَنَّ آخِرَ النَّهَارِ مِنْ طَرَفِهِ; وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَصْرَ دُونَ الظُّهْرِ; لِأَنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَهُ أَوْ نِهَايَتَهُ وَآخِرَهُ وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا قَرُبَ مِنْ الْوَسَطِ طَرَفًا; إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يُونُسُ أَنَّهُ الْعَصْرُ, وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْآيَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ طَرَفَ الثَّوْبِ مَا يَلِي نِهَايَتَهُ وَلَا يُسَمَّى مَا قَرُبَ مِنْ وَسَطِهِ طَرَفًا؟ فَهَذِهِ الْآيُ دَالَّةٌ عَلَى أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] الْآيَةَ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وِتْرٌ; لِأَنَّ الشَّفْعَ لَا وَسَطَ لَهُ, وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا فَرْضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ "أُمِرَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً, وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ رَبَّهُ التَّخْفِيفَ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ عَلَى خَمْسٍ", وَهَذَا عِنْدَنَا كَانَ فَرْضًا مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْفَرْضِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَلَيْسَ هُوَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا; لِأَنَّ الْفَرْضَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي بَيَانِ تَحْدِيدِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ, وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفَتْ فِي بَعْضٍ.

وَقْتُ الْفَجْرِ فَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي الَّذِي يَعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ; وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ1 هَكَذَا وَجَمَعَ كَفَّهُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَمَدَّ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ". وَرَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمْ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ, فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمْ الْأَحْمَرُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفَجْرُ فَجْرَانِ فَجْرٌ يَحِلُّ فِيهِ الطَّعَامُ وَتَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ, وَفَجْرٌ تَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ وَيَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ". وَرَوَى نَافِعُ بْنُ جبير في

_ 1 قوله: "أن يقول إلى آخره" ذكر ابن الأثير في النهاية وغيره من أئمة اللغة أن العرب تجعل القول عبارة عن الفعل وتطلقه على غير الكلام يقول قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى وقال بثوبه أي رفعه وكل ذلك على المجاز والاتساع "لمصححه".

حَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَّهُ عِنْدَ الْبَيْتِ, فَصَلَّى الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرَّمَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَى الصَّائِمِ, فَهَذَا أَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ; وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَارُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَهُوَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ; وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: "وَقْتُ الصُّبْحِ الْإِغْلَاسُ وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ, وَآخِرُ وَقْتِهَا إذَا أَسْفَرَ" وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ وَكَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ إلَى بَعْدِ الْإِسْفَارِ, لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَكُونُ فَائِتَةً إذَا أَخَّرَهَا إلَى بَعْدِ الْإِسْفَارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ" وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا, وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ, وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ" , فَأَلْزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْرِكَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوَقْتِ جَمِيعَ الصَّلَاةِ, مِثْلَ الْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالصَّبِيُّ يَبْلُغُ وَالْكَافِرُ يُسْلِمُ; فَثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشمس.

وَقْتُ الظُّهْرِ وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَهُوَ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] وَقَالَ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالْغُرُوبَ جَمِيعًا وَهُوَ عَلَيْهِمَا, فَتَنْتَظِمُ الْآيَةُ الْأَمْرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَبَيَانِ أَوَّلِ وَقْتَيْهِمَا. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَبُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ حِينَ أَمَّهُ جِبْرِيلُ, وَأَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ; وَفِي بَعْضِهَا ابْتِدَاءُ اللَّفْظِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ" وَهِيَ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ أَسَانِيدِهَا وَسِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا; فَصَارَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ مَعْلُومًا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ, فَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ: أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ أَقَلَّ مِنْ قَامَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى, وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ: أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ, وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "هُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ". وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

وَيُحْتَجُّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْمِثْلَيْنِ فِي آخِرِ وقت الظهر بظاهر قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْعَصْرِ بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ; لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ فَهُوَ أَوْلَى بِاسْمِ الطَّرَفِ, وَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ مِنْ الْمِثْلَيْنِ فَمَا قَبْلَهُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ, لِحَدِيثِ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ". وَيُحْتَجُّ أَيْضًا لِهَذَا الْقَوْلِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدُّلُوكَ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ, فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ امْتِدَادَ الْوَقْتِ إلَى الْغُرُوبِ, إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلظُّهْرِ, فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ إلَى الْمِثْلَيْنِ بِالظَّاهِرِ. وَيُحْتَجُّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ, وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ قَبْلَكُمْ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مَا بَيْنَ غُدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِمَا بَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى, ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً قَالَ هَلْ نُقِصْتُمْ مِنْ جُعْلِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا, قَالَ فَإِنَّمَا هُوَ فضلي أوتيه من أشاء". .

مطلب: في بيان قوله عليه السلام: "يبعثت أنا والساعة" وأن ذلك مقدر بنصف السبع من مدة الدنيا وَدَلَالَةُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: "أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنْ قِصَرِ الْوَقْتِ; وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وَجَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى, وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: كَمَا بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ", فَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الدُّنْيَا كَنُقْصَانِ السَّبَّابَةِ عَنْ الْوُسْطَى, وَقَدْ قُدِّرَ ذَلِكَ بِنِصْفِ السَّبْعِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ حِينَ شَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَلَنَا فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَنَا بِوَقْتِ الْعَصْرِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمِثْلِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْخَبَرِ: الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَنَا وَلِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِالْعَمَلِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ, وَأَنَّهُمْ غَضِبُوا فَقَالُوا: كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً; فَلَوْ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الْمِثْلِ لَمَا كَانَتْ النَّصَارَى أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ, بَلْ كَانَ يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ عَمَلًا; لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْمِثْلِ إلَى الْغُرُوبِ أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ الزَّوَالِ إلَى الْمِثْلِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ وَقْتَيْ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا أَطْوَلُ مِنْ وَقْتِ الْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ عَلَى حِيَالِهِ دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا مَجْمُوعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ وَلَيْسَا بِمَجْمُوعِهِمَا أَقَلَّ عَطَاءً; لِأَنَّ عَطَاءَهُمَا جَمِيعًا هُوَ مِثْلُ عَطَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ بَشِيرِ بْن أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ, فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الظُّهْرَ فَأَخْبَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بَعْدَ الْمِثْلِ فَأَمْرِهِ بِفِعْلِ الظُّهْرِ; فَلَوْ كَانَ مَا بَعْدَ الْمِثْلِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ لَكَانَ قَدْ أَخَّرَ الظُّهْرَ عَنْ وَقْتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ, وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدَ الْمِثْلِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ, وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ, وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَوَقْتُ الْعَصْرِ وَاحِدًا فِيمَا صَلَّاهُمَا فِي الْيَوْمَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ فَرَاغِهِ مِنْ الظُّهْرِ مِنْ الْأَمْسِ. قِيلَ لَهُ: فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الْعَصْرَ, وَأَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الظُّهْرَ; فَأَخْبَرَ أَنَّ مَجِيئَهُ إلَيْهِ وَأَمْرَهُ إيَّاهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ بَعْدَ الْمِثْلِ, وَهَذَا يُسْقِطُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى" , ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَنْسُوخٌ, وَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ, وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتَ الْحُكْمِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْآخَرُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ, وَأَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مِنْهُمَا ثَابِتًا; وَالْآخَرُ مِنْ الْفِعْلَيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بَعْدَ الْمِثْلِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْمِثْلِ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ: أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَهَا الصُّفْرَةُ, وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بن بريدة عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ; وَلَا يُقَالُ هَذَا فِيمَنْ صَلَّاهَا حِينَ يَصِيرُ الظِّلُّ مِثْلَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ. رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ, مِنْهُمْ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَشُعَيْبٌ وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ, وَرَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ

عُرْوَةَ, فَذَكَرَ فِيهِ مَقَادِيرَ الْفَيْءِ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا. فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُرْوَى عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ, فَذَكَرَ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الظُّهْرَ, وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي جَاءَهُ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الْعَصْرَ. وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مِقْدَارَ الْفَيْءِ وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ لَمْ تَدْخُلْهَا صُفْرَةٌ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ فِي تَعْجِيلِ الْعَصْرِ قَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يَقُولُ بِالْمِثْلِ, وَفِيهَا احْتِمَالٌ لِمَا قَالُوهُ وَلِغَيْرِهِ, فَلَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْمِثْلِ دُونَ غَيْرِهِ, إذْ لَا حُجَّةَ فِي الْمُحْتَمَلِ; مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ, ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي فَيَجِدُهُمْ لَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ, قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَوَالِي عَلَى الْمِيلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ. وَرَوَى أَبُو وَاقَدٍ اللَّيْثِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَرْوَى قَالَ: كُنْت أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بِالْمَدِينَةِ, ثُمَّ أَمْشِي إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ يَسِيرُ الرَّجُلُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْهَا إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْفَيْءُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: لَمْ يَفِئْ الْفَيْءُ بَعْدُ. لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ ذِكْرُ تَحْدِيدِ الْوَقْتِ, وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمُضِيِّ إلَى الْعَوَالِي وَذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَيْسَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْوَقْتِ; لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْإِبْطَاءِ وَالسُّرْعَةِ فِي الْمَشْيِ. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْمِثْلِ وَقْتٌ لِلظُّهْرِ; لِأَنَّ الْإِبْرَادَ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمِثْلِ بَلْ أَشَدُّ مَا يَكُونُ الْحَرُّ فِي الصَّيْفِ عِنْدَمَا يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. وَمَنْ قَالَ بِالْمِثْلِ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ عِنْدَ الزَّوَالِ وَالْفَيْءُ قَلِيلٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ, فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي فِي الشَّمْسِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا; وَكَذَلِكَ قَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا, ثُمَّ قَالَ: "أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ" فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا بَعْدَمَا يَفِيءُ الْفَيْءُ, فَهَذَا هُوَ الْإِبْرَادُ الْمَأْمُورُ بِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْمِثْلِ. وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ, فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَرُدُّهُ الْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْمَوَاقِيتِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْيَوْمَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ, ثُمَّ قَالَ: "مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ" , وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ" , وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ

وَقْتُ الْعَصْرِ" , فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ وَقْتَ الْعَصْرِ وَقْتًا لِلظُّهْرِ مَعَ إخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ. وَقَدْ نَقَلَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَمَلًا وَقَوْلًا, كَمَا نَقَلُوا وَقْتَ الْفَجْرِ وَوَقْتَ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ, وَعَقَلُوا بِتَوْقِيفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ مِنْهَا مَخْصُوصَةٌ بِوَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْأُخْرَى. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: "التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى". وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَارِكَ الظُّهْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ مُفَرِّطٌ; فَثَبَتَ أَنَّ لِلظُّهْرِ وَقْتًا مَخْصُوصًا, وَكَذَلِكَ الْعَصْرُ, وَأَنَّ وَقْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرُ وَقْتِ الْأُخْرَى, وَلَوْ كَانَ الْوَقْتَانِ جَمِيعًا وَقْتًا لِلصَّلَاتَيْنِ لَجَازَ أَنْ يُصَلَّى الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَمَّا كَانَ لِلْجَمْعِ بِعَرَفَةَ خُصُوصِيَّةٌ; وَفِي امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ مُنْفَرِدَةٌ بِوَقْتِهَا. فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَأَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الزَّوَالُ, وَجُعِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَقْتًا لِلظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ; لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ الْغُرُوبُ. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ, وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِي فِعْلِ الظُّهْرِ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى اللَّيْلِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةٌ أُخْرَى يَفْعَلُهَا وَهِيَ إمَّا الْعَصْرُ وَإِمَّا الْمَغْرِبُ, وَالْمَغْرِبُ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْآيَةِ لِاتِّصَالِ وَقْتِهَا بِغَسَقِ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ; فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِزَوَالِ الشَّمْسِ, وَأَقِمْهَا أَيْضًا إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ; وَهِيَ صَلَاةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى, فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ, وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: "مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَزِمَتْهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ جَمِيعًا, وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ إذَا طَهُرَتْ وَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ "; وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ اخْتِيَارٍ فَهُوَ وَقْتُ الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ أَوْ يُعَجِّلَ الْعَصْرَ فَيُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مَعَهَا, فَجَعَلَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُمَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا اعْتِبَارًا صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنْ تَلْزَمَهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا, كَمَا أَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ لَزِمَتْهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا, وَقَدْ أَدْرَكَتْ هَذِهِ الَّتِي حَاضَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَجُوزُ لَهَا فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ; وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ غَيْرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَأَنَّهُ لَا تَلْزَمُ أَحَدًا صَلَاةُ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِهِ وَقْتَ الْعَصْرِ دون وقت الظهر.

وَقْتُ الْعَصْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ, وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَوَقْتِ الْعَصْرِ وَاسِطَةٌ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِهِمَا; وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ أَقَلَّ مِنْ قَامَتَيْنِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ, فَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ, وَهِيَ أَيْضًا مُخَالِفَةٌ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ; وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: "التَّفْرِيطُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى". وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ: إمَّا الْمِثْلَانِ وَإِمَّا الْمِثْلُ, وَأَنَّ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ, وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ, وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِنَهْيِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الْغُرُوبُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَاتَهُ الْعَصْرُ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ" , فَجَعَلَ فَوَاتَهَا بِالْغُرُوبِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ" , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا إلَى الْغُرُوبِ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ" , فَإِنَّ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ وَبَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ, كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ نِصْفُ اللَّيْلِ" وَمُرَادُهُ الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ, وَأَنَّ مُدْرِكَهُ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ الْإِسْلَامِ يَلْزَمُهُ فَرْضُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَلَمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ". فَقَدْ يَكُونُ وَقْتٌ يَلْزَمُ بِهِ مُدْرِكُهُ الْفَرْضَ وَيُكْرَهُ لَهُ تَأْخِيرُهَا إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْفَارُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةِ وَلَمْ تُخْرِجْهُ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهَا؟ فَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا تَقْدِيرُ آخِرِ الْوَقْتِ بِاصْفِرَارِ الشَّمْسِ وَارِدَةٌ عَلَى فَوَاتِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا لَهُ من أهله وماله.

وَقْتُ الْمَغْرِبِ أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ تَغْرُبُ الشَّمْسُ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذلك, وقال

اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَهُوَ يَقَعُ عَلَى الْغُرُوبِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] وَهُوَ مَا قَرُبَ مِنْهُ مِنْ النَّهَارِ, وَهُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] قِيلَ فِيهِ إنَّهُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ. وَفِي أَخْبَارِ الْمَوَاقِيتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. وَقَدْ ذَهَبَ شَوَاذٌّ مِنْ النَّاسِ إلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ يَطْلُعُ النَّجْمُ, وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو تَمِيمٍ الْجَيَشَانِيُّ عَنْ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الْعَصْرِ فَقَالَ: "إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا, فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا مِنْكُمْ أُوتِيَ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ, وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ; وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ". وَهَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ لَا تُعَارَضُ بِهِ الْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ; وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُثْمَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ أَبِي بُصْرَةَ فِي ذِكْرِ طُلُوعِ الشَّاهِدِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ النَّجْمَ قَدْ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ اخْتِلَاطِ الظَّلَامِ, فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرَى بَعْضُ النُّجُومِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جُعِلَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِرُؤْيَةِ النَّجْمِ لَوَجَبَ أَنْ تُصَلَّى قَبْلَ الْغُرُوبِ إذَا رُئِيَ النَّجْمُ; لِأَنَّ بَعْضَ النُّجُومِ قَدْ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَبْلَ الْغُرُوبِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِعْلُهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ مَعَ رُؤْيَةِ الشَّاهِدِ, فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ طُلُوعِ الشَّاهِدِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلٌ وَآخِرٌ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ". ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ لَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا فِي آخِرِ وَقْتِهَا, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "آخِرُ وَقْتِهَا أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ". ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "الشَّفَقُ الْبَيَاضُ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ أَيْضًا فِي الشَّفَقِ مَا هُوَ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "هُوَ الْبَيَاضُ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الْحُمْرَةُ". فَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُ الْحُمْرَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن عمر

وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ. حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ شُعَيْبٍ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ الْعَصَّارُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ الْبَزَّازُ قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَيَّاجٍ عَمَّنْ ذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ". قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ". قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ يُصَلِّيَانِ الْعِشَاءَ إذَا غَابَتْ الْحُمْرَةُ وَيَرَيَانِهَا الشَّفَقَ". فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ الْحُمْرَةُ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الشَّفَقَ الْبَيَاضُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ; حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرْجِ قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْكَلَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ: "إنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبُ الشَّفَقِ", وَمَغِيبُهُ إذَا اجْتَمَعَ الْبَيَاضُ مِنْ الْأُفُقِ فَيَنْقَطِعُ, فَذَلِكَ أَوَّلُ وَقْتِهَا. قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن غنم عن معاذ بن جبل قال: "الشَّفَقُ الْبَيَاضُ".قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَمَّنْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الشَّفَقُ الْبَيَاضُ".

فَصْلٌ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ, قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ الْغُرُوبُ وَاحْتِمَالُ اللَّفْظِ لَهُ, فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلٌ وَآخِرُ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] غَايَةٌ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ, فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ الْغُرُوبِ إلَى اجْتِمَاعِ الظُّلْمَةِ, وَفِي ذَلِكَ مَا يَقْضِي بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا مُقَدَّرًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَسْقُطُ الشَّمْسُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ, فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَصَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ وَقَعَتْ الشَّمْسُ وَآخِرُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ, ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ مَعَنَا فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ, ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ

الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ; وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ". وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِأَطْوَلِ الطُّوَلِ1 وَهِيَ: المص. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِ الْوَقْتِ, وَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ لَكَانَ مَنْ قَرَأَ: "المص" قَدْ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ; وَفِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ, وَإِخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ, فَهُوَ أَوْلَى; لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ الْخَبَرَيْنِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِعْلَهُ لَهَا فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا يُعَارِضُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ, كَمَا لَمْ يَدُلَّ فِعْلُهُ لِلْعَصْرِ فِي الْيَوْمَيْنِ قَبْلَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ, وَكَفِعْلِهِ لِلْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي الْيَوْمَيْنِ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ لَمَّا كَانَ لِأَوْقَاتِهَا أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَلَمْ تَكُنْ أَوْقَاتُهَا مُقَدَّرَةً بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْرِبُ كَذَلِكَ; فَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْوَقْتَ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ مُخَالِفٌ لِلْأَثَرِ وَالنَّظَرِ جَمِيعًا. وَمِمَّا يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ فِي هَذَا أَنَّهُ يُجِيزُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إمَّا لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ كَمَا يُجِيزُهُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ, فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ لَيْسَ مِنْهُمَا لَمَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا, كَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ لَيْسَ مِنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ عِلَّةُ الْجَمْعِ تَجَاوُرَ الْوَقْتَيْنِ; لِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْمَغْرِبَ إلَى الْعَصْرِ مَعَ تَجَاوُرِ الْوَقْتَيْنِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُلْزِمْهُ أَنْ يَجْعَلَ تَجَاوُرَ الْوَقْتَيْنِ عِلَّةً لِلْجَمْعِ, وإنما ألزمناه

_ 1 قوله: "باطول الطول" الطول بالضم جمع الطولى مثل الكبر في الكبرى. وفي الحديث: "أوتيت السبع الطول" أي البقر وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة" والمراد بالطول ههنا الطوليان كما هو في حديث أم سلمة ولفظه: أنه كان يقرأ في المغرب بطولى الطوليين. قال في النهايةى: أي انه كان يقرا فييها بأطول السورتين الطويلتين تعني الأنعام والأعراف. "لمصححه".

الْمَنْعَ مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْتَانِ مُتَجَاوِرَيْنِ; لِأَنَّ كُلَّ صَلَاتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ لَيْسَ مِنْهُمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

ذِكْرُ الْقَوْلِ فِي الشَّفَقِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشَّفَقِ, فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: "هُوَ الْحُمْرَةُ" وَقَالَ آخَرُونَ: "الْبَيَاضُ". عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَيَقَعُ عَلَيْهِمَا فِي اللُّغَةِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِمَا; إذْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْقُرْءِ فَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَيْضِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الطُّهْرِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا؟ وَإِنَّمَا نَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ نَسْتَدِلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُمَا بِالْآيَةِ. وَحَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ قَالَ: سُئِلَ ثَعْلَبٌ عَنْ الشَّفَقِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: الْبَيَاضُ; فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: الشَّوَاهِدُ عَلَى الْحُمْرَةِ أَكْثَرُ, فَقَالَ ثَعْلَبٌ: إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الشَّاهِدِ مَا خَفِيَ فَأَمَّا الْبَيَاضُ فَهُوَ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الشَّاهِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَ الشَّفَقِ الرِّقَّةُ, وَمِنْهُ يُقَالُ ثَوْبٌ شَفَقٌ, وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُهُ كَذَلِكَ فَالْبَيَاضُ أَخَصُّ بِهِ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَجْزَاءِ الرَّقِيقَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ضِيَاءِ الشَّمْسِ, وَهُوَ فِي الْبَيَاضِ أَرَقُّ مِنْهُ فِي الْحُمْرَةِ; وَيَشْهَدُ لِمَنْ قَالَ بِالْحُمْرَةِ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: حَتَّى إذَا الشَّمْسُ اجْتَلَاهَا الْمُجْتَلِي ... بَيْنَ سِمَاطَيْ شَفَقٍ مُهْوَلِ1 فَهِيَ عَلَى الْأُفْقِ كَعَيْنِ الْأَحْوَلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْحُمْرَةَ; لِأَنَّهُ وَصَفَهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْبَيَاضِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] , قَالَ مُجَاهِدٌ: "هُوَ النَّهَارُ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:17] فَأَقْسَمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّفَقُ الْبَيَاضَ; لِأَنَّ أَوَّلَ النَّهَارِ هُوَ طُلُوعُ بَيَاضِ الْفَجْرِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْبَيَاضِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ هُوَ الشَّفَقُ وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَيَاضُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدُّلُوكَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْغُرُوبِ, ثُمَّ جُعِلَ غَسَقُ اللَّيْلِ غَايَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ: "أَنَّهُ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ" وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ لِأَنَّ الْبَيَاضَ مَا دَامَ بَاقِيًا فَالظُّلْمَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأُفُقِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ إلَى غيبوبة البياض, فثبت أن المراد البياض.

_ 1 قوله: "مهول" هوالذي فيه تهاويل وهي اللوان المختلفة م ىحمرة وصفرة وغيرهما. "لمصححه".

فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ هُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ. قِيلَ لَهُ: الْمَشْهُورُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ هُوَ غُرُوبُهَا, وَمُحَالٌ إذَا كَانَ الدُّلُوكُ عِنْدَهُ الْغُرُوبُ أَنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ غُرُوبُ الشَّمْسِ أَيْضًا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَجَعَلَ الدُّلُوكَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَغَسَقَ اللَّيْلِ آخِرَهُ, وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ ابْتِدَاءً هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ غَايَةً وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالرَّاوِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ هُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ غَالَطَ فِي رِوَايَتِهِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَةٌ مَشْهُورَةٌ أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا وَأَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ; وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى مَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ", وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ عَلَى مَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ الدُّلُوكِ أَنَّهُ الزَّوَالُ; إلَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "غَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ", وَهَذَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ وَقْتُ الْغُرُوبِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ وَقْتَ الْغُرُوبِ لَا يَكُونُ ظُلْمَةً مُجْتَمِعَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ أَنَّهُ انْتِصَافُهُ, وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: غَسَقُ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظِ الْآيَةِ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ وَذَهَابُ الْبَيَاضِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَسَقُ اللَّيْلِ هُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ لَكَانَتْ الْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْوَقْتِ هِيَ وُجُودُ اللَّيْلِ فَحَسْبُ, فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى اللَّيْلِ; وَتَسْقُطُ مَعَهُ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْغَسَقِ مَعَ اللَّيْلِ. وَلَمَّا وَجَبَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظٍ مِنْهُ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ قَدْ أَفَادَ مَا لَمْ يُفِدْنَاهُ لَوْ قَالَ: إلَى اللَّيْلِ; فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِيهِ اجْتِمَاعَ الظُّلْمَةِ دُونَ وُجُودِ اللَّيْلِ عَارِيًّا مِنْ اجْتِمَاعِهَا. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْبَيَاضُ حَدِيثُ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِشَاءَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ حِينَ اسْوَدَّ الْأُفُقُ وَرُبَّمَا أَخَّرَهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ, فَأَخْبَرَ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَائِلِ أَوْقَاتِهَا, وَأَخْبَرَ عَنْهَا فِي أَوَاخِرِهَا, وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ اسْوِدَادَ الْأُفُقِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَقَاءَ الْبَيَاضِ يَمْنَعُ إطْلَاقَ الِاسْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ غَيْبُوبَةُ الْبَيَاضِ. وَمَنْ يَأْبَى هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: "حِينَ اسْوَدَّ الْأُفُقُ" لَا يَنْفِي بَقَاءَ الْبَيَاضِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ اسْوِدَادِ أُفُقٍ مِنْ الْآفَاقِ لَا عَنْ جَمِيعِهَا, وَلَوْ أَرَادَ غَيْبُوبَةَ الْبَيَاضِ لَقَالَ: حِينَ اسْوَدَّتْ الْآفَاقُ; وَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَبْقَى الْبَيَاضُ وَتَكُونَ سَائِرُ الْآفَاقِ غَيْرَ مَوْضِعِ الْبَيَاضِ مُسَوَّدَةً. وَيَحْتَجُّ الْقَائِلُونَ بِالْبَيَاضِ أَيْضًا

بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ يَسْتَوِي الْأُفُقُ, وَرُبَّمَا أَخَّرَهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ; وَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ" حِينَ اسْوَدَّ الْأُفُقُ". وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْحُمْرَةِ مَا رَوَى ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ مَعِي. فَصَلَّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ. قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الْحُمْرَةِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْبَيَاضَ; وَلَا تَكُونُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ مُعَارِضَةً لِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا, مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَعْنَاهُ: بَعْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ الَّذِي هُوَ الْحُمْرَةُ; إذْ كَانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ وَلَا يَتَضَادَّا, وَمَنْ يَجْعَلُ الشَّفَقَ الْبَيَاضَ يَجْعَلُ خَبَرَ جَابِرٍ مَنْسُوخًا عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَوَاقِيتِ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْتَ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ. ومما يحتج به القائلون بالحمرة مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَآخِرُهُ غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ". وَفِي بَعْضِ أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ فَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ" وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ"1 قَالُوا: فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَوَّلِهِمَا وَهُوَ الْحُمْرَةُ; وَمَنْ يَقُولُ بِالْبَيَاضِ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ يَقْتَضِي غَيْبُوبَةَ جَمِيعِهِ وَهُوَ بِالْبَيَاضِ, فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَاضِ دُونَ الْحُمْرَةِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ قَدْ غَابَ الشَّفَقُ إلَّا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ جَمِيعِهِ, كَمَا لَا يُقَالُ غَابَتْ الشَّمْسُ إلَّا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ جَمِيعِهَا دُونَ بَعْضِهَا. وَلِمَنْ قَالَ بِالْحُمْرَةِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْبَيَاضَ وَالْحُمْرَةَ لَيْسَا شَفَقًا وَاحِدًا بَلْ هُمَا شَفَقَانِ فَيَتَنَاوَلُ الِاسْمُ أَوَّلَهُمَا غَيْبُوبَةً; كَمَا أَنَّ الْفَجْرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ هُمَا فَجْرَانِ وَلَيْسَا فَجْرًا وَاحِدًا, فَيَتَنَاوَلُهُمَا إطْلَاقُ الِاسْمِ مَعًا كَذَلِكَ الشَّفَقُ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْقَائِلَيْنِ بِالْبَيَاضِ, حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ, وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي غَيْبُوبَةَ الْبَيَاضِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَلَا يَمْتَنِعُ بَقَاءُ الْبَيَاضِ بَعْدَ سُقُوطِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ, وَجَائِزٌ أَنْ يكون قد غاب قبل سقوطه.

_ 1 قوله: "ثور الشفق" بالثاء المثلثة أي وثوران حمرته, من ثار الشيء يثور إذا انتشر واترتفع كما في النهاية. "لمصححه".

مطلب: فيما ذكره الخليل بن أحمد من تردد الشفق الأبيض في الآفاق وعدم مغيبه قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَكَى1 ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: رَاعَيْت الْبَيَاضَ فَرَأَيْته لَا يَغِيبُ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدِيرُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ; وَالْمِحْنَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ; وَقَدْ رَاعَيْتُهُ فِي الْبَوَادِي فِي لَيَالِيِ الصَّيْفِ وَالْجَوُّ نَقِيٌّ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ فَإِذَا هُوَ يَغِيبُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ اللَّيْلِ رُبُعُهُ بِالتَّقْرِيبِ, وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ فَلْيُجَرِّبْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غَلَطُ هَذَا الْقَوْلِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّفَقِ الْبَيَاضُ, أَنَّا وَجَدْنَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حُمْرَةً وَبَيَاضًا قَبْلَهَا وَكَانَا جَمِيعًا مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ; إذْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ ضِيَاءِ الشَّمْسِ دُونَ ظُهُورِ جُرْمِهَا; كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْحُمْرَةُ وَالْبَيَاضُ جَمِيعًا بَعْدَ غُرُوبِهَا مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ, لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

_ 1 قوله: "قال أبو بكر وحكى إلى آخره" ذكره القرطبي في تفسير سورة الانشقاق عن الخليل بن أحمد ان قال: صعدت منارة الاسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردد من أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي اويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر انتهى, وبهذا تعلم أن ما ذكره المصنف رآه في أرض البوادي ولا يلزم من مغيب عن نظر الرامق له من ارض البادية مغيبه عن نظر الرامق من تلك المنارة العالية لما بين المكانين من التباين الكلي في الارتفاع والانحطاط. وقد نقل الزيلعي في كتاب تبين الخقائق أن الشمس لا تغيب عن نظر الرامق لها من منارة الاسكندرية إلا بعد غيابها بزمن طويل عن البلد. "لمصححه".

وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ مِنْ حِينِ يَغِيبُ الشَّفَقُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ إلَى أَنْ يَذْهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ, وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ; وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ, وَلَا تَفُوتُ إلَّا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "وَقْتُ الْعِشَاءِ إذَا سَقَطَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ, وَالنِّصْفُ أَبْعَدُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا أَرَادَا الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تَفُوتُ إلَّا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ, وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} الْآيَةَ هُوَ حَثٌّ عَلَى

الْجِهَادِ وَأَمْرٌ بِهِ وَنَهْيٌ عَنْ الضَّعْفِ عَنْ طَلَبِهِمْ وَلِقَائِهِمْ; لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ هُوَ الطَّلَبُ, يُقَالُ: بَغَيْت وَابْتَغَيْت إذَا طَلَبْت, وَالْوَهَنُ ضَعْفُ الْقَلْبِ وَالْجُبْنُ الَّذِي يَسْتَشْعِرُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَاسْتَدْعَاهُمْ إلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَاسْتِشْعَارِ الْجُرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} , فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُسَاوُونَكُمْ فِيمَا يَلْحَقُ مِنْ الْأَلَمِ بِالْقِتَالِ وَأَنَّكُمْ تَفْضُلُونَهُمْ فَإِنَّكُمْ تَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ, فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْإِقْدَامِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَلَمِ الْجِرَاحِ مِنْهُمْ; إذْ لَيْسَ لَهُمْ هَذَا الرَّجَاءُ وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ. قَوْله تَعَالَى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَعَدَكُمْ اللَّهُ مِنْ النَّصْرِ إذَا نَصَرْتُمْ دِينَهُ, وَالْآخَرُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ; فَدَوَاعِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّصَبُّرِ عَلَى الْقِتَالِ وَاحْتِمَالِ أَلَمِ الْجِرَاحِ أَكْثَرُ مِنْ دَوَاعِي الْكُفَّارِ. وَقِيلَ فِيهِ: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} : تُؤَمِّلُونَ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ مَا لَا يُؤَمِّلُونَ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: وَتَخَافُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَخَافُونَ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] يَعْنِي لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُ: لَا يَكُونُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ إلَّا مَعَ النَّفْيِ وَذَلِكَ حُكْمٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الْآيَةَ. فِيهِ إخْبَارٌ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ والتعبد.

مطلب: في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي رِجْلٍ سَرَقَ دِرْعًا, فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِ رَمَى بِهَا فِي دَارِ يَهُودِيٍّ, فَلَمَّا وُجِدَتْ الدِّرْعُ أَنْكَرَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا, وَذَكَرَ السَّارِقُ أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَخَذَهَا, فَأَعَانَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْآخِذَ عَلَى الْيَهُودِيِّ, فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْلِهِمْ, فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْآخِذِ وَبَرَّأَ الْيَهُودِيَّ مِنْهُ وَنَهَاهُ عَنْ مُخَاصَمَةِ الْيَهُودِيِّ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ مُعَاوَنَتِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ عَنْ السَّارِقِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ نَفْيِهِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَاتَبَ نَبِيَّهُ عَلَى مِثْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُجَادَلَةِ عَنْ الْخَوَنَةِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ كُلُّهُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ مَعُونَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ مُحِقًّا. وقَوْله تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} رُبَّمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ, وَإِنَّ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا كَانَتْ تَصْدُرُ عَنْ النُّصُوصِ, وَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يقول

شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ; لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ مَا صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ مِمَّا أَرَاهُ اللَّهُ وَعَرَّفَهُ إيَّاهُ وَمِمَّا أَوْحَى بِهِ إلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ, فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الِاجْتِهَادِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} : إنه جائز أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ عَنْهُمْ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَمَّ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ مَيْلًا مِنْهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْيَهُودِيِّ; إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُحِقِّينَ; وَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْحَالِ وُجُودُ الدِّرْعِ عِنْدَ الْيَهُودِيِّ فَكَانَ الْيَهُودِيُّ أَوْلَى بِالتُّهْمَةِ وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى بِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ, فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا, فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكُونُ لَهُ مَيْلٌ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَا حُرْمَةٍ لَهُ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وُجُودَ السَّرِقَةِ فِي يَدِ إنْسَانٍ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِهَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ الْحُكْمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ عِنْدَهُ; إذْ كَانَ جَاحِدًا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآخِذُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلُ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ جَعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ, ثُمَّ أَخَذَهُ بِالصَّاعِ وَاحْتَبَسَهُ عِنْدَهُ; لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ جَائِزٌ, وَكَانُوا يَسْتَرِقُّونَ السَّارِقَ, فَاحْتَبَسَهُ عِنْدَهُ; وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُ, وَلَا قَالَ إنَّهُ سَرَقَ, وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ غَيْرُهُ ظَنَّهُ سَارِقًا. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ الْحُكْمِ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى بِقَوْلِهِ: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ". وَقَوْلُهُ: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} , وَقَوْلُهُ: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادَفَ مَيْلًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ بِوُجُودِ الدِّرْعِ الْمَسْرُوقَةِ فِي دَارِهِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَمَّ بِذَلِكَ, فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بَرَاءَةَ سَاحَةِ الْيَهُودِيِّ وَنَهَاهُ عَنْ مُجَادَلَتِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَادِلُونَ عَنْ السَّارِقِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ شَاهِدَةً لِلْخَائِنِ بِالْبَرَاءَةِ سَائِلَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ بِعُذْرِهِ فِي أَصْحَابِهِ وَأَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرَ مُعَاوَنَتَهُ لِمَا ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ الشَّهَادَةِ بِبَرَاءَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ, فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بَاطِنَ أُمُورِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} بِمَسْأَلَتِهِمْ مَعُونَةَ هَذَا الْخَائِنِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَأَعَانُوا الْخَائِنَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُونُوا أَيْضًا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِ الْخَائِنِ وَسَرِقَتِهِ, وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْحُكْمُ جَائِزًا عَلَى الْيَهُودِيِّ بِالسَّرِقَةِ لِأَجْلِ وُجُودِ الدِّرْعِ فِي دَارِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ ضَلَالًا إذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافُهُ, وَإِنَّمَا عَلَى الْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ؟ قِيلَ لَهُ: لَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِظَاهِرِ الْحَالِ ضَلَالًا وَإِنَّمَا الضَّلَالُ إبْرَاءُ الْخَائِنِ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةِ عِلْمٍ, فَإِنَّمَا اجْتَهَدُوا أَنْ يُضِلُّوهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ1: إنَّ الْخَطِيئَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ, وَالْإِثْمُ مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ; فَذَكَرَهُمَا جَمِيعًا لِيُبَيِّنَ حُكْمَهُمَا, وَأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ تَعَمُّدٍ أَوْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَإِنَّهُ إذَا رَمَى بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا, إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ رَمْيُ غَيْرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} الْآيَةَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّجْوَى هُوَ الْإِسْرَارُ; فَأَبَانَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتَسَارُّونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِصَدَقَةٍ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ, وَكُلُّ أَعْمَالِ الْبِرِّ مَعْرُوفٌ لِاعْتِرَافِ الْعُقُولِ بِهَا; لِأَنَّ الْعُقُولَ تَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ مِنْ جِهَةِ إقْرَارِهَا بِهِ وَالْتِزَامِهَا لَهُ وَتُنْكِرُ الْبَاطِلَ مِنْ جِهَةِ زَجْرِهَا عَنْهُ وَتَبَرِّيهَا مِنْهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى سَمَّى أَعْمَالَ الْبِرِّ مَعْرُوفًا, وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ وَالدِّينِ يَعْرِفُونَ الْخَيْرَ لِمُلَابَسَتِهِمْ إيَّاهُ وَعِلْمِهِمْ بِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ الشَّرَّ بِمِثْلِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْخَيْرِ; لِأَنَّهُمْ لَا يُلَابِسُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ, فَسَمَّى أَعْمَالَ الْبِرِّ مَعْرُوفًا وَالشَّرَّ مُنْكَرًا. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بِكَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ أَبُو الْخَلِيلِ عَنْ عُبَيْدَةَ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو جُرَيٍّ2 جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ: رَكِبْت قَعُودِي, ثُمَّ انْطَلَقْت إلَى مَكَّةَ فَأَنَخْت قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ, فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدَانِ مِنْ صُوفٍ فِيهِمَا طَرَائِقُ حُمْرٌ, فَقُلْت: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَامُ قُلْت: إنَّا مَعْشَرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فِينَا الْجَفَاءُ فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَقَالَ: اُدْنُ ثَلَاثًا فَدَنَوْت فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ فَأَعَدْت عَلَيْهِ, فَقَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ فَضْلِ دَلْوِك في إناء المستسقي, وإن امرؤ سبك بما يَعْلَمُ مِنْك3 فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ مِنْهُ فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا, وَلَا تَسُبُّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ" قَالَ أَبُو جُرَيٍّ: وَاَلَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِهِ مَا سَبَبْت بَعْدَهُ شَيْئًا لَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ مُسْلِمٍ الدَّقَّاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصْنَعْ الْمَعْرُوفَ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَإِلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ, فَإِنْ أَصَبْت أَهْلَهُ فَهُوَ أَهْلُهُ وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ فَأَنْتَ

_ 1 قوله: "في الفرق بين الخطيئة إلى آخره" ذكر في الكشاف غير هذا ففسر الخطيئة بالصغيرة والإثم بالكبيرة. "لمصححه". 2 قوله: "أبو جري" بضم الجيم وفتح الراء ونشديد الياء مصغرا جابر بن سليم. "لمصححه". 3 قوله: "بما يعلم منك" ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ: "هو فيك" وفي نسخة شرح عليها المنوي: "بأمر ليس فيك" قال العزيزي: وهو أبلغ. "لمصححه".

أَهْلُهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَا: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "ل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَأَوَّلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا أَهْلُ الْمَعْرُوفِ, صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى وَسَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْرَابِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "نكم لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بسط الوجه وحسن الخلق".

مطلب: وأما الصدقة على الوجوه وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَعَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا: الصَّدَقَةُ بِالْمَالِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَرْضًا تَارَةً وَنَفْلًا أُخْرَى وَمِنْهَا: مَعُونَةُ الْمُسْلِمِ بِالْجَاهِ وَالْقَوْلِ, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ" وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يعجز أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ؟ " قَالُوا: وَمَنْ أَبُو ضَمْضَمٍ؟ قَالَ "رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى مَنْ شَتَمَهُ, فَجَعَلَ احْتِمَالَهُ أَذَى النَّاسِ صَدَقَةً بِعِرْضِهِ عَلَيْهِمْ". قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [لحجرات: 9] وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [لحجرات: 9] وَقَالَ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ, وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ" 1. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْكَلَامَ بِشَرْطِ فِعْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ لِلتَّرَؤُّسِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّأَمُّرِ عَلَيْهِمْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعْدِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية. فإن مشاقة

_ 1 قوله: "الحالقة" وهي الخصلة التي من شأنها أن تخلق وتستأصل الذين كما يستأصل الموسى الشعر, كذا في النهاية. "لمصححه".

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَايَنَتُهُ وَمُعَادَاتُهُ بِأَنْ يَصِيرَ فِي شِقٍّ غَيْرِ الشِّقِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ, وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] هُوَ أَنْ يَصِيرَ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّ الرَّسُولِ, وَهُوَ يَعْنِي مُبَايَنَتَهُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالدِّيَانَةِ. وَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} تَغْلِيظًا فِي الزَّجْرِ عَنْهُ وَتَقْبِيحًا لِحَالِهِ وَتَبْيِينًا لِلْوَعِيدِ فِيهِ; إذْ كَانَ مُعَانِدًا بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَنَ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى مُبَايَنَةِ الرَّسُولِ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ الْوَعِيدِ, فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ لِإِلْحَاقِهِ الْوَعِيدَ بِمَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} إخْبَارٌ عَنْ بَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْهُ وَأَنَّهُ يَكِلُهُ إلَى مَا تَوَلَّى مِنْ الْأَوْثَانِ وَاعْتَضَدَ بِهِ, وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهُ نَصْرَهُ وَمَعُونَتَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} التَّبْتِيكُ التَّقْطِيعُ, يُقَالُ: بَتَّكَهُ يُبَتِّكُهُ تَبْتِيكًا, وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَقُّ أُذُنِ الْبَحِيرَةِ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَوْلُهُ: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ يُمَنِّيهِمْ طُولَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَنَيْلَ نَعِيمِهَا وَلَذَّاتِهَا لِيَرْكَنُوا إلَى ذَلِكَ وَيَحْرِصُوا عَلَيْهِ وَيُؤْثِرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ, وَيَأْمُرَهُمْ أَنْ يَشُقُّوا آذَانَ الْأَنْعَامِ وَيُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَكْلَهَا, وَهِيَ الْبَحِيرَةُ الَّتِي كَانَتْ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ أَكْلَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ: دِينَ اللَّهِ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] . وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ: "أَنَّهُ الْخِصَاءُ". وَالثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ: "أَنَّهُ الْوَشْمُ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِإِخْصَاءِ الدَّابَّةِ, وَعَنْ طَاوُسٍ وَعُرْوَةَ مِثْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْإِخْصَاءِ, وَقَالَ: "مَا أَنْهَى إلَّا فِي الذُّكُورِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إخْصَاءُ الْبَهِيمَةِ مُثْلَةٌ" ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إخْصَاءِ الْجَمَلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] , وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ شَرِيعَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قِيلَ

لَهُ: إنَّ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ دَاخِلَةٌ فِي مِلَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي مِلَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ; فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتِّبَاعُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ, إذْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي مِلَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ مُتَّبِعُ مِلَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعًا لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ فِي الْحَنِيفِ: إنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ, فَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُعْوَجِّ الرِّجْلِ" أَحْنَفُ" تَفَاؤُلًا, كَمَا قِيلَ لِلْمَهْلَكَةِ مَفَازَةٌ وَلِلَّدِيغِ سَلِيمًا. وَقَوْلُهُ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاصْطِفَاءُ بِالْمَحَبَّةِ وَالِاخْتِصَاصُ بِالْأَسْرَارِ دُونَ مَنْ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْمَنْزِلَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ الْخُلَّةِ, وَهِيَ الْحَاجَةُ, فَخَلِيلُ اللَّهِ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُنْقَطِعُ إلَيْهِ بِحَوَائِجِهِ; فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلِيلُ إبْرَاهِيمَ, وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِأَنَّهُ خَلِيلُ إبْرَاهِيمَ وَجَازَ أَنْ يُوصَفَ إبْرَاهِيمُ بِأَنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي صَدَاقِهَا, فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ أَوْ يَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} يَعْنِي بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ, وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

بَابُ مُصَالَحَةِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} . قِيلَ فِي مَعْنَى النُّشُوزِ إنَّهُ التَّرَفُّعُ عَلَيْهَا لِبُغْضِهِ إيَّاهَا, مَأْخُوذٌ مِنْ نَشَزِ الْأَرْضِ وَهِيَ المرتفعة. وقوله: {أَوْ إِعْرَاضاً} يَعْنِي لِمَوْجِدَةٍ أَوْ أَثَرَةٍ, فَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُمَا الصُّلْحَ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لَهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ مَهْرِهَا أَوْ بَعْضِ أَيَّامِهَا بِأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا. وَقَالَ عُمَرُ: "مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ". وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الْآيَةَ; فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ" وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَيُرِيدُ طَلَاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَلَا تُطَلِّقُنِي, ثُمَّ تَزَوَّجْ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْقِسْمَةِ لِي, فَذَلِكَ قَوْله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} إلى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ

خَيْرٌ} . وَعَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بِهِ لَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَمِ بَيْنَ النِّسَاءِ إذَا كَانَ تَحْتَهُ جَمَاعَةٌ, وَعَلَى وُجُوبِ الْكَوْنِ عِنْدَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَقَضَى كَعْبُ بْنُ سُورٍ بِأَنَّ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَضْرَةِ عُمَرَ, فَاسْتَحْسَنَهُ عُمَرُ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ. وَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَ حَقَّهَا مِنْ الْقَسْمِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ, وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى تَرْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ, إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهَا إسْقَاطُ مَا وَجَبَ مِنْ النَّفَقَةِ لِلْمَاضِي, فَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ; وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَتْ مِنْ الْوَطْءِ لَمْ يَصِحَّ إبْرَاؤُهَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنْهُ; وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّفَقَةِ وَبِالْكَوْنِ عِنْدَهَا, فَأَمَّا أَنْ تُسْقِطَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَلَا. وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهَا عِوَضًا عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنْ الْقَسْمِ أَوْ الْوَطْءِ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ, أَوْ ذَلِكَ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ; لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ, وَهُوَ مِثْلُ أَنْ تُبْرِئَ الرَّجُلَ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَهْرَ فَلَا يَصِحُّ لِوُجُودِ مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ الْعَقْدُ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَجَازَ أَصْحَابُنَا أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا فَقَدْ أَجَازُوا الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ بَعْدُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا وَهِيَ الْعِدَّةُ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُجِيزُوا الْبَرَاءَةَ مِنْ النَّفَقَةِ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِعَةِ وَالزَّوْجَةِ فِي امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْبَرَاءَةِ مِنْ نَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ بَعْدُ; وَلَكِنَّهُ إذَا خَالَعَهَا عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا جَعَلَ الْجُعْلَ مِقْدَارَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ, وَالْجُعْلُ فِي الْخُلْعِ يَجُوزُ فِيهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْجَهَالَةِ, فَصَارَ ذَلِكَ فِي ضَمَانِهَا بِعَقْدِ الْخُلْعِ, ثُمَّ مَا يَجِبُ لَهَا بَعْدُ مِنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَصِيرُ قِصَاصًا بِمَالِهِ عَلَيْهَا وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ اصْطِلَاحِهِمَا مِنْ الْمَهْرِ عَلَى تَرْكِ جَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ أَوْ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَازَتْ الصُّلْحَ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ. وقَوْله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "يَعْنِي خَيْرٌ مِنْ الْإِعْرَاضِ وَالنُّشُوزِ "; وَقَالَ آخَرُونَ: "مِنْ الْفُرْقَةِ". وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي جَوَازِ الصُّلْحِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ, وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارٍ وَالصُّلْحُ مِنْ المجهول. وقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الشُّحُّ عَلَى أَنْصِبَائِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ وَأَمْوَالِهِنَّ"; وَقَالَ الْحَسَنُ: "تَشِحُّ نَفْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحَقِّهِ قِبَلَ صَاحِبِهِ". وَالشُّحُّ الْبُخْلُ, وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى مَنْعِ الْخَيْرِ.

قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الْآيَةَ; رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: "يَعْنِي الْمَوَدَّةَ وَمَيْلَ الطِّبَاعِ" وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إظْهَارَهُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا, يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "لَا أَيِّمٍ وَلَا ذَاتِ زَوْجٍ". وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ" ; وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْدِلْ فَالْفُرْقَةُ أَوْلَى, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] , فَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَتَرْكِ إظْهَارِ الْمَيْلِ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} تَسْلِيَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَيُغْنِيهِ اللَّهُ عَنْ الْآخَرِ إذَا قَصَدَا الْفُرْقَةَ, تَخَوُّفًا مِنْ تَرْكِ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَهَا; وَأَخْبَرَ أَنَّ رِزْقَ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّ مَا يُجْرِيهِ مِنْهُ عَلَى أَيْدِي عِبَادِهِ فَهُوَ الْمُسَبِّبُ لَهُ وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ عَلَيْهِ; وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ الْعَدْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ; رَوَى قَابُوسٌ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاس فِي قَوْله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} قَالَ: "هُوَ الرَّجُلَانِ يَجْلِسَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَكُونُ لَيُّ الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ عَنْ الْآخَرِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ الدِّينَوَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَمْ يَرْفَعْ عَلَى الْآخَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} قَدْ أَفَادَ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ, وَذَلِكَ مُوجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إنْصَافَ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهُمْ وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ وَمَنْعَ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ, ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بقوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فِيمَا إذَا كَانَ الْوُصُولُ إلَى الْقِسْطِ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ; فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الظَّالِمِ الْمَانِعِ مِنْ الْحَقِّ لِلْمَظْلُومِ صَاحِبِ

الْحَقِّ لِاسْتِخْرَاجِ حَقِّهِ مِنْهُ وَإِيصَالِهِ إلَيْهِ, وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] , وَتَضَمَّنَ أَيْضًا الْأَمْرَ بِالِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِحَقِّهِ, بِقَوْلِهِ تعالى: {ولو على أنفسكم} لِأَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ إقْرَارُهُ بِمَا عَلَيْهِ لِخَصْمِهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ إذَا طَالَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وقَوْله تعالى: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فِيهِ أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى وَالِدَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَقْرِبَائِهِ; لِأَنَّهُمْ وَالْأَجْنبِيِّينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةٍ, وَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَوْلَادُهُمَا رُبَّمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ حَبْسُهُمَا, وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُقُوقٍ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا لِكَرَاهَتِهِمَا لِذَلِكَ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْعٌ لَهُمَا مِنْ الظُّلْمِ وَهُوَ نُصْرَةٌ لَهُمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَرُدُّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرٌ مِنْك إيَّاهُ", وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا طَاعَةَ لَمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَةُ الْأَبَوَيْنِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَجُوزُ, وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا مَعَ كَرَاهَتِهِمَا لِذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَمْرٌ لَنَا بِأَنْ لَا نَنْظُرَ إلَى فَقْرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إشْفَاقًا مِنَّا عَلَيْهِ, فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِحُسْنِ النَّظَرِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْجَمِيعِ, فَعَلَيْكُمْ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِمَا عِنْدَكُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} يَعْنِي لَا تَتْرُكُوا الْعَدْلَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَالْمَيْلِ إلَى الْأَقْرِبَاءِ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَقْرِهِ, وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إقَامَتِهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْبِسَهُ الْقَاضِي لِفَقْدِ عِلْمِهِ بِعَدَمِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ فِي الْقَاضِي يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَيَكُونُ لَيُّهُ وَإِعْرَاضُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا". وَاللَّيُّ هُوَ الدَّفْعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" , يَعْنِي مَطْلَهُ وَدَفْعَ الطَّالِبِ عَنْ حَقِّهِ. فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقَاضِي كَانَ مَعْنَاهُ دَفْعُهُ الْخَصْمَ عَمَّا يَجِبُ لَهُ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الشَّاهِدَ فِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَأَنْ لَا يَدْفَعَ صَاحِبَ الْحَقِّ عَنْهَا وَيُمْطِلَهُ بِهَا وَيَعْرِضَ عَنْهُ إذَا طَالَبَهُ بِإِقَامَتِهَا, وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِلْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ جَمِيعًا

لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا, فَيُفِيدُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَجْلِسِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَتَرْكِ إسْرَارِ أَحَدِهِمَا وَالْخَلْوَةِ بِهِ, كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: {نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ} . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قِيلَ فِيهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ آمِنُوا بِاَللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ; لِأَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ آمَنُوا بِالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْآيَاتِ فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْبِشَارَةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ حَيْثُ آمَنُوا بِهِمْ وَصَدَّقُوا بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى, وَقَدْ أَخْبَرُوهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَيْهِمْ الْإِيمَانُ بِهِ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرٌ لَهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ; والله أعلم.

بَابُ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} قَالَ قَتَادَةُ: "يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى; آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ, ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهَا وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ, وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ, ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ, ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُخَالَفَةِ الْفُرْقَانِ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ: آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا, ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا, ثُمَّ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ". وَقَالَ آخَرُونَ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدَتْ تَشْكِيكَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ, وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْكُفْرَ بِهِ, وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] .

مطلب: في الخلاف في قبول نوبة الزنديق قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ الَّذِي تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَأَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ مَقْبُولَةٌ; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَقَبُولُ تَوْبَتِهِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْحُكْمُ بِإِيمَانِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ وَالزِّنْدِيقِ, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "فِي الْأَصْلِ لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْتَتَابَ, وَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ". وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الزِّنْدِيقِ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "أَسْتَتِيبُهُ كَالْمُرْتَدِّ, فَإِنْ أَسْلَمَ خَلَّيْت سَبِيلَهُ وَإِنْ أَبَى قَتَلْته", وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ زَمَانًا, فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ الزَّنَادِقَةُ وَيَعُودُونَ قَالَ: "أَرَى

إذَا أُتِيتُ بِزِنْدِيقٍ آمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَلَا أَسْتَتِيبُهُ, فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ خَلَّيْته". وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "إذَا زَعَمَ الزِّنْدِيقُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ حَبَسْته حَتَّى أَعْلَمَ تَوْبَتَهُ". وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ, إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ فَإِنْ طَلَبِ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ" وَلَمْ يَحِكْ خِلَافًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُف فِي نَوَادِرَ ذَكَرَهَا عَنْهُ أَدْخَلَهَا فِي أَمَالِيهِ عَلَيْهِمْ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "اُقْتُلْ الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ", وَلَمْ يَحْكِ أَبُو يُوسُفَ خِلَافَهُ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ثَلَاثًا فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ, وَإِنَّ ارْتَدَّ سِرًّا قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ كَمَا يُقْتَلْ الزَّنَادِقَةُ, وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ مَنْ أَظْهَرَ دِينَهُ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ" قَالَ مَالِكٌ: "يُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ وَلَا يُسْتَتَابُونَ, وَالْقَدَرِيَّةُ1 يُسْتَتَابُونَ" فَقِيلَ لِمَالِكٍ: فَكَيْفَ يُسْتَتَابُ الْقَدَرِيَّةُ؟ قَالَ: "يُقَالُ لَهُمْ اُتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَإِنَّ أَقَرَّ الْقَدَرِيَّةُ بِالْعِلْمِ لَمْ يُقْتَلُوا". وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ" ; قَالَ مَالِكٌ: هَذَا فِيمَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ, لَا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَى الْيَهُودِيَّةِ; قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا ضَرْبَ عَلَيْهِ, وَحَسَنٌ أَنْ يُتْرَكَ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُعْجِبُنِي. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ وَإِنْ تَابَ مِائَةَ مَرَّةٍ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "النَّاسُ لَا يَسْتَتِيبُونَ مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ, وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتُبْ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ظَاهِرًا وَالزِّنْدِيقُ, وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ". وَفِي الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عُمَرَ, وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِأَنَاةٍ; وَهَذَا ظَاهِرُ الْخَبَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا" ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الْآيَةَ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِاسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِتَابَتَهُ; إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ, وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ دُعَاءَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل125] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

_ 1 قوله: "القدرية" هم فرقة من المسلمين يضيفون الخير إلى اللله والشر إلى غيره, ورد في حديث أخرجه أبو داود "القدرية مجوس هذه الأمة" أي لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس القائلين بأن الخير من النور والشر من الظلمة, وهذا من باب المبالغة في الزجر والتنفير عن مذهبهم. "لمصححه".

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] , فَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ, فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي دُعَاءَ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِسْلَامِ كَدُعَاءِ سَائِرِ الْكُفَّارِ, وَدُعَاؤُهُ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ الِاسْتِتَابَةُ; وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] , وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إلَى الْإِيمَانِ; وَيُحْتَجُّ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ لِاقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَهُ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ, فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي قَبُولَ إسْلَامِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُ; لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ ذُنُوبُهُ وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ قَتْلُهُ كَمَا يُقْتَلُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ وَإِنْ كَانَ تَائِبًا وَيُقْتَلُ قَاتِلُ النَّفْسِ مَعَ التَّوْبَةِ. قِيلَ لَهُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] يَقْتَضِي غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ وَقَبُولَ تَوْبَتِهِ; لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَغْفُورَةً, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ وَقَبُولِهَا مِنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ, فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ قَتْلُهُ وَعَادَ إلَى حَظْرِ دَمِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ ظَاهِرًا مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حُقِنَ دَمُهُ؟ كَذَلِكَ الزِّنْدِيقُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي لَحِقَ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ إلَى قَوْمِهِ: سَلُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قوما كفروا بعد إيمانهم} إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران: 89] فَكَتَبُوا بِهَا إلَيْهِ, فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ; فَحَكَمَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ, فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ لَهُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ دُونَ مَا فِي قَلْبِهِ. وَقَوْلُهُ مَنْ قَالَ: إنِّي لَا أَعْرِفُ تَوْبَتَهُ إذَا كَفَرَ سِرًّا, فَإِنَّا لَا نُؤَاخَذُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا نَصِلُ إلَيْهِ, وَقَدْ حَظَرَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِالظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" , وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] , وَقَالَ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِضَمَائِرِهِنَّ وَاعْتِقَادِهِنَّ, وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ظَهَرَ مِنْ إيمَانِهِنَّ بِالْقَوْلِ وَجَعَلَ ذَلِكَ عِلْمًا, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالضَّمِيرِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 94] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ, فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا, قَالَ: "هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ

عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ, أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ إحْنَةٌ, وَإِنِّي مَرَرْت بِمَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ فَإِذَا هُمْ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ; فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ, فَجَاءَ بِهِمْ وَاسْتَتَابَهُمْ, غَيْرَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَالَ لَهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَوْلَا أَنَّك رَسُولٌ لَضَرَبْت عُنُقَك" فَأَنْتَ الْيَوْمَ لَسْت بِرَسُولٍ, أَيْنَ مَا كُنْت تُظْهِرُ مِنْ الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: كُنْت أَتَّقِيكُمْ بِهِ; فَأَمَرَ بِهِ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِالسُّوقِ, ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَتِيلًا بِالسُّوقِ. فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَتَابَ الْقَوْمَ وَقَدْ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِكُفْرِهِمْ, وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَسْتَتِبْهُ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ مُظْهِرًا لِلْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ; وَقَدْ كَانَ قَتْلُهُ إيَّاهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ; لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِيهِمْ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أُخِذَ بِالْكُوفَةِ رِجَالٌ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ, فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُثْمَانَ, فَكَتَبَ عُثْمَانُ: "اعْرِضْ عَلَيْهِمْ دِينَ الْحَقِّ وَشَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ قَالَهَا وَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِ مُسَيْلِمَةَ فَلَا تَقْتُلُوهُ, وَمَنْ لَزِمَ دِينَ مُسَيْلِمَةَ فَاقْتُلْهُ" فَقَبِلَهَا رِجَالٌ مِنْهُمْ وَلَزِمَ دِينَ مُسَيْلِمَةَ رِجَالٌ فَقُتِلُوا. قَوْله تَعَالَى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أَنَّهُمْ اتَّخَذُوهُمْ أَنْصَارًا وَأَعْضَادًا لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ لَهُمْ الْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ بِعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْمُخَالَفَةِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ; وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الِاسْتِنْصَارُ بِالْكُفَّارِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ; إذْ كَانُوا مَتَى غَلَبُوا كَانَ حُكْمُ الْكُفْرِ هُوَ الْغَالِبُ; وَبِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا. وَقَوْلُهُ: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ, وَأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْكُفَّارِ لَا تَجُوزُ, إذْ كَانُوا مَتَى غَلَبُوا كَانَ الْغَلَبَةُ وَالظُّهُورُ لَلْكُفَّارِ, وَكَانَ حُكْمُ الْكُفْرِ هُوَ الْغَالِبُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْآيَةُ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ, وَهُمْ كُفَّارٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مَحْظُورٌ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَتَى ذَمَّ قَوْمًا عَلَى فِعْلٍ فَذَلِكَ الْفِعْلُ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فِعْلُهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ إنَّ أَصْلَ الْعِزَّةِ هُوَ الشِّدَّةُ, وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ" عَزَازُ" وَقِيلَ: قَدْ اسْتَعَزَّ الْمَرَضُ عَلَى الْمَرِيضِ إذَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ, وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ" عَزَّ عَلَيَّ كَذَا" إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ, وَعَزَّ الشَّيْءُ إذَا قَلَّ; لِأَنَّهُ يَشْتَدُّ مَطْلَبُهُ; وَعَازَّهُ فِي الْأَمْرِ إذَا شَادَّهُ فِيهِ, وَشَاةٌ عَزُوزٌ إذَا كَانَتْ تَحْلِبُ بِشِدَّةٍ لِضِيقِ أَحَالِيلِهَا, وَالْعِزَّةُ الْقُوَّةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ الشِّدَّةِ, وَالْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الْمَنِيعُ; فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ اتِّخَاذِ

الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا وَالِاعْتِزَازِ بِهِمْ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِمْ لِلتَّعَزُّزِ بِهِمْ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ اعْتَزَّ بِالْعَبِيدِ أَذَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى"; وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ فِيمَنْ اعْتَزَّ بِالْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَنَحْوِهِمْ, فَأَمَّا أَنْ يَعْتَزَّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] . وقَوْله تَعَالَى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ الِاعْتِزَازِ بِالْكُفَّارِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ دُونَهُمْ وَذَلِكَ مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا امْتِنَاعُ إطْلَاقِ الْعِزَّةِ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِعِزَّةِ أَحَدٍ مَعَ عِزَّتِهِ لِصِغَرِهَا وَاحْتِقَارِهَا فِي صِفَةِ عِزَّتِهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ الْمُقَوِّي لِمَنْ لَهُ الْقُوَّةُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ, فَجَمِيعُ الْعِزَّةِ لَهُ; إذْ كَانَ عَزِيزًا لِنَفْسِهِ مُعِزًّا لِكُلِّ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِزَّةِ. وَالْآخَرُ: أَنَّ الْكُفَّارَ أَذِلَّاءُ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَانْتَفَتْ عَنْهُمْ صِفَةُ الْعِزَّةِ وَكَانَتْ لِلَّهِ وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ فِي الْحُكْمِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ, فَالْكُفَّارُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ضَرْبٌ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ فَغَيْرُ مُسْتَحَقِّينَ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْعِزَّةِ لَهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ, فَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} وَ" حَتَّى" هَهُنَا تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَصِيرُ غَايَةً لِحَظْرِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ حَتَّى إذَا تَرَكُوا إظْهَارَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ زَالَ الْحَظْرُ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ, وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا رَأَوْا هَؤُلَاءِ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ, فَقَالَ: لَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ لِئَلَّا يُظْهِرُوا ذَلِكَ وَيَزْدَادُوا كُفْرًا وَاسْتِهْزَاءً بِمُجَالَسَتِكُمْ لَهُمْ; وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ إبَاحَةِ الْمُجَالَسَةِ إذَا خَاضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] قِيلَ: إنَّهُ يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ, وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ, وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الظَّالِمِينَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْعِصْيَانِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ مَعْصِيَتُهُمْ مَنْزِلَةَ الْكُفْرِ, وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ مِثْلُهُمْ فِي الرِّضَا بِحَالِهِمْ فِي ظَاهِرِ أَمْرِكُمْ, وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ, وَلَكِنْ مَنْ قَعَدَ مَعَهُمْ سَاخِطًا لِتِلْكَ الْحَالِ مِنْهُمْ لَمْ يَكْفُرْ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ فِي الْقُعُودِ مَعَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى

وُجُوبِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى فَاعِلِهِ وَأَنَّ مِنْ إنْكَارِهِ إظْهَارُ الْكَرَاهَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَتُهُ وَتَرْكُ مُجَالَسَةِ فَاعِلِهِ وَالْقِيَامُ عَنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ويصير إلى حال غيرها.

مطلب: ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَلْزَمُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مُنْكِرٌ أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهُ وَأَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ قِيلَ فِي هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَبَاعُدِهِ وَتَرْكِ سَمَاعِهِ تَرْكُ الْحَقِّ عَلَيْهِ, مِنْ نَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ مَا يَسْمَعُ مِنْ صَوْتِ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي, وَتَرْكِ حُضُورِ الْجِنَازَةِ لِمَا مَعَهُ مِنْ النُّوَاحِ, وَتَرْكِ حُضُورِ الْوَلِيمَةِ لِمَا هُنَاكَ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالتَّبَاعُدُ عَنْهُمْ أَوْلَى, وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حَقٌّ يَقُومُ بِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَا هُنَاكَ مِنْ الْمُنْكَرِ وَقَامَ بِمَا هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مِنْ حَقٍّ بَعْدَ إظْهَارِهِ لَإِنْكَارِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَقَالَ قَائِلُونَ: إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْ مُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ; لِأَنَّ فِي مُجَالَسَتِهِمْ تَأْنِيسًا لَهُمْ وَمُشَارَكَتَهُمْ فِيمَا يَجْرِي فِي مَجْلِسِهِمْ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ يَكُونُ فِي الْوَلِيمَةِ فَيَحْضُرُ هُنَاكَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ: إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ, وَقَالَ: لَقَدْ اُبْتُلِيت بِهِ مَرَّةً. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَضَرَ هُوَ وَابْنُ سِيرِينَ جِنَازَةً وَهُنَاكَ نُوَاحٌ, فَانْصَرَفَ ابْنُ سِيرِينَ, فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: إنَّا كُنَّا مَتَى رَأَيْنَا بَاطِلًا وَتَرَكْنَا حَقًّا أَسْرَعَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا لَمْ نَرْجِعْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ شُهُودَ الْجِنَازَةِ حَقٌّ قَدْ نُدِبَ إلَيْهِ وَأُمِرَ بِهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِأَجْلِ مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ, وَكَذَلِكَ حُضُورُ الْوَلِيمَةِ قَدْ نَدَبَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْرُكَ لِأَجْلِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ إذَا كَانَ كَارِهًا لَهُ وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغُدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ قَالَ سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَأَى عَنْ الطَّرِيقِ وَقَالَ لِي: يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ فَقُلْت: لَا, فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ لِئَلَّا تُسَاكِنَهُ نَفْسُهُ وَلَا تَعْتَادَ سَمَاعَهُ فَيَهُونَ عِنْدَهُ أَمْرُهُ, فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَلَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: "سَبِيلًا فِي الْآخِرَةِ". وَعَنْ السُّدِّيِّ: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةً, يَعْنِي فِيمَا فَعَلُوا بِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ فَهُمْ فِي ذَلِكَ ظَالِمُونَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ". وَيُحْتَجُّ بِظَاهِرِهِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ; لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُثْبِتُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ سَبِيلًا فِي إمْسَاكِهَا فِي بَيْتِهِ وَتَأْدِيبِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ الْخُرُوجِ, وَعَلَيْهَا طَاعَتُهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ عَقْدُ النِّكَاحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] , فَاقْتَضَى قَوْله

تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ وَزَوَالِ سَبِيلِهِ عَلَيْهَا; لِأَنَّهُ مَا دَامَ النِّكَاحُ بَاقِيًا فَحُقُوقُهُ ثَابِتَةٌ وَسَبِيلُهُ بَاقٍ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا قَالَ: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فَلَا تَدْخُلُ النِّسَاءُ فِيهِ. قِيلَ لَهُ إطْلَاقُ لَفْظِ التَّذْكِيرِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ, كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] وَقَدْ أَرَادَ بِهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ, وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ. وَيُحْتَجُّ بِظَاهِرِهِ أَيْضًا فِي الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يُسْلِمْ, وَفِي الْحَرْبِيِّ كَذَلِكَ أَيْضًا, فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهَا تَحْتَهُ أَبَدًا. وَيَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي إبْطَالِ شَرِّي الذِّمِّيِّ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ; لِأَنَّهُ بِالْمِلْكِ يَسْتَحِقُّ السَّبِيلَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا; لِأَنَّ الشِّرَى لَيْسَ هُوَ السَّبِيلُ الْمَنْفِيُّ بِالْآيَةِ; لِأَنَّ الشِّرَى لَيْسَ هُوَ الْمِلْكُ, وَالْمِلْكُ إنَّمَا يَتَعَقَّبُ الشِّرَى, وَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ السَّبِيلَ عَلَيْهِ; فَإِذًا لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيُ الشِّرَى إنَّمَا فِيهَا نَفْيُ السَّبِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الشِّرَى هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى حُصُولِ السَّبِيلِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا كَمَا كَانَ السَّبِيلُ مُنْتَفِيًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ السَّبِيلُ عَلَيْهِ مُنْتَفِيًا وَيَكُونَ الشِّرَى الْمُؤَدِّي إلَى حُصُولِ السَّبِيلِ جَائِزًا, وَإِنَّمَا أَرَدْت نَفْيَ الشِّرَى بِالْآيَةِ نَفْسِهَا, فَإِنْ ضَمَمْت إلَى الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ فِي نَفْيِ الشِّرَى فَقَدْ عَدَلْت عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ صِحَّةَ الشِّرَى; وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِصِحَّةِ الشِّرَى السَّبِيلَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ إلَّا بِالْبَيْعِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ, فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَهُنَا سَبِيلٌ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخَادِعُونَ نَبِيَّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ الْإِيمَانِ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَمُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَنَائِمِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُخَادِعُهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى خِدَاعِهِمْ, فَسَمَّى الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِهِ عَلَى مُزَاوَجَةِ الْكَلَامِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] . وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لِمَالِكِهِ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ الْإِيمَانِ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَهُ, وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قَبُولِ إيمَانِهِمْ, مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يُبْطِنُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} قِيلَ فِيهِ: إنَّمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا; لِأَنَّهُ لِغَيْرِ وَجْهِهِ, فَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَثُرَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: "إنَّمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ, فَهُوَ حَقِيرٌ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ مِنْهُمْ بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ". وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ إلَّا يَسِيرًا مِنْ الذِّكْرِ, نَحْوَ مَا يُظْهِرُونَهُ لِلنَّاسِ دُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَمَرَ به المؤمنين

فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] , وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَقُومُونَ إلَى الصَّلَاةِ كُسَالَى مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ, وَالْكَسَلُ هُوَ التَّثَاقُلُ عَنْ الشَّيْءِ لِلْمَشَقَّةِ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ الدَّوَاعِي إلَيْهِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَى الصَّلَاةِ إلَّا مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ خَوْفًا مِنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ} فَإِنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى صَاحِبَهُ بِمَا يَجْعَلُ لَهُ مِنْ النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى أَمْرِهِ وَالْمُؤْمِنُ وَلِيُّ اللَّهِ بِمَا يَتَوَلَّى مِنْ إخْلَاصِ طَاعَتِهِ, وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَوَلَّى مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ. وَاقْتَضَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِنْصَارِ بِالْكُفَّارِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ وَالرُّكُونِ إلَيْهِمْ وَالثِّقَةِ بِهِمْ, وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِوَجْهٍ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّصَرُّفُ وَالْوِلَايَةُ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] وَقَدْ كَرِهَ أَصْحَابُنَا تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ فِي الشِّرَى وَالْبَيْعِ وَدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً; وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ عَلَى مِنْهَاجِ الْقُرْبِ, فَسَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ سَالِمًا مِنْ شَوْبِ الرِّيَاءِ أَوْ طَلَبِ عَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا أَوْ مَا يُحْبِطُهُ مِنْ الْمَعَاصِي; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا عَلَى مَا سَبِيلُهُ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالْحَجِّ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: "إلَّا أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ", وَعَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَةٌ: "إلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِظُلْمِ ظَالِمِهِ لَهُ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: "إلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ ظَالِمِهِ". وَذَكَرَ الْفُرَاتُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُك فَتَشْتُمُهُ, وَلَكِنْ إنْ افْتَرَى عَلَيْك فَلَا تَفْتَرِ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] . وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ: "ذَاكَ فِي الضِّيَافَةِ, إذَا جِئْت الرَّجُلَ فَلَمْ يُضِفْك فَقَدْ رُخِّصَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ كَمَا ذُكِرَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ كَانَتْ الضِّيَافَةُ وَاجِبَةً, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ1 فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ" , وَجَائِزٌ أَنْ يكون فيمن لا

_ 1 قوله: "الضيافة ثلاثة أيام" أي في ثلاثة أيام, فهو منصوب على الظرفية, وقد أخذ بظاهر الحديث الإمام احمد فاوجب الضيافة, وحمله الجمهور على المضطر أو أهل الذمة المشروط عليهم ضيافة................== == المارة. وإنكا سمي الزائد على الثلاثة صدقة تنفيرا للضيف عن الإقامة أكثر من ثلاثة, لأن نفس المروءة تأبى اسم الصدقة كما في شروح الجامع الصغير. "لمصححه".

يَجِدُ مَا يَأْكُلُ فَيَسْتَضِيفَ غَيْرَهُ فَلَا يُضِيفُهُ, فَهَذَا مَذْمُومٌ يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِسُوءٍ فِيمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ السِّتْرَ وَالصَّلَاحَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ, وَمَا لَا يُحِبُّ فَهُوَ الَّذِي لَا يُرِيدُهُ, فَعَلَيْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنُنْكِرَهُ; وَقَالَ: {إلا من ظلم} فَمَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا ظُلْمُهُ فَعَلَيْنَا إنْكَارُ سُوءِ الْقَوْلِ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: "عُوقِبُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ عَلَيْهِمْ" وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ بِالتَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ; وَاَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] . وَقَوْلُهُ: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ مُكَلَّفُونَ بِهَا مُسْتَحَقُّونَ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهَا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ" لَكِنْ" هَهُنَا اسْتِثْنَاءٌ, وَقِيلَ: إنَّ" إلَّا" وَ" لَكِنْ" قَدْ تَتَّفِقَانِ فِي الْإِيجَابِ بَعْدَ النَّفْيِ أَوْ النَّفْيِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَتُطْلَقُ" إلَّا" وَيُرَادُ بِهَا" لَكِنْ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] وَمَعْنَاهُ: لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ; فَأُقِيمَتْ" إلَّا" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَقَامَ" لَكِنْ". وَتَنْفَصِلُ" لَكِنْ" مِنْ" إلَّا" بِأَنَّ" إلَّا" لِإِخْرَاجِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ, وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ بَعْدَ الْوَاحِدِ نَحْوَ قَوْلِك: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو, وَحَقِيقَةُ" لَكِنْ" الِاسْتِدْرَاكُ وَ" إلَّا" لِلتَّخْصِيصِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى; لِأَنَّ النَّصَارَى غَلَتْ فِي الْمَسِيحِ فَجَاوَزُوا بِهِ مَنْزِلَةَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إلَهًا, وَالْيَهُودُ غَلَتْ فِيهِ فَجَعَلُوهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ, فَغَلَا الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فِي أَمْرِهِ. وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ هُوَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ الْحَقِّ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَنْ يُنَاوِلَهُ حَصَيَاتٍ لِرَمْيِ الْجِمَارِ, قَالَ: فَنَاوَلْته إيَّاهَا مِثْلَ حَصَا الْخَذْفِ1 فَجَعَلَ يُقَلِّبُهُنَّ بِيَدِهِ

_ 1 قوله: "الخذف" بالخاء والذال المعجمتين, هو أن تجعل حصاة أو نواة بين السبابين وترمي بها كما ذكره في النهاية. "لمصححه".

وَيَقُولُ "بِمِثْلِهِنَّ بِمِثْلِهِنَّ إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ, فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ" ; وَلِذَلِكَ قِيلَ دِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْمُقَصِّرِ وَالْغَالِي. قَوْله تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قِيلَ فِي وَصْفِ الْمَسِيحِ بِأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ عِيسَى بِكَلِمَةِ اللَّهِ, وَهُوَ قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] لَا عَلَى سَبِيلِ مَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِهِ مِنْ حُدُوثِهِ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ كَمَا يُهْتَدَى بِكَلِمَةِ اللَّهِ. وَالثَّالِثُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبِشَارَةِ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أنبيائه. وأما قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} فَلِأَنَّهُ كَانَ بِنَفْخَةِ جِبْرِيلَ بِإِذْنِ اللَّهِ, وَالنَّفْخُ يُسَمَّى رُوحًا, كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ1: فَقُلْت لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْك وَأَحْيِيهَا ... بِرُوحِك وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا أَيْ بِنَفْخِك. وَقِيلَ: إنَّمَا سَمَّاهُ رُوحًا; لِأَنَّهُ يُحْيِي النَّاسَ بِهِ كَمَا يُحْيُونَ بِالْأَرْوَاحِ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّى الْقُرْآنَ رُوحًا فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] . وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رُوحٌ مِنْ الْأَرْوَاحِ كَسَائِرِ أَرْوَاحِ النَّاسِ, وَأَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهُ, كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ, وَسَمَاءُ اللَّهِ. قَوْله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ بِمَعْنَى: لِئَلَّا تَضِلُّوا, فَحَذَفَ" لَا" كَمَا تُحْذَفُ مَعَ الْقَسَمِ فِي قَوْلِك: وَاَللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا, أَيْ لَا أَبْرَحُ; قَالَ الشَّاعِرُ: تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ2 مَعْنَاهُ: لَا يَبْقَى. وَقِيلَ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يعني أهل القرية.

_ 1 قوله: "كقول ذبي الرمة" في نار اقتدحها وأمر صاحبه بالنفخ فيها, ومعنى الببيت خذ النار إليك وأحيها بنفخ نفسك فيها نفخا رفيقا بحيث لا تطير ولا تنطفي, فالهاء في "اقتته" راجع للروح وفي "لها" للنار والقيتة فعله من القوت كميتة من الميت, يقال: نفخ في النار نفخا قوتا واقتاتا لها أي رفق بها "لمصححه". 2 قوله: "ذو حيد" هو الثور الوحشي والحيد بكسر وفتح جمع حيد بفتح وسكون وهو ما التوى من القرن. "لمصححه".

سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم مطلب: في عقود الجاهلية وعقود الاسلام قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُطَرِّفٍ وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالثَّوْرِيِّ قَالُوا: "الْعُقُودُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَرَادَ بِهَا الْعُهُودَ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "هِيَ عُقُودُ الْجَاهِلِيَّةِ الْحِلْفُ". وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً". وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا; فَقِيلَ لَهُ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَقَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: "إنَّمَا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ دُونَ النَّسَبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] إلَى أَنْ جَعَلَ اللَّهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأنفال:75] فَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ ثَابِتًا صَحِيحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحِلْفَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْحِلْفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَعْدَ نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ. وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْحِلْفُ فِي التَّنَاصُرِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إذَا حَالَفَهُ: "دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك" فَيَتَعَاقَدَانِ الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَيَدْفَعَ عَنْهُ وَيَحْمِيَهُ بِحَقٍّ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِبَاطِلٍ; وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَاقَدَا الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَلَا أَنْ يَزْوِيَ

مِيرَاثَهُ عَنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَيَجْعَلَهُ لِحَلِيفِهِ; فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْحِلْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ الْحِلْفَ لِلْحِمَايَةِ وَالدَّفْعِ, وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إلَى ضَرُورَةٍ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَشَرًا1 لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ وَيَمْنَعُ الْقَوِيَّ عَنْ الضَّعِيفِ, فَكَانَتْ الضَّرُورَةُ تُؤَدِّيهِمْ إلَى التَّحَالُفِ فَيَمْتَنِعُ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ, وَكَانَ ذَلِكَ مُعْظَمُ مَا يُرَادُ الْحِلْفُ مِنْ أَجْلِهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الْجِوَارِ وَهُوَ أَنْ يُجِيرَ الرَّجُلُ أَوْ الْجَمَاعَةُ أَوْ الْعِيرُ عَلَى قَبِيلَةٍ وَيُؤَمِّنَهُمْ فَلَا يَنْدَاهُ2 مَكْرُوهٌ مِنْهُمْ; فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِلْفِ. وَقَدْ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الْحِلْفِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ الْمُنَافِقِينَ, فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثَّرَ أَهْلَهُ وَامْتَنَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَظَهَرُوا عَلَى أَعْدَائِهِمْ, أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ التَّحَالُفِ; لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كُلُّهُمْ يَدًا وَاحِدَةً عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّنَاصُرِ وَالْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ" وَقَالَ: "ثَلَاثٌ لَا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله, وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ, وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ, فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ". فَزَالَ التَّنَاصُرُ بِالْحِلْفِ وَزَالَ الْجِوَارُ, وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "وَلَعَلَّك أَنْ تَعِيشَ حَتَّى تَرَى الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَى الْيَمَنِ بِغَيْرِ جِوَارٍ" وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ." وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِمَّا هُوَ مُجَوَّزٌ فِي الْعُقُولِ مُسْتَحْسَنٌ فِيهَا, نَحْوَ الْحِلْفِ الَّذِي عَقَدَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِحِلْفٍ حَضَرْته حُمْرَ النَّعَمِ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ وَأَنِّي أَغْدِرُ بِهِ: هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمٌ تَحَالَفُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْمَظْلُومِ مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً, وَلَوْ دُعِيت إلَى مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت وَهُوَ حِلْفُ الْفُضُولِ". وَقِيلَ إنَّ الْحِلْفَ كَانَ عَلَى مَنْعِ الْمَظْلُومِ, وَعَلَى التَّأَسِّي فِي الْمَعَاشِ, فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَضَرَ هَذَا الْحِلْفَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ لَوْ دُعِيَ إلَى مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَابَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ, وَهُوَ شَيْءٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ, بَلْ وَاجِبٌ فِيهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ; فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الَّذِي لَا تُجَوِّزُهُ الْعُقُولُ وَلَا تُبِيحُهُ الشَّرِيعَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: حَضَرْت حِلْفَ المطيبين وأنا غلام, وما أحب أن

_ 1 قوله: "نشرا" بالنون والشين المفتوحتين, أي منتشرين متفرقين, "لمصححه". 2 قوله: "فلا ينداه" مضارع ندي من باب تعب, ما ندني من فلان مكروه, أي ما أصابني, "لمصححه".

أَنْكُثَهُ وَأَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ". وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْمُطَيِّبِينَ بَيْنَ قُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ الْحَرَمِ مَنْ أَرَادَ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ بِالْقِتَالِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَهُوَ نَحْوُ حِلْفِ الْمُطَيِّبِينَ وَحِلْفِ الْفُضُولِ, وَكُلِّ مَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ الْمُعَاقَدَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْهُ مَعْصِيَةً لَا تُجَوِّزُهُ الشَّرِيعَةُ. وَالْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّدُّ, تَقُولُ: عَقَدَتْ الْحَبْلَ, إذَا شَدَدْته. وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ تُسَمَّى عَقْدًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَالْحِلْفُ يُسَمَّى عَقْدًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] . وَقَالَ أَبُو عبيدة في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ: "هِيَ الْعُهُودُ وَالْأَيْمَانُ". وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ: "هِيَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْحِلْفِ وَالْعَهْدِ" وَزَادَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مِنْ قَبْلِهِ: "وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ". وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: "الْعُقُودُ سِتَّةٌ عَقْدُ الْإِيمَانِ, وَعَقْدُ النِّكَاحِ, وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ, وَعُقْدَةُ الشِّرَى وَالْبَيْعِ, وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْعَقْدُ مَا يَعْقِدُهُ الْعَاقِدُ عَلَى أَمْرٍ يَفْعَلُهُ هُوَ أَوْ يَعْقِدُ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إلْزَامِهِ إيَّاهُ; لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الشَّدُّ ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْأَيْمَانِ, وَالْعُقُودُ عُقُودُ الْمُبَايَعَاتِ وَنَحْوِهَا, فَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إلْزَامُ الْوَفَاءِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ, وَهَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ مَا كَانَ مُنْتَظَرًا مُرَاعًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْأَوْقَاتِ, فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَالْإِجَارَةُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ التَّمَامَ عَلَيْهِ, وَالْوَفَاءَ بِهِ, وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَقْدًا; لِأَنَّ الْحَالِفَ قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَنَحْوُهَا تُسَمَّى أَيْضًا عُقُودًا لِمَا وَصَفْنَا مِنْ اقْتِضَائِهِ الْوَفَاءَ بِمَا شَرَطَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرِّبْحِ وَالْعَمَلِ لِصَاحِبِهِ وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ, وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ; لِأَنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا, وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ شَرَطَهُ إنْسَانٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ عَقْدٌ, وَكَذَلِكَ النُّذُورُ, وَإِيجَابُ الْقُرَبِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَعْنًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُنْتَظَرُ وُقُوعُهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى شَيْءٍ مَاضٍ قَدْ وَقَعَ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى عَقْدًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى طَلَاقُهُ عَقْدًا؟ وَلَوْ قَالَ لَهَا: "إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" كَانَ ذَلِكَ عَقْدًا لِيَمِينٍ؟ وَلَوْ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْت الدَّارَ أَمْسِ" لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا لِشَيْءٍ؟ وَلَوْ قَالَ: "لَأَدْخُلَنَّهَا غَدًا" كَانَ عَاقِدًا؟ وَيَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَاضِي وَيَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَوْ قَالَ: "عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الدَّارَ أَمْسِ" كَانَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ مُسْتَحِيلًا, وَلَوْ قَالَ: "عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَهَا غَدًا" كَانَ إيجَابًا مَفْعُولًا.

فَالْعَقْدُ مَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ, وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا كَانَتْ عَقْدًا; لِأَنَّ الْحَالِفَ قَدْ أَكَّدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ, وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الْمَاضِي; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَأُكَلِّمَنَّ زَيْدًا" فَهُوَ مُؤَكِّدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ كَلَامَهُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا" كَانَ مُؤَكِّدًا بِهِ نَفْيَ كَلَامِهِ مُلْزِمًا نَفْسَهُ بِهِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ; فَسُمِّيَ مِنْ أَجْلِ التَّأْكِيدِ الَّذِي فِي اللَّفْظِ عَقْدًا تَشْبِيهًا بِعَقْدِ الْحَبْلِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ وَالِاسْتِيثَاقُ بِهِ, وَمِنْ أَجْلِهِ كَانَ النَّذْرُ عَقْدًا وَيَمِينًا; لِأَنَّ النَّاذِرَ مُلْزِمٌ نَفْسَهُ مَا نَذَرَهُ وَمُؤَكِّدًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ. وَمَتَى صُرِفَ الْخَبَرُ إلَى الْمَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَقْدًا كَمَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ إيجَابًا وَإِلْزَامًا وَنَذْرًا, وَهَذَا يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَالْإِلْزَامِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي, أَنَّ ضِدَّ الْعَقْدِ هُوَ الْحَلُّ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا قَدْ وَقَعَ لَا يُتَوَهَّمُ لَهُ حَلٌّ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ بَلْ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِيهِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْحَلُّ ضِدًّا لَمَا وَقَعَ فِي الْمَاضِي عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَكَانَ لَهُ ضِدٌّ مِنْ الْحَلِّ يوصف به كالعقد على المستقبل.

مطلب: شرط انعقاد البر إمكان البر إمكانا عقليا فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" وَ "أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ غَدٌ" هُوَ عَقْدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ الِانْتِقَاضُ وَالْفَسْخُ. قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَقَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَهُوَ مِمَّا يُوصَفُ بِضِدِّهِ. مِنْ الْحَلِّ, وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: "إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَعَبْدِي حُرٌّ" وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ, إنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَقْدًا; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَقِيضٌ مِنْ الْحَلِّ, وَلَوْ قَالَ: "إنْ لَمْ أَصْعَدْ السَّمَاءَ فَعَبْدِي حُرٌّ حَنِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ يَمِينِهِ; لِأَنَّ لِهَذَا الْعَقْدِ نَقِيضًا مِنْ الْحَلِّ", وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَبَرُّ فِيهِ; لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى مَعْنًى مُتَوَهَّمٍ مَعْقُولٍ, وَإِذَا كَانَ صُعُودُ السَّمَاءِ مَعْنًى مُتَوَهَّمًا مَعْقُولًا, وَكَذَلِكَ تَرْكُهُ مَعْقُولٌ جَائِزٌ, وَشُرْبُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مُسْتَحِيلٌ تَوَهُّمُهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَقْدًا. وَقَدْ اشْتَمَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عَلَى إلْزَامِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالذِّمَمِ الَّتِي نَعْقِدُهَا لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ, وَعَلَى إلْزَامِ الْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وَعَهْدُ اللَّهِ تَعَالَى أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أَيْ بِعُقُودِ اللَّهِ فِيمَا حَرَّمَ وَحَلَّلَ; وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "يَعْنِي عُقُودَ الدِّينِ". وَاقْتَضَى أَيْضًا الْوَفَاءَ بِعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالنِّكَاحَاتِ, وَجَمِيعِ

مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعُقُودِ, فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي جَوَازِ عَقْدٍ أَوْ فَسَادِهِ وَفِي صِحَّةِ نَذْرٍ وَلُزُومِهِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لِاقْتِضَاءِ عُمُومِهِ جَوَازَ جَمِيعِهَا مِنْ الْكَفَالَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا. وَيَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ, وَبِالْمَالِ وَجَوَازِ تَعَلُّقِهَا عَلَى الْأَخْطَارِ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي إيجَابِ الْوَفَاءِ بِجَمِيعِ مَا يَشْرِطُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ تَقُمْ دلالة تخصصه.

مطلب: النذر على ثلاثة أنحاء فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ يَمِينًا أَوْ نَذْرًا أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ وَيَكُونُ عَقْدُهُ لِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَهُ وَأَوْجَبَهُ؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا النُّذُورُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: مِنْهَا نَذْرُ قُرْبَةٍ, فَيَصِيرُ وَاجِبًا بِنَذْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِعْلُهُ قُرْبَةً غَيْرَ وَاجِبٍ, لِقَوْلِهِ تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} , وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وقَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] , وقَوْله تَعَالَى: {"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] , وقَوْله تَعَالَى: {"وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75, 76] فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ نَفْسَهُ; وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَوْفِ بِنَذْرِك" حِينَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ, وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ1 فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" ; فَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ قُرْبَةً مِنْ الْمَنْذُورِ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ بِعَيْنِهِ وَقِسْمٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا كَانَ مُبَاحًا غَيْرَ قُرْبَةٍ, فَمَتَى نَذَرَهُ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ, فَإِذَا أَرَادَ بِهِ يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ, مِثْلُ قَوْلِهِ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ زَيْدًا وَأَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَمْشِيَ إلَى السُّوقِ" فَهَذِهِ أُمُورٌ مُبَاحَةٌ لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرَبِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِالْإِيجَابِ, كَمَا أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ; فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ, نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَغْصِبَ فُلَانًا مَالَهُ" فَهَذِهِ أُمُورٌ هِيَ مَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ النَّذْرِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَظْرِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إيجَابِ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مِنْ المباحات

_ 1 قوله: "ونذر نذرا لم يسمه" هو عند مالك وأكثرين على النذر المطلق كقوله على نذر كما ذكره العلقمي, "لمصححه".

أَنَّهَا لَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ, كَمَا أَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا لَا يَصِيرُ مُبَاحًا وَلَا وَاجِبًا بِالنَّذْرِ, وَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا أَرَادَ يَمِينًا وَحَنِثَ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ, فَالنَّذْرُ يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ. وَأَمَّا الْأَيْمَانُ فَإِنَّهَا تُعْقَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ قُرْبَةٍ أَوْ مُبَاحٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ, فَإِذَا عَقَدَهَا عَلَى قُرْبَةٍ لَمْ تَصِرْ وَاجِبَةً بِالْيَمِينِ, وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: "بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَلَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ" فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ; إلَى أَنْ رَدَّهُ إلَى أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا, فَلَمْ يَلْزَمْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ بِالْيَمِينِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُلْزَمُ بِهَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ غَدًا" ثُمَّ لَمْ يَصُمْهُ: فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَالْقِسْمُ الْآخَرُ مِنْ الْأَيْمَانِ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مُبَاحٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْقُرْبَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا, فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ, فَإِنْ حَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ, فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهَا, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" , وَقَالَ: "إنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا فَعَلْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي" وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] , رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لَمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} قِيلَ فِي الْأَنْعَامِ إنَّهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِطْلَاقُ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً, وَيَتَنَاوَلُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ إذَا كَانَتْ مَعَ الْإِبِلِ, وَلَا تَتَنَاوَلُهُمَا مُنْفَرِدَةً عَنْ الْإِبِلِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: إنَّ الْأَنْعَامَ تَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَى الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْحَافِرُ; لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ نُعُومَةِ الْوَطْءِ; وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ اسْتِثْنَاؤُهُ الصَّيْدَ مِنْهَا بِقَوْلِهِ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَافِرَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْأَنْعَامِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذَكَرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي

جَنِينِ الْبَقَرَةِ: "إنَّهَا بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ" وَهُوَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْبَقَرَةَ مِنْ الْأَنْعَامِ. وَإِنَّمَا قَالَ {بَهِيمَةُ الأنعام} وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْعَامُ كُلُّهَا مِنْ الْبَهَائِمِ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "أَحَلَّ لَكُمْ الْبَهِيمَةَ الَّتِي هِيَ الْأَنْعَامُ" فَأَضَافَ الْبَهِيمَةَ إلَى الْأَنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ هي, كما تقول نفس الإنسان.

مطلب: كُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مباح لغيرهم من سائر المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَعْقُودَةٌ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ وَلَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمُجَازَاةِ, وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ الْخِطَابَ إلَيْنَا بِلَفْظِ الْإِيمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ, بَلْ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُؤْمِنِينَ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ خَاصًّا بِخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُبَاحٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ, كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَبَهُ وَفَرَضَهُ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ دَلِيلٌ; وَكَذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ مُسْتَحَقُّونَ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الشَّرَائِعِ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ على ترك الإيمان. د فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ مَحْظُورًا إلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ, فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِبَاحَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ فِي حَظْرِهِ عَلَيْهِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ, وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ إنَّ ذَبْحَ الْبَهَائِمِ مَحْظُورٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ عُصَاةٌ فِي ذَبْحِهَا, وَإِنْ كَانَ أَكْلُ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مُبَاحًا لَنَا. وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ لِلْمُلْحِدِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَيس لَهُ أَنْ يَذْبَحَ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ عُصَاةً بِذَبْحِهِمْ لِأَجْلِ دِيَانَاتِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ ذَبَائِحُهُمْ غَيْرَ مُذَكَّاةٍ, مِثْلُ الْمَجُوسِيِّ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّبْحِ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُهُ ذَكَاةً, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابِيَّ غَيْرُ عَاصٍ فِي ذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ كَهُوَ لَنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِبَاحَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَحُكْمُ حَظْرِ الذَّبْحِ قَائِمٌ عَلَيْهِ" فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ السَّمْعِ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إبَاحَةِ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ذَكَاتِهِ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَامِدًا لَكَانَ عِنْدَنَا عَاصِيًا بِذَلِكَ, وَكَانَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا أَنْ يَأْكُلَهَا, وَلَمْ يَكُنْ كَوْنُ الذَّابِحِ عَاصِيًا مَانِعًا صحة ذكاته.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ والسدي: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : "يَعْنِي قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيِّتَةُ وَالدَّمُ وَسَائِرُ مَا حُرِّمَ فِي الْقُرْآنِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ". فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي نَسَقِ هَذَا الْخِطَابِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} مِمَّا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ, عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ; فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُجْمَلًا; لِأَنَّ مَا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ هُوَ مَعْلُومٌ, فيكون قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} عُمُومًا فِي إبَاحَةِ جَمِيعِهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الْآيُ الَّتِي فِيهَا تَحْرِيمُ مَا حُرِّمَ مِنْهَا, وَجَعَلَ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مُرَتَّبَةً عَلَى آيِ الْحَظْرِ وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : إلَّا مَا يَبِينُ حُرْمَتُهُ; فَيَكُونُ مُؤْذِنًا بِتَحْرِيمِ بَعْضِهَا عَلَيْنَا فِي وَقْتٍ ثَانٍ, فَلَا يَسْلُبُ ذَلِكَ الْآيَةَ حُكْمَ الْعُمُومِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ بَعْضَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ الْآنَ تَحْرِيمًا يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي, فَهَذَا يُوجِبُ إجْمَالَ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} لِاسْتِثْنَائِهِ بَعْضَهَا, فَهُوَ مَجْهُولُ الْمَعْنَى عِنْدَنَا, فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَمِلًا عَلَى إبَاحَةٍ وَحَظْرٍ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ, وَيَكُونُ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِنَا إذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْعُمُومِ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ, فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا ذُكِرَ تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَقْتَضِي تِلَاوَةً مُسْتَقْبَلَةً لَا تِلَاوَةً مَاضِيَةً, وَمَا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ تُلِيَ عَلَيْنَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تِلَاوَةٍ تَرِدُ فِي الثَّانِي قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا قَدْ تُلِيَ عَلَيْنَا وَيُتْلَى فِي الثَّانِي; لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى حَالٍ مَاضِيَةٍ دُونَ مُسْتَقْبَلَةٍ, بَلْ عَلَيْنَا تِلَاوَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا تَلَوْنَاهُ فِي الْمَاضِي, فَتِلَاوَةُ مَا قَدْ نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ مُمْكِنَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ; وَتَكُونُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إبَانَةً عَنْ بَقَاءِ حُكْمِ الْمُحَرَّمَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ, وَلَوْ أُطْلِقَ اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ مَعَ تَقَدُّمِ نُزُولِ تَحْرِيمِ كَثِيرٍ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ التَّحْرِيمِ وَإِبَاحَةَ الْجَمِيعِ مِنْهَا. قَوْله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى مَعْنَى: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ; فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} هُوَ الصَّيْدُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى الْمُحْرِمِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي, وَهُوَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَيَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ, وَهُوَ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ; وَذَلِكَ تَعَسُّفٌ فِي التَّأْوِيلِ. وَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ إبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مَقْصُورًا عَلَى الصَّيْدِ, وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ

الْمَيْتَةَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ; فَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ, فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ; وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِإِبَاحَةِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ; لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمَحْظُورِ; إذْ كَانَ مِثْلَ قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} سِوَى الصَّيْدِ مِمَّا قَدْ بُيِّنَ وَسَيُبَيِّنُ تَحْرِيمَهُ فِي الثَّانِي, أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ وُجُوهٌ: فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الشَّعَائِرَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةُ وَالْهَدْيُ وَالْبُدُنُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الشَّعَائِرِ" وَقَالَ عَطَاءٌ فَرَائِضُ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] أَيْ دِينُ اللَّهِ". وَقِيلَ: إنَّهَا أَعْلَامُ الْحَرَمِ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا غَيْرَ مُحْرِمِينَ إذَا أَرَادُوا دُخُولَ مَكَّةَ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي احْتِمَالِ الْآيَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الشَّعَائِرِ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْإِشْعَارِ وَهِيَ الْإِعْلَامُ مِنْ جِهَةِ الْإِحْسَاسِ, وَمِنْهُ مَشَاعِرُ الْبَدَنِ وَهِيَ الْحَوَاسُّ. وَالْمَشَاعِرُ أَيْضًا هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالْعَلَامَاتِ; وَتَقُولُ: قَدْ شَعَرْت بِهِ, أَيْ عَلِمْته; وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] يَعْنِي: لَا يَعْلَمُونَ. وَمِنْهُ الشَّاعِرُ لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِفِطْنَتِهِ لِمَا لَا يَشْعُرُ بِهِ غَيْرُهُ. وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَالشَّعَائِرُ الْعَلَامَاتُ وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ, وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُشْعَرُ بِهَا الشَّيْءُ وَيُعْلَمُ; فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} قَدْ انْتَظَمَ جَمِيعَ مَعَالِمِ دِينِ اللَّهِ, وَهُوَ مَا أَعْلَمَنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ مِنْ فَرَائِضِ دِينِهِ وَعَلَامَاتِهَا بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزُوا حُدُودَهُ وَلَا يُقَصِّرُوا دُونَهَا وَلَا يُضَيِّعُوهَا, فَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْمَعَانِي الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ السَّلَفِ مِنْ تَأْوِيلِهَا; فَاقْتَضَى ذَلِكَ حَظْرَ دُخُولِ الْحَرَمِ إلَّا مُحْرِمًا, وَحَظْرَ اسْتِحْلَالِهِ بِالْقِتَالِ فِيهِ, وَحَظْرَ قَتْلَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ, وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ; لِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ; لِأَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا كَانَ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا, فَثَبَتَ أَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ عز وجل: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} , رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ إحْلَالَهُ هُوَ الْقِتَالُ فِيهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ, وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] نَسَخَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: "حُكْمُهُ ثَابِتٌ, وَالْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مَحْظُورٌ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي المراد بقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} فقال قتادة:

"مَعْنَاهُ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "هُوَ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ". وَجَائِزٌ أَنْ يكون المراد بقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} هَذِهِ الْأَشْهُرُ كُلُّهَا, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَاحِدًا مِنْهَا. وَبَقِيَّةُ الشُّهُورِ مَعْلُومٌ حُكْمُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ إذْ كَانَ جَمِيعُهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا, فَإِذَا بَيَّنَ حُكْمًا وَاحِدًا مِنْهَا فَقَدْ دَلَّ عَلَى حُكْمِ الْجَمِيعِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} أَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً" , فَسَمَّى الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ هَدْيًا, وَأَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فَيَمَنِ قَالَ: "ثَوْبِي هَذَا هَدْيٌ" أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إلَى الْحَرَمِ وَذَبْحِهِ فِيهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَدْنَاهُ شَاةٌ; وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] , وَقَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَأَقَلُّهُ شَاةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ; فَاسْمُ الْهَدْيِ إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ ذَبْحَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ في الحرم. وقوله: {وَلا الْهَدْيَ} أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ إحْلَالِ الْهَدْيِ الَّذِي قَدْ جُعِلَ لَلذَّبْحِ فِي الْحَرَمِ, وَإِحْلَالِ اسْتِبَاحَتِهِ لِغَيْرِ مَا سِيقَ إلَيْهِ مِنْ الْقُرْبَةِ; وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدْيِ إذَا سَاقَهُ صَاحِبُهُ إلَى الْبَيْتِ أَوْ أَوْجَبَهُ هَدْيًا مِنْ جِهَةِ نَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ, وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ الْأَكْلِ مِنْ الْهَدَايَا نَذْرًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مِنْ إحْصَارٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ. وَظَاهِرُهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ, إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَنَا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْهُ. وَأَمَّا قوله عز وجل: {وَلا الْقَلائِدَ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: لَا تُحِلُّوا الْقَلَائِدَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ الْقَلَائِدِ وُجُوهٌ عَنْ السَّلَفِ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَرَادَ الْهَدْيَ الْمُقَلَّدَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْهَدْيِ مَا يُقَلَّدُ وَمِنْهُ مَا لَا يُقَلَّدُ, وَاَلَّذِي يُقَلَّدُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ, وَاَلَّذِي لَا يُقَلَّدُ الْغَنَمُ, فَحَظَرَ تَعَالَى إحْلَالَ الْهَدْيِ مُقَلَّدًا وَغَيْرَ مُقَلَّدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانُوا إذَا أَحْرَمُوا يُقَلِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالْبَهَائِمَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ, فَكَانَ ذَلِكَ أَمْنًا لَهُمْ, فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِبَاحَةَ مَا هَذَا وَصْفُهُ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ فِي النَّاسِ وَفِي الْبَهَائِمِ غَيْرِ الْهَدَايَا". وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَقْلِيدِ النَّاسِ لِحَاءَ شَجَرِ الْحَرَمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "أَرَادَ بِهِ قَلَائِدَ الْهَدْيِ بِأَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُوا بِهَا". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "يُقَلَّدُ الْهَدْيُ

بِالنِّعَالِ, فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ فَالْجِفَافُ1 تُقَوَّرُ ثُمَّ يُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهَا ثُمَّ يُتَصَدَّقُ بِهَا". وَقِيلَ: هُوَ صُوفٌ يُفْتَلُ فَيُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِ الْهَدْيِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ قُرْبَةٌ, وَأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ كَوْنِهِ هَدْيًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَلِّدَهُ وَيُرِيدَ أَنْ يَهْدِيَهُ فَيَصِيرَ هَدْيًا بِذَلِكَ, وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِالْقَوْلِ, فَمَتَى وُجِدَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ صَارَ هَدْيًا لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِأَنْ يَذْبَحَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ. وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَلَائِدَ الْهَدْيِ يَجِبُ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا, وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبُدْنِ الَّتِي نُحِرَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ وَأَمَرَ عَلِيًّا بِنَحْرِ بَعْضِهَا, وَقَالَ لَهُ: "تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخُطُمِهَا وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا, فَإِنَّا نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا". وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رُكُوبُ الْهَدْيِ وَلَا حَلْبُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الْقَلَائِدَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا دَلَّ بِهِ عَلَى الْقُرْبَةِ فِيهَا وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: 97] فَلَوْلَا مَا تَعَلَّقَ بِالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ مِنْ الْحُرُمَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى كَتَعَلُّقِهَا بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبِالْكَعْبَةِ لَمَا ضَمَّهَا إلَيْهِمَا عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَمَّا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَصَلَاحِ النَّاسِ وَقِوَامِهِمْ. وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ مِنْ الْمَائِدَةِ إلَّا هَاتَانِ الْآيَتَانِ: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] نَسَخَتْهَا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الْآيَةُ نَسَخَتْهَا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُرِيدُ بِهِ نَسْخَ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَنَسْخَ الْقَلَائِدِ الَّتِي كَانُوا يُقَلِّدُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَبَهَائِمَهُمْ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ لِيَأْمَنُوا بِهِ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ نَسْخَ قَلَائِدِ الْهَدْيِ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ مَغُولٍ عَنْ عَطَاءٍ في قوله تعالى: {وَلا الْقَلائِدَ} قَالَ: كَانُوا يُقَلِّدُونَ لِحَاءَ شَجَرِ الْحَرَمِ يَأْمَنُونَ بِهِ إذَا خَرَجُوا, فَنَزَلَتْ: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَظَرَ اللَّهُ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَحْظُرُهَا الْعَقْلُ, إلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ اسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ مَنْ تَقَلَّدَ بِلِحَاءِ شَجَرِ

_ 1 قوله: "فالجفاف" جمع جف بضم الجيم وتشديد الفاء, وهو وعاء الطلع, وةيقال للوطب الخلق جف أيضا. "لمصححه".

الْحَرَمِ, ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَّنَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانُوا بِالْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] , فَصَارَ حَظْرُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ الَّذِي تَقَلَّدَ بِلِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ مَنْسُوخًا, وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ اسْتَغْنُوا عَنْ ذَلِكَ, فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ, وَبَقِيَ حُكْمُ قَلَائِدِ الْهَدْيِ ثَابِتًا. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ بَيَانٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} الْآيَةُ, قَالَ: مَنْسُوخٌ; كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقَلَّدَ مِنْ السَّمُرِ فَلَمْ يُعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ, وَإِذَا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلَادَةَ شَعْرٍ فَلَمْ يُعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ, وَكَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمَئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنْ الْبَيْتِ, فَأُمِرُوا أَنْ لَا يُقَاتَلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ, فَنَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: 97] : حَوَاجِزُ جَعَلَهَا اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا لَقِيَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ, وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ, وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا لَقِيَ الْهَدْيَ مُقَلَّدًا وَهُوَ يَأْكُلُ الْعَصَبَ مِنْ الْجُوعِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ, وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ الْبَيْتَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ تَمْنَعُهُ مِنْ النَّاسِ, وَكَانَ إذَا نَفَرَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ الْإِذْخِرِ أَوْ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَمُنِعَتْ النَّاسُ عَنْهُ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن صالح عن معاوية بن صالح عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: 97] قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ جَمِيعًا, فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ أَوْ يَعْرِضُوا لَهُ مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ, ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] , وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] . وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: سَأَلْت الْحَسَنَ هَلْ نُسِخَ مِنْ" الْمَائِدَةِ شيء؟ فقال:

لَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْحَسَنِ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْكُفَّارُ فَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . وَقَوْلِهِ أَيْضًا: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} حَظْرُ الْقِتَالِ فِيهِ مَنْسُوخٌ بِمَا قَدَّمْنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْحَسَنِ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ. قَوْله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أُرِيدَ بِهِ الرِّبْحَ فِي التِّجَارَةِ, وَهُوَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} : "الْأَجْرُ وَالتِّجَارَةُ". قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} . قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ فِي آخَرِينَ: "هُوَ تَعْلِيمٌ, إنْ شَاءَ صَادَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصِدْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ إطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] لَمَّا حَظَرَ الْبَيْعَ بِقَوْلِهِ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] عَقَّبَهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] . وقَوْله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قَدْ تَضَمَّنَ إحْرَامًا مُتَقَدِّمًا; لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قَدْ اقْتَضَى كَوْنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُحْرِمًا, فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ وَتَقْلِيدَهُ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ دُخُولُ مَكَّةَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ,; إذْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قَدْ تَضَمَّنَ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَعَلَيْهِ إحْرَامٌ يَحِلُّ, مِنْهُ وَيَحِلُّ لَهُ الاصطياد بعده. وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قَدْ أَرَادَ بِهِ الْإِحْلَالَ مِنْ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجَ مِنْ الْحَرَمِ أَيْضًا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَظَرَ الِاصْطِيَادَ فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: "وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" , وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ جَمِيعًا. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاصْطِيَادِ لِمَنْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْحَلْقِ, وَأَنَّ بَقَاءَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ الِاصْطِيَادَ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَهَذَا قَدْ حَلَّ; إذْ كَانَ هَذَا الْحَلْقُ وَاقِعًا لِلْإِحْلَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: "لَا يَجْرِمَنَّكُمْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ". وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ جَرَمَنِي زَيْدٌ عَلَى بُغْضِك أَيْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَكْسِبَنَّكُمْ, يُقَالُ: جَرَمْت عَلَى أَهْلِي أَيْ

كَسَبْت لَهُمْ, وَفُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ; قَالَ الشَّاعِرُ: جَرِيمَةُ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا1 وَيُقَالُ: جَرَمَ يَجْرُمُ جُرْمًا, إذَا قَطَعَ. وقَوْله تَعَالَى: {شَنَآنُ قَوْمٍ} قُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِهَا, فَمَنْ فَتَحَ النُّونَ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِك: "شَنِئْته أَشَنْأَهُ شَنَآنًا" وَالشَّنَآنُ الْبُغْضُ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا عَدَاوَةُ قَوْمٍ". وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ النُّونِ فَمَعْنَاهُ بَغِيضُ قَوْمٍ2, فَنَهَاهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَجَاوَزُوا الْحَقَّ إلَى الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي, لِأَجْلِ تَعَدِّي الْكُفَّارِ بِصَدِّهِمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك". وقَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابَ التَّعَاوُنِ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ طَاعَاتُ اللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} نَهْيٌ عَنْ مُعَاوَنَةِ غَيْرِنَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الْآيَةُ. الْمَيْتَةُ مَا فَارَقْته الرُّوحُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ مِمَّا شُرِطَ عَلَيْنَا الذَّكَاةُ فِي إبَاحَتِهِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَالْمُحَرَّمُ مِنْهُ هُوَ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالدَّلِيلُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ هُوَ الْمَسْفُوحُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إبَاحَةِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَهُمَا دَمَانِ, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ" يَعْنِي بِالدَّمَيْنِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ; فَأَبَاحَهُمَا وَهُمَا دَمَانِ; إذْ لَيْسَا بِمَسْفُوحٍ, فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ مِنْ الدِّمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا حَصَرَ الْمُبَاحُ مِنْهُ بِعَدَدٍ دَلَّ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْحَصْرَ بِالْعَدَدِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ حَرَّمَهُ بِخِلَافِهِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ مِمَّا عَدَاهُ مِنْ الدِّمَاءِ مَا هُوَ الْمُبَاحُ وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي خَلَلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَمَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الْعُرُوقِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَصْرَهُ الدَّمَيْنِ بِالْعَدَدِ وَتَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ لَمْ يَقْتَضِ حَظْرَ جَمِيعِ مَا عَدَاهُمَا مِنْ الدِّمَاءِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] ثُمَّ قال:

_ 1 قوله: "جريمة إلى آخره" البيت لأبي خراش الهذلي يصف عقابا لفرخها الناهض وتزقه ما تأكل من لحم طير أكلته وتبقي العظام يسيل منها الصليب وهو الودك كما في التهذيب للأزهري "لمصححه". 2 قوله: "بغيض قوم" فعلى هذا تكون الإضافة بيانية كما في حواشي البياضي "لمصححه".

{وَالدَّمَ} كَانَتْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْمَعْهُودِ, وَهُوَ الدَّمُ الْمَخْصُوصُ بِالصِّفَةِ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا; وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ" إنَّمَا وَرَدَ مُؤَكَّدًا لَمُقْتَضَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] إذْ لَيْسَا بِمَسْفُوحَيْنِ; وَلَوْ لَمْ يُرِدْ لَكَانَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ كَافِيَةً فِي الِاقْتِصَارِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى الْمَسْفُوحِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ غَيْرُ مُحَرَّمَيْنِ. وقوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} فَإِنَّهُ قَدْ تَنَاوَلَ شَحْمَهُ وَعَظْمَهُ وَسَائِرَ أَجْزَائِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّحْمَ الْمُخَالِطَ لِلَّحْمِ قَدْ اقْتَضَاهُ اللَّفْظُ; لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُهُ؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّحْمَ; لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَنَافِعِهِ; وَأَيْضًا فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ لَمَّا كَانَ مُبْهَمًا اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ سَائِرِ أَجْزَائِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ, وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ شَعْرِهِ وَعَظْمِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ; لِأَنَّ الْإِهْلَالَ هُوَ إظْهَارُ الذِّكْرِ وَالتَّسْمِيَةِ, وَأَصْلُهُ اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ إذَا صَاحَ حِينَ يُولَدُ, وَمِنْهُ إهْلَالُ الْمُحَرَّمِ; فَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ تَحْرِيمُ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ الْأَوْثَانُ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ, وَيَنْتَظِمُ أَيْضًا تَحْرِيمُ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ أَيُّ اسْمٍ كَانَ, فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ: "بِاسْمِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو" أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُذَكًّى, وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ مُوجِبًا تَحْرِيمَهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ زَيْدٍ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَبَيْنَ ترك التسمية رأسا. قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا الَّتِي تَخْتَنِقُ بِحَبْلِ الصَّائِدِ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى تَمُوتَ, وَمِنْ نَحْوِهِ حَدِيثُ عَبَايَةِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ذَكُّوا بِكُلِّ شَيْءٍ إلَّا السِّنَّ وَالظُّفُرَ" ; وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى السِّنِّ وَالظُّفُرِ غَيْرِ الْمَنْزُوعَيْنِ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي معنى المخنوق. وأما قوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْمَضْرُوبَةُ بِالْخَشَبِ وَنَحْوِهِ حَتَّى تَمُوتَ, يُقَالُ فِيهِ: وَقَذَهُ يَقِذُهُ وَقْذًا وَهُوَ وَقِيذٌ إذَا ضَرَبَهُ حَتَّى يُشْفِيَ عَلَى الْهَلَاكِ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْقُوذَةِ كُلُّ مَا قُتِلَ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ, وَقَدْ رَوَى أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: "تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ". وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الْخَذْفِ وَقَالَ: "إنَّهَا لَا تَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَلَا تَصِيدُ الصَّيْدَ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ". وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عن

إبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ عَدِّي بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ فَأُصِيبُ أَفَآكُلُ؟ قَالَ: "إذَا رَمَيْت بِالْمِعْرَاضِ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَأَصَابَ فَخَرَقَ فَكُلْ, وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُجَالِدٍ وَزَكَرِيَّا وَغَيْرِهِمَا, عَنْ الشَّعْبِيِّ, عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ, فَقَالَ: "مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَخَرَقَ فَكُلْ, وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ" , فَجَعَلَ مَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَةٍ مَوْقُوذَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَى ذَكَاتِهِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْطَ ذَكَاةِ الصَّيْدِ الْجِرَاحَةُ وَإِسَالَةُ الدَّمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ وَاسْتِيفَاءِ شروط الذكاة فيه; وعموم قوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} عَامٌّ فِي الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ النَّضْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودُ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَاجِرُوا وَلَا تَهْجُرُوا1, وَإِيَّاكُمْ وَالْأَرْنَبَ يَحْذِفُهَا أَحَدُكُمْ بِالْعَصَا أَوْ الْحَجَرِ يَأْكُلُهَا, وَلَكِنْ لِيُذَكِّ لَكُمْ الْأَسَلُ الرِّمَاحُ2 وَالنَّبْلُ". وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "هِيَ السَّاقِطَةُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ فَتَمُوتُ". وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "إذَا رَمَيْت صَيْدًا مِنْ عَلَى جَبَلٍ فَمَاتَ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ التَّرَدِّي هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ, وَإِذَا رَمَيْت طَيْرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَمَاتَ فَلَا تُطْعَمْهُ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْغَرَقُ قَتَلَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا وَجَدَ هُنَاكَ سَبَبًا آخَرَ وَهُوَ التَّرَدِّي وَقَدْ يَحْدُثُ عَنْهُ الْمَوْتُ حُظِرَ أَكْلُهُ, وَكَذَلِكَ الْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بْنِ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِّي بْنِ حَاتِمٍ, أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصَّيْدِ فَقَالَ: "إذَا رَمَيْت بِسَهْمِك وَسَمَّيْت فَكُلْ إنْ قَتَلَ إلَّا أَنْ تُصِيبَهُ فِي الْمَاءِ فَلَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ". وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَسَمَّيْت فَكُلْ, وَإِنْ خَالَطَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ" , فَحَظَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهُ إذَا وُجِدَ مَعَ الرَّمْيِ سَبَبٌ آخَرُ يَجُوزُ حُدُوثُ الْمَوْتِ مِنْهُ مِمَّا لَا يَكُونُ ذَكَاةً, وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ وَمُشَارَكَةُ كَلْبٍ آخَرَ مَعَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الَّذِي يَرْمِي الصَّيْدَ وَهُوَ عَلَى الْجَبَلِ فَيَتَرَدَّى إنَّهُ لا يؤكل

_ 1 قوله "ولا تهجروا" يقال: تهجر وتمهجر إذا تشيه بالمهاجرين, والمعنى: أخلصوا الهجرة لله تعالى ولا تتشبهوا بالمهاجرين على غير صحة نية منكم ذكره ابن الأثير في النهاية. "لمصححه". 2 قوله: "الرماح" ببيان للأسل. "لمصححه".

لِاجْتِمَاعِ سَبَبِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي تَلَفِهِ, فَجَعَلَ الْحُكْمَ لَلْحَظْر دُونَ الْإِبَاحَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَكَ مَجُوسِيٌّ وَمُسْلِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ ذَبْحِهِ لَمْ يُؤْكَلْ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَصْلٌ فِي أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ سَبَبُ الْحَظْرِ وَسَبَبُ الْإِبَاحَةِ كان الحكم للحظر دون الإباحة.

مطلب: إذا اجتمع سبب الجظر والإباحو كَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْمَنْطُوحَةُ حَتَّى تَمُوتَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النَّاطِحَةُ حَتَّى تَمُوتَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَمُوتَ مِنْ نَطْحِهَا لِغَيْرِهَا وَبَيْنَ مَوْتِهَا مِنْ نَطْحِ غَيْرِهَا لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ حَتَّى يَمُوتَ, فَحَذَفَ; وَالْعَرَبُ تُسَمِّي مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ وَأَكَلَ مِنْهُ أَكِيلَةُ السَّبُعِ, وَيُسَمُّونَ الْبَاقِيَ مِنْهُ أَيْضًا أَكِيلَةُ السَّبُعِ; قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} مِمَّا أَكَلَ السَّبُعُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَإِنَّمَا هُوَ فَرِيسَتُهُ. وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْتُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْدُثُ عَنْهَا الْمَوْتُ لِلْأَنْعَامِ مَحْظُورٌ أَكْلُهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ دُونَ جَمِيعِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لَا خِلَافَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ رَاجِعٍ إلَيْهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ الذَّكَاةُ, وَقَدْ كَانَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ, وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَى مَا قَبْلَ الْمُنْخَنِقَةِ; فَكَانَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِيهِ قَائِمًا وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْمَذْكُورِ من عند قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} , لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَقَالُوا كُلُّهُمْ: "مَا أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ بِأَنْ تُوجَدَ لَهُ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ فَأَكْلُهُ جَائِزٌ". وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} دُونَ مَا تَقَدَّمَ; لِأَنَّهُ يَلِيهِ; وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ, لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ; وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ سَبُعًا لَوْ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ لَحْمِ الْبَهِيمَةِ فَأَكَلَهَا أَوْ تَرَدَّى شَاةً مِنْ جَبَلٍ وَلَمْ يَشْفِ بِهَا ذَلِكَ عَلَى الْمَوْتِ فَذَكَّاهَا صَاحِبُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُبَاحُ الْأَكْلِ, وَكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا, فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ عِنْدِ قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وإنما قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ" كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:

98] وَمَعْنَاهُ: لَكِنْ قَوْمُ يُونُسَ; وَقَوْلُهُ: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1, 3] مَعْنَاهُ: لَكِنْ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى; وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَكَاةِ الْمَوْقُوذَةِ وَنَحْوِهَا, فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي الْمُتَرَدِّيَةِ: إذَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ أُكِلَتْ, وَكَذَلِكَ الْمَوْقُوذَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ: أَنَّهُ إذَا بَلَغَ بِهِ ذَلِكَ إلَى حَالٍ لَا يَعِيشُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ ذُكِّيَ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعِيشُ مِنْهُ الْيَوْمَ وَنَحْوِهِ أَوْ دُونَهُ فَذَكَّاهَا حَلَّتْ, وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى إلَّا كَبَقَاءِ الْمَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ ذُبِحَ; وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَتْ بِهِ جِرَاحَةٌ مُتْلِفَةٌ وَصَحَّتْ عُهُودُهُ وَأَوَامِرُهُ, وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ تَطْرِفُ أُكِلَتْ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا صَارَتْ بِحَالٍ لَا تَعِيشُ أَبَدًا لَمْ تُؤْكَلْ وَإِنْ ذُبِحَتْ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا كَانَ فِيهَا حَيَاةٌ فَذُبِحَتْ أُكِلَتْ, وَالْمَصْيُودَةُ1 إذَا ذُبِحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذَا كَانَتْ حَيَّةً وَقَدْ أَخْرَجَ السَّبُعُ مَا فِي جَوْفِهَا أُكِلَتْ إلَّا مَا بَانَ عَنْهَا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي السَّبُعِ إذَا شَقَّ بَطْنَ الشَّاةِ وَنَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا تَمُوتُ: إنْ لَمْ تُذَكَّ فَذُكِّيَتْ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} يَقْتَضِي ذَكَاتَهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً, فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَعِيشَ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ لَا تَعِيشَ, وَأَنْ تَبْقَى قَصِيرَ الْمُدَّةِ أَوْ طَوِيلَهَا; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إذَا تَحَرَّكَ شَيْءٌ مِنْهَا صَحَّتْ ذَكَاتُهَا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْأَنْعَامِ إذَا أَصَابَتْهَا الْأَمْرَاضُ الْمُتْلِفَةُ الَّتِي قَدْ تَعِيشُ مَعَهَا مُدَّةً قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً أَنَّ ذَكَاتَهَا بِالذَّبْحِ, فَكَذَلِكَ المتردية ونحوها; والله أعلم.

_ 1 قوله: "والمصيودة" اسنم مفعول من صاد يصيد على لغة تميم فغنهم يجيزون تصحيح المفعول مما عينه ياء, وأما الحجازيون فإنهم يقولون مصيد, كما في شرح الخلاصة عند قوله: "وندر تصحيح ذي الواو وفي ذي الياء اشتهر". "لمصححه".

بَابٌ فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} اسْمٌ شَرْعِيٌّ يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ: مِنْهَا مَوْضِعُ الذَّكَاةِ وَمَا يُقْطَعُ مِنْهُ, وَمِنْهَا الْآلَةُ, وَمِنْهَا الدَّيْنُ, وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ فِي حَالِ الذِّكْرِ وَذَلِكَ فِيمَا كَانَتْ ذَكَاتُهُ بِالذَّبْحِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا السَّمَكُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ بِحُدُوثِ الْمَوْتِ فِيهِ عَنْ سَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ, وَمَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَغَيْرُ مُذَكًّى; وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَامِ فِي

الطَّافِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَأَمَّا مَوْضِعُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَبْحِهِ فَهُوَ اللَّبَّةُ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَى اللَّحْيَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: "لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ أَسْفَلَ الْحَلْقِ وَأَوْسَطِهِ وَأَعْلَاهُ". وَأَمَّا مَا يَجِبُ قَطْعُهُ فَهُوَ الْأَوْدَاجُ, وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ, وَالْمَرِيءُ, وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ, فَإِذَا فَرَى الْمُذَكِّي ذَلِكَ أَجْمَعَ فَقَدْ أَكْمَلَ الذَّكَاةَ عَلَى تَمَامِهَا وَسُنَّتِهَا, فَإِنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ فَفَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةً فَإِنَّ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: "إذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ أَكَلَ, وَإِذَا قَطَعَ ثَلَاثَةً مِنْهَا أَكَلَ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ" وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ, ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَ ذَلِكَ: "لَا تَأْكُلْ حَتَّى تَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْعِرْقَيْنِ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ: "يَحْتَاجُ أَنْ يَقْطَعَ الْأَوْدَاجَ وَالْحُلْقُومَ وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَرِيءَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا بَأْسَ إذَا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ الْحُلْقُومَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "أَقَلُّ مَا يُجْزِي مِنْ الذَّكَاةِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ, وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْوَدَجَيْنِ وَهُمَا الْعِرْقَانِ وَقَدْ يُسَلَّانِ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَالْإِنْسَانِ ثُمَّ يُحْيِيَانِ, فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ الْعِرْقَانِ وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ جَازَ". وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَوْضِعَ الذَّكَاةِ النَّحْرُ وَاللَّبَّةُ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الْحَرَّانِيُّ عَنْ حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الذَّكَاةِ فَقَالَ: "فِي اللَّبَّةِ وَالْحَلْقِ, وَلَوْ طُعِنَتْ فِي فَخِذِهَا أَجْزَأَ عَنْك" , وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخِذِهَا أَجْزَأَ عَنْك" فِيمَا لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ قَطْعُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَطْعَهَا مَشْرُوطٌ فِي الذَّكَاةِ, وَلَوْلَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ لَهُ قَطْعُهَا; إذْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ أَلَمٍ بِمَا لَيْسَ هُوَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ قَطْعَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ. إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: "إذَا قَطَعَ الْأَكْثَرَ جَازَ مَعَ تَقْصِيرِهِ عَنْ الْوَاجِبِ فِيهِ; لِأَنَّهُ قَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ وَالْأَكْثَرُ فِي مِثْلِهَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ, كَمَا أَنَّ قَطْعَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْكُلِّ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ" وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَ شَرْطَ صِحَّةِ الذَّكَاةِ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدَ الْعِرْقَيْنِ, وَلَمْ يُفَرِّقْ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ قَطْعِ الْعِرْقَيْنِ وَأَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَبَيْنَ قَطْعِ هَذَيْنِ مَعَ أَحَدِ الْعِرْقَيْنِ; إذْ كَانَ قَطْعُ الْجَمِيعِ مَأْمُورًا بِهِ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَالْحَسَنُ بْنُ عِيسَى مَوْلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ زَادَ ابْنُ عِيسَى: وَأَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَا: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ زَادَ ابْنُ عِيسَى فِي حَدِيثِهِ: وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الْجِلْدُ وَلَا يُفْرَى الْأَوْدَاجُ ثُمَّ تُتْرَكُ حَتَّى تَمُوتَ; وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ

عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ. وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا السِّنَّ وَالظُّفُرَ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْبَحُوا بِكُلِّ مَا أَفْرَى الْأَوْدَاجَ وَهَرَاقَ الدَّمَ مَا خَلَا السِّنَّ وَالظُّفُرَ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ, وَالْأَوْدَاجُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْعِرْقَيْنِ اللَّذَيْنِ عَنْ جَنْبَيْهِمَا.

فصل وَأَمَّا الْآلَةُ فَإِنَّ كُلَّ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالذَّكَاةُ صَحِيحَةٌ, غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَنَا كَرِهُوا الظُّفْرَ الْمَنْزُوعَ وَالْعَظْمَ وَالْقَرْنَ وَالسِّنَّ لِمَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ; ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ بِلِيطَةٍ فَفَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ, وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ بِعُودٍ, وَكَذَلِكَ لَوْ نَحَرَ بِوَتَدٍ أَوْ بِشَظَاظٍ أَوْ بِمَرْوَةِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ; فَأَمَّا الْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ فَقَدْ نُهِيَ أَنْ يُذَكَّى بِهَا, وَجَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ, وَكَذَلِكَ الْقَرْنُ عِنْدَنَا وَالنَّابُ" قَالَ: "وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ بِسِنِّهِ أَوْ بِظُفْرِهِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ" وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: "إذَا ذَبَحَ بِسِنِّ نَفْسِهِ أَوْ بِظُفْرِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَلَيْسَ بِذَابِحٍ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "كُلُّ مَا بُضِعَ مِنْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ بِهِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "كُلُّ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ فَهُوَ ذَكَاةٌ إلَّا السِّنَّ وَالظُّفْرَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا يُذْبَحُ بِصَدَفِ الْبَحْرِ". وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَكْرَهُ الذَّبْحَ بِالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَالْعَظْمِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يُذْبَحَ بِكُلِّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا الْعَظْمَ وَالسِّنَّ وَالظُّفْرَ". وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ الظُّفْرَ وَالسِّنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الظُّفْرُ وَالسِّنُّ الْمَنْهِيُّ عَنْ الذَّبِيحَةِ بِهِمَا, إذَا كَانَتَا قَائِمَتَيْنِ فِي صَاحِبِهِمَا وَذَلِكَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الظُّفْرِ: "إنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ" وَهُمْ إنَّمَا يَذْبَحُونَ بِالظُّفُرِ الْقَائِمِ فِي مَوْضِعِهِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "ذَلِكَ الْخَنْقُ". وَعَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَأَلْت عِكْرِمَةَ عَنْ الذَّبِيحَةِ بِالْمَرْوَةِ, قَالَ: "إذَا كَانَتْ حَدِيدَةً لَا تَثْرِدُ الْأَوْدَاجَ فَكُلْ" فَشَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا تَثْرِدَ1 الْأَوْدَاجَ, وَهُوَ أَنْ لَا تَفْرِيَهَا, وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا قِطْعَةً قِطْعَةً, وَالذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ غَيْرُ الْمَنْزُوعِ يَثْرُدُ وَلَا يَفْرِي فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الذَّكَاةُ بِهِمَا, وَأَمَّا إذَا كَانَا مَنْزُوعَيْنِ فَفَرَيَا الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ; وَإِنَّمَا كَرِهَ أَصْحَابُنَا مِنْهَا مَا كان بمنزلة السكين الكالة,

_ 1 قوله: "لا تثرد" من التثريد وهو القتل بغير ذكاة, او هو أن يذبح بشيء لا يسيل الدم كما فسره في النهاية. مصححه".

وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرِهُوا الذَّبْحَ بِالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: "خَصْلَتَانِ سَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا" قَالَ غَيْرُ مُسْلِمٍ: "فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" فَكَانَتْ كَرَاهَتُهُمْ لِلذَّبْحِ بِسِنٍّ مَنْزُوعٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ قَرْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَلَالَةٍ لِمَا يَلْحَقُ الْبَهِيمَةَ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ مَرِّي بْنِ قَطَرِيٍّ عَنْ عَدِّي بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ أَحَدُنَا أَصَابَ صَيْدًا وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ أَيَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّةِ الْعَصَا؟ قَالَ: "أَمْرِرْ الدَّمَ1 بِمَا شِئْت وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ". وَفِي حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ جَارِيَةً سَوْدَاءَ ذَكَّتْ شَاةً بِمَرْوَةِ, فَذَكَرَ ذَلِكَ كَعْبٌ لِلنَّبِيِّ, فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهَا. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ. وَفِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا إلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفُرٍ".

_ 1 قوله: "امرر الدم" بفتح الهمزة ورائين, معناه: اجعل الدم يمرز ويروى أمر الدم من مار يمور إذا جرى, وأماره غيره إذا أجراه, كما في شرح رسلان على سنن أبي داود. "لمصححه".

فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا كَانَ مِنْ الْحَيَوَانِ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ, فَيُعْتَبَرُ فِي ذَكَاتِهِ مَا وَصَفْنَا مِنْ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ وَمِنْ الْآلَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَأَمَّا الَّذِي لَا نَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى ذَبْحِهِ, فَإِنَّ ذَكَاتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِإِصَابَتِهِ بِمَا يَجْرَحُ وَيُسِيلُ الدَّمَ أَوْ بِإِرْسَالِ كَلْبٍ أَوْ طَيْرٍ فَيَجْرَحُهُ دُونَ مَا يَصْدِمُ أَوْ يَهْشِمُ مِمَّا لَا حَدَّ لَهُ يَجْرَحُهُ; وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا حُكْمُ مَا يَكُونُ أَصْلُهُ مُمْتَنِعًا مِثْلَ الصَّيْدِ وَمَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَنْعَامِ ثُمَّ يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ أَوْ يَتَرَدَّى فِي مَوْضِعٍ لَا نَقْدِرُ فِيهِ عَلَى ذَكَاتِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ, أَحَدُهُمَا: فِي الصَّيْدِ إذَا أُصِيبَ بِمَا لَا يَجْرَحُهُ مِنْ الْآلَةِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "إذَا أَصَابَهُ بِعَرْضِ الْمِعْرَاضِ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا أَنْ يُدْرِكَ ذَكَاتَهُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "وَإِنْ رَمَيْته بِحَجَرٍ أَوْ بُنْدُقَةٍ كَرِهْته إلَّا أَنْ تُذَكِّيَهُ, وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْمِعْرَاضِ وَالْحَجَرِ وَالْبُنْدُقَةِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي صَيْدِ الْمِعْرَاضِ: "يُؤْكَلُ خَزَقَ أَوْ لَمْ يَخْزِقْ" قَالَ: "وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَكْحُولٌ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا". وَقَالَ

الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا خَزَقَ الْحَجَرُ فَكُلْ وَالْبُنْدُقَةُ لَا تَخْزِقُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ خَزَقَ الْمَرْمِيُّ بِرَمْيِهِ أَوْ قَطَعَ بِحَدِّهِ أُكِلَ, وَمَا جَرَحَ بِثِقَلِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ; وَفِيمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِحُ فَقَتَلْته فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ حَتَّى يُجْرَحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} . وَالْآخَرُ أَنَّهُ حِلٌّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْكَلْبِ إذَا قَتَلَ الصَّيْدُ بِصَدْمَتِهِ لَمْ يُؤْكَلْ. وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْآخَرُ: فَمَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي الْأَصْلِ, مِثْلُ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرِ إذَا تَوَحَّشَ أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَبْحِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَالصَّيْدِ وَيَكُونُ مُذَكًّى" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "لَا يُؤْكَلُ إلَّا أَنْ يُذْبَحَ عَلَى شَرَائِطِ الذَّكَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَمَسْرُوقٍ مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا, وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْآثَارِ الْمُؤَيِّدَةِ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الصَّيْدِ أَنَّ شَرْطَ ذَكَاتِهِ أَنْ يَجْرَحَهُ بِمَا لَهُ حَدٌّ, وَمِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمِعْرَاضِ أَنَّهُ إنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ, لقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} , فَكُلُّ مَا لَا يُجْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ وَقِيذٌ مُحَرَّمٌ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفِي حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهْيُ عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ: "إنَّهَا لَا تَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَلَا تَصِيدُ الصَّيْدَ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِرَاحَةَ فِي مِثْلِهِ لَا تُذَكَّى; إذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ, وَإِنَّمَا الْجِرَاحَةُ الَّتِي لَهَا حُكْمٌ فِي الذَّكَاةِ هِيَ مَا يَقَعُ بِمَا لَهُ حَدٌّ, أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمِعْرَاضِ: "إنْ أَصَابَهُ بِحَدِّهِ فَخَزَقَ فَكُلْ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يَجْرَحُ وَلَا يَجْرَحُ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْآلَةِ, وَأَنَّ سَبِيلَهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا حَدٌّ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ بِهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْخَذْفِ: "إنَّهَا لَا تَصِيدُ الصَّيْدَ" يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ جِرَاحَتِهِ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ. وَأَمَّا الْبَعِيرُ وَنَحْوُهُ إذَا تَوَحَّشَ أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ, فَإِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فِي ذَكَاتِهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: نَدَّ عَلَيْنَا بَعِيرٌ فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ, ثُمَّ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا نَدَّ مِنْهَا شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ ذَلِكَ وَكُلُوهُ" ; وَقَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ: فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ حَتَّى رَهَصْنَاهُ1. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِهِ إذَا قَتَلَهُ النَّبْلُ لِإِبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ذَكَاةِ غَيْرُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قال: يا رسول الله

_ 1 قوله: "رهضناه" أي أوهناه. "لمصححه".

أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا فِي اللَّبَّةِ وَالنَّحْرِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْك" وَهَذَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى ذَبْحِهَا; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَقْدُورَ عَلَى ذَبْحِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ذَكَاتَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الصَّيْدِ يَكُونُ ذَكَاةً لَهُ إذَا قَتَلَهُ, ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ ذَلِكَ ذَكَاةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِنْسُ الصَّيْدَ; أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى ذَبْحِهِ, فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إذَا صَارَ فِي يَدِهِ حَيًّا لَمْ تَكُنْ ذَكَاتُهُ إلَّا بِالذَّبْحِ كَذَكَاةِ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّيْدِ, دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِجِنْسِهِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى ذَبْحِهِ فِي حَالِ امْتِنَاعِهِ, فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِ إذَا صَارَ بِهَذِهِ الْحَالِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا كَانَ ذلك ذكاة للصيد.

مطلب: في حكم الصيد إذا انقطع قطعتين وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّيْدِ يُقْطَعُ بَعْضُهُ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ: "إذَا قَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ أُكِلَا جَمِيعًا, وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَ, فَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ الَّذِي يَلْحَقُ الْعَجُزَ أُكِلَ الثُّلُثَانِ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ وَلَا يُؤْكَلُ الثُّلُثُ الَّذِي يَلِي الْعَجُزَ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ: "إذَا قَطَعَ مِنْهُ قِطْعَةً فَمَاتَ الصَّيْدُ مَعَ الضَّرْبَةِ أَكَلَهُمَا جَمِيعًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا قَطَعَ وَسَطَهُ أَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ أُكِلَ, وَإِنْ قَطَعَ فَخِذَهُ لَمْ يَأْكُلْ الْفَخِذَ وَأَكَلَ الْبَاقِيَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا أَبَانَ عَجُزَهُ لَمْ يَأْكُلْ مَا انْقَطَعَ مِنْهُ وَيَأْكُلُ سَائِرَهُ, وَإِنْ قَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ أَكَلَهُ كُلَّهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ قَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ أَكَلَهُ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقَلَّ مِنْ الْأُخْرَى, وَإِنْ قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ شَيْئًا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ سَاعَةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ رَمْيَتِهِ أَكَلَ مَا لَمْ يَبِنْ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْكَلْ مَا بَانَ وَفِيهِ الْحَيَاةُ, وَلَوْ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ أَكَلَهُمَا جَمِيعًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ" , وَهَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ قَطْعَ الْقَلِيلِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ عُنُقَ الصَّيْدِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ كَانَ الْجَمِيعُ مُذَكًّى, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا بَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ, وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ مِنْهُ; لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ النِّصْفَ أَوْ الثُّلُثَ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْعُرُوقَ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى قَطْعِهَا لِلذَّكَاةِ, وَهِيَ الْأَوْدَاجُ وَالْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُذَكًّى, وَإِذَا قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الذَّنَبَ فَإِنَّهُ لَا يُصَادِفُ قَطْعَ الْعُرُوقِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ فَيَكُونُ مَا بَانَ مِنْهُ مَيْتَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ

حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ إنَّمَا يَحْدُثُ الْمَوْتُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَقَدْ بَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ, وَمَا يَلِي الرَّأْسَ كُلَّهُ مُذَكًّى كَمَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهَا أَوْ جَرَحَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهَا شَيْئًا, فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَكَاةً لَهَا لِتَعَذُّرِ قَطْعِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ.

فَصْلٌ وَأَمَّا الدِّينُ فَأَنْ يَكُونَ الرَّامِي أَوْ الْمُصْطَادُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا, وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَهِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ عِنْدَ الرَّمْيِ أَوْ إرْسَالِ الْجَوَارِحِ وَالْكَلْبِ إذَا كَانَ ذَاكِرًا, فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ; وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ في موضعه إن شاء الله تعالى.

مطلب: في الفرق بين الصنم والنصب وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النُّصُبَ أَحْجَارٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ الذَّبَائِحَ لَهَا فَنَهَى اللَّهُ عَنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّصُبِ وَالصَّنَمِ أَنَّ الصَّنَمَ يُصَوَّرُ وَيُنْقَشُ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّصُبُ; لِأَنَّ النُّصُبَ حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ وَالْوَثَنُ كَالنُّصُبِ سَوَاءٌ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ: "أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِك" فَسَمَّى الصَّلِيبَ وَثَنًا, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النُّصُبَ وَالْوَثَنَ اسْمٌ لِمَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا وَلَا مَنْقُوشًا. وَهَذِهِ ذَبَائِحُ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَهَا, فَحَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَبِيحُونَهُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا الْمُرَادَةُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} . قَوْله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} قِيلَ فِي الِاسْتِقْسَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ عِلْمِ مَا قُسِمَ لَهُ بِالْأَزْلَامِ, وَالثَّانِي: إلْزَامُ أَنْفُسِهِمْ بِمَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ الْقِدَاحُ كَقَسَمِ الْيَمِينِ. وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَاتِ أَجَالَ الْقِدَاحَ وَهِيَ الْأَزْلَامُ, وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مِنْهَا مَا كُتِبَ عَلَيْهِ: أَمَرَنِي رَبِّي" وَمِنْهَا مَا كُتِبَ عَلَيْهِ: "نَهَانِي رَبِّي" وَمِنْهَا غُفْلٌ لَا كِتَابَةَ عَلَيْهِ يُسَمَّى: "الْمَنِيحُ". فَإِذَا خَرَجَ" أَمَرَنِي رَبِّي" مَضَى فِي الْحَاجَةِ, وَإِذَا خَرَجَ: "نَهَانِي رَبِّي" قَعَدَ عَنْهَا, وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَجَالَهَا ثَانِيَةً. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَعْمِدُونَ إلَى ثَلَاثَةِ قِدَاحٍ; نَحْوِ مَا وَصَفْنَا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وَوَاحِدُ الْأَزْلَامِ" زَلَمٌ" وَهِيَ الْقِدَاحُ فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ, وَكَانَ مَنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ, وَجَعَلَهُ فِسْقًا بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} وهذا

يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقُرْعَةِ فِي عِتْقِ الْعَبِيدِ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ; إذْ كَانَ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَخْرَجْته الْقُرْعَةُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ; لِأَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَيْهِ أَوْ عَبِيدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ, فَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ إثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ غَيْرِ مُسْتَحَقَّةٍ وَحِرْمَانُ مَنْ هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِيهَا, كَمَا يَتْبَعُ صَاحِبُ الْأَزْلَامِ مَا يُخْرِجُهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا سَبَبَ لَهُ غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَازَتْ الْقُرْعَةُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا فِي إخْرَاجِ النِّسَاءِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْقُرْعَةُ فِيهَا لِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَبَرَاءَةً لِلتُّهْمَةِ مِنْ إيثَارِ بَعْضِهِمْ بِهَا, وَلَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ جَازَ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ; وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ الْوَاقِعَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ نَقْلُهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ, وَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ نَقْلُ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ مِنْهَا مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ فِيهَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: "يَئِسُوا أَنْ يَرْتَدُّوا رَاجِعِينَ إلَى دِينِهِمْ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْيَوْمِ, فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَامَ حَجَّةِ الوداع. {فَلا تَخْشَوْهُمْ} أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ; عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "ذَلِكَ الْيَوْمُ يَعْنِي بِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَهُوَ زَمَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْمُ الْيَوْمِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ, كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إنَّمَا عَنَى بِهِ وَقْتًا مُبْهَمًا. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} فَإِنَّ الِاضْطِرَارَ هُوَ الضَّرَرُ الَّذِي يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ جُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ; وَالْمَعْنَى هَهُنَا مِنْ إصَابَةِ ضُرِّ الْجُوعِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ; وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فِي مَخْمَصَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: "الْمَخْمَصَةُ الْمَجَاعَةُ". فَأَبَاحَ اللَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَكْلَ جَمِيعَ مَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الْآيَةِ, وَلَمْ يَمْنَعْ مَا عَرَضَ مِنْ قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} مَعَ مَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ عَوْدِ التَّخْصِيصِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ, فَاَلَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} إبَاحَةُ الْأَنْعَامِ. {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فِيهِ بَيَانُ إبَاحَةِ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْلَالِ وَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي قَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} , ثُمَّ بَيَّنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ, ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ حَالَ الضَّرُورَةِ وَأَبَانَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي التَّحْرِيمِ, وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَفِي جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ, فَمَتَى اُضْطُرَّ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ بِمُقْتَضَى الآية.

وقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدُ وَالسُّدِّيُّ: "غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ" فَكَأَنَّهُ قَالَ: غَيْرَ مُعْتَمِدٍ بِهَوَاهُ إلَى إثْمٍ, وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ بعد زوال الضرورة.

مطلب: اسم الطيبات يطلق على الجلال وعلى المستلذ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} اسْمُ الطَّيِّبَاتِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الطَّيِّبُ الْمُسْتَلَذُّ, وَالْآخَرُ: الْحَلَالُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ضِدَّ الطَّيِّبِ هُوَ الْخَبِيثُ, وَالْخَبِيثُ حَرَامٌ, فَإِذَا الطَّيِّبُ حَلَالٌ; وَالْأَصْلُ فِيهِ الِاسْتِلْذَاذُ, فَشَبَّهَ الْحَلَالَ بِهِ فِي انْتِفَاءِ الْمَضَرَّةِ مِنْهُمَا جَمِيعًا; وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] يَعْنِي الْحَلَالَ, وَقَالَ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَجَعَلَ الطَّيِّبَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبَائِثِ, وَالْخَبَائِثُ هِيَ الْمُحَرَّمَاتُ; وَقَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَهُوَ يَحْتَمِلُ: مَا حل لكم, ويحتمل: ما استطبتموه.

مطلب: يحتج بظاهر هذه الآية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل فقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ وَاسْتَلْذَذْتُمُوهُ مِمَّا لَا ضَرَرَ عَلَيْكُمْ فِي تَنَاوُلِهِ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ, فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَى الْحَلَالِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَى مُتَنَاوِلِهِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَحْتَجَّ بِظَاهِرِهِ فِي إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ إلا ما خصه الدليل.

مطلب: في معنى المراد من قول ابن مسعود: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"

مطلب: في معنى المراد من قول ابن مَسْعُودٍ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حرم عليكم" وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ بِالشِّفَاءِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ جَعَلَ لَنَا مَنْدُوحَةً وَغِنًى عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا أَبَاحَهُ لَنَا مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ حَتَّى لَا يَضُرَّنَا فَقْدُ مَا حُرِّمَ فِي أُمُورِ دُنْيَانَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم "أنه مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا". وَهَذِهِ الْآيَاتُ يُحْتَجُّ بِهَا فِي الْمَصِيرِ إلَى التَّخْفِيفِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَسَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ, وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَ; لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنَّا, وَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ غَايَةُ التَّثْقِيلِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي كِتَابِهِ.

باب التجارات وخيار البيع

بَابٌ التِّجَارَاتُ وَخِيَارُ الْبَيْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ هَذَا الْعُمُومُ النهي عن أكل مال الغير

باب خيار المتبايعين

بَابٌ خِيَارُ الْمُتَبَايِعَيْنِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "إذَا عُقِدَ بَيْعٌ بِكَلَامٍ فَلَا خِيَارَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا" وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا عَقَدَا فَهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "هُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا فِي بُيُوعٍ ثَلَاثَةٍ: بَيْعُ مُزَايَدَةِ الْغَنَائِمِ وَالشَّرِكَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَالشَّرِكَةُ فِي التِّجَارَةِ, فَإِذَا صَافَقَهُ فَقَدْ وَجَبَ وَلَيْسَا فِيهِ بِالْخِيَارِ". وَوَقْتُ الْفُرْقَةِ أَنْ يَتَوَارَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ; وَقَالَ اللَّيْثُ: "التَّفَرُّقُ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا". وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الْخِيَارَ يَقُولُ: إذَا خَيَّرَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَاخْتَارَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. وَرُوِيَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ

مطلب: في قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار"

مطلب: في قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار" وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا", وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "الْبَائِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا", فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ تَقْتَضِي حَالَ التَّبَايُعِ وَهِيَ حَالُ السَّوْمِ, فَإِذَا أَبْرَمَا الْبَيْعَ وَتَرَاضَيَا فَقَدْ وَقَعَ الْبَيْعُ, فَلَيْسَا مُتَبَايِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ الْمُتَضَارِبَيْنِ وَالْمُتَقَايِلِينَ إنَّمَا يَلْحَقُهُمَا هَذَا الِاسْمُ فِي حَالِ التَّضَارُبِ وَالتَّقَايُلِ, وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْفِعْلِ لَا يُسَمَّيَانِ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَانَا مُتَقَايِلَيْنِ وَمُتَضَارِبَيْنِ; وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ مَعْنَى اللَّفْظِ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّأْوِيلُ يُودِي إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ الْمُتَسَاوِمَيْنِ قَبْلَ وُجُودِ التَّرَاضِي بِالْعَقْدِ هُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا فِي إيقَاعِ الْعَقْدِ أَوْ تَرْكِهِ. قِيلَ لَهُ: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ, وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ لِلْمُشْتَرِي "قَدْ بِعْتُك" أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ رُجُوعٌ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي, كَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى وَلَا لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ; فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَأَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْعِتْقِ وَالْخُلْعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْمُتَسَاوِمَانِ مُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ وُقُوعِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ لَهُ: جَائِزٌ إذَا قَصَدَا إلَى الْبَيْعِ بِإِظْهَارِ السَّوْمِ فِيهِ كَمَا نُسَمِّي الْقَاصِدَيْنِ إلَى الْقَتْلِ مُتَقَاتِلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمَا قَتْلٌ بَعْدُ, وَكَمَا قِيلَ لِوَلَدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام المأمور بذبحه: الذبيح

باب النهي عن التمني

بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّمَنِّي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ وَيُذْكَرُ الرِّجَالُ وَلَا تُذْكَرُ النِّسَاءُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الْآيَةَ, وَنَزَلَتْ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "لَا يَتَمَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ وَمَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ شَيْئًا وَلَا الصَّبِيَّ وَيَجْعَلُونَ الْمِيرَاثَ لِمَنْ يُحِبُّونَ فَلَمَّا أُلْحِقَ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا وَلِلصَّبِيِّ نَصِيبُهُ وَجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ, قَالَتْ النِّسَاءُ: لَوْ كَانَ أَنْصِبَاؤُنَا فِي الْمِيرَاثِ كَأَنْصِبَاءِ الرِّجَالِ وَقَالَ الرِّجَالُ: إنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} يَقُولُ: الْمَرْأَةُ تُجْزَى بِحَسَنَاتِهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا كَمَا يُجْزَى الرَّجُلُ; قَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} وَنَهَى اللَّهُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَهُ فِي إعْطَائِهِ ما أعطى

مطلب: التمني على وجهين محظور وغير محظور

مطلب: التمني على وجهين محظور وغير محظور قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالتَّمَنِّي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُلُ أَنْ تَزُولَ نِعْمَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ, فَهَذَا الْحَسَدُ, وَهُوَ التَّمَنِّي الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ, فَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ إذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ, وَمَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ. وَمِنْ التَّمَنِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنْ يَتَمَنَّى مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ, مِثْلُ أَنْ تَتَمَنَّى الْمَرْأَةُ أَنْ تَكُونَ رَجُلًا أَوْ تَتَمَنَّى حَالَ الْخِلَافَةِ وَالْإِمَامَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ وَلَا تَقَعُ. وقَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَظًّا مِنْ الثَّوَابِ قَدْ عَرَضَ لَهُ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِهِ وَلُطِفَ لَهُ فِيهِ حَتَّى اسْتَحَقَّهُ وَبَلَغَ عُلُوَّ الْمَنْزِلَةِ بِهِ, فَلَا تَتَمَنَّوْا خِلَافَ هَذَا التَّدْبِيرِ, فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ غَيْرُ مَبْخُوسٍ وَلَا مَنْقُوصٍ وَالْآخَرُ: أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبَ فَلَا يُضَيِّعُهُ بِتَمَنِّي مَا لِغَيْرِهِ مُحْبِطًا لِعَمَلِهِ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا, فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ إنْ احْتَجْتُمْ إلَى مَا لِغَيْرِكُمْ فَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَكُمْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ, لَا بِأَنْ تَتَمَنَّوْا مَا لِغَيْرِكُمْ; إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُغْنِي إنْ تَكُنْ مَعْقُودَةً بِشَرِيطَةِ الْمَصْلَحَةِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب.

باب العصبة

بَابِ الْعَصَبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . قال ابن عباس

باب ولاء الموالاة

بَابُ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} روى طلحة بن

مطلب: في معنى قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"

مطلب: في معنى قوله: "انصر أخاك ظالما أَوْ مَظْلُومًا" وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" قَالُوا: يَا رَسُولُ اللَّهِ هَذَا يُعِينُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ يُعِينُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "أَنْ تَرُدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ مَعُونَةٌ مِنْكَ لَهُ". وَكَانَ فِي حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَرِثَهُ الْحَلِيفُ دُونَ أَقْرِبَائِهِ فَنَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" التَّحَالُفَ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمُحَامَاةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي دِينٍ أَوْ حُكْمٍ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ دُونَ مَا يَعْقِدُهُ الْحَلِيفُ عَلَى نَفْسِهِ, وَنَفَى أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْحَلِيفُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْأَقَارِبِ; فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ زَادَهُ شِدَّةً وَتَغْلِيظًا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَإِبْطَالِهِ, فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجُزْ الْحِلْفُ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَنَاصُرِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَاوُنِهِمْ فَحِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّوَارُثِ بِالْمُوَالَاةِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ إنَّهُ جَائِزٌ, وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِيرَاثَهُ لِغَيْرِهِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَيَزْوِيَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ, جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ; إذْ كَانَتْ الْمُوَالَاةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِعَقْدِهِ وَإِيجَابِهِ وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِوَلَائِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ, فَأَشْبَهَتْ الْوَصِيَّةَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ وَإِيجَابِهِ وَمَتَى شَاءَ رَجَعَ فِيهَا; إلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُ الْوَصِيَّةَ مِنْ وَجْهٍ, وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ذَا رَحِمٍ كَانَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؟ وَلَمْ يَكُنْ فِي الثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ فَيَجُوزُ لَهُ مِنْهُ الثُّلُثُ بَلْ لَا يُعْطَى شَيْئًا إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ, فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ مِنْ وَجْهٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ, وَيُفَارِقُهَا مِنْ وَجْهٍ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب ما يجب على المرأة من طاعة زوجها

بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . رَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ امْرَأَتَهُ, فَأَتَى أَخُوهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقِصَاصُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الْآيَةَ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَطَمَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ, فَاسْتَعْدَتْ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] , ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ, وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَطَمَهَا; لِأَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ, وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ضَرْبَهَا عِنْدَ النُّشُوزِ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ضَرْبُهُ إيَّاهَا لِأَجْلِ النُّشُوزِ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَاصَ. قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إبَاحَةُ الضَّرْبِ عِنْدَ النُّشُوزِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} نَزَلَ بَعْدُ, فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْئًا, فَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} قِيَامَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ لِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ وَبِمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدِهَا: تَفْضِيلُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبِهَا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ إمْسَاكَهَا فِي بَيْتِهِ وَمَنْعِهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ أَمْرِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةٌ. وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وقوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} مُنْتَظِمٌ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِمَّا يَلْزَمُ الزَّوْجَ لَهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي النِّسَاءِ الصَّالِحَةَ; وَقَوْلُهُ: {قَانِتَاتٌ} , رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: "مُطِيعَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَزْوَاجِهِنَّ" وَأَصْلُ الْقُنُوتِ مُدَاوَمَةُ الطَّاعَةِ, وَمِنْهُ الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ لِطُولِ الْقِيَامِ. وَقَوْلُهُ: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} , قَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: "حَافِظَاتٌ لِمَا غَابَ عَنْهُ أزواجهن من ماله وما

باب النهي عن النشوز

بَابُ النَّهْي عَنْ النُّشُوزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} . قِيلَ فِي مَعْنَى تَخَافُونَ مَعْنَيَانِ: أَحَدِهِمَا: يَعْلَمُونَ; لِأَنَّ خَوْفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْعِلْمِ بِمَوْقِعِهِ, فَجَازَ أَنْ يُوضَعَ مَكَانَ" يَعْلَمُ" "يَخَافُ" كَمَا قَالَ أَبُو مِحْجَنِ الثَّقَفِيِّ: وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَيَكُونُ خِفْت بِمَعْنَى ظَنَنْت, وَقَدْ ذَكَرُهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: "هُوَ الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَمْنِ, كَأَنَّهُ قِيلَ: تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ بِعِلْمِكُمْ بِالْحَالِ الْمُؤْذِنَةِ بِهِ". وَأَمَّا النُّشُوزُ, فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَطَاءً وَالسُّدِّيَّ قَالُوا: "أَرَادَ بِهِ مَعْصِيَةَ الزَّوْجِ فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنْ طَاعَتِهِ", وَأَصْلُ النُّشُوزِ التَّرَفُّعُ عَلَى الزَّوْجِ بِمُخَالَفَتِهِ, مَأْخُوذٌ مِنْ نَشَزِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا. وقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} , يَعْنِي خَوِّفُوهُنَّ بِاَللَّهِ وَبِعِقَابِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "هَجْرُ الْكَلَامِ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "هَجْرُ الْجِمَاعِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: "هَجْرُ الْمُضَاجَعَةِ". وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إذَا أَطَاعَتْهُ فِي الْمَضْجَعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "إذَا نَشَزَتْ عَنْ فِرَاشِهِ يَقُولُ لَهَا اتَّقِي اللَّهَ وَارْجِعِي". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةٍ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ بِعَرَفَاتٍ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ, وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ, وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الضَّرْبُ غَيْرُ المبرح بالسواك

باب الحكمين كيف يعملان

بَابُ الْحَكَمَيْنِ كَيْفَ يَعْمَلَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ, فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ: "أَنَّهُ السُّلْطَانُ الَّذِي يَتَرَافَعَانِ إلَيْهِ" وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ لِمَا فِي نَسَقِ الْآيَةِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ, وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} , وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْحَاكِمِ النَّاظِرِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَالْمَانِعِ مِنْ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَمْرَ الزَّوْجِ وَأَمَرَهُ بِوَعْظِهَا وَتَخْوِيفِهَا بِاَللَّهِ ثُمَّ بِهِجْرَانِهَا فِي الْمَضْجَعِ إنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ثُمَّ بِضَرْبِهَا إنْ أَقَامَتْ عَلَى نُشُوزِهَا, ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ بَعْدَ الضَّرْبِ لِلزَّوْجِ إلَّا الْمُحَاكَمَةَ إلَى مَنْ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْهُمَا مِنْ الظَّالِمِ وَيَتَوَجَّهُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ الْحَكَمَيْنِ, فَغَضِبَ وَقَالَ: "مَا وُلِدْت; إذْ ذَاكَ"; فَقُلْت: إنَّمَا أَعْنِي حَكَمَيْ شِقَاقٍ, قَالَ: "إذَا كَانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ دَرْءٌ1 وَتَدَارُؤٌ بَعَثُوا حَكَمَيْنِ فَأَقْبَلَا عَلَى الَّذِي جَاءَ التَّدَارُؤُ مِنْ قِبَلِهِ فَوَعَظَاهُ, فَإِنْ أَطَاعَهُمَا وَإِلَّا أَقْبَلَا عَلَى الْآخَرِ, فَإِنْ سَمِعَ مِنْهُمَا وَأَقْبَلَ إلَى الَّذِي يُرِيدَانِ وَإِلَّا حَكَمَا بَيْنَهُمَا, فَمَا حَكَمَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ". وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْمُخْتَلِعَةِ: "يَعِظُهَا فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا وَإِلَّا ضَرَبَهَا, فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا رَفَعَ أَمْرَهَا إلَى السُّلْطَانِ, فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ, فَيَقُولُ الْحَكَمُ الَّذِي مِنْ أَهْلِهَا يَفْعَلُ كَذَا وَيَفْعَلُ كَذَا, وَيَقُولُ الْحَكَمُ الَّذِي مِنْ أَهْلِهِ تَفْعَلُ بِهِ كَذَا وَتَفْعَلُ بِهِ كَذَا, فَأَيُّهُمَا كَانَ أَظْلَمَ رَدَّهُ إلَى السُّلْطَانِ وَأَخَذَ فَوْقَ يَدِهِ, وَإِنْ كَانَتْ نَاشِزًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْلَعَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا نَظِيرُ الْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَالْإِيلَاءِ فِي بَابِ أَنَّ الحاكم هو الذي

_ 1 قوله: "درء" الدرء الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ. "لمصححه".

باب الخلع دون السلطان

بَابُ الْخُلْعُ دُونَ السُّلْطَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ الْخُلْعُ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: "لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَ غَيْرِ سُلْطَانٍ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] اقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ أَخْذِهِ ذَلِكَ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَكَمَا جَازَ عَقْدُ النِّكَاحِ وَسَائِرُ الْعُقُودِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ, كَذَلِكَ يَجُوزُ الْخُلْعُ; إذْ لَا اخْتِصَاصَ فِي الْأُصُولِ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِكَوْنِهَا عِنْدَ السُّلْطَانِ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

باب بر الوالدين

بَابُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فَقَرَنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إلْزَامَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَأَمَرَ بِهِ كَمَا أَمَرَ بِهِمَا, كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] , وَكَفَى بذلك دلالة

ذكر الخلاف في الشفعة بالجوار

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "الشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ أَحَقُّ مِنْ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ, ثُمَّ الشَّرِيكُ فِي الطَّرِيقِ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ الْمُلَازِقِ, ثُمَّ الْجَارُ الْمُلَازِقُ بَعْدَهُمَا" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ والشافعي: "لا شفعة إلا

مطلب: إذا خرج الكلام على سبب فلا مفهوم له عند الفقهاء

مَطْلَبٌ: إذَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى سَبَبٍ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَيْضًا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَلَامًا خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ, فَنَقَلَ الرَّاوِي لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ نَقْلَ السَّبَبِ, نَحْوُ أَنْ يَخْتَصِمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا جَارٌ وَالْآخِرُ شَرِيكٌ, فَيَحْكُمُ بِالشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ; وَقَالَ: فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ الْمَقْسُومِ مَعَ الْجَارِ; كَمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ" وَهُوَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ كَلَامٌ خَارِجٌ عَلَى سَبَبٍ اقْتَصَرَ فِيهِ رَاوِيهِ عَلَى نَقْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ ذِكْرِ السَّبَبِ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سُئِلَ عَنْ النَّوْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا بِيعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ" يَعْنِي فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ; كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَتْ أَخْبَارُ إيجَابِ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ وَأَخْبَارُ نَفْيِهَا, لَكَانَتْ أَخْبَارُ الْإِيجَابِ أَوْلَى مِنْ أَخْبَارِ النَّفْيِ; لِأَنَّ الْأَصْلُ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهَا, فَخَبَرُ نَفْيِ الشُّفْعَةِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ وَخَبَرُ إثْبَاتِهَا نَاقِلٌ عَنْهُ وَارِدٌ بَعْدَهُ فَهُوَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا أَكْثَرُهَا يَنْفِي هَذَا التَّأْوِيلَ; لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ جَارَ الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ دَارِهِ, وَالشَّرِيكُ لَا يُسَمَّى جَارَ الدَّارِ; وَحَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ فِيهِ: "يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا" وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الشَّرِيكِ فِي الْمَبِيعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّرِيكَ لَا يُسَمَّى جَارًا; لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْجِوَارِ بِالشَّرِكَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَرِيكَيْنِ فِي شَيْءٍ جَارَيْنِ, كَالشَّرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ وَدَابَّةٍ وَاحِدَةٍ, فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمُ الْجَارِ بِالشَّرِكَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ لَا يُسَمَّى جَارًا, وَإِنَّمَا الْجَارُ هُوَ الَّذِي يَنْفَرِدُ حَقُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ حَقِّ الشَّرِيكِ وَيَتَمَيَّزُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ; لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُصُولَ الجوار بالقسمة. والدليل عليه أن الشركة في سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لَا تُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِعَدَمِ حُصُولِ الْجِوَارِ بِهَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعَقَارِ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْجِوَارِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ, وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ مِنْ الْجَارِ

مطلب: في معنى البخل لغة وشرعا

مطلب: في معنى البخل لغة وشرعا قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . قِيلَ فِي مَعْنَى الْبُخْلِ فِي اللُّغَةِ: إنَّهُ مَشَقَّةُ الْإِعْطَاءِ, وَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ مَا لَا يَنْفَعُ مَنْعُهُ وَلَا يَضُرُّ بَذْلُهُ. وَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ, وَنَظِيرُهُ الشُّحُّ, وَنَقِيضُهُ الْجُودُ. وَقَدْ عُقِلَ مِنْ مَعْنَاهُ فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ أَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ. وَيُقَالُ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَى جِهَةِ أَنَّ فَاعِلَهُ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً بِالْمَنْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] فَأَطْلَقَ الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ فِي مَالِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ إذْ بَخِلُوا بِمَا أُعْطُوا مِنْ الرِّزْقِ. وَكَتَمُوا مَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَفِيمَنْ كَتَمَ نِعَمَ اللَّهِ وَأَنْكَرَهَا, وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاعْتِرَافُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ وَجَاحِدُهَا كَافِرٌ, وَأَصْلُ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْطِيَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِتْمَانِهَا وَجُحُودِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ, لَا عَلَى جِهَةِ الْفَخْرِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ وَالشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخَرَ, وَأَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَلَا فَخْرَ" فَأَخْبَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ وَأَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ إخْبَارُهُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَى" وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْهُ, وَلَكِنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . [لنجم: 32] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَمْدَحُ رَجُلًا فَقَالَ: "لَوْ سَمِعَكَ لَقَطَعْت ظَهْرَهُ". وَرَأَى الْمِقْدَادُ رَجُلًا يمدح عثمان

_ == الطب ومرة الخير, قال الحارث الغنوي: سجد حتى اكل التراب جبهته. هكذا في خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".

باب الجنب يمر في المسجد

باب الجنب يمر في المسجد ... لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] , وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ثُمَّ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قَالَ: "كَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: "شُرِبَتْ الْخَمْرَ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَاَلَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ, وَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلَاةُ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ تَرَكُوهَا, ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي الْمَائِدَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ السُّكْرُ مِنْ الشَّرَابِ, وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَزِينٍ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شُرْبَهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ; فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} النَّهْيَ عَنْ شُرْبِهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا سُكَارَى عِنْدَ لُزُومِ فَرْضِ الصَّلَاةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إنَّمَا أَفَادَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ, وَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا يَكُنْ مِنْكُمْ شُرْبٌ تَصِيرُونَ بِهِ إلَى حَالِ السُّكْرِ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِفِعْلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا مَنْهِيِّينَ عَنْ تَرْكِهَا, قَالَ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} , وَقَدْ عِلْمنَا أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَاةِ, كَانَ فِي مَضْمُونِ هَذَا اللَّفْظِ النَّهْيُ عَمَّا يُوجِبُ السُّكْرَ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ, كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نُهِينَا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ". وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} , كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ. وَلَمْ يُوجِبْ كون الإنسان جنبا أو محدثا

مطلب: ورد من بعض الخصوصيات لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم

مطلب: ورد من بعض الخصوصيات لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وَمَا ذُكِرَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ صَحِيحٌ, وَقَوْلُ الرَّاوِي: "لِأَنَّهُ كَانَ بَيْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ" ظَنًّا مِنْهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ الشَّارِعَةِ إلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ الْمُرُورَ لِأَجْلِ كَوْنِ بُيُوتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ, وَإِنَّمَا كَانَتْ الْخُصُوصِيَّةُ فِيهِ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ, كَمَا خُصَّ جَعْفَرُ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ الشُّهَدَاءِ, وَكَمَا خُصَّ حَنْظَلَةُ بِغَسْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ حِينَ قُتِلَ جُنُبًا, وَخُصُّ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى صُورَتِهِ, وَخُصَّ الزُّبَيْرُ بِإِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَمَّا شَكَا مِنْ أَذَى الْقَمْلِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مُجْتَازِينَ وَغَيْرَ مُجْتَازِينَ. وَأَمَّا مَا رَوَى جَابِرٌ: "كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَهُوَ جُنُبٌ" فَلَا حُجَّةَ فِيهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: "كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَحْظُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ; وَلَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رُوِيَ مَا وَصَفْنَا لَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى; لِأَنَّهُ طَارِئٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا وَلَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ حَظْرُ الْقُعُودِ فِيهِ لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الِاجْتِيَازِ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ; وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي حَظْرِ الْقُعُودِ فِيهِ هُوَ الْكَوْنُ فِيهِ جُنُبًا وَذَلِكَ موجود في الاجتياز,

مطلب: في بيان التزكية المنهي عنها

مطلب: في بيان التزكية المنهي عنها قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّزْكِيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, وَقَالَ اللَّهُ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ} . قَوْله تَعَالَى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ: "أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هَهُنَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً". وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَرَبُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ"; وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّ أَوَّلَ الْخِطَابِ فِي ذِكْرِ الْيَهُودِ, وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَقْرَءُونَ فِي كُتُبِهِمْ مَبْعَثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات

بَابُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي الْمَأْمُورِينَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ, فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَكْحُولٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "إنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ, أَمَرَ بِأَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ مَفَاتِيحُ الْكَعْبَةِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "هُوَ فِي كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءِ "; وَهَذِهِ أَوْلَى; لِأَنَّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} خِطَابٌ يَقْتَضِي عُمُومُهُ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ; وَأَظُنُّ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ ذَهَبَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِوُلَاةِ الْأَمْرِ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ مُنْصَرِفًا إلَيْهِمْ; وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ; إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْخِطَابِ عُمُومًا فِي سائر الناس وما عطف عليه

باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل

بَابُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} , وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ حُبَابِ الْحُلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ ثَابِتٌ الْأَعْرَجُ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ وَإِذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وَإِذَا اُسْتُرْحِمْت رَحِمَتْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ, فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إنَّكَ لَتَشْتُمَنِي وَفِي ثَلَاثُ خِصَالٍ: إنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوَدِدْتُ بِاَللَّهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ, وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ وَلَعَلِّي لَا أُقَاضَى إلَيْهِ أَبَدًا, وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ وَمَا لِي مِنْ سَائِمَةٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى, وأن يخشوه وَلَا يَخْشَوْا النَّاسَ, وَأَنْ لَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ثُمَّ قَرَأَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] الْآيَةَ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .

باب في طاعة أولي الأمر

بَابُ فِي طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ أُولِي الْأَمْرِ, فَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: "أَنَّهُمْ أُولُو الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ", وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُرَادِينَ بِالْآيَةِ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا; لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ يَلُونَ أَمْرَ تَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا وَقِتَالِ الْعَدُوِّ, وَالْعُلَمَاءَ يَلُونَ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَمَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزُ, فَأَمَرَ النَّاسَ بِطَاعَتِهِمْ وَالْقَبُولَ مِنْهُمْ مَا عَدَلَ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ عُدُولًا مَرْضِيِّينَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ فِيمَا يُؤَدُّونَ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء: 7] . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ هَهُنَا أَنَّهُمْ الْأُمَرَاءُ; لِأَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ; وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَمْلِكُ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ, ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ مَا دَامُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ وَلَيْسَ بِمُمْتَنَعٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِطَاعَةِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا وَالْعُلَمَاءُ; إذْ لَيْسَ فِي تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِيفِ مِنْ مِنًى فَقَالَ: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا, فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لا يغل1 عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لِلَّهِ تَعَالَى" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "وَطَاعَةُ ذَوِي الْأَمْرِ" وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "وَالنَّصِيحَةُ لِأُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ, فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ". وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءَ. وقَوْله تَعَالَى عَقِيبَ ذَلِكَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ الْفُقَهَاءُ; لِأَنَّهُ أَمَرَ سَائِرَ النَّاسِ بِطَاعَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , فَأَمَرَ أُولِي الْأَمْرِ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ كَانَتْ الْعَامَّةُ وَمَنْ لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُمْ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّدِّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَالسُّنَّةِ وَوُجُوهَ دَلَائِلِهِمَا عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَثَبَتَ أَنَّهُ خطاب للعلماء.

_ 1 قوله عليه السلام: "لا يغل" فيه روايتان, بفتح الياء وكسر الغين وبضم الياء زكسر الغين, فمعنى الول: لا يدخل قلبه حقد يزيله عن الخق, ومعنى الثاني: لا يكون في قلبه غش ولكن يكون مخلصا في هذه الأشياء لله تعالى. "لمصححه".

مطلب: في إبطال قول الرافضة يشترط أن يكون الإمام معصوما

مطلب: فِي إبْطَالِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مَعْصُومًا وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ فِي الْإِمَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} , قَالَ: فَلَيْسَ يَخْلُو أُولُو الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا الْفُقَهَاءَ أَوْ الْأُمَرَاءَ أَوْ الْإِمَامَ الَّذِي يَدْعُونَهُ, فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْفُقَهَاءَ وَالْأُمَرَاءَ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ, وَالْفُقَهَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَقَدْ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِمْ. وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْإِمَامَةِ فَإِنَّ شَرْطَ الْإِمَامِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِمَامَ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إمَامٌ مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ لَكَانَ الرَّدُّ إلَيْهِ وَاجِبًا وَكَانَ هُوَ يَقْطَعُ الْخِلَافَ وَالتَّنَازُعَ, فَلَمَّا أَمَرَ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْإِمَامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي الْإِمَامَةِ, وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إمَامٌ تَجِبُ طَاعَتُهُ لَقَالَ: فَرُدُّوهُ إلَى الْإِمَامِ; لِأَنَّ الْإِمَامَ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَقْضِي قَوْلُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, فَلَمَّا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَالْفُقَهَاءِ وَأَمَرَ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْإِمَامِ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ غَيْرُ مَفْرُوضِ الطَّاعَةِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا, وَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَزَعَمَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ; لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ جَمَاعَةٌ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ إمَامًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أُمَرَاءَ وَقَدْ كَانَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِمَعْصِيَةٍ, وَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةٌ.

مطلب: قي بيان مراد من قوله تعالى: {فردوه إلى الله والرسول}

مطلب: قي بيان مراد من قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَمَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ وَالسُّدِّيِّ: "إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ إلَى كِتَابِ الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ بِاسْمِهِ وَمَعْنَاهُ, وَالثَّانِي: الرَّدُّ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَاعْتِبَارِهِ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَائِرِ; وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا, فَوَجَبَ إذَا تَنَازَعْنَا فِي شَيْءٍ رَدُّهُ إلَى نَصِّ

مطلب: يجوز الاجتهاد في حالين مع وجوده صلى الله عليه وسلم

مطلب: يجوز الاجتهاد في حالين مع وجوده صلى الله عليه وسلم فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ مُخَاطَبِينَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ عَلَيْهِمْ التَّسْلِيمُ لَهُ وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ دُونَ تَكَلُّفِ الرَّدِّ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ, ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَنْصُوصِ وَتَرْكُ تَكَلُّفِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ وَذَلِكَ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَرَدَّ الْحَوَادِثِ إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْمَنْصُوصِ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِي حَالٍ; فَأَمَّا الْحَالَانِ اللَّتَانِ كَانَتَا يَجُوزُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِحْدَاهُمَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ عَنْ حَضْرَتِهِ, كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ تَقْضِي إنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ, قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو, قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: "الْحَمْدُ لله الذي وفق رسول

باب وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

بَابُ وُجُوبُ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} , وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فَأَكَّدَ جَلَّ وَعَلَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ وُجُوبَ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَبَانَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ, وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] , فَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ, وَجَعَلَ مُخَالِفَ أَمْرِ الرَّسُولِ وَالْمُمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا جَاءَ بِهِ وَالشَّاكَّ فِيهِ خَارِجًا مِنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

مطلب: فيما دلت عليه هذه الآية من وجوب القول بالقياس

مطلب: فيما دلت عليه هذه الآية من وجوب القول بالقياس وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ إذَا كَانُوا بِحَضْرَتِهِ وَإِلَى الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْغَيْبَةِ عَنْ حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَهَذَا لَا مَحَالَةَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِنْبَاطِهِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُودَعٌ فِي النَّصِّ قَدْ كَلَّفَنَا الْوُصُولَ إلَى عِلْمِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ وَاسْتِنْبَاطِهِ فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بَلْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَهُ وَالتَّوَصُّلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِرَدِّهِ إلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَنْصُوصِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَامِّيَّ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كان مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِدَلَائِلِهَا; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إلَى الرَّسُولِ, وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ, ثُمَّ قَالَ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وَلَمْ يَخُصَّ أُولِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ دُونَ الرَّسُولِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْجَمِيعِ الِاسْتِنْبَاطَ وَالتَّوَصُّلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالِاسْتِدْلَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا اسْتِنْبَاطًا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ, إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْأَرَاجِيفِ الَّتِي كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ بِهَا, فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا وَرَدِّ ذَلِكَ إلَى الرَّسُولِ, وَإِلَى الْأُمَرَاءِ حَتَّى لَا يُفْتُوا1 فِي أَعْضَادِ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ شَيْءٌ يُوجِبُ الْخَوْفَ, وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُوجِبُ الْأَمْنَ لِئَلَّا يَأْمَنُوا فَيَتْرُكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْكُفَّارِ; فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. قِيلَ لَهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى أَمْرِ الْعَدُوِّ; لِأَنَّ الْأَمْنَ والخوف قد يكونان فيما

_ 1 قوله: "لا يفتوا" يقال فت في عضد فلان أي أضعفه وأوهنه. "لمصححه".

مطلب: إذا عقد الإمام عهدا بينه زبين قوم يدخل من كان في حيزهم وأهل نصرتهم

مطلب: إذا عقد الإمام عهدا بينه زبين قوم يدخل من كان في حيزهم وأهل نصرتهم قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا عَقَدَ الْإِمَامُ عَهْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا مَحَالَةَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ بِالرَّحِمِ أَوْ الْحِلْفِ أَوْ الْوَلَاءِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِهِمْ وَمِنْ أَهْلِ نُصْرَتِهِمْ, وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَهْدِ مَا لَمْ يَشْرِطْ, وَمَنْ شَرَطَ مِنْ أَهْلِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى دُخُولَهُ فِي عَهْدِ الْمُعَاهَدِينَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِمْ إذَا عَقَدَ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو كِنَانَةَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ" فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مُعَاهَدَةَ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَادَعَتَهُمْ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] , فَهُوَ كَمَا قَالَ; لِأَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ, فَأُمِرُوا أَنْ لَا يَقْبَلُوا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ, فَنَسَخَ بِهِ الْهُدْنَةَ وَالصُّلْحَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَمَرَنَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {"قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ. وَأَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَقَدْ كَانُوا أَسْلَمُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَرَجَعَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَمَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ, فَهَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي نَسْخِ مُعَاهَدَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ وَالدُّخُولِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا فَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا بَعْدَمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَ أَهْلَهُ عَلَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ, فَاسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَنْ الْعَهْدِ وَالصُّلْحِ. إلَّا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لِعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ أَوْ خَوْفٍ مِنْهُمْ على أنفسهم أو

باب قتل الخطإ

بَابُ قَتْلِ الْخَطَإِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" كَانَ" هَهُنَا, فَقَالَ قَتَادَةُ: "مَعْنَاهُ مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "مَا كَانَ لَهُ سَبَبُ جَوَازِ قَتْلٍ". وَقَالَ آخَرُونَ: "مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا سلف كما ليس له الآن".

مطلب: تصح البراءة ما لم يردها المبرأ

مطلب: تصح البراءة ما لم يردها المبرأ تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مَا لَمْ يَرُدَّهَا الْمُبَرَّأُ. قَوْله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا أَنْ يُبَرِّئَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ مِنْ الدِّيَةِ; فَسُمِّيَ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا صَدَقَةً. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ من كان له على آخر دين

باب شبه العمد

بَابُ شِبْهِ الْعَمْدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمْدَ مَا كان بسلاح أو ما يجري مجراه,

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ الْآلَةِ, وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ بِحَجَرٍ شَجَّهُ أَوْ بِحَدِيدٍ, وَفِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ التَّغْلِيظِ إذَا تَعَذَّرَ فِيهِ الْقِصَاصُ; وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ الْعَمْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَقَالَ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] , وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ وُقُوعِهَا بِحَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي إثْبَاتِ خَطَإِ الْعَمْدِ فِي الْقَتْلِ, وَذَلِكَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ, وَلَمْ يَرِدْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تَوْقِيفٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِيهِ, وَأَثْبَتُوا فِيهِ التَّغْلِيظَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ فِيهِ الْقِصَاصُ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ حِينَ كَانَ عَمْدًا فِي الْفِعْلِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ" أَنَّهُ قَضَى عَلَى قَتَادَةَ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ مُغَلَّظَةٌ "; حِينَ كَانَ عَمْدًا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ, كَذَلِكَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا كَانَ عَمْدًا قَدْ سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ إيجَابُ قِسْطِهِ مِنْ الدِّيَةِ مُغَلَّظًا; وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهَا بِأَيِّ شَيْءٍ جَرَحَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا الْخَطَأَ وَشِبْهَ الْعَمْدِ وَبَيَّنَّا الْعَمْدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب مبلغ الدية من الإبل

بَابُ مَبْلَغُ الدِّيَةِ مِنْ الْإِبِلِ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِقْدَارِ الدِّيَةِ وَأَنَّهَا مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ, فَمِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بِخَيْبَرَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: "أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ دِيَةَ الْخَطَإِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا

باب أسنان الإبل في دية الخطإ

بَابُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ, فَرَوَى عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا: "عِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ". وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْمَاسًا أَيْضًا. وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ وَإِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلِيٍّ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ أَرْبَاعًا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ أَرْبَعَةُ أَسْنَانٍ مِثْلُ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ". وَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "فِي الْخَطَإِ ثَلَاثُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ" وَرُوِيَ عَنْهُمَا مَكَانُ الْجِذَاعِ الْحِقَاقُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ أَخْمَاسٌ, إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْأَسْنَانِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ" وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنِ تَوْبَةَ التَّمَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ جَعَلَ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ أَخْمَاسًا. وَاتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْأَخْمَاسِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ; وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ كَيْفِيَّةِ الْأَسْنَانِ, فَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا وَذَكَرَ الْأَسْنَانَ مِثْلَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَخْمَاسَ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: خِشْفُ بْنُ مَالِكٍ مَجْهُولٌ. قِيلَ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِهِ فِي إثْبَاتِ

باب أسنان الإبل في شبه العمد

بَابُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَرْبَاعًا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ, وَهِيَ مِثْلُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: "فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلٍ عَامُهَا كُلُّهَا خَلِفَةٌ". وَعَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "ثَلَاثُونَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَأَرْبَعُونَ جَذَعَةً خِلْفَةً". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ: "فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ثَنِيَّةٌ إلَى بَازِلِ عَامِهَا, كُلِّهَا خَلِفَةٌ". وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَرْبَاعٌ" عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ: ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خَلِفَةٌ, وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَوَامِلُ" وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثابت ومن قدمنا ذكره

مطلب: في دية المقتول في الحرم والشهر الحرام

مَطْلَبٌ: فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ وَزَفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ: "الْقَتْلُ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ كَهُوَ فِي غَيْرِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ". وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ هَلْ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِ؟ قَالَ: "بَلَغَنَا أَنَّهُ إذَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ زِيدَ عَلَى الْعَقْلِ ثُلُثَهُ وَيُزَادُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ". وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ, وَذَكَرَ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَالَ: "الدِّيَةُ فِي هَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ, وَكَذَلِكَ الْجِرَاحُ, وَكَذَلِكَ التَّغْلِيظُ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَذَوِي الرَّحِمِ" وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِمَكَّةَ بِدِيَةٍ وَثُلُثٍ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عِنْدَ الْبَيْتِ, فَسَأَلَ عُمَرُ عَلِيًّا, فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "دِيَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ" فَلَمْ يَرَ فِيهِ عَلِيٌّ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ, وَلَمْ يُخَالِفْهُ عُمَرُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, وَلَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَرَمِ كَهِيَ فِي الْحِلِّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى, وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ كَذَلِكَ; إذْ الدِّيَةُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْحَرَمِ وَلَا بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى, فَلَوْ كَانَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ تَأْثِيرٌ فِي إلْزَامِ الْغُرْمِ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ, فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: "الدِّيَةُ فِي الْحَرَمِ كَهِيَ فِي غَيْرِهِ, وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ". وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي الْحَرَمِ زِيدَ عَلَى دِيَتِهِ مِثْلُ ثُلُثِهَا" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب الدية من غير الإبل

بَابُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ, فَمِنْ الدَّرَاهِمِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ". وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الدِّيَةَ إلَّا من الإبل والورق والذهب

باب ديات أهل الكفر

بَابُ دِيَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَزَفَرُ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ دِيَةُ الْكَافِرِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِيَاتُ نِسَائِهِمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانمِائَةِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى النِّصْفِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّيَاتِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَالدِّيَةُ اسْمٌ لَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْحُرِّ; لِأَنَّ الدِّيَاتِ قَدْ كَانَتْ مُتَعَالِمَةً مَعْرُوفَةً بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ, فَرَجَعَ الْكَلَامُ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً ثُمَّ لَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} كَانَتْ هَذِهِ الدِّيَةُ هِيَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَدِيًّا; إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ دِيَةً; لِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْكَافِرِ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُسْلِمِ, وَأَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} رَاجِعًا إلَيْهَا, كَمَا عَقَلَ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ أَنَّهَا الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ, وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ, وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ, كَمَا أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَلَا يُخْرِجُهَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ دِيَةً كَامِلَةً لَهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي الْآيَةِ فَقَالَ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} , فَكَمَا اقْتَضَى فِيمَا ذَكَرَهُ لِلْمُسْلِمِ كَمَالَ الدِّيَةِ كَذَلِكَ دِيَةُ الْمُعَاهَدِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اللَّفْظِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُفِ عِنْدَهُمْ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الآخر: أن دية

باب المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا

بَابُ الْمُسْلِمِ يُقِيمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قَالَ: "يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَقَوْمُهُ كُفَّارًا فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَكِنْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا قُتِلَ وَلَهُ أَقَارِبُ كُفَّارٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ, وَأَنَّ كَوْنَ أَقْرِبَائِهِ كُفَّارًا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ دِيَتِهِ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ حَيْثُ لَا يَرِثُونَهُ. وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} الْآيَةَ, قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْلِمَ, ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً فِي سَرِيَّةٍ أَوْ غُزَاةٍ, فَيَعْتِقُ الَّذِي يُصِيبُهُ رَقَبَةً". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهُ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْقَرَابَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ قِيمَةِ دَمِهِ, كَسَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ, عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: "هُوَ الْمُسْلِمُ يَكُونُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَدْرِي فَفِيهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ". وَهَذَا عَلَى أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} قَالَ: "هُوَ الْمُؤْمِنُ يُقْتَلُ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ, فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ, وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ أَدَّى دِيَتَهُ إلَى قَرَابَتِهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَقْرِبَاءَهُ لَا يَرِثُونَهُ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْفَ يَأْخُذُونَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ حَرْبٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدِّيَةُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمُسْلِمٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا وَارِثَ لَهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَمُحَمَّدٌ فِي الْحَرْبِيِّ يُسَلَّمُ. فيقتله مسلم

مطلب: في حكم دم المسلم وماله إذا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا

مطلب: في حكم دم المسلم وماله إذا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ مَنْ أَصَابَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ, وَإِنْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ أُقِيدَ بِهِ; فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ لِدَمِهِ قِيمَةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي وُجُوبِ بَدَلِهِ فِي الْعَمْدِ وَدِيَتِهِ فِي الْخَطَإِ, فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْخَطَإِ شَيْءٌ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعَبْدِ فِيهِ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِدَمِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَيْنَا وَكَانَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الدَّمِ أَجْرَوْهُ أَصْحَابُنَا مُجْرَى الْحَرْبِيِّ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ مُتْلِفِ مَالِهِ; لِأَنَّ دَمَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ مَالِهِ, وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِ نَفْسِهِ. فَمَالُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ ضَمَانٌ, وَأَنْ يَكُونَ كَمَالُ الْحَرْبِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ مُبَايَعَتَهُ عَلَى سَبِيلِ مَا يَجُوزُ مُبَايَعَةُ الْحَرْبِيِّ مِنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجْرَاهُ مُجْرَى الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إقَامَتَهُ هُنَاكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَمَانِ وَهُوَ مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ, فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ قَاتِلِهِمَا; وَاَللَّهُ أعلم.

ذكر أقسام القتل وأحكامه

ذِكْرُ أَقْسَامِ الْقَتْلِ وَأَحْكَامِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَتْلُ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: وَاجِبٌ, وَمُبَاحٌ, ومحظور, وما ليس

باب القتل العمد هل فيه كفارة

بَابُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَنَصَّ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ; وَذَكَرَ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] , وَقَالَ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] , وَخَصَّهُ بِالْعَمْدِ; فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ مَذْكُورًا بِعَيْنِهِ وَمَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِمَا,; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ; وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ الْكَفَّارَةُ"; وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ فِي الْعَمْدِ زِيَادَةٌ فِي حُكْمِ النَّصِّ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ; وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ قِيَاسًا وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ. وَأَيْضًا لَمَّا نَصَّ اللَّهُ عَلَى حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" فَمُوجِبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَامِدِ مُدْخِلٌ فِي أَمْرِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ فَهِيَ فِي الْعَمْدِ أَوْجَبُ; لِأَنَّهُ أَغْلَظُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةً بِالْمَأْثَمِ فَيُعْتَبَرُ عِظَمُ الْمَأْثَمِ فِيهَا; لِأَنَّ الْمُخْطِئَ غَيْرُ آثِمٍ, فَاعْتِبَارُ الْمَأْثَمِ فِيهِ سَاقِطٌ; وَأَيْضًا قَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُجُودَ السَّهْوِ عَلَى السَّاهِي, وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِدِ وَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ أَغْلَظَ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ضَمْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْلَةَ عَنْ الْعَرِيفِ بْنِ الدِّيلِيِّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ يَعْنِي النَّارَ بِالْقَتْلِ, فَقَالَ: "أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ". قِيلَ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهَانِئُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَخِي إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي عَبْلَةَ, فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْقَتْلِ; وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ مِنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا رَوَاهُ ضَمْرَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْوِيلٌ مِنْ الرَّاوِي فِي قَوْلِهِ: "أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ" لِأَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي بِالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَقَبَةَ الْقَتْلِ لَذَكَرَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً, فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْ لَهُمْ الْإِيمَانَ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ; وَأَيْضًا فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُعْتِقُوا عَنْهُ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عِتْقُهَا عَنْهُ; وَأَيْضًا فَإِنْ عَتَقَ الْغَيْرُ عَنْ الْقَاتِلِ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ. قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} جَعَلَ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ رَقَبَةِ الْقَتْلِ الْإِيمَانَ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْكَافِرَةِ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدْ صَارَتْ شَرْطًا فِي الْفَرْضِ, وَكَذَلِكَ مَنْ نذر أن يعتق رقبة

مطلب: في بيان المراد من قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلله إلا الله"

مطلب: في بيان المراد مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلله إلا الله" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يُجْعَلْ الْيَهُودِيُّ مُسْلِمًا بِقَوْلِهِ: "أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ"; لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَقُولُونَ, وَيَقُولُونَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ; فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِ, وَلَيْسَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم

مطلب: فيمن قال: "أن خرجت من داري إلا إلى الصلاة فعبدي حر" فخرج إليها ثم لم يصل وتوجه إلى حاجة اخرى لم يحنث

مطلب: فيمن قَالَ: "إنْ خَرَجْت مِنْ دَارِي إلَّا إلَى الصلاة فعبدي حر" فخرج إليها ثم لم يصل وتوجه إلى حاجة اخرى لم يحنث وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: "إنْ خَرَجْت مِنْ دَارِي إلَّا إلَى الصَّلَاةِ أَوْ إلَى الْحَجِّ فَعَبْدِي حُرٌّ" فَخَرَجَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ ثُمَّ لَمْ يَصِلْ وَلَمْ يَحُجَّ وَتَوَجَّهَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ; لِأَنَّ خُرُوجَهُ بَدِيًّا كَانَ لِلصَّلَاةِ أَوَلِلْحَجِّ لِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لَهُ, كَمَا كَانَ خُرُوجُ مَنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا قُرْبَةً وَهِجْرَةً لِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ وَاقْتِطَاعِ الْمَوْتِ لَهُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُبْطِلْ حُكْمَ الْخُرُوجِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وُجِدَ بَدِيًّا عَلَيْهِ, وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى, فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ" فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنِّيَّاتِ, فَإِذَا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى نِيَّةِ الْهِجْرَةِ كَانَ مُهَاجِرًا, وَإِذَا كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْغَزْوِ كَانَ غَازِيًا. وَاسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ سَهْمُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِوَرَثَتِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا; لِأَنَّ كَوْنَهَا غَنِيمَةً مُتَعَلِّقٌ بِحِيَازَتِهَا; إذْ لَا تَكُون غَنِيمَةً إلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] , فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمَ فَهُوَ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا فَلَا سَهْمَ لَهُ; وقَوْله تَعَالَى {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ سَهْمِهِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ غَازِيًا مِنْ بَيْتِهِ فَمَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ, وَقَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا وَجَبَ أَجْرُ الَّذِي خَرَجَ مُهَاجِرًا وَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ دَارَ هِجْرَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب صلاة السفر

بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ وَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ, وَالْآخَرُ: الْخَوْفُ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مَا هُوَ؟ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ الْحَضَرَ أَرْبَعًا وَصَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَالْخَوْفِ رَكْعَةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَوَى يَزِيدُ

فصل

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ سَائِرِ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ سَفَرُهُمْ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْفَارِ. وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَتَّجِرُ إلَى الْبَحْرَيْنِ, فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ أُصَلِّي؟ فَقَالَ: "رَكْعَتَيْنِ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُمَا خَرَجَا إلَى الطَّائِفِ فَقَصَرَا الصَّلَاةَ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ". وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "لَا أَرَى أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقْصُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ; وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ مَخْصُوصٌ بِالْحَجِّ وَالْجِهَادِ, وَقَوْلُ عُمَرَ صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ, وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" عَامٌّ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ "أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ" وَلَمْ يَقُلْ" فِي حَجٍّ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَصْرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُسَافِرِينَ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِالسَّفَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْأَسْفَارِ فِيهِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا. وَمَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} عَلَى عَدَدِ الرَّكَعَاتِ يَحْتَجُّ بِعُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَسْفَارِ إذَا كَانَ خَائِفًا مِنْ الْعَدُوِّ, ثُمَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا كَانَ سَفَرُهُ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقُرْبَةِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ هُوَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ ثَلَاثًا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "إنْ خَرَجَ إلَى الصَّيْدِ وَهُوَ مَعَاشُهُ قَصَرَ, وَإِنْ خَرَجَ مُتَلَذِّذًا لَمْ أَسْتَحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يَقْصُرْ وَلَمْ يَمْسَحْ مَسْحَ السَّفَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

مطلب: الملاح يقصر في السفينة إذا كان مسافرا

مطلب: الملاح يقصر في السفينة إذا كان مسافرا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَلَّاحِ هَلْ يَقْصُرُ فِي السَّفِينَةِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَقْصُرُ إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ حَتَّى يَصِيرَ إلَى قَرْيَتِهِ فَيُتِمَّ" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا كَانَ فِيهَا أَهْلُهُ وَقَرَارُهُ يَقْصُرُ إذَا أَكْرَاهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى حَيْثُ أَكْرَاهَا, فَإِذَا انْتَهَى أَتَمَّ الصَّلَاةَ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا كَانَتْ السَّفِينَةُ بَيْتَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ غَيْرَهَا فَهُوَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ يُتِمُّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَوْنُ الْمَلَّاحِ مَالِكًا لِلسَّفِينَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ, كَالْجَمَّالِ مَالِكٌ لِلْجِمَالِ الَّتِي يَنْتَقِلُ بِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ أَحْكَامِ الصَّوْمِ. وَشَرَطَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا أَمْيَالٌ فَمَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْقَفْلِ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ, وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يَوْمٌ تَامٌّ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ", وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ". وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُتِمُّ فِيهَا الصَّلَاةَ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قَصَرَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعٍ أَتَمَّ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ قَصَرَ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إنْ مَرَّ الْمُسَافِرُ بِمِصْرِهِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ مَاضٍ فِي سَفَرِهِ قَصَرَ فِيهِ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يُقِمْ بِهِ عَشْرًا, وَإِنْ أَقَامَ بِهِ عَشْرًا أَوْ بِغَيْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وجابر: أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَكَانَ مُقَامُهُ إلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِ. وَأَيْضًا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: "إذَا قَدِمْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي نَفْسِك أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ بِهَا, وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْهَا "; وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَنْ أَجْمَعَ عَلَى أَرْبَعٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَتَمَّ الصَّلَاةَ". قِيلَ لَهُ: رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "إذَا أَقَامَ الْمُسَافِرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمَا كَانَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَلْيَقْصُرْ", وَإِنْ جَعَلْنَا الرِّوَايَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ سَقَطَتَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ شَيْءٌ, وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا عَلَى ابْنِ عباس وابن عمر; وأيضا

باب صلاة الخوف

بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الخوف عَلَى ضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ; وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيهَا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ تَقُومُ طَائِفَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إلَى مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيَقْضُونَ رَكْعَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ, ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيَقْضُونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا كَانَ الْعَدُوُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ جُعِلَ النَّاسُ طَائِفَتَيْنِ, فَيُكَبِّرُ وَيُكَبِّرُونَ وَيَرْكَعُ وَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا مَعَهُ, وَسَجَدَ الْإِمَامُ وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ, وَيَقُومُ الصَّفُّ الْآخَرُ فِي وُجُوهِ الْعَدُوِّ, فَإِذَا قَامُوا مِنْ السُّجُودِ سَجَدَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ, فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ سُجُودِهِمْ قَامُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ, فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ, وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي دُبُرِ الْقِبْلَةِ قَامَ الْإِمَامُ وَمَعَهُ صَفٌّ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ وَالصَّفُّ الْآخَرُ مُسْتَقْبِلٌ الْعَدُوَّ, فَيُكَبِّرُ وَيُكَبِّرُونَ جَمِيعًا وَيَرْكَعُ وَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا, ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الَّذِي مَعَ الْإِمَامِ سَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ فَيَكُونُونَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ, ثُمَّ يَجِيءُ الْآخَرُونَ فَيَسْجُدُونَ وَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ جَمِيعًا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ, فَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا وَيَسْجُدُ الصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ, ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ, وَيَجِيءُ الْآخَرُونَ فَيَسْجُدُونَ مَعَهُ وَيَفْرُغُونَ, ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَهُمْ جَمِيعًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ, إحْدَاهَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ, وَالْأُخْرَى مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي الْقِبْلَةِ, وَإِذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَمِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثَةُ أنه لا تصلي بعد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا تُصَلَّى بِإِمَامَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ: "إنْ فَعَلْت كَذَلِكَ جَازَ" وَقَالَ مَالِكٌ: "يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَيَقُومُ قَائِمًا وَتُتِمُّ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَةً أُخْرَى, ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ, ثُمَّ يذهبون إلى مكان

باب الاختلاف في صلاة المغرب

بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً" إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ: "يَقُومُ الْإِمَامُ قَائِمًا حَتَّى يُتِمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ, ثُمَّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً أُخْرَى, ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَتَقُومُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ رَكْعَتَيْنِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ شَاءَ الْإِمَامُ ثَبَتَ جَالِسًا حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى لِأَنْفُسِهِمْ, وَإِنْ شَاءَ كَانَ قَائِمًا, وَيُسَلِّمُ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يَقُومُ صَفٌّ خَلْفَهُ وَصَفٌّ مُوَازِي الْعَدُوِّ, فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً, ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مَقَامِ أُولَئِكَ وَيَجِيءُ هَؤُلَاءِ, فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَيَجْلِسُونَ, فَإِذَا قَامَ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ وَجَاءَ أُولَئِكَ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَالْإِمَامُ قَائِمٌ; لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُمْ قِرَاءَةٌ, وَجَلَسُوا, ثُمَّ قَامُوا يُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ, فَإِذَا جَلَسُوا وَسَلَّمَ الْإِمَامُ ذَهَبُوا إلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ", وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ التَّعْدِيلَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ, فَيُصَلِّي بِكُلِّ وَاحِدَةٍ رَكْعَةً; وَقَدْ تُرِكَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ جَعَلَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إنَّمَا صَلَّتْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إنَّهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ, أَنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ" فَلَمْ يَقْسِمْ الصَّلَاةَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ تُصَلِّيَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَعَهُ رَكْعَةً عَلَى حِيَالِهَا; وَمَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ الْإِمَامَ أَنْ يَقُومَ قَائِمًا حَتَّى تَفْرُغَ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ, وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ مَذْهَبِ مالك والشافعي; والله أعلم بالصواب.

ذكر اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقِتَالِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا يُصَلِّي فِي حَالِ الْقِتَالِ, فَإِنْ قَاتَلَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ" وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يُصَلِّي إيمَاءً إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ مِنْ الْقِتَالِ كَبَّرَ بَدَلَ كُلِّ رَكْعَةٍ تَكْبِيرَةً". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يَضْرِبَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ, فَإِنْ تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي مَوَاضِعَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ, وَلَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ حَتَّى كَانَ هُوِيٌّ1 مِنْ اللَّيْلِ, ثُمَّ قَالَ: "مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى" , ثُمَّ قَضَاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِتَالَ شَغَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ, وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ جَائِزَةً فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا كَمَا لَمْ يَتْرُكْهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فِي غَيْرِ قِتَالٍ. وَقَدْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَفْرُوضَةً فِي حَالِ الْخَوْفِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ; وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ يُنَافِي الصَّلَاةَ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ. وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ فِعْلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ, كَانَ حُكْمُهُ فِي الْخَوْفِ كَهُوَ فِي غَيْرِهِ, مِثْلُ الْحَدَثِ وَالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ; وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْمَشْيُ فِيهَا; لِأَنَّ الْمَشْيَ لَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ, وَلِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ لَا يُفْسِدُهَا, فَسَلَّمْنَاهُ لِلْإِجْمَاعِ, وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أصله. وقوله تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَ الْإِمَامِ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, وَضَمِيرُهَا ظَاهِرٌ فِي نَسَقِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} . وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ مَعَ الْإِمَامِ بِأَخْذِ السِّلَاحِ, وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ; لِأَنَّ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ طَائِفَةً غَيْرَ مُصَلِّيَةٍ حَامِيَةً لَهَا قَدْ كَفَتْ هَذِهِ أَخْذَ الْحَذَرِ, ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} إنما أريد

_ 1 قوله: "هوي" بفتح الهاء وضمها كسر الواو وتشديد الياء: الحين الطويل من الليل "لمصححه".

مطلب: الذكر على وجهين أفضلهما القلبي وهو الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله إلى آخره

مطلب: الذكر على وجهين أفضلهما القلبي وهو الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله إلى آخره فَهَذَا الذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الصَّلَاةِ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى, وَفِيهَا أَيْضًا أَذْكَارٌ مَسْنُونَةٌ وَمَفْرُوضَةٌ. وَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي فِي قَوْله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} فَلَيْسَ هُوَ الصَّلَاةُ, وَلَكِنَّهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ, وَهُوَ الْفِكْرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِيمَا فِي خَلْقِهِ وَصُنْعِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى حُكْمِهِ وَجَمِيلِ صُنْعِهِ. وَالذِّكْرُ الثَّانِي: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ; وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ إلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ", وَالذِّكْرُ الْأَوَّلُ أَشْرَفُهُمَا وَأَعْلَاهُمَا مَنْزِلَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الذِّكْرِ الصَّلَاةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "فَإِذَا رَجَعْتُمْ إلَى الْوَطَنِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ فَأَتِمُّوا الصَّلَاةَ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ". وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: "فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُتِمُّوا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا غَيْرَ مُشَاةٍ وَلَا رُكْبَانٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ تَأَوَّلَ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} عَلَى أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ, جَعَلَ قَوْلَهُ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عَلَى إتْمَامِ الرَّكَعَاتِ عِنْدَ زَوَالِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ فِعْلِهَا بِالْإِيمَاءِ أَوْ عَلَى إبَاحَةِ الْمَشْيِ فِيهَا, جَعَلَ قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أَمْرًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَفْعُولَةِ قَبْلَ الْخَوْفِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب مواقيت الصلاة

بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} . رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطِيَّةَ: "مَفْرُوضًا". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "مَوْقُوتًا مُنَجَّمًا, كُلَّمَا مَضَى نَجْمٌ جَاءَ نَجْمٌ آخَرُ". وَعَنْ زيد بن أسلم مثل ذلك.

وقت الفجر

وَقْتُ الْفَجْرِ فَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي الَّذِي يَعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ; وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ1 هَكَذَا وَجَمَعَ كَفَّهُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَمَدَّ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ". وَرَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمْ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ, فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمْ الْأَحْمَرُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفَجْرُ فَجْرَانِ فَجْرٌ يَحِلُّ فِيهِ الطَّعَامُ وَتَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ, وَفَجْرٌ تَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ وَيَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ". وَرَوَى نَافِعُ بْنُ جبير في

_ 1 قوله: "أن يقول إلى آخره" ذكر ابن الأثير في النهاية وغيره من أئمة اللغة أن العرب تجعل القول عبارة عن الفعل وتطلقه على غير الكلام يقول قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى وقال بثوبه أي رفعه وكل ذلك على المجاز والاتساع "لمصححه".

وقت الظهر

وَقْتُ الظُّهْرِ وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَهُوَ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] وَقَالَ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالْغُرُوبَ جَمِيعًا وَهُوَ عَلَيْهِمَا, فَتَنْتَظِمُ الْآيَةُ الْأَمْرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَبَيَانِ أَوَّلِ وَقْتَيْهِمَا. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَبُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ حِينَ أَمَّهُ جِبْرِيلُ, وَأَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ; وَفِي بَعْضِهَا ابْتِدَاءُ اللَّفْظِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ" وَهِيَ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ أَسَانِيدِهَا وَسِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا; فَصَارَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ مَعْلُومًا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ, فَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ: أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ أَقَلَّ مِنْ قَامَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى, وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ: أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ, وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "هُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ". وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

مطلب: في بيان قوله عليه السلام: "يبعثت أنا والساعة" وأن ذلك مقدر بنصف السبع من مدة الدنيا

مطلب: في بيان قوله عليه السلام: "يبعثت أنا والساعة" وأن ذلك مقدر بنصف السبع من مدة الدنيا وَدَلَالَةُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: "أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنْ قِصَرِ الْوَقْتِ; وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وَجَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى, وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: كَمَا بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ", فَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الدُّنْيَا كَنُقْصَانِ السَّبَّابَةِ عَنْ الْوُسْطَى, وَقَدْ قُدِّرَ ذَلِكَ بِنِصْفِ السَّبْعِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ حِينَ شَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَلَنَا فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَنَا بِوَقْتِ الْعَصْرِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمِثْلِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْخَبَرِ: الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَنَا وَلِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِالْعَمَلِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ, وَأَنَّهُمْ غَضِبُوا فَقَالُوا: كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً; فَلَوْ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الْمِثْلِ لَمَا كَانَتْ النَّصَارَى أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ, بَلْ كَانَ يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ عَمَلًا; لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْمِثْلِ إلَى الْغُرُوبِ أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ الزَّوَالِ إلَى الْمِثْلِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أقصر من وقت الظهر

وقت العصر

وَقْتُ الْعَصْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ, وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَوَقْتِ الْعَصْرِ وَاسِطَةٌ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِهِمَا; وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ أَقَلَّ مِنْ قَامَتَيْنِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ, فَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ, وَهِيَ أَيْضًا مُخَالِفَةٌ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ; وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: "التَّفْرِيطُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى". وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ: إمَّا الْمِثْلَانِ وَإِمَّا الْمِثْلُ, وَأَنَّ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ, وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ, وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِنَهْيِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الْغُرُوبُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَاتَهُ الْعَصْرُ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ" , فَجَعَلَ فَوَاتَهَا بِالْغُرُوبِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ" , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا إلَى الْغُرُوبِ. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ" , فَإِنَّ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ وَبَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ, كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ نِصْفُ اللَّيْلِ" وَمُرَادُهُ الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ, وَأَنَّ مُدْرِكَهُ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ الْإِسْلَامِ يَلْزَمُهُ فَرْضُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَلَمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ". فَقَدْ يَكُونُ وَقْتٌ يَلْزَمُ بِهِ مُدْرِكُهُ الْفَرْضَ وَيُكْرَهُ لَهُ تَأْخِيرُهَا إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْفَارُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةِ وَلَمْ تُخْرِجْهُ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهَا؟ فَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا تَقْدِيرُ آخِرِ الْوَقْتِ بِاصْفِرَارِ الشَّمْسِ وَارِدَةٌ عَلَى فَوَاتِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا لَهُ من أهله وماله.

وقت المغرب

وَقْتُ الْمَغْرِبِ أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ تَغْرُبُ الشَّمْسُ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذلك, وقال

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ, قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ الْغُرُوبُ وَاحْتِمَالُ اللَّفْظِ لَهُ, فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلٌ وَآخِرُ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] غَايَةٌ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ, فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ الْغُرُوبِ إلَى اجْتِمَاعِ الظُّلْمَةِ, وَفِي ذَلِكَ مَا يَقْضِي بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا مُقَدَّرًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَسْقُطُ الشَّمْسُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ, فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَصَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ وَقَعَتْ الشَّمْسُ وَآخِرُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ, ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ مَعَنَا فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ, ثُمَّ صلى المغرب في اليوم

ذكر القول في الشفق والاحتجاج له

ذِكْرُ الْقَوْلِ فِي الشَّفَقِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشَّفَقِ, فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: "هُوَ الْحُمْرَةُ" وَقَالَ آخَرُونَ: "الْبَيَاضُ". عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَيَقَعُ عَلَيْهِمَا فِي اللُّغَةِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِمَا; إذْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْقُرْءِ فَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَيْضِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الطُّهْرِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا؟ وَإِنَّمَا نَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ نَسْتَدِلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُمَا بِالْآيَةِ. وَحَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ قَالَ: سُئِلَ ثَعْلَبٌ عَنْ الشَّفَقِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: الْبَيَاضُ; فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: الشَّوَاهِدُ عَلَى الْحُمْرَةِ أَكْثَرُ, فَقَالَ ثَعْلَبٌ: إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الشَّاهِدِ مَا خَفِيَ فَأَمَّا الْبَيَاضُ فَهُوَ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الشَّاهِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَ الشَّفَقِ الرِّقَّةُ, وَمِنْهُ يُقَالُ ثَوْبٌ شَفَقٌ, وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُهُ كَذَلِكَ فَالْبَيَاضُ أَخَصُّ بِهِ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَجْزَاءِ الرَّقِيقَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ضِيَاءِ الشَّمْسِ, وَهُوَ فِي الْبَيَاضِ أَرَقُّ مِنْهُ فِي الْحُمْرَةِ; وَيَشْهَدُ لِمَنْ قَالَ بِالْحُمْرَةِ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: حَتَّى إذَا الشَّمْسُ اجْتَلَاهَا الْمُجْتَلِي ... بَيْنَ سِمَاطَيْ شَفَقٍ مُهْوَلِ1 فَهِيَ عَلَى الْأُفْقِ كَعَيْنِ الْأَحْوَلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْحُمْرَةَ; لِأَنَّهُ وَصَفَهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْبَيَاضِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] , قَالَ مُجَاهِدٌ: "هُوَ النَّهَارُ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:17] فَأَقْسَمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّفَقُ الْبَيَاضَ; لِأَنَّ أَوَّلَ النَّهَارِ هُوَ طُلُوعُ بَيَاضِ الْفَجْرِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْبَيَاضِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ هُوَ الشَّفَقُ وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَيَاضُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدُّلُوكَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْغُرُوبِ, ثُمَّ جُعِلَ غَسَقُ اللَّيْلِ غَايَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ: "أَنَّهُ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ" وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ لِأَنَّ الْبَيَاضَ مَا دَامَ بَاقِيًا فَالظُّلْمَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأُفُقِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ إلَى غيبوبة البياض, فثبت أن المراد البياض.

_ 1 قوله: "مهول" هوالذي فيه تهاويل وهي اللوان المختلفة م ىحمرة وصفرة وغيرهما. "لمصححه".

مطلب: فيما ذكره الخليل بن أحمد من تردد الشفق الأبيض في الآفاق وعدم مغيبه

مطلب: فيما ذكره الخليل بن أحمد من تردد الشفق الأبيض في الآفاق وعدم مغيبه قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَكَى1 ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: رَاعَيْت الْبَيَاضَ فَرَأَيْته لَا يَغِيبُ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدِيرُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ; وَالْمِحْنَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ; وَقَدْ رَاعَيْتُهُ فِي الْبَوَادِي فِي لَيَالِيِ الصَّيْفِ وَالْجَوُّ نَقِيٌّ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ فَإِذَا هُوَ يَغِيبُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ اللَّيْلِ رُبُعُهُ بِالتَّقْرِيبِ, وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ فَلْيُجَرِّبْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غَلَطُ هَذَا الْقَوْلِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّفَقِ الْبَيَاضُ, أَنَّا وَجَدْنَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حُمْرَةً وَبَيَاضًا قَبْلَهَا وَكَانَا جَمِيعًا مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ; إذْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ ضِيَاءِ الشَّمْسِ دُونَ ظُهُورِ جُرْمِهَا; كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْحُمْرَةُ وَالْبَيَاضُ جَمِيعًا بَعْدَ غُرُوبِهَا مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ, لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

_ 1 قوله: "قال أبو بكر وحكى إلى آخره" ذكره القرطبي في تفسير سورة الانشقاق عن الخليل بن أحمد ان قال: صعدت منارة الاسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردد من أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي اويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر انتهى, وبهذا تعلم أن ما ذكره المصنف رآه في أرض البوادي ولا يلزم من مغيب عن نظر الرامق له من ارض البادية مغيبه عن نظر الرامق من تلك المنارة العالية لما بين المكانين من التباين الكلي في الارتفاع والانحطاط. وقد نقل الزيلعي في كتاب تبين الخقائق أن الشمس لا تغيب عن نظر الرامق لها من منارة الاسكندرية إلا بعد غيابها بزمن طويل عن البلد. "لمصححه".

وقت العشاء الآخرة

وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ مِنْ حِينِ يَغِيبُ الشَّفَقُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ إلَى أَنْ يَذْهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ, وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ; وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ, وَلَا تَفُوتُ إلَّا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "وَقْتُ الْعِشَاءِ إذَا سَقَطَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ, وَالنِّصْفُ أَبْعَدُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا أَرَادَا الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تَفُوتُ إلَّا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ, وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} الآية هو حث على

مطلب: في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع

مطلب: في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي رِجْلٍ سَرَقَ دِرْعًا, فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِ رَمَى بِهَا فِي دَارِ يَهُودِيٍّ, فَلَمَّا وُجِدَتْ الدِّرْعُ أَنْكَرَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا, وَذَكَرَ السَّارِقُ أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَخَذَهَا, فَأَعَانَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْآخِذَ عَلَى الْيَهُودِيِّ, فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْلِهِمْ, فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْآخِذِ وَبَرَّأَ الْيَهُودِيَّ مِنْهُ وَنَهَاهُ عَنْ مُخَاصَمَةِ الْيَهُودِيِّ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ مُعَاوَنَتِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ عَنْ السَّارِقِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ نَفْيِهِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَاتَبَ نَبِيَّهُ عَلَى مِثْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُجَادَلَةِ عَنْ الْخَوَنَةِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ كُلُّهُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ مَعُونَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ مُحِقًّا. وقَوْله تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} رُبَّمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ, وَإِنَّ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا كَانَتْ تَصْدُرُ عَنْ النُّصُوصِ, وَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يقول

مطلب: وأما الصدقة على الوجوه

مطلب: وأما الصدقة على الوجوه وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَعَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا: الصَّدَقَةُ بِالْمَالِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَرْضًا تَارَةً وَنَفْلًا أُخْرَى وَمِنْهَا: مَعُونَةُ الْمُسْلِمِ بِالْجَاهِ وَالْقَوْلِ, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ" وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يعجز أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ؟ " قَالُوا: وَمَنْ أَبُو ضَمْضَمٍ؟ قَالَ "رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى مَنْ شَتَمَهُ, فَجَعَلَ احْتِمَالَهُ أَذَى النَّاسِ صَدَقَةً بِعِرْضِهِ عَلَيْهِمْ". قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [لحجرات: 9] وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [لحجرات: 9] وَقَالَ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ, وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ" 1. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْكَلَامَ بِشَرْطِ فِعْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ لِلتَّرَؤُّسِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّأَمُّرِ عَلَيْهِمْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعْدِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية. فإن مشاقة

_ 1 قوله: "الحالقة" وهي الخصلة التي من شأنها أن تخلق وتستأصل الذين كما يستأصل الموسى الشعر, كذا في النهاية. "لمصححه".

باب مصالحة المرأة وزوجها

بَابُ مُصَالَحَةِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} . قِيلَ فِي مَعْنَى النُّشُوزِ إنَّهُ التَّرَفُّعُ عَلَيْهَا لِبُغْضِهِ إيَّاهَا, مَأْخُوذٌ مِنْ نَشَزِ الْأَرْضِ وَهِيَ المرتفعة. وقوله: {أَوْ إِعْرَاضاً} يَعْنِي لِمَوْجِدَةٍ أَوْ أَثَرَةٍ, فَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُمَا الصُّلْحَ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لَهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ مَهْرِهَا أَوْ بَعْضِ أَيَّامِهَا بِأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا. وَقَالَ عُمَرُ: "مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ". وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الْآيَةَ; فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ" وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَيُرِيدُ طَلَاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَلَا تُطَلِّقُنِي, ثُمَّ تَزَوَّجْ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْقِسْمَةِ لِي, فَذَلِكَ قَوْله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} إلى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ

باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم

بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ الْعَدْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ; رَوَى قَابُوسٌ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاس فِي قَوْله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} قَالَ: "هُوَ الرَّجُلَانِ يَجْلِسَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَكُونُ لَيُّ الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ عَنْ الْآخَرِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ الدِّينَوَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَمْ يَرْفَعْ عَلَى الْآخَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} قَدْ أَفَادَ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ, وَذَلِكَ مُوجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إنْصَافَ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهُمْ وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ وَمَنْعَ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ, ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بقوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فِيمَا إذَا كَانَ الْوُصُولُ إلَى الْقِسْطِ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ; فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الظَّالِمِ الْمَانِعِ مِنْ الحق للمظلوم صاحب

باب استتابة المرتد

بَابُ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} قَالَ قَتَادَةُ: "يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى; آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ, ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهَا وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ, وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ, ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ, ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُخَالَفَةِ الْفُرْقَانِ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ: آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا, ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا, ثُمَّ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ". وَقَالَ آخَرُونَ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدَتْ تَشْكِيكَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ, وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْكُفْرَ بِهِ, وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] .

مطلب: في الخلاف في قبول نوبة الزنديق

مطلب: في الخلاف في قبول نوبة الزنديق قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ الَّذِي تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَأَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ مَقْبُولَةٌ; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَقَبُولُ تَوْبَتِهِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْحُكْمُ بِإِيمَانِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ وَالزِّنْدِيقِ, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "فِي الْأَصْلِ لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْتَتَابَ, وَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ". وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الزِّنْدِيقِ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "أَسْتَتِيبُهُ كَالْمُرْتَدِّ, فَإِنْ أَسْلَمَ خَلَّيْت سَبِيلَهُ وَإِنْ أَبَى قَتَلْته", وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ زَمَانًا, فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ الزنادقة ويعودون قال: "أرى

مطلب: ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه

مطلب: ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَلْزَمُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مُنْكِرٌ أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهُ وَأَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ قِيلَ فِي هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَبَاعُدِهِ وَتَرْكِ سَمَاعِهِ تَرْكُ الْحَقِّ عَلَيْهِ, مِنْ نَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ مَا يَسْمَعُ مِنْ صَوْتِ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي, وَتَرْكِ حُضُورِ الْجِنَازَةِ لِمَا مَعَهُ مِنْ النُّوَاحِ, وَتَرْكِ حُضُورِ الْوَلِيمَةِ لِمَا هُنَاكَ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالتَّبَاعُدُ عَنْهُمْ أَوْلَى, وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حَقٌّ يَقُومُ بِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَا هُنَاكَ مِنْ الْمُنْكَرِ وَقَامَ بِمَا هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مِنْ حَقٍّ بَعْدَ إظْهَارِهِ لَإِنْكَارِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَقَالَ قَائِلُونَ: إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْ مُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ; لِأَنَّ فِي مُجَالَسَتِهِمْ تَأْنِيسًا لَهُمْ وَمُشَارَكَتَهُمْ فِيمَا يَجْرِي فِي مَجْلِسِهِمْ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ يَكُونُ فِي الْوَلِيمَةِ فَيَحْضُرُ هُنَاكَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ: إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ, وَقَالَ: لَقَدْ اُبْتُلِيت بِهِ مَرَّةً. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَضَرَ هُوَ وَابْنُ سِيرِينَ جِنَازَةً وَهُنَاكَ نُوَاحٌ, فَانْصَرَفَ ابْنُ سِيرِينَ, فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: إنَّا كُنَّا مَتَى رَأَيْنَا بَاطِلًا وَتَرَكْنَا حَقًّا أَسْرَعَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا لَمْ نَرْجِعْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ شُهُودَ الْجِنَازَةِ حَقٌّ قَدْ نُدِبَ إلَيْهِ وَأُمِرَ بِهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِأَجْلِ مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ, وَكَذَلِكَ حُضُورُ الْوَلِيمَةِ قَدْ نَدَبَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْرُكَ لِأَجْلِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ إذَا كَانَ كَارِهًا لَهُ وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغُدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ قَالَ سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَأَى عَنْ الطَّرِيقِ وَقَالَ لِي: يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ فَقُلْت: لَا, فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ لِئَلَّا تُسَاكِنَهُ نَفْسُهُ وَلَا تَعْتَادَ سَمَاعَهُ فَيَهُونَ عِنْدَهُ أَمْرُهُ, فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَلَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: "سَبِيلًا فِي الْآخِرَةِ". وَعَنْ السُّدِّيِّ: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةً, يَعْنِي فِيمَا فَعَلُوا بِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ فَهُمْ فِي ذَلِكَ ظَالِمُونَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ". وَيُحْتَجُّ بِظَاهِرِهِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ; لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُثْبِتُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ سَبِيلًا فِي إمْسَاكِهَا فِي بَيْتِهِ وَتَأْدِيبِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ الْخُرُوجِ, وَعَلَيْهَا طَاعَتُهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ عَقْدُ النِّكَاحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] , فاقتضى قوله

سورة المائدة

سورة المائدة مطلب: في عقود الجاهلية وعقود الاسلام ... سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم مطلب: في عقود الجاهلية وعقود الاسلام قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُطَرِّفٍ وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالثَّوْرِيِّ قَالُوا: "الْعُقُودُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَرَادَ بِهَا الْعُهُودَ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "هِيَ عُقُودُ الْجَاهِلِيَّةِ الْحِلْفُ". وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً". وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا; فَقِيلَ لَهُ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً" فَقَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: "إنَّمَا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ دُونَ النَّسَبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] إلَى أَنْ جَعَلَ اللَّهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأنفال:75] فَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ ثَابِتًا صَحِيحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحِلْفَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْحِلْفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَعْدَ نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ. وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْحِلْفُ فِي التَّنَاصُرِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إذَا حَالَفَهُ: "دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك" فَيَتَعَاقَدَانِ الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَيَدْفَعَ عَنْهُ وَيَحْمِيَهُ بِحَقٍّ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِبَاطِلٍ; وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَاقَدَا الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ ولا أن يزوي

مطلب: شرط انعقاد البر إمكان البر إمكانا عقليا

مطلب: شرط انعقاد البر إمكان البر إمكانا عقليا فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" وَ "أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ غَدٌ" هُوَ عَقْدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ الِانْتِقَاضُ وَالْفَسْخُ. قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَقَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَهُوَ مِمَّا يُوصَفُ بِضِدِّهِ. مِنْ الْحَلِّ, وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: "إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَعَبْدِي حُرٌّ" وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ, إنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَقْدًا; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَقِيضٌ مِنْ الْحَلِّ, وَلَوْ قَالَ: "إنْ لَمْ أَصْعَدْ السَّمَاءَ فَعَبْدِي حُرٌّ حَنِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ يَمِينِهِ; لِأَنَّ لِهَذَا الْعَقْدِ نَقِيضًا مِنْ الْحَلِّ", وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَبَرُّ فِيهِ; لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى مَعْنًى مُتَوَهَّمٍ مَعْقُولٍ, وَإِذَا كَانَ صُعُودُ السَّمَاءِ مَعْنًى مُتَوَهَّمًا مَعْقُولًا, وَكَذَلِكَ تَرْكُهُ مَعْقُولٌ جَائِزٌ, وَشُرْبُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مُسْتَحِيلٌ تَوَهُّمُهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَقْدًا. وَقَدْ اشْتَمَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عَلَى إلْزَامِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالذِّمَمِ الَّتِي نَعْقِدُهَا لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ, وَعَلَى إلْزَامِ الْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ; وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وَعَهْدُ اللَّهِ تَعَالَى أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أَيْ بِعُقُودِ اللَّهِ فِيمَا حَرَّمَ وَحَلَّلَ; وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "يَعْنِي عُقُودَ الدِّينِ". وَاقْتَضَى أَيْضًا الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات, وجميع

مطلب: النذر على ثلاثة أنحاء

مطلب: النذر على ثلاثة أنحاء فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ يَمِينًا أَوْ نَذْرًا أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ وَيَكُونُ عَقْدُهُ لِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَهُ وَأَوْجَبَهُ؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا النُّذُورُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: مِنْهَا نَذْرُ قُرْبَةٍ, فَيَصِيرُ وَاجِبًا بِنَذْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِعْلُهُ قُرْبَةً غَيْرَ وَاجِبٍ, لِقَوْلِهِ تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} , وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وقَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] , وقَوْله تَعَالَى: {"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] , وقَوْله تَعَالَى: {"وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75, 76] فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ نَفْسَهُ; وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَوْفِ بِنَذْرِك" حِينَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ, وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ1 فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" ; فَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ قُرْبَةً مِنْ الْمَنْذُورِ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ بِعَيْنِهِ وَقِسْمٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا كَانَ مُبَاحًا غَيْرَ قُرْبَةٍ, فَمَتَى نَذَرَهُ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ, فَإِذَا أَرَادَ بِهِ يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ, مِثْلُ قَوْلِهِ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ زَيْدًا وَأَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَمْشِيَ إلَى السُّوقِ" فَهَذِهِ أُمُورٌ مُبَاحَةٌ لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرَبِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِالْإِيجَابِ, كَمَا أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ; فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ, نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَغْصِبَ فُلَانًا مَالَهُ" فَهَذِهِ أُمُورٌ هِيَ مَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ النَّذْرِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَظْرِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إيجَابِ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مِنْ المباحات

_ 1 قوله: "ونذر نذرا لم يسمه" هو عند مالك وأكثرين على النذر المطلق كقوله على نذر كما ذكره العلقمي, "لمصححه".

مطلب: كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لغيرهم من سائر المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل

مطلب: كُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مباح لغيرهم من سائر المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَعْقُودَةٌ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ وَلَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمُجَازَاةِ, وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ الْخِطَابَ إلَيْنَا بِلَفْظِ الْإِيمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ, بَلْ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُؤْمِنِينَ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ خَاصًّا بِخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُبَاحٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ, كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَبَهُ وَفَرَضَهُ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ دَلِيلٌ; وَكَذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ مُسْتَحَقُّونَ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الشَّرَائِعِ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ على ترك الإيمان. د فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ مَحْظُورًا إلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ, فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِبَاحَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ فِي حَظْرِهِ عَلَيْهِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ, وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ إنَّ ذَبْحَ الْبَهَائِمِ مَحْظُورٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ عُصَاةٌ فِي ذَبْحِهَا, وَإِنْ كَانَ أَكْلُ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مُبَاحًا لَنَا. وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ لِلْمُلْحِدِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَيس لَهُ أَنْ يَذْبَحَ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ عُصَاةً بِذَبْحِهِمْ لِأَجْلِ دِيَانَاتِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ ذَبَائِحُهُمْ غَيْرَ مُذَكَّاةٍ, مِثْلُ الْمَجُوسِيِّ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّبْحِ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُهُ ذَكَاةً, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابِيَّ غَيْرُ عَاصٍ فِي ذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ كَهُوَ لَنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِبَاحَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَحُكْمُ حَظْرِ الذَّبْحِ قَائِمٌ عَلَيْهِ" فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ السَّمْعِ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إبَاحَةِ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ذَكَاتِهِ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَامِدًا لَكَانَ عِنْدَنَا عَاصِيًا بِذَلِكَ, وَكَانَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا أَنْ يَأْكُلَهَا, وَلَمْ يَكُنْ كَوْنُ الذَّابِحِ عَاصِيًا مَانِعًا صحة ذكاته.

مطلب: إذا اجتمع سبب الجظر والإباحو كان الحكم للحظر دون الإباحة

مطلب: إذا اجتمع سبب الجظر والإباحو كَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْمَنْطُوحَةُ حَتَّى تَمُوتَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النَّاطِحَةُ حَتَّى تَمُوتَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَمُوتَ مِنْ نَطْحِهَا لِغَيْرِهَا وَبَيْنَ مَوْتِهَا مِنْ نَطْحِ غَيْرِهَا لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ حَتَّى يَمُوتَ, فَحَذَفَ; وَالْعَرَبُ تُسَمِّي مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ وَأَكَلَ مِنْهُ أَكِيلَةُ السَّبُعِ, وَيُسَمُّونَ الْبَاقِيَ مِنْهُ أَيْضًا أَكِيلَةُ السَّبُعِ; قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} مِمَّا أَكَلَ السَّبُعُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَإِنَّمَا هُوَ فَرِيسَتُهُ. وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْتُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْدُثُ عَنْهَا الْمَوْتُ لِلْأَنْعَامِ مَحْظُورٌ أَكْلُهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ دُونَ جَمِيعِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لَا خِلَافَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ رَاجِعٍ إلَيْهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ الذَّكَاةُ, وَقَدْ كَانَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ, وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَى مَا قَبْلَ الْمُنْخَنِقَةِ; فَكَانَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِيهِ قَائِمًا وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْمَذْكُورِ من عند قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} , لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَقَالُوا كُلُّهُمْ: "مَا أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ بِأَنْ تُوجَدَ لَهُ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ فَأَكْلُهُ جَائِزٌ". وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} دُونَ مَا تَقَدَّمَ; لِأَنَّهُ يَلِيهِ; وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ, لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ; وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ سَبُعًا لَوْ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ لَحْمِ الْبَهِيمَةِ فَأَكَلَهَا أَوْ تَرَدَّى شَاةً مِنْ جَبَلٍ وَلَمْ يَشْفِ بِهَا ذَلِكَ عَلَى الْمَوْتِ فَذَكَّاهَا صَاحِبُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُبَاحُ الْأَكْلِ, وَكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا, فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ عِنْدِ قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وإنما قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ" كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:

باب في شرط الذكاة

بَابٌ فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} اسْمٌ شَرْعِيٌّ يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ: مِنْهَا مَوْضِعُ الذَّكَاةِ وَمَا يُقْطَعُ مِنْهُ, وَمِنْهَا الْآلَةُ, وَمِنْهَا الدَّيْنُ, وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ فِي حَالِ الذِّكْرِ وَذَلِكَ فِيمَا كَانَتْ ذَكَاتُهُ بِالذَّبْحِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا السَّمَكُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ بِحُدُوثِ الْمَوْتِ فِيهِ عَنْ سَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ, وَمَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَغَيْرُ مُذَكًّى; وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ من الكلام في

فصل

فصل وَأَمَّا الْآلَةُ فَإِنَّ كُلَّ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالذَّكَاةُ صَحِيحَةٌ, غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَنَا كَرِهُوا الظُّفْرَ الْمَنْزُوعَ وَالْعَظْمَ وَالْقَرْنَ وَالسِّنَّ لِمَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ; ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ بِلِيطَةٍ فَفَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ, وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ بِعُودٍ, وَكَذَلِكَ لَوْ نَحَرَ بِوَتَدٍ أَوْ بِشَظَاظٍ أَوْ بِمَرْوَةِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ; فَأَمَّا الْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ فَقَدْ نُهِيَ أَنْ يُذَكَّى بِهَا, وَجَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ, وَكَذَلِكَ الْقَرْنُ عِنْدَنَا وَالنَّابُ" قَالَ: "وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ بِسِنِّهِ أَوْ بِظُفْرِهِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ" وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: "إذَا ذَبَحَ بِسِنِّ نَفْسِهِ أَوْ بِظُفْرِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَلَيْسَ بِذَابِحٍ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "كُلُّ مَا بُضِعَ مِنْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ بِهِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "كُلُّ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ فَهُوَ ذَكَاةٌ إلَّا السِّنَّ وَالظُّفْرَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا يُذْبَحُ بِصَدَفِ الْبَحْرِ". وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَكْرَهُ الذَّبْحَ بِالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَالْعَظْمِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يُذْبَحَ بِكُلِّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا الْعَظْمَ وَالسِّنَّ وَالظُّفْرَ". وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ الظُّفْرَ وَالسِّنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الظُّفْرُ وَالسِّنُّ الْمَنْهِيُّ عَنْ الذَّبِيحَةِ بِهِمَا, إذَا كَانَتَا قَائِمَتَيْنِ فِي صَاحِبِهِمَا وَذَلِكَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الظُّفْرِ: "إنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ" وَهُمْ إنَّمَا يَذْبَحُونَ بِالظُّفُرِ الْقَائِمِ فِي مَوْضِعِهِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "ذَلِكَ الْخَنْقُ". وَعَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَأَلْت عِكْرِمَةَ عَنْ الذَّبِيحَةِ بِالْمَرْوَةِ, قَالَ: "إذَا كَانَتْ حَدِيدَةً لَا تَثْرِدُ الْأَوْدَاجَ فَكُلْ" فَشَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا تَثْرِدَ1 الْأَوْدَاجَ, وَهُوَ أَنْ لَا تَفْرِيَهَا, وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا قِطْعَةً قِطْعَةً, وَالذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ غَيْرُ الْمَنْزُوعِ يَثْرُدُ وَلَا يَفْرِي فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الذَّكَاةُ بِهِمَا, وَأَمَّا إذَا كَانَا مَنْزُوعَيْنِ فَفَرَيَا الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ; وَإِنَّمَا كَرِهَ أَصْحَابُنَا مِنْهَا مَا كان بمنزلة السكين الكالة,

_ 1 قوله: "لا تثرد" من التثريد وهو القتل بغير ذكاة, او هو أن يذبح بشيء لا يسيل الدم كما فسره في النهاية. مصححه".

فصل

فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا كَانَ مِنْ الْحَيَوَانِ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ, فَيُعْتَبَرُ فِي ذَكَاتِهِ مَا وَصَفْنَا مِنْ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ وَمِنْ الْآلَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَأَمَّا الَّذِي لَا نَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى ذَبْحِهِ, فَإِنَّ ذَكَاتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِإِصَابَتِهِ بِمَا يَجْرَحُ وَيُسِيلُ الدَّمَ أَوْ بِإِرْسَالِ كَلْبٍ أَوْ طَيْرٍ فَيَجْرَحُهُ دُونَ مَا يَصْدِمُ أَوْ يَهْشِمُ مِمَّا لَا حَدَّ لَهُ يَجْرَحُهُ; وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا حُكْمُ مَا يَكُونُ أَصْلُهُ مُمْتَنِعًا مِثْلَ الصَّيْدِ وَمَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَنْعَامِ ثُمَّ يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ أَوْ يَتَرَدَّى فِي مَوْضِعٍ لَا نَقْدِرُ فِيهِ عَلَى ذَكَاتِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ, أَحَدُهُمَا: فِي الصَّيْدِ إذَا أُصِيبَ بِمَا لَا يَجْرَحُهُ مِنْ الْآلَةِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "إذَا أَصَابَهُ بِعَرْضِ الْمِعْرَاضِ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا أَنْ يُدْرِكَ ذَكَاتَهُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "وَإِنْ رَمَيْته بِحَجَرٍ أَوْ بُنْدُقَةٍ كَرِهْته إلَّا أَنْ تُذَكِّيَهُ, وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْمِعْرَاضِ وَالْحَجَرِ وَالْبُنْدُقَةِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي صَيْدِ الْمِعْرَاضِ: "يُؤْكَلُ خَزَقَ أَوْ لَمْ يَخْزِقْ" قَالَ: "وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَكْحُولٌ لَا يرون به بأسا". وقال

مطلب: في حكم الصيد إذا انقطع قطعتين

مطلب: في حكم الصيد إذا انقطع قطعتين وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّيْدِ يُقْطَعُ بَعْضُهُ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ: "إذَا قَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ أُكِلَا جَمِيعًا, وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَ, فَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ الَّذِي يَلْحَقُ الْعَجُزَ أُكِلَ الثُّلُثَانِ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ وَلَا يُؤْكَلُ الثُّلُثُ الَّذِي يَلِي الْعَجُزَ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ: "إذَا قَطَعَ مِنْهُ قِطْعَةً فَمَاتَ الصَّيْدُ مَعَ الضَّرْبَةِ أَكَلَهُمَا جَمِيعًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا قَطَعَ وَسَطَهُ أَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ أُكِلَ, وَإِنْ قَطَعَ فَخِذَهُ لَمْ يَأْكُلْ الْفَخِذَ وَأَكَلَ الْبَاقِيَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا أَبَانَ عَجُزَهُ لَمْ يَأْكُلْ مَا انْقَطَعَ مِنْهُ وَيَأْكُلُ سَائِرَهُ, وَإِنْ قَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ أَكَلَهُ كُلَّهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ قَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ أَكَلَهُ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقَلَّ مِنْ الْأُخْرَى, وَإِنْ قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ شَيْئًا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ سَاعَةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ رَمْيَتِهِ أَكَلَ مَا لَمْ يَبِنْ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْكَلْ مَا بَانَ وَفِيهِ الْحَيَاةُ, وَلَوْ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ أَكَلَهُمَا جَمِيعًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ" , وَهَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ قَطْعَ الْقَلِيلِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ عُنُقَ الصَّيْدِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ كَانَ الْجَمِيعُ مُذَكًّى, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا بَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ, وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ مِنْهُ; لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ النِّصْفَ أَوْ الثُّلُثَ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْعُرُوقَ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى قَطْعِهَا لِلذَّكَاةِ, وَهِيَ الْأَوْدَاجُ وَالْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُذَكًّى, وَإِذَا قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الذَّنَبَ فَإِنَّهُ لَا يُصَادِفُ قَطْعَ الْعُرُوقِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ فَيَكُونُ مَا بَانَ مِنْهُ مَيْتَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَانَ من البهيمة وهي

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا الدِّينُ فَأَنْ يَكُونَ الرَّامِي أَوْ الْمُصْطَادُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا, وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَهِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ عِنْدَ الرَّمْيِ أَوْ إرْسَالِ الْجَوَارِحِ وَالْكَلْبِ إذَا كَانَ ذَاكِرًا, فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ; وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ في موضعه إن شاء الله تعالى.

مطلب: في الفرق بين الصنم والنصب

مطلب: في الفرق بين الصنم والنصب وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النُّصُبَ أَحْجَارٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ الذَّبَائِحَ لَهَا فَنَهَى اللَّهُ عَنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّصُبِ وَالصَّنَمِ أَنَّ الصَّنَمَ يُصَوَّرُ وَيُنْقَشُ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّصُبُ; لِأَنَّ النُّصُبَ حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ وَالْوَثَنُ كَالنُّصُبِ سَوَاءٌ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ: "أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِك" فَسَمَّى الصَّلِيبَ وَثَنًا, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النُّصُبَ وَالْوَثَنَ اسْمٌ لِمَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا وَلَا مَنْقُوشًا. وَهَذِهِ ذَبَائِحُ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَهَا, فَحَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَبِيحُونَهُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا الْمُرَادَةُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} . قَوْله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} قِيلَ فِي الِاسْتِقْسَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ عِلْمِ مَا قُسِمَ لَهُ بِالْأَزْلَامِ, وَالثَّانِي: إلْزَامُ أَنْفُسِهِمْ بِمَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ الْقِدَاحُ كَقَسَمِ الْيَمِينِ. وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَاتِ أَجَالَ الْقِدَاحَ وَهِيَ الْأَزْلَامُ, وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مِنْهَا مَا كُتِبَ عَلَيْهِ: أَمَرَنِي رَبِّي" وَمِنْهَا مَا كُتِبَ عَلَيْهِ: "نَهَانِي رَبِّي" وَمِنْهَا غُفْلٌ لَا كِتَابَةَ عَلَيْهِ يُسَمَّى: "الْمَنِيحُ". فَإِذَا خَرَجَ" أَمَرَنِي رَبِّي" مَضَى فِي الْحَاجَةِ, وَإِذَا خَرَجَ: "نَهَانِي رَبِّي" قَعَدَ عَنْهَا, وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَجَالَهَا ثَانِيَةً. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَعْمِدُونَ إلَى ثَلَاثَةِ قِدَاحٍ; نَحْوِ مَا وَصَفْنَا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وَوَاحِدُ الْأَزْلَامِ" زَلَمٌ" وَهِيَ الْقِدَاحُ فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ, وَكَانَ مَنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ, وَجَعَلَهُ فِسْقًا بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} وهذا

مطلب: اسم الطيبات يطلق على الجلال وعلى المستلذ

مطلب: اسم الطيبات يطلق على الجلال وعلى المستلذ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} اسْمُ الطَّيِّبَاتِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الطَّيِّبُ الْمُسْتَلَذُّ, وَالْآخَرُ: الْحَلَالُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ضِدَّ الطَّيِّبِ هُوَ الْخَبِيثُ, وَالْخَبِيثُ حَرَامٌ, فَإِذَا الطَّيِّبُ حَلَالٌ; وَالْأَصْلُ فِيهِ الِاسْتِلْذَاذُ, فَشَبَّهَ الْحَلَالَ بِهِ فِي انْتِفَاءِ الْمَضَرَّةِ مِنْهُمَا جَمِيعًا; وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] يَعْنِي الْحَلَالَ, وَقَالَ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَجَعَلَ الطَّيِّبَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبَائِثِ, وَالْخَبَائِثُ هِيَ الْمُحَرَّمَاتُ; وَقَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَهُوَ يَحْتَمِلُ: مَا حل لكم, ويحتمل: ما استطبتموه.

مطلب: يحتج بظاهر هذه الآية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل

مطلب: يحتج بظاهر هذه الآية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل فقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ وَاسْتَلْذَذْتُمُوهُ مِمَّا لَا ضَرَرَ عَلَيْكُمْ فِي تَنَاوُلِهِ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ, فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَى الْحَلَالِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَى مُتَنَاوِلِهِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَحْتَجَّ بِظَاهِرِهِ فِي إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ إلا ما خصه الدليل.

مطلب: في أمره عليه السلام إبا رافع بقتل الكلاب

مطلب: في أمره عليه السلام إبا رافع بقتل الكلاب {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ غِيلَانَ الْعَمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَلْمَى عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: {أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن أَقْتُلَ الْكِلَابَ, فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُحِلَّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أُمِرْت بِقَتْلِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} الْآيَةُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كَامِلٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجُشَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرِ النُّوَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْكِلَابِ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لِي حَتَّى نَزَلَتْ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ تَنَاوَلَتْ مَا عَلَّمْنَا مِنْ الْجَوَارِحِ, وَهُوَ يَنْتَظِمُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ, وَذَلِكَ يُوجِبُ إبَاحَةَ سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا, فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْأَكْلُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا, فَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ مِنْ صَيْدِ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ; وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حِينَ سَأَلَ عَنْ صَيْدِ الْكِلَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} .وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ فِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا أُحِلَّ مِنْ الْكِلَابِ الَّتِي أُمِرُوا بِقَتْلِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ; وَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةً لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْكِلَابِ وَبِصَيْدِهَا جَمِيعًا, وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ تَقْتَضِي الْكِلَابَ أَنْفُسَهَا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} يُوجِبُ إبَاحَةَ مَا عَلَّمْنَا, وَإِضْمَارُ الصَّيْدِ فِيهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ, وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ صَيْدِهَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِيهِمَا عَلَى الْفَائِدَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ شَرْطَ إبَاحَةِ الْجَوَارِحِ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً, لِقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} . وَأَمَّا الْجَوَارِحُ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا الْكَوَاسِبُ لِلصَّيْدِ عَلَى أَهْلِهَا, وَهِيَ الْكِلَابُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ الَّتِي تَصْطَادُ وَغَيْرُهَا, وَاحِدُهَا" جَارِحٌ" وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْجَارِحَةُ لِأَنَّهُ يَكْسِبُ بِهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] يَعْنِي: مَا كَسَبْتُمْ; وَمِنْهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] ; وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِكُلِّ مَا عُلِّمَ الِاصْطِيَادَ مِنْ سَائِرِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ. وَقِيلَ فِي الْجَوَارِحِ إنَّهَا مَا تَجْرَحُ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ, قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا صَدَمَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَلَمْ يَجْرَحْهُ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ; أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فَإِنَّمَا يَحِلُّ صَيْدُ مَا يَجْرَحُ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ. وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا فَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَا مُرَادَيْنِ بِاللَّفْظِ, فَيُرِيدُ بِالْكَوَاسِبِ مَا يُكْسَبُ بِالِاصْطِيَادِ فَيُفِيدُ الْأَصْنَافَ الَّتِي يَصْطَادُ بِهَا مِنْ الْكِلَابِ وَالْفُهُودِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَجَمِيعِ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ, وَيُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ وُقُوعَ الْجِرَاحَةِ بِالْمَقْتُولِ مِنْ الصَّيْدِ وَأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ ذَكَاتِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْجِرَاحَةَ مُرَادَةُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِعْرَاضِ أَنَّهُ: "إنْ خَزَقَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ" وَمَتَى وَجَدْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا يُوَاطِئُ مَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَجَبَ حَمْلُ مُرَادِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَلِّبَ هو صاحب

الْكَلْبِ الَّذِي يُعَلِّمُهُ الصَّيْدَ وَيُؤَدِّبُهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مُضِرِّينَ عَلَى الصَّيْدِ كَمَا تُضَرَّى الْكِلَابُ; وَالتَّكْلِيبُ هُوَ التَّضْرِيَةُ يُقَال: كَلْبٌ كَلِبٌ إذَا ضَرَّى بالناس. وليس في قوله: {مُكَلِّبِينَ} تَخْصِيصٌ لِلْكِلَابِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْجَوَارِحِ; إذْ كَانَتْ التَّضْرِيَةُ عَامَّةً فِيهِنَّ, وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بِهِ تَأْدِيبَ الْكَلْبِ وَتَعْلِيمَهُ كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْجَوَارِحِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا قَتَلْته الْجَوَارِحُ غَيْرَ الْكَلْبِ, فَرَوَى مَرْوَانُ الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: "الصَّقْرُ وَالْبَازِي مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ قَالَ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ الْبَازِي وَالْفَهْدِ وَمَا يُصَادُ بِهِ مِنْ السِّبَاعِ, فَقَالَ: "هَذِهِ كُلُّهَا جَوَارِحُ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قَالَ: "الطَّيْرُ وَالْكِلَابُ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قَالَ: "الْجَوَارِحُ الْكِلَابُ وَمَا تُعَلَّمُ مِنْ الْبُزَاةِ وَالْفُهُودِ". وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قَالَ: "الصَّقْرُ وَالْبَازِي وَالْفَهْدُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ". وَرَوَى صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَجَدْت فِي كِتَابٍ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "لَا يَصْلُحُ أَكْلُ مَا قَتَلْته الْبُزَاةُ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "فَأَمَّا مَا صَادَ مِنْ الطَّيْرِ الْبُزَاةُ وَغَيْرُهَا فَمَا أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَذَكَّيْته فَهُوَ لَك وَإِلَّا فَلَا تُطْعَمْهُ". وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَلِيًّا كَرِهَ مَا قَتَلَتْ الصُّقُورُ. وَرَوَى أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كان يكره صيد الطير ويقول: {مُكَلِّبِينَ} إنَّمَا هِيَ الْكِلَابُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَتَأَوَّلَ بعضهم قوله: {مُكَلِّبِينَ} عَلَى الْكِلَابِ خَاصَّةً, وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكِلَابِ وَغَيْرِهَا; وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} شامل للطير والكلاب, ثم قوله: {مُكَلِّبِينَ} مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكِلَابَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الجوارح والكلاب منها, ويكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} بِمَعْنَى مُؤَدِّبِينَ أَوْ مُضِرِّينَ, وَلَا يُخَصَّصُ ذَلِكَ بِالْكِلَابِ دُونَ غَيْرِهَا; فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنْ لَا يُخَصَّصَ بِالِاحْتِمَالِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي إبَاحَةِ صَيْدِ الطَّيْرِ وَإِنْ قَتَلَ وَأَنَّهُ كَصَيْدِ الْكَلْبِ; قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "مَا عَلَّمْت مِنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ صَيْدُهُ". وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ; لِأَنَّهُ أَبَاحَ صَيْدَ الْجَوَارِحِ, وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ مَا يَجْرَحُ بِنَابٍ أَوْ بِمِخْلَبٍ وَعَلَى مَا يَكْسِبُ عَلَى أَهْلِهِ بِالِاصْطِيَادِ لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ إبَاحَةِ صَيْدِ هَذِهِ الْجَوَارِحِ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً وَأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَلَّمَةً فَقَتَلَتْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْخِطَابَ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِينَ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الصَّيْدِ, فَأَطْلَقَ لَهُمْ إبَاحَةَ صَيْدِ الجوارح المعلمة,

وَذَلِكَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا شَمِلَتْهُ الْإِبَاحَةُ وَانْتَظَمَهُ الْإِطْلَاقُ; لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنْ الصَّيْدِ فَخُصَّ الْجَوَابُ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ, فَلَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} , فَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ وَسَعْدٍ أَنَّ تَعْلِيمَهُ أَنْ يُضَرَّى عَلَى الصَّيْدِ وَيَعُودَ إلَى إلْفِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ وَلَا يَهْرُبَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَلَمْ يَشْرِطُوا فِيهِ تَرْكَ الْأَكْلِ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ, وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ إبَاحَةِ صَيْدِهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ, فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ لَمْ يُؤْكَلْ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ; وَقَالُوا جَمِيعًا فِي صَيْدِ الْبَازِي إنَّهُ يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ; وَإِنَّمَا تَعْلِيمُهُ أَنْ تَدْعُوَهُ فيجيبك.

ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ, وَيُؤْكَلُ صَيْدُ الْبَازِي وَإِنْ أَكَلَ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: "يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ وَالْبَازِي مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ السَّلَفُ الْمُجِيزُونَ لِصَيْدِ الْجَوَارِحِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَنَّ صَيْدَهَا يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ, مِنْهُمْ سَعْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ; وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صَيْدِ الْكَلْبِ, فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ: "لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْهُ". وَقَالَ سَلْمَانُ وَسَعْدٌ وَابْنُ عُمَرَ: "يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ". وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ, وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْكَلْبِ قَبُولُهُ لِلتَّأْدِيبِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ, فَجَائِزٌ أَنْ يُعَلَّمَ تَرْكَهُ وَيَكُونَ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ عَلَمًا لِلتَّعْلِيمِ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ, فَيَكُونُ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ ذَكَاتِهِ وَوُجُودُ الْأَكْلِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ ذَكَاتِهِ. وَأَمَّا الْبَازِي فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ, فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ صَيْدَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ عَلَى شَرْطِ التَّعْلِيمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ لِلْبَازِي تَرْكُهُ الْأَكْلَ; إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْلِيمِهِ ذَلِكَ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ اللَّهُ تَعْلِيمَ مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَقَبُولُ التَّأْدِيبِ; فَثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ تَعَلُّمِ الْبَازِي وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ, وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ تَعَلُّمِ الْكَلْبِ; لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ وَيُمْكِنُ تَأْدِيبُهُ بِهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي حَظْرِ مَا قَتَلَهُ الْبَازِي, مِنْ حَيْثُ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ ترك

الْأَكْلِ, وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّيْرِ فَلَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَلَا يَكُونُ مَا قَتَلَهُ مُذَكًّى. إلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَكُونَ لِذِكْرِ التَّعْلِيمِ فِي الْجَوَارِحِ مِنْ الطَّيْرِ فَائِدَةٌ; إذْ كَانَ صَيْدُهَا غَيْرَ مُذَكًّى, وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ, وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَمَّمَ الْجَوَارِحَ كُلَّهَا وَشَرَطَ تَعْلِيمَهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَلْبِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهَا كُلِّهَا, فَيَكُونُ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ مَا يَكُونُ مُعَلَّمًا, وَكَذَلِكَ مِنْ الْكِلَابِ, وَإِنْ اخْتَلَفَتْ وُجُوهُ تَعْلِيمِهَا, فَيَكُونُ مِنْ تَعْلِيمِ الْكِلَابِ وَنَحْوِهَا تَرْكُ الْأَكْلِ, وَمِنْ تَعْلِيمِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ أَنْ يُجِيبَهُ إذَا دَعَاهُ وَيَأْلَفَهُ وَلَا يَنْفِرَ عَنْهُ, حَتَّى يَكُونَ التَّعْلِيمُ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ ذَكَاةِ صَيْدِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ إمْسَاكِهِ عَلَيْنَا إلَّا بِتَرْكِ الْأَكْلِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ الْأَكْلِ مَشْرُوطًا لَزَالَتْ فَائِدَةُ قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} , فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ عَلَمًا لِإِمْسَاكِهِ عَلَيْنَا وَكَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَنَا أَكْلَ صَيْدِهَا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَحْظُورًا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَأْكُلُ الْبَازِي مِنْهُ وَيَكُونُ مَعَ الْأَكْلِ مُمْسِكًا عَلَيْنَا. قِيلَ لَهُ: الْإِمْسَاكُ عَلَيْنَا إنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ, فَأَمَّا الطَّيْرُ فَلَمْ يَشْرِطْ فِيهِ أَنْ يُمْسِكَهُ عَلَيْنَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ بَدِيًّا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَ الْكَلْبِ عَلَيْنَا أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَتَى أَكَلَ مِنْهُ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى نَفْسِهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" , فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَيْنَا تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ; فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْإِمْسَاكِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرَهُ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَتَأَوَّلْهُ عَلَيْهِ, وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا, فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا. وَالثَّانِي: نَصُّ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ, فَقَالَ: "إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمِعْرَاضِ, فَقَالَ: "إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ". قُلْت: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قَالَ: "إذَا سَمَّيْت فَكُلْ وَإِلَّا فَلَا تَأْكُلْ, وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" ; وَقَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ عَلَيْهِ كَلْبًا آخَرَ؟ قال: "لا

تَأْكُلْ لِأَنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك". فَثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَنَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: "فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك الْكَلْبُ" قَالَ: فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: "وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ". قِيلَ لَهُ: هَذَا اللَّفْظُ غَلَطٌ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ; وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ وَأَبُو أَسْمَاءَ وَغَيْرُهُمَا فَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ هَذَا اللَّفْظَ; وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ كَانَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنْ حَظْرِ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ; وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا حَظْرُ شَيْءٍ وَفِي الْآخَرِ إبَاحَتُهُ فَخَبَرُ الْحَظْرِ أولاهما بالاستعمال.

مطلب: متى ورد خبران في جظر شيء وفي إباحته فالحاظر أولى فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ لَهُ, فَهَذَا هُوَ إمْسَاكُهُ عَلَيْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحْبُوسًا بِالْقَتْلِ فَلَا يَحْتَاجُ الْكَلْبُ إلَى أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ, فَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَتْلُهُ هُوَ حَبْسُهُ عَلَيْنَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا أَيْضًا لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَكُلُوا مِمَّا قَتَلْنَ عَلَيْكُمْ; وَهَذَا يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْآيَةِ; لِأَنَّ إبَاحَةَ مَا قَتَلَتْهُ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} , وَهُوَ يَعْنِي صَيْدَ مَا عَلَّمْنَا مِنْ الْجَوَارِحِ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ الْمُبَاحِ مِنْهُ. وَعَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَيْسَ بِعِبَارَةٍ عَنْ الْقَتْلِ; لِأَنَّهُ قَدْ يُمْسِكُهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ, فَلَيْسَ إمْسَاكُهُ عَلَيْنَا إذًا إلَّا أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ. وَلَا يَخْلُو الْإِمْسَاكُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حَبْسُهُ إيَّاهُ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ, أَوْ حَبْسُهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ, أَوْ تَرَكَهُ لِلْأَكْلِ مِنْهُ بَعْدَ قَتْلِهِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَبْسَهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ, وَأَنَّ حَبْسَهُ عَلَيْنَا حَيًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَهُ, وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَبْسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ, وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إمْسَاكَهُ عَلَيْنَا شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ عَلَيْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ; فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ تَرْكُهُ الْأَكْلَ. فَإِنْ قِيلَ: قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يَقْتَضِي إبَاحَةَ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ أَكْلِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَيْنَا إذَا لَمْ يَأْكُلْهُ, وَإِنَّمَا لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْنَا الْمَأْكُولَ مِنْهُ دُونَ مَا بَقِيَ

مِنْهُ فَقَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ إبَاحَةَ أَكْلِ الْبَاقِي مِمَّا هُوَ مُمْسَكٌ عَلَيْنَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ حَبَسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ الْقَتْلِ, وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ تَرْكَ أَكْلِ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ مَا أَكَلَ هُوَ إمْسَاكٌ, فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذَا أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُمْسِكًا عَلَيْنَا مَا بَقِيَ مِنْهُ إذَا كَانَ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا قَتَلَهُ, مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إمْسَاكٍ;; إذْ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا قَدْ أَكَلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْحَظْرُ, فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ ذِكْرِ إمْسَاكِهِ عَلَيْنَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا اصْطَادَ لِنَفْسِهِ وَأَمْسَكَهُ عَلَيْهَا وَلَمْ يُمْسِكْهُ عَلَيْنَا بِاصْطِيَادِهِ, وَتَرْكُهُ أَكْلَ بَعْضِهِ بَعْدَ مَا أَكَلَ مِنْهُ مَا أَكَلَ لَا يُكْسِبُهُ فِي الْبَاقِي حُكْمَ الْإِمْسَاكِ عَلَيْنَا; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ أَكْلَ الْبَاقِي; لِأَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لَا; لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَيْنَا, وَفِي أَكْلِهِ مِنْهُ بَدِيًّا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُمْسِكْهُ عَلَيْنَا بِاصْطِيَادِهِ; وَهَذَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا اعْتِبَارُهُ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيمِ, وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَصْطَادَهُ لَنَا وَيُمْسِكَهُ عَلَيْنَا, فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّعْلِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَلْبُ إنَّمَا يَصْطَادُ وَيُمْسِكُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَبْعَانَ حِينَ أُرْسِلَ لَمْ يَصْطَدْ؟ وَهُوَ إنَّمَا يُضَرَّى عَلَى الصَّيْدِ بِأَنْ يُطْعَمَ مِنْهُ, فَلَيْسَ إذًا فِي أَكْلِهِ مِنْهُ نَفْيُ التَّعْلِيمِ وَالْإِمْسَاكِ عَلَيْنَا. وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا ذَكَرْتُمْ فِيهِ لَاحْتَجْنَا إلَى اعْتِبَارِ نِيَّةِ الْكَلْبِ وَضَمِيرِهِ, وَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَمُهُ وَلَا نَقِفُ عَلَيْهِ بَلْ لَا نَشُكُّ أَنَّ نِيَّتَهُ وَقَصْدَهُ لِنَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك: "إنَّهُ يَصْطَادُ وَيُمْسِكُ لِنَفْسِهِ" فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ضُرِبَ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ, وَلَمَا تَعَلَّمَ ذَلِكَ إذَا عُلِّمَ, فَلَمَّا كَانَ إذَا عُلِّمَ تَرْكَ الْأَكْلِ تَعَلَّمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَتَى تَرَكَ الْأَكْلَ فَهُوَ مُمْسِكٌ لَهُ عَلَيْنَا مُعَلَّمٌ لِمَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَعْلِيمِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مُصْطَادٌ لِصَاحِبِهِ مُمْسِكٌ عَلَيْهِ; وَقَوْلُهُ: "إنَّهُ لَوْ كَانَ يَصْطَادُ لِصَاحِبِهِ لَكَانَ يَصْطَادُ فِي حَالِ الشِّبَعِ" فَهُوَ يَصْطَادُ فِي حَالِ الشِّبَعِ لِصَاحِبِهِ وَيُمْسِكُهُ عَلَيْهِ إذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ, وَهُوَ إذًا كَانَ مُعَلَّمًا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الِاصْطِيَادِ إذَا أَرْسَلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُك: "إنَّهُ يُضَرَّى عَلَى الصَّيْدِ بِأَنَّهُ يُطْعَمُ مِنْهُ" فَإِنَّهُ إنَّمَا يُطْعَمُ مِنْهُ بَعْدَ إمْسَاكِهِ عَلَى صَاحِبِهِ; وَأَمَّا ضَمِيرُ الْكَلْبِ وَنِيَّتُهُ فَإِنَّ الْكَلْبَ يَعْلَمُ مَا يُرَادُ مِنْهُ بِالتَّعْلِيمِ فَيَنْتَهِي إلَيْهِ, كَمَا يَعْرِفُ الْفَرَسُ مَا يُرَادُ مِنْهُ بِالزَّجْرِ وَرَفْعِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ, وَاَلَّذِي يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلْبِ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ وَمَتَى أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إمْسَاكَهُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ أَلُوفٌ غَيْرُ مُسْتَوْحِشٍ, فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ لِيَتَأَلَّفَ وَلَا يَسْتَوْحِشَ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ. والبازي من جوارح الطير هو

مُسْتَوْحِشٌ فِي الْأَصْلِ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ بِأَنْ يُضْرَبَ لِيَتْرُكَ الْأَكْلَ, فَثَبَتَ أَنَّ تَعْلِيمَهُ بِإِلْفِهِ لِصَاحِبِهِ وَزَوَالِ الْوَحْشَةِ مِنْهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُ فَيُجِيبَهُ, فَيَزُولَ بِذَلِكَ عَنْ طَبْعِهِ الْأَوَّلِ وَيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا لَتَعْلِيمِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ "مِنْ" دَخَلَتْ لِلتَّبْعِيضِ, وَيَكُونُ مَعْنَى التَّبْعِيضِ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ مَا يُمْسِكُهُ عَلَيْنَا مُبَاحٌ دُونَ جَمِيعِهِ, وَهُوَ الَّذِي يَجْرَحُهُ فَيَقْتُلُهُ دُونَ مَا يَقْتُلُهُ بِصَدْمِهِ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ "مِنْ" هَهُنَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] . وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ فِي الْمُوجَبِ وَإِنَّمَا تُزَادُ فِي النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ, وقَوْله تَعَالَى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ, أَيْ: يُكَفِّرُ عَنْكُمْ أَعْمَالَكُمْ الَّتِي تُحِبُّونَ سِتْرَهَا عَلَيْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ; قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ فِي الْحِكْمَةِ دُونَ مَا لَا يَجُوزُ; لِأَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لسائر المكلفين.

مطلب: لا حظ للإجتهاد نع اليقين وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ وَقَدْ صَادَ قَبْلَ ذَلِكَ صَيْدًا كَثِيرًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ: "إنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ حَرَامٌ; لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ حِينَ أَكَلَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا, وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ بِتَعْلِيمِهِ بَدِيًّا حِينَ تَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ, وَالْحُكْمُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ عِنْدَ الْأَكْلِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ, وَلَا حَظَّ لِلِاجْتِهَادِ مَعَ الْيَقِينِ, وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَكْلَ بَدِيًّا وَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ كَمَا يَتْرُكُ سَائِرَ السِّبَاعِ فَرَائِسَهَا عِنْدَ الِاصْطِيَادِ وَلَا يَأْكُلُهَا سَاعَةَ الِاصْطِيَادِ, فَإِنَّمَا يَحْكُمُ إذَا كَثُرَ مِنْهُ تَرْكُ الْأَكْلِ بِحُكْمِ التَّعْلِيمِ مِنْ جِهَةِ غَالِبِ الظَّنِّ, فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ الْيَقِينُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ فَيَحْرُمُ مَا قَدْ اصْطَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا تَرَكَ الْأَكْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ, فَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ التَّعْلِيمَ فَلَمْ يَحْرُمْ مَا قَدْ حَكَمَ بِإِبَاحَتِهِ بِالِاحْتِمَالِ". وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ أَكَلَ فِي مُدَّةٍ لَا يَكَادُ يَنْسَى فِيهَا, فَإِنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ اصْطَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ وَفِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ, وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ فِي شَرْطِ التَّعْلِيمِ تَرْكَ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُحِدُّهُ, وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ حُصُولِ التَّعْلِيمِ, فَإِذَا غَلَبَ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثُمَّ أُرْسِلَ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ فَأَكَلَ مِنْهُ, فَهُوَ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فِيمَا تَرَكَ أَكْلَهُ; مِمَّا تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ بِإِرْسَالِهِ بَعْدَ تَرْكِ الْأَكْلِ حَتَّى يَظُنَّ فِي مِثْلِهَا نِسْيَانُ التَّعْلِيمِ, لَمْ يحرم ما

تَقَدَّمَ; وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إنَّهُ إذَا تَرَكَ الْأَكْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ اصْطَادَ فَأَكَلَ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ, فَيَظْهَرُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ هَهُنَا. قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: "يَعْنِي عَلَى إرْسَالِ الْجَوَارِحِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأَكْلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْإِرْسَالِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} قَدْ تَضَمَّنَ إرْسَالَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ عَلَى الصَّيْدِ, فَجَائِزٌ عَوْدُ الْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ إلَيْهِ, وَلَوْلَا احْتِمَالُ ذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ إيجَابُهُ وَاتَّفَقُوا أَنَّ الذِّكْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأَكْلِ, فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلَى الْإِرْسَالِ; إذْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ; وَإِذَا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْإِرْسَالِ صَارَتْ مِنْ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ, كَتَعْلِيمِ الْجَوَارِحِ وَكَوْنِ الْمُرْسَلِ مِمَّنْ تَصِحُّ ذَكَاتُهُ وَإِسَالَةُ دَمِ الصَّيْدِ بِمَا يَجْرَحُ وَلَهُ حَدٌّ, فَإِذَا تَرَكَهَا لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ كَمَا لَا تَصِحُّ ذَكَاتُهُ مَعَ تَرْكِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ. وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ فَسَادُ الذَّكَاةِ عِنْدَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ النَّاسِيَ; إذْ لَا يَصِحُّ خِطَابُهُ; فَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الذَّكَاةِ; إذْ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهَا فِي حَالِ النِّسْيَانِ. وَسَنَذْكُرُ إيجَابَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى إرْسَالِ الْكَلْبِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عن عبد الله بن أبي السفر عن الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قَالَ: "إذَا سَمَّيْت فَكُلْ وَإِلَّا فَلَا تَأْكُلْ, وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" وَقَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ عَلَيْهِ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: "لَا تَأْكُلْ; لِأَنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك" فَنَهَاهُ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ وَمَا شَارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ ذَكَاةِ الصَّيْدِ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْإِرْسَالِ. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ حَالَ الْإِرْسَالِ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الذَّبْحِ فِي وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الصَّيْدِ, مِنْهَا الِاصْطِيَادُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِالِاصْطِيَادِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَجُوسِيًّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَرْسَلَهُ مُسْلِمًا". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "أَكْرَهُ الِاصْطِيَادَ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ

قوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يَقْتَضِي جَوَازَ صَيْدِهِ وَإِبَاحَةَ أَكْلِهِ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ مُسْلِمًا أَوْ مَجُوسِيًّا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلْبَ آلَةٌ كَالسِّكِّينِ يُذْبَحُ بِهَا وَالْقَوْسِ يُرْمَى عَنْهَا, فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْكَلْبِ لِمَنْ كَانَ كَسَائِرِ الْآلَاتِ الَّتِي يَصْطَادُ بِهَا. وَأَيْضًا فَلَا اعْتِبَارَ بِالْكَلْبِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُرْسَلِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَجُوسِيًّا لَوْ اصْطَادَ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ؟ وَكَذَلِكَ اصْطِيَادُ الْمُسْلِمِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ, فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو تَعْلِيمُ الْمَجُوسِيِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ الْمَشْرُوطِ فِي إبَاحَةِ الذَّكَاةِ أَوْ مُقَصِّرًا عَنْهُ, فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُعَلَّمِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِحُصُولِ التَّعْلِيمِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُعَلَّمٌ كَتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ جَازَ أَكْلُ مَا صَادَهُ؟ فَإِذًا لَا اعْتِبَارَ بِالْمِلْكِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالتَّعْلِيمِ. وَإِنْ كَانَ تَعْلِيمُ الْمَجُوسِيِّ مُقَصِّرًا عَنْ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يُخِلَّ عِنْدَ الِاصْطِيَادِ بِبَعْضِ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ فَهَذَا كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ, وَلَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ مِلْكِ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُسْلِمِ فِي حَظْرِ مَا يَصْطَادُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} فَإِنَّهُ, وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ فَالْمَقْصِدُ فِيهِ حُصُولُ التَّعْلِيمِ لِلْكَلْبِ, فَإِذَا عَلَّمَهُ الْمَجُوسِيُّ كَتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ فَقَدْ وُجِدَ الْمَعْنَى الْمَشْرُوطُ, فَلَا اعْتِبَارَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْمَجُوسِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ يُدْرِكُهُ حَيًّا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ يُدْرِكُ صَيْدَ الْكَلْبِ أَوْ السَّهْمِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِهِ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ: "فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ, وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَبْحِهِ حَتَّى مَاتَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَبْحِهِ حَتَّى مَاتَ أُكِلَ, وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِهِ, وَإِنْ قَدَرَ عَلَى ذَبْحِهِ فَلَمْ يَذْبَحْهُ لَمْ يُؤْكَلْ, وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ قَدَرَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْكَلْبِ فَيَذْبَحَهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يُؤْكَلْ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُذَكِّيَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُؤْكَلْ, وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَا صَارَ فِي يَدِهِ أُكِلَ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إنْ أَدْرَكَهُ فِي فِي الْكَلْبِ فَأَخْرَجَ سِكِّينَهُ مِنْ خُفِّهِ أَوْ مِنْطَقَتِهِ لِيَذْبَحَهُ فَمَاتَ أَكَلَهُ, وَإِنْ ذَهَبَ لِيُخْرِجَ السِّكِّينَ مِنْ خُرْجِهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ لَمْ يَأْكُلْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَلَا اعْتِبَارَ بِإِمْكَانِ ذَبْحِهِ أَوْ تَعَذُّرِهِ فِي أَنَّ شَرْطَ ذَكَاتِهِ الذَّبْحُ وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْكَلْبَ إنَّمَا حَلَّ صَيْدُهُ لِامْتِنَاعِ الصَّيْدِ وَتَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ, فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُبِيحَ صَيْدُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ الَّتِي يُخَافُ عَلَيْهَا الْمَوْتُ, فَلَا تَكُونُ ذَكَاتُهُ إلَّا بِالذَّبْحِ سَوَاءٌ مَاتَ فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ أَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ, وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ حيا.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَمْ تَكُنْ ذَكَاةُ سَائِرِ الْبَهَائِمِ إلَّا بِالذَّبْحِ; لِأَنَّ ذَبْحَهَا قَدْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ, وَلَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا لَمْ يَكُنْ ذَكَاةً; وَجِرَاحَةُ الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ قَدْ كَانَتْ تَكُونُ ذَكَاةً لِلصَّيْدِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ حَتَّى مَاتَ, فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَيَاتِهِ بِمِقْدَارِ مَا يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ فَهُوَ مُذَكًّى بِجِرَاحَةِ الْكَلْبِ, وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ قَدْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً لَا يُعَاشُ مِنْ مِثْلِهَا إلَّا مِثْلَ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ, وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ فَأَخْرَجَ حَشْوَتَهُ, فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ جِرَاحَتُهُ ذَكَاةً لَهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَ بَعْدَ ذَلِكَ ذَبْحُهُ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ, فَهَذَا الَّذِي تَكُونُ جِرَاحَةُ الْكَلْبِ ذَكَاةً لَهُ; وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ: فَهُوَ أَنْ يَعِيشَ مِنْ مِثْلِهَا, إلَّا أَنَّهُ اتَّفَقَ مَوْتُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي يَدِهِ فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ; فَهَذَا لَا يَكُونُ مُذَكًّى; لِأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ قَدْ كَانَتْ مُرَاعَاةً عَلَى حُدُوثِ الْمَوْتِ قَبْلَ حُصُولِهِ فِي يَدِهِ وَإِمْكَانِ ذَكَاتِهِ, فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ حَيًّا بَطَلَ حُكْمُ الْجِرَاحَةِ, وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ الَّتِي يُصِيبُهَا جِرَاحَاتٌ غَيْرُ مُذَكِّيَةٍ لَهَا مِثْلُ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَغَيْرِهِمَا, فَلَا يَكُونُ ذَكَاتُهُ إلَّا بِالذَّبْحِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ يَغِيبُ عَنْ صَاحِبِهِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "إذَا تَوَارَى عَنْهُ الصَّيْدُ وَالْكَلْبُ وَهُوَ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ قَتَلَهُ جَازَ أَكْلُهُ, وَإِنْ تَرَكَ الطَّلَبَ وَاشْتَغَلَ بِعَمَلٍ غَيْرِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ مَقْتُولًا وَالْكَلْبُ عِنْدَهُ كَرِهْنَا أَكْلَهُ" وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي السَّهْمِ إذَا رَمَاهُ بِهِ فَغَابَ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا أَدْرَكَهُ مِنْ يَوْمِهِ أَكَلَهُ فِي الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ جَمِيعًا, وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا إذَا كَانَ فِيهِ أَثَرُ جِرَاحَةٍ, وَإِنْ بَاتَ عَنْهُ لَمْ يَأْكُلْهُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا رَمَاهُ فَغَابَ عَنْهُ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً كَرِهْت أَكْلَهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إنْ وَجَدَهُ مِنْ الْغَدِ مَيِّتًا وَوَجَدَ فِيهِ سَهْمُهُ أَوْ أَثَرًا فَلْيَأْكُلْهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ إذَا غَابَ عَنْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْت" وَفِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْهُ: "وَمَا غَابَ عَنْك لَيْلَةً فَلَا تَأْكُلْهُ". وَالْإِصْمَاءُ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَالْإِنْمَاءُ مَا غَابَ عَنْهُ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي رَزِينٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّيْدِ: "إذَا غَابَ عَنْك مَصْرَعُهُ كَرِهَهُ" وَذَكَرَ هَوَامَّ الْأَرْضِ. وَأَبُو رَزِينٍ هَذَا لَيْسَ بِأَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو رَزِينٍ مَوْلَى أَبِي وَائِلٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ لَمْ يَأْكُلْهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُدْرِكَ ذَكَاتَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ, فَإِذَا لَمْ يَتْرُكُ الطَّلَبَ وَأَدْرَكَهُ مَيِّتًا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ فَكَانَ قَتْلُ الْكَلْبِ أَوْ السَّهْمِ لَهُ ذَكَاةً لَهُ, وَإِذَا تَرَاخَى عَنْ الطَّلَبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَوْ طَلَبَهُ فِي فَوْرِهِ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ, فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ الطَّلَبَ وَأَدْرَكَ حَيَاتَهُ تَيَقَّنَ أَنَّ قَتْلَ الْكَلْبِ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أكله, ألا

تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَتَلَهُ"؟ فَحَظَرَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهُ حِينَ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ كَلْبٌ آخَرُ, فَكَذَلِكَ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا كَانَ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ لَوْ طَلَبَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْكَلَ, لِتَجْوِيزِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ: " يَأْكُلُهُ إلَّا أَنْ يُنْتِنَ" وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "إذَا أَدْرَكْت بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسَهْمُك فِيهِ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ". قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى رَفْضِ هَذَا الْخَبَرِ, وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَقُولُ إنَّهُ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ يَأْكُلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ أَكْلَهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ, وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ أَحَدٍ بِتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالذَّكَاةِ أَوْ فَقْدِهَا, فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مُذَكًّى مَعَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ فَلَا حُكْمَ لَلرَّائِحَة, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى فَلَا حُكْمَ أَيْضًا لِعَدَمِ تَغَيُّرِهِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَهْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ, فَإِذَا هُوَ بِحِمَارِ وَحْشٍ عَقِيرٍ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ مَاتَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ" فَجَاءَ النَّهْدِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ رَمْيَتِي فَكُلُوهُ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُقَسِّمَ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ". فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ إنْ تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ لِتَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْأَلَتَهُ عَنْ ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لَسَأَلَهُ; وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهَدَ هَذَا الْحِمَارَ عَلَى حَالٍ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى قُرْبِ وَقْتِ الْجِرَاحَةِ مِنْ سَيْلَانِ الدَّمِ وَطَرَاوَتِهِ وَمَجِيءِ الرَّامِي عَقِبَهُ, فَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَاخَ عَنْ طَلَبِهِ, فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَهْلُ صَيْدٍ يَرْمِي أَحَدُنَا الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَتْبَعُ أَثَرَهُ بَعْدَمَا يُصْبِحُ فَيَجِدُ سَهْمَهُ فِيهِ؟ قَالَ: "إذَا وَجَدْت سَهْمَك فِيهِ وَلَمْ تَجِدْ بِهِ أَثَرَ سَبُعٍ وَعَلِمْت أَنَّ سَهْمَك قَتَلَهُ فَكُلْهُ". قِيلَ لَهُ: هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ لَيَالِي كَثِيرَةٍ أَنْ يَأْكُلَهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ, وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ; لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْعِلْمَ بِأَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ بَعْدَمَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ, وَقَدْ شَرَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ, فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إذَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن أحمد بن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ

قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مَشْمُولِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَهْلُ بَدْوٍ وَنَصِيدُ بِالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ وَنَرْمِي الصَّيْدَ, فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَسَمَّيْت فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ قَتَلَ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ, وَإِذَا رَمَيْت الصَّيْدَ فَكُلْ مِمَّا أَصْمَيْتَ وَلَا تَأْكُلْ مِمَّا أَنْمَيْت" ; فَحَظَرَ مَا أَنْمَى, وَهُوَ مَا غَابَ عَنْهُ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا غَابَ عَنْهُ وَتَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي طَلَبِهِ أَكَلَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَاحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَكْلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ, وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكُمْ قِيلَ لَهُ: قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ, وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ, وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} وَالْآخَرُ قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قِيلَ: إنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ, وَقِيلَ: زَمَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّهِ, عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِيهِ. وَالطَّيِّبَاتُ هَهُنَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا مَا اسْتَطَبْنَاهُ وَاسْتَلْذَذْنَاهُ مَا عَدَا مَا بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي غَيْرِهَا, فَيَكُونُ عُمُومًا فِي إبَاحَةِ جَمِيعِ الْمُتَلَذَّذَاتِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ حَظْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالطَّيِّبَاتِ مَا أَبَاحَهُ لَنَا مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَ إبَاحَتَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُ ذَبَائِحُهُمْ. وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ; لِأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ, وَلَوْ اسْتَعْمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ لَانْتَظَمَ جَمِيعُ طَعَامِهِمْ مِنْ الذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الذَّبَائِحَ خَاصَّةً; لِأَنَّ سَائِرَ طَعَامِهِمْ مِنْ الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ وَسَائِرُ الْأَدْهَانِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ, وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ, سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِصُنْعِهِ وَاِتِّخَاذِهِ مَجُوسِيًّا أَوْ كِتَابِيًّا, وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرُ مُذَكَّى لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي إيجَابِ حَظْرِهِ بِمَنْ تَوَلَّى إمَاتَتُهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ; فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الذَّبَائِحِ الَّتِي يَخْتَلِفُ حكمها باختلاف الأديان.

مطلب: في أكله عليه السلام مكن الشاة التي أهدها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الْمَشْوِيَّةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ ذَبِيحَتِهَا أَهِي مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ أَمْ الْيَهُودِيِّ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ انْتَحَلَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَذَبِيحَتُهُ مُذَكَّاةٌ إذَا سَمَّى اللَّهَ عَلَيْهَا. وَإِنْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ تُؤْكَلْ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي ذَلِكَ". وَقَالَ مَالِكٌ: "مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ أَكْرَهُ أَكْلَهُ, وَمَا سُمِّيَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَا يُؤْكَلُ وَالْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا ذُبِحَ وَأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَرِهْتُهُ", وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: وَبَلَغَنِي عَنْ عَطَاءٍ1 أَنَّهُ قَالَ: "قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ; لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا سَمِعْتَهُ يُرْسِلُ كَلْبَهُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ أُكِلَ". وَقَالَ فِيمَا ذَبَحَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ: كَانَ مَكْحُولُ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا, وَيَقُولُ: هَذِهِ كَانَتْ ذَبَائِحَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ثُمَّ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ; وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "لَا خَيْرَ فِي ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ" قَالَ: "وَمَنْ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَخَالَفَ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا, وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَدِنْ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ, لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ, وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ اعْتَبَرَ فِيهِمْ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ, فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ خَارِجٌ بِهَا عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] قَالَ: "كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَتَحْلِفُ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ, فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ إذَا فِيهِمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْنَاؤُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ". قَالَ سَعِيدٌ: فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ فَلَمْ يُفَرِّقْ فِيمَا ذَكَرَ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ2 عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ نَاسًا مِنْ السَّامِرَةِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَيَسْبِتُونَ السَّبْتَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ, فَمَا تَرَى؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: "إنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: سَأَلْت عَلِيًّا عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى العرب, فقال: "لا تحل ذبائحهم

_ 1 قوله: "بلغني عن عطاء إلى آخره" أخذ ذلك من عموم قوله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} حيث لم يستثن. "لمصححه". 2 قوله: "نسي" بضم النون وفتح السين وتشديد الياء, "لمصححه".

فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ بِشَيْءٍ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ". وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُوا مِنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ, فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ كَانُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ, فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة: 51] , وَذَلِكَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ, فَأَخْبَرَ تَعَالَى بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ فَهُوَ مِنْهُمْ, وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كِتَابِيًّا; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ, وَأَنْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الَّذِينَ دَانُوا بِدِينِهِمْ, وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ, وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية: 16] , فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمْ الْكِتَابَ هُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ; وَبِحَدِيثِ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ بِشَيْءٍ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْر" أَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِمْ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ انْتَحَلَ دِينَهُمْ فِي حُكْمِهِمْ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] , فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَحَظْرُ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ, لَكِنْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَمَسِّكِينَ بِأَحْكَامِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَتَعَلَّقُونَ مِنْ دِينِهِمْ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ, وَلَمْ يَقُلْ: لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ; فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَكُونُونَ إلَّا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِنْ دَانُوا بِدِينِهِمْ قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ" فَقُلْت لَهُ: إنَّ لِي دِينًا, فَقَالَ: "أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِك مِنْك" قُلْت: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ أَلَسْت رَكُوسِيًّا؟ " قَالَ: قُلْت بَلَى قَالَ: "أَلَسْت تَرْأَسُ قَوْمَك؟ " قَالَ: قُلْت: بَلَى قَالَ: " أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ"؟ قَالَ: قُلْت: بَلَى قَالَ: "فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك".

قَالَ: فَكَأَنِّي رَأَيْت أَنَّ عَلَيَّ بِهَا غَضَاضَةً, وَكَأَنِّي تَوَاضَعْت بِهَا. وَرَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ ذَهَبٍ فَقَالَ: "أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْك" ثُمَّ قَرَأَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية31] قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ قَالَ: "أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ " قَالَ: "فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ" وَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, أَحَدُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَبَ إلَى مُتَّخِذِي الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى, وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ عَرَبِيًّا, وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: "أَلَسْت رَكُوسِيًّا" وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى, فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ الْمِرْبَاعَ, وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ; وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى; لِأَنَّ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَا تَحِلُّ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّمَسُّكِ بِمَا يَنْتَحِلُهُ الْمُنْتَحِلُونَ لِلْأَدْيَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ الدِّينِ, وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ وَبَنِي إسْرَائِيلَ سَوَاءٌ فِيمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخْتَلِفِي الْأَحْكَامِ; وَلَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا انْتَحَلَهُ مِنْ دِينِ النَّصَارَى أَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ وَنَسَبَهُ إلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ انْتَحَلَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا, فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُمْ الْعَفَائِفُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ ذَلِكَ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ بِيَهُودِيَّةٍ, فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا, فَكَتَبَ إلَيْهِ حُذَيْفَةُ: أَحَرَامٌ هِيَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرْ: لَا, وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تُوَاقِعُوا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ; قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي الْعَوَاهِرَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِحْصَانِ عِنْدَهُ هَهُنَا كَانَ عَلَى الْعِفَّةِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ" إحْصَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَأَنْ تُحْصِنَ فَرْجَهَا". وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ: "الْحَرَائِرُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاخْتِلَافُ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ, مِنْهَا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ إذَا كُنَّ ذِمِّيَّاتٍ, فَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِيهِ إلَّا شَيْئًا

يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَهُ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عبد اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِطَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَكْرَهُ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ. قَالَ جَعْفَرُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صالح عَنْ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ رَبُّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّا بِأَرْضٍ يُخَالِطُنَا فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ, أَفَنَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ وَنَأْكُلُ مِنْ طَعَامَهُمْ؟ قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ وَآيَةَ التَّحْرِيمِ, قَالَ: قُلْت: إنِّي أَقْرَأُ مَا تَقْرَأُ أَفَنَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ وَنَأْكُلُ طَعَامَهُمْ؟ قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ وَآيَةَ التَّحْرِيمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِآيَةِ التَّحْلِيلِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} , وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] , فَلَمَّا رَأَى ابْنُ عُمَرَ الْآيَتَيْنِ فِي نِظَامِهِمَا تَقْتَضِي إحْدَاهُمَا التَّحْلِيلَ وَالْأُخْرَى التَّحْرِيمَ وَقَفَ فيه ولم يقطع بإباحته. ".

مطلب: وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى إبَاحَةِ أَهْلِ الكتاب الذميات, مخالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنه وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى إبَاحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الذِّمِّيَّاتِ سِوَى ابْنِ عُمَرَ, وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] خَاصًّا فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة, قَالَ: لَا بَأْسَ, قَالَ: قُلْت: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قَالَ: أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوس. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ1 الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَتَزَوَّجَهَا عَلَى نِسَائِهِ; وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَتُرْوَى إبَاحَةُ ذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ التَّابِعِينَ; مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ. وَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] مِنْ أَحَدِ معنيين:

_ 1 قوله: "الفرافصة" بفتح الفاء الأولى وكسر الفاء الثانية. قال ابن الأنباري: كل ما في العرب فرافضة بضم اللاقاء الأولى إلا فرافضة أبا نائلة امراو عثمان رضي الله عنه. "لمصححه

إمَّا أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِدُخُولِ الْكِتَابِيَّاتِ فِيهِ, أَوْ مَقْصُورًا عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ. فَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ, فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَخُصُّهُ, وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] مُرَتَّبًا عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى تَرْتِيبِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَمْ يَجُزْ لَنَا نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ إلَّا بِيَقِينٍ, وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] إنَّمَا يَتَنَاوَلُ إطْلَاقُهُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ; فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثَابِتُ الْحُكْمِ; إذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ اللَّاتِي كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمْنَ, كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] , وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [آل عمران:113] وَالْمُرَادُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمَ; كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ, وَلَا يُطْلَقُ أَحَدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَهُودٌ أَوْ نَصَارَى, وَاَللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199] فَإِنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ الِاسْمَ عَلَيْهِمْ إلَّا مُقَيَّدًا بِذِكْرِ الْإِيمَانِ عَقِيبَهُ, وَكَذَلِكَ قَالَ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] فَذَكَرَ إيمَانَهُمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ; وَلَسْت وَاجِدًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إطْلَاقَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إلَّا وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} فَانْتَظَمَ ذَلِكَ سَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ مِمَّنْ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ أَوَكِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمْنَ وَمِمَّنْ نَشَأَ مِنْهُنَّ عَلَى الْإِسْلَامِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ مُؤْمِنَاتٍ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} عَلَى الْكِتَابِيَّاتِ اللَّاتِي لَمْ يُسْلِمْنَ. وَأَيْضًا فَإِنْ سَاغَ التَّأْوِيلُ الَّذِي ادَّعَاهُ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ, فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الِانْصِرَافُ عَنْ الظَّاهِرِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَلَيْسَ مَعَنَا دَلَالَةٌ تُوجِبُ صَرْفَهُ عَنْ الظَّاهِرِ. وَأَيْضًا فَلَوْ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ لَزَالَتْ فَائِدَتُهُ; إذْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُومِنَاتِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

حِلٌّ لَكُمْ} طَعَامُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى, كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هُوَ عَلَى الْكِتَابِيَّاتِ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَيَحْتَجُّ لِلْقَائِلَيْنِ بِتَحْرِيمِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَرْبِيَّةِ إذَا خَرَجَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا أَوْ الْحَرْبِيُّ تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً, أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ عُمُومًا لَخَصَّهُ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا تَحِلُّ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا كَانُوا حَرْبًا" وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قَالَ الْحَكَمُ: حَدَّثْت بِذَلِكَ إبْرَاهِيمَ فَأَعْجَبَهُ. وَلَمْ يُفَرِّقْ غَيْرَهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ بَيْنَ الْحَرْبِيَّاتِ وَالذِّمِّيَّاتِ, وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ نِكَاحِ الْجَمِيعِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وَالنِّكَاحُ يُوجِبُ الْمَوَدَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] , فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْحَرْبِيَّاتِ مَحْظُورًا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إنَّمَا يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ; لِأَنَّهُمْ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّنَا; وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ, وَأَصْحَابُنَا يَكْرَهُونَ مُنَاكَحَاتِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ; وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا بَأْسَ بِذَلِكَ; لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ". وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ, وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} عَلَى الْحَرَائِرِ جَعَلَ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةَ عَلَى نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ, وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِفَّةِ أَبَاحَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَجُوسِ فَقَالَ جُلُّ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: "لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ". وَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ شَوَاذٌّ; وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا

إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:155] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ طَائِفَتَانِ, فَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ الْكِتَابِ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّمَا لِي عَلَى فُلَانٍ جُبَّتَانِ, لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَكْثَرَ مِنْهُ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّمَا لَقِيت الْيَوْمَ رَجُلَيْنِ, يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ أَكْثَرَ مِنْهُمَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا قَدْ غَلِطُوا. قِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْكِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ, وَلَكِنَّهُ قَطَعَ بِذَلِكَ عُذْرَهُمْ لِئَلَّا يَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنَّا كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ; فَهَذَا إنَّمَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ وَاحْتِجَاجٌ مِنْهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَطْعِ عُذْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَجُوسَ لَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ, وَإِنَّمَا يَقْرَءُونَ كِتَابَ زَرَادُشْتَ وَكَانَ مُتَنَبِّيًا كَذَّابًا, فَلَيْسُوا إذَا أَهْلَ كِتَابٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ حَدِيثُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْمَجُوسِ وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ". فَصَرَّحَ عُمَرُ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ, وَلَمْ يُخَالِفْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ" ; فَلَوْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَا قَالَ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ" وَلَقَالَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَقَالَ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ". فَإِنْ قِيلَ: إنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ". قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ خَاصَّةً, وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ, قَالَ: "فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا, وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ غَيْرَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ". وَقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنْ صَيْدِ الْمَجُوسِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي رَافِعٍ وَعِكْرِمَةَ, وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا عِنْدَهُمْ أَهْلَ كِتَابٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى صَاحِبِ الرُّومِ: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" , وَكَتَبَ إلَى كِسْرَى وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى كتاب. وروي في قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّوا غَلَبَةَ الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَهْلَ كِتَابٍ وَأَحَبَّتْ قُرَيْشُ غَلَبَةَ فَارِسٍ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ, فَخَاطَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَجْعَلهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ, وَإِنْ ثَبَتَ أَوْجَبَ أَنْ لَا

يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُمْ وَهُمْ الْآنَ غَيْرُ مُنْتَحِلِينَ لِشَيْءٍ من كتب الله تعالى.

مطلب: في الكلام على الصائبة وبيان نحلتهم وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: الصَّابِئُونَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ دِينَ الْمَسِيحِ وَيَقْرَءُونَ الْإِنْجِيلَ, فَأَمَّا الصَّابِئُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَهُمْ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّابِئُونَ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِهَذَا الِاسْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَانْتِحَالُهُمْ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ, أَعْنِي الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَاَلَّذِينَ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ فِي سَوَادِ وَاسِطَ; وَأَصْلُ اعْتِقَادِهِمْ تَعْظِيمُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَعِبَادَتُهَا وَاِتِّخَاذُهَا آلِهَةً وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى إقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَأَزَالُوا مَمْلَكَةَ الصَّابِئِينَ وَكَانُوا نَبَطًا لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُمْ مَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الرُّومُ وَأَهْلُ الشَّامِّ وَالْجَزِيرَةِ كَانُوا صَابِئِينَ, فَلَمَّا تَنَصَّرَ قُسْطَنْطِينُ حَمَلَهُمْ بِالسَّيْفِ عَلَى الدُّخُولِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ, فَبَطَلَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَدَخَلُوا فِي غِمَارِ النَّصَارَى فِي الظَّاهِرِ وَبَقِيَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّحْلَةِ مُسْتَخِفِّينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ, فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ دَخَلُوا فِي جُمْلَةِ النَّصَارَى وَلَمْ يُمَيِّزْ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى; إذْ كَانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَاتِمِينَ لِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ وَهُمْ أَكْتَمْ النَّاسِ لَاعْتِقَادِهِمْ, وَلَهُمْ أُمُورٌ وَحِيَلٌ فِي صِبْيَانِهِمْ إذَا عَقَلُوا فِي كِتْمَانِ دِينِهِمْ, وَعَنْهُمْ أَخَذَتْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة كِتْمَانَ الْمَذْهَبِ, وَإِلَى مَذْهَبِهِمْ انْتَهَتْ دَعْوَتُهُمْ. وَأَصْلُ الْجَمِيعِ اتِّخَاذُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ آلِهَةً وَعِبَادَتُهَا وَاِتِّخَاذُهَا أَصْنَامًا عَلَى أَسْمَائِهَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ, وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَبَيْنَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ فِي شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ; وَلَيْسَ فِيهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ. فَاَلَّذِي يَغْلِبُ فِي ظَنِّي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّابِئِينَ أَنَّهُ شَاهَدَ قَوْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَحِلُونَ دِينَ الْمَسِيحِ تَقِيَّةً; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ إقْرَارَ مُعْتَقَدِي مَقَالِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ; وَمَنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مِنْ الصَّابِئِينَ مَا وَصَفْنَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تنكح نساؤهم.

بَابُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَامَ إلَيْهَا شَرْطًا لِفِعْلِ الطَّهَارَةِ, وَحُكْمُ الْجَزَاءِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الشَّرْطِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ, وَإِذَا قِيلَ: إذَا لَقِيت زَيْدًا فَأَكْرِمْهُ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْإِكْرَامِ بَعْدَ اللِّقَاءِ؟ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَحَقِيقَتُهُ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ وَأَنَّ وُجُوبَ الطَّهَارَةِ مُتَعَلِّقٌ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الْقِيَامِ, فَلَيْسَ إذًا هَذَا اللَّفْظُ عُمُومًا فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ, إذْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا مَا يُوجِبُ تَكْرَارَ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى طَلَبِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ "إذَا" لَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: إذَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا فَدَخَلَهَا مَرَّةً أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دِرْهَمًا, فَإِنْ دَخَلَهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا مَرَّةً طَلُقَتْ, فَإِنْ دَخَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِ الطَّهَارَةِ لِتَكْرَارِ الْقِيَامِ إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يَتَوَضَّأْ أَحَدٌ بِالْآيَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مُكْتَفِيَةٍ بِنَفْسِهَا فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ دُونَ بَيَانِ مُرَادِ الضَّمِيرِ بِهَا, فَقَوْلُ الْقَائِلِ: "إنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِالْآيَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً" خَطَأٌ; لِأَنَّ الْآيَةَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ, فَمَهْمَا وَرَدَ بِهِ الْبَيَانُ فَهُوَ الْمُرَادُ الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْرَادِ أَوْ التَّكْرَارِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ بَيَانُ الْمُرَادِ, وَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ عُمُومًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مُوجِبًا لِتَكْرَارِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَيْهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ, وَإِنَّمَا كَانَ يُوجِبُ التَّكْرَارَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ وَهُوَ الْحَدَثُ دُونَ الْقِيَامِ إليها.

مطلب: كان عليه السلام مأمورا بالوضوء عند كل صلا ثم وضع عنه الوضوء إلا من حدث وَقَدْ حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَرْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتَحَ مَكَّةَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ قَالَ: "عَمْدًا فَعَلْته". وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قُلْت لَهُ:

أَرَأَيْت وُضُوءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ عَمَّنْ هُوَ؟ قَالَ حَدَّثَتْنِيهِ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلِ حَدَّثَهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ, فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَوَضَعَ عَنْهُ الْوُضُوءَ إلَّا مِنْ حَدَثٍ, فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ فَفَعَلَهُ حَتَّى مَاتَ. فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلطَّهَارَةِ; إذْ لَمْ يُجَدِّدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَهَارَةً, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا بِهِ يَتَعَلَّقُ بِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ. وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ الْحَدَثُ لِقَوْلِهِ: وَوَضَعَ عَنْهُ الْوُضُوءَ إلَّا مِنْ حَدَثٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ هُوَ الْحَدَثُ مَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَاقَ مَاءً نُكَلِّمُهُ فَلَا يُكَلِّمُنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَا يُكَلِّمُنَا حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ, فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةُ, فَأَخْبَرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ. وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ, فَقُدِّمَ إلَيْهِ الطَّعَامُ, فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيك بِوَضُوءٍ؟ قَالَ: "إنَّمَا أُمِرْت بِالْوَضُوءِ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَأَلُوهُ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ عِنْدَ الطَّعَامِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ. وَرَوَى أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْت فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ" ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ إيجَابَ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ لَوْ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ لَمَا قَالَ: "لَأَمَرْت فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ" وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِهِ لَكَانَ وَاجِبًا بِأَمْرِهِ دُونَ الْآيَةِ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} قَالَ: إذَا قُمْتُمْ مِنْ الْمَضْجَعِ يَعْنِي النَّوْمَ وَقَدْ كَانَ رَدُّ السَّلَامِ مَحْظُورًا إلَّا بِطَهَارَةٍ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حُصَيْنِ أَبِي سَاسَانَ عَنْ الْمُهَاجِرِ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ, فَسَلَّمْت عَلَيْهِ, فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ قَالَ: "مَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك السَّلَامَ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ قَالَ: انْطَلَقْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي

حَاجَةٍ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ يَوْمئِذٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ, فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ, فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ, ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ ضَرَبَ بِكَفَّيْهِ عَلَى الْحَائِطِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ, ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ وَقَالَ: "لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَةٍ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهِ الطَّهَارَةُ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ رَدِّ السَّلَامِ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ تَيَمَّمَ حِينَ خَافَ فَوْتَ الرَّدِّ; لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ, فَإِذَا تَرَاخَى فَاتَ, فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَافَ فَوْتَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إنْ تَوَضَّأَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ بَاقِيًا إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ; وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ اسْتِحْبَابًا وَقَالَ سَعْدٌ: إذَا تَوَضَّأْت فَصَلِّ بِوُضُوئِك مَا لَمْ تُحْدِثْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَفْيُ إيجَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي فَضِيلَةِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ, مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَامٌ الطَّوِيلُ عَنْ زَيْدِ الْعَمِّيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ " ثُمَّ تَحَدَّثَ سَاعَةً, ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: " هَذَا وُضُوءُ مَنْ تَوَضَّأَ بِهِ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ" , ثُمَّ تَحَدَّثَ سَاعَةً, ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: "هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي". وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ". فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا; وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ, وَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى

حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا بِهِ تَعَلُّقُ إيجَابِ الطَّهَارَةِ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ إلَّا فِيمَا قَامَ دَلِيلُ مُرَادِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ مِنْ النَّوْمِ لَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوجِبًا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ مِنْ النَّوْمِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حَدَثٍ آخَرَ وُضُوءٌ آخَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَوَضَّأَ مِنْ النَّوْمِ؟ فَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ لَمَا وَجَبَ مِنْ النَّوْمِ عِنْدَ إرَادَةِ الْقِيَامِ إلَيْهَا, كَالسَّبَبَيْنِ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ ثُمَّ وَجَبَ مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ يَجِبْ مِنْ الثَّانِي; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ النَّوْمِ هُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ, فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: إذَا قُمْتُمْ مِنْ النَّوْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ هُوَ النَّوْمُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ قَامَ مِنْ النَّوْمِ, وَمَنْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ سَاجِدًا أَوْ رَاكِعًا لَا يُقَالُ: إنَّهُ قَامَ مِنْ النَّوْمِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِي نَوْمِ الْمُضْطَجِعِ, وَمَنْ قَالَ: إنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِهِ الطَّهَارَةُ لِغَلَبَةِ الْحَالِ فِي وُجُودِ الْحَدَثِ فِيهِ فَإِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ مِنْ الرِّيحِ, وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا وَصَفْنَا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَمِنْ الرِّيحِ, وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ أَيْضًا إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وَالْغَائِطُ هُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ, وَكَانُوا يَأْتُونَهُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ فِيهِ, وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَائِرِ مَا يَسْتَتِرُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ وُجُودِهِ عَنْ النَّاسِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ الْغَائِطَ لِلِاسْتِتَارِ عَنْ النَّاسِ وَإِخْفَاءِ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ, وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْبَدَنِ الَّتِي فِي الْعَادَةِ يَسْتُرُهَا عَنْ النَّاسِ مِنْ سَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا أَحْدَاثٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا ضَمِيرُ الْآيَةِ. وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى نَفْيِ إيجَابِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ نَامَ قَاعِدًا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ; رَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى نَامَ النَّاسُ ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا, فَجَاءَهُ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَخَرَجَ وَصَلَّى; وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ تَوَضَّئُوا. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نَجِيءُ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَمِنَّا مَنْ نَعَسَ وَمِنَّا مَنْ نَامَ وَلَا نُعِيدُ وُضُوءًا. وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ وَيَنَامَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ, فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إنِّي لَسْت كَأَحَدِكُمْ

إنَّهُ تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي لَوْ أَحْدَثْت لَعَلِمْتُهُ" وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَدَثٍ, وَأَنَّ إيجَابَ الْوُضُوءِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ الْحَدَثِ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِهِ وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ النَّائِمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ" ; فَلَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ فِي النَّوْمِ الَّذِي يَسْتَثْقِلُ فِيهِ النَّائِمُ وُجُودَ الْحَدَثِ فِيهِ, حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَدَثِ, وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي النَّوْمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي يَضَعُ النَّائِمُ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَكُونُ فِي الْمُضْطَجِعِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ, فَإِذَا كَانَ جَالِسًا أَوْ عَلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مِثْلِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ; لِأَنَّ هَذِهِ أَحْوَالٌ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا مُتَحَفِّظًا, وَإِنْ كَانَ مِنْهُ حَدَثٌ عَلِمَ بِهِ. وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ سَاجِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ فَإِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مفاصله".

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} لَمَّا كَانَ ضَمِيرُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ أَوْ إرَادَةِ الْقِيَامِ إلَيْهَا فِي حَالِ الْحَدَثِ, فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ الطَّهَارَةِ مِنْ الْإِحْدَاثِ لِلصَّلَاةِ, وَكَانَتْ الصَّلَاةُ اسْمًا لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ سَائِرَهَا مِنْ الْمَفْرُوضَاتِ وَالنَّوَافِلِ, اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ; إذْ لَمْ تُفَرِّقَ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا, وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاة بغير طهور". قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يَقْتَضِي إيجَابَ الْغَسْلِ وَالْغَسْلُ اسْمٌ لِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ, وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ فَغُسْلُهَا إزَالَتُهَا بِإِمْرَارِ الْمَاءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إنَّمَا الْمَقْصِدُ فِيهِ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ; إذْ لَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ مَشْرُوطٌ إزَالَتُهَا, فَإِذَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلَكَ الْمَوْضِعَ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إمْرَارُ الْمَاءِ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: عَلَيْهِ إمْرَارُ الْمَاءِ وَدَلْكُ الْمَوْضِعِ بِيَدِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ غُسْلًا. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ: عَلَيْهِ إجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلْكُهُ بِيَدِهِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إنْ مَسَحَ الْمَوْضِعَ بِالْمَاءِ كَمَا يَمْسَحُ بِالدُّهْنِ أَجْزَأَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مُوجِبِ دَلْكِ الْمَوْضِعِ أَنَّ اسْمَ الْغَسْلِ يَقَعُ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَوَالَى بَيْنَ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ حَتَّى أَزَالَهَا بِذَلِكَ غَاسِلًا وَإِنْ لَمْ يَدْلُكْهُ بِيَدِهِ, فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الدَّلْكِ لِأَجْلِ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} فَهُوَ مَتَى أَجْرَى الْمَاءَ عَلَى الْمَوْضِعِ فَقَدْ فَعَلَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَمُوجِبَهَا; فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ دلك الموضع

بِيَدِهِ فَقَدْ زَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يُزَالُ بِالدَّلْكِ لَمْ يَكُنْ لِدَلْكِ الْمَوْضِعِ وَإِمْسَاسِهِ بِيَدِهِ فَائِدَةٌ وَلَا حُكْمٌ, فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ إذَا دَلَكَهُ بِيَدِهِ أَوْ أَمَرَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ لِدَلْكِ الْمَوْضِعِ بِيَدِهِ حُكْمٌ فِي الطَّهَارَةِ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا لَمْ يَكُنْ الْغَسْلُ مَأْمُورًا بِهِ لِإِزَالَةِ شَيْءٍ هُنَاكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَمِنْ حَيْثُ شَرَطَ فِيهِ إمْرَارَ الْمَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلْكُهُ بِيَدِهِ شَرْطًا وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِإِمْرَارِ الْمَاءِ وَإِجْرَائِهِ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ لِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ حُكْمٌ فِي غُسْلِ النَّجَاسَاتِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِدَلْكِ الْمَوْضِعِ حُكْمٌ بَلْ حُكْمُهُ سَاقِطٌ فِي إزَالَةِ الْأَنْجَاسِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمٌ لَكَانَ اعْتِبَارُ الدَّلْكِ فِيهَا أَوْلَى, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ مَسْحَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ الْغَسْلَ وَفِي بَعْضِهَا الْمَسْحَ, فَمَا أَمَرَ بِغَسْلِهِ لَا يُجْزِي فِيهِ الْمَسْحُ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَقْتَضِي إمْرَارَ الْمَاء عَلَى الْمَوْضِعِ وَإِجْرَاءَهُ عَلَيْهِ, وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ غَاسِلًا, وَالْمَسْحُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ بِالْمَاءِ دُونَ إمْرَارِهِ عَلَيْهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْغَسْلِ هُوَ الْمَسْحُ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ, وَفِي وُجُوبِ إثْبَاتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ غَيْرَ الْغَسْلِ, فَمَتَى مَسَحَ وَلَمْ يَغْسِلْ فَلَا يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ إبْلَاغُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَسْحُ الظَّاهِرِ مِنْهُ, وَعَلَيْهِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إبْلَاغُ الْمَاءِ أُصُولَ الشَّعْرِ; فَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ وَالْغَسْلُ وَاحِدًا لَأَجْزَى فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ مَسْحُهُ كَمَا يُجْزِي فِي الْوُضُوءِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا شُرِطَ فِيهِ الْغَسْلَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ الْمَسْحُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ تُزَالُ بِالْغَسْلِ فَالْمَقْصِدُ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْمَوْضِعِ بِالْمَاءِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ مِنْ أَجْلِهَا يَجِبُ الْغَسْلُ فَكَانَ وُجُوبُ الْغَسْلِ عِبَادَةً, ثُمَّ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ, فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ الْأَمْرِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا تَرْكُ الْغَسْلِ إلَى غَيْرِهِ, وَالْعِبَادَةُ عَلَيْنَا فِي الْغَسْلِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَأْمُورِ بِهَا كَهِيَ عَلَيْنَا فِي مَسْحِ الْعُضْوِ الْمَأْمُورِ بِهِ, فَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظِ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ فِي ذِرَاعِهِ فَمَسَحَهَا جَازَ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ الْجَمِيعِ كَمَا جَازَ مَسْحُ الْبَعْضِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ اللُّمْعَةَ

إذَا اتَّصَلَتْ صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَغْسُولِ وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ, فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ لَا يَنُوبُ مَنَابَ الْغَسْلِ. وَقِيلَ لَهُ: لَوْ لَزِمْنَا هَذَا الْوُضُوءَ لَلَزِمَك فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ مِثْلُهُ. وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ سَوَاءٌ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ أَوْ لَمْ تُقَارِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَسْلَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَفْهُومُ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ, وَهُوَ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ, وَلَيْسَ هُوَ عِبَارَةُ عَنْ النِّيَّةِ. فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ النِّيَّةَ فَهُوَ زَائِدٌ فِي النَّصِّ, وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ; لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ أَبَاحَتْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ لِلطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ, فَمَنْ حَظَرَ الصَّلَاةَ وَمَنَعَهَا إلَّا مَعَ وُجُودِ نِيَّةِ الْغَسْلِ فَقَدْ أَوْجَبَ نَسْخَهَا, وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ النَّصَّ لَهُ حُكْمُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ, كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْقَطَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شُرِطَتْ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ النِّيَّةُ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِهَا فِي اللَّفْظِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ إلَّا بِبَيَانٍ يَرِدُ فِيهِ, وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْبَيَانُ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَاهَا; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ ظَاهِرُ الْمَعْنَى بَيِّنُ الْمُرَادِ, فَمَهْمَا أَلْحَقْنَا بِهِ مَا لَيْسَ فِي اللَّفْظِ عِبَارَةً عَنْهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى إيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا, فَلَوْ كَانَ اسْمُ الصَّلَاةِ عُمُومًا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ لَجَازَ إلْحَاقُ النِّيَّةِ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ, فَهِيَ إذَا كَانَتْ مُجْمَلًا أُجْرِيَ بِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِيهَا من جهة الإجماع.

ذكر اختلاف الفقهاء فِي فَرْضِ النِّيَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "كُلُّ طَهَارَةٍ بِمَاءٍ تَجُوزُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا يُجْزِي التَّيَمُّمُ إلَّا بِنِيَّةٍ", وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يُجْزِي الْوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ" وَلَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِي الْوُضُوءُ وَلَا الْغُسْلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ, وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يُجْزِي الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ جَمِيعًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ", قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: وَلَمْ نَجِدْ هَذَا الْقَوْلَ فِي التَّيَمُّمِ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ, وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] دَالٌ عَلَى جَوَازِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ, كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}

[الفرقان: 48] وَمَعْنَاهُ: مُطَهِّرًا; فَحَيْثُمَا وُجِدَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا. وَلَوْ شَرَطْنَا فِيهِ النِّيَّةَ كُنَّا قَدْ سَلَبْنَاهُ الصِّفَةَ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ كَوْنِهِ طَهُورًا; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ طَهُورًا إلَّا بِغَيْرِهِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ طَهُورًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مَعْنًى آخَرَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: إيجَابُ شَرْطِ النِّيَّةِ فِيهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى, كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" , وَقَالَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إيجَابَ النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا سَمَّاهُ طَهُورًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمَاءِ فِي بَابِ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا يُزِيلُ النَّجَسَ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ سَمَّاهُ طَهُورًا اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ إثْبَاتَ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ جَائِزٌ مَعَ قَوْلِهِ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ" وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْوُضُوءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "فَتَيَمَّمُوا" يَقْتَضِي إيجَابَ النِّيَّةِ; إذْ كَانَ التَّيَمُّمُ هُوَ الْقَصْدُ فِي اللُّغَةِ; وَقَوْلُهُ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ" وَارِدٌ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ, فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُرَتَّبًا عَلَى الْآيَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ حُكْمِ الْآيَةِ بِالْخَبَرِ وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ بِالْآيَةِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وُقُوعِ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةُ, مُقْتَضِيًا لِفَرْضِ الطَّهَارَةِ, فَمِنْ حَيْثُ كَانَ فَرْضًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَوْقِعَ الْفَرْضِ إلَّا بِالنِّيَّةِ, وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَرْضَ يُحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهِ إلَى نِيَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأُخْرَى نِيَّةُ الْفَرْضِ, فَإِذَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ تُوجَدْ صِحَّةُ الْفَرْضِ, فَلَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ; إذْ هُوَ غَيْرُ فَاعِلٍ لِلْمَأْمُورِ بِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَجِبُ مَا ذَكَرْت فِي الْفُرُوضِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ لِأَعْيَانِهَا وَلَمْ تُجْعَلْ سَبَبًا لِغَيْرِهَا, فَأَمَّا مَا كَانَ شَرْطًا لِصِحَّةِ فِعْلٍ آخَرَ فَلَيْسَ يَجِبُ ذَلِكَ فِيهِ بِنَفْسِ وُرُودِ الْأَمْرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ, فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الطَّهَارَةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَكُنْ مَفْرُوضَةً لِنَفْسِهَا لِأَنَّ مَنْ لَا صَلَاةَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الطَّهَارَةِ كَالْمَرِيضِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَيَّامًا وَكَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَالَ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَأْمُورًا بِهِ لِنَفْسِهِ, فَاحْتَاجَ مُوجِبُ النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ شَرْطٌ فِي الْفَرْضِ وَلَيْسَ بِمَفْرُوضٍ بِعَيْنِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ نَحْوُ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَا صُنْعَ

لِلْمُصَلِّي فِيهِ, وَنَحْوُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ اللَّذَيْنِ هُمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ وَلَيْسَا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ؟ فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْأَمْرِ بِمَا جُعِلَ شَرْطًا فِي غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعُهُ طَاعَةً مِنْهُ وَلَا إيجَابَ النِّيَّةِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِتَطْهِيرِ الثَّوْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النِّيَّةِ شَرْطًا فِي تَطْهِيرِهِ؟ إذْ لَمْ تَكُنْ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ مَفْرُوضَةً لِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي غَيْرِهَا, وَإِنَّمَا تَقْدِيرُهُ: لَا تُصَلِّ إلَّا فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ وَلَا تُصَلِّ إلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَعَدَ فِي الْمَطَرِ يَنْوِي الطَّهَارَةَ فَأَصَابَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ أَنَّهُ يُجْزِيهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ لَهُ فِيهِ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَفْرُوضًا لِنَفْسِهِ لَمَا أَجْزَاهُ دُونَ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ أَوْ يَأْمُرَ بِهِ غَيْرَهُ; لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمَفْرُوضِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّيَمُّمُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ لِنَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ, فَلَيْسَ إيجَابُ النِّيَّةِ مَقْصُورًا عَلَى مَا كَانَ مَفْرُوضًا لِنَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّا لَمْ نُخْرِجْ هَذَا الْقَوْلَ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ فَتَلْزَمُنَا عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةُ, وَإِنَّمَا بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا وَرَدَ فِيمَا كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ, فَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا بِذَلِكَ احْتِجَاجَ مَنْ احْتَجَّ بِظَاهِرِ وُرُودِ الْأَمْرِ فِي إيجَابِ النِّيَّةِ, وَفِي مَضْمُونِ لَفْظِ التَّيَمُّمِ إيجَابُ النِّيَّةِ; إذْ كَانَ التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ اسْمًا لِلْقَصْدِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] يَعْنِي لَا تَقْصِدُوا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إذَا طُلِبَا أَنْ يُدْرَكَا مَا تَيَمَّمَا وَقَالَ آخَرُ: فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْت مَالِكَا وَقَالَ الْأَعْشَى: تَيَمَّمْت قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنْ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنِ يَعْنِي قَصَدْتُهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ إيجَابُ الْقَصْدِ وَالْقَصْدُ هُوَ النِّيَّةُ لِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ, جَعَلْنَا النِّيَّةَ شَرْطًا وَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ إلْحَاقُ زِيَادَةٍ بِالْآيَةِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِيهَا. وَأَمَّا الْغُسْلُ فَلَا تَنْطَوِي تَحْتَهُ النِّيَّةُ, وَفِي إيجَابِهَا فِيهِ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِيهَا لَيْسَتْ مِنْهَا, وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَوَجْهٌ آخَرُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ: وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ قَدْ يَقَعُ تَارَةً عَنْ الْغُسْلِ وَتَارَةً عَنْ الْوُضُوءِ, وَهُوَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحَالَيْنِ, فَاحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا; لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا شُرِطَتْ لِتَمْيِيزِ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ, فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ قَدْ يَخْتَلِفُ فَيَقَعُ تَارَةً عَنْ الْغُسْلِ وَتَارَةً عَنْ الْوُضُوءِ اُحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَنْ

الْغُسْلِ عَمَّا يَقَعُ مِنْهُ عَنْ الْوُضُوءِ; وَأَمَّا الْغُسْلُ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِيمَا يَقَعُ لَهُ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ النِّيَّةِ فِيهِ وَالتَّمْيِيزِ; إذْ كَانَ الْمَقْصِدُ مِنْهُ إيقَاعَ الْفِعْلِ كَمَا قِيلَ: لَا تُصَلِّ حَتَّى تَغْسِلَ النَّجَاسَةَ مِنْ بَدَنِك أَوْ ثَوْبِك, وَلَا تُصَلِّ إلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ, وَلَيْسَ يَقْتَضِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إيجَابَ النِّيَّةِ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْلِيمِهِ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ وَقَوْلُهُ: "لَا تَتِمُّ صَلَاةُ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ, فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ" , فَقَوْلُهُ: "حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ" يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الطَّهُورِ مَعْلُومَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ, فَصَارَ كَقَوْلِهِ: حَتَّى يَغْسِلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ, وَقَوْلُهُ: "فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ" يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا, إذْ لَمْ يَشْرِطْ فِيهِ النِّيَّةَ, فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ غَسَلَهُ. وَيَدُلُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ, فَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا فِيهَا لَمَا أَخْلَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوْقِيفِ عَلَيْهَا, وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ لِأُمِّ سَلَمَةَ: "إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَعَلَى سَائِرِ جَسَدِك فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْت" وَلَمْ يَشْرِطْ فِيهِ النِّيَّةَ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ" , فَأَشَارَ إلَى الْفِعْلِ الْمُشَاهَدِ دُونَ النِّيَّةِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرٌ لَا تَصِحُّ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَ بِقَبُولِ الصَّلَاةِ بِهِ, وَقَالَ: "إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" وَقَالَ: "إنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً, فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ". وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ, وَأَيْضًا هُوَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى صِحَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنْ غَيْرِهِ, فَأَشْبَهَ غَسْلَ النَّجَاسَةِ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ وَالْوُقُوفَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ, وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَذَلِكَ يَقْتَضِي إيجَابَ النِّيَّةِ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلَّ أَحْوَالِ الْإِخْلَاصِ. قِيلَ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ أَوْ أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ إذْ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعِبَادَاتِ هِيَ مَا كَانَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ فِي التَّعَبُّدِ, فَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ جُعِلَ شَرْطًا فِيهِ أَوْ سَبَبًا لَهُ فَلَيْسَ يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ, وَلَوْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ غَيْرَ مُخْلِصٍ لِلَّهِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي تَارِكِ النِّيَّةِ فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ, فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ النِّيَّةِ فِيمَا وَصَفْنَا غَيْرَ مُخْلِصٍ; إذْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ

مطلب: الإخلاص ضد الإشراك وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ; إذْ لَمْ يُشْرِكْ فِي النِّيَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ; لِأَنَّ ضِدَّ الْإِخْلَاصِ هُوَ الْإِشْرَاكُ, فَمَتَى لَمْ يُشْرِكْ فَهُوَ مُخْلِصٌ بِنَفْسِ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يُشْرِكْ غَيْرَهُ فِيهِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَهَذَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ تَقْتَضِي كَوْنَ الْعَمَلِ مَوْقُوفًا عَلَى النِّيَّةِ وَالْعَمَلُ مَوْجُودٌ مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَعْنًى مُضْمَرًا فِيهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ; فَالْمُحْتَجُّ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ مُغَفَّلٌ. فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُهُ حُكْمُ الْعَمَلِ. قِيلَ لَهُ: الْحُكْمُ غَيْرُ مَذْكُورٍ, فَالِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ سَاقِطٌ. فَإِنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَائِدَةٍ, وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْسَ الْعَمَلِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حُكْمَ الْعَمَلِ. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ لَا حُكْمَهُ, وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ اُحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعْنَيَيْنِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ بِهِ فَيُقَالُ هُوَ عَلَيْهِمَا, وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْمَعَانِي فَيُقَالُ عُمُومُهُ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ, فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ وَهُوَ ضَمِيرٌ لَيْسَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ أَحْمِلُهُ عَلَى الْعُمُومِ خَطَأٌ. وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ; لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةُ الْعَمَلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا فَضِيلَةَ لِلْعَمَلِ إلَّا بِالنِّيَّةِ, وَذَلِكَ يَقْتَضِي إثْبَاتَ حُكْمِ الْعَمَلِ حَتَّى يَصِحَّ نَفْيُ فَضِيلَتِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ النِّيَّةِ, وَمَتَى أَرَادَ بِهِ حُكْمَ الْعَمَلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْفَضِيلَةَ وَالْأَصْلُ مُنْتَفٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ; وَأَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَهَذَا من أخبار الآحاد.

فصل قوله عز وجل: {وُجُوهَكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ حَدَّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَصْلِ الذَّقَنِ إلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ, حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ; وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الِاسْمِ; إذْ كَانَ إنَّمَا سُمِّيَ وَجْهًا لِظُهُورِهِ وَلِأَنَّهُ يُوَاجِهُ الشَّيْءَ وَيُقَابَلُ بِهِ; وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْدِيدِ الْوَجْهِ هُوَ الَّذِي يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ وَيُقَابِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأُذُنَانِ مِنْ الْوَجْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ تُسْتَرَانِ بِالْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ

وَنَحْوِهِمَا كَمَا يُسْتَرُ صَدْرُهُ, وَإِنْ كَانَ مَتَى ظَهَرَ كَانَ مُوَاجِهًا لِمَنْ يُقَابِلُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالْآيَةِ; إذْ لَيْسَ دَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ مِنْ الْوَجْهِ; إذْ هُمَا غَيْرُ مُوَاجِهَيْنِ لِمَنْ قَابَلَهُمَا. وَإِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ إيجَابَ غَسْلِهِمَا وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ غَسْلَ مَا وَاجَهَنَا وَقَابَلَنَا مِنْهُ فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَهُوَ زَائِدٌ فِي حُكْمِ الْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ, وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً: "هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ" يُوجِبُ فَرْضَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ", فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ فِيهِ وَاسْتَنْشَقَ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ الْوُضُوءَ فَحَسَبِ, وَالْوُضُوءُ هُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى, وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ فِي ذَلِكَ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَوْقِيفَهُمْ عَلَى الْمَفْرُوضِ الَّذِي لَا يُجْزِي غَيْرُهُ; فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى مَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ, وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَيْسَرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَيْمُونِ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَتَوَضَّأَ وَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مَرَّةً وَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ مَرَّةً وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ مَرَّةً, وَقَالَ: "هَذَا الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا" , ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ فَقَالَ: "مَنْ ضَاعَفَ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ" , ثُمَّ أَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: " هَذَا وُضُوءُنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ, فَمَنْ زَادَ فَقَدْ أَسَاءَ". فَأَخْبَرَتْ بِوُضُوئِهِ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ; لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْمَفْرُوضِ مِنْهُ, وَلَوْ كَانَ فَرْضًا فِيهِ لَفَعَلَهُ.

بَابُ غَسْلِ اللِّحْيَةِ وَتَخْلِيلِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَجْهَ مَا وَاجَهَكَ مِنْ الْإِنْسَانِ, فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ لِأَنَّهَا تُوَاجِهُ الْمُقَابِلَ لَهُ غَيْرَ مُغَطَّاةٍ فِي الْأَكْثَرِ كَسَائِرِ الْوَجْهِ; وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: خَرَجَ وَجْهُهُ, إذَا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ; فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ ذَلِكَ وُجُوبَ غَسْلِهَا; وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ وَإِنَّمَا الْوَجْهُ مَا وَاجَهَك مِنْ بَشَرَتِهِ دُونَ الشَّعْرِ النَّابِتِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَتْ الْبَشَرَةُ ظاهرة دونه.

وَلِمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: نَبَاتُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبَشَرَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ, كَمَا أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مِنْ الرَّأْسِ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ إبْلَاغِ الْمَاءِ بَشَرَتَهُ كَانَ مَاسِحًا عَلَى الرَّأْسِ وَفَاعِلًا لِمُقْتَضَى الْآيَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ, فَكَذَلِكَ نَبَاتُ الشَّعْرِ عَلَى الْوَجْهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَلِمَنْ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ يُوجَدُ مَعَ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِبِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ فِيهِ, وَشَعْرُ اللِّحْيَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُ فِي حَالِ الْوِلَادَةِ وَإِنَّمَا نَبَتَ بَعْدَهَا; فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَجْهِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي غَسْلِ اللِّحْيَةِ وَتَخْلِيلِهَا وَمَسْحِهَا, فَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "رَأَيْت الْقَاسِمَ وَمُجَاهِدًا وَعَطَاءً وَالشَّعْبِيَّ يَمْسَحُونَ لِحَاهُمْ" وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ. وَرَوَى حَرِيزٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "رَأَيْته تَوَضَّأَ وَلَمْ أَرَهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ". وَقَالَ يُونُسُ: "رَأَيْت أَبَا جَعْفَرٍ لَا يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ". فَلَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ غَسْلَ اللِّحْيَةِ وَاجِبًا. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَبُلُّ أُصُولَ شَعْرِ لِحْيَتِهِ وَيُغَلْغِلُ بِيَدَيْهِ فِي أُصُولِ شَعْرِهَا حَتَّى يَكْثُرَ الْقَطْرُ مِنْهَا", وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ رُوِيَ عَنْهُمْ غَسْلُ اللِّحْيَةِ, وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ وَاجِبًا كَغَسْلِ الْوَجْهِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مُتَقَصِّيًا فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ, كَانَ يُدْخِلُ الْمَاءَ عَيْنَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ, وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِحْبَابًا لَا إيجَابًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ, وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: "بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي" وَرَوَى عُثْمَانُ وَعَمَّارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وَضَّأْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا, فَرَأَيْتُهُ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ مِشْطٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي صِفَةِ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ; مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ, وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وَغَيْرِهِمْ, كُلُّهُمْ ذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَذْكُرُوا تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ فِيهِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ وَلَا غَسْلُهَا بِالْآيَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ غَسْلَ الْوَجْهِ, وَالْوَجْهُ مَا وَاجَهَك مِنْهُ, وَبَاطِنُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ كَدَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لَمَّا لَمْ يَكُونَا مِنْ الْوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْ تَطْهِيرُهُمَا فِي الْوُضُوءِ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ; فَإِنْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْلِيلُهَا أَوْ غَسْلُهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِحْبَابًا لَا إيجَابًا كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ على

وُجُوبِ غَسْلِهَا أَوْ تَخْلِيلِهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَزِيدَ فِي الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ, وَجَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ التَّخْلِيلِ إنَّمَا هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِهَا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّخْلِيلَ لَيْسَ بِغَسْلٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالْآيَةِ, وَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّخْلِيلُ ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ إلَى التَّخْلِيلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ وَمَسْحِهَا, فَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ: "لَا يُخَلِّلُهَا وَيُجْزِيهِ أَنْ يُمِرَّ بِيَدِهِ عَلَى ظَاهِرِهَا" قَالَ: فَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مِنْهَا الظَّاهِرُ وَلَيْسَ تَخْلِيلُ الشَّعْرِ مِنْ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ; وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: "وَأَنَا أُخَلِّلُ". وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ: "يَمْسَحُ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّحْيَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَرِيضَةً, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إنْ صَلَّى". وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ زُفَرَ فِي الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ: "أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى لِحْيَتِهِ, فَإِنْ أَصَابَ لِحْيَتَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ ثُلُثِ أَوْ رُبُعِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ", وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يُجْزِيهِ إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ أَنْ لَا يَمَسَّ لِحْيَتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَاءِ". وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ: "لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُهَا صَارَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ مِنْ الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ; إذْ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ, فَكَانَ الْوَاجِبُ مَسْحَهَا كَمَسْحِ الرَّأْسِ فَيَجْزِي مِنْهُ الرُّبُعُ كَمَا قَالُوا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَخْلُو اللِّحْيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ فَيَلْزَمَهُ غَسْلُهَا كَغَسْلِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ شَعْرٌ, وَأَنْ لَا تَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهَا وَلَا مَسْحُهَا بِالْآيَةِ; فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى سُقُوطِ غَسْلِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ لَوَجَبَ غَسْلُهَا, وَلَمَّا سَقَطَ غَسْلُهَا لَمْ يَجُزْ إيجَابُ مَسْحِهَا; لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ زِيَادَةٍ فِي الْآيَةِ, كَمَا لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي نَصِّ الْكِتَابِ. وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ مَسْحُهَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ فَرْضِ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْوَجْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ, وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ.. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَجْتَمِعُ فَرْضُ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى يَدِهِ جَبَائِرُ فَيَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ بَاقِي الْعُضْوِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ, وَلَيْسَ فِي نَبَاتِ اللِّحْيَةِ ضَرُورَةٌ فِي تَرْكِ الْغَسْلِ, وَالْوَجْهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى طَهَارَتَهَا, فَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ, وَيَقْتَضِي مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ سُقُوطِ فَرْضِ غَسْلِهَا وَمَسْحِهَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ إمْرَارَ الْمَاءِ عَلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْيَدُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى هذا العضو

إلَى الْمَنْكِبِ, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَمَّارًا تَيَمَّمَ إلَى الْمَنْكِبِ وَقَالَ: تَيَمَّمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَنَاكِبِ وَكَانَ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} , وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ, فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الِاسْمَ لِلْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهَا إلَى الْمَنْكِبِ. وَإِذَا كَانَ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ التَّحْدِيدَ فَجَعَلَ الْمَرَافِقَ غَايَةً, كَانَ ذِكْرُهُ لَهَا لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ الْمَرَافِقَ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا; إذْ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى سُقُوطِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَايَةَ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تَدْخُلُ تَارَةً وَلَا تَدْخُلُ أُخْرَى, وَالْمَوْضِعُ الَّذِي دَخَلَتْ الْغَايَةُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَوُجُودُ الطُّهْرِ شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ, وَقَالَ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فِيهِ, وَ "إلَى" وَ "حَتَّى" جَمِيعًا لِلْغَايَةِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَدْخُلُ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَاللَّيْلُ خَارِجٌ مِنْهُ; فَلَمَّا كَانَ هَذَا هَكَذَا وَكَانَ الْحَدَثُ فِيهِ يَقِينًا لَمْ يَرْتَفِعْ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَهُوَ وُجُودُ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ; إذْ كَانَتْ الْغَايَةُ مَشْكُوكًا فِيهَا. وَأَيْضًا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا وَفَعَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى الْوُجُوبِ لِوُرُودِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لَمَّا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ فِيهِ وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ, وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا, إلَّا زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الْمَرَافِقَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْوُضُوءِ; وَكَذَلِكَ الْكَعْبَانِ على هذا الخلاف. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} , قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ, فَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: رُبُعُ الرَّأْسِ, وَالْأُخْرَى: مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ, وَيَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْسِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: "يَمْسَحُ مُقَدَّمَ الرَّأْسِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "الْفَرْضُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَإِنْ تَرَكَ الْقَلِيلَ مِنْهُ جَازَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "الْفَرْضُ مَسْحُ بَعْضِ رَأْسِهِ". وَلَمْ يحد شيئا. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يَقْتَضِي مَسْحَ بَعْضِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي, فَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهَا عَلَى فَوَائِدَ مُضَمَّنَةٍ بِهَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى ذَلِكَ, وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِلَةً لِلْكَلَامِ وَتَكُونُ مُلْغَاةً, نَحْوَ "مِنْ" هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا التَّبْعِيضُ, ثُمَّ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ وَتَكُونُ مُلْغَاةً وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ. وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهَا عَلَى وَجْهِ الْفَائِدَةِ وَمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْغَاؤُهَا, فَقُلْنَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهَا في الكلام

عَلَى أَنَّهَا مُلْغَاةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَنَّك إذَا قُلْت: "مَسَحْت يَدَيْ بِالْحَائِطِ" كَانَ مَعْقُولًا مَسْحُهَا بِبَعْضِهِ دُونَ جَمِيعِهِ, وَلَوْ قُلْت: "مَسَحْت الْحَائِطَ" كَانَ الْمَعْقُولُ مَسْحَهُ جَمِيعَهُ دُونَ بَعْضِهِ, فَقَدْ وَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ إدْخَالِ الْبَاءِ وَبَيْنَ إسْقَاطِهَا فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ; فَوَجَبَ; إذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَنْ نَحْمِلَ قَوْلَهُ: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} عَلَى الْبَعْضِ حَتَّى نَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الْحَرْفَ حَظَّهُ مِنْ الْفَائِدَةِ وَأَنْ لَا نُسْقِطَهُ فَتَكُونَ مُلْغَاةً يَسْتَوِي دُخُولُهَا وَعَدَمُهَا. وَالْبَاءُ وَإِنْ كَانَتْ تَدْخُلُ لِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِك: "كَتَبْت بِالْقَلَمِ" وَ "مَرَرْت بِزَيْدٍ" فَإِنَّ دُخُولَهَا لِلْإِلْصَاقِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا مَعَ ذَلِكَ لِلتَّبْعِيضِ فَنَسْتَعْمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْبَعْضِ الْمَفْرُوضِ طَهَارَتُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدِّمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِيهِ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} قَالَ: إذَا مَسَحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ, قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ "امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ" كَانَ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ. فَأَخْبَرَ إبْرَاهِيمُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهَا التَّبْعِيضُ فِي الْآيَةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْقَلِيلِ مِنْ الرَّأْسِ فِي الْمَسْحِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ, وَهَذَا هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى التَّبْعِيضِ, وَقَوْلُ مُخَالِفِنَا بِإِيجَابِ مَسْحِ الْأَكْثَرِ لَا يَعْصِمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلَّفْظِ عَلَى التَّبْعِيضِ, إلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارَ الَّذِي ادَّعَاهُ, وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ الْمِقْدَارِ الَّذِي حَدَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ لَمَا جَازَ أَنْ تَقُولَ: "مَسَحْت بِرَأْسِي كُلِّهِ" كَمَا لَا تَقُولُ: "مَسَحْت بِبَعْضِ رَأْسِي كُلِّهِ". قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَتَهَا وَمُقْتَضَاهَا إذَا أُطْلِقَتْ التَّبْعِيضُ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهَا مُلْغَاةً, فَإِذَا قَالَ: "مَسَحْت بِرَأْسِي كُلِّهِ" عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُلْغَاةً, وَإِذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا, كَمَا أَنَّ "مِنْ" حَقِيقَتُهَا التَّبْعِيضُ وَقَدْ تُوجَدُ صِلَةٌ لِلْكَلَامِ فَتَكُونُ مُلْغَاةً فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وَ {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] وَلَا يَجِبُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ نَجْعَلَهَا مُلْغَاةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ, مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ, رَوَى عَنْهُ نَافِعٌ أَنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ; وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "أَيُّ جَانِبِ رَأْسِك مَسَحْت أَجْزَأَك" وَكَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِفَرْضِ الْبَعْضِ مَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْت الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: خَصْلَتَانِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُمَا

أَحَدًا بَعْدَمَا شَهِدْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا كُنَّا مَعَهُ فِي سَفَرٍ, فَنَزَلَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ جَاءَ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَجَانِبَيْ عِمَامَتِهِ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيّ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ ابْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْعِمَامَةِ أَوْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ. وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا كُرْدُوسُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ رَأْسَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَرْنِهِ1 فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ لِضَرُورَةٍ, أَوْ كَانَ وُضُوءَ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ. قِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لَنُقِلَتْ كَمَا نُقِلَ غَيْرُهُ, وَأَمَّا كَوْنُهُ وُضُوءَ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ فَإِنَّهُ تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَلَوْ سَاغَ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي مَسْحِ النَّاصِيَةِ لَسَاغَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ مَسَحَ لِضَرُورَةٍ أَوْ كَانَ وُضُوءَ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِمَسْحِ الْجَمِيعِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَمُؤَخِّرَهُ قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْمَفْرُوضُ بَعْضَهُ لَمَا مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَهُ, وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ مُتَعَدِّيًا; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: "مَنْ زَادَ فَقَدْ اعْتَدَى وَظَلَمَ". فَيُقَالُ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ الْبَعْضَ وَالْمَسْنُونُ الْجَمِيعَ, كَمَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ مَرَّةٌ وَالْمَسْنُونَ ثَلَاثٌ, فَلَا يَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى الْمَفْرُوضِ مُتَعَدِّيًا; إذْ أَصَابَ السُّنَّةَ, وَكَمَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ هُوَ بَعْضُ ظَاهِرِهِمَا وَلَوْ مَسَحَ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا, وَكَمَا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ عَلَى قَوْلِنَا آيَةٌ وَعَلَى قَوْلِ مُخَالِفِينَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ, وَالْمَسْنُونُ عِنْدَ الْجَمِيعِ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَشَيْءٌ مَعَهَا. وَالْمَفْرُوضُ مِنْ غَسْلِ الْوَجْهِ ظَاهِرُهُ وَالْمَسْنُونَ غَسْلُ ذَلِكَ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ, وَالْمَفْرُوضُ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالْمَسْنُونَ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ مَعَهُ; وَكَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا: إنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ هُوَ الْأَكْثَرُ وَإِنَّ تَرْكَ الْقَلِيلِ جَائِزٌ وَلَوْ مَسَحَ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بَلْ كَانَ مُصِيبًا, كَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ الْمَفْرُوضَ مَسْحُ الْبَعْضِ وَالْمَسْنُونَ مَسْحُ الْجَمِيعِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمَفْرُوضَ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ, وَفِي

_ 1 قوله: "وقرنة" أي جانب رأسه. "لمصححه".

رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ: الرُّبُعُ; فَإِنَّ وَجْهَ تَقْدِيرِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ مَسْحُ الْبَعْضِ بِمَا قَدَّمْنَا وَكَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرَ مَذْكُورِ الْمِقْدَارِ فِي الْآيَةِ احْتَجْنَا فِيهِ إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ وَارِدًا مَوْرِدَ الْبَيَانِ. وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ كَفِعْلِهِ لِأَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا, فَقَدَّرُوا النَّاصِيَةَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَسَحَ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَرْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتْرُكُ الْمَفْرُوضَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَ غَيْرَ الْمَفْرُوضِ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ, فَلَمَّا رُوِيَ عَنْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ فِي حَالٍ وَرُوِيَ عَنْهُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ فِي أُخْرَى اسْتَعْمَلْنَا الْخَبَرَيْنِ وَجَعَلْنَا الْمَفْرُوضَ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ; إذْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَ أَقَلَّ مِنْهَا وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ مَسْنُونٌ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَفْرُوضُ أَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ لَاقْتَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالٍ بَيَانًا لِلْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ كَمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ, فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ مَوْضِعَ النَّاصِيَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّأْسِ كَمَا جَعَلْتهَا بَيَانًا لِلْمِقْدَارِ وَلَمْ تُجِزْ أَقَلَّ مِنْهَا, فَلَمَّا جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ تَرْكُ مَسْحِ النَّاصِيَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الرَّأْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى مِقْدَارٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَ ظَاهِرُ فِعْلِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَسْحَ غَيْرِ النَّاصِيَةِ مِنْ الرَّأْسِ يَقُومُ مَقَامَ النَّاصِيَةِ, فَلَمْ يُوجِبْ تَعْيِينَ الْفَرْضِ فِيهَا وَبَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ فِي الْمِقْدَارِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ بَيَانِهِ بفعله.

مطلب: في أن فعله عليه السلام يبين المجمل من أحكام القرآن فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} مُقْتَضِيًا مَسْحَ بَعْضِهِ, فَأَيُّ بَعْضٍ مَسَحَهُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَجْزِيَهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولًا صَارَ مُجْمَلًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الْإِجْمَالِ, أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَوْلُهُ: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] كُلَّهَا مُجْمَلَةٌ لِجَهَالَةِ مَقَادِيرِهَا فِي حَالِ وُرُودِهَا, وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ اعْتِبَارَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهَا؟ فَكَذَلِكَ قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} وَإِنْ اقْتَضَى الْبَعْضُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ لَمَّا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَنَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ. فَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلٍ فِيهِ فَهُوَ بَيَانُ مُرَادِ اللَّهِ

بِهِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ سَائِرَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمَّا كَانَ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا مُقَدَّرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَسْحِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ; وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا; لِأَنَّ مَالِكًا يُوجِبُ مَسْحَ الْأَكْثَرِ وَيُجِيزُ تَرْكَ الْقَلِيلِ مِنْهُ فَيَحْصُلُ الْمَفْرُوضُ مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ, وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: "كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ جَازَ" وَذَلِكَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ, وَمَا قُلْنَا مِنْ مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ فَهُوَ مَعْلُومٌ; وَكَذَلِكَ الرُّبُعُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ كَوْنِ الْمَفْرُوضِ مِنْهَا مَعْلُومَ الْقَدْرِ. وَقَوْلُ مُخَالِفِينَا عَلَى خِلَافِ الْمَفْرُوضِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ; وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لَهُ بِمِقْدَارِ النَّاصِيَةِ, وَذَلِكَ بِأَنْ نَقُولَ: لَمَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ فِي مِقْدَارِ الْمَسْحِ مُقَدَّرًا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثُمَّ لَمْ يُقَدِّرْهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَوْ مِقْدَارِ رُبُعِ الرَّأْسِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْمِقْدَارِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا مُحَالٌ; لِأَنَّ مِقْدَارَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُمْكِنُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ مَا لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ; وَأَيْضًا فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا كَانَ مُقَدَّرًا بِالْأَصَابِعِ, وَبِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ وَهُوَ مَسْحٌ بِالْمَاءِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُ الرَّأْسِ مِثْلَهُ. وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى الرُّبُعَ, فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ الْبَعْضُ وَأَنَّ مَسْحَ شَعْرَةٍ لَا يُجْزِي وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إذَا أُجْرِيَ عَلَى الشَّخْصِ وَهُوَ الرُّبُعُ; لِأَنَّك تَقُولُ: "رَأَيْت فُلَانًا" وَاَلَّذِي يَلِيك مِنْهُ الرُّبُعُ, فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ; فَلِذَلِكَ اعْتَبَرُوا الرُّبُعَ وَاعْتَبَرُوا أَيْضًا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ الرُّبُعَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ إذَا حَلَقَهُ, وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِأَقَلَّ مِنْهُ; فَلِذَلِكَ يُوجِبُونَ بِهِ دَمًا إذَا حَلَقَهُ فِي الْإِحْرَامِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا يَجُوزُ مَسْحُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ, وَإِنْ مَسَحَهُ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ وَمَدَّهَا حَتَّى يَكُونَ الْمَمْسُوحُ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ لَمْ يَجُزْ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: "يُجْزِيهِ" إلَّا أَنَّ زُفَرَ يَعْتَبِرُ الرُّبُعَ, وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْزِي فِي مَفْرُوضِ الْمَسْحِ نَقْلُ الْمَاءِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ إمْسَاسُ الْمَاءِ الْمَوْضِعَ لَا إجْرَاؤُهُ عَلَيْهِ, فَإِذَا وَضَعَ أُصْبُعًا فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَاءُ مَمْسُوحًا بِهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ مَسْحُ مَوْضِعٍ غَيْرِهِ بِهِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ الْمَغْسُولَةُ لِأَنَّهُ لَوْ مَسَحَهَا بِالْمَاءِ وَلَمْ يُجْرِهِ عَلَيْهَا لَمْ يُجْزِهِ, فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْغَسْلِ إلَّا بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ, فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِحُصُولِهِ مِنْ مَوْضِعٍ وَانْتِقَالِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ. وَأَمَّا الْمَسْحُ فلو

اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى إمْسَاسِ الْمَاءِ الْمَوْضِعَ مِنْ غَيْرِ جَرْيٍ لَجَازَ, فَلَمَّا اسْتَغْنَى عَنْ إجْرَائِهِ عَلَى الْعُضْوِ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الْفَرْضِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً وَجَرَى عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوْفَى مِنْهُ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَجْزَى عَنْ الْمَسْحِ مَعَ انْتِقَالِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى غَيْرِهِ, فَهَلَّا أَجْزَتْهُ أَيْضًا إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَنَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ: مِنْ قِبَلِ أَنَّ صَبَّ الْمَاءِ غَسْلٌ وَلَيْسَ بِمَسْحٍ, وَالْغَسْلُ يَجُوزُ نَقْلُ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى غَيْرِهِ; وَأَمَّا إذَا وَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا مَسْحٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ بِهَا مَوْضِعًا غَيْرَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ بِالصَّبِّ وَالْغَسْلِ يَتَّسِعُ لِلْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ كُلِّهِ, وَمَا عَلَى أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَاءِ لَا يَتَّسِعُ لِلْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ, وَإِنَّمَا يَكْفِي لِمِقْدَارِ الْأُصْبُعِ, فَإِذَا جَرَّهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّمَا نَقَلَ إلَيْهِ مَاءً مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِهِ, فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.

بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَحَمْزَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ: "وَأَرْجُلِكُمْ" بِالْخَفْضِ, وَتَأَوَّلُوهَا عَلَى الْمَسْحِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ, وَكَانُوا يَرَوْنَ غَسْلَهَا وَاجِبًا. وَالْمَحْفُوظُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ اسْتِيعَابُ الرِّجْلِ كُلِّهَا بِالْمَسْحِ, وَلَسْت أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَجَازَ الْمَسْحَ مِنْ السَّلَفِ هُوَ عَلَى الِاسْتِيعَابِ أَوْ عَلَى الْبَعْضِ; وَقَالَ قَوْمٌ: "يَجُوزُ مَسْحُ الْبَعْضِ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْغَسْلُ. وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ قَدْ نَزَلَ بِهِمَا الْقُرْآنُ جَمِيعًا وَنَقَلَتْهُمَا الْأُمَّةُ تَلَقِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَسْحِ بِعَطْفِهَا عَلَى الرَّأْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْغَسْلُ بِعَطْفِهَا عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: فَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرَّأْسِ فَيُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ; لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا فَنَصَبَ الْحَدِيدَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى. وَيُحْتَمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ فَيُرَادُ بِهِ الْمَسْحُ, وَيُحْتَمَلُ عَطْفُهُ عَلَى الْغَسْلِ وَيَكُونُ مَخْفُوضًا بِالْمُجَاوِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] ثُمَّ قال:

"وَحُورٍ عِينٍ" فَخَفَضَهُنَّ1 بِالْمُجَاوِرَةِ وَهُنَّ مَعْطُوفَاتٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْوِلْدَانِ; لِأَنَّهُنَّ يَطُفْنَ وَلَا يُطَافُ بِهِنَّ; وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُك رَاكِبٌ ... إلَى آلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبِ فَخَفَضَ "خَاطِبًا" بِالْمُجَاوَرَةِ, وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْ قَوْلِهِ: "رَاكِبٌ" وَالْقَوَافِي مَجْرُورَةٌ; أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: فَنَلْ مِثْلَهَا فِي مِثْلِهِمْ أَوْ فَلُمْهُمْ ... عَلَى دَارِ مَيَّ بَيْنَ لَيْلَى وَغَالِبِ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا احْتِمَالُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ لِلْمَسْحِ وَالْغَسْلِ, فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُرَادَ هُمَا جَمِيعًا مَجْمُوعَانِ, فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ وَيَغْسِلَ فَيَجْمَعَهُمَا. أَوْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ يَفْعَلُ الْمُتَوَضِّئُ أَيُّهُمَا شَاءَ, وَيَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ. أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَا هُمَا جَمِيعًا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى خِلَافِهِ; وَلَا جَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ وَلَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَلَوْ جَازَ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ مَعَ عَدَمِ لَفْظِ التَّخْيِيرِ فِي الْآيَةِ لَجَازَ إثْبَاتُ الْجَمْعِ مَعَ عَدَمِ لَفْظِ الْجَمْعِ, فَبَطَلَ التَّخْيِيرُ بِمَا وَصَفْنَا. وَإِذَا انْتَفَى التَّخْيِيرُ وَالْجَمْعُ لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ, فَاحْتَجْنَا إلَى طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُمَا; فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا غَسَلَ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَأَتَى بِالْمُرَادِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَلُومٍ عَلَى تَرْكِ الْمَسْحِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْغَسْلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّفْظَ لَمَّا وَقَفَ الْمَوْقِفَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا, صَارَ فِي حُكْمِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ, فَمَهْمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ عَنْ الرَّسُولِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى; وَقَدْ وَرَدَ الْبَيَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَسْلِ قَوْلًا وَفِعْلًا, فَأَمَّا وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ فَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِيهِ, فَصَارَ فِعْلُهُ ذَلِكَ وَارِدًا مَوْرِدَ الْبَيَانِ, وَفِعْلُهُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ, فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْآيَةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ فَمَا رَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ, فَقَالَ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ" وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً, فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: "هَذَا وضوء من لا

_ 1 قوله: "فخفضهم" قال في النشر: قرأ جعفر وحمزة والكسائي "وحور عين" بخفض الاسمين والباقون بالرفع. "لمصححه".

يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ". فَقَوْلُهُ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ" وَعِيدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ; فَهَذَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الرِّجْلِ بِالطَّهَارَةِ وَيُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يُجِيزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَعْضِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ" وَقَوْلُهُ بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ" يُوجِبُ اسْتِيعَابَهَا بِالْغَسْلِ; لِأَنَّ الْوُضُوءَ اسْمٌ لِلْغَسْلِ يَقْتَضِي إجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ, وَالْمَسْحُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ; وَفِي الْخَبَرِ الْآخَرِ إخْبَارٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ الصَّلَاةَ إلَّا بِغَسْلِهِمَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ جَائِزًا لَمَا أَخْلَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِهِ; إذْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ فِي الْمَسْحِ كَهُوَ فِي الْغَسْلِ, فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ فِي وَزْنِ غَسْلِهِ, فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ الْمَسْحُ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْغَسْلِ ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْحَ غَيْرُ مُرَادٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا الْغَسْلُ وَفِي الْأُخْرَى الْمَسْحُ لِاحْتِمَالِهِمَا لِلْمَعْنَيَيْنِ, فَلَوْ وَرَدَتْ آيَتَانِ إحْدَاهُمَا تُوجِبُ الْغَسْلَ وَالْأُخْرَى الْمَسْحَ لَمَا جَازَ تَرْكُ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ; لِأَنَّ فِي الْغَسْلِ زِيَادَةَ فِعْلٍ, وَقَدْ اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ, فَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرِهِمَا فَائِدَةً وَهُوَ الْغَسْلُ لِأَنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْمَسْحِ وَالْمَسْحُ لَا يَنْتَظِمُ الْغَسْلَ. وَأَيْضًا لَمَّا حَدَّدَ الرِّجْلَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كما قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} دَلَّ عَلَى است يُعَابِ الْجَمِيعِ, كَمَا دَلَّ ذِكْرُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَرَافِقِ عَلَى اسْتِيعَابِهِمَا بِالْغَسْلِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَنَعْلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِهِ عَلَى مُوجِبِ الْآيَةِ مِنْ الْغَسْلِ عَلَى مَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ وَقَالَ: "الْمُرَادُ الْغَسْلُ" فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ الْمَسْحِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ دُونَ الْغَسْلِ لَمَا قَالَ: إنَّ مُرَادَ اللَّهِ الْغَسْلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ, قَالَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ" وَهُوَ حَدِيثُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ: أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي الرَّحْبَةِ, فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ دَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ, وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ" وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوءِ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ. وَأَيْضًا لَمَّا احْتَمَلَتْ الْآيَةُ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ, اسْتَعْمَلْنَاهَا عَلَى الْوُجُوبِ فِي الْحَالَيْنِ: الْغَسْلُ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ, وَالْمَسْحُ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرِّجْلِ فِي حَالِ التَّيَمُّمِ كَمَا سَقَطَ الرَّأْسُ, دَلَّ عَلَى أَنَّهَا

مَمْسُوحَةٌ غَيْرُ مَغْسُولَةٍ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْغَسْلُ مُرَادًا, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَفْرُوضَ; وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَيْضًا فِي نَقْلِ الْغَسْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ كُلِّهِ يَسْقُطُ فِي الْجَنَابَةِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ, وَقَامَ التَّيَمُّمُ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مَقَامَ غَسْلِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ, كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لم يجب التيمم فيها.

فَصْلٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَعْبَيْنِ مَا هُمَا, فَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "هُمَا النَّاتِئَانِ بَيْنَ مَفْصِلِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ". وَحَكَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: "أَنَّهُ مَفْصِلُ الْقَدَمِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عَقْدُ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ". وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ, وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ رَجُلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ لَقَالَ: إلَى الْكِعَابِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ أَضَافَهُمَا إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ, فَلَمَّا أَضَافَهُمَا إلَى الْأَرْجُلِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كل رجل كعبين.

مطلب: فيما استدل به المصنف من الحديث على المراد بالكعبين وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَامِعِ بْنِ شِدَادٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارَبِي قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ حَمْرَاءُ وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ, وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ, فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ, قُلْت: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالُوا: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبِ الْقَدَمِ; لِأَنَّ الرَّمْيَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ الْمَاشِي لَا يَضْرِبُ ظَهْرَ الْقَدَمِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْن شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الْقَاسِمِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: سَمِعْت النُّعْمَانَ بن بشير يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أَوْ وُجُوهِكُمْ" قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْت الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الكعب ما وصفنا; والله أعلم.

مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك

مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك ... ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ, وَيُؤْكَلُ صَيْدُ الْبَازِي وَإِنْ أَكَلَ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: "يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ وَالْبَازِي مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ السَّلَفُ الْمُجِيزُونَ لِصَيْدِ الْجَوَارِحِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَنَّ صَيْدَهَا يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ, مِنْهُمْ سَعْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ; وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صَيْدِ الْكَلْبِ, فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ: "لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْهُ". وَقَالَ سَلْمَانُ وَسَعْدٌ وَابْنُ عُمَرَ: "يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ". وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ, وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْكَلْبِ قَبُولُهُ لِلتَّأْدِيبِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ, فَجَائِزٌ أَنْ يُعَلَّمَ تَرْكَهُ وَيَكُونَ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ عَلَمًا لِلتَّعْلِيمِ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ, فَيَكُونُ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ ذَكَاتِهِ وَوُجُودُ الْأَكْلِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ ذَكَاتِهِ. وَأَمَّا الْبَازِي فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ, فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ صَيْدَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ عَلَى شَرْطِ التَّعْلِيمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ لِلْبَازِي تَرْكُهُ الْأَكْلَ; إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْلِيمِهِ ذَلِكَ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ اللَّهُ تَعْلِيمَ مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَقَبُولُ التَّأْدِيبِ; فَثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ تَعَلُّمِ الْبَازِي وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ, وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ تَعَلُّمِ الْكَلْبِ; لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ وَيُمْكِنُ تَأْدِيبُهُ بِهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي حَظْرِ مَا قَتَلَهُ الْبَازِي, مِنْ حَيْثُ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ ترك

مطلب: متى ورد خبران في جظر شيء وفي إباحته فالحاظر أولى

مطلب: متى ورد خبران في جظر شيء وفي إباحته فالحاظر أولى فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ لَهُ, فَهَذَا هُوَ إمْسَاكُهُ عَلَيْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحْبُوسًا بِالْقَتْلِ فَلَا يَحْتَاجُ الْكَلْبُ إلَى أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ, فَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَتْلُهُ هُوَ حَبْسُهُ عَلَيْنَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا أَيْضًا لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَكُلُوا مِمَّا قَتَلْنَ عَلَيْكُمْ; وَهَذَا يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْآيَةِ; لِأَنَّ إبَاحَةَ مَا قَتَلَتْهُ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} , وَهُوَ يَعْنِي صَيْدَ مَا عَلَّمْنَا مِنْ الْجَوَارِحِ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ الْمُبَاحِ مِنْهُ. وَعَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَيْسَ بِعِبَارَةٍ عَنْ الْقَتْلِ; لِأَنَّهُ قَدْ يُمْسِكُهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ, فَلَيْسَ إمْسَاكُهُ عَلَيْنَا إذًا إلَّا أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ. وَلَا يَخْلُو الْإِمْسَاكُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حَبْسُهُ إيَّاهُ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ, أَوْ حَبْسُهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ, أَوْ تَرَكَهُ لِلْأَكْلِ مِنْهُ بَعْدَ قَتْلِهِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَبْسَهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ, وَأَنَّ حَبْسَهُ عَلَيْنَا حَيًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَهُ, وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَبْسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ, وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إمْسَاكَهُ عَلَيْنَا شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ, وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ عَلَيْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ; فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ تَرْكُهُ الْأَكْلَ. فَإِنْ قِيلَ: قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يَقْتَضِي إبَاحَةَ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ أَكْلِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَيْنَا إذَا لَمْ يَأْكُلْهُ, وَإِنَّمَا لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْنَا الْمَأْكُولَ مِنْهُ دون ما بقي

مطلب: لا حظ للإجتهاد نع اليقين

مطلب: لا حظ للإجتهاد نع اليقين وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ وَقَدْ صَادَ قَبْلَ ذَلِكَ صَيْدًا كَثِيرًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ: "إنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ حَرَامٌ; لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ حِينَ أَكَلَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا, وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ بِتَعْلِيمِهِ بَدِيًّا حِينَ تَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ, وَالْحُكْمُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ عِنْدَ الْأَكْلِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ, وَلَا حَظَّ لِلِاجْتِهَادِ مَعَ الْيَقِينِ, وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَكْلَ بَدِيًّا وَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ كَمَا يَتْرُكُ سَائِرَ السِّبَاعِ فَرَائِسَهَا عِنْدَ الِاصْطِيَادِ وَلَا يَأْكُلُهَا سَاعَةَ الِاصْطِيَادِ, فَإِنَّمَا يَحْكُمُ إذَا كَثُرَ مِنْهُ تَرْكُ الْأَكْلِ بِحُكْمِ التَّعْلِيمِ مِنْ جِهَةِ غَالِبِ الظَّنِّ, فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ الْيَقِينُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ فَيَحْرُمُ مَا قَدْ اصْطَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا تَرَكَ الْأَكْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ, فَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ التَّعْلِيمَ فَلَمْ يَحْرُمْ مَا قَدْ حَكَمَ بِإِبَاحَتِهِ بِالِاحْتِمَالِ". وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ أَكَلَ فِي مُدَّةٍ لَا يَكَادُ يَنْسَى فِيهَا, فَإِنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ اصْطَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ وَفِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ, وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ فِي شَرْطِ التَّعْلِيمِ تَرْكَ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُحِدُّهُ, وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ حُصُولِ التَّعْلِيمِ, فَإِذَا غَلَبَ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثُمَّ أُرْسِلَ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ فَأَكَلَ مِنْهُ, فَهُوَ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فِيمَا تَرَكَ أَكْلَهُ; مِمَّا تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ بِإِرْسَالِهِ بَعْدَ تَرْكِ الْأَكْلِ حَتَّى يَظُنَّ فِي مِثْلِهَا نِسْيَانُ التَّعْلِيمِ, لَمْ يحرم ما

مطلب: في أكله عليه السلام مكن الشاة التي أهدها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي

مطلب: في أكله عليه السلام مكن الشاة التي أهدها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الْمَشْوِيَّةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ ذَبِيحَتِهَا أَهِي من ذبيحة المسلم أم اليهودي.

باب تزوج الكتابيات

بَابُ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا, فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُمْ الْعَفَائِفُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ ذَلِكَ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ بِيَهُودِيَّةٍ, فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا, فَكَتَبَ إلَيْهِ حُذَيْفَةُ: أَحَرَامٌ هِيَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرْ: لَا, وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تُوَاقِعُوا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ; قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي الْعَوَاهِرَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِحْصَانِ عِنْدَهُ هَهُنَا كَانَ عَلَى الْعِفَّةِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ" إحْصَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَأَنْ تُحْصِنَ فَرْجَهَا". وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ: "الْحَرَائِرُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاخْتِلَافُ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ, مِنْهَا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ إذَا كُنَّ ذِمِّيَّاتٍ, فَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئا

مطلب: واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات, مخالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنه

مطلب: وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى إبَاحَةِ أَهْلِ الكتاب الذميات, مخالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنه وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى إبَاحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الذِّمِّيَّاتِ سِوَى ابْنِ عُمَرَ, وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] خَاصًّا فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة, قَالَ: لَا بَأْسَ, قَالَ: قُلْت: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قَالَ: أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوس. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ1 الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَتَزَوَّجَهَا عَلَى نِسَائِهِ; وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَتُرْوَى إبَاحَةُ ذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ التَّابِعِينَ; مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ. وَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] مِنْ أَحَدِ معنيين:

_ 1 قوله: "الفرافصة" بفتح الفاء الأولى وكسر الفاء الثانية. قال ابن الأنباري: كل ما في العرب فرافضة بضم اللاقاء الأولى إلا فرافضة أبا نائلة امراو عثمان رضي الله عنه. "لمصححه

مطلب: في الكلام على الصائبة وبيان نحلتهم

مطلب: في الكلام على الصائبة وبيان نحلتهم وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: الصَّابِئُونَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ دِينَ الْمَسِيحِ وَيَقْرَءُونَ الْإِنْجِيلَ, فَأَمَّا الصَّابِئُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَهُمْ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّابِئُونَ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِهَذَا الِاسْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَانْتِحَالُهُمْ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ, أَعْنِي الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَاَلَّذِينَ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ فِي سَوَادِ وَاسِطَ; وَأَصْلُ اعْتِقَادِهِمْ تَعْظِيمُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَعِبَادَتُهَا وَاِتِّخَاذُهَا آلِهَةً وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى إقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَأَزَالُوا مَمْلَكَةَ الصَّابِئِينَ وَكَانُوا نَبَطًا لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُمْ مَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الرُّومُ وَأَهْلُ الشَّامِّ وَالْجَزِيرَةِ كَانُوا صَابِئِينَ, فَلَمَّا تَنَصَّرَ قُسْطَنْطِينُ حَمَلَهُمْ بِالسَّيْفِ عَلَى الدُّخُولِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ, فَبَطَلَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَدَخَلُوا فِي غِمَارِ النَّصَارَى فِي الظَّاهِرِ وَبَقِيَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّحْلَةِ مُسْتَخِفِّينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ, فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ دَخَلُوا فِي جُمْلَةِ النَّصَارَى وَلَمْ يُمَيِّزْ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى; إذْ كَانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَاتِمِينَ لِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ وَهُمْ أَكْتَمْ النَّاسِ لَاعْتِقَادِهِمْ, وَلَهُمْ أُمُورٌ وَحِيَلٌ فِي صِبْيَانِهِمْ إذَا عَقَلُوا فِي كِتْمَانِ دِينِهِمْ, وَعَنْهُمْ أَخَذَتْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة كِتْمَانَ الْمَذْهَبِ, وَإِلَى مَذْهَبِهِمْ انْتَهَتْ دَعْوَتُهُمْ. وَأَصْلُ الْجَمِيعِ اتِّخَاذُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ آلِهَةً وَعِبَادَتُهَا وَاِتِّخَاذُهَا أَصْنَامًا عَلَى أَسْمَائِهَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ, وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَبَيْنَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ فِي شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ; وَلَيْسَ فِيهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ. فَاَلَّذِي يَغْلِبُ فِي ظَنِّي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّابِئِينَ أَنَّهُ شَاهَدَ قَوْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَحِلُونَ دِينَ الْمَسِيحِ تَقِيَّةً; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ إقْرَارَ مُعْتَقَدِي مَقَالِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ; وَمَنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مِنْ الصَّابِئِينَ مَا وَصَفْنَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تنكح نساؤهم.

باب الطهارة للصلاة

بَابُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.

مطلب: كان عليه السلام مأمورا بالوضوء عند كل صلا ثم وضع عنه الوضوء إلا من حدث

مطلب: كان عليه السلام مأمورا بالوضوء عند كل صلا ثم وضع عنه الوضوء إلا من حدث وَقَدْ حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَرْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتَحَ مَكَّةَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ قَالَ: "عَمْدًا فَعَلْته". وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قال: قلت له:

فصل

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} لَمَّا كَانَ ضَمِيرُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ أَوْ إرَادَةِ الْقِيَامِ إلَيْهَا فِي حَالِ الْحَدَثِ, فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ الطَّهَارَةِ مِنْ الْإِحْدَاثِ لِلصَّلَاةِ, وَكَانَتْ الصَّلَاةُ اسْمًا لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ سَائِرَهَا مِنْ الْمَفْرُوضَاتِ وَالنَّوَافِلِ, اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ; إذْ لَمْ تُفَرِّقَ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا, وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاة بغير طهور". قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يَقْتَضِي إيجَابَ الْغَسْلِ وَالْغَسْلُ اسْمٌ لِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ, وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ فَغُسْلُهَا إزَالَتُهَا بِإِمْرَارِ الْمَاءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إنَّمَا الْمَقْصِدُ فِيهِ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ; إذْ لَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ مَشْرُوطٌ إزَالَتُهَا, فَإِذَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلَكَ الْمَوْضِعَ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إمْرَارُ الْمَاءِ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: عَلَيْهِ إمْرَارُ الْمَاءِ وَدَلْكُ الْمَوْضِعِ بِيَدِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ غُسْلًا. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ: عَلَيْهِ إجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلْكُهُ بِيَدِهِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إنْ مَسَحَ الْمَوْضِعَ بِالْمَاءِ كَمَا يَمْسَحُ بِالدُّهْنِ أَجْزَأَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مُوجِبِ دَلْكِ الْمَوْضِعِ أَنَّ اسْمَ الْغَسْلِ يَقَعُ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَوَالَى بَيْنَ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ حَتَّى أَزَالَهَا بِذَلِكَ غَاسِلًا وَإِنْ لَمْ يَدْلُكْهُ بِيَدِهِ, فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الدَّلْكِ لِأَجْلِ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} فَهُوَ مَتَى أَجْرَى الْمَاءَ عَلَى الْمَوْضِعِ فَقَدْ فَعَلَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَمُوجِبَهَا; فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ دلك الموضع

باب الوضوء بغير نية

بَابُ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ سَوَاءٌ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ أَوْ لَمْ تُقَارِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَسْلَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَفْهُومُ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ, وَهُوَ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ, وَلَيْسَ هُوَ عِبَارَةُ عَنْ النِّيَّةِ. فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ النِّيَّةَ فَهُوَ زَائِدٌ فِي النَّصِّ, وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ; لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ أَبَاحَتْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ لِلطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ, فَمَنْ حَظَرَ الصَّلَاةَ وَمَنَعَهَا إلَّا مَعَ وُجُودِ نِيَّةِ الْغَسْلِ فَقَدْ أَوْجَبَ نَسْخَهَا, وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ النَّصَّ لَهُ حُكْمُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ, كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْقَطَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شُرِطَتْ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ النِّيَّةُ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِهَا فِي اللَّفْظِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ إلَّا بِبَيَانٍ يَرِدُ فِيهِ, وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْبَيَانُ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَاهَا; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ ظَاهِرُ الْمَعْنَى بَيِّنُ الْمُرَادِ, فَمَهْمَا أَلْحَقْنَا بِهِ مَا لَيْسَ فِي اللَّفْظِ عِبَارَةً عَنْهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى إيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا, فَلَوْ كَانَ اسْمُ الصَّلَاةِ عُمُومًا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ لَجَازَ إلْحَاقُ النِّيَّةِ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ, فَهِيَ إذَا كَانَتْ مُجْمَلًا أُجْرِيَ بِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِيهَا من جهة الإجماع.

ذكر اختلاف الفقهاء في فرض النية

ذكر اختلاف الفقهاء فِي فَرْضِ النِّيَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "كُلُّ طَهَارَةٍ بِمَاءٍ تَجُوزُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا يُجْزِي التَّيَمُّمُ إلَّا بِنِيَّةٍ", وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يُجْزِي الْوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ" وَلَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِي الْوُضُوءُ وَلَا الْغُسْلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ, وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يُجْزِي الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ جَمِيعًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ", قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: وَلَمْ نَجِدْ هَذَا الْقَوْلَ فِي التَّيَمُّمِ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ, وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] دَالٌ عَلَى جَوَازِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ, كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}

مطلب: الإخلاص ضد الإشراك

مطلب: الإخلاص ضد الإشراك وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ; إذْ لَمْ يُشْرِكْ فِي النِّيَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ; لِأَنَّ ضِدَّ الْإِخْلَاصِ هُوَ الْإِشْرَاكُ, فَمَتَى لَمْ يُشْرِكْ فَهُوَ مُخْلِصٌ بِنَفْسِ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يُشْرِكْ غَيْرَهُ فِيهِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَهَذَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ تَقْتَضِي كَوْنَ الْعَمَلِ مَوْقُوفًا عَلَى النِّيَّةِ وَالْعَمَلُ مَوْجُودٌ مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَعْنًى مُضْمَرًا فِيهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ; فَالْمُحْتَجُّ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ مُغَفَّلٌ. فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُهُ حُكْمُ الْعَمَلِ. قِيلَ لَهُ: الْحُكْمُ غَيْرُ مَذْكُورٍ, فَالِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ سَاقِطٌ. فَإِنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَائِدَةٍ, وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْسَ الْعَمَلِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حُكْمَ الْعَمَلِ. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ لَا حُكْمَهُ, وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ اُحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعْنَيَيْنِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ بِهِ فَيُقَالُ هُوَ عَلَيْهِمَا, وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْمَعَانِي فَيُقَالُ عُمُومُهُ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ, فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ وَهُوَ ضَمِيرٌ لَيْسَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ أَحْمِلُهُ عَلَى الْعُمُومِ خَطَأٌ. وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ; لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةُ الْعَمَلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا فَضِيلَةَ لِلْعَمَلِ إلَّا بِالنِّيَّةِ, وَذَلِكَ يَقْتَضِي إثْبَاتَ حُكْمِ الْعَمَلِ حَتَّى يَصِحَّ نَفْيُ فَضِيلَتِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ النِّيَّةِ, وَمَتَى أَرَادَ بِهِ حُكْمَ الْعَمَلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْفَضِيلَةَ وَالْأَصْلُ مُنْتَفٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ; وَأَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَهَذَا من أخبار الآحاد.

فصل

فصل قوله عز وجل: {وُجُوهَكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ حَدَّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَصْلِ الذَّقَنِ إلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ, حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ; وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الِاسْمِ; إذْ كَانَ إنَّمَا سُمِّيَ وَجْهًا لِظُهُورِهِ وَلِأَنَّهُ يُوَاجِهُ الشَّيْءَ وَيُقَابَلُ بِهِ; وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْدِيدِ الْوَجْهِ هُوَ الَّذِي يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ وَيُقَابِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأُذُنَانِ مِنْ الْوَجْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذلك; لأن الأذنين تستران بالعمامة والقلنسوة

باب غسل اللحية وتخليلها

بَابُ غَسْلِ اللِّحْيَةِ وَتَخْلِيلِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَجْهَ مَا وَاجَهَكَ مِنْ الْإِنْسَانِ, فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ لِأَنَّهَا تُوَاجِهُ الْمُقَابِلَ لَهُ غَيْرَ مُغَطَّاةٍ فِي الْأَكْثَرِ كَسَائِرِ الْوَجْهِ; وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: خَرَجَ وَجْهُهُ, إذَا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ; فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ ذَلِكَ وُجُوبَ غَسْلِهَا; وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ وَإِنَّمَا الْوَجْهُ مَا وَاجَهَك مِنْ بَشَرَتِهِ دُونَ الشَّعْرِ النَّابِتِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَتْ الْبَشَرَةُ ظاهرة دونه.

مطلب: في أن فعله عليه السلام يبين المجمل من أحكام القرآن

مطلب: في أن فعله عليه السلام يبين المجمل من أحكام القرآن فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} مُقْتَضِيًا مَسْحَ بَعْضِهِ, فَأَيُّ بَعْضٍ مَسَحَهُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَجْزِيَهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولًا صَارَ مُجْمَلًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الْإِجْمَالِ, أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَوْلُهُ: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] كُلَّهَا مُجْمَلَةٌ لِجَهَالَةِ مَقَادِيرِهَا فِي حَالِ وُرُودِهَا, وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ اعْتِبَارَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهَا؟ فَكَذَلِكَ قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} وَإِنْ اقْتَضَى الْبَعْضُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ لَمَّا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَنَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ. فَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلٍ فيه فهو بيان مراد الله

باب غسل الرجلين

بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَحَمْزَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ: "وَأَرْجُلِكُمْ" بِالْخَفْضِ, وَتَأَوَّلُوهَا عَلَى الْمَسْحِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ, وَكَانُوا يَرَوْنَ غَسْلَهَا وَاجِبًا. وَالْمَحْفُوظُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ اسْتِيعَابُ الرِّجْلِ كُلِّهَا بِالْمَسْحِ, وَلَسْت أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَجَازَ الْمَسْحَ مِنْ السَّلَفِ هُوَ عَلَى الِاسْتِيعَابِ أَوْ عَلَى الْبَعْضِ; وَقَالَ قَوْمٌ: "يَجُوزُ مَسْحُ الْبَعْضِ". وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْغَسْلُ. وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ قَدْ نَزَلَ بِهِمَا الْقُرْآنُ جَمِيعًا وَنَقَلَتْهُمَا الْأُمَّةُ تَلَقِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَسْحِ بِعَطْفِهَا عَلَى الرَّأْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْغَسْلُ بِعَطْفِهَا عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: فَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرَّأْسِ فَيُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ; لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا فَنَصَبَ الْحَدِيدَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى. وَيُحْتَمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ فَيُرَادُ بِهِ الْمَسْحُ, وَيُحْتَمَلُ عَطْفُهُ عَلَى الْغَسْلِ وَيَكُونُ مَخْفُوضًا بِالْمُجَاوِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] ثُمَّ قال:

فصل

فَصْلٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَعْبَيْنِ مَا هُمَا, فَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "هُمَا النَّاتِئَانِ بَيْنَ مَفْصِلِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ". وَحَكَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: "أَنَّهُ مَفْصِلُ الْقَدَمِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عَقْدُ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ". وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ, وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ رَجُلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ لَقَالَ: إلَى الْكِعَابِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ أَضَافَهُمَا إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ, فَلَمَّا أَضَافَهُمَا إلَى الْأَرْجُلِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كل رجل كعبين.

مطلب: فيما استدل به المصنف من الحديث على المراد بالكعبين

مطلب: فيما استدل به المصنف من الحديث على المراد بالكعبين وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَامِعِ بْنِ شِدَادٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارَبِي قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ حَمْرَاءُ وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ, وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ, فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ, قُلْت: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالُوا: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبِ الْقَدَمِ; لِأَنَّ الرَّمْيَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ الْمَاشِي لَا يَضْرِبُ ظَهْرَ الْقَدَمِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْن شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الْقَاسِمِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: سَمِعْت النُّعْمَانَ بن بشير يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أَوْ وُجُوهِكُمْ" قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْت الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الكعب ما وصفنا; والله أعلم.

ذكر الخلاف في المسح على الخفين

ذكر الخلاف فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا". وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ: "أَنَّهُ لَا وَقْتَ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ, إذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ يَمْسَحُ مَا بَدَا لَهُ", قَالَ مَالِكٌ: "وَالْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ", وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ; وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: "أَنَّ الْمُسَافِرَ يَمْسَحُ وَلَا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ", وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَعَّفَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ يُوجِبُ الْعِلْمَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الِاسْتِفَاضَةِ. وَمَا دَفَعَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ نَعْلَمُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ, وَلَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَسَحَ, وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِ مَسْحِهِ أَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَرَوَى الْمَسْحَ مُوَقَّتًا لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَصَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ, وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَثَوْبَانُ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا مُعْجَبِينَ بِحَدِيثِ جَرِيرِ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. وَلَمَّا كَانَ وُرُودُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِفَاضَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِ نَاقِلِيهَا وَامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ وَالسَّهْوِ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا, وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ حُكْمِ الْآيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْآيَةِ احْتِمَالًا لِلْمَسْحِ, فَاسْتَعْمَلْنَاهُ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَاسْتَعْمَلْنَا الْغَسْلَ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهَا, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَالْآيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهِ غَيْرُ نَاسِخَةٍ لَهُ لِاحْتِمَالِهَا مَا يُوجِبُ مُوَافَقَتَهُ مِنْ الْمَسْحِ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا احْتِمَالٌ لِمُوَافَقَةِ الْخَبَرِ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِهِ فَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ خَاصًّا فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ دُونَ حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ, وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةً لِلْمَسْحِ فَإِنَّمَا جَازَ الْمَسْحُ لِمُوَافَقَةِ مَا احْتَمَلَتْهُ الْآيَةُ, وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِهَا, وَإِنْ كَانَ جَائِزًا نَسْخُ الْآيَةِ بِمِثْلِهِ لِتَوَاتُرِهِ وَشُيُوعِهِ. وَمِنْ حَيْثُ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ فِيهِ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا; لِأَنَّ بِمِثْلِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْحِ مُطْلَقًا ثَبَتَ التَّوْقِيتُ أَيْضًا, فَإِنْ بَطَلَ التَّوْقِيتُ بَطَلَ الْمَسْحُ وَإِنْ ثَبَتَ الْمَسْحُ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ.

فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ جُمُعَةً: "أَصَبْت السُّنَّةَ", وَبِمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ, أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَا يُوَقِّتُونَ. قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ أَنْكَرَ عَلَى سَعْدٍ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ: "يَا بُنَيَّ عَمُّك أَفْقَهُ مِنْك, لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ" سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ" وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ التَّوْقِيتُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ, فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُقْبَةَ حِينَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ جُمُعَةً: "أَصَبْت السُّنَّةَ" يَعْنِي: أَنَّك أَصَبْت السُّنَّةَ فِي الْمَسْحِ, وَقَوْلُهُ: "إنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً" إنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ, كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: "مَسَحْت شَهْرًا عَلَى الْخُفَّيْنِ" وَهُوَ يَعْنِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْمَسْحُ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً دَائِمًا لَا يَفْتُرُ, وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَسْحَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْمَسْحِ, كَذَلِكَ إنَّمَا أَرَادَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْمَسْحُ. وَكَمَا تَقُولُ: "صَلَّيْت الْجُمُعَةَ شَهْرًا بِمَكَّةَ" وَالْمَعْنَى: فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا فِعْلُ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ: "أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ سَافَرَ مَعَهُمْ كَانُوا لَا يُوَقِّتُونَ" فَإِنَّهُ إنَّمَا عَنَى بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ رُبَّمَا خَلَعُوا الْخِفَافَ فِيمَا بَيْنَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ, وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُدَاوِمُونَ عَلَى مَسْحِ الثَّلَاثِ حَسْبَمَا قَدْ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَ خِفَافَهُمْ لَا يَنْزِعُونَهَا ثَلَاثًا; فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْسَحُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ" وَلَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا. وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: "وَيَوْمَيْنِ" قَالَ: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ: "نَعَمْ, وَمَا شِئْت". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا. قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ خُزَيْمَةَ وَمَا قِيلَ فِيهِ "وَلَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا" فَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْ الرَّاوِي, وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ, فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ, وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَنَدِهِ, وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ قَوْلُهُ: "وَمَا شِئْت" عَلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ بِالثَّلَاثِ مَا شَاءَ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَخْبَارِ التَّوْقِيتِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّاذَّةِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي مَعَ اسْتِفَاضَةِ الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْقِيتِ.

مطلب: لا حظ للنظر مع الأثر فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا جَازَ الْمَسْحُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ. قِيلَ لَهُ: لَا

حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الْأَثَرِ, فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُ التَّوْقِيتِ ثَابِتَةً فَالنَّظَرُ مَعَهَا سَاقِطٌ, وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ثَابِتَةٍ فَالْكَلَامُ حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي إثْبَاتِهَا, وَقَدْ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ بِالْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ, وَهُوَ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ غَيْرِهِ, وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ مَعَ إمْكَانِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ, فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بَدَلًا إلَّا فِي المقدار الذي ورد به التوقيت.

مطلب: المسح على الجبيرة مستحب عند أبي حنيفة فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ; لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ, وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْتَحَبٌّ تَرْكُهُ لَا يَضُرُّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ; فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْمَسْحِ مَقْصُورًا عَلَى السَّفَرِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَتْ فِيهِ, وَأَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْحَضَرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: "سَلُوا عَلِيًّا فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ"; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ فِي الْحَضَرِ; لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى عَلَى عَائِشَةَ؟ قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سُئِلَتْ عَنْ تَوْقِيتِ الْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ فَأَحَالَتْ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عَائِشَةَ أَحَدُ مَنْ رَوَى تَوْقِيتَ الْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ جَمِيعًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا تَوْقِيتُ مَسْحِ الْمُسَافِرِ فِيهَا تَوْقِيتُهُ لِلْمُقِيمِ, فَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُسَافِرِ ثَبَتَ لِلْمُقِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِغَسْلِهِ فِي الْحَضَرِ وَقَوْلُهُ: "وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ". قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَخْتَصَّ حَالُ السَّفَرِ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ حَالِ الْحَضَرِ كَالْقَصْرِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْإِفْطَارِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُبِحْ الْمَسْحَ لِلْمُقِيمِ وَلَا لِلْمُسَافِرِ قِيَاسًا, وَإِنَّمَا أَبَحْنَاهُ بِالْآثَارِ, وَهِيَ مُتَسَاوِيَةٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ الْمَسْحِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ, فَلَا مَعْنَى لِلْمُقَايَسَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْمَسْحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَكْمَلَ الطَّهَارَةَ قَبْلَ الْحَدَثِ أَجْزَأَهُ أَنْ يَمْسَحَ إذَا أَحْدَثَ", وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ; وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: "أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَلْبَسَ خُفَّيْهِ بَعْدَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ" وَدَلِيلُ أَصْحَابِنَا عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لُبْسِهِ قَبْلَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ وَبَعْدَهَا. وروى

الشَّعْبِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ, فَأَهْوَيْت إلَى خُفَّيْهِ لِأَنْزِعَهُمَا, فَقَالَ: "مَهْ فَإِنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ" فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "إذَا أَدْخَلْت قَدَمَيْك الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا". وَمَنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَقَدْ طَهُرَتَا قَبْلَ إكْمَالِ طَهَارَةِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ, كَمَا يُقَالُ: غَسَلَ رِجْلَيْهِ, وَكَمَا يُقَالُ: صَلَّى رَكْعَةً; وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ بِنَزْعِ الْخُفَّيْنِ ثُمَّ لُبْسِهِمَا كَذَلِكَ بَقَاؤُهُمَا فِي رِجْلَيْهِ لِحِينِ الْمَسْحِ; لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ بِمَنْزِلَةِ ابتدائه. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ, فَلَمْ يُجِزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ وَإِنْ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ كَالْخُفَّيْنِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَمْسَحُ إذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ". وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ الْغَسْلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا, فَلَوْ لَمْ تَرِدْ الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَا أَجَزْنَا الْمَسْحَ, فَلَمَّا وَرَدَتْ الْآثَارُ الصِّحَاحُ وَاحْتَجْنَا إلَى اسْتِعْمَالِهَا مَعَ الْآيَةِ اسْتَعْمَلْنَاهَا مَعَهَا عَلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ فِي احْتِمَالِهَا لِلْمَسْحِ وَتَرَكْنَا الْبَاقِيَ عَلَى مُقْتَضَى الْآيَةِ وَمُرَادِهَا; وَلَمَّا لَمْ تَرِدْ الْآثَارُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فِي وَزْنِ وُرُودِهَا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَقَّيْنَا حُكْمَ الْغَسْلِ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ وَلَمْ نَنْقُلْهُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَأَبُو مُوسَى: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ; إذْ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ فِعْلٍ لَا نَعْلَمُ. وَأَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُضُوءَ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ, كَمَا مَسَحَ عَلَى رِجْلَيْهِ وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مِنْ لَمْ يُحْدِثْ". وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمْعِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى اللِّفَافَةِ; إذْ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ الْمَشْيُ فِيهَا, كَذَلِكَ الْجَوْرَبَانِ. وَأَمَّا إذَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْخُفَّيْنِ وَيَمْشِي فِيهِمَا وَبِمَنْزِلَةِ الْجُرْمُوقَيْنِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّهُ مُجَلَّدًا جَازَ الْمَسْحُ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُجَلَّدًا أَوْ بَعْضُهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الخفين في المشي والتصرف. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَلَا عَلَى الْخِمَارِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي إمْسَاسَهُ الْمَاءَ وَمُبَاشَرَتَهُ, وَمَاسِحُ الْعِمَامَةِ غَيْرُ مَاسِحٍ بِرَأْسِهِ فَلَا تَجْزِيهِ صَلَاتُهُ إذَا صَلَّى بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآثَارَ مُتَوَاتِرَةٌ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ, فَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ جَائِزًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا فِي وَزْنِ وُرُودِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ; فَلَمَّا لَمْ

يَثْبُتْ عَنْهُ مَسْحُ الْعِمَامَةِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي مَسْحَ الرَّأْسِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَالثَّانِي: عُمُومُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ, فَلَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ إلَّا الْمُتَوَاتِرُ مِنْ الْأَخْبَارِ. وَأَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ لِأَنَّ مَسْحَ الْعِمَامَةِ لَا يُسَمَّى وُضُوءًا, ثُمَّ نَفَى جَوَازَ الصَّلَاةِ إلَّا بِهِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا, فَأَخْبَرَ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ هُوَ الْمَفْرُوضُ عَلَيْنَا فَلَا تَجْزِي الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ. وَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى بِلَالٌ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ وَمَا رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمْ الْبَرْدُ, فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ. قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ أَخْبَارٌ مُضْطَرِبَةُ الْأَسَانِيدِ وَفِيهَا رِجَالٌ مَجْهُولُونَ, وَلَوْ اسْتَقَامَتْ أَسَانِيدُهَا لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِمِثْلِهَا عَلَى الْآيَةِ; وَقَدْ بَيَّنَّا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ, وَفِي بَعْضِهَا: عَلَى جَانِبِ عِمَامَتِهِ, وَفِي بَعْضِهَا: وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِمَامَتِهِ; فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ الْمَفْرُوضَ فِي مَسْحِ النَّاصِيَةِ وَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيُحْتَمَلُ مَا رَوَاهُ بِلَالٌ مَا بُيِّنَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَيْضًا بِأَنْ مَسَحُوا عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ. والله أعلم.

بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةُ. الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ غَسْلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً; إذْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعَدَدِ فَلَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ, فَمَنْ غَسَلَ مَرَّةً فَقَدْ أَدَّى الْفَرْضَ. وَبِهِ وَرَدَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً, وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَمَرَّةً مَرَّةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ فَرْضُ الْوُضُوءِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ; وَفِيهِ أَشْيَاءُ مَسْنُونَةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْخَيْرِ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ الرَّحْبَةَ بَعْدَمَا صَلَّى الْفَجْرَ, فَجَلَسَ فِي الرَّحْبَةِ ثُمَّ قَالَ لِغُلَامِهِ: ايتِنِي بِطَهُورٍ فَأَتَاهُ الْغُلَامُ بِإِنَاءٍ وَطَسْتٍ قَالَ عَبْدُ الْخَيْرِ: وَنَحْنُ جُلُوسٌ نَنْظُرُ إلَيْهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الْإِنَاءَ فَأَكْفَأَهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ, ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الْإِنَاءَ

فَأَفْرَغَ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى الْإِنَاءَ فَلَمَّا مَلَأَ كَفَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى فَغَسَلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ الْإِنَاءَ حَتَّى غَمَرَهُمَا بِالْمَاءِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا بِمَا حَمَلَتَا, ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ كِلْتَيْهِمَا, ثُمَّ صَبَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى قَدَمِهِ الْيُمْنَى, ثُمَّ غَسَلَهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ صَبَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى, ثُمَّ غَسَلَهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً بِكَفِّهِ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا طَهُورُهُ. وَهَذَا الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ بَدَأَ فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا; وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ, وَإِنْ أَدْخَلَهُمَا الْإِنَاءَ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُمَا لَمْ يَفْسُدْ الْمَاءُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِمَا نَجَاسَةُ. وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي إنَاءٍ قَبْلَ الْغَسْلِ أَهَرَاقَ الْمَاءَ", وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْلِ وَنَوْمِ النَّهَارِ; لِأَنَّهُ يَنْكَشِفُ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ, وَلَا يَنْكَشِفُ فِي نَوْمِ النَّهَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنْ صِفَةِ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْقِطُ هَذَا الِاعْتِبَارَ وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةَ الْوُضُوءِ; لِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ تَوَضَّأَ لِيُعَلِّمَهُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ ثَلَاثًا, فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ, فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَأْمَنُ وُقُوعَ يَدِهِ فِي حَالِ النَّوْمِ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ وَهُنَاكَ بَلَّةٌ مِنْ عَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتُصِيبُهَا, فَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَسَى أَنْ تَكُونَ قَدْ أَصَابَتْ يَدَهُ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى النَّدْبِ, وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ آنِفًا فَهُوَ شَاذٌّ, وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِي إيجَابَهُ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ وُجُوبَ غَسْلِهِمَا بَعْدَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ; وَمَنْ أَوْجَبَ غَسْلَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ زَائِدٌ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا, وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ أَوْ بِاتِّفَاقٍ, وَالْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا فِيمَنْ قَامَ مِنْ النَّوْمِ وَغَيْرِهِ; وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ قَامَ مِنْ النَّوْمِ, وَقَدْ أَطْلَقْت جَوَازَ الْغَسْلِ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَتُحِبُّونَ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ, ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى, ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى; وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ

الْإِنَاءَ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ إدْخَالِهَا الْإِنَاءَ اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَأَنَّ مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْيَدِ قَبْلَ إدْخَالِهَا الْإِنَاءَ نَدْبٌ, وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ وَأَنَّهُ أَرَادَ الِاحْتِيَاطَ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَتْ يَدُهُ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ, وَهُوَ قَوْلُهُ: "فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" فَأَخْبَرَ أَنَّ كَوْنَ النَّجَاسَةِ عَلَى يَدِهِ لَيْسَ بِيَقِينٍ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ يَدَهُ قَدْ كَانَتْ طَاهِرَةً قَبْلَ النَّوْمِ, فَهِيَ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهَا, كَمَنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الشَّكِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ وَيُلْغِيَ الشَّكَّ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ بِغَسْلِ يَدَيْهِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ. وَقَدْ ذَكَرَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ كَانُوا إذَا ذُكِرَ لَهُمْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَمْرِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ بِغَسْلِ يَدَيْهِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ قَالُوا: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مِهْذَارًا فَمَا يَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ1 وَقَالَ الْأَشْجَعِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: فَمَا تَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّك. وَاَلَّذِي أَنْكَرَهُ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ اعْتِقَادَهُ الْإِيجَابَ فِيهِ; لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْمِهْرَاسَ الَّذِي كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَدْ كَانَ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ, وَلَمْ يَكُنْ الْوُضُوءُ مِنْهُ إلَّا بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهِ, فَاسْتَنْكَرَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ فِيهِ مَعَ ظُهُورِ الِاغْتِرَافِ مِنْهُ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَدْفَعُوا عِنْدَنَا رِوَايَتَهُ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ. . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "هُمَا مِنْ الرَّأْسِ تُمْسَحَانِ مَعَهُ", وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ; وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ, وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَزَادَ: "وَإِنَّمَا تَمْسَحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَغْسِلُ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ مَعَ وَجْهِهِ وَيَمْسَحُ ظَاهِرَهُمَا مَعَ رَأْسِهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَمْسَحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ وَهُمَا سُنَّةٌ عَلَى حِيَالِهِمَا لَا مِنْ الْوَجْهِ وَلَا مِنْ الرَّأْسِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ وَيُمْسَحَانِ مَعَهُ مَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ عَنْ حَمَّادٍ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا وَطَهَّرَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَقَالَ: الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ. وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ بَحْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا وَمَا أَدْبَرَ". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله أيضا.

_ 1 قوله: "بالمهراس" هو صخرة منقرة تسع كثيرا من الماء كما في النهاية. "لمصححه".

أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ إنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ, وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَسَحَ الْجَمِيعَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ تَجْدِيدِ مَاءٍ لَهُمَا بِغَيْرِ رِوَايَةٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: "الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ" لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ تَعْرِيفَنَا مَوْضِعَ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ أَوْ أَنَّهُمَا تَابِعَتَانِ لَهُ مَمْسُوحَتَانِ مَعَهُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ تَعْرِيفَنَا مَوْضِعَ الْأُذُنَيْنِ; لِأَنَّ ذَلِكَ بَيِّنٌ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ, وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو مِنْ الْفَائِدَةِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَجْهُ الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُمَا مَمْسُوحَتَانِ كَالرَّأْسِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ; لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ لَا يُوجِبُ إطْلَاقَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمَا مِنْهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ الرِّجْلَانِ مِنْ الْوَجْهِ مِنْ حَيْثُ كَانَتَا مَغْسُولَتَيْنِ كَالْوَجْهِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: "الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ" إنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُمَا كَبَعْضِ الرَّأْسِ وَتَابِعَتَانِ لَهُ. وَوَجْهٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّ "مِنْ" بَابُهَا التَّبْعِيضُ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ, فَقَوْلُهُ: "الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ" حَقِيقَتُهُ أَنَّهُمَا بَعْضُ الرَّأْسِ, فَوَاجِبٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ تُمْسَحَا مَعَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ كَمَا يُمْسَحُ سَائِرُ أَبْعَاضِ الرَّأْسِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا مَسَحَ الْمُتَوَضِّئُ بِرَأْسِهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أُذُنَيْهِ, وَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ" فَأَضَافَ الْأُذُنَيْنِ إلَى الرَّأْسِ كَمَا جَعَلَ الْعَيْنَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ" فَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ, وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِهِمَا فِي حُكْمِ الرَّأْسِ, كَذَلِكَ قَوْلُهُ: "الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ". قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْ الْفَمَ وَالْأَنْفَ مِنْ الرَّأْسِ, وَإِنَّمَا قَالَ: "خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ" فَوَصَفَ مَا يُفْعَلُ مِنْ الْخَمْسِ فِي الرَّأْسِ; وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هُوَ الرَّأْسُ, وَنَقُولُ: الْعَيْنَانِ فِي الرَّأْسِ, وَكَذَلِكَ الْفَمُ وَالْأَنْفُ, قَالَ الله تعالى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] وَالْمُرَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ. عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْته هُوَ لَنَا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمَّى مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَأْسًا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَيْهِمَا وَأَنْ لَا يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَلَمَّا قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا عَلَا مِنْهُ مِمَّا فَوْقَ الْأُذُنَيْنِ, ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ" كَانَ ذَلِكَ إخْبَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ الْمَمْسُوحِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا, وَرَوَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ أُذُنَيْهِ وَهَذَا يَقْتَضِي تَجْدِيدَ الْمَاءِ لَهُمَا. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك "إنَّهُ أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا" فَلَا نَعْلَمُهُ رُوِيَ مِنْ جِهَةٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا, وَلَوْ صَحَّ لَمْ

يَدُلَّ عَلَى قَوْلِك; لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَتَا مِنْ الرَّأْسِ فَالْمَاءُ الْجَدِيدُ الَّذِي أَخَذَهُ لَهُمَا هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: "أَخَذَ لِلْأُذُنَيْنِ مَاءً جَدِيدًا" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "أَخَذَ لِلرَّأْسِ مَاءً جَدِيدًا" إذَا كَانَتَا مِنْ الرَّأْسِ, وَالْمَاءُ الْمَأْخُوذُ لِلرَّأْسِ هُوَ لِلْأُذُنَيْنِ; وَقَوْلُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ: "مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ مَسَحَ أُذُنَيْهِ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِلْأُذُنَيْنِ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسْحِ لَا يَقْتَضِي تَجْدِيدَ الْمَاءِ لَهُمَا; لِأَنَّ اسْمَ الْمَسْحِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ; وَهُوَ مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَجْدِيدَ الْمَاءِ; كَذَلِكَ الْأُذُنَانِ; إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَسْحُ الرَّأْسِ مَعَ الْأُذُنَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا لَا يُمْكِنُ مَسْحُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَمُؤَخَّرِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ, فَلَا دَلَالَةَ فِي ذِكْرِ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ بَعْدَ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى تَجْدِيدِ الماء لهما دون الرأس.

مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "سجد وخهي للذي خلقه" فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ" فَجَعَلَ السَّمْعَ مِنْ الْوَجْهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُرَدْ بِالْوَجْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعُضْوَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ, وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ جُمْلَةَ الْإِنْسَانِ هُوَ السَّاجِدُ لِلَّهِ لَا الْوَجْهُ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يَعْنِي بِهِ ذَاتَه. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ السَّمْعَ, وَلَيْسَ الْأُذُنَانِ هُمَا السَّمْعُ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْأُذُنَيْنِ; وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: إلَى هَامَةٍ قَدْ وَقَرَ الضَّرْبُ سَمْعَهَا ... وَلَيْسَتْ كَأُخْرَى سَمْعُهَا لَمْ يُوقَرْ فَأَضَافَ السَّمْعَ إلَى الْهَامَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا تُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَسْحٌ مَسْنُونٌ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِلْمَفْرُوضِ مِنْهُ, أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنْ يَمْسَحَ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إلَى أَصْلِ السَّاقِ وَالْمَفْرُوضُ مِنْهُ بَعْضُهُ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَمِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَعَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِقْدَارُ مَا يُسَمَّى مَسْحًا؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مُقَدَّمَهُ وَمُؤَخَّرَهُ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَرُوِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْمَازِنِيُّ وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ, بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ1 ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْضِعٍ مَفْرُوضِ الْمَسْحِ; لِأَنَّ مَسْحَ مَا تَحْتَ الْأُذُنَيْنِ لَا يُجْزِي مِنْ الْمَفْرُوضِ, وَإِنَّمَا مَسْحُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ على جهة التبع للمفروض.

_ 1 قوله: إلى "قفاه" القفا مؤخر العنق كما في لسان العرب والمصباح. "لمصححه".

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ تَكُنْ الْأُذُنَانِ مَوْضِعَ فَرْضِ الْمَسْحِ أَشْبَهَتَا دَاخِلَ الْفَمِ وَالْأَنْفِ, فَيُجَدِّدُ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَيَكُونُ سُنَّةً عَلَى حِيَالِهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِفَرْضِ الْمَسْحِ, وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَسَحَهُ مَعَ الرَّأْسِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ, فَكَذَلِكَ الْأُذُنَانِ. وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَكَانَا سُنَّةً عَلَى حِيَالِهِمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ بِحَالٍ فَلَمْ يَكُونَا تَابِعَيْنِ لَهُ فَأَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا, وَالْأُذُنَانِ وَالْقَفَا جَمِيعًا مِنْ الرَّأْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَوْضِعَ الْفَرْضِ فَصَارَا تَابِعَيْنِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ لَحَلَّ بِحَلْقِهِمَا مِنْ الْإِحْرَامِ وَلَكَانَ حَلْقُهُمَا مَسْنُونًا مَعَ الرَّأْسِ إذَا أَرَادَ الْإِحْلَالَ مِنْ إحْرَامِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُسَنَّ حَلْقُهُمَا وَلَا حَلَّ بِحَلْقِهِمَا; لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا, وَإِنَّمَا الْحَلْقُ مَسْنُونٌ فِي الرَّأْسِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ فِي الْعَادَةِ, فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ الشَّعْرِ عَلَى الْأُذُنَيْنِ شَاذًّا نَادِرًا أَسْقَطَ حُكْمَهُمَا فِي الْحَلْقِ وَلَمْ يُسْقَطْ فِي الْمَسْحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا قُلْنَا: إنَّ الْأُذُنَيْنِ تَابِعَتَانِ لِلرَّأْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَا عَلَى أَنَّهُمَا الْأَصْلُ, أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا دُونَ الرَّأْسِ؟ فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا أَنْ نَجْعَلَهُمَا أَصْلًا فِي الْحَلْقِ وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي غَسْلِ بَاطِنِ الْأُذُنَيْنِ وَمَسْحِ ظَاهِرِهِمَا فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاطِنُهُمَا مَغْسُولًا لَكَانَتَا مِنْ الْوَجْهِ فَكَانَ يَجِبُ غَسْلُهُمَا, وَلَمَّا وَافَقْنَا عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُمَا مَمْسُوحٌ مِنْ الرَّأْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ, وَلِأَنَّا لَمْ نَجِدْ عُضْوًا بَعْضُهُ مِنْ الرَّأْسِ وَبَعْضُهُ مِنْ الْوَجْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ مَسَحَ مَا تَحْتَ أُذُنَيْهِ مِنْ الرَّأْسِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْقَفَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَوَاضِعِ فَرْضِ الْمَسْحِ فَلَا يُجْزِيهِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَعْرُهُ قَدْ بَلَغَ مَنْكِبَهُ فَمَسَحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ شَعْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ مَسْحِ رَأْسِهِ؟ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "هُوَ جَائِزٌ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "إنْ تَطَاوَلَ أَوْ تَشَاغَلَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ مِنْ أَوَّلِهِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةُ فَإِذَا أَتَى بِالْغَسْلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ, وَلَوْ شَرَطْنَا فِيهِ الْمُوَالَاةَ وَتَرْكَ التَّفْرِيقِ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِي النَّصِّ, وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَالْحَرَجُ الضِّيقُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمَقْصِدَ حُصُولُ الطَّهَارَةِ وَنَفْيُ الْحَرَجِ, وَفِي قَوْلِ مُخَالِفِينَا إثْبَاتُ الْحَرَجِ مَعَ وُقُوعِ الطَّهَارَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] الْآيَةُ, فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمُوَالَاةِ, فَحَيْثُمَا وُجِدَ كَانَ مُطَهِّرًا

بِحُكْمِ الظَّاهِرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] وَمَعْنَاهُ مُطَهِّرًا, فَحَيْثُمَا وُجِدَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمَهُ; وَلَوْ مَنَعْنَا الطَّهَارَةَ مَعَ وُجُودِ الْغَسْلِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ كُنَّا قَدْ سَلَبْنَاهُ الصِّفَةَ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ كَوْنِهِ طَهُورًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اغْتَسَلْت مِنْ الْجَنَابَةِ وَصَلَّيْت الْفَجْرَ فَلَمَّا أَصْبَحْت رَأَيْت بِذِرَاعَيَّ قَدْرَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ مَسَحْت عَلَيْهِ بِيَدِك أَجْزَأَك" فَأَجَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ بَعْدَ تَرَاخِي الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الطَّهَارَةِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ, فَقَالَ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ". وَالتَّفْرِيقُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَضَعَهُ مَوَاضِعَهُ لِأَنَّ مَوَاضِعَهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ, وَلَمْ يَشْرِطْ فِيهِ الْمُوَالَاةَ وَتَرَكَ التَّفْرِيقَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوْلُهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ: "حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّتَابُعَ, فَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنْ تَفْرِيقٍ أَوْ مُوَالَاةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} أَمْرًا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى الْفَوْرِ, فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ اسْتَقْبَلَ; إذْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورُ بِهِ. قِيلَ لَهُ: الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهِ عَلَى الْمُهْلَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ تَارِكَ الْوُضُوءِ رَأْسًا لَا تَفْسُدُ طَهَارَتُهُ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوَامِرِ الَّتِي لَيْسَتْ مُوَقَّتَةً فَإِنْ تَرَكَهَا فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِهَا لَا يُفْسِدُهَا إذَا فَعَلَهَا وَلَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا; وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ غَسْلَ الْعُضْوِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَوْرِ قَدْ صَحَّ عِنْدَنَا جَمِيعًا وَتَرْكُهُ لِغَسْلِ بَاقِي الْأَعْضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ الْأَوَّلِ وَلَا تَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ, لِأَنَّ فِي إيجَابِ إعَادَتِهِ إبْطَالُهُ عَنْ الْفَوْرِ وَإِيجَابُ فِعْلِهِ عَلَى التَّرَاخِي, فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا عَلَى حُكْمِهِ فِي صِحَّةِ فِعْلِهِ بَدِيًّا عَلَى الْفَوْرِ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ" قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا دَعْوَى, وَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ فَعَلَهُ مُتَتَابِعًا؟ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَسَلَ وَجْهَهُ فِي وَقْتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ بَعْدَ سَاعَاتٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْضَائِهِ لِيُفِيدَ الْحَاضِرِينَ حُكْمَ جَوَازِ فِعْلِهِ مُتَفَرِّقًا, وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ تَابَعَ لَمْ يَدُلَّ قَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "هَذَا وُضُوءٌ" إنَّمَا إشَارَةٌ إلَى الْغَسْلِ لَا إلَى الزَّمَانِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ بَعْضُهُ مَنُوطًا بِبَعْضٍ حَتَّى لَا يَصِحَّ لِبَعْضِهِ حُكْمٌ إلَّا بِجَمِيعِهِ أَشْبَهَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالْحَجِّ; لِأَنَّ بَعْضَهُ مَنُوطٌ بِبَعْضٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ بَطَلَ إحْرَامُهُ وَطَوَافُهُ الَّذِي قَدَّمَهُ وَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُتَابَعَةُ أَفْعَالِهِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِغَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ حُكْمٌ دُونَ بَعْضٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِذِرَاعِهِ عُذْرٌ لَسَقَطَ فَرْضُ طَهَارَتِهِ عَنْهُ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا كُلَّهَا مَنُوطَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ, فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُهَا أَوْ يَثْبُتَ جَمِيعُهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُمْكِنُ فِعْلُهَا, فَمِنْ حَيْثُ جَازَ سُقُوطُ بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَبَقِيَ الْبَعْضُ أَشْبَهَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ إذَا اجْتَمَعَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ فَيَجُوزُ تَفْرِيقُهَا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا لَزِمَ فِيهَا الْمُوَالَاةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا بِتَحْرِيمَةٍ وَلَا يَصِحُّ بِنَاءً أَفْعَالُهَا إلَّا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ, فَمَتَى أَبْطَلَ التَّحْرِيمَةَ بِكَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بِنَاءً بَاقِي أَفْعَالِهَا بِغَيْرِ تَحْرِيمَةٍ, وَالطَّهَارَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيمَةٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي أَضْعَافِهَا الْكَلَامُ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ وَلَا يُبْطِلُهَا ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا شَرَطَ فِيهِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَدَمَ جَفَافِ الْعُضْوِ قَبْلَ إتْمَامِ الطَّهَارَةِ وَجَفَافُ الْعُضْوِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُكْمِ رَفْعِ الطَّهَارَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ جَفَافَ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي رَفْعِهَا؟ كَذَلِكَ جَفَافُ بَعْضِهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا تَشْبِيهًا صَحِيحًا وَقِيَاسًا مُسْتَقِيمًا لَمَا صَحَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ بِالْقِيَاسِ فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ هَهُنَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الشَّمْسِ وَوَالَى بَيْنَ الْوُضُوءِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَجِفُّ الْعُضْوُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ الْآخَرَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ بُطْلَانَ الطَّهَارَةِ, كَذَلِكَ إذَا جَفَّ بِتَرْكِهِ إلَى أَنْ يَغْسِلَ الْآخَرَ.

فصل مطلب: فيما تمسك به القائلون بفرض التسمية على الوضوء وجواب المصنف عن ذلك وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ لِأَنَّهُ أَبَاحَ الصَّلَاةَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ, وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَآهَا فَرْضًا فِي الْوُضُوءِ, فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] فَعَلَّقَ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا فِيهِ, فَمَنْ شَرَطَهَا فَهُوَ زَائِدٌ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَنَافٍ لِمَا أَبَاحَتْهُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ

حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّسْمِيَةَ; وَقَدْ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الطَّهَارَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ وَقَالَ: "لَا تَتِمُّ صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه وَيَدَيْهِ". إلَى آخِرِهِ, وَلَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ; وَحَدِيثُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ التَّسْمِيَةَ فَرْضًا فِيهِ, وَقَالُوا: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَرْضًا فِيهِ لَذَكَرُوهَا وَلَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا فِي وَزْنِ وُرُودِ النَّقْلِ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الْمَفْرُوضِ طَهَارَتُهَا, لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ". قِيلَ لَهُ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ, فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا, وَالْآخَرُ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيمَا عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهِ, وَإِنْ صَحَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ لَا نَفْيَ الْأَصْلِ, كَقَوْلِهِ: "لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ" وَ "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ" وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْحَدَثُ يُبْطِلُهُ صَارَ كَالصَّلَاةِ فِي الْحَاجَةِ إلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُك إنَّ الْحَدَثَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ غَلَطٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ إذَا سَبَقَهُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي; وَأَيْضًا فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي حَاجَةِ الصَّلَاةِ إلَى الذِّكْرِ أَنَّ الْحَدَثَ يُبْطِلُهَا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيهَا, وَأَيْضًا نَقِيسُهُ عَلَى غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَهَارَةٌ, وَأَيْضًا فَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى إنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ; فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ يَسْتَوِي فِي بُطْلَانِهَا تَرْكُ ذِكْرِ التَّحْرِيمَةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا, وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا أَسْقَطَهَا النِّسْيَانُ; إذْ كَانَتْ شَرْطًا فِي صحة الطهارة كسائر شرائطها المذكورة.

فصل مطلب: اختلف الفقهاء في فرضية الاستنجاء قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَأَنَّ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ مَعَ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَوْضِعَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ, فَأَجَازَ أَصْحَابُنَا صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فِي تَرْكِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِيهِ إذَا تَرَكَهُ رَأْسًا". وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ; وَقَالَ فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ

الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَحَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَا: أَحَدُهُمَا: إيجَابُهُ عَلَى الْمُحْدِثِ غَسْلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ, وَإِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهِ; وَمُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءِ فَرْضًا مَانِعٌ مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ وَذَلِكَ يُوجِبُ النَّسْخَ, وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْآيَةِ إلَّا بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي إيجَابِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَأَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ, وَفِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ قَوْلَ مُوجِبِي الِاسْتِنْجَاءِ فَرْضًا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلَى آخِرِهَا; فَأَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عَلَى مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ, وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ, فَأَبَاحَ صَلَاتَهُ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنْجَاءٍ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ" فَأَبَاحَ صَلَاتَهُ بَعْدَ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مَعَ تَرْكِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ الْحُصَيْنِ الْحَرَّانِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ, وَمَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ" فَنَفَى الْحَرَجَ عَنْ تَارِكِ الِاسْتِجْمَارِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَفَى الْحَرَجَ عَنْ تَارِكِهِ إلَى الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَجَازَ تَرْكَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ, وَمَنْ ادَّعَى تَرْكَهُ إلَى الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فَإِنَّمَا خَصَّهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَسْقُطُ فَائِدَتُهُ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْفِيَ الْحَرَجَ عَنْ فَاعِلِ الْأَفْضَلِ, هَذَا مُمْتَنِعٌ مُسْتَحِيلٌ لَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ كَانَ وَضْعًا لِلْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْتَزِئَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ, وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ" وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ, فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: "فَلَا حَرَجَ" عَلَى مَا لَا يُسْقِطُ إيجَابَ الْأَمْرِ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا نَفَى الْحَرَجَ عَمَّنْ لَمْ يَسْتَجْمِرْ وِتْرًا وَيَفْعَلُهُ شَفْعًا, لَا بِأَنْ يَتْرُكَهُ أَصْلًا, أَوْ عَلَى أَنْ يَتْرُكَهُ إلَى الْمَاءِ لِيَسْلَمَ لَنَا مُقْتَضَى الْأَمْرِ مِنْ الْإِيجَابِ. قِيلَ لَهُ: بَلْ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَنَسْتَعْمِلُهُمَا وَلَا نُسْقِطُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ, فَنَجْعَلُ أَمْرَهُ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَنَهْيَهُ عَنْ تَرْكِهِ عَلَى النَّدْبِ, وَنَسْتَعْمِلُ مَعَهُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ" فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ; وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ عَلَى مَا ذُكِرَتْ كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا, لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ خَبَرُنَا مُوَافِقًا لِمَا تَضَمَّنَهُ نَصُّ الْآيَةِ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ وعلى جواز

الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى الْأَحْجَارِ, وَلَوْ كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ فَرْضًا لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ دُونَ الْأَحْجَارِ, كَسَائِرِ الْبَدَنِ إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِإِزَالَتِهَا بِالْأَحْجَارِ دُونَ غَسْلِهَا بِالْمَاءِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَنْتَ تُجِيزُ فَرْكَ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ إذَا كَانَ يَابِسًا وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِهِ إذَا كَانَ كَثِيرًا, فَكَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ إزَالَتِهِ بِالْأَحْجَارِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَجَزْنَا ذَلِكَ فِي الْمَنِيِّ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا لِخِفَّةِ حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ مِنْ ثَوْبِهِ فِي جَوَازِ فَرْكِهِ؟ فَأَمَّا بَدَنُ الْإِنْسَانِ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي عَدَمِ جَوَازِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ بِغَيْرِ مَا يُزِيلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ, وَكَذَلِكَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَغْلِيظِ حُكْمِهَا, فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْبَدَنِ. وَكَذَلِكَ إنْ سَأَلُونَا عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَهَا جِرْمٌ قَائِمٌ فِي الْخُفِّ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدَّلْكِ بَعْدَ الْجَفَافِ وَلَوْ أَصَابَتْ الْبَدَنَ لَمْ يُزِلْهَا إلَّا الْغَسْلُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّمَا اخْتَلَفْنَا لِاخْتِلَافِ حَالِ جِرْمِ الْخُفِّ وَبَدَنُ الْإِنْسَانِ فِي كَوْنِ جِرْمِ الْخُفِّ مُسْتَخْصَفًا غَيْرَ نَاشِفٍ لِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الرُّطُوبَةِ إلَى نَفْسِهِ, وَجِرْمُ النَّجَاسَةِ سَخِيفٌ مُتَخَلْخِلٌ يُنَشِّفُ الرُّطُوبَةَ الْحَاصِلَةَ فِي الْخُفِّ إلَى نَفْسِهَا, فَإِذَا حُكَّتْ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلَّا الْيَسِيرُ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ, فَصَارَ اخْتِلَافُ أَحْكَامِهَا فِي الْحَكِّ وَالْفَرْكِ وَالْغَسْلِ مُتَعَلِّقًا إمَّا بِنَفْسِ النَّجَاسَةِ لِخِفَّتِهَا وَإِمَّا بِمَا تُحِلُّهُ النَّجَاسَةُ فِي إمْكَانِ إزَالَتِهَا عَنْهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ, كَمَا نَقُولُ فِي السَّيْفِ إذَا أَصَابَهُ دَمٌ فَمَسَحَهُ إنَّهُ يُجْزِي لِأَنَّ جِرْمَ السَّيْفِ لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ فَيُنَشِّفُهَا إلَى نَفْسِهِ, فَإِذَا أُزِيلَ مَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ إلَّا مَا لَا حُكْمَ لَهُ.

فصل ويستدل بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِإِيجَابِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ, وَعَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ تَقْدِيمُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَا يَرَى الْمُتَوَضِّئُ; وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِيهِ غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ وَلَا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ قَبْلَ الذِّرَاعَيْنِ". وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا خَرَجَ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْت إذَا أَتْمَمْت وُضُوئِي", وَلَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيمَا نَعْلَمُ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, يَدُلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهَا مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا جَوَازُ الصَّلَاةِ بِحُصُولِ الْغَسْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّرْتِيبِ; إذْ كَانَتْ "الْوَاوُ" هَهُنَا عِنْدَ

أَهْلِ اللُّغَةِ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ; قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ جَمِيعًا, وَقَالُوا: إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا" بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "رَأَيْت الزَّيْدَيْنِ وَرَأَيْتهمَا" وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عَادَةِ أَهْلِ اللَّفْظِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: "رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا" لَمْ يَعْتَقِدْ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ رَأَى زَيْدًا قَبْلَ عَمْرٍو, بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا مَعًا, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ "الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. وَقَدْ أَجْمَعُوا جَمِيعًا أَيْضًا فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ: "إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ وَعَلَيَّ صَدَقَةٌ" أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الدَّارَ لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, لَا يَلْزَمُهُ أَحَدُهَا قَبْلَ الْآخَرِ; كَذَلِكَ هَذَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْت" فَلَوْ كَانَتْ "الْوَاوُ" تُوجِبُ التَّرْتِيبَ لَجَرَتْ مَجْرَى "ثُمَّ" وَلَمَا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ إيجَابُ التَّرْتِيبِ فَمُوجِبُهُ فِي الطَّهَارَةِ مُخَالِفٌ لَهَا وَزَائِدٌ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا, وَذَلِكَ يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ عِنْدَنَا لِحَظْرِهِ مَا أَبَاحَتْهُ; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخٌ, فَثَبَتَ جَوَازُ فِعْلِهِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ: قَوْله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الرِّجْلَ مَغْسُولَةٌ مَعْطُوفَةٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْأَيْدِي, وَأَنَّ تَقْدِيرَهَا: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ تَرْتِيبُ الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فِي نَسَقِهَا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَهَذَا الْفَصْلُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى سُقُوطِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُهُ الْحَرَجَ, وَهُوَ الضِّيقُ فِيمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ, وَفِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ إثْبَاتٌ لِلْحَرَجِ وَنَفْيُ التَّوْسِعَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مُرَادَهُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ, وَوُجُودُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ التَّرْتِيبِ كَهُوَ مَعَ وُجُودِهِ; إذْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى الْغَسْلَ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: نَحْنُ نُسَلِّمُ لَك أَنَّ "الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ, وَلَكِنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ إيجَابَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ, وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ, فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لَزِمَ بِحُكْمِ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَلِي حَالَ الْقِيَامِ إلَيْهَا غَسْلَ الْوَجْهِ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ, فَلَزِمَ بِهِ تَقْدِيمُ غَسْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ, وَإِذَا لَزِمَ التَّرْتِيبُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ لَزِمَ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَقْتَضِي إيجَابَ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُ شَرْطًا فِيهِ فَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْقِيَامِ وَأَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ, فَفِيهِ ضَمِيرٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ; وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ; إذْ كَانَ مَجَازًا; فَإِذًا لَا يَصِحُّ إيجَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ مُرَتَّبًا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ لِأَجْلِ إدْخَالِ الْفَاءِ عَلَيْهِ; إذ

كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْغَسْلُ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلَالَةِ; فَهَذَا وَجْهٌ يَسْقُطُ بِهِ سُؤَالُ هَذَا السَّائِلِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ نُسَلِّمَ لَهُمْ جَوَازَ اعْتِبَارِ هَذَا اللَّفْظِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ التَّرْتِيبِ, فَنَقُولُ لَهُمْ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ "الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ مُرَتَّبًا عَلَى الْقِيَامِ وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِهِ الْوَجْهُ دُونَ سَائِرِهَا; إذْ كَانَتْ "الْوَاوُ" لِلْجَمِيعِ, فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَطَفَ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِالْفَاءِ عَلَى حَالِ الْقِيَامِ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ, بَلْ تَقْتَضِي إسْقَاطَ التَّرْتِيبِ. وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ التَّرْتِيبِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] وَمَعْنَاهُ: مُطَهِّرًا; فَحَيْثُمَا وُجِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا مُسْتَوْفِيًا لِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا; وَمُوجِبُ التَّرْتِيبِ قَدْ سَلَبَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا مَعَ وُجُودِ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَهُ, وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ وَقَالَ لَهُ: "إنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ" ذَكَرَ الْحَدِيثَ; فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ أَجْزَأَهُ, وَمَوَاضِعُ الْوُضُوءِ الْأَعْضَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ, فَأَجَازَ الصَّلَاةَ بِغَسْلِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّرْتِيبِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ يُوجِبُ كَمَالَ طَهَارَتِهِ لِوَضْعِهِ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُرَتِّبْ فَلَمْ يَضَعْ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مَعْلُومَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ, فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ الْغَسْلُ فَقَدْ وَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ فَيُجْزِيهِ بِحُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِكْمَالِ طَهَارَتِهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ طَهَارَتِهِ لَوْ بَدَأَ مِنْ الْمِرْفَقِ إلَى الزَّنْدِ, وَقَالَ تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ فِيمَا هُوَ مُرَتَّبٌ فِي مُقْتَضَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَمَا لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ تَرْتِيبَهُ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ, وَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إلَى ذِكْرِ عِلَّةٍ يَجْمَعُهَا; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ لَيْسَ التَّرْتِيبَ; إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَا اقْتَضَى اللَّفْظُ تَرْتِيبَهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا. وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ, فَلَمَّا سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي أَحَدِهِمَا وَجَبَ سُقُوطُهُ فِي الْآخَرِ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ سُقُوطُهَا مَعَ ثُبُوتِ فَرْضِ الْأُخْرَى, كَانَ كَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ لِجَوَازِ سُقُوطِ فَرْضِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِعِلَّةٍ بِهِمَا مَعَ لُزُومِ فَرْضِ غَسْلِ الْوَجْهِ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَسْتَحِلْ جَمْعُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فِي الْغَسْلِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ.

فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ". قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا هُوَ حَدِيثُ زيد العمي عن معاوية بن قرة عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ" ثُمَّ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ, وَذَكَرَ الْحَدِيثَ, فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مُرَتَّبًا; وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَأَ بِالذِّرَاعَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ أَوْ بِمَسْحِ الرَّأْسِ قَبْلَهُ, وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ مُرَتَّبًا لَمْ يُمْكِنْهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِرِوَايَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ تَرْكَ التَّرْتِيبِ مَعَ قَوْلِك إنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِعْلُهُ مُرَتَّبًا؟ قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يُتْرَكَ الْمُسْتَحَبُّ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُبَاحٌ, وَمَعَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ غَيْرَ مُرَتَّبٍ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ, كَمَا أَنَّهُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي حَالٍ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَالْمُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُرَتَّبًا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ غَيْرَ مُرَتَّبٍ وَاجِبًا, لِقَوْلِهِ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ". قِيلَ لَهُ: لَوْ قَبِلْنَا ذَلِكَ وَقُلْنَا مَعَ ذَلِكَ إنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِ عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ لَكُنَّا أَجَزْنَاهُ مُرَتَّبًا بِدَلَالَةٍ تُسْقِطُ سُؤَالَك, وَلَكُنَّا نَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ: "هَذَا وُضُوءُ" إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ إلَى الْغَسْلِ دُونَ التَّرْتِيبِ, فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّرْتِيبِ فِيهِ مَدْخَلٌ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الصَّفَا وَقَالَ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ بِهِ وَاللَّفْظِ جَمِيعًا. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ "الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُوجِبُهُ لَمَا احْتَاجَ إلَى تَعْرِيفِهِ الْحَاضِرِينَ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَيْفَ بِهِ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَمَّا يُرِيدُ فِعْلَهُ مِنْ التَّبْدِئَةِ بِالصَّفَا, وَإِخْبَارُهُ عَمَّا يُرِيدُ فِعْلَهُ لَا يَقْتَضِي وُجُوبًا, كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ; وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى الْإِيجَابَ لَكَانَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ وَفِعْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" إخْبَارٌ بِأَنَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَبْدُوٌّ بِهِ فِي الْمَعْنَى, لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" إنَّمَا أَرَادَ التَّبْدِئَةَ بِهِ فِي الْفِعْلِ, فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إخْبَارًا بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَدَأَ بِهِ فِي الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ بَدَأَ بِهِ فِي اللَّفْظِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: نَبْدَأُ بِالْفِعْلِ فِيمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي اللَّفْظِ, فَيَكُونُ كَلَامًا صَحِيحًا مُفِيدًا. وَأَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا أَنْ يُرِيدَ بِتَرْتِيبِ اللَّفْظِ تَرْتِيبَ الْفِعْلِ, إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ, أَلَا تَرَى أَنَّ "ثُمَّ" حَقِيقَتُهَا التَّرَاخِي, وَقَدْ تَرِدُ وَتَكُونُ فِي مَعْنَى "الْوَاوِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] وَمَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ

آمَنُوا; وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس:46] وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ; وَكَمَا تَجِيءُ "أَوْ" بِمَعْنَى "الْوَاوِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] وَمَعْنَاهُ: إنْ يَكُنْ غَنِيًّا وَفَقِيرًا; فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِالْوَاوِ التَّرْتِيبَ فَتَكُونَ مَجَازًا وَلَا يَجُوزُ حملها عليه إلا بدلالة.

مطلب: فِي جَوَابِ ابْنِ عَبَّاس السَّائِلَ عَنْ تَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَإِنْ قِيلَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَأْمُرُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ: كَيْفَ تَقْرَءُونَ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ؟ قَالُوا: الْوَصِيَّةُ, قَالَ: فَبِأَيِّهِمَا تَبْدَءُونَ؟ قَالُوا: بِالدَّيْنِ, قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ. فَلَوْلَا أَنَّ فِي لِسَانِهِمْ التَّرْتِيبَ فِي الْفِعْلِ عَلَى حَسَبِ وُجُودِهِ فِي اللَّفْظِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِ هَذَا السَّائِلِ وَهُوَ قَدْ جَهِلَ مَا فِيهِ التَّرْتِيبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ, وَهُوَ قَوْلُهُ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَهَذَا اللَّفْظُ لَا مَحَالَةَ يُوجِبُ تَرْتِيبَ فِعْلِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَتَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ, فَمَنْ جَهِلَ هَذَا لَمْ يُنْكَرْ مِنْهُ الْجَهْلُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَمَا يَدْرِي هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ, وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ; وَأَيُّهُمَا أَوْلَى قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبَ الْفِعْلِ, أَوْ قَوْلُ هَذَا السَّائِلِ؟ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي إسْقَاطِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ إلَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ كَافِيًا مُغْنِيًا. فَإِنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" , وَقَالَ تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17, 18] فَقَوْلُهُ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" أَمْرٌ يَقْتَضِي التَّبْدِئَةَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ, وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] لُزُومٌ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِهِ مُرَتَّبًا إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ كَذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُهُ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" فَإِنَّمَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا, وَحَفِظَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ السَّبَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" , وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُمَا حَدِيثَيْنِ وَنُثْبِتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْلَ فِي حَالَيْنِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَنَحْنُ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ, وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِينَا فِي مُرَادِ اللَّهِ مِنْ التَّبْدِئَةِ بِالْفِعْلِ إذَا بَدَأَ بِهِ فِي اللَّفْظِ, فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ حَتَّى نَبْدَأَ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] لِأَنَّ اتِّبَاعَ قُرْآنِهِ أَنْ نَبْدَأَ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ, وَوَاجِبٌ أَنْ نَبْدَأَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ مِنْ تَرْتِيبٍ أَوْ

جَمْعٍ وَغَيْرِهِ; وَأَنْتَ مَتَى أَوْجَبْت التَّرْتِيبَ فِيمَا لَا يَقْتَضِي الْمُرَادُ تَرْتِيبَهُ فَلَمْ تَتَّبِعْ قُرْآنَهُ, وَتَرْتِيبُ اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبَ الْفِعْلِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِلتَّأْلِيفِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا فَوَاجِبٌ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ. قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْمَتْلُوِّ حُكْمًا كَانَ أَوْ خَبَرًا, فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي تِلَاوَتِهِ; فَأَمَّا مُرَادُ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ إيجَابُ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ قَدْ نَزَلَ بِأَحْكَامٍ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَهُ أَحْكَامٌ أُخَرُ وَلَمْ يُوجِبْ تَقْدِيمُ تِلَاوَتِهِ تَقْدِيمَ فِعْلِهِ عَلَى مَا نَزَلَ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّوَرِ وَالْآيِ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ, وَلَيْسَ يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْتِيبَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا حَسَبَ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ, فَبَانَ بِذَلِكَ سُقُوطُ هَذَا السُّؤَالِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أُثْبِتَ التَّرْتِيبُ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ" قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا, فَأَثْبَتَهَا بِالْأُولَى وَلَمْ تُوقَعْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ, فَجُعِلَتْ" الْوَاوُ" مُرَتَّبَةً بِحُكْمِ اللَّفْظِ, فَكَذَلِكَ قَوْله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يَلْزَمُك إيجَابُ التَّرْتِيبِ فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ حَسَبَ مَا فِي نِظَامِ التِّلَاوَةِ مِنْ التَّرْتِيبِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُوقِعْ الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرْت مِنْ كَوْنِ "الْوَاوِ" مُقْتَضِيَةً لِلتَّرْتِيبِ, وَإِنَّمَا أَوْقَعْنَا الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهَا غَيْرَ مُعَلَّقَةٍ بِشَرْطٍ وَلَا مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ, وَحُكْمُ الطَّلَاقِ إذَا حَصَلَ هَكَذَا أَنْ يَقَعَ غَيْرَ مُنْتَظَرٍ بِهِ حَالٌ أُخْرَى, فَلَمَّا وَقَعَتْ الْأُولَى لِأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ بِهَا فِي اللَّفْظِ ثُمَّ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْهَا الثَّانِيَةُ وَلَيْسَتْ هِيَ بِزَوْجَةٍ فَلَمْ تَلْحَقْهَا; وَأَمَّا قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فَلَمْ يَقَعْ بِهِ غَسْلُ الْوَجْهِ قَبْلَ الْيَدِ وَلَا الْيَدِ قَبْلَ الْمَسْحِ; لِأَنَّ غَسْلَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَا يُغْنِي وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ, فَصَارَ غَسْلُ الْجَمِيعِ مُوجَبًا مَعًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ, فَلَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ التَّرْتِيبَ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي وَالثَّالِثَ بِشَرْطٍ فَقَالَ: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ" لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِالدُّخُولِ؟ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا شَرَطَهُ فِي الْأُخْرَى مِنْ الدُّخُولِ, كَمَا شَرَطَ فِي غَسْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأُخَرَ; وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: "إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فَدَخَلَتْ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الْأُولَى أَنَّهَا تَطْلُقُ, وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: "هَذِهِ وَهَذِهِ" مُوجِبًا لِتَقْدِيمِ الْأُولَى فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ" وَ "ثُمَّ" تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بِلَا خِلَافٍ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَكَذِّبًا أَوْ جَاهِلًا, وَأَكْثَرُ ظَنِّي أن قائله

فِيهِ مُتَكَذِّبٌ وَقَدْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ; لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ, وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْتِيبِ وَعَطْفُ الْأَعْضَاءِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِ "ثُمَّ" وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ: "يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ" وَقَالَ فِي بَعْضِهَا: "حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ" وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ تَرْكِ التَّرْتِيبِ, وَأَمَّا عَطْفُهُ بِ "ثُمَّ" فَمَا رَوَاهُ أَحَدٌ وَلَا ذَكَرَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَلَا قَوِيٍّ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَإِيجَابِ نَسْخِهِ, فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إيجَابُ التَّرْتِيبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لما وصفنا

بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْجَنَابَةُ اسْمٌ شَرْعِيُّ يُفِيدُ لُزُومَ اجْتِنَابِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَمَنْ كَانَ مَأْمُورًا بِاجْتِنَابِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الِاغْتِسَالِ فَهُوَ جُنُبٌ, وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ أَوْ الْإِيلَاجِ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ مِنْ الْإِنْسَانِ, وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ. وَيَنْفَصِلُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَحْظُرَانِ مَا تَحْظُرُهُ الْجَنَابَةُ مِمَّا قَدَّمْنَا, بِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يَحْظُرَانِ الْوَطْءَ أَيْضًا, وَوُجُودُ الْغُسْلِ لَا يُطَهِّرُهُمَا أَيْضًا مَا دَامَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ, وَالْغُسْلُ يُطَهِّرُ الْجُنُبَ وَلَا تَحْظُرُ عَلَيْهِ الْجَنَابَةُ الْوَطْءَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ جُنُبًا لِمَا لَزِمَ مِنْ اجْتِنَابِ مَا وَصَفْنَا إلَى أَنْ يَغْتَسِلَ فَيُطَهِّرَهُ الْغُسْلُ. وَالْجُنُبُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ, كَمَا قَالُوا" رَجُلٌ عَدْلٌ وَقَوْمٌ عَدْلٌ" وَ" رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْلٌ زُورٌ" مِنْ الزِّيَارَةِ, وَتَقُولُ مِنْهُ: "أَجْنَبَ الرَّجُلُ وَتَجَنَّبَ وَاجْتَنَبَ" وَالْمَصْدَرُ الْجَنَابَةُ وَالِاجْتِنَابُ; فَالْجَنَابَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ الْبُعْدُ وَالِاجْتِنَابُ لِمَا وَصَفْنَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] يَعْنِي: الْبَعِيدَ مِنْهُ نَسَبًا; فَصَارَتْ الْجَنَابَةُ فِي الشَّرْحِ اسْمًا لِلُزُومِ اجْتِنَابِ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْأُمُورِ, وَأَصْلُهُ التَّبَاعُدُ عَنْ الشَّيْءِ, وَهُوَ مِثْلُ الصَّوْمِ قَدْ صَارَ اسْمًا فِي الشَّرْعِ لِلْإِمْسَاكِ عَنْ أَشْيَاءَ مَعْلُومَةٍ وَقَدْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكَ فَقَطْ وَاخْتُصَّ فِي الشَّرْعِ بِمَا قَدْ عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَيْهِ, وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ اللُّغَةِ إلَيْهَا, فَكَانَ الْمَعْقُولُ بِهَا مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا فِي الشَّرْعِ; فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ السِّمَةُ الطَّهَارَةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . وَقَالَ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] رُوِيَ أَنَّهُمْ أَصَابَتْهُمْ جَنَابَةٌ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَطَرًا فَأَزَالُوا بِهِ أَثَرَ الِاحْتِلَامِ. وَالْمَفْرُوضُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ إيصَالُ الْمَاءِ بِالْغُسْلِ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ مِنْ بَدَنِهِ, لعموم قوله: {فَاطَّهَّرُوا} . وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْنُونَ الْغُسْلِ, فِيمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: وَضَعْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا1 يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ, فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا, ثُمَّ صَبَّ عَلَى فَرْجِهِ بِشِمَالِهِ, ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَغَسَلَهَا, ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ, ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ, ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ, فَنَاوَلْته الْمِنْدِيلَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ عَنْ جَسَدِهِ وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَالْوُضُوءُ لَيْسَ بِفَرْضٍ فِي الْجَنَابَةِ, لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وَإِذَا اغْتَسَلَ فَقَدْ تَطَهَّرَ وَقَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] إلَى قَوْلُهُ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَأَبَاحَ الصَّلَاةَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ; فَمَنْ شَرَطَ فِي صِحَّتِهِ مَعَ وُجُودِ الْغُسْلِ وُضُوءًا فَقَدْ زَادَ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا, وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ مَنْ قَامَ إلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: فَالْجُنُبُ حِينَ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ فَهُوَ غَاسِلٌ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ مُغْتَسِلٌ, فَهُوَ إنْ لَمْ يُفْرِدْ الْوُضُوءَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ فَقَدْ أَتَى بِالْغُسْلِ عَلَى الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْغُسْلِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ; لِأَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ: "هُمَا فَرْضٌ فِيهِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَيْسَا بِفَرْضٍ فِيهِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} عُمُومٌ فِي إيجَابِ تَطْهِيرِ سَائِرِ مَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ مِنْ الْبَدَنِ, فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَنْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ وَلَمْ يَسْتَنْشِقْ يُسَمَّى مُتَطَهِّرًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِبَعْضِ جَسَدِهِ, وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ

_ 1 قوله: "غسلا" بالضم هو الماء الذي يتطهر به وبالكسر ما يغسل به الرأس من سدر ونحوه. "لمصححه".

الْجَمِيعِ, فَلَا يَكُونُ بِتَطْهِيرِ الْبَعْضِ فَاعِلًا لِمُوجِبِ عُمُومِ اللَّفْظِ, أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] عُمُومٌ فِي سَائِرِهِمْ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ قَدْ يَتَنَاوَلُ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ؟ كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ حُكْمِ آيَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ; إذْ كَانَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ, فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَاطَّهَّرُوا} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ على بعضه.

مطلب: يجب اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرُهُمَا فَائِدَةً فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] يَقْتَضِي جَوَازَهُ مَعَ تَرْكِهَا لِوُقُوعِ اسْمِ الْمُغْتَسِلِ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: إذا كان قوله: {فَاطَّهَّرُوا} يَقْتَضِي تَطْهِيرَ دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرُهُمَا فَائِدَةً, وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى أَخَصِّهِمَا حُكْمًا; إذْ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ يُسَمَّى مُغْتَسِلًا أَيْضًا؟ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الِاغْتِسَالَ نَفْيٌ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ عَنْ مَالِك بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا الْبَشَرَةَ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّارِ" قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بْنُ النَّضْرِ بْنِ بَحْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَابُورٍ وَالْعُمَرِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "تَحْتَ كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة" فَفِيهِ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَنْفَ فِيهِ شَعْرٌ وَبَشَرَةٌ وَالْفَمُ فِيهِ بَشَرَةٌ فَاقْتَضَى الْخَبَرُ وُجُوبَ غَسْلِهِمَا, وَحَدِيثُ عَلِيٍّ أَيْضًا يُوجِبُ غَسْلَ دَاخِلِ الْأَنْفِ لِأَنَّ فِيهِ شَعْرًا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعَيْنَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا شَعْرٌ. قِيلَ لَهُ: هُوَ شَاذٌّ نَادِرٌ, وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ, وَلَا حُكْمَ لِلشَّاذِّ النَّادِرِ فِيهَا; وَعَلَى أَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ, وَالْعُمُومُ سَالِمٌ لَنَا فِيمَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُدْخِلُ الْمَاءَ عَيْنَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ, وَقَدْ كَانَ مُصَعِّبًا عَلَى نَفْسِهِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ يَفْعَلُ فِيهَا مَا لَا يَرَاهُ

وَاجِبًا, قَدْ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ; وَحَدِيثُ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ نَصَّ عَلَى إيجَابِهَا فَرْضًا. فَإِنْ قِيلَ: ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الثَّلَاثَ فَرْضًا, وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ. قِيلَ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الثَّلَاثِ فَرْضًا, وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الِاثْنَيْنِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيمَا وَرَاءَهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ غَسْلُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِمَّا يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ, بِدَلَالَةِ أَنَّ عَلَيْهِ إبْلَاغَ الْمَاءِ أُصُولَ الشَّعْرِ لِأَنَّهَا يَلْحَقُهَا حُكْمُ التَّطْهِيرِ لَوْ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ, فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ تَطْهِيرُ دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ أَصَابَ دَاخِلَ عَيْنَيْهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ تَطْهِيرُهَا, هَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ; وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ بَشَرَةٌ, وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي الْجَنَابَةِ تَطْهِيرُ الْبَشَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ دَاخِلُ الْعَيْنَيْنِ بَاطِنًا وَلَمْ يَلْزَمْ تَطْهِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ دَاخِلِ الْأَنْفِ وَالْفَمِ. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ صَارَ1 دَاخِلُ الْعَيْنَيْنِ بَاطِنًا؟ فَإِنْ أَرَدْت بِهِ أَنَّهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا الْجَفْنُ, فَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْإِبِطَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا الْعَضُدُ وَلَا خِلَافَ فِي لُزُومِ تَطْهِيرِهِمَا فِي الْجَنَابَةِ. وَلَا يَلْزَمُنَا إيجَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ لِأَجْلِ إيجَابِنَا لَهُمَا فِي الْجَنَابَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ إنَّمَا اقْتَضَتْ غَسْلَ الْوَجْهِ, وَالْوَجْهُ هُوَ مَا وَاجَهَك, فَلَمْ يَتَنَاوَلْ دَاخِلَ الْأَنْفِ وَالْفَمِ, وَالْآيَةُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ قَدْ أَوْجَبَتْ تَطْهِيرَ سَائِرِ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ خُصُوصٍ, فَاسْتَعْمَلْنَا الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا وَرَدَتَا. وَالْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ, بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا فِيهِ إبْلَاغُ الْمَاءِ أُصُولَ الشَّعْرِ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ تَطْهِيرُ الْفَمِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ, وَفِي الْجَنَابَةِ عَلَيْهِ غَسْلُ الْبَاطِنِ مِنْ الْبَشَرَةِ بِدَلَالَةِ أَنَّ عَلَيْهِ إبْلَاغَ الْمَاءِ أُصُولَ الشَّعْرِ; وَبِهَذَا نُجِيبُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ, وَخَمْسٌ فِي الْبَدَنِ" فَذَكَرَ فِي الرَّأْسِ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ, فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَنُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنابة بما ذكرنا; والله أعلم

_ 1 قوله: "وكيف صار" إلى آخره. مراد الص من هذا الجواب أن داخل العينين ليس من الباطن وغنما سقط غسله لأنه لا يلحقه حكم التطهير لما فيه من الحرج. "لمصححه".

بَابُ التَّيَمُّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ

لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ بَيَانَ حُكْمِ الْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ, وَحُكْمِ الْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ إذَا كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ; لِأَنَّ الْغَائِطَ هُوَ اسْمٌ لِلْمُنْخَفِضِ مِنْ الْأَرْضِ, وَكَانُوا يَقْضُونَ الْحَاجَةَ هُنَاكَ, فَجُعِلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحَدَثِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء لِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ دَلَّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} عَلَى إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِسَائِرِ الْمَرْضَى بِحَقِّ الْعُمُومِ, لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْمَرْضَى; فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ: "أَنَّهُ الْمَجْدُورُ وَمَنْ يَضُرُّهُ الْمَاءُ" وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. وَإِبَاحَةُ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ بِعَدَمِ الْمَاءِ بَلْ هِيَ مُضَمَّنَةٌ بِخَوْفِ ضَرَرِ الْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ عَدَمِ الْمَاءِ, وَعَدَمُ الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ لِلْمُسَافِرِ دُونَ الْمَرِيضِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَدَمُ الْمَاءِ شَرْطًا فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْمَرِيضِ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُبِيحَةَ لِلتَّيَمُّمِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ بِهِ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لَوْ كَانَتْ عَدَمَ الْمَاءِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْمَرِيضِ مَعَ ذِكْرِ عَدَمِ الْمَاءِ فَائِدَةٌ; إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْمَرَضِ فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ وَلَا مَنْعِهِ; إذْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِعَدَمِ الْمَاءِ.. فَإِنْ قِيلَ: إذَا جَازَ أَنْ يُذْكَرَ حَالُ السَّفَرِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ مُتَعَلِّقًا بِعَدَمِ الْمَاءِ دُونَ السَّفَرِ; إذْ لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمَا أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ, لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ إبَاحَةُ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ مَوْقُوفَةً عَلَى حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُسَافِرَ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ فِي الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ, فَإِنَّمَا ذُكِرَ السَّفَرُ إبَانَةً عَنْ الْحَالِ الَّتِي يُعْدَمُ الْمَاءُ فِيهَا فِي الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ, كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ حَتَّى يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ" وَلَيْسَ الْمَقْصِدُ فِيهِ أَنْ يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ فَحَسْبُ لِأَنَّهُ لَوْ آوَاهُ بَيْتٌ أَوْ دَارٌ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ, وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بُلُوغُ حَالِ الِاسْتِحْكَامِ وَامْتِنَاعِ إسْرَاعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ وَإِيوَاءِ الْحِرْزِ, لِأَنَّ الْجَرِينَ الَّذِي يَأْوِيهِ حِرْزٌ وَكَمَا قَالَ: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ" وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْمَخَاضِ بِأُمِّهَا, وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا حَوْلٌ وَصَارَتْ فِي الثَّانِي; لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ فِي الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ, فَكَانَ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْمُسَافِرِ مَعَ شَرْطِ عَدَمِ الْمَاءِ مَا وَصَفْنَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَرِيضُ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِعَدَمِ الْمَاءِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ مَا يَلْحَقُ مِنْ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ. وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ فِي كُلِّ حَالٍ لَوْلَا مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ وَاتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَا يُبِيحُ لَهُ

التَّيَمُّمَ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "وَمَنْ خَافَ بَرْدَ الْمَاءِ إنْ اغْتَسَلَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِمَا يَخَافُ مِنْ الضَّرَرِ". وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ, فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَضَرُ مِثْلَهُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ; وَكَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْمَرَضِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ كَذَلِكَ حُكْمُ خَوْفِ ضَرَرِ الْمَاءِ لِأَجْلِ الْبَرْدِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فَإِنَّ "أَوْ" هَهُنَا بِمَعْنَى "الْوَاوِ", تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَا مُحْدِثَيْنِ وَلَزِمَهُمَا فَرْضُ الصَّلَاةِ, وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ قَوْلَهُ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بِمَعْنَى "الْوَاوِ" لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْجَائِي مِنْ الْغَائِطِ ثَالِثًا لَهُمَا غَيْرُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ, فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مُتَعَلِّقًا بِالْحَدَثِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ لَا يَلْزَمُهُمَا التَّيَمُّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُحْدِثَيْنِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بِمَعْنَى: وَجَاءَ أَحَدُكُمْ, كَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] مَعْنَاهُ: وَيَزِيدُونَ, وَكَقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] وَمَعْنَاهُ: غَنِيًّا وَفَقِيرًا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي مَعْنَى الْمُلَامَسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى وَالْحَسَنُ وَعُبَيْدَةُ وَالشَّعْبِيُّ: "هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ" وَكَانُوا لَا يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ لِمَنْ مَسَّ امْرَأَتَهُ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "الْمُرَادُ اللَّمْسُ بِالْيَدِ" وَكَانَا يُوجِبَانِ الْوُضُوءَ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ وَلَا يَرَيَانِ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ. فَمَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجِمَاعِ لَمْ يُوجِبْ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ, وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُجِزْ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّ امْرَأَةً لِشَهْوَةٍ مَسَّهَا أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إنْ مَسَّهَا لِشَهْوَةٍ تَلَذُّذًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَكَذَلِكَ إنْ مَسَّتْهُ تَلَذُّذًا فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ", وَقَالَ: "إنْ مَسَّ شَعْرَهَا تَلَذُّذًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِذَا قَالَ لَهَا شَعْرُك طَالِقٌ طَلُقَتْ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إنْ قَبَّلَ لِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إنْ مَسَّهَا فَوْقَ الثِّيَابِ تَلَذُّذًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا مَسَّ جَسَدَهَا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَمْسَهَا لَيْسَ بِحَدَثٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ, مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقبل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ, كَمَا روي: أنه

كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِمٌ. وَقَدْ رُوِيَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ قَبَّلَ خِمَارَهَا وَثَوْبَهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; إذْ حَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاشَرَ جِلْدَهَا حَيْثُ قَبَّلَهَا, وَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ يَكُونُ قُبْلَةً لِخِمَارِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْلِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْشَةِ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُنَّ مَسْتُورَاتٍ عَنْهُ لَا يُصِيبُ مِنْهَا إلَّا الْخِمَارَ. وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا طَلَبَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً, قَالَتْ: فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِعَفْوِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِرِضَاك مِنْ سَخَطِك". فَلَوْ كَانَ مَسُّ الْمَرْأَةِ حَدَثًا لَمَا مَضَى فِي سُجُودِهِ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِ السُّجُودِ. وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ, فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا, وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَمَلَهَا; وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ وُقُوعِ يَدِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِحَدَثٍ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ اللَّمْسَ حَدَثًا لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ, وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى مَنْ اعْتَبَرَ اللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ; لِأَنَّهُ حِكَايَةُ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ فِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ لِشَهْوَةٍ, وَمَسُّهُ أُمَامَةَ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ. وَاَلَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ عُمُومُ الْبَلْوَى بِمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ, وَالْبَلْوَى بِذَلِكَ أَعَمُّ مِنْهَا بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَنَحْوِهِمَا, فَلَوْ كَانَ حَدَثًا لَمَا أَخْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ مِنْ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ وَحَاجَتِهِمْ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ, وَلَا جَائِزَ فِي مِثْلِهِ الِاقْتِصَارُ بِالتَّبْلِيغِ إلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ; فَلَوْ كَانَ مِنْهُ تَوْقِيفٌ لَعَرَفَهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ; فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ, دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لَهُمْ عَلَيْهِ, وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك مِثْلُهُ لِخَصْمِك لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وُضُوءٌ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْهُ كَمَا يَجِبُ فِي إثْبَاتِهِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ, فَجَائِزٌ أَنْ يَتْرُكَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ مِنْ نَفْيِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ, وَمَتَى شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ إيجَابَ الْوُضُوءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتْرُكَهُمْ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ إيجَابِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ إقْرَارَهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا تَعَبَّدُوا بِهِ, فَلَمَّا وَجَدْنَا قَوْمًا مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَعْرِفُوا الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَوْقِيفٌ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ تَوْقِيفٌ فِي حَالِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِمَا فِي ظَاهِرِ

الْكِتَابِ مَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَحَقِيقَتُهُ هُوَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْجَسَدِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ, بَلْ فِيهِمَا احْتِمَالٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا; وَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ بِهَا; فَلَيْسَ إذًا فِيهَا تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَأَيْضًا اللَّمْسُ يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى, وَيَحْتَمِلُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ; فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ, أَبَانَ ذَلِكَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَوَجْهٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِمَاعُ وَهُوَ أَنَّ اللَّمْسَ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً لِلْمَسِّ بِالْيَدِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَطْءَ, كَمَا أَنَّ الْوَطْءَ حَقِيقَتُهُ الْمَشْيِ بِالْأَقْدَامِ فَإِذَا أُضِيفَ إلَى النِّسَاءِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ غَيْرُ الْجِمَاعِ, كَذَلِكَ هَذَا; وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُجَامِعُوهُنَّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ, وَمَتَى وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمٌ يَنْتَظِمُهُ لَفْظُ الْآيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ, كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ السَّارِقَ وَكَانَ فِي الْكِتَابِ لَفْظٌ يَقْتَضِيهِ كَانَ قَطْعُهُ مَعْقُولًا بِالْآيَةِ, وَكَسَائِرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعُ انْتَفَى مِنْهُ مَسُّ الْيَدِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: اتِّفَاقُ السَّلَفِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا مُوسَى لَمَّا تَأَوَّلُوهُ عَلَى الْجِمَاعِ لَمْ يُوجِبُوا نَقْضَ الطَّهَارَةِ بِلَمْسِ الْيَدِ, وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا تَأَوَّلَاهُ عَلَى اللَّمْسِ لَمْ يُجِيزَا لِلْجُنُبِ التَّيَمُّمَ, فَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمُرَادَ هُمَا جَمِيعًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اتِّفَاقِهِمْ وَخَالَفَ إجْمَاعَهُمْ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ قُبْلَةَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِالْآيَةِ, بَلْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ; فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِأَنَّ اللَّمْسَ لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى الْيَدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَيْضًا بِالْقُبْلَةِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْمُعَانَقَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ وَنَحْوِهَا. وَوَجْهٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِالْآيَةِ, وَهُوَ أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ إنَّمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ عِنْدَ مُخَالِفِينَا, وَالْجِمَاعُ يُوجِبُ الْغُسْلَ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِعُمُومٍ وَاحِدٍ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِيمَا انْتَظَمَهُ; أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لَمَّا كَانَ لَفْظَ عُمُومٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَظِمَ السَّارِقِينَ لَا يُقْطَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا فِي عَشَرَةٍ وَيُقْطَعُ الْآخَرُ فِي خَمْسَةٍ؟ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِمَاعَ مُرَادٌ بِمَا وَصَفْنَا وَهُوَ يُوجِبُ الْغُسْلَ انْتَفَى دُخُولُ اللَّمْسِ بِالْيَدِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مُوجِبِ اللَّفْظِ فِي إرَادَتِهِ الْجِمَاعَ وَاللَّمْسَ بِالْيَدِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا التَّيَمُّمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ وَالْأَصْلُ هُوَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ,

وَمُحَالٌ إيجَابُ التَّيَمُّمِ إلَّا وَقَدْ وَجَبَ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَهُوَ بَدَلٌ فِيهَا, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ الْمَذْكُورُ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَمُوجِبًا لِلْغُسْلِ فِي أُخْرَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّيَمُّمَ وَإِنْ كَانَ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ مُخْتَلِفٌ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنُوبُ عَنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَالْآخَرُ عَنْ غَسْلِ بَعْضِهَا, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ, فَمَتَى وَجَبَ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ بِأَنْ قَالَ هُوَ الْجِمَاعُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ. وَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إرَادَتِهِمَا أَنَّ اللَّمْسَ مَتَى أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ كَانَ اللَّفْظُ كِنَايَةً, وَإِذَا أُرِيدَ مِنْهُ اللَّمْسُ بِالْيَدِ كَانَ صَرِيحًا; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: "اللَّمْسُ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَكِنَّهُ كُنِّيَ" وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ كِنَايَةٌ صَرِيحًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَمْتَنِعُ ذَلِكَ, وَهُوَ أَنَّ الْجِمَاعَ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةٌ مَجَازًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكُونُ عُمُومًا فِي اللَّمْسِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْجِمَاعُ أَيْضًا مَسًّا وَيَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِمَا جَمِيعًا؟ قِيلَ لَهُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ, وَهُمَا أَعْلَمُ بِاللُّغَةِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ, فَبَطَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ اللَّمْسَ صَرِيحٌ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالْآخَرُ: مَا بَيَّنَّا مِنْ امْتِنَاعِ عُمُومٍ وَاحِدٍ مُقْتَضِيًا لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِيمَا دَخَلَا فِيهِ وَلِأَنَّ اللَّمْسَ إذَا أُرِيدَ بِهِ مُمَاسَّةٌ فِي الْجَسَدِ فَقَدْ حَصَلَ نَقْضُ الطَّهَارَةِ وَوَجَبَ التَّيَمُّمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ بِمَسِّهِ إيَّاهَا قَبْلَ حُصُولِ الْجِمَاعِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَحْصُلَ جِمَاعٌ إلَّا وَيَحْصُلُ قَبْلَهُ لَمْسٌ لِجَسَدِهَا, فَلَا يَكُونُ الْجِمَاعُ حِينَئِذٍ مُوجِبًا لِلتَّيَمُّمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ لِوُجُوبِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَسِّ جَسَدِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجِمَاعُ دُونَ لَمْسِ الْيَدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} أَبَانَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْحَدَثِ فِي حَالِ وُجُودِ الْمَاءِ, ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَأَعَادَ ذِكْرَ حُكْمِ الْحَدَثِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} عَلَى الْجَنَابَةِ لِتَكُونَ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةً لَهُمَا مُبَيِّنَةً لِحُكْمِهِمَا فِي حَالِ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ, وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ لَكَانَ ذِكْرُ التَّيَمُّمِ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْحَدَثِ دُونَ الْجَنَابَةِ غَيْرُ مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء, وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى فَائِدَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِمَاعُ انْتَفَى اللَّمْسُ بِالْيَدِ, لِمَا بَيَّنَّا مِنْ امْتِنَاعِ إرَادَتِهِمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا حُمِلَ عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ كَانَ مُفِيدًا لِكَوْنِ اللَّمْسِ حَدَثًا, وَإِذَا جُعِلَ

مَقْصُورًا عَلَى الْجِمَاعِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ; فَالْوَاجِبُ عَلَى قَضِيَّتِك فِي اعْتِبَارِ الْفَائِدَتَيْنِ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا, وَيُفِيدُ كَوْنَ اللَّمْسِ حَدَثًا وَيُفِيدُ أَيْضًا جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لِمَا ذَكَرْت مِنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُرَادَا وَلِامْتِنَاعِ كَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا حَقِيقَةً أَوْ كِنَايَةً وَصَرِيحًا فَقَدْ سَاوَيْنَاك فِي إثْبَاتِ فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ بِحَمْلِهِ عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ مَعَ اسْتِعْمَالِنَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فِيهِ, فَمَا جَعْلُك إثْبَاتَ فَائِدَةٍ مِنْ جِهَةِ إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ أَوْلَى مِمَّنْ أَثْبَتَ فَائِدَتَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ اللَّمْسِ بِالْيَدِ حَدَثًا؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} مُفِيدٌ لِحُكْمِ الْأَحْدَاثِ فِي حَالِ وُجُودِ الْمَاءِ, وَنَصَّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْجَنَابَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَا فِي نَسَقِ الْآيَةِ مِنْ قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بَيَانًا لِحُكْمِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بَيَانًا لِحُكْمِهِمَا فِي حَالِ وُجُودِهِ, وَلَيْسَ مَوْضُوعُ الْآيَةِ فِي بَيَانِ تَفْصِيلِ الْأَحْدَاثِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي بَيَانِ حُكْمِهَا, وَأَنْتَ مَتَى حَمَلْت اللَّمْسَ عَلَى بَيَانِ الْحَدَثِ فَقَدْ أَزَلْتهَا عَنْ مُقْتَضَاهَا وَظَاهِرِهَا; فَلِذَلِكَ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْجِمَاعِ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إبَاحَةُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ فِي حَالِ عَوَزِ الْمَاءِ, وَالْآخَرُ: أَنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ دُونَ الْإِنْزَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ, فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ كون اللمس حدثا.

مطلب: المفاعلة لا تكون من اثنين إلا في أشياء نادرة وَدَلِيلٌ آخَرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّهَا قَدْ قُرِئَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} و "لمستم", فمن قرأ: "أو لامستم" فَظَاهِرُهُ الْجِمَاعُ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ إلَّا فِي أَشْيَاءَ نَادِرَةٍ, كَقَوْلِهِمْ: "قَاتَلَهُ اللَّهُ" وَ" جَازَاهُ وَعَافَاهُ اللَّهُ" وَنَحْوِ ذَلِكَ, وَهِيَ أَحْرُفٌ مَعْدُودَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا أَغْيَارُهَا; وَالْأَصْلُ فِي الْمُفَاعَلَةِ أَنَّهَا بَيْنَ اثْنَيْنِ, كَقَوْلِهِمْ: "قَاتَلَهُ وَضَارَبَهُ وَسَالَمَهُ وَصَالَحَهُ" وَنَحْوِ ذَلِكَ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا; وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك لَا تَقُولُ "لَامَسْت الرَّجُلَ وَلَامَسْت الثَّوْبَ" إذَا مَسِسْته بِيَدِك لِانْفِرَادِك بِالْفِعْلِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ} بِمَعْنَى: أَوْ جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ, فَيَكُونُ حَقِيقَتُهُ الْجِمَاعَ; وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "أَوْ لَمَسْتُمْ" يَحْتَمِلُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ وَيَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنَى وَاحِدًا; لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنَى وَاحِدًا فَهُوَ الْمُحْكَمُ, وَمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ, وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِحَمْلِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ وَرَدِّهِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ, فَلَمَّا جُعِلَ الْمُحْكَمُ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ فَقَدْ أَمَرَنَا بِحَمْلِهِ عَلَيْهِ,

وَذَمَّ مُتَّبِعَ الْمُتَشَابِهِ بِاقْتِصَارِهِ عَلَى حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ رَدِّهِ إلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: "أَوْ لَمَسْتُمْ" لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ كَانَ مُتَشَابِهًا, وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} لَمَّا كَانَ مَقْصُورًا فِي مَفْهُومِ اللِّسَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ مُحْكَمًا, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قُرِئَتْ الْآيَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْت وَكَانَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وهو قراءة من قرأ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يَحْتَمِلُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ وَيَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ, وَجَبَ أَنْ نَجْعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ لَوْ وَرَدَتَا, إحْدَاهُمَا كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ فَنَسْتَعْمِلُهَا فِيهِ, وَالْأُخْرَى صَرِيحَةٌ فِي اللَّمْسِ بِالْيَدِ خَاصَّةً فَنَسْتَعْمِلُهَا فِيهِ دُونَ الْجِمَاعِ, وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ مُسْتَعْمَلًا عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنْ كِنَايَةٍ أَوْ صَرِيحٍ; إذْ لَا يَكُونُ لَفْظٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةٌ مَجَازًا وَلَا كِنَايَةً صَرِيحًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ, وَنَكُونُ مَعَ ذَلِكَ قَدْ اسْتَعْمَلْنَا حُكْمَ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى فَائِدَتَيْنِ دُونَ الِاقْتِصَارِ بِهِمَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ; لِأَنَّ السَّلَفَ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُرَادِ الْآيَةِ قَدْ عَرَفُوا الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا; لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ لَا تَكُونَانِ إلَّا تَوْقِيفًا مِنْ الرَّسُولِ لِلصَّحَابَةِ عَلَيْهِمَا, وَإِذَا كَانُوا قَدْ عَرَفُوا الْقِرَاءَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَعْتَبِرُوا هَذَا الِاعْتِبَارَ وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِمَا مُوجِبُو الْوُضُوءِ مِنْ اللَّمْسِ عَلِمْنَا بِذَلِكَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ. وَعَلَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَحْمِلُوهُمَا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا, وَحَمَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ لَمْسٍ بِيَدٍ دُونَ الْجِمَاعِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَتَا لَمْ تَقْتَضِيَا بِمَجْمُوعِهِمَا وَلَا بِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا, وَلَمْ يَجْعَلُوهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ إذَا وَرَدَتَا, فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبِهَا. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِجَوَابٍ آخَرَ, وَهُوَ أَنَّ سَبِيلَ الْقِرَاءَتَيْنِ غَيْرُ سَبِيلِ الْآيَتَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَا يَلْزَمُ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بَلْ بِقِيَامِ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى, وَلَوْ جَعَلْنَاهُمَا كَالْآيَتَيْنِ لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَفِي الْمُصْحَفِ وَالتَّعْلِيمِ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى بَعْضُ الْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْهُ, وَلَكَانَ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى كُلِّهِ, وَلَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصَاحِفَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا جَمِيعُ الْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ لَيْسَتَا كَالْآيَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ بَلْ تُقْرَآنِ عَلَى أَنْ تُقَامَ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى لَا عَلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمَا كَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ قِرَاءَتَيْهِ وَإِثْبَاتُهُمَا فِي الْمُصْحَفِ مَعًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ لَيْسَ بِحَدَثٍ إنَّمَا كَانَ حَدَثًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ,

وَلَوْ مَسَّتْ امْرَأَةٌ امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ حَدَثًا كَذَلِكَ مَسُّ الرَّجُلِ إيَّاهَا وَكَذَلِكَ مَسُّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَكَذَلِكَ مَسُّ الْمَرْأَةِ. وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا وَجَدْنَا الْأَحْدَاثَ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ, فَكُلُّ مَا كَانَ حَدَثًا مِنْ الرَّجُلِ فَهُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ حَدَثٌ, وَكَذَلِكَ مَا كَانَ حَدَثًا مِنْ الْمَرْأَةِ فَهُوَ حَدَثٌ مِنْ الرَّجُلِ, فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَقَوْلُهُ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَسِّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلِ الرَّجُلَ أَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَمْ يَكُنْ حَدَثًا, كَذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ وَانْتَشَرَتْ آلَتُهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَسِّهَا بِيَدِهِ وَبَيْنَ مَسِّهَا بِبَدَنِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُوجِبْ أَبُو حَنِيفَةَ هَهُنَا الْوُضُوءَ بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ إذَا الْتَقَى الْفَرْجَانِ مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ, كَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَبْلُغُ هَذِهِ الْحَالَ إلَّا وَيَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ, فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ لَهُ احْتِيَاطًا فَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَدَثِ, كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ النَّوْمِ وُجُودَ الْحَدَثِ فِيهِ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَدَثِ; فَلَيْسَ إذًا فِي ذَلِكَ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ اللَّمْسِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَرْطُ الْوُجُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ, وَالْجُمْلَةُ الَّتِي اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهَا أَنَّ الْوُجُودَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ أَوْ لَمْ يَجِدْهُ إلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ تَيَمَّمَ, وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُغَالِيَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ بِثَمَنٍ كَمَا يُبَاعُ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَشْتَرِيَهُ, وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَرِيهِ. وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا شَرْطَ الْوُجُودِ أَنْ يَكْفِيَهُ لِجَمِيعِ طَهَارَتِهِ, وَأَمَّا الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ فِي رَحْلِهِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ, وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الطَّلَبِ وَهَلْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِدٍ قَبْلَ الطَّلَبِ; وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ إذَا خَافَ الْعَطَشَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِلطَّهَارَةِ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ لِأَنَّهُ مَتَى خَافَ الضَّرَرَ فِي اسْتِعْمَالِهِ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهِ إلَى التَّيَمُّمِ كَالْمَرِيضِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فَنَفَى الْحَرَجَ عَنَّا, وَهُوَ الضِّيقُ, وَفِي الْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْعَطَشُ أَعْظَمُ الضِّيقِ, وَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى نَفْيًا مُطْلَقًا; وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَمِنْ الْعُسْرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي يُؤَدِّيهِ إلَى الضَّرَرِ وَتَلَفِ النَّفْسِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الْمَاءِ وَحَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَلَا مَاءَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشُرْبِهِ وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ لِلطَّهَارَةِ, فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ الْعَطَشَ فِي الْمُسْتَأْنَفِ بِاسْتِعْمَالِهِ؟ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَنْ خَافَ

الْعَطَشَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَجِدَهُ بِثَمَنٍ مِثْلِ قِيمَتِهِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْفَاضِلَ عَنْ قِيمَتِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ إتْلَافُهُ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ; إذْ لَا يَحْصُلُ بِإِزَائِهِ بَدَلٌ, فَكَانَ إضَاعَةً لِلْمَالِ; لِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهُوَ مُضَيِّعٌ لِلتِّسْعَةِ, وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَطْعُ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ, بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ لِأَجْلِ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِقَطْعِهِ, فَكَذَلِكَ شِرَى الْمَاءِ بِثَمَنٍ غَالٍ, وَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ بِثَمَنٍ مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيَتَوَضَّأَ وَلَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعُ الْمَالِ; إذْ كَانَ يَمْلِكُ بِإِزَاءِ مَا أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي أَخَذَهُ فَكَانَ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "يَتَيَمَّمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ, وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جُنُبًا فَوَجَدَ مَا يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ وَلَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ يَتَيَمَّمُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "لَا يَسْتَعْمِلُ الْجُنُبُ هَذَا الْمَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَتَيَمَّمُ, فَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا". وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ: "يَتَوَضَّأُ بِهَذَا الْمَاءِ مَا لَمْ يَجِدْ مَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "عَلَيْهِ غَسْلُ مَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِهِ وَيَتَيَمَّمُ, لَا يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا الْمَاءُ عِنْدَ وُجُودِهِ أَوْ التُّرَابُ عِنْدَ عَدَمِهِ; لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ مِنْ فَرْضِ هَذَا الرَّجُلِ التَّيَمُّمَ وَأَنَّ صَلَاتَهُ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ إلَّا بِهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الْمَفْرُوضُ بِهِ الطَّهَارَةُ; إذْ لَوْ كَانَ الْمَاءُ الْمَفْرُوضُ بِهِ الطَّهَارَةُ مَوْجُودًا لَمْ تَكُنْ صِحَّةُ صَلَاتِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى فِعْلِ التَّيَمُّمِ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ مَاءٍ مَنْكُورٍ, وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ كَافِيًا لِطَهَارَتِهِ أَوْ غَيْرَ كَافٍ, فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ. قِيلَ لَهُ: الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مِنْ فَرْضِهِ التَّيَمُّمَ وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ, فَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمَاءِ مَأْمُورًا بِاسْتِعْمَالِهِ بِالْآيَةِ لَمَا لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ مَعَهُ, لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ صَلَاتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ لَا نُجِيزُ تَيَمُّمَهُ إلَّا بَعْدَ عَدَمِ هَذَا الْمَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فَحِينَئِذٍ يَتَيَمَّمُ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت لَاسْتَغْنَى عَنْ التَّيَمُّمِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ, فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ التَّيَمُّمَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الْمَفْرُوضُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَلَا مَا أُبِيحَ التَّيَمُّمُ بِعَدَمِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ وُجُودُ هَذَا الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ فِي بَابِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ, فَجَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَ

غَسْلِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي الرِّجْلِ الْأُخْرَى, لِكَوْنِ الْمَسْحِ بَدَلًا مِنْ الْغَسْلِ فَلَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا, وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ وَالتَّيَمُّمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْمَسْحِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ الرَّجُلِ, فَلَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَبَيْنَ مَا لَا يَرْفَعُهُ فِي الْمَسْحِ; كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْغَسْلِ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ عَلَى أَنْ يَكُونَا مِنْ فَرْضِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ دُونَ بَعْضٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنُوبُ عَنْ الْغُسْلِ تَارَةً وَعَنْ الْوُضُوءِ أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ قَامَ مَقَامَ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي أَوْجَبَ الْحَدَثُ غَسْلَهَا؟ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ غَسْلَ مَا يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ مَعَ التَّيَمُّمِ لَمْ يَخْلُ التَّيَمُّمُ مِنْ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ أَوْ جَمِيعِهِ, فَإِنْ قَامَ مَقَامَ مَا لَمْ يُغْسَلْ مِنْهُ فَقَدْ صَارَ التَّيَمُّمُ إنَّمَا يَقَعُ طَهَارَةً عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ, وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ, فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَقُومَ مَقَامَ جَمِيعِهَا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مُتَوَضِّئًا مُتَيَمِّمًا فِي الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ, وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْحَدَثَ زَائِلٌ عَنْ الْعُضْوِ الْمَغْسُولِ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ التَّيَمُّمُ; فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْوُجُوبِ. وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُوجِبُ عَلَيْهِ غَسْلَ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَيَتَيَمَّمُ مَعَ ذَلِكَ لِهَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ, فَيَكُونُ تَيَمُّمُهُ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ قَائِمًا مَقَامَهُمَا وَمَقَامَ الْعُضْوَيْنِ الْآخَرَيْنِ, فَيَكُونُ قَدْ أَلْزَمَهُ طَهَارَتَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَهَارَةٌ فِي الْعُضْوَيْنِ الْمَغْسُولَيْنِ وَهُوَ إذَا حَصَلَ طَهَارَةٌ لَمْ يُرْفَعْ الْحَدَثُ وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَدَثِ بَاقِيًا مَعَ وُجُودِهِ؟ فَكَيْف يَجُوزُ وُقُوعُهُ مَعَ عَدَمِ رَفْعِ الْحَدَثِ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ؟. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك مِثْلُهُ إذَا قُلْت مِثْلُهُ فِيمَا إذَا غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ وَيَكُونُ ذَلِكَ طَهَارَةً لِجَمِيعِهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَهُ فَسَقَطَ حُكْمُهُ إنْ اسْتَعْمَلَهُ, وَأَنْتَ تُوجِبُ اسْتِعْمَالَهُ كَمَا نُوجِبُهُ لَوْ وَجَدَ مَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَوَضَّأَ وَأَكْمَلَ وُضُوءَهُ, فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ التَّيَمُّمُ مَقَامَ شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ فَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ وَلَا يُنَافِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ, وَهُوَ الَّذِي يَجِدُ سُؤْرَ الْحِمَارِ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ طَهَارَتَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ لَا جَمِيعُهُمَا, وَلِذَلِكَ أَجَزْنَا لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ عِنْدَنَا فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الطَّهَارَةِ بِالشَّكِّ, فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَالْمَفْرُوضُ أَحَدُهُمَا, كَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِيمَنْ نَسِيَ إحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهَا هِيَ يُصَلِّي خَمْسَ صَلَوَاتٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَى الْيَقِينِ, وَإِنَّمَا الَّذِي عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ لَا جَمِيعُهَا, كَذَلِكَ هَهُنَا, وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُمَا جَمِيعًا فِي مَسْأَلَتِنَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا مِنْ الْمَاءِ كَالصَّوْمِ بَدَلًا مِنْ الرَّقَبَةِ وَلَمْ يَجُزْ اجْتِمَاعُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ وَالْمَاءِ.

فَإِنْ قِيلَ: الصَّغِيرَةُ قَدْ تَجِبُ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا وَجَبَ الْحَيْضُ, وَكَذَلِكَ ذَاتُ الْحَيْضِ لَوْ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ ثُمَّ يَئِسَتْ وَجَبَتْ الشُّهُورُ مَعَ الْحَيْضَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. قِيلَ لَهُ: إذَا طَرَأَ عَلَيْهَا مَا ذَكَرْت قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ خَرَجَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِدَّةً مُعْتَدًّا بِهِ, وَأَنْتَ لَا تُخْرِجُ مَا غُسِلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً, وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ وَدَلِيلٌ آخَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ, وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ", وَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: "مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَأُدْخِلَ عَلَيْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ, وَذَلِكَ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ أَوْ الْمَعْهُودِ, فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ صَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: التُّرَابُ طَهُورٌ مَا لَمْ يَجِدْ مِيَاهَ الدُّنْيَا, وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْمَعْهُودَ فَهُوَ قَوْلُنَا أَيْضًا; لِأَنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا مَاءٌ مَعْهُودٌ يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ الْكَلَامُ إلَيْهِ غَيْرُ الْمَاءِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ كَمَالُ الطَّهَارَةِ, وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي مَسْأَلَتِنَا, فَجَازَ تَيَمُّمُهُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ.

مطلب: في حكم من صلى ونسي الماء في رحله وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُودِ أَمْ لَا; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا يُعِيدُ بَعْدَهُ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "يُعِيدُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا". وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَالنَّاسِي غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَا هُوَ نَاسٍ لَهُ; إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ, فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَاءَ فِي رَحْلِهِ وَلَا بِحَضْرَتِهِ; وَقَالَ اللَّهُ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فَاقْتَضَى ذَلِكَ سُقُوطَ حُكْمِ الْمَنْسِيِّ. أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى النَّاسِي لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِي لَا يَصِحُّ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا مُكَلَّفًا بِالْغَسْلِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّيَمُّمِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ سُقُوطُهُمَا جَمِيعًا عَنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ, فَثَبَتَ جَوَازُ تَيَمُّمِهِ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ وَطَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ بِئْرٌ مُغَطَّى الرَّأْسِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ, وَوُجُودُ الْمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ أَوْ فِي نَهْرٍ أَوْ فِي بِئْرٍ, فَلَمَّا كَانَ جَهْلُهُ بِمَاءِ الْبِئْرِ مُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْوُجُودِ كَذَلِكَ جَهْلُهُ بِالْمَاءِ الَّذِي فِي رَحْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ أَوْ الصَّلَاةَ لَمْ يُسْقِطْهُمَا النِّسْيَانُ, فَكَذَلِكَ نِسْيَانُ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" يَقْتَضِي سُقُوطَهُ, وَكَذَلِكَ نَقُولُ; وَاَلَّذِي أَلْزَمْنَاهُ عِنْدَ الذِّكْرِ هُوَ فَرْضٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ, وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ سَقَطَ, وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَا النَّاسِيَ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَأَلْزَمْنَاهُ الطَّهَارَةَ الْمَنْسِيَّةَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى, وَإِلَّا فَالنِّسْيَانُ يُسْقِطُ عَنْهُ

الْقَضَاءَ لَوْلَا الدَّلَالَةُ. وَأَيْضًا فَلَا تَأْثِيرَ لِلنِّسْيَانِ بِانْفِرَادِهِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ فَيَصِيرَانِ عُذْرًا فِي سُقُوطِهِ, نَحْوُ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ النِّسْيَانُ صَارَا جَمِيعًا عُذْرًا فِي سُقُوطِهِ, وَأَمَّا نِسْيَانُ الطَّهَارَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْضَمَّ إلَى النِّسْيَانِ فِي ذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ حَتَّى يَصِيرَ عُذْرًا فِي سُقُوطِ هَذِهِ الْفُرُوضِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّا جَعَلْنَا النِّسْيَانَ عُذْرًا فِي الِانْتِقَالِ إلَى بَدَلٍ لَا فِي سُقُوطِ أَصْلِ الْفَرْضِ, وَفِي الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتهَا فِيهَا إسْقَاطُ الْفُرُوضِ لَا نَقْلُهَا إلَى أَبْدَالٍ, فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. فَإِنْ قِيلَ: النَّاسِي لِلْمَاءِ فِي رَحْلِهِ هُوَ وَاجِدٌ لَهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْوُجُودُ هُوَ كَوْنُ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ دُونَ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَعَهُ مَاءٌ وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ؟ فَالنَّاسِي أَبْعَدُ مِنْ الْوُجُودِ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ فِي رَحْلِهِ مَاءٌ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى شَفِيرِ نَهْرٍ أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكًا لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْوُجُودَ هُوَ إمْكَانُ التَّوَصُّلِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَوْ كَانَ فِي رَحْلِهِ وَمَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْوُجُودَ شَرْطُهُ مَا ذَكَرْنَا دُونَ الْمِلْكِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُ لَوْ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ فَنَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ وَصَلَّى فِيهِ, هَلْ يُجْزِيهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَا نَعْرِفُهَا مَحْفُوظَةً عَنْ أَصْحَابِنَا, وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِي, وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِيمَنْ نَسِيَ فِي رحله ثوبا وصلى عريانا أنه يجزيه.

مطلب: في أن الوجود لا يقتضي سبق طلب وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِكِ الطَّلَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَاءٌ, هَلْ هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ يَطْمَعْ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ مُخْبِرٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَيُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "عَلَيْهِ الطَّلَبُ, وَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يُجْزِهِ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنْ طَمِعَ فِيهِ أَوْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِمَوْضِعِهِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِيلٌ أَوْ أَكْثَرُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالضَّرَرِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ أَتَاهُ, وَهَذَا إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ سَبُعٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ أَصْحَابِهِ". وَإِنَّمَا قَالُوا فِيمَنْ كَانَتْ حَالُهُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ, وَقَالَ الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ غَيْرَ وَاجِدٍ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ الْوُجُودَ لَا يَقْتَضِي طَلَبًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فَأُطْلِقَ اسْمُ الْوُجُودِ عَلَى مَا لَمْ يَطْلُبُوهُ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فليشهد ذوي

الَّذِي فِي الْمَفَازَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَاءٌ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ, فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا فَالطَّلَبُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَكْلِيفُهُ طَلَبَ مَا هُوَ وَاجِدُهُ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ جَازَ تَيَمُّمُهُ بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ". فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمَ الْمَاءِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُجْزِيَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ وُجُودَ شَرْطِهِ, كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ حُضُورَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ فِعْلُهَا إلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ, وَذَلِكَ يَقِينٌ عِنْدَهُ; وَإِنَّمَا لَا يُعْلَمُ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِ, وَهَلْ يَكُونُ مَوْجُودًا إنْ طَلَبَ أَمْ لَا, فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَزُولَ عَنْ الْيَقِينِ الْأَوَّلِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَيَشُكُّ فِيهِ. وَوَقْتُ الصَّلَاةِ أَيْضًا كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ فِعْلُهَا بِالشَّكِّ حَتَّى يَتَيَقَّنَ وُجُودَهُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ فِي بَابِ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي كَانَ الْأَصْلَ. فَإِنْ قيل: قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَالْغُسْلُ أَبَدًا وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ كَيْفَ أَمْكَنَ, فَإِذَا كَانَ قَدْ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِالطَّلَبِ فَذَلِكَ فَرْضُهُ. قِيلَ لَهُ: الَّذِي قَالَ: {فَاغْسِلُوا} هُوَ الَّذِي قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَوُجُوبُ الْغُسْلِ مُضَمَّنٌ بِوُجُودِ الْمَاءِ, وَجَوَازُ التَّيَمُّمِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِهِ, وَهُوَ عَادِمٌ لَهُ فِي الْحَالِ لَا مَحَالَةَ; وَإِنَّمَا يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا عِنْدَ الطَّلَبِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ مَا حَصَلَ مِنْ شَرْطِ إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِمَا عَسَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ. وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُخَالِفُ كَانَ يَلْزَمُ لَوْ طَمِعَ فِي الْمَاءِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُجُودُهُ وَأَخْبَرَهُ بِهِ مُخْبِرٌ, فَأَمَّا مَعَ فَقْدِ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ شَرْطُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ, فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إسْقَاطُهُ وَإِيجَابُ اعْتِبَارِ مَعْنًى غَيْرَهُ, وَإِنَّمَا قَدَّرَ أَصْحَابُنَا أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ مِنْ قِبَلِ لُزُومِ اسْتِعْمَالِهِ إذَا عَلِمَ بِمَوْضِعِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ, وَلَمْ يُوجِبُوهُ ذَلِكَ فِي مِيلٍ فَصَاعِدًا اجْتِهَادًا وَلِأَنَّ الْمِيلَ هُوَ الْحَدُّ الَّذِي تُقَدَّرُ بِهِ الْمَسَافَاتُ وَلَا تُقَدَّرُ بِأَقَلَّ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ, فَاعْتَبَرُوهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ, كَمَا قُلْنَا فِي اعْتِبَارِ أَبِي يُوسُفَ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ أَنَّهُ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ الَّتِي تُقَدَّرُ بِهَا الْمِسَاحَاتُ وَلَا تُقَدَّرُ فِي الْعَادَةِ بِأَقَلَّ مِنْهُ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْمَاءِ عَلَى غَلْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا يَمِيلُ إلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّاعِي يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ مِيلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَتَحْضُرُهُ الصَّلَاةُ, أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: "لَا يَتَيَمَّمُ مَنْ رَجَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَاءِ فِي الوقت".

مطلب: فيمن ووجد الماء في آخر الوقت يجب عليه الوضوء وإن خاف فوات الوقت خلافا لمالك وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَخَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ إنْ لَمْ يَتَيَمَّمْ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ مِنْ مُسَافِرٍ أَوْ مُقِيمٍ وَهُوَ فِي مِصْرٍ وَهُوَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَخَافَ إنْ تَوَضَّأَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوَقْتُ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْوُضُوءُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ إذَا خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "إذَا خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ إنْ تَوَضَّأَ يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ ثُمَّ أَعَادَ بِالْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَقْتِ". وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَأَوْجَبَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَنَقْلِهِ عَنْهُ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ نَقْلُهُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْآيَةِ; وَحِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَإِدْرَاكِ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ, فَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَمَنَعَهُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ جُنُبًا إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْغُسْلِ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ بَقَاءَ الْوَقْتِ وَلَا غَيْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: "التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" , فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا فَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ سَوَاءٌ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَخَفْ, لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا} , وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فَلَيْسَ التُّرَابُ طَهُورًا لَهُ فَلَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ آكَدُ مِنْ فَرْضِ الْوَقْتِ, بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِي صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَهِيَ جَائِزَةٌ مَعَ فَوَاتِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَلٍّ لِأَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَإِنْ قَالَ: التَّيَمُّمُ طَهُورٌ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا هُوَ طَهُورٌ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَمَا شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِ فَلَيْسَ بِطَهُورٍ, فَالْوَاجِبُ عَلَيْك أَنْ تَدُلَّ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ طَهُورٌ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانُ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ حَتَّى تَبْنِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَذْهَبَك فِي أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُسَافِرُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِيُدْرِكَ الْوَقْتَ لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَائِفٍ فَوْتَ الْوَقْتِ وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ تَيَمُّمِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَيْسَ هُوَ لِأَجْلِ فَوَاتِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ شَرْطُ التَّيَمُّمِ عَدَمَ الْمَاءِ لَمَا جَازَ لِلْمَرِيضِ وَلِمَنْ يَخَافُ الْعَطَشَ أَنْ

يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْوُجُودَ هُوَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِهِ بِلَا ضَرَرٍ وَلَا مَشَقَّةٍ, لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ, فَعَدَمُ الْمَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ شَرْطٌ وَخَوْفُ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ أَيْضًا شَرْطٌ, وَأَنْتَ فَلَمْ تَلْجَأْ فِي اعْتِبَارِك الْوَقْتَ لَا إلَى آيَةٍ وَلَا إلَى أَثَرٍ, بَلْ الْكِتَابُ وَالْأَثَرُ يَقْضِيَانِ بِبُطْلَانِ قَوْلِك. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا جَازَتْ الصَّلَاةُ فِي حَالِ الْخَوْفِ مَعَ الِاخْتِلَافِ وَالْمَشْيِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَرَاكِبًا لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْوَقْتِ, دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْوَقْتِ فِي جَوَازِهَا بِالتَّيَمُّمِ إذَا خَافَ فَوْتَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أُبِيحَتْ صَلَاةُ الْخَائِفِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ لَا لِلْوَقْتِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالْخَوْفُ مَوْجُودٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِانْصِرَافِ الْعَدُوِّ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْخَوْفِ لَا لِيُدْرِكَ الْوَقْتَ, وَالتَّيَمُّمُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ لِعَدَمِ الْمَاءِ. فَنَظِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ مِنْ التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مَعْدُومًا فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ, فَأَمَّا حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ زَوَالِ الْخَوْفِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى هَيْئَتِهَا فِي حَالِ الْأَمْنِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِفْطَارِ لِلْمُسَافِرِ وَبِمَنْزِلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي أَنَّهَا رُخْصَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِحَالٍ لَا لِخَوْفِ فَوَاتِ الْوَقْتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ فَاتَ وَقْتُهُ بِاشْتِغَالِهِ بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لَهَا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا" فَأَخْبَرَ أَنَّ وَقْتَ الذِّكْرِ مَعَ فَوَاتِهَا وَقْتٌ لَهَا كَمَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَقْتًا لَهَا, فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا مَعَ فَوَاتِهَا عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَرْكُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِخَوْفِ فَوَاتِهَا مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ. وَقَدْ وَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْوَقْتِ وَأَنَّ الْفَائِتَةَ أَخَصُّ بِالْوَقْتِ مِنْ الَّتِي هِيَ فِي وَقْتِهَا, حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِصَلَاةٍ لِوَقْتٍ قَبْلَهَا لَمْ تُجْزِهِ, فَلَوْ كَانَ خَوْفُ فَوْتِ الْوَقْتِ مُبِيحًا لَهُ التَّيَمُّمَ لَوَجَبَ أَنْ يُبَاحَ لَهُ التَّيَمُّمُ بَعْدَ الْفَوَاتِ أَيْضًا; لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يَأْتِي بَعْدَ الْفَوَاتِ هُوَ وَقْتٌ لَهَا لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ, فَيَلْزَمُ مَالِكًا أَنْ يُجِيزَ لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْوُضُوءِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهَا فِيهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ. وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ فِعْلُهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ خَوْفِ فَوَاتِ وَقْتِهَا الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِيهِ إذَا اشْتَغَلَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ, صَحَّ أَنَّ الْوَقْتَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ "إنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ الْوَقْتِ" فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ, فَلَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِهَا وَتَأْخِيرُ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ.

مطلب: في حكم المجوس الفاقد للطهورين وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ قَذِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ نَظِيفٍ, فَقَالَ أبو

حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا يُصَلِّي حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْمَاءِ إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "يُصَلِّي وَيُعِيدُ". وَالْحُجَّةُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ" وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فَقَدْ صَلَّى بِغَيْرِ طُهُورٍ, فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَلَاةً, فَلَا مَعْنَى لِأَمْرِنَا إيَّاهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِأَجْلِ أَنَّ عَلَيْهِ فَرْضَ الصَّلَاةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إنَّهُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ" فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ, فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةً لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْإِعَادَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ صَلَّى بِالْإِيمَاءِ وَلَا يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَأْمُرُهُ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا فِي بَيْتٍ نَظِيفٍ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُعِيدَ, وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فِعْلَهَا بِالتَّيَمُّمِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ "أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَخْرُجَ" فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ, وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُعِيدُ, وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ, فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة أَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ تَكُونُ صَلَاةً صَحِيحَةً بِحَالٍ وَهُوَ حَالُ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ, فَلَمَّا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ; وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ الْمَاءُ مِنْهُ قَرِيبًا وَخَافَ السَّبُعَ أَوْ اللُّصُوصَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَا يُعِيدُ, فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ, إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ لِأَنَّ الْمَاءَ مَوْجُودٌ فِي الْحَضَرِ, وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ وَفِعْلُ الْآدَمِيِّ فِي مِثْلِهِ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ رِجْلٌ مُكْرِهًا مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ أَصْلًا أَوْ مِنْ فِعْلِهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَصَلَّى بِالْإِيمَاءِ أَنَّهُ يُعِيدُ؟ وَلَوْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ, وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا سَقَطَ عَنْهُ فِعْلُ الرُّكُوعِ إلَى الْإِيمَاءِ; فَاخْتَلَفَ حُكْمُ الْمَنْعِ إذَا كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ أَوْ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ. فَكَذَلِكَ حَالُ الْحَضَرِ, لَمَّا كَانَتْ حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ اسْتِعْمَالِهِ بِمَنْعِ الْآدَمِيِّ مِنْهُ, فَأَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ وَإِعَادَتِهَا بِالْمَاءِ; وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَمْ يَأْمُرْهُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تَأْمُرُ الْمُحْرِمَ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ وَأَرَادَ الْإِحْلَالَ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مُتَشَبِّهًا بِالْحَالِقِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ, فَهَلَّا أَمَرْت الْمَحْبُوسَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَشَبِّهًا بِالْمُصَلِّينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا وَكَمَا تَأْمُرُ الْأَخْرَسَ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ بِالتَّلْبِيَةِ اسْتِحْبَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَبِّيًا قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْمَنَاسِكِ قَدْ يَنُوبُ

عَنْهُ الْغَيْرُ فِيهَا فِي حَالٍ فَيَصِيرُ حُكْمُ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ, فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْحَلْقِ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْغَيْرُ عَنْهُ فَيُجْزِي, وَكَذَلِكَ تَلْبِيَةُ الْغَيْرِ قَدْ تَنُوبُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ, فَلِذَلِكَ اُسْتُحِبَّ لَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَبِّيًا إذَا كَانَ أَخْرَسَ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا غَيْرُهُ, وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ مُتَشَبِّهًا بِالْمُصَلِّينَ فَيَصِيرُ هَذَا الْفِعْلُ وَتَرْكُهُ سَوَاءً لَا مَعْنَى لَهُ, فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِبَّهُ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ قِلَادَةِ عَائِشَةَ حِينَ ضَلَّتْ وَأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِطَلَبِ الْقِلَادَةِ صَلَّوْا بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ وَلَا وُضُوءٍ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فِعْلَهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ وَقْتَ مَا صَلَّوْا وَلَمْ يَكُنْ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا, وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ, فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنْ لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ إذَا لَمْ يَجِدْهُمَا; فَلَمَّا قَالَ مُخَالِفُونَا "إنَّهُ يُعِيدُ" عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ مَنْ ذُكِرَ مُخَالِفٌ لِأُولَئِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا وَاجِدِينَ لِلتُّرَابِ غَيْرَ وَاجِدِينَ لِلْمَاءِ, وَأَنْتَ لَا تَقُولُ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا" جَائِزٌ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ, وَيُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ". وَدَلِيلُنَا قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَأَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ الْحَدَثِ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ. وَأَيْضًا قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ, ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمَ وَأَبَاحَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْوُضُوءِ لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ. وَأَيْضًا لِمَا قَالَ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ لَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ شَيْئَيْنِ: الْمَاءُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالتُّرَابُ عِنْدَ عَدَمِهِ, اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ تَقْدِيمِ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوَقْتِ لِيُصَلِّيَ فِي أَوَّلِهِ عَلَى شَرْطِ الْآيَةِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" وَقَوْلُهُ لِأَبِي ذَرٍّ: "التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ, وَإِنَّمَا عَلَّقَ جَوَازَهُ بِعَدَمِ الْمَاءِ لَا بِالْوَقْتِ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى اسْتِدْلَالِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} : إنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وَهُوَ مُضْمَرٌ فِيهِ, فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا قُمْتُمْ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ; فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِهَا فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ لِلْحَدَثِ, ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حُكْمَ عَادِمِ الْمَاءِ فَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} وَهَذِهِ أَيْضًا جُمْلَةٌ مُفِيدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ

مُفْتَقِرَةٍ إلَى تَضْمِينِهَا بِغَيْرِهَا, وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْكَلَامِ فَفِي تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ تَخْصِيصٌ لَهُ, وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ مُقَرًّا عَلَى بَابِهِ وَأَنْ لَا يُضْمَنَ بِغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حُكْمَ كُلِّ جَوَابٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعَ إلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَاَلَّذِي يَلِي ذَلِكَ هُوَ شَرْطُ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ. وَأَيْضًا كَمَا جَازَ الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ التَّيَمُّمُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهَا حَدَثٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَحَاضَةُ لَا تُصَلِّي بِوُضُوءٍ فَعَلَتْهُ قَبْلَ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا لَوْ تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِهِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ, وَأَمَّا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَإِنَّهَا لَا تُصَلِّي بِهِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ لِلسَّيَلَانِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ وَالْوَقْتُ كَانَ رُخْصَةً لَهَا فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ, فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الرُّخْصَةُ بِخُرُوجِهِ وَجَبَ الْوُضُوءُ لِلْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَاخْتُلِفَ فِي فِعْلِ صَلَاتَيْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ, فَقِيلَ: "يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنْ الصَّلَوَاتِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَجِدْ الْمَاءَ" وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ وَحَمَّادٍ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُصَلِّي صَلَاتَيْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ, وَلَا يُصَلِّي الْفَرْضَ بِتَيَمُّمِ النَّافِلَةِ, وَيُصَلِّي النَّافِلَةَ بَعْدَ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ". وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةِ فَرْضٍ وَيُصَلِّي الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْر حِجَجٍ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" وَقَالَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَجَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَمْ يُوَقِّتْهُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: "وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ" عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ, وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْوَقْتِ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَوْقِيتَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ, وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَأْكِيدُ نَفْيِ الْغُفْرَانِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ الْحَدَثَ وَهُوَ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ, كَذَلِكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ بُطْلَانَهُ بِالْحَدَثِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَأَكَّدَهُ بِبَقَائِهِ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُبِيحَ لِلصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ بَدِيًّا كَانَ عَدَمُ الْمَاءِ وَهُوَ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ, فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى تَيَمُّمُهُ, وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ, إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدًا وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلًا مِنْ الْغَسْلِ كَمَا أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنْهُ, ثُمَّ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِعْلُ صَلَاتَيْنِ بِمَسْحٍ وَاحِدٍ, جَازَ فِعْلُهُمَا أَيْضًا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فَلَا يَخْلُو الْمُتَيَمِّمُ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاتِهِ مِنْ أَنْ

تَكُونَ طَهَارَتُهُ بَاقِيَةً أَوْ زَائِلَةً, فَإِنْ كَانَتْ زَائِلَةً فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِهَا نَفْلًا لِأَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ, وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَجَائِزٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خُفِّفَ أَمْرُ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ حَتَّى جَازَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ, وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ الْفَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الطَّهَارَةُ, فَمِنْ حَيْثُ جَازَ النَّفَلُ بِالتَّيَمُّمِ الَّذِي أَدَّى بِهِ الْفَرْضَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَجُوزَ فِعْلُ فَرْضٍ آخَرَ بِهِ, وَإِنَّمَا خُفِّفَ أَمْرُ النَّفْلِ فِي جَوَازِ فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْفَرْضِ جَائِزٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ, وَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ فِي الْأُصُولِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا, فَوَجَبَ بِحَقِّ الْعُمُومِ إيجَابُ تَجْدِيدِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ} لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي اللُّغَةِ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؟ فَكَذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ. وَعَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَكَانَ مَأْمُورًا بِاسْتِعْمَالِهِ, فَجَعَلَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا مِنْهُ, فَإِنَّمَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَصْلُ, فَأَمَّا حَالٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ إيجَابِهِ فِيهَا, فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَجْدِيدُ الطَّهَارَةِ بِهِ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَمَا صَلَّى بِهَا الصَّلَاةَ الْأُولَى كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ, فَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي يَرْفَعُهُ; فَلَمَّا كَانَ الْحَدَثُ بَاقِيًا مَعَ التَّيَمُّمِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ بَقَاءُ الْحَدَثِ عِلَّةً لِإِيجَابِ تَكْرَارِ التَّيَمُّمِ, لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارُهُ أَبَدًا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ, فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَفْعَلَ الصَّلَاةَ الْأُولَى بِالتَّيَمُّمِ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مِثْلَهَا إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ مَفْعُولًا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحَدَثِ بِعَيْنِهِ الَّذِي يُرِيدُ إيجَابَ التَّيَمُّمِ مِنْ أَجْلِهِ, وَقَدْ وَقَعَ لَهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ ثَانِيَةً. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مُنْتَقَضَةٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي الرَّجُلِ مَعَ الْمَسْحِ وَيَجُوزُ فِعْلُ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةِ بِهِ, وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا بِتَجْوِيزِ مُخَالِفِينَا صَلَاةً نَافِلَةً بَعْدَ الْفَرْضِ لِوُجُودِ الْحَدَثِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَعَلْته كَالْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ رُخْصَةَ الْمُسْتَحَاضَةِ مُقَدَّرَةٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ, وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَجْعَلُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ مُقَدَّرَةً بِالْوَقْتِ, فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ مُنْتَقَضٌ وَعَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ مُخَالِفَةٌ لِلْمُتَيَمِّمِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهَا حَدَثٌ بَعْدَ وُضُوئِهَا, وَالْوَقْتُ رُخْصَةٌ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ, فَإِذَا خَرَجَ

الْوَقْتُ تَوَضَّأَتْ لِحَدَثٍ وُجِدَ بَعْدَ طَهَارَتِهَا; وَلَمْ يُوجَدْ فِي التَّيَمُّمِ حَدَثٌ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ, فَطَهَارَتُهُ بَاقِيَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَتَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يَمْضِي فِيهَا وَتُجْزِيهِ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ وَصَلَّى بِتَيَمُّمِهِ", وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ, وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فَأَوْجَبَ غَسْلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ, ثُمَّ نَقَلَهُ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ, فَمَتَى وَجَدَ الْمَاءَ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِاسْتِعْمَالِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَعَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْغَسْلِ بَعْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ فِيهَا مَانِعًا مِنْ لُزُومِ اسْتِعْمَالِهِ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ فِي فَرْضِ الْغَسْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ قَائِمٌ عَلَيْهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ قَبْلَ إتْمَامِهَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ بِالْآيَةِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فَرْضَ الْغَسْلِ, وَالْخِطَابُ بِحُكْمِ الْآيَةِ, فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْآيَةِ اسْتِعْمَالُهُ لِبَقَاءِ فَرْضِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ حَالَ وُجُودِ الصَّلَاةِ بَعْدَ فِعْلِ جُزْءٍ مِنْهَا أَوْ إرَادَةِ الْقِيَامِ إلَيْهَا فِي حَالِ الْحَدَثِ, فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ وُجُودَ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ اقْتَضَى لُزُومَ اسْتِعْمَالِهِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ فِعْلِ جُزْءٍ مِنْهَا لِاقْتِضَاءِ الْآيَةِ, وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إرَادَةَ الْقِيَامِ إلَيْهَا مُحْدِثًا وَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا لِلُزُومِ اسْتِعْمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ, فَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ, وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ بِالتَّيَمُّمِ وَالدُّخُولِ فِيهَا مَعَ وُجُودِ سَبَبِ تَكْلِيفِهِ; إذْ كَانَ الْمُسْقِطُ لِفَرْضِهِ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فَمَتَى وُجِدَ فَقَدْ عَادَ شَرْطُ لُزُومِهِ فَلَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَإِذَا كَانَ جُنُبًا وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الماء لزمه بقوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} إلَى قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . فَإِنْ قِيلَ: فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} . قِيلَ لَهُ: هُمَا مُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى شَرِيطَتِهِ, فَالتَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَالْغُسْلُ عِنْدَ وُجُودِهِ; وَغَيْرُ جَائِزٍ إسْقَاطُ الْغُسْلِ عِنْدَ وُجُودِهِ; إذْ كَانَ الظَّاهِرُ يُوجِبُهُ, وَلَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ حَالِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَجَعَلَهُ طَهُورًا بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الماء, فإذا

وُجِدَ الْمَاءُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً; وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا, فَإِذَا بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهَا. وَأَيْضًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "وَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك" وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَأَخْبَرَ بِالْحَالِ الَّتِي يَكُونُ التُّرَابُ فِيهَا طَهُورًا, وَهُوَ أَنْ لَا يَجِدَ الْمَاءَ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهُ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كَوْنَهُ طَهُورًا بِهَذِهِ الْحَالِ دُونَ غَيْرِهَا, فَمَتَى صَلَّى بِهِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَهُوَ مُصَلٍّ بِغَيْرِ طَهُورٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ قَبْلِ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ, فَهُوَ عَلَى الْحَالَيْنِ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ مَتَى وَجَدَهُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ, فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْبِنَاءَ; كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا مَنَعَ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ مَنَعَ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا, إذْ كَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِمَا جَمِيعًا الطَّهَارَةُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الطَّهَارَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ فِيهَا لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ, وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ سَائِرِ الْفُرُوضِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِثْلُ وُجُودِ الثَّوْبِ لِلْعُرْيَانِ, وَعِتْقِ الْأَمَةِ فِي لُزُومِهَا تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ, وَخُرُوجِ وَقْتِ الْمَسْحِ; فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ كَوْنُهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ لُزُومِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّحْرِيمَةُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فَاعِلًا لِجُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا بَعْدَ الدُّخُولِ, وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْمُضِيَّ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَحْدَثَ جَازَ الْبِنَاءُ عِنْدَك إذَا تَوَضَّأَ, وَلَا تَجُوزُ التَّحْرِيمَةُ بَعْدَ الْحَدَثِ. قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ قَبْلَ الطَّهَارَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ, وَإِنَّمَا نُجِيزُ لَهُ الْبِنَاءَ إذَا تَوَضَّأَ, وَأَنْتَ تُجِيزُهُ قَبْلَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا اخْتَلَفَ حَالَ الصَّلَاةِ وَقَبْلَهَا فِي التَّيَمُّمِ لِسُقُوطِ فَرْضِ الطَّلَبِ عَنْهُ بِدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ; لِأَنَّ كَوْنَهُ فِيهَا يُنَافِي فَرْضَ الطَّلَبِ, وَأَمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا فَفَرْضُ الطَّلَبِ قَائِمٌ عَلَيْهِ, فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك فِي لُزُومِ فَرْضِ الطَّلَبِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا, فَفَاسِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ سَلَّمْنَاهُ لَك لَانْتَقَضَ عَلَى أَصْلِك, وَذَلِكَ أَنَّ بَقَاءَ فَرْضِ الطَّلَبِ يُنَافِي صِحَّةَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَك, فَلَا يَخْلُو إذَا طَلَبَ وَلَمْ يَجِدْ فَتَيَمَّمَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الطَّلَبِ قَائِمًا عَلَيْهِ أَوْ سَاقِطًا عَنْهُ, فَإِذَا كَانَ فَرْضُ الطَّلَبِ قَائِمًا عَلَيْهِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَصِحَّ دُخُولُهُ; إذْ كَانَ بَقَاءُ فَرْضِ الطَّلَبِ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّلَاةِ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّيَمُّمِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِك. وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الطَّلَبِ سَاقِطًا عَنْهُ, فَالْوَاجِبُ عَلَى قَضِيَّتِك أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ, كَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا أَلْزَمْته اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي

الصَّلَاةِ مَعَ سُقُوطِ فَرْضِ الطَّلَبِ, ثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَ فَرْضِ الطَّلَبِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِجَوَازِ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقُوا جَمِيعًا أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَوْ اعْتَدَّتْ شَهْرًا ثُمَّ حَاضَتْ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى الْحَيْضِ لِأَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ مِنْ الْحَيْضِ; وَإِنَّمَا تَكُونُ عِدَّةً عِنْدَ عَدَمِهِ, كَمَا أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهُورٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ; فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا قَبْلَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهُ فِي كَوْنِ الْحَيْضِ عِدَّةً عِنْدَ وُجُودِهِ, وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ وُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَهُ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ, كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَنَّ مُتَمَتِّعًا وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ وَبَعْدَ الْإِحْلَالِ, جَازَ لَهُ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ مَعَ وجود الأصل. فإن قِيلَ لَهُ: الثَّلَاثَةُ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّ بِهَا يَقَعُ الْإِحْلَالُ, وَلَيْسَتْ السَّبْعَةُ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ يَكُونُ قَبْلَ السَّبْعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَتْ حَالُ الصَّلَاةِ حَالًا لِلطَّهَارَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ بِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَسْحِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ, وَأَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُسْتَحَاضَةَ الْوُضُوءُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ فِي الصَّلَاةِ, وَأَنْ لَا تَلْزَمَهَا الطَّهَارَةُ لَوْ أَحْدَثَ فِيهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد رِيحًا" ; قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً بَلْ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ بِهِ, وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ حَرَكَةً فِي دُبُرِهِ فَلَا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" , وَقَالَ: "إنَّ الشَّيْطَانَ يُخَيِّلُ إلَى أَحَدِكُمْ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ, فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا" , وَقَالَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ". فَأَمَّا ابْتِدَاءُ قَوْلٍ مِنْهُ: "فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا" فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الشَّاكِّ فِي الْحَدَثِ, فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ نَجْعَلَهُ فِي غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَشُكَّ وَوَجَدَ الْمَاءَ. وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ" يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابَ الْوُضُوءِ بِوُجُودِ الْمَاءِ, لِأَنَّ الْحَدَثَ الَّذِي عَنْهُ وَجَبَتْ الطَّهَارَةُ بَاقٍ لَمْ يرتفع بالتيمم.

مطلبء: المجمل لا يصح لإيجاب به فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُ لَوْ تَيَمَّمَ وَدَخَلَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ؟ قِيلَ لَهُ: يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُضِيُّ عَلَيْهَا, وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا أَمْكَنَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَالدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ, لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَجَوَابٌ آخَرُ عَمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ الْخَبَرِ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَا يَصِحُّ الْإِيجَابُ بِهِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ يُوجَدُ

فِي دَارِ الدُّنْيَا, وَإِنَّمَا أَرَادَ صَوْتًا أَوْ رِيحًا عَلَى صِفَةٍ لَا يَدْرِي مَا هُوَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ, فَسَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى دَلَالَةٍ; فَإِنْ ادَّعَوْا فِيهِ الْعُمُومَ كَانَ دَلَالَةً لَنَا; لِأَنَّهُ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الْمَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الأصوات.

فصل مطلب: في الوضوء بنبيذ وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ مِنْ وجهين: أحدهما قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى غَاسِلًا بِهَا, إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ فِيهِ, وَنَبِيذُ التَّمْرِ مِمَّا قَدْ شَمِلَهُ الْعُمُومُ. وَالثَّانِي: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَإِنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُنْكَرٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ, وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ مَاءٌ, فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ بِالظَّاهِرِ, وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ. وَقِيلَ إنْ نُقِلَ مِنْ الْمَاءِ إلَى بَدَلٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ حُكْمُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ, لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنْ الْمَاءِ; إذْ قَدْ تَوَضَّأَ بِهِ فِي وَقْتٍ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مَقْصُورَةً عَلَى الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ; وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِنَا. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ وُضُوءٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "النَّبِيذُ وُضُوءٌ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: "رَكِبْت مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَحْرَ, فَفَنِيَ مَاؤُهُمْ فَتَوَضَّئُوا بِالنَّبِيذِ وَكَرِهُوا مَاءَ الْبَحْرِ". وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ فُضَالَةَ عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ" فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ جَوَازُ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نَظَائِرِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ: "أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ" وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ; وَرُوِيَ عَنْهُ: "أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ" وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ; وَرَوَى نُوحٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَقَالَ: "يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ". وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ" وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ الْمُعَلَّى. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ صَاحِبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: "يَتَوَضَّأُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ إنْ شَاءَ". وَرَوَى الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو أُمَامَةَ, رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ.

بَابُ صِفَةِ التَّيَمُّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَتِهِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ" فَقَالُوا: "يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ ثُمَّ يُحَرِّكُهُمَا فَيُقْبِلُ بِهِمَا وَيُدْبِرُ عَلَى الصَّعِيدِ ثُمَّ يَنْفُضُهُمَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ, ثُمَّ يُعِيدُ إلَى الصَّعِيدِ كَفَّيْهِ جَمِيعًا فَيُقْبِلُ بِهِمَا وَيُدْبِرُ وَيَرْفَعُهُمَا فَيَنْفُضُهُمَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِكُلِّ كَفٍّ ظَهْرَ ذِرَاعِهِ الْأُخْرَى وَبَاطِنَهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّهُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ; وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ, وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَإِنْ تَيَمَّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَمْ يُعِدْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "تُجْزِي ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكُوعَيْنِ", وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "يَمْسَحُ يَدَيْهِ إلَى الْإِبِطِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَتَيَمَّمُ بِضَرْبَتَيْنِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: "لَمْ نَجِدْ عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الضَّرْبَتَيْنِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ". وَالْحُجَّةُ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَسْلَعُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ: "ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَمَّارٍ, فَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ". وَرَوَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضَرْبَتَيْنِ" وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّهُ زَائِدٌ وَخَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْوُضُوءِ الِاكْتِفَاءُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ لِعُضْوَيْنِ بَلْ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ, كَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَسْحًا وَالْأُخْرَى غَسْلًا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ رِجْلٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَسْلًا؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثِ الْأَسْلَعِ, ذَكَرَا فِيهِ جَمِيعًا أَنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَاخْتُلِفَ عَنْ عَمَّارٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ, فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عَمَّارٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوْفُوا التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ" , وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّيَمُّمِ فَأَمَرَنِي بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارٍ, وَقَالَ فِيهِمَا: "وَنَفَخَ فِيهِمَا وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وَرَوَى سَلَمَةُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عَمَّارٍ: أَنَّهُ تَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ فِي

الْجَنَابَةِ, فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: "إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ هَكَذَا" وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ نَفَخَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَمَّارٍ: أَنَّهُمْ مَسَحُوا وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّعِيدِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةً لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمَنَاكِبِ وَالْآبَاطِ. فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَحَادِيثُ عَمَّارٍ هَذَا الِاخْتِلَافَ وَاتَّفَقُوا أَنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْمَنَاكِبِ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ, وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَعْزُهُ عَمَّارٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا حَكَى فِعْلَ نَفْسِهِ, لَمْ يَثْبُتْ التَّيَمُّمُ إلَى الْمَنَاكِبِ; وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي الِاحْتِمَالِ وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَمَّارٌ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِهِ ذِرَاعَيْهِ فِي الْوُضُوءِ إلَى إبِطَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ, لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّكُمْ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطَوِّلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أُطِيلَ غُرَّتِي. ثُمَّ بَقِيَ مِنْ أَخْبَارِ عَمَّارٍ مِمَّا عَزَاهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَنِصْفُ الذِّرَاعِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ, فَكَانَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى" إلَى الْمِرْفَقَيْنِ" أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى رِوَايَاتِ الْآخَرِينَ, وَخَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي الْيَدَيْنِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ الِاسْمِ, فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ, وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى خُرُوجِ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ فَبَقِيَ حُكْمُهُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَالْأَسْلَعِ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ عَنْهُمَا فِي رِوَايَتِهِ مَا, وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ: "يَمْسَحُ يَدَيْهِ إلَى الْإِبِطِ" قَوْلٌ شَاذٌّ, وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: "أَنَّهُ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الضَّرْبَتَيْنِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ" فَخِلَافُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا صِفَةَ التَّيَمُّمِ; لِأَنَّ الَّذِي رُوِيَ فِي بَعْضِهَا: ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ" فَلَمْ يَجْعَلْ مَا لِلْوَجْهِ لِلْيَدَيْنِ وَمَا لِلْيَدَيْنِ لِلْوَجْهِ, وَفِي بَعْضِهَا: "ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمَا" فَقَوْلُهُمَا خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا; وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ مَسْحٌ, فَلَيْسَ تَكْرَارُهُ بِمَسْنُونٍ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ, وَلَوْ كَانَ التَّكْرَارُ مَسْنُونًا فِيهِ لَكَانَ ثَلَاثًا كَالْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ "إنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ يُقْبِلُ بِهِمَا وَيُدْبِرُ" لِيَتَخَلَّلَ أَصَابِعَهُ وَيُصِيبُ جَمِيعَهَا, وَإِنَّمَا قَالُوا: "يَنْفُضُهُمَا" لِمَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ عَمَّارًا قَالَ, وَذَكَرَ قِصَّةَ التَّيَمُّمِ, فَقَالَ: إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا" وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ; وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ نَفَخَهُمَا, وَفِي حَدِيثِ الْأَسْلَعِ: أَنَّهُ نَفَضَهُمَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَالنَّفْخُ وَالنَّفْضُ جَمِيعًا إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ التُّرَابِ عَنْ يَدِهِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصَدُ فِيهِ وُصُولَ التُّرَابِ إلَى وَجْهِهِ وَلَا حُصُولَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصَدُ حُصُولَ التُّرَابِ فِي الْعُضْوِ لَمَا نَفَضَهُ

بَابُ مَا يَتَيَمَّمُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يُجْزِي التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ: التُّرَابُ وَالرَّمْلُ وَالْحِجَارَةُ وَالزَّرْنِيخُ وَالنُّورَةُ وَالطِّينُ الْأَحْمَرُ والمرداسنج1 وَمَا أَشْبَهَهُ", وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ, وَكَذَلِكَ يُجْزِي بِالْكُحْلِ وَالْآجُرِّ الْمَدْقُوقِ فِي قَوْلِهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ; وَرَوَاهُ أَيْضًا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ تَيَمَّمَ بِبُورَقٍ2 أَوْ رَمَادٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ, وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي قَوْلِهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يُجْزِي إلَّا أَنْ يَكُونَ تُرَابًا أَوْ رَمْلًا". وَإِنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَخْرَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا صَعِيدَ عَلَيْهِ مَا أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يُجْزِيهِ". وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَيَمَّمَ بِأَرْضٍ لَا صَعِيدَ عَلَيْهَا لَمْ يُجْزِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ, وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يَجُوزُ بِالزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهِمَا وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ, وَلَا يَتَيَمَّمُ بِالْآجُرِّ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يَتَيَمَّمُ بِالْحَصَى وَالْجَبَلِ" وَكَذَلِكَ حَكَى عَنْهُ أَصْحَابُهُ فِي الزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهِمَا, قَالَ: "وَإِنْ تَيَمَّمَ بِالثَّلْجِ وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ, وَكَذَلِكَ الْحَشِيشُ إذَا كَانَ مُمْتَدًّا". وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ بِالثَّلْجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَتَيَمَّمُ بِالتُّرَابِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالْيَدِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَكَانَ الصَّعِيدُ اسْمًا لِلْأَرْضِ, اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ; وَأَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْهُ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ, وَالصَّعِيدُ التُّرَابُ, وَالصَّعِيدُ الْقَبْرُ, وَالصَّعِيدُ الطَّرِيقُ. فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ فَهُوَ صَعِيدٌ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ, وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ, وَالْجِصُّ وَالزَّرْنِيخُ لَا يُنْبِتُ شَيْئًا, فَلَيْسَ إذًا بِطَيِّبٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] . قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرَ الْمُبَاحَ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] فَأَفَادَ بِذَلِكَ إيجَابَ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ دُونَ النَّجِسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا لَيْسَ بِسَبْخَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف: 58] وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالسَّبْخَةِ التي لا تخرج

_ 1 قوله: "المرداسنج" معرب مرداسنك بضم أوله وتسكين الراءو وهو جوهر مركب من القصدير والرصاص, كذا ذكره عاصم أفندي في ترجمة البرهان القاطع. وفي الفتاوى الهندية أنه يجوز التيمم بالمرداسنج العدني دون المتخذ من شيء آخر, هكذا في محيط السرخسي. "لمصححه". 2 قوله: "ببورق" هو نوع من الأملاح ويقال له النطرون. "لمصححه".

مِثْلَ مَا يُخْرِجُ غَيْرُهَا, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالطَّيِّبِ مَا ذَكَرْت. وَقَدْ رَوَى أَبُو ظَبْيَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الطَّيِّبُ الصَّعِيدُ الْجُرُزُ" أَوْ قَالَ: "الْأَرْضُ الْجُرُزُ". وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ, قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قَالَ: أَطْيَبُ مَا حَوْلَك. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" , وَهُوَ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, أَحَدُهُمَا: إخْبَارُهُ أَنَّ الْأَرْضَ طَهُورٌ, فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ فَهُوَ طَهُورٌ بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ. وَالْآخَرُ: أَنَّ مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَرْضِ مَسْجِدًا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ طَهُورًا, وَسَائِرُ مَا ذُكِرَ هُوَ مِنْ الْأَرْضِ وَهِيَ مَسْجِدٌ, فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ بِحَقِّ الْعُمُومِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابًا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَكُون فِي هَذِهِ الرِّمَالِ لَا نَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفِينَا النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِأَرْضِكُمْ" فَأَفَادَ بِذَلِكَ جَوَازَهُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ. وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَجَزْنَا التَّيَمُّمَ بِالْحَجَرِ وَالْحَائِطِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَرْضِ; لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا يُخْرِجُهَا اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا مِنْ كَوْنِ جَمِيعِهَا صَعِيدًا; وَقَالَ تَعَالَى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] يَعْنِي الْأَرْضَ الْمَلْسَاءَ الَّتِي لَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً حُفَاةً فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ" يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُسْتَوِيَةَ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه: 106, 107] فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ مِنْهَا تُرَابٌ أَوْ لَا تُرَابَ عَلَيْهِ, لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْآجُرَّ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ الْأَرْضِ فَقَدْ انْتَقَلَ عَنْ طَبْعِ الْأَرْضِ بِالطَّبْخِ وَحَالَ عَنْ حَدِّ التُّرَابِ, فَهُوَ كَالْمَاءِ الْمُنْتَقِلِ عَنْ حَالِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّيَاحِينِ وَالْأَصْبَاغِ حَتَّى يَحُولَ إلَى جِنْسٍ آخَرَ وَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ الْأَوَّلُ, وَكَالزُّجَاجِ; فَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الَّذِي ذَكَرْت لِغَلَبَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ حَتَّى أَزَالَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ, وَأَمَّا الْآجُرُّ فَلَا يُخَالِطُهُ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْأَرْضِ, وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِيهِ صَلَابَةٌ بِالْإِحْرَاقِ فَهُوَ كَالْحَجَرِ, فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ التَّيَمُّمَ بِهِ; وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى الْحَائِطِ فَتَيَمَّمَ بِهِ; وَرُوِيَ: أَنَّهُ نَفَضَ يَدَيْهِ حِينَ وَضَعَهُمَا عَلَى التُّرَابِ وَأَنَّهُ نَفَخَهُمَا فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصَدَ فِيهِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ لَا عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي يَدِهِ أَوْ وَجْهِهِ شَيْءٌ مِنْهُ, وَلَوْ كَانَ الْمَقْصَدُ أَنْ يَحْصُلَ فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ لَأَمَرَ بِحَمْلِ التُّرَابِ عَلَى يَدِهِ وَمَسَحَ الْوَجْهَ بِهِ كَمَا أَمَرَ بِأَخْذِ الْمَاءِ لِلْغَسْلِ أَوْ لِلْمَسْحِ حَتَّى يَحْصُلَ فِي وَجْهِهِ, فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ التُّرَابِ وَنَفَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَنَفَخَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصَدُ حُصُولَ التُّرَابِ فِي وَجْهِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَقْتَضِي حُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَمْسُوحَةِ بِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَفَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ; لِأَنَّ "مِنْ" قَدْ تَكُونُ لِبَدْءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِك: خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ, وَهَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ; فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: لِيَكُنْ ابْتِدَاءُ الْأَخْذِ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ بِلَا فَاصِلٍ يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ النِّيَّةِ وَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِهَا, وَهُوَ كَقَوْلِك: تَوَضَّأَ مِنْ النَّهْرِ; يَعْنِي أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِهِ مِنْ النَّهْرِ إلَى أَنْ اتَّصَلَ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ النَّهْرِ فِي إنَاءٍ وَتَوَضَّأَ مِنْهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ النَّهْرِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَعْنِي مِنْ بَعْضِهِ, وَأَفَادَ بِهِ أَنَّ أَيَّ بَعْضٍ مِنْهُ مَسَحْتُمْ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَاللُّؤْلُؤُ وَنَحْوُهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هِيَ جَوَاهِرُ مَوْدُوعَةٌ فِيهَا, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سئل عَنْ الرِّكَازِ: "هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَانِ خَلَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ". وَاللُّؤْلُؤُ مِنْ الصَّدَفِ, وَالصَّدَفُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ; وَأَمَّا الرَّمَادُ فَهُوَ مِنْ الْخَشَبِ وَنَحْوِهِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ وَلَا مِنْ جَوْهَرِهَا. وَأَمَّا الثَّلْجُ وَالْحَشِيشُ فَهُمَا كَالدَّقِيقِ وَالْحُبُوبِ ونحوها, فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست مِنْ الصَّعِيدِ, وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الْأَبْدَالِ إلَى غَيْرِهَا إلَّا بِتَوْقِيفٍ, فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الصَّعِيدَ بَدَلًا مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ بَدَلٍ مِنْهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَضْرِبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ, وَلَجَازَ التَّيَمُّمُ بِالْقُطْنِ وَالْحُبُوبِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا قَالَ: وَتُرَابُهَا لَنَا طَهُورٌ" وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهِ بِالثَّلْجِ وَالْحَشِيشِ إذَا وَصَلَ إلَى الْأَرْضِ, فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لَجَازَ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ بَدَلٌ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى بَدَلٍ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ كَالزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَالْمَغْرَةِ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ. قِيلَ لَهُ: الزَّرْنِيخُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَرْضِ, وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ وَعَدَمِهِ, وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حَائِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا الْأَرْضُ فِي الْأَغْلَبِ حَائِلَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ, فَكَيْفَ يُشْبِهُهُ الثَّلْجُ وَالْحَشِيشُ وَإِنْ تَيَمَّمَ بِغُبَارِ ثَوْبٍ أَوْ لِبْدٍ وَقَدْ نَفَضَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ, وَإِنَّمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْغُبَارَ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْأَرْضِ, وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ فِي الثِّيَابِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ, كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ فِي إنَاءٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ مَا عُصِرَ مِنْ ثَوْبٍ مَبْلُولٍ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى تُرَابًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِأَرْضٍ لَا تُرَابَ عَلَيْهَا, وَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ عَلَى أَصْلِهِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ

عُمَرَ, أَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى مَسْحٍ مِنْ ثَلْجٍ أَصَابَهُ وَأَرَادُوا أَنْ يَتَيَمَّمُوا فَلَمْ يَجِدُوا تُرَابًا, فَقَالَ: "لِيَنْفُضَ أَحَدُكُمْ ثَوْبَهُ أَوْ صُفَّةَ سَرْجِهِ1 فَيَتَيَمَّمَ بِهِ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِبْدِهِ وَسَرْجِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ بِهِ". قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مَسْحَ الْبَعْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وَأَنَّ الْبَاءَ تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ, إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْهُ وَأَنَّ عَلَيْهِ مَسْحَ الْكَثِيرِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إنْ تَرَكَ الْمُتَيَمِّمُ مِنْ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَمْ يُجْزِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِيهِ إذَا تَرَكَ الْيَسِيرَ مِنْهُ; وَهَذَا أَوْلَى بِمَذْهَبِهِ; لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي لَا غُبَارَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْلِيلُ أَصَابِعِهِ بِالْحِجَارَةِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْيَسِيرِ مِنْهُ لَا يَضُرُّهُ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى2: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْبَيْتِ كُلِّهِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ الْحَرَجُ الضِّيقَ وَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْحَرَجِ بِنَا, سَاغَ الِاسْتِدْلَال بِظَاهِرِهِ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَإِثْبَاتِ التَّوْسِعَةِ فِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ السَّمْعِيَّاتِ, فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِمَا يُوجِبُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ مَحْجُوجًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ, وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الطَّهَارَةُ مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ وَجْهِهِ, وَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ يَدِهِ" إلَى آخِرِهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] يَحْتَمِلُ التَّطْهِيرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَيَحْتَمِلُ التَّطْهِيرَ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْجَنَابَةِ وَالنَّجَاسَةِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] فَانْتَظَمَ لِطَهَارَةِ الْجَنَابَةِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ, وقَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فَلَمَّا احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا, فَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّطْهِيرَ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالتَّطْهِيرَ بِهِ أَيْضًا مِنْ الذُّنُوبِ; وَهَذَا

_ 1 قوله: "أو صفة سرجه" الصفة بضم الصاد وتشديد الفاء, هو موضع الراكب من السرج. "لمصححه". 2 قوله: "وقال الله تعالى: {وليطوفوا} هذا دليل لما ذكر أبو الحسن الكرخي من وجوب استيعاب المتيمم مواضع التيمم كلها فكان المناسب تقديمه على قوله: "وروى الحسن بن زياد إلى آخره". "لمصححه".

يَدُلُّ إذَا كَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ وَإِيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ عَقِيبَ التَّيَمُّمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ كَمَا دَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا فِي الْوُضُوءِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ يَقْتَضِي إحْضَارَ النِّيَّةِ فِي فَحْوَاهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إسْقَاطَ مَا انْتَظَمَهُ, وَأَمَّا الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ فَلَا يَقْتَضِيَانِ النِّيَّةَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِيهِمَا. وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ ليطهركم} كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ, فَصَحَّ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُهُ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ خُصُوصِهِ.

فصل قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا حَضَرَنَا مِنْ عِلْمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ, وَمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعَانِي, وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهَا, وَذَكَرْنَاهُ عَنْ قَائِلِيهَا مِنْ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَإِنْزَالِ اللَّهِ إيَّاهَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي, وَوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْأَحْكَامِ مَعَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِاعْتِبَارِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَحَثَّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِيهِ, وَحَرَّضَنَا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّدَبُّرِ, وَأَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ لِنَتَسَابَقَ إلَى إدْرَاكِ أَحْكَامِهِ وَنَنَالَ دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَالْعُلَمَاءِ النَّاظِرِينَ. وَدَلَّ بِمَا أَنْزَلَ مِنْ الْآيِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُجُوهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ مَعَانِيهَا السَّمْعُ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا, وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِالْقَوْلِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ, وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ اعْتِقَادُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ; إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ وَكَانَ جَائِزًا تَعَبَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِمِثْلِ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ, فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ جَعْلِ لَفْظِ الْكِتَابِ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي أَنْ يَكُونَ مُشَرِّعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فَحْوَى الْآيَةِ وَمَا فِي مَضْمُونِ الْخِطَابِ وَمُقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ. فَانْظُرْ عَلَى كَمْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِفَحْوَاهَا وَمُقْتَضَاهَا مِنْ لَطِيفِ الْمَعَانِي وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ وَضُرُوبِ مَا أَدَّتْ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَهَذِهِ إحْدَى دَلَائِلِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ. وَأَنَا ذَاكِرٌ مُجْمَلًا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُفَصَّلًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِ قَارِئِهِ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا مَحْصُورًا, وَاَللَّهُ تَعَالَى نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ. فَأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ

إرَادَةِ الْقِيَامِ. وَالثَّانِي: مَا اقْتَضَتْهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ مِنْ إيجَابِ الْغَسْلِ بَعْدَ الْقِيَامِ. وَالثَّالِثُ: مَا احْتَمَلَهُ مِنْ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ; لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ نَزَلَتْ. وَالرَّابِعُ: اقْتِضَاؤُهَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ بِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ النَّوْمِ. وَالْخَامِسُ: احْتِمَالُهَا لِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ, وَاحْتِمَالُهَا لِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ. وَالسَّادِسُ: احْتِمَالُهَا إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ مِنْ الْإِحْدَاثِ. وَالسَّابِعُ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ وَاحْتِمَالُهَا لِقَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الدَّلْكَ. وَالثَّامِنُ: إيجَابُهَا بِظَاهِرِهَا إجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَأَنَّ مَسْحَهَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَالتَّاسِعُ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَالْعَاشِرُ: دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِالْفَرْضِ عَلَى مَا وَاجَهْنَا مِنْ الْمُتَوَضِّئِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهَكُمْ} إذْ كَانَ الْوَجْهُ مَا وَاجَهَك, وَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ. وَالْحَادِي عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ; إذْ لَمْ يَكُنْ بَاطِنُهَا مِنْ الْوَجْهِ. وَالثَّانِي عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى نَفْيِ إيجَابِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْغَسْلِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرَافِقُ غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِيهِ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ. وَالسَّادِسَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا لِوُجُوبِ مَسْحِ الْجَمِيعِ. وَالسَّابِعَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا لِجَوَازِ مَسْحِ الْبَعْضِ, أَيِّ بَعْضٍ كَانَ مِنْهُ. وَالثَّامِنَ عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَكْلِيفُهُ مَا لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ. وَالتَّاسِعَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. وَالْعِشْرُونَ: احْتِمَالُهَا لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى قَوْلِ مُوجِبِي اسْتِيعَابِهَا بِالْمَسْحِ. وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مجيزي مسح البعض بقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى عَدَمِ إيجَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَوُجُوبِ الْغَسْلِ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ. وَالرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ثُمَّ أَكْمَلَ الطَّهَارَةَ قَبْلَ الْحَدَثِ; لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى الْمَسْحِ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ. وَالْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجُرْمُوقَيْنِ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ قَدْ مَسَحَ عَلَى رِجْلَيْهِ, كَمَا تَقُولُ: "قَدْ ضَرَبْت رِجْلَيْهِ" وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا خُفَّانِ. وَالسَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ. وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى لُزُومِ مُبَاشَرَةِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ وَامْتِنَاعِ

جَوَازِهِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَسْحِ عَلَى العمامة, فقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قِيلَ له: لما كان قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} مُحْتَمِلًا لِلْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وَأَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهُمَا اسْتَعْمَلْنَاهُ مَا فِي حَالَيْنِ, وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا, لِئَلَّا نُسْقِطُ وَاحِدًا مِنْهُمَا, وَلَمْ تَكُنْ بِنَا حاجة إلى استعمال قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} عَلَى الْمَجَازِ, فَاسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَالثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً وَأَنَّ مَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ. وَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى نَفْيِ فَرْضِ الِاسْتِنْجَاءِ, وَعَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِهِ, وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْ الرِّيحِ. وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ, وَأَنَّهُ إنْ أَدْخَلَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ الْوُضُوءُ. وَالْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ لَيْسَ بِفَرْضٍ, وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا مَا دُونَ الرَّأْسِ. وَالثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ بِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِالْغَسْلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ. وَالثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مُوجِبِي التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ. وَالرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: اقْتِضَاؤُهَا لِإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ. وَالْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى اقْتِضَاءِ هَذَا اللَّفْظِ لِمَنْ سُمِّيَ بِهِ اجْتِنَابُ أَشْيَاءَ, إذَا كَانَتْ الْجَنَابَةُ مِنْ مُجَانَبَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ اجْتِنَابَهُ, وَهُوَ مَا قَدْ بُيِّنَ حُكْمُهُ فِي غَيْرِهَا. وَالسَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى اسْتِيعَابِ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالْغُسْلِ وَوُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فيه بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . وَالسَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ مَتَى طَهُرَ بَدَنُهُ اسْتَبَاحَ الصَّلَاةَ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ فِيهِ. وَالثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ إيجَابُ التَّيَمُّمِ لِلْحَدَثِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَالتَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: جَوَازُهُ لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ ضَرَرَ الْمَاءِ. وَالْأَرْبَعُونَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِ الْمَرِيضِ إذَا خَافَ ضَرَرَ الْبَرْدِ; إذْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْمَرَضِ مَفْهُومًا وَهُوَ أَنَّهُ خَوْفُ الضَّرَرِ. وَالْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ; إذْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ. وَالثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: احْتِمَالُهَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسَّ الْمَرْأَةِ; إذْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ} يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ الْعَطَشَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ; إذْ كَانَ فِي مَعْنَى الْخَائِفِ لِضَرَرِ الْمَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ, وَهُوَ الْمَرِيضُ وَالْمَجْرُوحُ. وَالرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ النَّاسِيَ لِلْمَاءِ فِي رَحْلِهِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ,; إذْ هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَالْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ مَنْ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ, لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ, ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يَعْنِي مَا يَكْفِي لِغَسْلِهَا; وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مِنْ فَرْضِهِ التَّيَمُّمَ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَاءِ غَيْرُ مُرَادٍ. وَالسَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: احْتِمَالُهَا لِاسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ

تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَذَكَرَ عَدَمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ, إذْ كَانَ نَكِرَةً فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ, فَإِذَا وَجَدَ قَلِيلًا لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ. وَالسَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الطَّلَبِ وَبُطْلَانِ قَوْلِ مُوجِبِهِ,; إذْ كَانَ الْوُجُودُ أَوْ الْعَدَمُ لَا يَقْتَضِيَانِ طَلَبًا, فَمُوجِبُ الطَّلَبِ زَائِدٌ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا. وَالثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ إنْ تَوَضَّأَ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ,; إذْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ, لِأَمْرِهِ تَعَالَى إيَّانَا بِالْغَسْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا} مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَقْتِ. وَالتَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي, لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ بِأَحَدِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ مِنْ مَاءٍ أَوْ تُرَابٍ. وَالْخَمْسُونَ: احْتِمَالُهَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْمَحْبُوسِ إذَا وَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا. وَالْحَادِي وَالْخَمْسُونَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ,; إذْ لَمْ يَحْصُرْهُ بِوَقْتٍ وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ بِعَدَمِ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . وَالثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَجِدْ الْمَاءَ, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثم قوله في سياقه: {فَتَيَمَّمُوا} فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ بِهَا بِالْوُضُوءِ, فَلَمَّا لَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ تَقْتَضِ تَكْرَارَ التَّيَمُّمِ. وَالثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ الْوُضُوءَ, لِقَوْلِهِ تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. وَالرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ وَاسْتِيعَابُهُمَا بِهِ. وَالْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ لِاقْتِضَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إيَّاهَا, وَأَنَّ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ إنَّمَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ. وَالسَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: جَوَازُهُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَالصَّعِيدُ الْأَرْضُ. وَالسَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بُطْلَانُ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ النجس لقوله تعالى {طَيِّباً} وَالنَّجِسُ لَيْسَ بِطَيِّبٍ. وَالثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّيَمُّمَ الْقَصْدُ وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهُ يَكُونُ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ, وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِشَيْءٍ آخَرَ يَقْطَعُ حُكْمَ النِّيَّةِ وَيُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ. وَالتَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: احْتِمَالُهَا لِإِصَابَةِ بَعْضِ التُّرَابِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ, لِقَوْلِهِ: {مِنْهُ} وَهُوَ لِلتَّبْعِيضِ. وَالسِّتُّونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ التَّيَمُّمَ بِالثَّلْجِ وَالْحَشِيشِ; إذْ لَيْسَا مِنْ الصَّعِيدِ. وَالْوَاحِدُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} عَلَى إيجَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلِسَ الْبَوْلِ وَالْمَذْيَ وَنَحْوَهَا تُوجِبُ الْوُضُوءَ; إذْ كَانَ الْغَائِطُ وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ يُؤْتَى لِكُلِّ ذَلِكَ. وَالثَّانِي وَالسِّتُّونَ: دلالة قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} عَلَى جَوَازِ الْغَسْلِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ, فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ

الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَيَسْتَدِلُّ بِهِ أَيْضًا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَلَى جَوَازِهِ بِالْخَلِّ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ وَيَسْتَدِلُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ الطَّاهِرَاتِ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ مِثْلُ مَاءِ الْوَرْدِ وَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَةُ قَوْله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} عَلَى جَوَازِهِ بِالنَّبِيذِ; إذْ كَانَ فِي النَّبِيذِ مَاءٌ, وَإِنَّمَا أَطْلَقَ لَنَا التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ لِذِكْرِهِ إيَّاهُ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ, وَيَسْتَدِلُّ بِهِ أَيْضًا مَنْ يُجِيزُ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمُضَافِ كَالْمَرَقِ وَخَلِّ التَّمْرِ وَنَحْوِهِ; إذْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ. وَالرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَتُهَا لِمَنْ يَمْنَعُ الْمُسْتَحَاضَةَ صَلَاتَيْ فَرْضٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ عَلَى لُزُومِ إعَادَةِ الْوُضُوءِ لِفَرْضٍ ثَانٍ, لِقَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فَقَدْ رُوِيَ: "إذَا قُمْتُمْ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ" وَهِيَ مُحْدِثَةٌ, لِوُجُودِ الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ. وَالْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ كَدَلَالَتِهَا فِي الِاسْتِحَاضَةِ; إذْ كَانَ التَّيَمُّمُ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْحَدَثِ, فَهُوَ مَتَى أَرَادَ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَامَ إلَيْهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ. وَالسَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ دُلُوكِهَا, وَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ لَهَا بِالْمَاءِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ التُّرَابِ إذَا كَانَ مَعْدُومًا; فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَقَبْلَ الْوَقْتِ, كَمَا اقْتَضَى جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَفِي أَوَّلِهِ. وَالسَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ لِلْمَحْبُوسِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ بِهِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فَشَرَطَ فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَرَضُ, وَالْآخَرُ: السَّفَرُ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَكَانَ مُقِيمًا إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِحَبْسٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا. قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ, إلَّا أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ فِي جَوَازِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ الَّذِي الْأَغْلَبُ فِيهِ عَدَمُ الْمَاءِ, وَالثَّانِي: عَدَمُهُ; وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ بِتَعَذُّرِ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْحَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ وَهُوَ السَّفَرُ لَا فِي الْحَضَرِ الَّذِي الْمَاءُ فِيهِ مَوْجُودٌ فِي الْأَغْلَبِ, وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَنْعُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ مِنْ غَيْرِ حَالِ الْعَادَةِ فِيهَا, وَالْغَالِبُ مِنْهَا عَدَمُهُ. وَالثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} عَلَى نَفْيِ كُلِّ مَا أَوْجَبَ الْحَرَجَ, وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ عَلَى مُنْتَحِلِي مَذْهَبِ التَّضْيِيقِ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ, وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ فَيَحْبِسُهُ لِشُرْبِهِ; إذْ كَانَ فِيهِ نَفْيُ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ, وَعَلَى نَفْيِ إيجَابِ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ فِي الطَّهَارَةِ, وَعَلَى نَفْيِ إيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا, وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَالتَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: دَلَالَةُ قوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ حُصُولُ الطَّهَارَةِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَتْ مِنْ تَرْتِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ,

وَمِنْ مُوَالَاةٍ أَوْ تَفْرِيقٍ, وَمِنْ وُجُوبِ نِيَّةٍ أو عدمها, وما جرى مجرى ذلك.

مطلب: اغتساله عليه السلام بالصاع غير موجب اعتباره والسبعون: دلالة قوله: {فَاطَّهَّرُوا} عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ تَقْدِيرِ الْمَاءِ; إذْ كَانَ الْمُرَادُ التَّطْهِيرَ, وَعَلَى أَنَّ اغْتِسَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّاعِ غَيْرُ مُوجِبٍ اعْتِبَارَهُ. والواحد والسبعون: أن قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ; إذْ الْمَسْحُ لَا يَقْتَضِي مَاءً1, فَلَمَّا قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ. فَهَذِهِ وُجُوهُ دَلَالَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمَعَانِي وَضُرُوبِ الْأَحْكَامِ, مِنْهَا نُصُوصٌ وَمِنْهَا احْتِمَالٌ فِي الطَّهَارَةِ الَّتِي يَجِبُ تَقْدِيمُهَا أَمَامَ الصَّلَاةِ وَشُرُوطُهَا الَّتِي تَصِحُّ بِهَا. وَعَسَى أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِهَا وَضُرُوبِ احْتِمَالِهَا مِمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُنَا مَتَى بُحِثَ عَنْهَا وَاسْتُقْصِيَ النَّظَرُ فِيهَا أدركها من وفق لفهمها; والله الموفق.

_ 1 قوله: "لا يقتضي ماء" أي من حيث هو إذا أطلق "لمصححه".

بَابُ الْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدْلِ الْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} وَمَعْنَاهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُكُمْ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجْتِنَابِهِ, فَهَذَا هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} يَعْنِي بِالْعَدْلِ; قَدْ قِيلَ فِي الشَّهَادَةِ إنَّهَا الشَّهَادَاتُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ; وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَعَاصِيهِمْ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فَكَانَ مَعْنَاهُ: أَنْ كُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشَّهَادَةَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعِينَهُمْ فِي دِيَةٍ, فَهَمُّوا أَنْ يَقْتُلُوهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] فَحَمَلَهُ الْحَسَنُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى, وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ في غيرهم وأن لا تكون تكرارا.

مطلب: لا حظ للنظر مع الأثر

مطلب: لا حظ للنظر مع الأثر فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا جَازَ الْمَسْحُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ. قِيلَ لَهُ: لا

مطلب: المسح على الجبيرة مستحب عند أبي حنيفة

مطلب: المسح على الجبيرة مستحب عند أبي حنيفة فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ; لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ, وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْتَحَبٌّ تَرْكُهُ لَا يَضُرُّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ; فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْمَسْحِ مَقْصُورًا عَلَى السَّفَرِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَتْ فِيهِ, وَأَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْحَضَرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: "سَلُوا عَلِيًّا فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ"; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ فِي الْحَضَرِ; لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى عَلَى عَائِشَةَ؟ قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سُئِلَتْ عَنْ تَوْقِيتِ الْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ فَأَحَالَتْ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عَائِشَةَ أَحَدُ مَنْ رَوَى تَوْقِيتَ الْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ جَمِيعًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا تَوْقِيتُ مَسْحِ الْمُسَافِرِ فِيهَا تَوْقِيتُهُ لِلْمُقِيمِ, فَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُسَافِرِ ثَبَتَ لِلْمُقِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِغَسْلِهِ فِي الْحَضَرِ وَقَوْلُهُ: "وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ". قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَخْتَصَّ حَالُ السَّفَرِ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ حَالِ الْحَضَرِ كَالْقَصْرِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْإِفْطَارِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُبِحْ الْمَسْحَ لِلْمُقِيمِ وَلَا لِلْمُسَافِرِ قِيَاسًا, وَإِنَّمَا أَبَحْنَاهُ بِالْآثَارِ, وَهِيَ مُتَسَاوِيَةٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ الْمَسْحِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ, فَلَا مَعْنَى لِلْمُقَايَسَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْمَسْحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَكْمَلَ الطَّهَارَةَ قَبْلَ الْحَدَثِ أَجْزَأَهُ أَنْ يَمْسَحَ إذَا أَحْدَثَ", وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ; وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: "أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَلْبَسَ خُفَّيْهِ بَعْدَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ" وَدَلِيلُ أَصْحَابِنَا عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لُبْسِهِ قَبْلَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ وَبَعْدَهَا. وروى

باب الوضوء مرة مرة

بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةُ. الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ غَسْلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً; إذْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعَدَدِ فَلَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ, فَمَنْ غَسَلَ مَرَّةً فَقَدْ أَدَّى الْفَرْضَ. وَبِهِ وَرَدَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: "هَذَا الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً, وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَمَرَّةً مَرَّةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ فَرْضُ الْوُضُوءِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ; وَفِيهِ أَشْيَاءُ مَسْنُونَةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْخَيْرِ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ الرَّحْبَةَ بَعْدَمَا صَلَّى الْفَجْرَ, فَجَلَسَ فِي الرَّحْبَةِ ثُمَّ قَالَ لِغُلَامِهِ: ايتِنِي بِطَهُورٍ فَأَتَاهُ الْغُلَامُ بِإِنَاءٍ وَطَسْتٍ قَالَ عَبْدُ الْخَيْرِ: وَنَحْنُ جُلُوسٌ نَنْظُرُ إلَيْهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الْإِنَاءَ فَأَكْفَأَهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ, ثم أخذ بيده اليمنى الإناء

مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "سجد وخهي للذي خلقه"

مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "سجد وخهي للذي خلقه" فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ" فَجَعَلَ السَّمْعَ مِنْ الْوَجْهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُرَدْ بِالْوَجْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعُضْوَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ, وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ جُمْلَةَ الْإِنْسَانِ هُوَ السَّاجِدُ لِلَّهِ لَا الْوَجْهُ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يَعْنِي بِهِ ذَاتَه. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ السَّمْعَ, وَلَيْسَ الْأُذُنَانِ هُمَا السَّمْعُ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْأُذُنَيْنِ; وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: إلَى هَامَةٍ قَدْ وَقَرَ الضَّرْبُ سَمْعَهَا ... وَلَيْسَتْ كَأُخْرَى سَمْعُهَا لَمْ يُوقَرْ فَأَضَافَ السَّمْعَ إلَى الْهَامَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا تُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَسْحٌ مَسْنُونٌ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِلْمَفْرُوضِ مِنْهُ, أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنْ يَمْسَحَ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إلَى أَصْلِ السَّاقِ وَالْمَفْرُوضُ مِنْهُ بَعْضُهُ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَمِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَعَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِقْدَارُ مَا يُسَمَّى مَسْحًا؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مُقَدَّمَهُ وَمُؤَخَّرَهُ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَرُوِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْمَازِنِيُّ وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ, بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ1 ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْضِعٍ مَفْرُوضِ الْمَسْحِ; لِأَنَّ مَسْحَ مَا تَحْتَ الْأُذُنَيْنِ لَا يُجْزِي مِنْ الْمَفْرُوضِ, وَإِنَّمَا مَسْحُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ على جهة التبع للمفروض.

_ 1 قوله: إلى "قفاه" القفا مؤخر العنق كما في لسان العرب والمصباح. "لمصححه".

فصل مطلب: فيما تمسك به القائلون بفرض التسمية على الوضوء وجواب المصنف عن ذلك

فصل مطلب: فيما تمسك به القائلون بفرض التسمية على الوضوء وجواب المصنف عن ذلك وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ لِأَنَّهُ أَبَاحَ الصَّلَاةَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ, وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَآهَا فَرْضًا فِي الْوُضُوءِ, فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] فَعَلَّقَ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا فِيهِ, فَمَنْ شَرَطَهَا فَهُوَ زَائِدٌ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَنَافٍ لِمَا أَبَاحَتْهُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ. ويدل عليه من جهة السنة

فصل مطلب: اختلف الفقهاء في فرضية الاستنجاء

فصل مطلب: اختلف الفقهاء في فرضية الاستنجاء قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَأَنَّ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ مَعَ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَوْضِعَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ, فَأَجَازَ أَصْحَابُنَا صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فِي تَرْكِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِيهِ إذَا تَرَكَهُ رَأْسًا". وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ; وَقَالَ فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ

فصل

فصل ويستدل بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِإِيجَابِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ, وَعَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ تَقْدِيمُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَا يَرَى الْمُتَوَضِّئُ; وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِيهِ غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ وَلَا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ قَبْلَ الذِّرَاعَيْنِ". وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا خَرَجَ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْت إذَا أَتْمَمْت وُضُوئِي", وَلَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيمَا نَعْلَمُ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, يَدُلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهَا مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا جَوَازُ الصَّلَاةِ بِحُصُولِ الْغَسْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّرْتِيبِ; إذْ كانت "الواو" ههنا عند

مطلب: في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج

مطلب: فِي جَوَابِ ابْنِ عَبَّاس السَّائِلَ عَنْ تَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَإِنْ قِيلَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَأْمُرُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ: كَيْفَ تَقْرَءُونَ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ؟ قَالُوا: الْوَصِيَّةُ, قَالَ: فَبِأَيِّهِمَا تَبْدَءُونَ؟ قَالُوا: بِالدَّيْنِ, قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ. فَلَوْلَا أَنَّ فِي لِسَانِهِمْ التَّرْتِيبَ فِي الْفِعْلِ عَلَى حَسَبِ وُجُودِهِ فِي اللَّفْظِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِ هَذَا السَّائِلِ وَهُوَ قَدْ جَهِلَ مَا فِيهِ التَّرْتِيبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ, وَهُوَ قَوْلُهُ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَهَذَا اللَّفْظُ لَا مَحَالَةَ يُوجِبُ تَرْتِيبَ فِعْلِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَتَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ, فَمَنْ جَهِلَ هَذَا لَمْ يُنْكَرْ مِنْهُ الْجَهْلُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَمَا يَدْرِي هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ, وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ; وَأَيُّهُمَا أَوْلَى قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبَ الْفِعْلِ, أَوْ قَوْلُ هَذَا السَّائِلِ؟ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي إسْقَاطِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ إلَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ كَافِيًا مُغْنِيًا. فَإِنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" , وَقَالَ تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17, 18] فَقَوْلُهُ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" أَمْرٌ يَقْتَضِي التَّبْدِئَةَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ, وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] لُزُومٌ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِهِ مُرَتَّبًا إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ كَذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُهُ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" فَإِنَّمَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا, وَحَفِظَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ السَّبَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" , وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُمَا حَدِيثَيْنِ وَنُثْبِتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْلَ فِي حَالَيْنِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَنَحْنُ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ, وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِينَا فِي مُرَادِ اللَّهِ مِنْ التَّبْدِئَةِ بِالْفِعْلِ إذَا بَدَأَ بِهِ فِي اللَّفْظِ, فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ حَتَّى نَبْدَأَ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] لِأَنَّ اتِّبَاعَ قُرْآنِهِ أَنْ نَبْدَأَ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ, وَوَاجِبٌ أَنْ نَبْدَأَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ مِنْ تَرْتِيبٍ أَوْ

باب الغسل من الجنابة

بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْجَنَابَةُ اسْمٌ شَرْعِيُّ يُفِيدُ لُزُومَ اجْتِنَابِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَمَنْ كَانَ مَأْمُورًا بِاجْتِنَابِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الِاغْتِسَالِ فَهُوَ جُنُبٌ, وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ أَوْ الْإِيلَاجِ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ مِنْ الْإِنْسَانِ, وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ. وَيَنْفَصِلُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَحْظُرَانِ مَا تَحْظُرُهُ الْجَنَابَةُ مِمَّا قَدَّمْنَا, بِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يَحْظُرَانِ الْوَطْءَ أَيْضًا, وَوُجُودُ الْغُسْلِ لَا يُطَهِّرُهُمَا أَيْضًا مَا دَامَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ, وَالْغُسْلُ يُطَهِّرُ الْجُنُبَ وَلَا تَحْظُرُ عَلَيْهِ الْجَنَابَةُ الْوَطْءَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ جُنُبًا لِمَا لَزِمَ مِنْ اجْتِنَابِ مَا وَصَفْنَا إلَى أَنْ يَغْتَسِلَ فَيُطَهِّرَهُ الْغُسْلُ. وَالْجُنُبُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ, كَمَا قَالُوا" رَجُلٌ عَدْلٌ وَقَوْمٌ عَدْلٌ" وَ" رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْلٌ زُورٌ" مِنْ الزِّيَارَةِ, وَتَقُولُ مِنْهُ: "أَجْنَبَ الرَّجُلُ وَتَجَنَّبَ وَاجْتَنَبَ" وَالْمَصْدَرُ الْجَنَابَةُ وَالِاجْتِنَابُ; فَالْجَنَابَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ الْبُعْدُ وَالِاجْتِنَابُ لِمَا وَصَفْنَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] يَعْنِي: الْبَعِيدَ مِنْهُ نَسَبًا; فَصَارَتْ الْجَنَابَةُ فِي الشَّرْحِ اسْمًا لِلُزُومِ اجْتِنَابِ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْأُمُورِ, وَأَصْلُهُ التَّبَاعُدُ عَنْ الشَّيْءِ, وَهُوَ مِثْلُ الصَّوْمِ قَدْ صَارَ اسْمًا فِي الشَّرْعِ لِلْإِمْسَاكِ عَنْ أَشْيَاءَ مَعْلُومَةٍ وَقَدْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكَ فَقَطْ وَاخْتُصَّ فِي الشَّرْعِ بِمَا قَدْ عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَيْهِ, وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ اللُّغَةِ إلَيْهَا, فَكَانَ الْمَعْقُولُ بِهَا مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا فِي الشَّرْعِ; فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ السِّمَةُ الطَّهَارَةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . وقال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

مطلب: يجب استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة

مطلب: يجب اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرُهُمَا فَائِدَةً فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] يَقْتَضِي جَوَازَهُ مَعَ تَرْكِهَا لِوُقُوعِ اسْمِ الْمُغْتَسِلِ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: إذا كان قوله: {فَاطَّهَّرُوا} يَقْتَضِي تَطْهِيرَ دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرُهُمَا فَائِدَةً, وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى أَخَصِّهِمَا حُكْمًا; إذْ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ يُسَمَّى مُغْتَسِلًا أَيْضًا؟ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الِاغْتِسَالَ نَفْيٌ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ عَنْ مَالِك بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا الْبَشَرَةَ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّارِ" قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بْنُ النَّضْرِ بْنِ بَحْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَابُورٍ وَالْعُمَرِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "تَحْتَ كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة" فَفِيهِ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَنْفَ فِيهِ شَعْرٌ وَبَشَرَةٌ وَالْفَمُ فِيهِ بَشَرَةٌ فَاقْتَضَى الْخَبَرُ وُجُوبَ غَسْلِهِمَا, وَحَدِيثُ عَلِيٍّ أَيْضًا يُوجِبُ غَسْلَ دَاخِلِ الْأَنْفِ لِأَنَّ فِيهِ شَعْرًا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعَيْنَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا شَعْرٌ. قِيلَ لَهُ: هُوَ شَاذٌّ نَادِرٌ, وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ, وَلَا حُكْمَ لِلشَّاذِّ النَّادِرِ فِيهَا; وَعَلَى أَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ, وَالْعُمُومُ سَالِمٌ لَنَا فِيمَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُدْخِلُ الْمَاءَ عَيْنَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ, وَقَدْ كَانَ مُصَعِّبًا عَلَى نَفْسِهِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ يَفْعَلُ فِيهَا ما لا يراه

باب التيمم

بَابُ التَّيَمُّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ

مطلب: المفاعلة لا تكون من اثنين إلا في أشياء نادرة

مطلب: المفاعلة لا تكون من اثنين إلا في أشياء نادرة وَدَلِيلٌ آخَرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّهَا قَدْ قُرِئَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} و "لمستم", فمن قرأ: "أو لامستم" فَظَاهِرُهُ الْجِمَاعُ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ إلَّا فِي أَشْيَاءَ نَادِرَةٍ, كَقَوْلِهِمْ: "قَاتَلَهُ اللَّهُ" وَ" جَازَاهُ وَعَافَاهُ اللَّهُ" وَنَحْوِ ذَلِكَ, وَهِيَ أَحْرُفٌ مَعْدُودَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا أَغْيَارُهَا; وَالْأَصْلُ فِي الْمُفَاعَلَةِ أَنَّهَا بَيْنَ اثْنَيْنِ, كَقَوْلِهِمْ: "قَاتَلَهُ وَضَارَبَهُ وَسَالَمَهُ وَصَالَحَهُ" وَنَحْوِ ذَلِكَ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا; وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك لَا تَقُولُ "لَامَسْت الرَّجُلَ وَلَامَسْت الثَّوْبَ" إذَا مَسِسْته بِيَدِك لِانْفِرَادِك بِالْفِعْلِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ} بِمَعْنَى: أَوْ جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ, فَيَكُونُ حَقِيقَتُهُ الْجِمَاعَ; وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "أَوْ لَمَسْتُمْ" يَحْتَمِلُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ وَيَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنَى وَاحِدًا; لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنَى وَاحِدًا فَهُوَ الْمُحْكَمُ, وَمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ, وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِحَمْلِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ وَرَدِّهِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ, فَلَمَّا جُعِلَ الْمُحْكَمُ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ فقد أمرنا بحمله عليه,

باب وجوب التيمم عند عدم الماء

بَابُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَرْطُ الْوُجُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ, وَالْجُمْلَةُ الَّتِي اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهَا أَنَّ الْوُجُودَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ أَوْ لَمْ يَجِدْهُ إلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ تَيَمَّمَ, وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُغَالِيَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ بِثَمَنٍ كَمَا يُبَاعُ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَشْتَرِيَهُ, وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَرِيهِ. وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا شَرْطَ الْوُجُودِ أَنْ يَكْفِيَهُ لِجَمِيعِ طَهَارَتِهِ, وَأَمَّا الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ فِي رَحْلِهِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ, وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الطَّلَبِ وَهَلْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِدٍ قَبْلَ الطَّلَبِ; وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ إذَا خَافَ الْعَطَشَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِلطَّهَارَةِ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ لِأَنَّهُ مَتَى خَافَ الضَّرَرَ فِي اسْتِعْمَالِهِ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهِ إلَى التَّيَمُّمِ كَالْمَرِيضِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فَنَفَى الْحَرَجَ عَنَّا, وَهُوَ الضِّيقُ, وَفِي الْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْعَطَشُ أَعْظَمُ الضِّيقِ, وَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى نَفْيًا مُطْلَقًا; وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَمِنْ الْعُسْرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي يُؤَدِّيهِ إلَى الضَّرَرِ وَتَلَفِ النَّفْسِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الْمَاءِ وَحَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَلَا مَاءَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشُرْبِهِ وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ لِلطَّهَارَةِ, فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ الْعَطَشَ فِي الْمُسْتَأْنَفِ بِاسْتِعْمَالِهِ؟ وَرُوِيَ نحو هذا القول فيمن خاف

مطلب: في حكم من صلى ونسي الماء في رحله

مطلب: في حكم من صلى ونسي الماء في رحله وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُودِ أَمْ لَا; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا يُعِيدُ بَعْدَهُ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "يُعِيدُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا". وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَالنَّاسِي غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَا هُوَ نَاسٍ لَهُ; إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ, فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَاءَ فِي رَحْلِهِ وَلَا بِحَضْرَتِهِ; وَقَالَ اللَّهُ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فَاقْتَضَى ذَلِكَ سُقُوطَ حُكْمِ الْمَنْسِيِّ. أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى النَّاسِي لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِي لَا يَصِحُّ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا مُكَلَّفًا بِالْغَسْلِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّيَمُّمِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ سُقُوطُهُمَا جَمِيعًا عَنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ, فَثَبَتَ جَوَازُ تَيَمُّمِهِ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ وَطَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ بِئْرٌ مُغَطَّى الرَّأْسِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ, وَوُجُودُ الْمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ أَوْ فِي نَهْرٍ أَوْ فِي بِئْرٍ, فَلَمَّا كَانَ جَهْلُهُ بِمَاءِ الْبِئْرِ مُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْوُجُودِ كَذَلِكَ جَهْلُهُ بِالْمَاءِ الَّذِي فِي رَحْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ أَوْ الصَّلَاةَ لَمْ يُسْقِطْهُمَا النِّسْيَانُ, فَكَذَلِكَ نِسْيَانُ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" يَقْتَضِي سُقُوطَهُ, وَكَذَلِكَ نَقُولُ; وَاَلَّذِي أَلْزَمْنَاهُ عِنْدَ الذِّكْرِ هُوَ فَرْضٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ, وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ سَقَطَ, وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَا النَّاسِيَ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَأَلْزَمْنَاهُ الطَّهَارَةَ الْمَنْسِيَّةَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى, وَإِلَّا فَالنِّسْيَانُ يُسْقِطُ عَنْهُ

مطلب: في أن الوجود لا يقتضي سبق طلب

مطلب: في أن الوجود لا يقتضي سبق طلب وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِكِ الطَّلَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَاءٌ, هَلْ هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ يَطْمَعْ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ مُخْبِرٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَيُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "عَلَيْهِ الطَّلَبُ, وَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يُجْزِهِ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنْ طَمِعَ فِيهِ أَوْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِمَوْضِعِهِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِيلٌ أَوْ أَكْثَرُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالضَّرَرِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ أَتَاهُ, وَهَذَا إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ سَبُعٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ أَصْحَابِهِ". وَإِنَّمَا قَالُوا فِيمَنْ كَانَتْ حَالُهُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ, وَقَالَ الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ غَيْرَ وَاجِدٍ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ الْوُجُودَ لَا يَقْتَضِي طَلَبًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فَأُطْلِقَ اسْمُ الْوُجُودِ عَلَى مَا لَمْ يَطْلُبُوهُ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فليشهد ذوي

مطلب: فيمن ووجد الماء في آخر الوقت يجب عليه الوضوء وإن خاف فوات الوقت خلافا لمالك

مطلب: فيمن ووجد الماء في آخر الوقت يجب عليه الوضوء وإن خاف فوات الوقت خلافا لمالك وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَخَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ إنْ لَمْ يَتَيَمَّمْ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ مِنْ مُسَافِرٍ أَوْ مُقِيمٍ وَهُوَ فِي مِصْرٍ وَهُوَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَخَافَ إنْ تَوَضَّأَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوَقْتُ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْوُضُوءُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ إذَا خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "إذَا خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ إنْ تَوَضَّأَ يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ ثُمَّ أَعَادَ بِالْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَقْتِ". وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَأَوْجَبَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَنَقْلِهِ عَنْهُ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ نَقْلُهُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْآيَةِ; وَحِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَإِدْرَاكِ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ, فَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَمَنَعَهُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ جُنُبًا إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْغُسْلِ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ بَقَاءَ الْوَقْتِ وَلَا غَيْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: "التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" , فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا فَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ سَوَاءٌ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَخَفْ, لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا} , وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فَلَيْسَ التُّرَابُ طَهُورًا لَهُ فَلَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ آكَدُ مِنْ فَرْضِ الْوَقْتِ, بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِي صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَهِيَ جَائِزَةٌ مَعَ فَوَاتِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَلٍّ لِأَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَإِنْ قَالَ: التَّيَمُّمُ طَهُورٌ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا هُوَ طَهُورٌ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَمَا شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِ فَلَيْسَ بِطَهُورٍ, فَالْوَاجِبُ عَلَيْك أَنْ تَدُلَّ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ طَهُورٌ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانُ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ حَتَّى تَبْنِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَذْهَبَك فِي أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُسَافِرُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِيُدْرِكَ الْوَقْتَ لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَائِفٍ فَوْتَ الْوَقْتِ وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ تَيَمُّمِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَيْسَ هُوَ لِأَجْلِ فَوَاتِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ شَرْطُ التَّيَمُّمِ عَدَمَ الْمَاءِ لَمَا جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن

مطلب: في حكم المجوس الفاقد للطهورين

مطلب: في حكم المجوس الفاقد للطهورين وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ قَذِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ نَظِيفٍ, فَقَالَ أبو

مطلبء: المجمل لا يصح لإيجاب به

مطلبء: المجمل لا يصح لإيجاب به فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُ لَوْ تَيَمَّمَ وَدَخَلَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ؟ قِيلَ لَهُ: يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُضِيُّ عَلَيْهَا, وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا أَمْكَنَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَالدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ, لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَجَوَابٌ آخَرُ عَمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ الْخَبَرِ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَا يَصِحُّ الْإِيجَابُ بِهِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ يُوجَدُ

فصل مطلب: في الوضوء بنبيذ

فصل مطلب: في الوضوء بنبيذ وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ, عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ مِنْ وجهين: أحدهما قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى غَاسِلًا بِهَا, إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ فِيهِ, وَنَبِيذُ التَّمْرِ مِمَّا قَدْ شَمِلَهُ الْعُمُومُ. وَالثَّانِي: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَإِنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُنْكَرٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ, وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ مَاءٌ, فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ بِالظَّاهِرِ, وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ. وَقِيلَ إنْ نُقِلَ مِنْ الْمَاءِ إلَى بَدَلٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ حُكْمُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ, لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنْ الْمَاءِ; إذْ قَدْ تَوَضَّأَ بِهِ فِي وَقْتٍ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مَقْصُورَةً عَلَى الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ; وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِنَا. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ وُضُوءٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "النَّبِيذُ وُضُوءٌ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: "رَكِبْت مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَحْرَ, فَفَنِيَ مَاؤُهُمْ فَتَوَضَّئُوا بِالنَّبِيذِ وَكَرِهُوا مَاءَ الْبَحْرِ". وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ فُضَالَةَ عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ" فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ جَوَازُ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نَظَائِرِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ: "أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ" وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ; وَرُوِيَ عَنْهُ: "أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ" وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ; وَرَوَى نُوحٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَقَالَ: "يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ". وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ" وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ الْمُعَلَّى. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ صَاحِبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: "يَتَوَضَّأُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ إنْ شَاءَ". وَرَوَى الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو أُمَامَةَ, رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ.

باب صفة التيمم

بَابُ صِفَةِ التَّيَمُّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَتِهِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ" فَقَالُوا: "يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ ثُمَّ يُحَرِّكُهُمَا فَيُقْبِلُ بِهِمَا وَيُدْبِرُ عَلَى الصَّعِيدِ ثُمَّ يَنْفُضُهُمَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ, ثُمَّ يُعِيدُ إلَى الصَّعِيدِ كَفَّيْهِ جَمِيعًا فَيُقْبِلُ بِهِمَا وَيُدْبِرُ وَيَرْفَعُهُمَا فَيَنْفُضُهُمَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِكُلِّ كَفٍّ ظَهْرَ ذِرَاعِهِ الْأُخْرَى وَبَاطِنَهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّهُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ; وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ, وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَإِنْ تَيَمَّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَمْ يُعِدْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "تُجْزِي ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكُوعَيْنِ", وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "يَمْسَحُ يَدَيْهِ إلَى الْإِبِطِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يَتَيَمَّمُ بِضَرْبَتَيْنِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: "لَمْ نَجِدْ عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الضَّرْبَتَيْنِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ". وَالْحُجَّةُ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَسْلَعُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ: "ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَمَّارٍ, فَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ". وَرَوَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضَرْبَتَيْنِ" وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّهُ زَائِدٌ وَخَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْوُضُوءِ الِاكْتِفَاءُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ لِعُضْوَيْنِ بَلْ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ, كَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَسْحًا وَالْأُخْرَى غَسْلًا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ رِجْلٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَسْلًا؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثِ الْأَسْلَعِ, ذَكَرَا فِيهِ جَمِيعًا أَنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَاخْتُلِفَ عَنْ عَمَّارٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ, فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عَمَّارٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوْفُوا التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ" , وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّيَمُّمِ فَأَمَرَنِي بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارٍ, وَقَالَ فِيهِمَا: "وَنَفَخَ فِيهِمَا وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وَرَوَى سَلَمَةُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عمار: أنه تمعك في التراب في

باب ما يتيمم به

بَابُ مَا يَتَيَمَّمُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يُجْزِي التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ: التُّرَابُ وَالرَّمْلُ وَالْحِجَارَةُ وَالزَّرْنِيخُ وَالنُّورَةُ وَالطِّينُ الْأَحْمَرُ والمرداسنج1 وَمَا أَشْبَهَهُ", وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ, وَكَذَلِكَ يُجْزِي بِالْكُحْلِ وَالْآجُرِّ الْمَدْقُوقِ فِي قَوْلِهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ; وَرَوَاهُ أَيْضًا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ تَيَمَّمَ بِبُورَقٍ2 أَوْ رَمَادٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ, وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي قَوْلِهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يُجْزِي إلَّا أَنْ يَكُونَ تُرَابًا أَوْ رَمْلًا". وَإِنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَخْرَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا صَعِيدَ عَلَيْهِ مَا أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يُجْزِيهِ". وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَيَمَّمَ بِأَرْضٍ لَا صَعِيدَ عَلَيْهَا لَمْ يُجْزِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ, وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يَجُوزُ بِالزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهِمَا وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ, وَلَا يَتَيَمَّمُ بِالْآجُرِّ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يَتَيَمَّمُ بِالْحَصَى وَالْجَبَلِ" وَكَذَلِكَ حَكَى عَنْهُ أَصْحَابُهُ فِي الزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهِمَا, قَالَ: "وَإِنْ تَيَمَّمَ بِالثَّلْجِ وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ, وَكَذَلِكَ الْحَشِيشُ إذَا كَانَ مُمْتَدًّا". وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ بِالثَّلْجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَتَيَمَّمُ بِالتُّرَابِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالْيَدِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَكَانَ الصَّعِيدُ اسْمًا لِلْأَرْضِ, اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ; وَأَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْهُ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ, وَالصَّعِيدُ التُّرَابُ, وَالصَّعِيدُ الْقَبْرُ, وَالصَّعِيدُ الطَّرِيقُ. فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ فَهُوَ صَعِيدٌ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ, وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ, وَالْجِصُّ وَالزَّرْنِيخُ لَا يُنْبِتُ شَيْئًا, فَلَيْسَ إذًا بِطَيِّبٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] . قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرَ الْمُبَاحَ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] فَأَفَادَ بِذَلِكَ إيجَابَ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ دُونَ النَّجِسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا لَيْسَ بِسَبْخَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف: 58] وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالسَّبْخَةِ التي لا تخرج

_ 1 قوله: "المرداسنج" معرب مرداسنك بضم أوله وتسكين الراءو وهو جوهر مركب من القصدير والرصاص, كذا ذكره عاصم أفندي في ترجمة البرهان القاطع. وفي الفتاوى الهندية أنه يجوز التيمم بالمرداسنج العدني دون المتخذ من شيء آخر, هكذا في محيط السرخسي. "لمصححه". 2 قوله: "ببورق" هو نوع من الأملاح ويقال له النطرون. "لمصححه".

فصل

فصل قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا حَضَرَنَا مِنْ عِلْمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ, وَمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعَانِي, وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهَا, وَذَكَرْنَاهُ عَنْ قَائِلِيهَا مِنْ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَإِنْزَالِ اللَّهِ إيَّاهَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي, وَوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْأَحْكَامِ مَعَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِاعْتِبَارِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَحَثَّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِيهِ, وَحَرَّضَنَا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّدَبُّرِ, وَأَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ لِنَتَسَابَقَ إلَى إدْرَاكِ أَحْكَامِهِ وَنَنَالَ دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَالْعُلَمَاءِ النَّاظِرِينَ. وَدَلَّ بِمَا أَنْزَلَ مِنْ الْآيِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُجُوهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ مَعَانِيهَا السَّمْعُ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا, وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِالْقَوْلِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ, وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ اعْتِقَادُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ; إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ وَكَانَ جَائِزًا تَعَبَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِمِثْلِ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ, فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ جَعْلِ لَفْظِ الْكِتَابِ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي أَنْ يَكُونَ مُشَرِّعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فَحْوَى الْآيَةِ وَمَا فِي مَضْمُونِ الْخِطَابِ وَمُقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ. فَانْظُرْ عَلَى كَمْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِفَحْوَاهَا وَمُقْتَضَاهَا مِنْ لَطِيفِ الْمَعَانِي وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ وَضُرُوبِ مَا أَدَّتْ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَهَذِهِ إحْدَى دَلَائِلِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ. وَأَنَا ذَاكِرٌ مُجْمَلًا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُفَصَّلًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِ قَارِئِهِ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا مَحْصُورًا, وَاَللَّهُ تَعَالَى نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ. فَأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} ما احتمله اللفظ من

مطلب: اغتساله عليه السلام بالصاع غير موجب اعتباره

مطلب: اغتساله عليه السلام بالصاع غير موجب اعتباره والسبعون: دلالة قوله: {فَاطَّهَّرُوا} عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ تَقْدِيرِ الْمَاءِ; إذْ كَانَ الْمُرَادُ التَّطْهِيرَ, وَعَلَى أَنَّ اغْتِسَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّاعِ غَيْرُ مُوجِبٍ اعْتِبَارَهُ. والواحد والسبعون: أن قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ; إذْ الْمَسْحُ لَا يَقْتَضِي مَاءً1, فَلَمَّا قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ. فَهَذِهِ وُجُوهُ دَلَالَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمَعَانِي وَضُرُوبِ الْأَحْكَامِ, مِنْهَا نُصُوصٌ وَمِنْهَا احْتِمَالٌ فِي الطَّهَارَةِ الَّتِي يَجِبُ تَقْدِيمُهَا أَمَامَ الصَّلَاةِ وَشُرُوطُهَا الَّتِي تَصِحُّ بِهَا. وَعَسَى أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِهَا وَضُرُوبِ احْتِمَالِهَا مِمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُنَا مَتَى بُحِثَ عَنْهَا وَاسْتُقْصِيَ النَّظَرُ فِيهَا أدركها من وفق لفهمها; والله الموفق.

_ 1 قوله: "لا يقتضي ماء" أي من حيث هو إذا أطلق "لمصححه".

باب القيام بالشهادة والعدل

بَابُ الْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدْلِ الْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} وَمَعْنَاهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُكُمْ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجْتِنَابِهِ, فَهَذَا هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} يَعْنِي بِالْعَدْلِ; قَدْ قِيلَ فِي الشَّهَادَةِ إنَّهَا الشَّهَادَاتُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ; وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَعَاصِيهِمْ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فَكَانَ مَعْنَاهُ: أَنْ كُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشَّهَادَةَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعِينَهُمْ فِي دِيَةٍ, فَهَمُّوا أَنْ يَقْتُلُوهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] فَحَمَلَهُ الْحَسَنُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى, وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ في غيرهم وأن لا تكون تكرارا.

مطلب: فيما تضمنته الآية من الأمر بالعدل مع المحق والمبطل

مطلب: فيما تضمنته الآية من الأمر بالعدل مع المحق والمبطل وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْعَدْلِ عَلَى الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ, وَحُكِمَ بِأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَظُلْمَهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ, وَأَنْ لَا يُتَجَاوَزَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَ, وَأَنْ يَقْتَصِرَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ مِنْ الْقِتَالِ وَالْأَسْرِ وَالِاسْتِرْقَاقِ دُونَ الْمُثْلَةِ بِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ قَصْدًا لِإِيصَالِ الْغَمِّ وَالْأَلَمِ إلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ خَارِصًا, فَجَمَعُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ حُلِيِّهِمْ وَأَرَادُوا دَفْعَهُ إلَيْهِ لِيُخَفِّفَ فِي الْخَرْصِ: إنَّ هَذَا سُحْتٌ وَإِنَّكُمْ لَأَبْغَضُ إلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ, وَمَا يَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. فَإِنْ قِيلَ: لما قال: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَدْلَ نَفْسَهُ هُوَ التَّقْوَى, فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ هُوَ أَقْرَبُ إلَى نَفْسِهِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ: هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَكُونُوا مُتَّقِينَ بِاجْتِنَابِ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ, فَيَكُونُ الْعَدْلُ فِيمَا ذُكِرَ دَاعِيًا إلَى الْعَدْلِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَاجْتِنَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي; وَيَحْتَمِلُ: هُوَ أَقْرَبُ لِاتِّقَاءِ النَّارِ. وقوله: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فَقَوْلُهُ: "هُوَ" رَاجِعٌ إلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ, كَأَنَّهُ قَالَ: الْعَدْلُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى, كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ كَذَبَ كَانَ شَرًّا لَهُ; يَعْنِي كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالنَّقِيبِ هَهُنَا, فَقَالَ الْحَسَنُ: "الضَّمِينُ". وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "الْأَمِينُ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "الشَّهِيدُ عَلَى قَوْمِهِ". وَقِيلَ إنَّ أَصْلَ النَّقِيبِ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّقْبِ وَهُوَ الثُّقْبُ الْوَاسِعُ, فَقِيلَ نَقِيبُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ يَنْقُبُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَعَنْ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ, فَسُمِّيَ رَئِيسُ الْعُرَفَاءِ نَقِيبًا لِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ إنَّهُ الضَّمِينُ, فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ الضَّمِينُ لِتَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ وَأُمُورِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَفَسَادِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ وَعُدُولِهِمْ لِيَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْصَارِ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ إنَّهُ الْأَمِينُ, وَقَوْلُ قَتَادَةَ إنَّهُ الشَّهِيدُ, يُقَارِبُ مَا قَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا; لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهِمْ وَشَهِيدٌ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ وَيُجْرِي عَلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ. وَإِنَّمَا نَقَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّقَبَاءَ لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَأُمُورِهِمْ وَإِعْلَامِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُدَبِّرَ فِيهِمْ بِمَا يَرَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ نَقِيبًا كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الِاسْتِقَامَةِ; إذْ عَلِمُوا أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تَنْتَهِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْتَشِمُ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَنُوبُهُ وَيَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْحَوَائِجِ قَبْلَهُ, فَيَقُومُ عَنْهُ النَّقِيبُ فِيهِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّقِيبُ ضَامِنًا عَنْهُمْ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلَا يُمْكِنُ الضَّمِينَ فِعْلُهُ وَلَا الْقِيَامُ بِهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ; لِأَنَّ نَقِيبَ كُلِّ قَوْمٍ إنَّمَا نُصِبَ لِيُعَرِّفَ أَحْوَالَهُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْإِمَامَ, فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ لَمَا كَانَ لِنَصْبِهِ وَجْهٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ دُونَ الْوَاحِدِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ لَمْ يَكُونُوا نُقَبَاءَ عَلَى جَمِيعِ بَنِي إسْرَائِيلَ بِجُمْلَتِهِمْ, وَإِنَّمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَقِيبًا عَلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً دُونَ الْآخَرِينَ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْيَهُودِ حِينَ حَذَّرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِقْمَاتِ اللَّهِ, فَقَالُوا: لَا تُخَوِّفْنَا فَإِنَّا أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "تَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى إسْرَائِيلَ أَنَّ وَلَدَك بِكْرِي مِنْ الْوَلَدِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى قُرْبِ الْوَلَدِ مِنْ الْوَالِدِ" وَأَمَّا النَّصَارَى فَقِيلَ إنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنِّي ذَاهِبٌ إلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ" وَقِيلَ: إنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَكَانَ مِنْهُمْ, جَرَى ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ هُذَيْلٌ شُعَرَاءُ" أَيْ مِنْهُمْ شُعَرَاءُ, وَعَلَى قَوْلِهِمْ فِي رَهْطِ مُسَيْلِمَةَ; قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ, أَيْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِمْ, فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ" نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ" أَيْ مِنَّا ابْنُ اللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فِيهِ إبْطَالُ دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ وَتَكْذِيبُهُمْ بِهَا عَلَى لِسَانِهِمْ, لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِالذُّنُوبِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَبَ الْمُشْفِقَ لَا يُعَذِّبُ وَلَدَهُ.

مطلب: في معنى قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْحَسَنُ: "الْمَلِكُ مَنْ لَهُ دَارٌ وَامْرَأَةٌ وَخَادِمٌ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ تَكَلُّفِ الْأَعْمَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ لِلْمَعَاشِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جُعِلُوا مُلُوكًا بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرِ وَالْغَمَامِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "بِالْأَمْوَالِ أَيْضًا". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إنَّمَا سَمَّاهُمْ مُلُوكًا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ الْقِبْطِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَعْبِدُونَهُمْ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "كَانُوا أَوَّلَ من ملك الخدم".

مطلب: في معنى التحريف قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} تَحْرِيفُهُمْ إيَّاهُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِسُوءِ التَّأْوِيلِ, وَالْآخَرُ: بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. وَأَمَّا مَا قَدْ اسْتَفَاضَ وَانْتَشَرَ فِي أَيْدِي الْكَافَّةِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ تَغْيِيرُ أَلْفَاظِهِ إلَى غَيْرِهَا لِامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ عَلَى مِثْلِهِمْ, وَمَا لَمْ يَسْتَفِضْ فِي الْكَافَّةِ

وَإِنَّمَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ الْخَاصَّةِ يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ, فَإِنَّهُ جَائِزٌ وُقُوعُ تَغْيِيرِ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ إلَى غَيْرِهَا وَإِثْبَاتُ أَلْفَاظٍ أُخَرَ سِوَاهَا. وَأَمَّا الْمُسْتَفِيضُ الشَّائِعُ فِي أَيْدِي الْكَافَّةِ فَإِنَّمَا تَحْرِيفُهُمْ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ, كَمَا تَأَوَّلَتْ الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَبِّرَةُ كَثِيرًا مِنْ الْآيِ الْمُتَشَابِهَةِ عَلَى مَا تَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذْهَبِهَا وَتَدَّعِي مِنْ مَعَانِيهَا مَا يُوَافِقُ اعْتِقَادَهَا دُونَ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانِي الْآيِ الْمُحْكَمَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ التَّحْرِيفِ مِنْ جِهَةِ تَغْيِيرِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا اسْتَفَاضَ وَانْتَشَرَ عِنْدَ الْكَافَّةِ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالتَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ, وَمِثْلُهُ مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَوْطَانِهِمْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ عَلَى مِثْلِهِ, كَمَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِهِ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى اخْتِرَاعِ أَخْبَارٍ لَا أَصْلَ لَهَا, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالْأَخْبَارِ شَيْءٌ; وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ اضْطِرَارًا. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إنَّمَا قَالَ: {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْ النَّصَارَى" لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ ابْتَدَعُوا النَّصْرَانِيَّةَ وَتَسَمَّوْا بِهَا, وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى مِنْهَاجِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ فِي زَمَانِهِ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا نَصَارَى فِي الْحَقِيقَةِ نُسِبُوا إلَى قَرْيَةٍ بِالشَّامِ تُسَمَّى" نَاصِرَةَ" فَانْتَسَبَ هَؤُلَاءِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ; لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُوَحِّدَةً مُؤْمِنِينَ, وَهَؤُلَاءِ مُثَلِّثَةٌ مُشْرِكُونَ. وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ غَيْرِهِ اسْمَ النَّصَارَى, لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ, فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ; لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِذَلِكَ وَصَارَ ذَلِكَ سِمَةٌ لَهُمْ وَعَلَامَةٌ. قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} إنَّمَا لَحِقَتْهُمْ سِمَةُ الْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّدَيُّنِ بِهِ وَاعْتِقَادِهِمْ إيَّاهُ وَالْإِقْرَارِ بِصِحَّتِهِ; لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ مُنْكِرِينَ لَهُ لَمَا كَفَرُوا; وَالْكُفْرُ هُوَ التَّغْطِيَةُ, وَيَرْجِعُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ إلَى التَّغْطِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرَانُ النِّعْمَةِ بِجَحْدِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُنْعِمُ بِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِضَافَتُهَا إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ. وَالْآخَرُ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَكُلُّ جَاهِلٍ بِاَللَّهِ كَافِرٌ لِتَضْيِيعِهِ حَقَّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مُضِيفِهَا إلَى غَيْرِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} مَعْنَاهُ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أَرَادَ هَلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ. وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الِاحْتِجَاجِ وَأَوْضَحِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَسِيحُ إلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إهْلَاكَهُ وَإِهْلَاكَ غَيْرِهِ, فَلَمَّا كَانَ الْمَسِيحُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقِينَ سَوَاءً فِي جَوَازِ وُرُودِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ عَلَيْهِمْ, صَحَّ أنه ليس

بِإِلَهٍ; إذْ لَمْ يَكُنْ سَائِرُ النَّاسِ آلِهَةً وَهُوَ مِثْلُهُمْ فِي جَوَازِ الْفَنَاءِ وَالْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: "أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أَرْضُ الطُّورِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَرْضُ الشَّامِّ". وَقِيلَ: "دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِّ". وَالْمُقَدَّسَةُ هِيَ الْمُطَهَّرَةُ; لِأَنَّ التَّقْدِيسَ التَّطْهِيرُ, وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ الْمُقَدَّسَةَ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الشِّرْكِ وَجُعِلَتْ مَسْكَنًا وَقَرَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ قيل: لم قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وقد قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ} ؟ قِيلَ لَهُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ إِسْحَاق أَنَّهَا كَانَتْ هِبَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ثُمَّ حَرَمَهُمْ إيَّاهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَهَا عَلَى شَرِيطَةِ الْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ, فَلَمَّا عَصَوْا حَرَمَهُمْ إيَّاهَا. وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا عَلَى الْخُصُوصِ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْعُمُومِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْجَبَّارَ هُوَ مَنْ الْإِجْبَارِ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ, وَجَبَرَ الْعَظْمَ لِأَنَّهُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الصَّلَاحِ, وَالْجُبَارُ هَدْرُ الْأَرْشِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْكُرْهِ, وَالْجُبَارُ مِنْ النَّخْلِ مَا فَاتَ الْيَدَ طُولًا لِأَنَّهُ كَالْجَبَّارِ مِنْ النَّاسِ, وَالْجَبَّارُ مِنْ النَّاسِ الَّذِي يُجْبِرُهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُ. وَالْجَبَّارُ صِفَةُ مَدْحٍ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ ذَمٌّ فِي صِفَةِ غَيْرِهِ; لِأَنَّ غَيْرَهُ يَتَعَظَّمُ بِمَا لَيْسَ لَهُ وَالْعَظَمَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ الْجَبَّارُ الْمُتَعَظِّمُ بِالِاقْتِدَارِ; وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ جَبَّارًا, وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَاتَه يَدْعُو الْعَارِفَ بِهِ إلَى تَعْظِيمِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبَّارِ وَالْقَهَّارِ أَنَّ فِي الْقَهَّارِ مَعْنَى الْغَالِبِ لِمَنْ نَاوَأَهُ أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُنَاوِئِ بِعِصْيَانِهِ إيَّاهُ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} روي عن قتادة في قوله: {يَخَافُونَ} أَنَّهُمْ يَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَلْمِ: "يَخَافُونَ الْجَبَّارِينَ" وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ قَوْلِ الْحَقِّ عِنْدَ الْخَوْفِ وَشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ إذَا رَآهُ وَعَلِمَهُ فَإِنَّهُ لَا يُبْعِدُ مِنْ رِزْقٍ وَلَا يُدْنِي مِنْ أَجَلٍ" وَقَالَ لِأَبِي ذَرٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: "وَأَنْ لَا يَأْخُذَك فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ" وَقَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ, فَقَالَ: "كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِمَعْنَى" وَرَبِّك مُعِينٌ لَك". وَالثَّانِي: الذَّهَابُ الَّذِي هُوَ النُّقْلَةُ; وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَكُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ, وَهُوَ أَوْلَى بِمَعْنَى الْكَلَامِ; لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِنْكَارِ

عَلَيْهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ جَهْلِهِمْ, وَقَدْ يُقَالُ عَلَى الْمَجَازِ" قَاتَلَهُ اللَّهُ" بِمَعْنَى أَنَّ عَدَاوَتَهُ لَهُمْ كَعَدَاوَةِ الْمُقَاتِلِ الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهِمْ بِالِاقْتِدَارِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} هَذَا مَجَازٌ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَلَا أَخَاهُ الْحُرَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ الْقُدْرَةُ وَمُحَالٌ أَنْ يَقْدِرَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَخِيهِ, ثُمَّ أُطْلِقَ اسْمُ الْمِلْكِ عَلَى التَّصَرُّفِ فَجُعِلَ الْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ; إذْ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَرِّفَهُ تَصَرُّفَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ; وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هَهُنَا أَنَّهُ يَمْلِكُ تَصْرِيفَ نَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ, وَأَطْلَقَهُ عَلَى أَخِيهِ أَيْضًا; إذْ كَانَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِهِ وَيَنْتَهِي إلَى قَوْلِهِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ بِنَفْسِهِ وَذَاتِ يَدِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ" فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ" وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إلَّا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي إنِّي مُتَصَرِّفٌ حَيْثُ صَرَفْتنِي وَأَمْرُك جَائِزٌ فِي مَالِي. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ. قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَلْمِ" هُوَ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصْبِحُونَ بِحَيْثُ أَمْسَوْا وَمِقْدَارُ الْمَوْضِعِ سِتَّةُ فَرَاسِخَ". وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَلْمِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ التَّعَبُّدِ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ أَصْلُهُ الْمَنْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] يَعْنِي بِهِ الْمَنْعَ; قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ فَرَسًا: حَالَتْ لِتَصْرَعَنِي فَقُلْت لَهَا اُقْصُرِي ... إنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْك حَرَامُ يَعْنِي: إنِّي فَارِسٌ لَا يُمْكِنْك صَرْعِي. فَهَذَا هُوَ أَصْلُ التَّحْرِيمِ, ثُمَّ أَجْرَى تَحْرِيمَ التَّعَبُّدِ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَنَعَهُ بِذَلِكَ حُكْمًا وَصَارَ الْمُحَرَّمُ بِمَنْزِلَةِ الْمَمْنُوعِ; إذْ كَانَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِ أَنْ لَا يَقَعَ كَمَا لَا يَقَعُ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ, وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وَنَحْوُهُمَا تَحْرِيمُ حُكْمٍ وَتَعَبُّدٍ لَا تَحْرِيمَ مَنْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ تَحْرِيمِ الْمَنْعِ وَتَحْرِيمِ التَّعَبُّدِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ لَا يَجُوزُ حَظْرُهُ وَلَا إبَاحَتُهُ; إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ, وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِنَا, وَلَا يَكُونُ فِعْلٌ لَنَا إلَّا وَقَدْ كَانَ قَبْلَ وُقُوعِهِ مِنَّا مَقْدُورًا لَنَا. قَوْله تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "كَانَا ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ هَابِيلَ وَقَابِيلَ, وَكَانَ هَابِيلُ مُؤْمِنًا وَقَابِيلُ كَافِرًا" وَقِيلَ بَلْ كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ; لِأَنَّ عَلَامَةَ تَقَبُّلِ الْقُرْبَانِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ". وَالْقُرْبَانُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْقُرْبُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ; وَهُوَ" فُعْلَانَ" مِنْ الْقُرْبِ كَالْفُرْقَانِ مِنْ الْفَرْقِ, وَالْعُدْوَانِ مِنْ الْعَدْوِ, وَالْكُفْرَانِ

مِنْ الْكُفْرِ وَقِيلَ: إنَّمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ قَرَّبَ شَرَّ مَالِهِ وَقَرَّبَ الْآخَرُ خَيْرَ مَالِهِ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ. وَقِيلَ: بَلْ رُدَّ قُرْبَانُهُ لِأَنَّهُ كَانَ فَاجِرًا, وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ. وَقِيلَ: كَانَتْ عَلَامَةُ الْقَبُولِ أَنْ تَجِيءَ نَارٌ فَتَأْكُلَ الْمُتَقَبَّلَ وَلَا تَأْكُلُ الْمَرْدُودَ, وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران: 183] . قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَعْنَاهُ لَئِنْ بَدَأْتنِي بِقَتْلٍ لَمْ أَبْدَأْك بِهِ" وَلَمْ يُرِدْ أَنِّي لَا أَدْفَعُك عَنْ نَفْسِي إذَا قَصَدْت قَتْلِي; فَرُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ غِيلَةً بِأَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ صَخْرَةً وَهُوَ نَائِمٌ فَشَدَخَهُ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ قَتْلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَا يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ فِي الْعَقْلِ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِمِثْلِهِ, فَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ بِقَتْلِ مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ; وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِي فَهُوَ مَنْسُوخٌ لَا مَحَالَةَ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُهُ بِشَرِيعَةِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُهُ بِشَرِيعَةِ نبينا صلى الله عليه وسلم.

مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ إنْسَانٌ بِالْقَتْلِ أَنَّ عَلَيْهِ قَتْلَهُ إذَا أَمْكَنَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ تَرْكُ قَتْلِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ, قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَأَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ, وَلَا بَغْيَ أَشَدُّ مِنْ قَصْدِ إنْسَانٍ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ, فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ قَتْلَ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي إيجَابِهِ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ لَنَا, لِأَنَّ الْقَاصِدَ لِغَيْرِهِ بِالْقَتْلِ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ كَفَّ عَنْ قَتْلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَالِ قَصْدِهِ لِقَتْلِ غَيْرِهِ; لِأَنَّ فِي قَتْلِهِ إحْيَاءً لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فَأَمَرَ بِالْقِتَالِ لِنَفْيِ الْفِتْنَةِ, وَمِنْ الْفِتْنَةِ قَصْدُهُ قَتْلَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ1 فَدَمُهُ هَدَرٌ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ نفسه

_ 1 قوله: "ثم وضعه" أي ألقاه في المضروب به, كما في تلخيص النهاية للسيوطي. "لمصححه".

فهو شهيد, ومن قتل دون أهله فهو شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ" فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّافِعَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ شَهِيدٌ, وَلَا يَكُونُ مَقْتُولًا دُونَ مَالِهِ إلَّا وَقَدْ قَاتَلَ دُونَهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ, وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" فَأَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ, وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمُقْتَضَى ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ رَجُلًا لَوْ شَهَرَ سَيْفَهُ عَلَى رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلَهُ, فَكَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ قَتْلُهُ; وَقَدْ قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْخَوَارِجَ حِينَ قَصَدُوا قَتْلَ النَّاسِ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ مُوَافِقُونَ لَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارٌ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِمْ, مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ فِيهِمْ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقَوْلَ وَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ" فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ, وَقَدْ تَلَقَّتْهَا السَّلَفُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي وُجُوبِ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَأْتِينِي يُرِيدُ مَالِي؟ قَالَ: ذَكِّرْهُ اللَّهَ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ؟ قَالَ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي مِنْهُمْ؟ قَالَ: فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ السُّلْطَانَ قَالَ: فَإِنْ نَأَى عَنِّي السُّلْطَانُ؟ قَالَ: "قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَمْنَعَ مَالَك أَوْ تَكُونَ شَهِيدًا فِي الْآخِرَةِ". وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشَوِيَّةِ إلَى أَنَّ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ إنْسَانٌ بِالْقَتْلِ أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ وَلَا يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ, وَتَأَوَّلُوا فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَفَّ يَدَهُ عَنْ قَتْلِهِ حِينَ قَصَدَهُ بِالْقَتْلِ, وَإِنَّمَا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْآيَةِ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ دَفْعَهُمْ عَنْهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ. وَتَأَوَّلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا قَوْلَهَا أَحَادِيثَ رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: "إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ". وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ فَافْعَلْ وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ". وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:

"إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: "إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ ابْنَيْ آدَمَ ضَرَبَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلًا فَخُذُوا بِالْخَيِّرِ مِنْهُمَا". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصامت عن أبي ذر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ بِك يَا أَبَا ذَرٍّ إذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَتْلٌ؟ " قَالَ: قُلْت: أَلْبَسُ سِلَاحِي, قَالَ: "شَارَكْت الْقَوْمَ إذًا" قَالَ قُلْت: فَكَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إنْ خَشِيت أَنْ يَبْهَرَك شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ نَاحِيَةَ ثَوْبِك عَلَى وَجْهِك يَبُوءُ بِإِثْمِك وَإِثْمِهِ". فَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآثَارِ, وَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا. فَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ" فَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا قَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ظُلْمًا عَلَى نَحْوِ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ فَافْعَلْ وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ" فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَكَفَّ الْيَدِ عَنْ الشُّبْهَةِ, فَأَمَّا قَتْلُ مَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْفِهِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ" فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنْ لَا يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ, وَأَمَّا دَفْعُ الْقَاتِلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ, وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ, وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ, بِقَضِيَّةِ نَفْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ إلَّا بِإِحْدَى مَا ذُكِرَ, وَهَذَا لَمْ يَقْتُلْ بَعْدُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْقَاصِدُ لِقَتْلِ غَيْرِهِ ظُلْمًا دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ, فَإِنَّمَا قَتَلْنَاهُ بِنَفْسِ مَنْ قَصَدَ لِقَتْلِهِ لِئَلَّا يَقْتُلَهُ فَأَحْيَيْنَا نَفْسَ الْمَقْصُودِ بِقَتْلِنَا إيَّاهُ, وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ حَظْرِ قَتْلِ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ ظُلْمًا وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ حَتَّى يَقْتُلَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ, لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ إذَا أَرَادَ الْفَاجِرُ ارْتِكَابَهَا مِنْ الزِّنَا وَأَخْذِ الْمَالِ أَنْ نُمْسِكَ عَنْهُ حَتَّى يَفْعَلَهَا, فَيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاسْتِيلَاءِ الْفُجَّارِ وَغَلَبَةِ الْفُسَّاقِ وَالظَّلَمَةِ وَمَحْوِ آثَارِ الشَّرِيعَةِ; وَمَا أَعْلَمُ مَقَالَةً أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ, وَلَعَمْرِي إنَّهَا أَدَّتْ إلَى غَلَبَةِ الْفُسَّاقِ عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى بُلْدَانِهِمْ حَتَّى تَحَكَّمُوا فَحَكَمُوا فِيهَا بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ, وَقَدْ جَرَّ ذَلِكَ ذَهَابَ الثُّغُورِ وَغَلَبَةَ الْعَدُوِّ حِينَ رَكَنَ النَّاسُ إلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي تَرْكِ قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْجُوَارِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْقَاصِدَ لِقَتْلِ غَيْرِهِ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَأَنَّ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ, قَوْله تَعَالَى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل أنه

مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" فَكَانَ فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ إبَاحَةُ قَتْلِ الْمُفْسِدِ فِي الْأَرْضِ, وَمِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ قَصْدُ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَاصِدَ لِقَتْلِ غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه.

مطلب: من أراد قلع سنك فلك قتله إلى آخره قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي اللِّصِّ يَنْقُبُ الْبُيُوتَ: يَسَعُك قَتْلُهُ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" وَلَا يَكُونُ شَهِيدًا إلَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ إنْ أَمْكَنَهُ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إيجَابَ قَتْلِهِ إذَا قَدَرِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك, قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّ قَلْعَ السِّنِّ أَعْظَمَ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ, فَإِذَا جَازَ قَتْلُهُ لِحِفْظِ مَالِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْقَتْلِ مِنْ أَجْلِهَا. قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُود وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: "إثْمُ قَتْلِي وَإِثْمُك الَّذِي كَانَ مِنْك قَبْلَ قَتْلِي". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "إثْمُك الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُك". وَالْمُرَادُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ إثْمِي وَإِثْمِك; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إرَادَةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا. وَمَعْنَى" تَبُوءَ" تَرْجِعُ, يُقَالُ: بَاءَ, إذَا رَجَعَ إلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ, وَبَاءُوا بِغَضَبِ اللَّهِ: رَجَعُوا, وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْرِ بَوَاءٌ أَيْ سَوَاءٌ; لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. قَوْله تَعَالَى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: "شَجَّعَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ". وَقِيلَ: "سَاعَدَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَهُ طَوْعًا مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ مُتَكَرِّهٍ لَهُ, وَيُقَالُ إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: طَاعَ لِهَذِهِ الظَّبْيَةِ أُصُولُ الشَّجَرِ, وَطَاعَ لِفُلَانٍ كَذَا, أَيْ أَتَاهُ طَوْعًا. وَيُقَالُ: انْطَاعَ بِمَعْنَى انْقَادَ; وَيُقَالُ: طَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ, وَلَا يُقَالُ أَطَاعَتْهُ نَفْسُهُ, عَلَى هَذَا الْمَعْنَى; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: "أَطَاعَ" يَقْتَضِي قَصْدًا مِنْهُ لِمُوَافَقَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ, وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَفْسِهِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوْعُ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَمْرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لِنَفْسِهِ وَلَا نَاهِيًا لَهَا; إذْ كَانَ مَوْضُوعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَى لِمَنْ دُونَهُ; وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوصَفَ بِفِعْلٍ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: "حَرَّكَ نَفْسَهُ" وَ" قَتَلَ نَفْسَهُ" كَمَا يُقَالُ: "حَرَّكَ غَيْرَهُ" وَ" قَتَلَ غيره". قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يَعْنِي خَسِرَ نَفْسَهُ بِإِهْلَاكِهِ إيَّاهَا, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] وَلَا

دلالة في قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ لَيْلًا, وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ وَقْتٌ مُبْهَمٌ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَيْلًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا, وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَصْبَحَتْ عَاذِلَتِي مُعْتَلَّهْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ; وَكَقَوْلِ الْآخَرِ: بَكَرَتْ عَلَيَّ عَوَاذِلِي ... يَلْحَيْنَنِي وألومهمنه وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَوَّلَ النَّهَارِ دُونَ آخِرِهِ. وَهَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ فِي إطْلَاقِ مِثْلِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُبْهَمُ.

بَابُ دَفْنِ الْمَوْتَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِهِ حَتَّى رَأَى غُرَابًا جَاءَ يَدْفِنُ غُرَابًا مَيِّتًا" وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ عَرَفَ الدَّفْنَ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ, وَهُوَ الْأَصْلُ فِي سُنَّةِ دَفْنِ الْمَوْتَى; وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:26] . وقيل في معنى: {سَوْءَةَ أَخِيهِ} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جِيفَةُ أَخِيهِ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يُنْتِنَ لَقِيلَ لِجِيفَتِهِ سَوْأَةٌ. وَالثَّانِي عَوْرَةُ أَخِيهِ; وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِهِمَا. وَأَصْلُ السَّوْأَةِ التَّكَرُّهُ, وَمِنْهُ: سَاءَهُ يَسُوءُهُ سَوْءًا; إذَا أَتَاهُ بِمَا يَتَكَرَّهُهُ وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَّتَهُ لِنَعْتَبِرَ بِهَا وَنَتَجَنَّبَ قُبْحَ مَا فَعَلَهُ الْقَاتِلُ مِنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فَخُذُوا مِنْ خَيِّرِهِمَا وَدَعُوا شَرَّهُمَا". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قِيلَ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَخَوْفِ عِقَابِهِ, وَإِنَّمَا كَانَ نَدَمُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَ وَنَالَهُ ضَرَرٌ بِسَبَبِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ, وَلَوْ نَدِمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَغَفَرَ ذَنْبَهُ. قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الْآيَةَ. فِيهِ إبَانَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كُتِبَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ, وَهُوَ لِئَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ قَدْ تَرِدُ مُضَمَّنَةً بِمَعَانٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي أَغْيَارِهَا فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَوُجُوبِ اعْتِبَارِ الْمَعَانِي الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْأَحْكَامُ وَجُعِلَتْ عِلَلًا وَأَعْلَامًا لَهَا وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ

نَفْسًا بِنَفْسٍ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ, وَعَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ. وقَوْله تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا تَعْظِيمُ الْوِزْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَأْثَمِ كُلِّ قَاتِلٍ مِنْ النَّاسِ لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ وَسَهَّلَهُ لِغَيْرِهِ فَكَانَ كَالْمُشَارِكِ لَهُ فِيهِ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ قَاتِلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ الْإِثْمِ لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ" وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعُونَةَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ حَتَّى يُقِيدُوهُ مِنْهُ, فَيَكُونُ كُلُّهُمْ خُصُومَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُقَادَ مِنْهُ, كَأَنَّهُ قَتَلَ أَوْلِيَاءَهُمْ جَمِيعًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا قَتَلَتْ وَاحِدًا; إذْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قَالَ مُجَاهِدٌ: "مَنْ أَحْيَاهَا نَجَّاهَا مِنْ الْهَلَاكِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إذَا عَفَا عَنْ دَمِهَا وَقَدْ وَجَبَ الْقَوَدُ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: "زَجَرَ عَنْ قَتْلِهَا بِمَا فِيهِ حَيَاتُهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِإِحْيَائِهَا مَعُونَةَ الْوَلِيِّ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ وَاسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِإِحْيَائِهَا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاصِدُ لِقَتْلِ غَيْرِهِ ظُلْمًا فَيَكُونَ مُجِيبًا لِهَذَا الْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ وَيَكُونَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا; لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْدِعُ الْقَاصِدِينَ إلَى قَتْلِ غَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ الْقَاصِدِينَ لِلْقَتْلِ وَالْمَقْصُودِينَ بِهِ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ, مِنْهَا: دَلَالَتُهَا عَلَى وُرُودِ الْأَحْكَامِ مُضَمَّنَةً بِمَعَانٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ. وَالثَّانِي إبَاحَةُ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ. وَالرَّابِعُ: مَنْ قَصَدَ قَتْلَ مُسْلِمٍ ظُلْمًا فَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} كَمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ إذَا قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ; إذْ هُوَ مَقْتُولٌ بِنَفْسِ إرَادَةِ إتْلَافِهَا. وَالْخَامِسُ: الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ. وَالسَّادِسُ احْتِمَالُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} أَنَّ عَلَيْهِ مَأْثَمَ كُلِّ قَاتِلٍ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ وَسَهَّلَهُ لِغَيْرِهِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعُونَةَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ حَتَّى يُقِيدُوهُ مِنْهُ. وَالثَّامِنُ: دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا. وَالتَّاسِعُ: دَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} عَلَى مَعُونَةِ الْوَلِيِّ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ. وَالْعَاشِرُ: دَلَالَتُهُ أَيْضًا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ ظُلْمًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ حَدِّ الْمُحَارِبِينَ حَدُّ الْمُحَارِبِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} هُوَ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ; لِأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحَارَبَ; وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّى الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مُمْتَنِعِينَ مُجَاهِرِينَ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ مُحَارِبِينَ لَمَّا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَارَبَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ وَمَانَعَهُ, فَسُمُّوا مُحَارِبِينَ تَشْبِيهًا لَهُمْ بِالْمُحَارَبِينَ مِنْ النَّاسِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5و 20] وَمَعْنَى الْمُشَاقَّةِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ يُبَايِنُ صَاحِبَهُ وَمَعْنَى الْمُحَادَّةِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ عَلَى وَجْهِ الْمُفَارَقَةِ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ بِذِي مَكَان فَيُشَاقُّ أَوْ يُحَادُّ أَوْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُبَايَنَةُ وَالْمُفَارَقَةُ, وَلَكِنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْمُعَادِيِّينَ إذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ وَنَاحِيَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُبَايَنَةِ. وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُبَايَنَةِ, فكذلك قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا سُمُّوا بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِمُظْهِرِي الْخِلَافِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ إيَّاهُمْ مِنْ النَّاسِ. وَخُصَّتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بِهَذِهِ السِّمَةِ لِخُرُوجِهَا مُمْتَنِعَةً بِأَنْفُسِهَا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِهَاكِ الْحَرِيمِ وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ, وَلَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي الِامْتِنَاعِ وَإِظْهَارِ الْمُغَالَبَةِ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] وَالْمَعْنَى: يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ لَكَانُوا مُرْتَدِّينَ بِإِظْهَارِ مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ جَرِيرَتُهُ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ, إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: " الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ" فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ, وَلَمْ يَذْكُرْ الرِّدَّةَ; وَمَنْ حَارَبَ مُسْلِمًا عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فَهُوَ مُعَادٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَارِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: "أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ" فَاسْتَحَقَّ مَنْ حَارَبَهُمْ اسْمَ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا, فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى أَشْعَثُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَتَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ, فَكَتَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ: "إنَّ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ, فَلَا تَعْرِضَن لَهُ إلَّا بِخَيْرٍ" فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَرْتَدَّ وَإِنَّمَا قَطَعَ الطَّرِيقَ. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَلْحَقُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَلَا مُشْرِكِينَ, مَعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ وَأَنَّهُ فِيمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُرْتَدِّينَ; وَهُوَ قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ كَمَا تُسْقِطُهَا عَنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ, وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَوْبَتِهِمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ أَوْ بَعْدَهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَنَّ تَوْبَتَهُمْ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِلْحَدِّ عَنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ, وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِالْمُحَارَبَةِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُرْتَدَّ. وَأَيْضًا ذُكِرَ فِيهِ نَفْيُ مَنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ, وَالْمُرْتَدُّ لَا يُنْفَى, فَعَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ جَارٍ فِي أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ بِالْكُفْرِ, وَإِنَّ الْأَسِيرَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَتَى حَصَلَ فِي أَيْدِينَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَلَا رِجْلُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ قَطْعَ يَدَ الْمُحَارِبِ وَرِجْلَهُ وَلَمْ تُوجِبْ مَعَهُ شَيْئًا آخَرَ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَيُخَلَّى سَبِيلُهُ بَلْ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ, وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ الِاقْتِصَارَ بِهِمْ فِي حَالٍ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ الصَّلْبُ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ فِي غَيْرِ أَهْلِ الرِّدَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَشَرَطَ فِي زَوَالِ الْحَدِّ عَنْ الْمُحَارِبِينَ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ, وَأَسْقَطَ عُقُوبَةَ الْكُفْرِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا. فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْمُحَارِبِينَ أَهْلَ الرِّدَّةِ, فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى خُصُوصَ الْآيَةِ فِي الْمُرْتَدِّينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رَوَى قَتَادَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى ذودنا فشربتم

مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا" فَفَعَلُوا, فَلَمَّا صَحُّوا قَامُوا إلَى رَاعِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلُوهُ وَرَجَعُوا كُفَّارًا وَاسْتَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِمْ, فَأُتِيَ بِهِمْ, فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا. قِيلَ لَهُ: إنَّ خَبَرَ الْعُرَنِيِّينَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ, فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا, وَزَادَ فِيهِ: أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَرَوَى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ جَاءُوا يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ, فَنَزَلَتْ فِيهِمْ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ, فَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نزلت في العرنيين ولم يذكر.

مطلب: الحكم لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الاقتصار به على السبب رِدَّةً وَلَا يَخْلُو نُزُولُ الْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَوْ الْمُوَادِعِينَ, فَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهُمْ ارْتَدُّوا, فَإِنَّ نُزُولَهَا فِي شَأْنِهِمْ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهَا عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلسَّبَبِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ نُزُولَهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْئًا, وَإِنَّمَا تَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا; وَيَسْتَحِيلُ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْأَمْرِ بِقَطْعِ مَنْ قَدْ قُطِعَ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُرَادِينَ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَقَدْ رَوَى هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "كَانَ أَمْرُ الْعُرَنِيِّينَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ, وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ بَعْدَ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ وَاقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَمْلَ الْأَعْيُنِ, فَصَارَ سَمْلُ الْأَعْيُنِ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَدًّا مَعَهُ لَذَكَرَهُ; وَهُوَ مِثْلُ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ: "فِي الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَصَارَ الْحَدُّ هُوَ مَا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ, وَصَارَ النَّفْيُ مَنْسُوخًا بِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهُمْ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ سَمْلِ الْأَعْيُنِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا مُرَادِينَ بِهَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهَا عَلَيْهِمْ, فَلَمَّا لَمْ يُصْلَبُوا وَسَمَلَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا حِينَئِذٍ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْمُحَارِبِينَ

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَنَا ذَاكِرُهَا, بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ جَارٍ فِي أَهْلِ الْمِلَّةِ إذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ; فَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الْآيَةَ, قَالَ: "إذَا حَارَبَ الرَّجُلُ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَقُتِلَ وَصُلِبَ, فَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ, وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ, وَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ نُفِيَ". وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَأْخُذُ الْمَالَ وَيَقْتُلُ أَنَّ الْإِمَامَ فِيهِ بِالْخِيَارِ, إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ, وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَلَا رِجْلَهُ, وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ; فَإِنْ أَخَذَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ, وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ عُزِّرَ وَنُفِيَ مِنْ الْأَرْضِ, وَنَفْيُهُ حَبْسُهُ; وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أُوجِعَ عُقُوبَةً وَحُبِسَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا; وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ رِوَايَةً وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. فَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِينَ جَعَلُوا حُكْمَ الْآيَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ إذَا خَرَجُوا يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَيَّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ رِوَايَةً وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَتَلَ الْمُحَارِبُونَ وَلَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ قُتِلُوا, وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ, لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ, فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: "لِلْإِمَامِ أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَقَتَلَهُمْ, وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ, وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ, وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ وَتَرَكَ الْقَطْعَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَإِنَّهُمْ يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلَا يُقْطَعُونَ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي" الْإِمْلَاءِ" أَنَّهُ قَالَ: "إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَصَلَبَهُ, فَأَمَّا الصَّلْبُ فَلَا أُعْفِيهِ مِنْهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: "إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا, وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا, وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ, وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ نُفُوا, وَإِذَا هَرَبُوا طُلِبُوا حَتَّى يُؤْخَذُوا فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ, إلَّا مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ, وَلَا يَسْقُطُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ; وَيُقْطَعُ مَنْ أَخَذَ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُ الْمُخِيفُ لِلسَّبِيلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي إقَامَةِ أَيِّ الْحُدُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا قَتَلَ الْمُحَارِبُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ, أَخَذَ مَالًا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ, الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ: إنْ شَاءَ قَتَلَهُ, وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ خِلَافًا, وإن شاء

نَفَاهُ وَنَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى يُظْهِرُ تَوْبَةً, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُحَارِبِ حَتَّى يَأْتِيَهُ تَائِبًا وُضِعَ عَنْهُ حَدُّ الْمُحَارَبَةِ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالنَّفْيُ وَأُخِذَ بِحُقُوقِ النَّاسِ". وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "الَّذِي يَقْتُلُ وَيَأْخُذُ الْمَالَ يُصْلَبُ فَيُطْعَنُ بِالْحَرْبَةِ حَتَّى يَمُوتَ, وَاَلَّذِي يَقْتُلُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ". وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ فِي الْمُحَارِبِينَ: "مَا يَصْنَعُ الْوَالِي فِيهِمْ فَهُوَ صَوَابٌ, مِنْ قَتْلٍ أَوْ صَلْبٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ نَفْيٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَا, قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ, وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ مَنْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يُخَصِّصْ فِيهِ قَاطِعَ الطَّرِيقِ, فَانْتَفَى بِذَلِكَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِذَا انْتَفَى قَتْلُ مَنْ لَمْ يَقْطَعْ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ, إذَا أَخَذَ الْمَالَ, وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَرَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا فَقُتِلَ بِهِ, وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ". قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ قَتْلُ الْمُحَارِبِ رَوَاهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَتْلَ الْمُحَارِبِ. وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِيهِ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا مَحَالَةَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ, وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي خَبَرِ هَؤُلَاءِ, فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الثَّلَاثَةِ غَيْرُهُمْ, وَيَكُونُ الْمُحَارِبُ إذَا لَمْ يُقْتَلْ خَارِجًا مِنْهُمْ. وَإِنْ صَحَّ ذِكْرُ الْمُحَارِبِ فِيهِ, فَالْمَعْنَى فِيهِ: إذَا قُتِلَ, حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَخْبَارِ الْأُخَرِ وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ جَوَازَ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّلْبِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ: أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ قَدْ أُضْمِرَ فِيهِ: إنْ لَمْ يَقْتُلْ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُقْتَلُ الْبَاغِي وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ, وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخَبَرِ. قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ الْخَبَرِ يَنْفِي قَتْلَهُ, وَإِنَّمَا قَتَلْنَاهُ بِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْخَبَرِ فِي نَفْيِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ عَلَى الْعُمُومِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِفِعْلٍ سَبَقَ مِنْهُ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ عَلَيْهِ, كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَالْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ, وَالْبَاغِي لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ, وَإِنَّمَا يُقْتَلُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يُقْتَلْ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَقَالَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا لَا عَلَى التَّخْيِيرِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا وَلَا تَخْيِيرَ فِيهَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَهُ ويترك قطع

يَدِهِ وَرِجْلِهِ, وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ لَكَانَ التَّخَيُّرُ ثَابِتًا فِيمَا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا, فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا وَهُوَ أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا, أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قتلوا وأخذوا المال, أو تقطع أيديهم وأرجلهم مِنْ خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا, أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ إنْ خَرَجُوا وَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى ظُفِرَ بِهِمْ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي بَابِ وُجُوبِ قَتْلِهِ, وَالْمُحَارِبُونَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِخُرُوجِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ وَإِخَافَتِهِمْ السَّبِيلَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا. وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ بِمُوجِبٍ لِلتَّخْيِيرِ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَمِيرِ الْآيَةِ وَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا, وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّخْيِيرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَمِيرٌ لَكَانَ الْخِيَارُ بَاقِيًا إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فِي الْعُدُولِ عَنْ قَتْلِهِمْ وَقَطْعِهِمْ إلَى نَفْيِهِمْ, فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الْعُدُولُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ صَحَّ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ أَوْ تُقَطَّعُ أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا وَجَبَ قَتْلُهُمْ إذَا قَتَلُوا وَقَطْعُهُمْ إذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى النَّفْيِ; لِأَنَّ الْقَتْلَ عَلَى الِانْفِرَادِ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا وَأَخَذَ الْمَالَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَ سَارِقًا; فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْعُدُولُ إلَى النَّفْيِ وَتَرْكُ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ. قِيلَ لَهُ قَتْلُ الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَقَطْعُهُ حَدٌّ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ, أَلَا تَرَى أَنَّ عَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ؟ فَثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ; لِأَنَّهُ قُتِلَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ, وَوَجَبَ قَطْعُهُ لِأَخْذِهِ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ, فَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُقْطَعَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَتْلُ وَاجِبًا حَدًّا لَمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى النَّفْيِ وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ, كَمَا أَنَّهُمْ إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ إلَى النَّفْيِ; إذْ كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحَارِبَ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ إلَّا إذَا قَتَلَ وَلَا الْقَطْعَ إلَّا إذَا أَخَذَ الْمَالَ. وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً لِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا وَجَبَ حَدًّا لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ, وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ; فَلَمَّا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ قَتْلِ الْمُحَارِبِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ إلَى النَّفْيِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ, وَكَمَا لَوْ قَتَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْفَى عَنْ قَتْلِهِ, فَلَوْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِنَفْسِ الْمُحَارَبَةِ لَمَا جَازَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إذا قتل.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} وَتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ, فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ قَتْلٌ أَوْ قَتْلُهُ فِي حَالِ إظْهَارِ الْفَسَادِ, فَيُقْتَلُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ; وَنَحْنُ قَدْ نَقْتُلُ الْمُحَارِبَ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ, وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ صَارَ فِي يَدِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا لَمْ يَقْتُلْ؟ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ; فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ لَمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى النَّفْيِ, فَلَمَّا جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ نَفْيُهُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ, فَصَحَّ بِمَا وَصَفْنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ تَرْتِيبِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوُصُولَ إلَى الْقَتْلِ لَا يُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ وَلَا الْقَصْدُ لَهُ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ إنَّمَا خَرَجُوا لِأَخْذِ الْمَالِ, فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِأَخْذِ الْمَالِ فِي الْأُصُولِ فَالْقَصْدُ لِأَخْذِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهِ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ, فَإِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ وَقَتَلُوا قُتِلُوا حَدًّا لِأَجْلِ الْقَتْلِ. وَلَيْسَ قَتْلُهُمْ هَذَا قَوَدًا لِأَنَّ الْقَتْلَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ فِي الْأُصُولِ, إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ عَلَى جِهَةِ إظْهَارِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ تَأَكَّدَ حُكْمُهُ بِأَنْ أَوْجَبَ قَتْلَهُ حَدًّا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ فِيهِ عَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ; فَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ. وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ يُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي الْأُصُولِ, أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ تُقْطَعُ يَدُهُ فَإِنْ عَادَ فَسَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ؟ إلَّا أَنَّهُ غُلِّظَتْ عُقُوبَتُهُ حِينَ كَانَ أَخْذُهُ لِلْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ, فَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ فَالْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ, فَكَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالصَّلْبَ وَالْقَتْلَ, وَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَدًّا وَاحِدًا; وَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ بِالْقَتْلِ وَأَخَذَ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ حَدًّا وَاحِدًا, أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ كَالْقَطْعِ وَأَنَّ عَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ لَا يَجُوزُ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا حَدٌّ وَاحِدٌ; فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ, فَيَدْخُلُ فِيهِ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى الْإِمَامِ التَّرْتِيبُ فِي التَّبْدِئَةِ بِبَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا قَتَلْته وَأَسْقَطْت الْقَطْعَ كَمَنْ سَرَقَ وَقَتَلَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَدٌّ وَاحِدٌ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ, وَأَمَّا السَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اُسْتُحِقَّ الْآخَرُ, وَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْءِ الْحُدُودِ مَا اسْتَطَعْنَا; فَلِذَلِكَ بَدَأْنَا بِالْقَتْلِ لِنَدْرَأَ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ, وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا دَرْءُ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ حَدٌّ وَاحِدٌ, فَلَمْ يَلْزَمْنَا إسْقَاطُ بَعْضِهِ

وَإِيجَابُ بَعْضٍ. وَهُوَ مُخَيَّرٌ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ صَلْبًا وَبَيْنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْقَتْلِ دُونَ الصَّلْبِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} . وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الصَّلْبَ الْمَذْكُورَ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِ هُوَ الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُصْلَبُ ثُمَّ يُقْتَلُ يُبْعَجُ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيُقْتَلُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ, وَصَلْبُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي الْمَيِّتِ, فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ بَعْدَ الْقَتْلِ رَدْعًا لِغَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الصَّلْبَ إذَا كَانَ مَوْضُوعُهُ لِلتَّعْذِيبِ وَالْعُقُوبَةِ لَمْ يَجُزْ إيقَاعُهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْضُوعِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ أَوْ الصَّلْبَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ, فَكَيْفَ يَجُوزُ جَمْعُهُمَا عَلَيْهِ؟. قِيلَ لَهُ: أَرَادَ قَتْلًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الصَّلْبِ إذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ, وَأَرَادَ قَتْلًا عَلَى وَجْهِ الصَّلْبِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ, فَغُلِّظَتْ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ. وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "يُتْرَكُ الْمَصْلُوبُ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْخَشَبَةِ يَوْمًا" وَقَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ". وَاخْتُلِفَ فِي النَّفْيِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "هُوَ حَبْسُهُ حَيْثُ يَرَى الْإِمَامُ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ; وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رِوَايَةٌ أُخْرَى, وَهُوَ أَنَّ نَفْيَهُ طَلَبُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: "يُنْفَى إلَى بَلَدٍ آخَرَ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْعُقُوبَةَ فَيُحْبَسُ هُنَاكَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: "هُوَ أَنْ يَطْلُبَ الْإِمَامُ الْحَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ يُنْفَى عَنْ كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ; فَهُوَ إنَّمَا يَنْفِيهِ عَنْ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ, وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ مَنْفِيٍّ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي غَيْرِهِ, فَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَلَا مَعْنَى أَيْضًا لِحَبْسِهِ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ; إذْ الْحَبْسُ يَسْتَوِي فِي الْبَلَدِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ, فَالصَّحِيحُ إذًا حَبْسُهُ فِي بَلَدِهِ. وَأَيْضًا فَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ, وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَّا بِأَنْ يُقْتَلَ, وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّفْيِ الْقَتْلَ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْقَتْلَ مَعَ النَّفْيِ, أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ نَفْيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا مُحَارِبًا مِنْ غَيْرِ حَبْسِهِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذَكَرَهُ زَجْرُهُ عَنْ إخَافَةِ السَّبِيلِ وَكَفُّ أَذَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ, وَهُوَ إذَا صَارَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَكَانَ هُنَاكَ مُخَلَّى كَانَتْ مَعَرَّتُهُ قَائِمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ هُنَاكَ كَتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَهُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ, وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْمُسْلِمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلرِّدَّةِ وَمَصِيرِهِ إلَى أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا. فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى النَّفْيِ هُوَ نَفْيُهُ عَنْ سَائِرِ الْأَرْضِ إلَّا مَوْضِعَ حَبْسِهِ الَّذِي لَا يمكنه فيه العبث والفساد.

مطلب: إقامة الحد على قاطع الطريق لا تكون كفارة لذنوبه وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ, لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَعِيدِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} اسْتِثْنَاءٌ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنْهَا, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فَأَخْرَجَ آلَ لُوطٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُهْلَكِينَ, وَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَجِّينَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} فَكَانَ إبْلِيسُ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ السَّاجِدِينَ. فَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ نَفَى إيجَابَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ, وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} عُقِلَ بِذَلك سُقُوطُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَنْهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ قَالَ فِي السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ تَوْبَةُ السَّارِقِ مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ, وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ, وَفِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ اسْتِثْنَاءٌ يُوجِبُ إخْرَاجَهُمْ مِنْ الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ عَنْ تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ, وَكُلُّ كَلَامٍ اكْتَفَى بِنَفْسِهِ لَمْ نَجْعَلْهُ مُضَمَّنًا بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} مُفْتَقِرٌ فِي صِحَّتِهِ إلَى مَا قَبْلَهُ, فَمِنْ أجل ذلك كان مضمنا به.

مطلب: إذا سقط الحد وجب ضمان المال وَمَتَى سَقَطَ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَجَبَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ وَضَمَانِ الْأَمْوَالِ. وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ سَقَطَ ضَمَانُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْجِرَاحَاتِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِهَذَا الْفِعْلِ يُسْقِطُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ, كَالسَّارِقِ إذَا سَرَقَ وَقُطِعَ لَمْ يَضْمَنْ السَّرِقَةَ, وَكَالزَّانِي إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَهْرُ, وَكَالْقَاتِلِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ الْمَالِ; كَذَلِكَ الْمُحَارِبُونَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ سَقَطَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ, فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمُحَارِبِ وَجَبَ ضَمَانُ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ, كَالسَّارِقِ إذَا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ, وَكَالزَّانِي إذَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لزمه المهر.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُحَارِبًا, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فِي الْمِصْرِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَلَا يَكُونُ قَاطِعًا لِلطَّرِيقِ, وَلَا يَكُونُ قَاطِعًا لِلطَّرِيقِ إلَّا فِي الصَّحَارِي". وَحَكَى أَصْحَابُ" الْإِمْلَاءِ" عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّ الْأَمْصَارَ وَغَيْرَهَا سَوَاءٌ وَهُمْ الْمُحَارِبُونَ, يُقَامُ حَدُّهُمْ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي اللُّصُوصِ الَّذِينَ يَكْبِسُونَ النَّاسَ لَيْلَا فِي دُورِهِمْ فِي الْمِصْرِ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ يُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحَارِبًا حَتَّى يَقْطَعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْقَرْيَةِ; وَذُكِرَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: "الْمُحَارَبَةُ أَنْ يُقَاتِلُوا عَلَى طَلَبِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ نَائِرَةٍ" وَلَمْ يُفَرِّقْ هَهُنَا بَيْنَ الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ بِالسِّلَاحِ لِلْقَوْمِ حَتَّى يَغْصِبُوهُمْ الْمَالَ, وَالصَّحَارِي وَالْمِصْرُ وَاحِدٌ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا يَكُونُ مُحَارِبًا بِالْكُوفَةِ حَتَّى يَكُونَ خَارِجًا مِنْهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ" فَنَفَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَطْعَ عَنْ الْمُخْتَلِسِ, وَالْمُخْتَلِسُ هُوَ الَّذِي يَخْتَلِسُ الشَّيْءَ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَوَجَبَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ الْمَنَعَةِ مِنْ الْمُحَارِبِينَ وَأَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا وَقَدْ يَلْحَقُ مَنْ قَصَدُوهُ الْغَوْثُ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُحَارِبِينَ وَأَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ كَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ فَيَكُونُ مُخْتَلِسًا غَاصِبًا لَا يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ, وَإِذَا كَانَتْ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعَةٌ فِي الصَّحْرَاءِ فَهَؤُلَاءِ يُمْكِنُهُمْ أَخْذُ أَمْوَالِ السَّابِلَةِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ الْغَوْثُ, فَبَايَنُوا بِذَلِكَ الْمُخْتَلِسَ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ امْتِنَاعٌ فِي أَحْكَامِهِمْ. وَلَوْ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ لَوَجَبَ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ لِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ, فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمِصْرِ لِفَقْدِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ. وَأَمَّا إذَا كَانُوا فِي الصَّحْرَاءِ فَهُمْ مُمْتَنِعُونَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالطَّلَبِ وَالْقِتَالِ, فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمْ وَحُكْمُ مَنْ فِي الْمِصْرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا ذَكَرْت فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْ اللُّصُوصِ إذَا اعْتَرَضُوا قَافِلَةً فِيهَا أَلْفُ رَجُلٍ غَيْرُ مُحَارِبِينَ; إذْ قَدْ يُمْكِنُهُمْ الِامْتِنَاعُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ لَهُ: صَارُوا مُحَارِبِينَ بِالِامْتِنَاعِ وَالْخُرُوجِ, سَوَاءٌ قَصَدُوا الْقَافِلَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدُوهَا, فَلَا يَزُولُ عَنْهُمْ هَذَا الْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْقَافِلَةِ مُمْتَنِعَةً مِنْهُمْ كَمَا لَا يَزُولُ بِكَوْنِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ. وَأَجْرَى أَبُو يُوسُفَ عَلَى اللُّصُوصِ فِي الْمِصْرِ حُكْمَ الْمُحَارِبِينَ لِامْتِنَاعِهِمْ وَالْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ لِأَخْذِ الْمَالِ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمْ بِالْمِصْرِ وَغَيْرِهِ, كَمَا أَنَّ سَائِرَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ لَا يَخْتَلِفُ أَحْكَامُ فَاعِلِيهَا بالمصر وغيره.

فصل وَاعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا فِي إيجَابِ قَطْعِ الْمُحَارِبِ مِقْدَارَ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ, بِأَنْ يُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ رُبْعَ دِينَارٍ كَمَا اعْتَبَرَهُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ, وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مَالِكٌ; لِأَنَّهُ يَرَى إجْرَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ أخذ المال.

فصل وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ الَّذِي وَلِيَ الْقَتْلَ وَأَخَذَ الْمَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ حُكْمُ جَمِيعِهِمْ حُكْمَ الْمُحَارِبِينَ يَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمَنَعَةِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ جَمِيعًا, فَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ وَهُوَ الْمَنَعَةُ حَصَلَ بِاجْتِمَاعِهِمْ جَمِيعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَانَ عَوْنًا أَوْ ظَهِيرًا; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَيْشَ إذَا غَنِمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ الْقِتَالَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رِدْءًا وَظَهِيرًا, وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَنْ قَتَلَ بِعَصًا أَوْ بِسَيْفٍ; إذْ كَانَ مَنْ لَمْ يَلِ الْقِتَالَ يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ.

بَابُ قَطْعِ السَّارِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . رَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ قراءة عبد الله {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَرَوَى ابْنُ عَوْفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ: فِي قِرَاءَتِنَا: "فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ الْيَدَ الْمَقْطُوعَةَ بِأَوَّلِ سَرِقَةٍ هِيَ الْيَمِينُ, فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بقوله: {أَيْدِيَهُمَا} أَيْمَانُهُمَا, فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي جَمْعِهِ الْأَيْدِي مِنْ الِاثْنَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَلْبٌ وَاحِدٌ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ, كَذَلِكَ لَمَّا أَضَافَ الْأَيْدِي إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهِيَ الْيُمْنَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَفِي قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي الرَّابِعَةِ, وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّ اسْمَ السَّارِقِ يَقَعُ عَلَى سَارِقِ الصَّلَاةِ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: "لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا". وَيَقَعُ عَلَى سَارِقِ اللِّسَانِ; رَوَى لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رُهْمٍ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُسْرِقَ السَّارِقُ الَّذِي يَسْرِقُ لِسَانَ الْأَمِيرِ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كل سارق.

وَالسَّرِقَةُ اسْمٌ لُغَوِيٌّ مَفْهُومُ الْمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ بِنَفْسِ وُرُودِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى بَيَانٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِهَذَا الِاسْمِ حُكْمَ الْقَطْعِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ مَعَانِيهَا مِنْ اللُّغَةِ قَدْ عُلِّقَتْ بِهَا أَحْكَامٌ يَجِبُ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا بِوُجُوبِ الِاسْمِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ خُصُوصِهِ فَلَوْ خُلِّينَا وظاهر قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لَوَجَبَ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنًى غَيْرِ الِاسْمِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي إيجَابِهِ وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمِقْدَارُ فَهُوَ مُجْمَلٌ مِنْ جِهَةِ الْمِقْدَارِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ فِي كُلِّ مِقْدَارٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى إجْمَالِهِ وَامْتِنَاعِ اعْتِبَارِ عُمُومِهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي وَاقَدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ" وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي النَّصْرِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَمَا فَوْقَ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَيْمَنَ الْحَبَشِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدْنَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ ثَمَنُ الْمِجَنِّ" فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثَمَنِ الْمِجَنِّ فَصَارَ ذَلِكَ كَوُرُودِهِ مَعَ الْآيَةِ مَضْمُومًا إلَيْهَا وَكَانَ تَقْدِيرُهَا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا إذَا بَلَغَتْ السَّرِقَةُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَهَذَا لَفْظٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى إجْمَالِهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي تَقْوِيمِ الْمِجَنِّ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَيْمَنَ الْحَبَشِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ: "أَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ" وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ" وَقَالَ أَنَسٌ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: "قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ" وَقَالَتْ عَائِشَةُ ثَمَنُ الْمِجَنِّ رُبْعُ دِينَارٍ" وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْوِيمًا مِنْهُمْ لِسَائِرِ الْمَجَانِّ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ كَاخْتِلَافِ الثِّيَابِ وَسَائِرِ الْعُرُوضِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَقْوِيمًا لِلْمِجَنِّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَقْوِيمِهِ مِنْ حَيْثُ قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ لَيْسَ فِي قَطْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ عَمَّا دُونَهُ كَمَا أَنَّ قَطْعَهُ السَّارِقَ فِي الْمِجَنِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَطْعِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ فَإِذًا لَا مَحَالَةَ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لَهُمْ حِينَ قَطَعَ السَّارِقَ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ فِيمَا دُونَهُ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إجْمَالِ حُكْمِ الْآيَةِ فِي الْمِقْدَارِ كَدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا لَفْظًا مِنْ نَفْيِ الْقَطْعِ عَمَّا دُونَ قِيمَةِ الْمِجَنِّ, فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ عُمُومِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْمِقْدَارِ

وَوَجَبَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمِجَنِّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ إجْمَالُهَا فِي الْمِقْدَارِ بِمُوجِبِ إجْمَالِهَا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ مِنْ الْحِرْزِ وَجِنْسِ الْمَقْطُوعِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُجْمَلًا فِي حُكْمِ الْمِقْدَارِ فَحَسْبُ, كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] عُمُومٌ فِي جِهَةِ الْأَمْوَالِ الْمُوجَبِ فِيهَا الصَّدَقَةُ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا. وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ مِنْ حَيْثُ عُلِّقَ فِيهَا الْحُكْمُ بِمَعَانٍ لَا يَقْتَضِيهَا اللَّفْظُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ, وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمِقْدَارُ; وَالْمَعَانِي الْمُعْتَبَرَةُ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ مَتَى عُدِمَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ; لِأَنَّ اسْمَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِأَخْذِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ, وَمِنْهُ قِيلَ" سَارِقُ اللِّسَانِ" وَ" سَارِقُ الصَّلَاةِ" تَشْبِيهًا بِأَخْذِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ, وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا اعْتِبَارُهَا فِي إيجَابِ الْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ, وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ, فَصَارَتْ السَّرِقَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمًا شَرْعِيًّا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ إلَّا فِيمَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: "لَا قَطْعَ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِهَا". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: "أَنَّهُ لَا قَطْعَ حَتَّى تَكُونَ قِيمَةُ السَّرِقَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً". وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "أَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ قُطِعَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَلَوْ غَلَتْ الدَّرَاهِمُ حَتَّى يَكُونَ الدِّرْهَمَانِ بِدِينَارٍ قُطِعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ, وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ دِرْهَمٍ, وَإِنْ رَخُصَتْ الدَّنَانِيرُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينَارُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ قُطِعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ, وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "يُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ", وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: "لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ" وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا: "لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي خَمْسَةٍ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ:" لَا قَطْعَ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "يُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ" وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ". وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجِبُ إلَّا فِي مِقْدَارِ مَتَى قَصُرَ عَنْهُ لَمْ يَجِبْ وَكَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ وَلَمْ يَثْبُتْ التَّوْقِيفُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَثَبَتَ الِاتِّفَاقُ في العشرة

أَثْبَتْنَاهَا وَلَمْ نُثْبِتْ مَا دُونَهَا لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ بِمَا اقْتَرَنَ إلَيْهِ مِنْ تَوْقِيفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى اعْتِبَارِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَمِنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ وَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ فِي الْقَطْعِ فِي الْعَشَرَةِ وَنَفْيُهُ عَمَّا دُونَهَا لِمَا وَصَفْنَا وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ تُوجِبُ اعْتِبَارَ الْعَشَرَةِ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ" وَقَدْ سَمِعْنَا أَيْضًا فِي سُنَنِ ابْنِ قَانِعٍ حَدِيثًا رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ زُحَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ عُرْوَةَ وَالزُّهْرِيَّ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُونَ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقَالُوا: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ" قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّهُمَا قَوَّمَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ قَوَّمَهُ غَيْرُهُمَا عَشَرَةً فَكَانَ تَقْدِيمُ الزَّائِدِ أَوْلَى وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مِنْ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ مَوْقُوفًا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ثُلُثِ دِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ, وَكَانَ الْمِجَنُّ يَوْمئِذٍ لَهُ ثَمَنٌ وَلَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ "; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ ذَلِكَ; إذْ لَوْ كَانَ عِنْدَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لَمْ تَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ إلَى ذِكْرِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ; إذْ كَانَ ذَلِكَ مُدْرَكًا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَا حَظَّ لِلِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ مِنْهَا لِثَمَنِ الْمِجَنِّ اجْتِهَادًا; وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" قَالَ أَيُّوبُ: وَحَدَّثَ بِهِ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ

وَرَفَعَهُ, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ: إنَّهَا كَانَتْ لَا تَرْفَعُهُ, فَتَرَكَ يَحْيَى رَفْعَهُ. فَهَذَا يَدُلُّ. عَلَى أَنَّ مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا فَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ يَحْيَى قَبْلَ تَرْكِهِ الرَّفْعَ.

مطلب: خبر الحظر أولى من خبر الإباحة ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لَعَارَضَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي نَفْيِ الْقَطْعِ عَنْ سَارِقِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ, وَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ خَبَرُنَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ حَظْرِ الْقَطْعِ عَمَّا دُونَهَا وَخَبَرُهُمْ مُبِيحٌ لَهُ, وَخَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَيُقْطَعُ فِيهِ, وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَيُقْطَعُ فِيهَا" فَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَا رَوِيَّةَ لَهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُقْطَعُ فِيهِ لِذِكْرِ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ وَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ, وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَدِيدٍ قِيمَتُهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا; وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ سَارِقَ بَيْضَةِ الدَّجَاجِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ, وَأَمَّا الْحَبْلُ فَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يُسَاوِي الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ وأكثر من ذلك.

فصل مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "لا قطع على الخائن" وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ" رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ. وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ فِي جَمِيعِ مَا ائْتُمِنَ الْإِنْسَانُ فِيهِ, فَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا ائْتَمَنَ غَيْرَهُ عَلَى دُخُولِ بَيْتِهِ وَلَمْ يُحْرِزْ مِنْهُ مَالَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ إذَا خَانَهُ لِعُمُومِ لَفْظِ الْخَبَرِ وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ وَالْمُضَارِبِ وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ" وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَى جَاحِدِ الْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ عن المستعير إذا جحد العارية.

مطلب: في معنى قوله تعالى: {وجعلكم ملوكا}

مطلب: في معنى قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْحَسَنُ: "الْمَلِكُ مَنْ لَهُ دَارٌ وَامْرَأَةٌ وَخَادِمٌ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ تَكَلُّفِ الْأَعْمَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ لِلْمَعَاشِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جُعِلُوا مُلُوكًا بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرِ وَالْغَمَامِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "بِالْأَمْوَالِ أَيْضًا". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إنَّمَا سَمَّاهُمْ مُلُوكًا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ الْقِبْطِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَعْبِدُونَهُمْ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "كَانُوا أَوَّلَ من ملك الخدم".

مطلب: في معنى التحريف

مطلب: في معنى التحريف قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} تَحْرِيفُهُمْ إيَّاهُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِسُوءِ التَّأْوِيلِ, وَالْآخَرُ: بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. وَأَمَّا مَا قَدْ اسْتَفَاضَ وَانْتَشَرَ فِي أَيْدِي الْكَافَّةِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ تَغْيِيرُ أَلْفَاظِهِ إلَى غَيْرِهَا لِامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ عَلَى مِثْلِهِمْ, وما لم يستفض في الكافة

مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه

مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه ... مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ إنْسَانٌ بِالْقَتْلِ أَنَّ عَلَيْهِ قَتْلَهُ إذَا أَمْكَنَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ تَرْكُ قَتْلِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ, قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَأَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ, وَلَا بَغْيَ أَشَدُّ مِنْ قَصْدِ إنْسَانٍ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ, فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ قَتْلَ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ; وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي إيجَابِهِ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ لَنَا, لِأَنَّ الْقَاصِدَ لِغَيْرِهِ بِالْقَتْلِ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ كَفَّ عَنْ قَتْلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَالِ قَصْدِهِ لِقَتْلِ غَيْرِهِ; لِأَنَّ فِي قَتْلِهِ إحْيَاءً لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فَأَمَرَ بِالْقِتَالِ لِنَفْيِ الْفِتْنَةِ, وَمِنْ الْفِتْنَةِ قَصْدُهُ قَتْلَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ1 فَدَمُهُ هَدَرٌ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ نفسه

_ 1 قوله: "ثم وضعه" أي ألقاه في المضروب به, كما في تلخيص النهاية للسيوطي. "لمصححه".

مطلب: من أراد قلع سنك فلك قتله إلى آخره

مطلب: من أراد قلع سنك فلك قتله إلى آخره قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي اللِّصِّ يَنْقُبُ الْبُيُوتَ: يَسَعُك قَتْلُهُ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" وَلَا يَكُونُ شَهِيدًا إلَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ إنْ أَمْكَنَهُ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إيجَابَ قَتْلِهِ إذَا قَدَرِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك, قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّ قَلْعَ السِّنِّ أَعْظَمَ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ, فَإِذَا جَازَ قَتْلُهُ لِحِفْظِ مَالِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْقَتْلِ مِنْ أَجْلِهَا. قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُود وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: "إثْمُ قَتْلِي وَإِثْمُك الَّذِي كَانَ مِنْك قَبْلَ قَتْلِي". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "إثْمُك الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُك". وَالْمُرَادُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ إثْمِي وَإِثْمِك; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إرَادَةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا. وَمَعْنَى" تَبُوءَ" تَرْجِعُ, يُقَالُ: بَاءَ, إذَا رَجَعَ إلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ, وَبَاءُوا بِغَضَبِ اللَّهِ: رَجَعُوا, وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْرِ بَوَاءٌ أَيْ سَوَاءٌ; لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. قَوْله تَعَالَى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: "شَجَّعَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ". وَقِيلَ: "سَاعَدَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَهُ طَوْعًا مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ مُتَكَرِّهٍ لَهُ, وَيُقَالُ إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: طَاعَ لِهَذِهِ الظَّبْيَةِ أُصُولُ الشَّجَرِ, وَطَاعَ لِفُلَانٍ كَذَا, أَيْ أَتَاهُ طَوْعًا. وَيُقَالُ: انْطَاعَ بِمَعْنَى انْقَادَ; وَيُقَالُ: طَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ, وَلَا يُقَالُ أَطَاعَتْهُ نَفْسُهُ, عَلَى هَذَا الْمَعْنَى; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: "أَطَاعَ" يَقْتَضِي قَصْدًا مِنْهُ لِمُوَافَقَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ, وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَفْسِهِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوْعُ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَمْرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لِنَفْسِهِ وَلَا نَاهِيًا لَهَا; إذْ كَانَ مَوْضُوعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَى لِمَنْ دُونَهُ; وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوصَفَ بِفِعْلٍ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: "حَرَّكَ نَفْسَهُ" وَ" قَتَلَ نَفْسَهُ" كَمَا يُقَالُ: "حَرَّكَ غَيْرَهُ" وَ" قَتَلَ غيره". قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يَعْنِي خَسِرَ نَفْسَهُ بِإِهْلَاكِهِ إيَّاهَا, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] ولا

باب دفن الموتى

بَابُ دَفْنِ الْمَوْتَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِهِ حَتَّى رَأَى غُرَابًا جَاءَ يَدْفِنُ غُرَابًا مَيِّتًا" وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ عَرَفَ الدَّفْنَ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ, وَهُوَ الْأَصْلُ فِي سُنَّةِ دَفْنِ الْمَوْتَى; وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:26] . وقيل في معنى: {سَوْءَةَ أَخِيهِ} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جِيفَةُ أَخِيهِ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يُنْتِنَ لَقِيلَ لِجِيفَتِهِ سَوْأَةٌ. وَالثَّانِي عَوْرَةُ أَخِيهِ; وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِهِمَا. وَأَصْلُ السَّوْأَةِ التَّكَرُّهُ, وَمِنْهُ: سَاءَهُ يَسُوءُهُ سَوْءًا; إذَا أَتَاهُ بِمَا يَتَكَرَّهُهُ وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَّتَهُ لِنَعْتَبِرَ بِهَا وَنَتَجَنَّبَ قُبْحَ مَا فَعَلَهُ الْقَاتِلُ مِنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فَخُذُوا مِنْ خَيِّرِهِمَا وَدَعُوا شَرَّهُمَا". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قِيلَ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَخَوْفِ عِقَابِهِ, وَإِنَّمَا كَانَ نَدَمُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَ وَنَالَهُ ضَرَرٌ بِسَبَبِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ, وَلَوْ نَدِمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَغَفَرَ ذَنْبَهُ. قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الْآيَةَ. فِيهِ إبَانَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كُتِبَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ, وَهُوَ لِئَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ قَدْ تَرِدُ مُضَمَّنَةً بِمَعَانٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي أَغْيَارِهَا فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَوُجُوبِ اعْتِبَارِ الْمَعَانِي الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْأَحْكَامُ وَجُعِلَتْ عِلَلًا وَأَعْلَامًا لَهَا وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} يدل على أن من قتل

باب حد المحاربين

بَابُ حَدِّ الْمُحَارِبِينَ حَدُّ الْمُحَارِبِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} هُوَ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ; لِأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحَارَبَ; وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّى الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مُمْتَنِعِينَ مُجَاهِرِينَ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ مُحَارِبِينَ لَمَّا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَارَبَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ وَمَانَعَهُ, فَسُمُّوا مُحَارِبِينَ تَشْبِيهًا لَهُمْ بِالْمُحَارَبِينَ مِنْ النَّاسِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5و 20] وَمَعْنَى الْمُشَاقَّةِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ يُبَايِنُ صَاحِبَهُ وَمَعْنَى الْمُحَادَّةِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ عَلَى وَجْهِ الْمُفَارَقَةِ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ بِذِي مَكَان فَيُشَاقُّ أَوْ يُحَادُّ أَوْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُبَايَنَةُ وَالْمُفَارَقَةُ, وَلَكِنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْمُعَادِيِّينَ إذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ وَنَاحِيَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُبَايَنَةِ. وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُبَايَنَةِ, فكذلك قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا سُمُّوا بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِمُظْهِرِي الْخِلَافِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ إيَّاهُمْ مِنْ النَّاسِ. وَخُصَّتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بِهَذِهِ السِّمَةِ لِخُرُوجِهَا مُمْتَنِعَةً بِأَنْفُسِهَا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِهَاكِ الْحَرِيمِ وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ, وَلَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي الِامْتِنَاعِ وَإِظْهَارِ الْمُغَالَبَةِ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] وَالْمَعْنَى: يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ لَكَانُوا مُرْتَدِّينَ بِإِظْهَارِ مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ جَرِيرَتُهُ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ, إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: " الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ" فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ, وَلَمْ يَذْكُرْ الرِّدَّةَ; وَمَنْ حَارَبَ مُسْلِمًا عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فَهُوَ مُعَادٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَارِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: "أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ" فَاسْتَحَقَّ مَنْ حَارَبَهُمْ اسْمَ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا, فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى أَشْعَثُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ حَارِثَةَ بن بدر حارب الله ورسوله

مطلب: الحكم لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب

مطلب: الحكم لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الاقتصار به على السبب رِدَّةً وَلَا يَخْلُو نُزُولُ الْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَوْ الْمُوَادِعِينَ, فَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهُمْ ارْتَدُّوا, فَإِنَّ نُزُولَهَا فِي شَأْنِهِمْ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهَا عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلسَّبَبِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ نُزُولَهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْئًا, وَإِنَّمَا تَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا; وَيَسْتَحِيلُ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْأَمْرِ بِقَطْعِ مَنْ قَدْ قُطِعَ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُرَادِينَ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَقَدْ رَوَى هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "كَانَ أَمْرُ الْعُرَنِيِّينَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ, وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ بَعْدَ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ وَاقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَمْلَ الْأَعْيُنِ, فَصَارَ سَمْلُ الْأَعْيُنِ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَدًّا مَعَهُ لَذَكَرَهُ; وَهُوَ مِثْلُ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ: "فِي الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَصَارَ الْحَدُّ هُوَ مَا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ, وَصَارَ النَّفْيُ مَنْسُوخًا بِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهُمْ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ سَمْلِ الْأَعْيُنِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا مُرَادِينَ بِهَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهَا عَلَيْهِمْ, فَلَمَّا لَمْ يُصْلَبُوا وَسَمَلَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا حِينَئِذٍ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْمُحَارِبِينَ

ذكر الاختلاف في ذلك

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَنَا ذَاكِرُهَا, بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ جَارٍ فِي أَهْلِ الْمِلَّةِ إذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ; فَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الْآيَةَ, قَالَ: "إذَا حَارَبَ الرَّجُلُ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَقُتِلَ وَصُلِبَ, فَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ, وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ, وَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ نُفِيَ". وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَأْخُذُ الْمَالَ وَيَقْتُلُ أَنَّ الْإِمَامَ فِيهِ بِالْخِيَارِ, إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ, وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَلَا رِجْلَهُ, وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ; فَإِنْ أَخَذَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ, وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ عُزِّرَ وَنُفِيَ مِنْ الْأَرْضِ, وَنَفْيُهُ حَبْسُهُ; وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أُوجِعَ عُقُوبَةً وَحُبِسَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا; وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ رِوَايَةً وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. فَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِينَ جَعَلُوا حُكْمَ الْآيَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ إذَا خَرَجُوا يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَيَّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ رِوَايَةً وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَتَلَ الْمُحَارِبُونَ وَلَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ قُتِلُوا, وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ, لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ, فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: "لِلْإِمَامِ أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَقَتَلَهُمْ, وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ, وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ, وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ وَتَرَكَ الْقَطْعَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَإِنَّهُمْ يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلَا يُقْطَعُونَ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي" الْإِمْلَاءِ" أَنَّهُ قَالَ: "إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَصَلَبَهُ, فَأَمَّا الصَّلْبُ فَلَا أُعْفِيهِ مِنْهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: "إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا, وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا, وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ, وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ نُفُوا, وَإِذَا هَرَبُوا طُلِبُوا حَتَّى يُؤْخَذُوا فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ, إلَّا مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ, وَلَا يَسْقُطُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ; وَيُقْطَعُ مَنْ أَخَذَ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُ الْمُخِيفُ لِلسَّبِيلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي إقَامَةِ أَيِّ الْحُدُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا قَتَلَ الْمُحَارِبُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ, أَخَذَ مَالًا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ, الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ: إنْ شَاءَ قَتَلَهُ, وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ خِلَافًا, وإن شاء

مطلب: إقامة الحد على قاطع الطريق لا تكون كفارة لذنوبه

مطلب: إقامة الحد على قاطع الطريق لا تكون كفارة لذنوبه وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ, لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَعِيدِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} اسْتِثْنَاءٌ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنْهَا, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فَأَخْرَجَ آلَ لُوطٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُهْلَكِينَ, وَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَجِّينَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} فَكَانَ إبْلِيسُ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ السَّاجِدِينَ. فَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ نَفَى إيجَابَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ, وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} عُقِلَ بِذَلك سُقُوطُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَنْهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ قَالَ فِي السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ تَوْبَةُ السَّارِقِ مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ, وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ, وَفِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ اسْتِثْنَاءٌ يُوجِبُ إخْرَاجَهُمْ مِنْ الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ عَنْ تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ, وَكُلُّ كَلَامٍ اكْتَفَى بِنَفْسِهِ لَمْ نَجْعَلْهُ مُضَمَّنًا بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} مُفْتَقِرٌ فِي صِحَّتِهِ إلَى مَا قَبْلَهُ, فَمِنْ أجل ذلك كان مضمنا به.

مطلب: إذا سقط الحد وجب ضمان المال

مطلب: إذا سقط الحد وجب ضمان المال وَمَتَى سَقَطَ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَجَبَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ وَضَمَانِ الْأَمْوَالِ. وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ سَقَطَ ضَمَانُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْجِرَاحَاتِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِهَذَا الْفِعْلِ يُسْقِطُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ, كَالسَّارِقِ إذَا سَرَقَ وَقُطِعَ لَمْ يَضْمَنْ السَّرِقَةَ, وَكَالزَّانِي إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَهْرُ, وَكَالْقَاتِلِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ الْمَالِ; كَذَلِكَ الْمُحَارِبُونَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ سَقَطَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ, فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمُحَارِبِ وَجَبَ ضَمَانُ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ, كَالسَّارِقِ إذَا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ, وَكَالزَّانِي إذَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لزمه المهر.

فصل

فصل وَاعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا فِي إيجَابِ قَطْعِ الْمُحَارِبِ مِقْدَارَ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ, بِأَنْ يُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ رُبْعَ دِينَارٍ كَمَا اعْتَبَرَهُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ, وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مَالِكٌ; لِأَنَّهُ يَرَى إجْرَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ أخذ المال.

فصل

فصل وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ الَّذِي وَلِيَ الْقَتْلَ وَأَخَذَ الْمَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ حُكْمُ جَمِيعِهِمْ حُكْمَ الْمُحَارِبِينَ يَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمَنَعَةِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ جَمِيعًا, فَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ وَهُوَ الْمَنَعَةُ حَصَلَ بِاجْتِمَاعِهِمْ جَمِيعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَانَ عَوْنًا أَوْ ظَهِيرًا; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَيْشَ إذَا غَنِمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ الْقِتَالَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رِدْءًا وَظَهِيرًا, وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَنْ قَتَلَ بِعَصًا أَوْ بِسَيْفٍ; إذْ كَانَ مَنْ لَمْ يَلِ الْقِتَالَ يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ.

باب قطع السارق

بَابُ قَطْعِ السَّارِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . رَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ قراءة عبد الله {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَرَوَى ابْنُ عَوْفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ: فِي قِرَاءَتِنَا: "فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ الْيَدَ الْمَقْطُوعَةَ بِأَوَّلِ سَرِقَةٍ هِيَ الْيَمِينُ, فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بقوله: {أَيْدِيَهُمَا} أَيْمَانُهُمَا, فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي جَمْعِهِ الْأَيْدِي مِنْ الِاثْنَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَلْبٌ وَاحِدٌ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ, كَذَلِكَ لَمَّا أَضَافَ الْأَيْدِي إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهِيَ الْيُمْنَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَفِي قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي الرَّابِعَةِ, وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّ اسْمَ السَّارِقِ يَقَعُ عَلَى سَارِقِ الصَّلَاةِ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: "لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا". وَيَقَعُ عَلَى سَارِقِ اللِّسَانِ; رَوَى لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رُهْمٍ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُسْرِقَ السَّارِقُ الَّذِي يَسْرِقُ لِسَانَ الْأَمِيرِ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كل سارق.

مطلب: خبر الحظر أولى من خبر الإباحة

مطلب: خبر الحظر أولى من خبر الإباحة ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لَعَارَضَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي نَفْيِ الْقَطْعِ عَنْ سَارِقِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ, وَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ خَبَرُنَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ حَظْرِ الْقَطْعِ عَمَّا دُونَهَا وَخَبَرُهُمْ مُبِيحٌ لَهُ, وَخَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَيُقْطَعُ فِيهِ, وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَيُقْطَعُ فِيهَا" فَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَا رَوِيَّةَ لَهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُقْطَعُ فِيهِ لِذِكْرِ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ وَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ, وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَدِيدٍ قِيمَتُهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا; وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ سَارِقَ بَيْضَةِ الدَّجَاجِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ, وَأَمَّا الْحَبْلُ فَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يُسَاوِي الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ وأكثر من ذلك.

فصل مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "لا قطع على الخائن"

فصل مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "لا قطع على الخائن" وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ" رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ. وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ فِي جَمِيعِ مَا ائْتُمِنَ الْإِنْسَانُ فِيهِ, فَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا ائْتَمَنَ غَيْرَهُ عَلَى دُخُولِ بَيْتِهِ وَلَمْ يُحْرِزْ مِنْهُ مَالَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ إذَا خَانَهُ لِعُمُومِ لَفْظِ الْخَبَرِ وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ وَالْمُضَارِبِ وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ" وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَى جَاحِدِ الْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ عن المستعير إذا جحد العارية.

مطلب: في تأويل ما ورد عنه عليه السلام من أنه فطع يد المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده

مطلب: في تأويل ما ورد عنه عليه السلام من أنه فطع يد المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إذَا خَانَ; إذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَطَعَهَا لِأَجْلِ جُحُودِهَا لِلْعَارِيَّةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ جُحُودُ الْعَارِيَّةِ تَعْرِيفًا لَهَا إذَا كَانَ ذَلِكَ مُعْتَادًا مِنْهَا حَتَّى عُرِفَتْ بِهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ وَهَذَا مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا

يُحْجِمُ الْآخَرَ فِي رَمَضَانَ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" فَذَكَرَ الْحِجَامَةَ تَعْرِيفًا لَهُمَا وَالْإِفْطَارُ وَاقِعٌ بِغَيْرِهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ وَهِيَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَطَعَهَا لِسَرِقَتِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ أَيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَرِيسَةِ الْجَبَلِ فَقَالَ: فِيهَا غَرَامَةُ مِثْلِهَا وَجَلَدَاتٌ نَكَالٌ فَإِذَا أَوَاهَا الْمُرَاحُ وَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ. وَقَالَ: لَيْسَ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ حَتَّى يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ فَإِذَا أَوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَدَلَالَةُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ فِي الْقَطْعِ وَأَصْلُهُ فِي السُّنَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَالْحِرْزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَا بُنِيَ لِلسُّكْنَى وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَكَذَلِكَ الْفَسَاطِيطُ وَالْمَضَارِبُ وَالْخِيَمُ الَّتِي يَسْكُنُ النَّاسُ فِيهَا وَيَحْفَظُونَ أَمْتِعَتَهُمْ بِهَا كُلُّ ذَلِكَ حِرْزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَافِظٌ وَلَا عِنْدَهُ وَسَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَفْتُوحُ الْبَابِ أَوْ لَا بَابَ لَهُ إلَّا أَنَّهُ مَحْجَرٌ بِالْبِنَاءِ وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ بِنَاءٍ وَلَا خَيْمَةٍ وَلَا فُسْطَاطٍ وَلَا مَضْرِبٍ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حِرْزًا إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَافِظُ نَائِمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ مُسْتَيْقِظًا وَالْأَصْلُ فِي كَوْنِ الْحَافِظِ حِرْزًا لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ صَحْرَاءَ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ كَانَ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ وَرِدَاؤُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ, فَسَرَقَهُ سَارِقٌ, فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِ; وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بِحِرْزٍ, فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُحْرَزًا لِكَوْنِ صَفْوَانَ عِنْدَهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ لَهُ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا" لِأَنَّ صَفْوَانَ كَانَ نَائِمًا, وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْحَمَّامِ, فَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ لَمْ يُقْطَعْ, وَكَذَلِكَ الْخَانُ وَالْحَوَانِيتُ الْمَأْذُونُ فِي دُخُولِهَا وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ, مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْإِذْنَ مَوْجُودٌ فِي الدُّخُولِ مِنْ جِهَةِ مَالِكِ الْحَمَّامِ وَالدَّارِ فَخَرَجَ الشَّيْءُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا مِنْ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الدُّخُولِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَذِنَ لِرَجُلٍ فِي دُخُولِ دَارِهِ أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا فِي نَفْسِهَا وَلَا يُقْطَعُ مَعَ ذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الدُّخُولِ؟ لِأَنَّهُ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَدْ ائْتَمَنَهُ وَلَمْ يُحْرِزْ مَالَهُ عَنْهُ, كَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ يُسْتَبَاحُ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَهُوَ غَيْرُ حِرْزٍ مِنْ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الدُّخُولِ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إبَاحَةُ دُخُولِهِ بِإِذْنِ آدَمِيٍّ فَصَارَ كَالْمَفَازَةِ وَالصَّحْرَاءِ, فَإِذَا سَرَقَ مِنْهُ وَهُنَاكَ حَافِظٌ لَهُ قُطِعَ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ السَّارِقَ مِنْ الْحَمَّامِ يُقْطَعُ إنْ كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ وَجَبَ قَطْعُهُ لَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ مِنْ الْحَانُوتِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الدخول

الدُّخُولِ إلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَانُوتِ حَافِظٌ لَهُ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ إذْنَهُ لَهُ فِي دُخُولِهِ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِيهِ مُحْرَزًا مِنْهُ, فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤْتَمَنِ; وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَمَّامِ وَالْحَانُوتِ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْحَانُوتِ وَالْخَانِ الْمَأْذُونِ لَهُ. قِيلَ لَهُ: هُوَ كَالْخَائِنِ لِلْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْمُضَارَبَاتِ وَغَيْرِهَا; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَهَا, وَقَدْ ائْتَمَنَهُ صَاحِبُهُ بِأَنْ لَمْ يُحْرِزْهُ كَمَا ائْتَمَنَهُ فِي إيدَاعِهِ; وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "إذَا سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ قُطِعَ". وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "لَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَكْحُولٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "اجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنٍ كَانَ مَرْوَانُ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ النَّبَّاشَ لَا يُقْطَعُ وَيُعَزَّرُ, وَكَانَ الصَّحَابَةُ مُتَوَافِرِينَ يَوْمئِذٍ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ: "يُقْطَعُ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ دَرَاهِمَ مَدْفُونَةً فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِعَدَمِ الْحِرْزِ, وَالْكَفَنُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْأَحْرَازَ مُخْتَلِفَةٌ, فَمِنْهَا شَرِيجَةُ الْبَقَّالِ حِرْزٌ لِمَا فِي الْحَانُوتِ, وَالْإِصْطَبْلُ حِرْزٌ لِلدَّوَابِّ, وَالدُّورُ لِلْأَمْوَالِ, وَيَكُونُ الرَّجُلُ حِرْزًا لِمَا هُوَ حَافِظٌ لَهُ, وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حِرْزٌ لِمَا يُحْفَظُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يَكُونُ حِرْزًا لِغَيْرِهِ, فَلَوْ سَرَقَ دَرَاهِمَ مِنْ إصْطَبْلٍ لَمْ يُقْطَعْ, وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ دَابَّةً قُطِعَ; كَذَلِكَ الْقَبْرُ هُوَ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِلدَّرَاهِمِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَحْرَازَ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً فِي كَوْنِهَا حِرْزًا لِجَمِيعِ مَا يُجْعَلُ فِيهَا لِأَنَّ الْإِصْطَبْلَ لَمَّا كَانَ حِرْزًا لِلدَّوَابِّ فَهُوَ حِرْزٌ لِلدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ وَيُقْطَعُ فِيمَا يَسْرِقُهُ مِنْهُ, وَكَذَلِكَ حَانُوتُ الْبَقَّالِ هُوَ حِرْزٌ لِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ ثِيَابٍ وَدَرَاهِمَ وَغَيْرِهَا; فَقَوْلُ الْقَائِلِ" الْإِصْطَبْلُ حِرْزٌ لِلدَّوَابِّ وَلَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ دَرَاهِمَ غَلَطٌ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ قَضِيَّتَك هَذِهِ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَكَانَتْ مَانِعَةً مِنْ إيجَابِ قَطْعِ النَّبَّاشِ; لِأَنَّ الْقَبْرَ لَمْ يُحْفَرْ لِيَكُونَ حِرْزًا لِلْكَفَنِ فَيُحْفَظُ بِهِ, وَإِنَّمَا يُحْفَرُ لِدَفْنِ الْمَيِّتِ وَسَتْرِهِ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ; وَأَمَّا الْكَفَنُ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْبِلَى وَالْهَلَاكِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّ الْكَفَنَ لَا مَالَك لَهُ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلَا مَوْقُوفَ عَلَى أَحَدٍ; فَلَمَّا صَحَّ أَنَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْوَارِثُ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ مَا صُرِفَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْكَفَنَ يُبْدَأُ بِهِ عَلَى الدُّيُونِ, فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْوَارِثُ مَا يَقْضِي بِهِ الدُّيُونَ فَهُوَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْكَفَنَ أَوْلَى, وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْوَارِثُ وَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مَالِكًا وَجَبَ أَنْ لَا يُقْطَعَ سَارِقُهُ كَمَا لَا يُقْطَعُ سَارِقُ بَيْتِ الْمَالِ وَآخِذُ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ جَوَازُ خُصُومَةِ الْوَارِثِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ. قِيلَ لَهُ: الْإِمَامُ يُطَالِبُ بِمَا يُسْرَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَمْلِكُهُ. وَوَجْهُ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّ الْكَفَنَ يُجْعَلُ هُنَاكَ لِلْبِلَى وَالتَّلَفِ لَا لِلْقِنْيَةِ وَالتَّبْقِيَةِ, فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَاءِ الَّذِي هُوَ لِلْإِتْلَافِ لَا لِلتَّبْقِيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْقَبْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ, لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بن الصامت عن أبي ذر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أَنْتَ إذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ؟ " يَعْنِي الْقَبْرَ. قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "عَلَيْك بِالصَّبْرِ". فَسَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: "يُقْطَعُ النَّبَّاشُ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيِّتِ بَيْتَهُ". وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّ عَمْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُخْتَفِيَ وَالْمُخْتَفِيَةَ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ اخْتَفَى مَيْتًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَهُ". وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمُخْتَفِي النَّبَّاشُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا سَمَّاهُ بَيْتًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْبَيْتَ مَوْضُوعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَا كَانَ مَبْنِيًّا ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ, وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَبْرُ بَيْتًا تَشْبِيهًا بِالْبَيْتِ الْمَبْنِيِّ, وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ قَطْعَ السَّارِقِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِكَوْنِهِ سَارِقًا مِنْ بَيْتٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَيْتُ مَبْنِيًّا لِيُحْرَزَ بِهِ مَا يُجْعَلُ فِيهِ, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْجِدَ يُسَمَّى بَيْتًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يُقْطَعْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَافِظٌ؟ وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْقَبْرِ دَرَاهِمُ مَدْفُونَةٌ فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ وَإِنْ كَانَ بَيْتًا, فَعَلِمْنَا أَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِهِ بَيْتًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُخْتَفِيَ" وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ اخْتَفَى مَيْتًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَهُ" فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ لَعْنٌ لَهُ, وَاسْتِحْقَاقُ اللَّعْنِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ; لِأَنَّ الْغَاصِبَ وَالْكَاذِبَ وَالظَّالِمَ كُلَّ هَؤُلَاءِ. يَسْتَحِقُّونَ اللَّعْنَ وَلَا يَجِبُ قَطْعُهُمْ; وَقَوْلُهُ: "مَنْ اخْتَفَى مَيْتًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَهُ" فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ بِهِ قَطْعًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ كَالْقَاتِلِ; وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظِهِ فَوَاجِبٌ أَنْ نَقْتُلَهُ, وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ, وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْقَطْعِ.

بَابُ مِنْ أَيْنَ يُقْطَعُ السَّارِقُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَاسْمُ الْيَدِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَمَّارًا تَيَمَّمَ إلَى الْمَنْكِبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا

بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَلَمْ يُخْطِئْ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ; وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهِ. وَيَقَعُ عَلَى الْيَدِ إلَى مَفْصِلِ الْكَفِّ أَيْضًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وَقَدْ عُقِلَ بِهِ مَا دُونَ الْمِرْفَقِ. وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ إلَى الْمِرْفَقِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَلَوْ لَمْ يَقَعْ الِاسْمُ عَلَى مَا دُونَ الْمِرْفَقِ لَمَا ذَكَرَهَا إلَى الْمَرَافِقِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ إلَى الْكُوعِ, فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْعُضْوَ إلَى الْمَفْصِلِ وَإِلَى الْمِرْفَقِ تَارَةً وَإِلَى الْمَنْكِبِ اقْتَضَى عُمُومُ اللَّفْظِ الْقَطْعَ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا دُونَهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ الِاسْمَ لَمَّا تَنَاوَلَهَا إلَى الْكُوعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْيَدِ بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَدِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا فَوْقَهُ إلَى الْمِرْفَقِ تَارَةً وَإِلَى الْمَنْكِبِ أُخْرَى ثم قال تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَكَانَتْ الْيَدُ مَحْظُورَةً فِي الْأَصْلِ فَمَتَى قَطَعْنَاهَا مِنْ الْمَفْصِلِ فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْآيَةِ, لَمْ يَجُزْ لَنَا قَطْعُ مَا فَوْقَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ, كَمَا لَوْ قَالَ: "أَعْطِ هَذَا رِجَالًا" فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ فَقَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ; إذْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهُمْ, وَإِنْ كَانَ اسْمُ الرِّجَالِ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُكُمْ فِي التَّيَمُّمِ مِثْلُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] قُلْتُمْ فِيهِ أَنَّ الِاسْمَ لَمَّا تَنَاوَلَ الْعُضْوَ إلَى الْمَرْفِقِ اقْتَضَاهُ الْعُمُومُ وَلَمْ يُنْزَلْ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ قِيلَ لَهُ هُمَا مُخْتَلِفَانِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْيَدَ لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً فِي الْأَصْلِ ثُمَّ كَانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَى الْعُضْوِ إلَى الْمَفْصِلِ وَإِلَى الْمِرْفَقِ لَمْ يَجُزْ لَنَا قَطْعُ الزِّيَادَةِ بِالشَّكِّ وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ الْحَدَثَ وَاحْتَاجَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ لَمْ يَزُلْ أَيْضًا إلَّا بِيَقِينٍ وَهُوَ التَّيَمُّمُ إلَى الْمِرْفَقِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْ الْمَفْصِلِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ الْخَوَارِجُ وَقَطَعُوا مَنْ الْمَنْكِبِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَهُمْ شُذُوذٌ لَا يُعَدُّونَ خِلَافًا وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ مِنْ الْكُوعِ وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَدَ مِنْ الْمَفْصِلِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الرُّسْغِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يَقْتَصِرُ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا دُونَ الْمَفْصِلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا فَوْقَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الرِّجْلِ مَنْ أَيِّ مَوْضِعٍ هُوَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَطَعَ سَارِقًا مَنْ خَصْرِ الْقَدَمِ وَرَوَى صَالِحُ السِّمَانُ قَالَ رَأَيْت الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقْطُوعًا مَنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَقِيلَ لَهُ مَنْ قَطَعَك فَقَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ أَبُو رَزِينٍ سَمِعْت ابْنَ

عَبَّاسٍ يَقُولُ أَيَعْجِزُ مَنْ رَأَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَقْطَعَ كَمَا قَطَعَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ يَعْنِي نَحْوَهُ فَلَقَدْ قَطَعَ فَمَا أَخْطَأَ يَقْطَعُ الرِّجْلَ وَيَذَرُ عَقِبَهَا, وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ مِنْ قَوْلِهِمَا وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخَرِينَ يُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ الْمَفْصِلِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مِنْ الْمَفْصِلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِي يَلِي الزَّنْدَ. وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ قَطْعُ الرِّجْلِ مِنْ الْمَفْصِلِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَلِي الْكَعْبَ النَّاتِئَ وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ لَهُ مِنْ الْيَدِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ لِلْبَطْشِ وَلَمْ يُقْطَعْ مِنْ أُصُولِ الْأَصَابِعِ حَتَّى يَبْقَى لَهُ الْكَفُّ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ لَهُ مِنْ الرِّجْلِ الْعَقِبُ فَيَمْشِي عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ قَطْعَ الْيَدِ لِيَمْنَعَهُ الْأَخْذَ وَالْبَطْشَ بِهَا وَأَمَرَ بِقَطْعِ الرِّجْلِ لِيَمْنَعَهُ الْمَشْيَ بِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ الْعَقِبِ لِلْمَشْيِ عَلَيْهِ وَمَنْ قَطَعَ مِنْ الْمَفْصِلِ الَّذِي هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَفْصِلَ مِنْ الرِّجْلِ بِمَنْزِلَةِ مَفْصِلِ الزَّنْدِ مِنْ الْيَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ مَفْصِلِ ظَهْرِ الْقَدَمِ وَبَيْنَ مَفْصِلِ أَصَابِعِ الرِّجْلِ مَفْصِلٌ غَيْرُهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ مَفْصِلِ الزَّنْدِ وَمَفْصِلِ أَصَابِعِ الْيَدِ مَفْصِلٌ غَيْرُهُ فَلَمَّا وَجَبَ فِي الْيَدِ قَطْعُ أَقْرَبِ الْمَفَاصِلِ إلَى مَفْصِلِ الْأَصَابِعِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ فِي الرِّجْلِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَفَاصِلِ إلَى مِفْصَلِ الْأَصَابِعِ, وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ مَفْصِلَ ظَهْرِ الْقَدَمِ غَيْرُ ظَاهِرٍ كَظُهُورِ مِفْصَلِ الْكَعْبِ مِنْ الرِّجْلِ وَمِفْصَلِ الزَّنْدِ مِنْ الْيَدِ فَلَمَّا وَجَبَ قَطْعُ مِفْصَلِ الْيَدِ الظَّاهِرِ مِنْهُ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّجْلِ وَلَمَّا اُسْتُوْعِبَتْ الْيَدُ بِالْقَطْعِ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الرِّجْلُ أَيْضًا وَالرِّجْلُ كُلُّهَا إلَى مَفْصِلِ الْكَعْبِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِّ إلَى مِفْصَلِ الزَّنْدِ. وَأَمَّا الْقَطْعُ مِنْ أُصُولِ أَصَابِعِ الرِّجْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ جِهَةٍ صَحِيحَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ خَارِجٌ عَنْ الِاتِّفَاقِ وَالنَّظَرِ جَمِيعًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ لَمَّا اسْتَشَارَهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَإِنْ سَرَقَ لَمْ يُقْطَعْ وَحُبِسَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى بَعْدَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى فَإِنْ سَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى فَإِنْ سَرَقَ حُبِسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عُمَرَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى بَعْدَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يُقْتَلُ إنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا سَارِقًا بَعْدَمَا قُطِعَتْ أَطْرَافُهُ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الرِّجْلَ بَعْدَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَقَالَ لَهُ

عُمَرُ السُّنَّةُ الْيَدُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَا تَقْطَعُوا يَدَهُ بَعْدَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَلَكِنْ احْبِسُوهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ إلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَرَوَى أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَهُمْ فِي السَّارِقِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فَإِنْ عَادَ فَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ لَا يُقْطَعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إجْمَاعًا لَا يَسَعُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَشِيرُهُمْ عُمَرُ هُمْ الَّذِينَ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَطَعَ الْيَدَ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي قِصَّةِ الْأَسْوَدِ الَّذِي نَزَلَ بِأَبِي بَكْرٍ ثُمَّ سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ وَهُوَ مُرْسَلٌ وَأَصْلُهُ حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ أَبَا بَكْرٍ فَبَعَثَهُ مَعَ مُصَدِّقٍ وَأَوْصَاهُ بِهِ فَلَبِثَ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ ثُمَّ جَاءَهُ وَقَدْ قَطَعَهُ الْمُصَدِّقُ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ لَهُ مَا لَك قَالَ وَجَدَنِي خُنْت فَرِيضَةً فَقَطَعَ يَدَيَّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنِّي لَأَرَاهُ يَخُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ فَرِيضَةً وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْت صَادِقًا لِأَقِيدَنك مِنْهُ ثُمَّ سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ فَقَطَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَطَعَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْمُصَدِّقِ يَدَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا قَطْعَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُعَارَضُ بِحَدِيثِ الْقَاسِمِ لَوْ تَعَارَضَا لَسَقَطَا جَمِيعًا وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ شَيْءٌ وَيَبْقَى لَنَا الْأَخْبَارُ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى. فَإِنْ قِيلَ رَوَى خَالِدُ الْحَذَّاءُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَطَعَ يَدًا بَعْدَ يَدٍ وَرِجْلٍ قِيلَ لَهُ لَمْ يَقُلْ فِي السَّرِقَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قِصَاصٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِثْلُ ذَلِكَ وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ وُجُوبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحِكَايَةُ فِي قَطْعِ الْيَدِ بَعْدَ الرِّجْلِ أَوْ قَطْعُ الْأَرْبَعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّرِقَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ أَوْ يَكُونُ مَرْجُوعًا عَنْهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ ضَرَبَ عُنُقَ رَجُلٍ بَعْدَمَا قَطَعَ أَرْبَعَتَهُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ قَطْعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مِنْ قِصَاصٍ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَيْمَانُهُمَا وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِذَا كَانَ الَّذِي تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ يَدًا وَاحِدَةً لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ وَقَدْ ثَبَتَ الِاتِّفَاقُ فِي الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَدِ الْيُسْرَى فَلَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا مَعَ عَدَمِ الِاتِّفَاقِ وَالتَّوْقِيفِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْحُدُودِ إلَّا مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَدَلِيلٌ آخَرُ وهو

اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى قَطْعِ الرِّجْلِ بَعْدَ الْيَدِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى غَيْرُ مَقْطُوعَةٍ أَصْلًا لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْيَدِ الْيُسْرَى بَعْدَ الْيُمْنَى إلَى الرِّجْلِ فِي قَطْعِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إبْطَالُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى بَعْدَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِمَا فِيهِ مِنْ بُطْلَانِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ رَأْسًا كَذَلِكَ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى بَعْدَ الْيُمْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ بُطْلَانِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْيَدِ كَالْمَشْيِ مِنْ مَنَافِعِ الرِّجْلِ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُحَارِبَ وَإِنْ عَظُمَ جُرْمُهُ فِي أَخْذِ الْمَالِ لَا يُزَادُ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ لِئَلَّا تَبْطُلَ مَنْفَعَةُ جِنْسِ الْأَطْرَافِ كَذَلِكَ السَّارِقُ وَإِنْ كَثُرَ الْفِعْلُ مِنْهُ بِأَنْ عَظُمَ جُرْمُهُ فَلَا يُوجِبُ الزِّيَادَةَ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قوله عز وجل {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يَقْتَضِي قَطْعَ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا وَلَوْلَا الِاتِّفَاقُ لَمَا عَدَلْنَا عَنْ الْيَدِ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى قِيلَ لَهُ. أَمَّا قَوْلُك إنَّ الْآيَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِقَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا إنَّمَا اقْتَضَتْ يَدًا وَاحِدَةً لِمَا ثَبَتَ مِنْ إضَافَتِهَا إلَى الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ دُونَ التَّثْنِيَةِ وَإِنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي يَدًا وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى مُرَادَةٌ فَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْيُسْرَى مُرَادَةً بِاللَّفْظِ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ فِي إيجَابِ قَطْعِ الْيُسْرَى وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ مُحْتَمِلًا لِمَا وَصَفْت لَكَانَ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى قَطْعِ الرِّجْلِ بَعْدَ الْيُمْنَى دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْيُسْرَى غَيْرُ مُرَادَةٍ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ الْمَنْصُوصِ وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَاحْتَجَّ مُوجِبُو قَطْعِ الْأَطْرَافِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ ثُمَّ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُهُ حَتَّى قُطِعَتْ أَطْرَافُهُ كُلُّهَا وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ مِمَّنْ يُضَعَّفُ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ وَأَصْلُهُ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَقِيلٍ الْهِلَالِيُّ حَدَّثَنَا جَدِّي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جِيءَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اُقْتُلُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ فَقَالَ اقْطَعُوهُ قَالَ فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَالَ اُقْتُلُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ قَالَ اقْطَعُوهُ قَالَ فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ اُقْتُلُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ قَالَ اقْطَعُوهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَقَالَ "اقتلوه " فقالوا

يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ قَالَ "اقْطَعُوهُ" ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ فَقَالَ "اُقْتُلُوهُ" قَالَ جَابِرٌ فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ. وَرَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ بِإِسْنَادٍ مِثْلِهِ وَزَادَ خَرَجْنَا بِهِ إلَى مِرْبَدِ النَّعَمِ فَحَمَلَنَا عَلَيْهِ النَّعَمَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَرِجْلَيْهِ فَنَفَرَتْ الْإِبِلُ عَنْهُ فَلَقِينَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلْنَاهُ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُقْتُلُوهُ فَقَالَ الْقَوْمُ إنَّمَا سَرَقَ فَقَالَ اقْطَعُوهُ فَقَطَعُوهُ ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ سَرَقَ فَقَطَعَهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا ثُمَّ سَرَقَ الْخَامِسَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِهِ حِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ هُوَ أَصْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ بَدِيًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّرِقَةَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الْقَتْلُ فَثَبَتَ أَنَّ قَطْعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ الْمُسْتَحَقِّ بِالسَّرِقَةِ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ وَالْمُثْلَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ أَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَهُمْ وَلَيْسَ السَّمْلُ حَدًّا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَلَمَّا نُسِخَتْ الْمُثْلَةُ نُسِخَ بِهَا هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْعُقُوبَةِ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا غَيْرُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْأَرْبَعِ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُثْلَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْحَدِّ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِ النَّعَمَ ثُمَّ قَتَلُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَدًّا فِي السَّرِقَةِ بوجه.

بَابُ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عُمُومُ قَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يُوجِبُ قَطْعَ كُلِّ مَنْ تَنَاوَلَ الِاسْمَ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا فِي الْمِقْدَارِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ السَّلَفِ وَاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْعُمُومُ وَأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُسَمَّى آخِذُهُ سَارِقًا لَا قَطْعَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَشْيَاءَ مِنْهُ.

ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا قَطْعَ فِي كُلِّ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ نَحْوُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَاللَّحْمِ وَالطَّعَامِ الَّذِي لَا يَبْقَى وَلَا فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَالْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا حَافِظٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَشَبِ إلَّا السَّاجَ وَالْقَنَا وَلَا قَطْعَ فِي الطِّينِ وَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالزَّرْنِيخِ وَنَحْوِهِ وَلَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الطَّيْرِ ويقطع في

الْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَلَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَمْرِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ إلَّا فِي السِّرْقِينِ وَالتُّرَابِ وَالطِّينِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُقْطَعُ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَلَا فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ1 وَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ خَشَبَةً مُلْقَاةً فَبَلَغَ ثَمَنُهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَفِيهِ الْقَطْعُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا قَطْعَ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَلَا فِي الْجُمَّارِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ فَإِنْ أُحْرِزَ فَفِيهِ الْقَطْعُ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إذَا سَرَقَ الثَّمَرَ عَلَى شَجَرَةٍ فَهُوَ سَارِقٌ يُقْطَعُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ أَنَّ مَرْوَانَ أَرَادَ قَطْعَ يَدِ عَبْدٍ وَقَدْ سَرَقَ وَدِيًّا فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَدْخَلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ وَبَيْنَ رَافِعٍ وَاسِعَ بْنَ حِبَّانَ وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمَّةٍ لَهُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَدْخَلَ اللَّيْثُ بَيْنَهُمَا عَمَّةً لَهُ مَجْهُولَةً وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فَجَعَلَ الدَّرَاوَرْدِيُّ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَرَافِعِ أَبَا مَيْمُونَةَ فَإِنْ كَانَ وَاسِعُ بْنُ حِبَّانَ كُنْيَتُهُ أَبُو مَيْمُونَةَ فَقَدْ وَافَقَ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ تَلَقَّتْ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْقَبُولِ وَعَمِلُوا بِهِ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ بِقَبُولِهِمْ لَهُ كَقَوْلِهِ "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَاخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَمَّا تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَعْنَى قَوْلِهِ "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ" فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ عَلَى كُلِّ ثَمَرٍ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي مَا يَبْقَى مِنْهُ وَمَا لَا يَبْقَى إلَّا أَنَّ الْكُلَّ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ فِيمَا قَدْ اسْتَحْكَمَ وَلَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَخُصَّ مَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ الْعُمُومِ وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي نَفْيِ الْقَطْعِ عَنْ جَمِيعِ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "لَا قَطْعَ فِي طَعَامٍ" وَذَلِكَ يَنْفِي الْقَطْعَ عَنْ جَمِيعِ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مَا لَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ بِدَلِيلٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمَنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ أَنَّ نَفْيَهُ الْقَطْعَ عَنْ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ لِأَجْلِ عَدَمِ الْحِرْزِ فَإِذَا أُحْرِزَ فَهُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَقَوْلُهُ "وَلَا كَثَرٍ" أَصْلٌ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ الْكَثَرَ قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْجُمَّارُ وَالْآخَرُ الصِّغَارُ وَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فإذا أراد به

_ 1 قوله: "حريسة الحبل" هي الشاة التي تكون فيه فلا يقطع ىسارقها لآن الجبل ليس بحرز كما في النهاية. "لمصححه".

الْجُمَّارَ فَقَدْ نَفَى الْقَطْعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِمَّا يَفْسُدُ وَهُوَ أَصْلٌ فِي كُلِّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّخْلَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ فِي الْخَشَبِ فَنَسْتَعْمِلُهُمَا عَلَى فَائِدَتَيْهِمَا جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا قَطْعَ فِي خَشَبِ إلَّا السَّاجِ وَالْقَنَا وَكَذَلِكَ يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَبَنُوسِ. وَذَلِكَ أَنَّ السَّاجَ وَالْقَنَا وَالْأَبَنُوسَ لَا يُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَالًا فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ مَا يُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَالًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَمْلَاكَ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ بِمِلْكٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا دَارُ إبَاحَةٍ وَأَمْلَاكُ أَهْلِهَا مُبَاحَةٌ فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ مَا كَانَ مِنْهُ مَالًا مَمْلُوكًا وَمَا كَانَ مِنْهُ مُبَاحًا فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ كَوْنِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ وُجُودِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا لَمْ تُوجَدْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَالًا كَانَتْ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ النَّخْلُ غَيْرُ مُبَاحِ الْأَصْلِ قِيلَ لَهُ هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَسَائِرِ الْجِنْسِ الْمُبَاحِ الْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا بِالْأَخْذِ وَالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ قَالَ "هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا وَالنَّكَالُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ إلَّا مَا أَوَاهُ الْمُرَاحُ فَإِذَا أَوَاهُ الْمُرَاحُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ قَطْعُ الْيَدِ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلِهِ وَجَلَدَاتُ النَّكَالِ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَالَ "هِيَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَالنَّكَالُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ فَمَا أَخَذَهُ مِنْ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلِهِ وَجَلَدَاتُ النَّكَالِ". فَنَفَى فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الْقَطْعَ عَنْ الثَّمَرِ رَأْسًا وَنَفَى فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَطْعَ عَنْ الثَّمَرِ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ وَقَوْلُهُ "حَتَّى يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحِرْزُ وَالْآخَرُ الْإِبَانَةُ عَنْ حَالِ اسْتِحْكَامِهِ وَامْتِنَاعِ إسْرَاعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَأْوِيهِ الْجَرِينُ إلَّا وَهُوَ مُسْتَحْكِمٌ فِي الْأَغْلَبِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الْحَصَادِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بُلُوغَهُ وَقْتَ الْحَصَادِ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ" وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْحَيْضِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَوْلِهِ "إذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ" وَلَمْ يُرِدْ بِهِ السِّنَّ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْإِحْصَانَ وَقَوْلِهِ "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ". أَرَادَ دُخُولَهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ إذَا صَارَتْ كَذَلِكَ كَانَ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "حَتَّى يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ" يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بُلُوغَ حَالِ الِاسْتِحْكَامِ فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَخُصَّ

حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي قَوْلِهِ "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ". وَإِنَّمَا لَمْ يُقْطَعْ فِي النُّورَةِ وَنَحْوِهَا لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ "لَمْ يَكُنْ قَطْعُ السَّارِقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الشَّيْءِ التَّافِهِ يَعْنِي الْحَقِيرَ". فَكُلُّ مَا كَانَ تَافِهًا مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ وَالزِّرْنِيخُ وَالْجِصُّ وَالنُّورَةُ وَنَحْوُهَا تَافِهٌ مُبَاحُ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَتْرُكُونَهُ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ إمْكَانِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْيَاقُوتُ وَالْجَوْهَرُ فَغَيْرُ تَافِهٍ وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ بَلْ هُوَ ثَمِينٌ رَفِيعٌ لَيْسَ يَكَادُ يُتْرَكُ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ كَمَا يُقْطَعُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ شَرْطَ زَوَالِ الْقَطْعِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مِنْ كَوْنِهِ تَافِهًا فِي نَفْسِهِ وَمُبَاحَ الْأَصْلِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِصَّ وَالنُّورَةَ وَنَحْوَهَا أَمْوَالٌ لَا يُرَادُ بِهَا الْقِنْيَةُ بَلْ الْإِتْلَافُ فَهِيَ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْيَاقُوتُ وَنَحْوُهُ مَالٌ يُرَادُ بِهِ الْقِنْيَةُ وَالتَّبْقِيَةُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمَّا الطَّيْرُ فَإِنَّمَا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا لَا يُقْطَعُ فِي الطَّيْرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمَا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ الْحَشِيشَ وَالْحَطَبَ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ ابْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِرَجُلٍ سَرَقَ مِغْفَرًا مِنْ الْخُمُسِ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَطْعًا وَقَالَ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَتَبَ فِيهِ سَعْدٌ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ حَقُّهُ وَحَقُّ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ سَوَاءً فَصَارَ كَسَارِقِ مَالٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يُقْطَعُ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ سَرَقَ خَمْرًا مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي ذِمِّيٍّ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا غُرِّمَ الذِّمِّيُّ وَيُحَدُّ فِيهِ الْمُسْلِمُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَمْرُ لَيْسَتْ بِمَالٍ لَنَا وَإِنَّمَا أَمْرُ هَؤُلَاءِ أَنْ تُتْرَكَ مَالًا لَهُمْ بِالْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهَا لِأَنَّ مَا كَانَ مَالًا مِنْ وَجْهٍ وَغَيْرَ مَالٍ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ سَارِقِهِ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مُعَاقَبٌ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَمْرِ وَشُرْبِهَا مَأْمُورٌ بِتَخْلِيلِهَا أَوْ صَبِّهَا فَمَنْ أَخَذَهَا فَإِنَّمَا أَزَالَ يَدَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إزَالَتُهَا عَنْهُ فَلَا يُقْطَعُ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً قُطِعَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي

لَيْلَى لَا يُقْطَعُ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا سَرَقَ فَقَالَ "مَا إخَالُهُ سَرَقَ" فَقَالَ السَّارِقُ بَلَى قَالَ فَاذْهَبُوا بِهِ "فَاقْطَعُوهُ فَقُطِعَ" وَرَوَاهُ غَيْرُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ وَصْلٍ أَوْ قَطْعٍ فَحُكْمُهَا ثَابِتٌ لِأَنَّ إرْسَالَ مَنْ أَرْسَلَهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ وَصْلِ مَنْ وَصَلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ حَصَلَ مُرْسَلًا لَكَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا لِأَنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمَوْصُولَ سَوَاءٌ عِنْدَنَا فِيمَا يُوجِبَانِ مِنْ الْحُكْمِ فَقَدْ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا قَطَعَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا سَرَقَ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يُلَقِّنْهُ الْجُحُودَ فَلَمَّا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ سَرَقَ "وَمَا إخَالُهُ سَرَقَ" وَلَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى أَقَرَّ ثَبَتَ أَنَّهُ قُطِعَ بِإِقْرَارِهِ دُونَ الشَّهَادَةِ. فَإِنَّ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الْمُنْذِرِ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ الْمَتَاعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا إخَالُكَ سَرَقْت" قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ بَلَى فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْهُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهُوَ أَقْوَى إسْنَادًا مِنْ الْأَوَّلِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إقْرَارُ السَّارِقِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ ثُمَّ أَقَرَّ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ "مَا إخَالُكَ سَرَقْت" وَأَعَادَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قِيلَ لَهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ اعْتَرَفَ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِرَافُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ عِنْدَ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْقَطْعَ عَلَيْهِ وَأَيْضًا لَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجِبْ الْقَطْعَ; إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ قَدْ وَجَبَ وَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى إسْقَاطِهِ بِتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ "مَا يَنْبَغِي لِوَالٍ آمِرٍ أَنْ يُؤْتَى لَحَدٍّ إلَّا أَقَامَهُ" فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِ بَدِيًّا لَمَا اشْتَغَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ وَلَسَارَعَ إلَى إقَامَتِهِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ وُجُوبُ الْقَطْعِ مَانِعًا مِنْ اسْتِثْبَاتِ الْإِمَامِ إيَّاهُ فِيهِ وَلَا مُوجِبًا عَلَيْهِ قَطْعَهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ مَاعِزًا قَدْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرْجُمْهُ حتى استثبته

وَقَالَ "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت". وَسَأَلَ أَهْلَهُ عَنْ صِحَّةِ عَقْلِهِ وَقَالَ لَهُمْ "أَبِهِ جِنَّةٌ" وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلَيْسَ إذًا فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِهِ حِينَ أَقَرَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يُقْدِمُ عَلَى إقَامَةِ حَدٍّ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤَخِّرَ إقَامَةَ حَدٍّ قَدْ وَجَبَ مُسْتَثْبِتًا لِذَلِكَ وَمُتَحَرِّيًا بِالِاحْتِيَاطِ وَالثِّقَةِ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا حَدِيثُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَمُرَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي سَرَقْت جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إنَّا فَقَدْنَا جَمَلًا لَنَا فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا قَطَعَهُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَيْضًا أَنَّ السَّرِقَةَ الْمُقَرَّ بِهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا أَوْ غَيْرَ عَيْنٍ فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَلَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَقَدْ وَجَبَ ضَمَانُهَا لَا مَحَالَةَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ فِيهِ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْرَارِ ثَانِيًا وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْقَطْعُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَحُصُولُ الضَّمَانِ يَنْفِي الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ فَقَدْ صَارَتْ دَيْنًا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَحُصُولُهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَنْفِي الْقَطْعَ عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَخْذِهِ بَدِيًّا عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ مَوْقُوفًا فِي الْقَطْعِ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَإِثْبَاتِهِ فَهَلَّا جَعَلْت حُكْمَ إقْرَارِهِ مَوْقُوفًا فِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ أَوْ سُقُوطِهِ قِيلَ لَهُ نَفْسُ الْأَخْذِ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ فَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا وَإِنَّمَا سُقُوطُ الْقَطْعِ بَعْدَ ذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ السَّرِقَةُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ بَدِيًّا لِلْقَطْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ يَنْفِي الْقَطْعَ; إذْ كَانَ إقْرَارُهُ الثَّانِي لَا يَنْفِي مَا قَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّمَانِ النَّافِي لِلْقَطْعِ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ يُنْتَقَضُ هَذَا الِاعْتِلَالُ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ بِالزِّنَا إذَا لَمْ يُوجِبْ حَدًّا فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ الْمَهْرِ بِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَابِ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ وَمَتَى انْتَفَى الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ وَإِقْرَارُهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لَا يُسْقِطُ الْمَهْرَ الْوَاجِبَ بَدِيًّا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا فَلَمَّا صَحَّ وُجُوبُ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْإِقْرَارِ فِي السَّرِقَةِ بِأَنَّ بِهِ فَسَادَ اعْتِلَالِك قِيلَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ فِي الزِّنَا عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ لَا يَجِبْ بِهِ مَهْرٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا قِيمَةَ لَهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ عَقْدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ وَمَتَى عُرِّيَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لو

أَقَرَّ بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالزِّنَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي مَالِهِ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَكَانَتْ السَّرِقَةُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ جَمِيعًا فَقَدْ حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إيجَابُ الضَّمَانِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَسُقُوطُ الْمَهْرِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ حَدٍّ. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِسَرِقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ قَدْ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك بِشَهَادَتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ إنَّمَا قَالَ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك بِشَهَادَتَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ لَوْ شَهِدْت بِشَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا قُطِعْت وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى أَقَرَّ مَرَّتَيْنِ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي يُوسُفَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ حَدًّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ عَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ فَلَمَّا كَانَ أَقَلُّ مَنْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ مَا يَصِحُّ بِهِ إقْرَارُهُ مَرَّتَيْنِ كَالزِّنَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ وَهَذَا يَلْزَمُ أَبَا يُوسُف أَنْ يَعْتَبِرَ عَدَدَ الْإِقْرَارِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ وَقَدْ سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ إنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ كَعَدَدِ الشُّهُودِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْقِيَاسِ مَدْفُوعٌ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ فِيمَا كَانَ هَذَا صِفَتَهُ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ.

بَابُ السَّرِقَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ أَبُو بكر قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عُمُومٌ فِي إيجَابِ قَطْعِ كُلِّ سَارِقٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ, عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدَّمْنَا, وَعَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ, لَيْسَ بِعُمُومٍ وَهُوَ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ; وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ. إلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُمُومًا عِنْدَنَا لَوْ خُلِّينَا وَمُقْتَضَاهُ فَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فيه.

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي الرَّحِمِ" وَهُوَ الَّذِي لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ أَجْلِ الرَّحِمِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. وَلَا تُقْطَعُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ

الْمَرْأَةُ إذَا سَرَقَتْ مِنْ زَوْجِهَا, وَلَا الزَّوْجُ إذَا سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ". وَقَالَ مَالِك: "يُقْطَعُ الزَّوْجُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِيمَا تَسْرِقُ مِنْ زَوْجِهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنَانِ فِيهِ, وَكَذَلِكَ فِي الْأَقَارِبِ". وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ أَبَوَيْهِ: "إنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لَا يُقْطَعُ, وَإِنْ كَانُوا نَهَوْهُ عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فَسَرَقَ قُطِعَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ أَجْدَادِهِ, وَلَا عَلَى زَوْجٍ سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ امْرَأَةٍ سَرَقَتْ مِنْ زَوْجِهَا". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] فَأَبَاحَ تَعَالَى الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ, وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ الدُّخُولِ إلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ; فَإِذَا جَازَ لَهُمْ دُخُولُهَا لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا مُحْرَزًا عَنْهُمْ, وَلَا قَطْعَ إلَّا فِيمَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ وَأَيْضًا إبَاحَةُ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ فِيهَا, لِمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ كَالشَّرِيكِ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] وَيُقْطَعُ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْ صَدِيقِهِ. قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِي الْقَطْعَ مِنْ الصَّدِيقِ أَيْضًا, وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُ بِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ فِيمَا عَدَاهُ; وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَدِيقًا إذَا قَصَدَ السَّرِقَةَ. وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا وُجُوبُ نَفَقَةِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَجَوَازُ أَخْذِهَا مِنْهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ, فَأَشْبَهَ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ, لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِيهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي مَالِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: يُعْتَرَضَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ فِي مَالِ الْأَجْنَبِيِّ يَثْبُتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَخَوْفِ التَّلَفِ وَفِي مَالِ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بِالْفَقْرِ وَتَعَذُّرِ الْكَسْبِ, وَالْوَجْهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَأْخُذُهُ بِبَدَلٍ وَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ وَأَعْضَائِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ, وَكَانَ هَذَا السَّارِقُ مُحْتَاجًا إلَى هَذَا الْمَالِ فِي إحْيَاءِ يَدِهِ لِسُقُوطِ الْقَطْعِ, صَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْفَقِيرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ. وَأَيْضًا فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى الْأَبِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ; وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ فِيمَنْ سَرَقَ مَا قَدْ قُطِعَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ بِعَيْنِهِ: "لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ". وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ, وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ, فَلَمَّا عَدِمْنَاهُمَا فِيمَا وَصَفْنَا لَمْ يَبْقَ فِي إثْبَاتِهِ إلَّا الْقِيَاسُ, وَلَا يَجُوزُ ذلك عندنا.

فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قَطَعْته بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قِبَلَ السَّرِقَةِ قِيلَ لَهُ: السَّرِقَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعُمُومُ لِأَنَّهَا تُوجِبُ قَطْعَ الرِّجْلِ لَوْ وَجَبَ الْقَطْعُ, وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ قَطْعُ الْيَدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ وُجُوبَ قَطْعِ السَّرِقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى سَقَطَ الْقَطْعُ وَجَبَ ضَمَانُ الْعَيْنِ, كَمَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ كَانَ سُقُوطُ الْحَدِّ مُوجِبًا ضَمَانَ الْوَطْءِ, وَلَمَّا تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِقَتْلِ النَّفْسِ كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ مُوجِبًا ضَمَانَ النَّفْسِ; فَكَذَلِكَ وُجُوبُ ضَمَانِ الْعَيْنِ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَ سُقُوطِ الْقَطْعِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْعَيْنِ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ فِعْلُ وَاحِدٍ فِي عَيْنَيْنِ لَا يُوجِبُ إلَّا قَطْعًا وَاحِدًا, كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجِبَ إلَّا قَطْعًا وَاحِدًا; إذْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَيْنَيْنِ أَعْنِي الْفِعْلَ وَالْعَيْنَ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا مَرَّةً أُخْرَى حُدَّ ثَانِيًا مَعَ وُقُوعِ الْفِعْلَيْنِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَيْنِ الْمَرْأَةِ فِي تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِهَا, وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا بِالْوَطْءِ لَا غَيْرُ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى سَقَطَ الْحَدُّ ضَمِنَ الْوَطْءَ وَلَمْ يَضْمَنْ عَيْنَ الْمَرْأَةِ, وَفِي السَّرِقَةِ مَتَى سَقَطَ الْقَطْعُ ضَمِنَ عَيْنَ السَّرِقَةِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا صَارَتْ السَّرِقَةُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ التَّافِهِ, بِدَلَالَةِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا, وَجَبَ أَنْ لَا يُقْطَعَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ التَّافِهَةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ حَصَلَتْ مِلْكًا لِلنَّاسِ كَالطِّينِ وَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْمَاءِ; وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّهُ لَوْ كَانَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا بَعْدَمَا قُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى قُطِعَ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذَا الْفِعْلِ فِيهِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ الْمَانِعَةِ كَانَتْ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ, كَمَا لَوْ سَرَقَ خَشَبًا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ, وَلَوْ كَانَ بَابًا مَنْجُورًا فَسَرَقَ قُطِعَ لِخُرُوجِهِ بِالصَّنْعَةِ عَنْ الْحَالِ الْأُولَى. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ وُقُوعُ الْقَطْعِ فِيهِ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ قَامَ الْقَطْعُ فِيهِ مَقَامَ دَفْعِ قِيمَتِهِ, فَصَارَ كَأَنَّهُ عَوَّضَهُ مِنْهُ, وَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وُقُوعَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَسْرُوقِ, لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ يُوجِبُ لَهُ الْمِلْكَ, فَلَمَّا أَشْبَهَ مِلْكَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَنْ يُشْبِهَ الْمُبَاحَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهَ الْمِلْكَ من وجه.

باب السرق يُوجَدُ قَبْلَ إخْرَاجِ السَّرِقَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ وَاجِبٍ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَتَاعِ وَبَيْنَ حِرْزِهِ, وَالدَّارُ كُلُّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ, فَكَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ, وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إذا لم

يَخْرُجْ بِالْمَتَاعِ لَمْ يُقْطَعْ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "لَوْ لَمْ أَجِدْ إلَّا سِكِّينًا لَقَطَعْته". وَرَوَى سَعِيدُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "إذَا وُجِدَ فِي بَيْتٍ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: دُخُولُهُ الْبَيْتَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْمَ السَّارِقِ, فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الْقَطْعِ بِهِ, وَأَخْذُهُ فِي الْحِرْزِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ لِأَنَّهُ بَاقٍ فِي الْحِرْزِ, وَمَتَى لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ فَلَا يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ; وَلَوْ جَازَ إيجَابُ الْقَطْعِ فِي مِثْلِهِ لَمَا كَانَ لِاعْتِبَارِ الْحِرْزِ مَعْنًى; وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ غُرْمِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَخَذَهَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ, وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ", وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "يَضْمَنُهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "يَغْرَمُ السَّرِقَةَ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْخُذُهَا; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَرَدَّ الرِّدَاءَ عَلَى صَفْوَانَ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْقَطْعِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ; فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ هُوَ الْقَطْعُ, لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الضَّمَانِ مَعَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْمَنْصُوصِ, وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ, وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} , فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْجَزَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَزَاءٌ غَيْرُهُ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَخِيهِ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إذَا أَقَمْتُمْ عَلَى السَّارِقِ الْحَدَّ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ الْآدَمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِسَارِقٍ, فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَقَالَ: "لَا غُرْمَ عَلَيْهِ". وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ; وَأَخْطَأَ فِيهِ خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ, فَقَالَ الْمِسْوَرِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْمَالِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ, كَمَا لَا يَجْتَمِعُ

الْحَدُّ وَالْمَهْرُ وَالْقَوَدُ وَالْمَالُ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْقَطْعِ نَافِيًا لِضَمَانِ الْمَالِ; إذْ كَانَ الْمَالُ فِي الْحُدُودِ لَا يَجِبُ إلَّا مَعَ الشُّبْهَةِ, وَحُصُولُ الشُّبْهَةِ يَنْفِي وُجُوبَ الْقَطْعِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الضَّمَانَ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الْمِلْكِ فَلَوْ ضَمَّنَّاهُ لِمِلْكِهِ بِالْأَخْذِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَقْطُوعًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى رَفْعِ الْقَطْعِ وَكَانَ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ إسْقَاطُ الْقَطْعِ, امْتَنَعَ وُجُوبُ الضَّمَانِ

بَابُ الرِّشْوَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قِيلَ إنَّ أَصْلَ السُّحْتِ الِاسْتِئْصَالُ, يُقَالُ: أَسْحَتَهُ إسْحَاتًا: إذَا اسْتَأْصَلَهُ وَأَذْهَبَهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61] أَيْ يَسْتَأْصِلُكُمْ بِهِ. وَيُقَالُ: أَسْحَتَ مَالَهُ, إذَا أَفْسَدَهُ وَأَذْهَبَهُ. فَسُمِّيَ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ لَا بَرَكَةَ فِيهِ لِأَهْلِهِ وَيَهْلِكُ بِهِ صَاحِبُهُ هَلَاكَ الِاسْتِئْصَالِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ السُّحْتِ أَهُوَ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ؟ فَقَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَلَكِنَّ السُّحْتَ أَنْ يَسْتَشْفِعَ بِك عَلَى إمَامٍ فَتُكَلِّمَهُ فَيُهْدِيَ لَك هَدِيَّةً فَتَقْبَلَهَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ عَنْ الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ, فَقَالَ: "ذَلِكَ كُفْرٌ "; وَسَأَلْته عَنْ السُّحْتِ, فَقَالَ: "الرُّشَا". وَرَوَى عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ مُسْلِمٍ, أَنَّ مَسْرُوقًا قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ مِنْ السُّحْتِ؟ قَالَ: "لَا, وَلَكِنْ كُفْرٌ, إنَّمَا السُّحْتُ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَاهٌ وَمَنْزِلَةٌ وَيَكُونَ لِلْآخَرِ إلَى السُّلْطَانِ حَاجَةٌ, فَلَا يَقْضِيَ حَاجَتَهُ حَتَّى يُهْدِيَ إلَيْهِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالِاسْتِجْعَالِ فِي الْقَضِيَّةِ". فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السُّحْتَ اسْمًا لِأَخْذِ مَا لَا يَطِيبُ أَخْذُهُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "السُّحْتُ الرُّشَا". وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "إنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ, وَإِذَا أَكَلَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ". وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "بَابَانِ مِنْ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ: الرُّشَا وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ". وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَدَايَا الْأُمَرَاءِ مِنْ السُّحْتِ". وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا". وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ". وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُتَأَوِّلِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ الرُّشَا مُحَرَّمٌ, وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ الله تعالى.

مَطْلَبٌ: فِي وُجُوهِ الرِّشْوَةِ وَالرِّشْوَةُ تَنْقَسِمُ إلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ, وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي جَمِيعًا, وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" وَالرَّائِشُ وَهُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَرْشُوَهُ لِيَقْضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ, فَإِنْ رَشَاهُ لِيَقْضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ فَقَدْ فَسَقَ الْحَاكِمُ بِقَبُولِ الرِّشْوَةِ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ, وَاسْتَحَقَّ الرَّاشِي الذَّمَّ حِينَ حَاكَمَ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِحَاكِمٍ, وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ; لِأَنَّهُ قَدْ انْعَزَلَ عَنْ الْحُكْمِ بِأَخْذِهِ الرِّشْوَةَ, كَمَنْ أَخَذَ الْأُجْرَةَ عَلَى أَدَاءِ الْفُرُوضِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَأَنَّهَا مِنْ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَفْعُولًا عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ, كَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ; وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْأَبْدَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ جَائِزًا لَجَازَ أَخْذُ الرُّشَا عَلَى إمْضَاءِ الْأَحْكَامِ, فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَخْذَ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَبْدَالِ عَلَى الْفُرُوضِ وَالْقُرَبِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ الرِّشْوَةَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِبَاطِلٍ فَقَدْ فَسَقَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَخْذُ الرِّشْوَةِ, وَالْآخَرُ: الْحُكْمُ بِغَيْرِ حَقٍّ; وَكَذَلِكَ الرَّاشِي. وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ السُّحْتَ عَلَى الْهَدِيَّةِ فِي الشَّفَاعَةِ إلَى السُّلْطَانِ, وَقَالَ: "إنْ أَخْذَ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ كُفْرٌ". وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ: "الرُّشَا مِنْ السُّحْتِ". وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ, فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي الْهَدِيَّةِ إلَى الرِّجْلِ لِيُعِينَهُ بِجَاهِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ, وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ عَلَيْهِ مَعُونَتَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ الْمَرْءِ مَا دَامَ الْمَرْءُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الرِّشْوَةِ, وَهُوَ الَّذِي يَرْشُو السُّلْطَانَ لِدَفْعِ ظُلْمِهِ عَنْهُ, فَهَذِهِ الرِّشْوَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى آخِذِهَا غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَى مُعْطِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إذَا خَافَ الظُّلْمَ" وَعَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" قَالَ الْحَسَنُ: "لِيُحِقَّ بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلَ حَقًّا, فَأَمَّا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ مَالِك فَلَا بَأْسَ". وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ: "لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ مَا يَصُونُ بِهِ عِرْضَهُ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "اجْعَلْ مَالَك جنة

دُونَ دِينِك وَلَا تَجْعَلْ دِينَك جُنَّةً دُونَ مَالِك". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: "لَمْ نَجِدْ زَمَنَ زِيَادٍ شَيْئًا أَنْفَعَ لَنَا مِنْ الرُّشَا". فَهَذَا الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ السَّلَفُ إنَّمَا هُوَ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يُرِيدُ ظُلْمَهُ أَوْ انْتِهَاكَ عِرْضِهِ; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ وَأَعْطَى تِلْكَ الْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ, أَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ شَيْئًا, فَسَخِطَهُ فَقَالَ شِعْرًا, فَقَالَ النَّبِيُّ: "اقْطَعُوا عَنَّا لِسَانَهُ فَزَادُوهُ حَتَّى رَضِيَ". وَأَمَّا الْهَدَايَا لِلْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ, فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَرِهَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُهْدِي خَصْمٌ وَلَا حُكُومَةٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ1 حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ, فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ عَلَى مَا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَنَظَرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا". وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ وَهَدَايَا الْأُمَرَاءِ سُحْتٌ". وَكَرِهَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ, فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا, فَقَالَ: كَانَتْ حِينَئِذٍ هَدِيَّةً وَهِيَ الْيَوْمَ سُحْتٌ. وَلَمْ يَكْرَهْ مُحَمَّدٌ لِلْقَاضِي قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ; فَكَأَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ مِنْهَا مَا أُهْدِيَ لَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَاضٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُهْدَ لَهُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا أُهْدِيَ لَهُ لِأَنَّهُ عَامِلٌ, وَلَوْلَا أَنَّهُ عَامِلٌ لَمْ يُهْدَ لَهُ, وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ; وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُهْدِهِ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ, فَجَائِزٌ لَهُ قَبُولُهُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَقْبَلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بِنْتَ مَلِكِ الرُّومِ أَهْدَتْ لِأُمِّ كُلْثُومَ بِنْتِ عَلِيٍّ امْرَأَةِ عُمَرَ, فَرَدَّهَا عُمَرُ وَمَنَعَ قبولها.

_ 1 قوله: ابن اللتبية" بضم اللام وسكون التاء وفتحها وكسر الباء الموحدة. ويقال له "ابن الأتبية" كذا في شرح صحيح البخاري للعيني. "لمصححه".

بَابُ الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْلِيَتُهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ, وَالثَّانِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْنَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ, فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: "إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْنَا فَإِنْ شَاءَ الْحَاكِمُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى دِينِهِمْ". وَقَالَ آخَرُونَ: "التَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ, فَمَتَى ارْتَفَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ".

فَمِمَّنْ أَخَذَ بِالتَّخْيِيرِ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إلَيْنَا الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ رِوَايَةً; وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: "خَلُّوا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ حَاكِمِهِمْ, وَإِذَا ارْتَفَعُوا إلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا عَلَيْهِمْ مَا فِي كِتَابِكُمْ". وَرَوَى سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: آيَةُ الْقَلَائِدِ, وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا إنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إلَى أَحْكَامِهِمْ, حَتَّى نَزَلَتْ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَالَ: نَسَخَتْهَا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نَاسِخٌ لِلتَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَوَارِيخِ نُزُولِ الْآيِ لَا يُدْرَكُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ, وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ أَثْبَتَ التَّخْيِيرَ إنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَإِنَّ التَّخْيِيرَ نَسَخَهُ. وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مَذَاهِبُهُمْ فِي التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النَّسْخِ, فَثَبَتَ نَسْخُ التَّخْيِيرِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} كَرِوَايَةِ مَنْ ذَكَرَ نَسْخَ التَّخْيِيرِ. وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّخْيِيرِ قَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] الْآيَاتِ, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَحْكُمْ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ إنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44] مَنْسُوخًا إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ رَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44] نسخها ما قبلها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَقَدْ رَوَى سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَبْلَ أَنْ تُعْقَدَ لَهُمْ الذِّمَّةُ يَدْخَلُوا تَحْتَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِالْجِزْيَةِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ أَمَرَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَيَكُونُ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ثَابِتًا: التَّخْيِيرُ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ إذَا هَادَنَّاهُمْ وَإِيجَابُ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ

الَّذِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ, وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ يُدَوْنَ دِيَةً كَامِلَةً, وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ يُودَوْنَ نِصْفَ الدِّيَةِ; فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ, فَحَمَلَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ قَطُّ, وَقَدْ أَجْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ, وَلَوْ كَانَ لَهُمْ ذِمَّةٌ لَمَا أَجْلَاهُمْ وَلَا قَتَلَهُمْ, وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَهُدْنَةٌ فَنَقَضُوهَا. فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ فِيهِمْ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا بَاقِيًا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ, وَحُكْمُ الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَابِتًا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَسْخٌ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ لَوْلَا مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ نَسْخِ التَّخْيِيرِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَعَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ, وَإِنَّمَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ طَلَبًا لِلرُّخْصَةِ وَزَوَالِ الرَّجْمِ, فَصَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ مِدْرَاسِهِمْ وَوَقَفَهُمْ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَعَلَى كَذِبِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ, ثُمَّ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا". وَقَالَ أَصْحَابُنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ مَحْمُولُونَ فِي الْبُيُوعِ وَالْمَوَارِيثِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمِينَ, إلَّا فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ, فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُقَرُّونَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَالًا لَهُمْ, وَلَوْ لَمْ يَجُزْ مُبَايَعَتُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالًا لَهُمْ وَلَمَا وَجَبَ عَلَى مُسْتَهْلِكِهَا عَلَيْهِمْ ضَمَانٌ". وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْعُشُورِ, فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ" أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا" فَهَذَانِ مَالٌ لَهُمْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِمَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحْكَامِنَا لِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ: "إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَظْرِ الرِّبَا وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ كَالْمُسْلِمِينَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَسَوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنْعِ

مِنْ الرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الْمَحْظُورَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْحُدُودِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فِيهَا سَوَاءٌ, إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُرْجَمُونَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُحْصَنِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: "الْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ أَوْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ فَلَا يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ" وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْعُقُودِ وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُنَاكَحَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُمْ مُقَرُّونَ عَلَى أَحْكَامِهِمْ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ فِيهَا إلَّا أَنْ يَرْضَوْا بِأَحْكَامِنَا, فَإِنْ رَضِيَ بِهَا الزَّوْجَانِ حُمِلَا عَلَى أَحْكَامِنَا, وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ, فَإِذَا تَرَاضَيَا جَمِيعًا حَمَلَهُمَا عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ إلَّا فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ, وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمُوا". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "إذَا رَضِيَ أَحَدُهُمَا حُمِلَا جَمِيعًا عَلَى أَحْكَامِنَا وَإِنْ أَبَى الْآخَرُ, إلَّا فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ خَاصَّةً". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يُحْمَلُونَ عَلَى أَحْكَامِنَا وَإِنْ أَبَوْا إلَّا فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ نُجِيزُهُ إذَا تَرَاضَوْا بِهَا". فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ فِي إقْرَارِهِمْ عَلَى مُنَاكَحَاتِهِمْ, إلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ نِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحْرَمِ وَمَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا; وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَسْتَحِلُّونَ كَثِيرًا مِنْ عُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ حِينَ عَقَدَ لَهُمْ الذِّمَّةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَوَادِي الْقُرَى وَسَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الذِّمَّةِ وَرَضُوا بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّهُمْ عَلَى مُنَاكَحَاتِهِمْ كَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ الَّتِي هِيَ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اسْتِحْلَالَهُمْ لِلرِّبَا كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ: "إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا, وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". فَلَمْ يُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ حِينَ عَلِمَ تَبَايُعَهُمْ بِهِ. وَأَيْضًا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ السَّوَادَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَكَانُوا مَجُوسًا, وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِمُنَاكَحَاتِهِمْ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ جَرَوْا عَلَى مِنْهَاجِهِ فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى سَعْدٍ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْهُمْ وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الْمُذْهَبِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي سِيرَتِهِ فِيهِمْ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ وَسَائِرِ مَا عَامَلَهُمْ بِهِ, فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابُهُ إلَى سَعْدٍ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِيمَنْ رَضِيَ مِنْهُمْ بِأَحْكَامِنَا; وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا تَرَاضَوْا بِأَحْكَامِنَا. وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نَاسِخٌ لِلتَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ

أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَاَلَّذِي ثَبَتَ نَسْخُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ التَّخْيِيرُ, فَأَمَّا شَرْطُ الْمَجِيءِ مِنْهُمْ فَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِهِ, فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الشَّرْطِ بَاقِيًا وَالتَّخْيِيرُ مَنْسُوخًا, فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ مَعَ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَإِنَّمَا قَالَ: "إنَّهُمْ يُحْمَلُونَ عَلَى أَحْكَامِنَا إذَا رَضُوا بِهَا إلَّا فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ" مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرَاضِي مِنْهُمْ بِأَحْكَامِنَا, فَمَتَى تَرَاضَوْا بِهَا وَارْتَفَعُوا إلَيْنَا فَإِنَّمَا الْوَاجِبُ إجْرَاؤُهُمْ عَلَى أَحْكَامِنَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ لِأَنَّ امْرَأَةً تَحْتَ زَوْجٍ لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَمْنَعْ مَا وَجَبَ مِنْ الْعِدَّةِ بَقَاءَ الْحُكْمِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ; فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ, فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ عِدَّةٌ وَاجِبَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ, فَجَازَ نِكَاحُهَا الثَّانِي. وَلَيْسَ كَذَلِكَ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ; إذْ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي بَابِ بُطْلَانِهِ, وَأَمَّا النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وُجُودُ الشُّهُودِ فِي حَالِ الْعَقْدِ, وَلَا يُحْتَاجُ فِي بَقَائِهِ إلَى اسْتِصْحَابِ الشُّهُودِ; لِأَنَّ الشُّهُودَ لَوْ ارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مَاتُوا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ; فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الشُّهُودِ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ الْبَقَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَجْلِ عَدَمِ الشُّهُودِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ, فَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُهُ, وَالِاجْتِهَادُ سَائِغٌ فِي جَوَازِهِ, وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا عَقَدُوهُ مَا لَمْ يَخْتَصِمُوا فِيهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ فَسْخُهُ إذَا عَقَدُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا جَائِزًا فِي وَقْتِ وُقُوعِهِ, لَوْ أَمْضَاهُ حَاكِمٌ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَازَ وَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ ذَلِكَ فَسْخُهُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ تَرَاضِيَهُمَا جَمِيعًا بِأَحْكَامِنَا مِنْ قِبَلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} فَشَرَطَ مَجِيئَهُمْ, فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمَجِيءِ الْآخَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَحْكَامِنَا فَقَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ أَسْلَمَ فَيُحْمَلُ الْآخَرُ مَعَهُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ, لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَحْكَامِنَا لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إيجَابًا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ الرِّضَا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إيَّاهُ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يُمْكِنُهُ الرِّضَا بِأَحْكَامِنَا؟ وَأَيْضًا إذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الرِّضَا بِحُكْمِنَا فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ مُبْقًى عَلَى حُكْمِهِ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ حُكْمًا لِأَجْلِ رِضَا غَيْرِهِ. وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ رِضَا أَحَدِهِمَا يُلْزِمُ الْآخَرَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} . قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} يَعْنِي: اللَّهُ أَعْلَمُ

فِيمَا تَحَاكَمُوا إلَيْك فِيهِ; فَقِيلَ: إنَّهُمْ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي حَدِّ الزَّانِيَيْنِ, وَقِيلَ: فِي الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ; فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إلَيْهِ تَصْدِيقًا مِنْهُمْ بِنُبُوَّتِهِ, وَإِنَّمَا طَلَبُوا الرُّخْصَةَ; وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} يَعْنِي هُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِحُكْمِك أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعَ جَحْدِهِمْ بِنُبُوَّتِك وَعُدُولِهِمْ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ حُكْمًا لِلَّهِ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ حِينَ طَلَبُوا غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ وَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ فَهُمْ كَافِرُونَ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ. وقَوْله تعالى: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فِيمَا اخْتَصَمُوا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا, وَأَنَّهُ صَارَ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِيعَةً لَنَا لَمْ يُنْسَخْ; لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّسْخِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ, كَمَا لَا يُطْلَقُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَحْلِيلُ الْخَمْرِ أَوْ تَحْرِيمُ السَّبْتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَازِمَةٌ لَنَا مَا لَمْ تُنْسَخْ, وَأَنَّهَا حُكْمُ اللَّهِ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} بِالرَّجْمِ; لِأَنَّهُمْ اخْتَصَمُوا إلَيْهِ فِي حَدِّ الزِّنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ بِالْقَوَدِ لِأَنَّهُمْ اخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِيهِمَا جَمِيعًا مِنْ الرَّجْمِ وَالْقَوَدِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيَّ وَالسُّدِّيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى الزَّانِيَيْنِ مِنْهُمْ بِالرَّجْمِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا" وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّوْرَاةِ; وَحَكَمَ فِيهِ بِتَسَاوِي الدِّيَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا حُكْمَ التَّوْرَاةِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ لَا بِحُكْمِ مُبْتَدَأِ شَرِيعَةٍ. وقوله تعالى: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "شُهَدَاءُ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "شُهَدَاءُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ". وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} قَالَ فِيهِ السُّدِّيُّ: لَا تَخْشَوْهُمْ فِي كِتْمَانِ مَا أَنْزَلْت". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا: أَنْ لَا يتبعوا الهوى, وأن يخشوه ولا يخشوا الناس, وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا". ثم قَالَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] الْآيَةَ, وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فتضمنت هذه

الآية معاني: مِنْهَا الْأَخْبَارُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ كَانَ بَاقِيًا فِي زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ مَبْعَثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ نَسْخَهُ; وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُنْسَخْ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا إيجَابُ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا يُحَابِي فِيهِ مَخَافَةَ النَّاسِ. وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ أَخْذِ الرُّشَا فِي الْأَحْكَامِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُوَ فِي الْجَاحِدِ لِحُكْمِ اللَّهِ". وَقِيلَ: "هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: "هِيَ عَامَّةٌ" يَعْنِي فِيمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَحَكَمَ بِغَيْرِهِ مُخْبِرًا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى, وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ فَمَنْ جَعَلَهَا فِي قَوْمٍ خَاصَّةً وَهُمْ الْيَهُودُ, لَمْ يَجْعَلْ" مَنْ" بِمَعْنَى الشَّرْطِ, وَجَعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ, وَالْمُرَادُ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ, وَذَكَرَ قِصَّةَ رَجْمِ الْيَهُودِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الْآيَاتِ, إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: "فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً" وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} و {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} " فِي الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ". وَقَالَ الْحَسَنُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: "نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ ثُمَّ جَرَتْ فِينَا". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} نَزَلَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قَالَ: "نَعَمْ, الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ, إنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ, وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ". قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "نَزَلَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَرَضِيَ لَكُمْ بِهَا". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ الْأُولَى لِلْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِيَةُ لِلْيَهُودِ وَالثَّالِثَةُ لِلنَّصَارَى". وَقَالَ طَاوُسٍ: "لَيْسَ بِكُفْرٍ يُنْقَلُ عَنْ الْمِلَّةِ" وَرَوَى طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَيْسَ الْكُفْرُ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لَيْسَ بِكُفْرِ شِرْكٍ وَلَا ظُلْمِ شِرْكٍ وَلَا فِسْقِ شِرْكٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ كُفْرَ الشِّرْكِ وَالْجُحُودِ أَوْ كُفْرً النِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ; فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ جُحُودَ حُكْمِ اللَّه أَوْ الْحُكْمَ بِغَيْرِهِ مَعَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ, فَهَذَا كُفْرٌ يُخْرِجُ عَنْ الْمِلَّةِ وَفَاعِلُهُ مُرْتَدٌّ إنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُسْلِمًا; وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَهُ مَنْ قَالَ: "إنَّهَا نَزَلَتْ فِي بني

إسْرَائِيلَ وَجَرَتْ فِينَا" يَعْنُونَ أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَّا حُكْمَ اللَّهِ أَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ إنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ, فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا كَفَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ, وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُفْرَ النِّعْمَةِ فَإِنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ, فَلَا يَكُونُ فَاعِلُهُ خَارِجًا مِنْ الْمِلَّةِ; وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِإِطْلَاقِهِ اسْمَ الْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَقَدْ تَأَوَّلَتْ الْخَوَارِجُ هَذِهِ الْآيَة عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ لَهَا, وَأَكْفَرُوا بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ بِكَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ, فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِتَكْفِيرِهِمْ الْأَنْبِيَاءَ بِصَغَائِرِ ذُنُوبِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ فِيهِ إخْبَارٌ عَمَّا كَتَبَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ وَفِي الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إيجَابِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي النَّفْسِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا حُكْمُهَا ثَابِتٌ إلَى أَنْ يَرِدَ نَسْخُهَا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمَانِ, فَهُوَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ إلَى أَنْ يَرِدَ نَسْخُهُ. وَالثَّانِي: مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ لِتَرْكِهِمْ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ, إمَّا جُحُودًا لَهُ أَوْ تَرْكًا لِفِعْلِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ, وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ النُّفُوسِ مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ نَسْخِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ. وقَوْله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} مَعْنَاهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْعَيْنِ إذَا ضُرِبَتْ فَذَهَبَ ضَوْءُهَا, وَلَيْسَ هُوَ عَلَى أَنْ تُقْلَعَ عَيْنُهُ; هَذَا عِنْدَهُمْ لَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي مِثْلِهِ, أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَقِفُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَجِبُ قَلْعُهُ مِنْهَا؟ فَهُوَ كَمَنْ قَطَعَ قِطْعَةَ لَحْمٍ مِنْ فَخِذِ رَجُلٍ أَوْ ذِرَاعِهِ أَوْ قَطَعَ بَعْضَ فَخِذِهِ, فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ; وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ فِيمَا قَدْ ذَهَبَ ضَوْءُهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ أَنْ تُشَدَّ عَيْنُهُ الْأُخْرَى وَتُحْمَى لَهُ مِرْآةٌ فَتُقَدَّمَ إلَى الْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: إذَا قَطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ; لِأَنَّهُ عَظْمٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ, كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ وَكَمَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ نِصْفِ الْفَخِذِ لَا خِلَافَ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ

الْمِثْلِ; وَالْقِصَاصُ هُوَ أَخْذُ الْمِثْلِ, فَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا. وَقَالُوا: إنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَنْفِ إذَا قَطَعَ الْمَارِنَ, وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ وَنَزَلَ عَنْ قَصَبَةِ الْأَنْفِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي الْأَنْفِ إذَا اُسْتُوْعِبَ الْقِصَاصَ, وَكَذَلِكَ الذَّكَرُ وَاللِّسَانُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "لَا قِصَاصَ فِي الْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ إذَا اُسْتُوْعِبَ". وقَوْله تَعَالَى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهَا إذَا اُسْتُوْعِبَتْ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ, وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: "فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ يُسْتَطَاعُ وَيُعْرَفُ قدره". وقوله عز وجل: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا السِّنِّ, فَإِنْ قُلِعَتْ أَوْ كُسِرَ بَعْضُهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ, لِإِمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ, إنْ كَانَ الْجَمِيعَ فَبِالْقَلْعِ كَمَا يُقْتَصُّ مِنْ الْيَدِ مِنْ الْمَفْصِلِ, وَإِنْ كَانَ الْبَعْضَ فَإِنَّهُ يُبْرَدُ بِمِقْدَارِهِ بِالْمِبْرَدِ, فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعِظَامِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ; وَقَدْ اقْتَضَى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَنْ يُؤْخَذَ الْكَبِيرُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِصَغِيرِهَا, وَالصَّغِيرُ بِالْكَبِيرِ, بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مُقَابِلًا لِمَا جُنِيَ عَلَيْهِ لَا غَيْرِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يَعْنِي إيجَابَ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا. وَدَلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فيه لأن قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يَقْتَضِي أَخْذَ الْمِثْلِ سَوَاءً, وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فَلَيْسَ بِقِصَاصٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ, مِنْهَا الْقِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ, وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى لَا فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الْيَدِ, وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ إلَّا بِمِثْلِهَا مِنْ الْجَانِي". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ" تُفْقَأُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَالْيُسْرَى بِالْيُمْنَى وَكَذَلِكَ الْيَدَانِ, وَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ وَالضِّرْسُ بِالثَّنِيَّةِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ كَفٍّ فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ مِنْ تِلْكَ الْكَفِّ أُصْبُعٌ مِثْلُهَا قُطِعَ مِمَّا يَلِي تِلْكَ الْأُصْبُعَ, وَلَا يُقْطَعُ أُصْبُعُ كَفٍّ بِأُصْبُعِ كَفٍّ أُخْرَى, وَكَذَلِكَ تُقْلَعُ السِّنُّ الَّتِي تَلِيهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْقَاطِعِ سِنٌّ مِثْلُهَا وَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الْأَضْرَاسَ, وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ يُمْنَى, وَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَلَا اليسرى باليمنى".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مِنْ الْجَانِي بَاقِيًا, لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَعْدُو مَا قَابَلَهُ مِنْ عُضْوِ الْجَانِي إلَى غَيْرِهِ مِمَّا بِإِزَائِهِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلَى آخَرِ الْآيَةِ اسْتِيفَاءُ مِثْلِهِ مِمَّا يُقَابِلُهُ مِنْ الْجَانِي, فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ, سَوَاءٌ كَانَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا مِنْ الْجَانِي أَوْ مَعْدُومًا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْدُوَ الْيَدَ إلَى الرِّجْلِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ أَنْ تَكُونَ يَدُ الْجَانِي مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً فِي امْتِنَاعِ تَعَدِّيهِ إلَى الرِّجْلِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِصَاصَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ, وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مُمَاثَلَةً, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْيَدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ وَأَنَّ الشَّلَّاءَ تُؤْخَذُ بالصحيحة, وذلك لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَفِي أَخْذِ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ اسْتِيفَاءٌ أَكْثَرُ مِمَّا قَطَعَ; وَأَمَّا أَخْذُ الشَّلَّاءِ بِالصَّحِيحَةِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقِصَاصِ فِي الْعَظْمِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ مَا خَلَا السِّنَّ". وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ, وَلَمْ يَسْتَثْنِيَا السِّنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: عِظَامُ الْجَسَدِ كُلُّهَا فِيهَا الْقَوَدُ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُجَوَّفًا مِثْلَ الْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ, وَلَيْسَ فِي الْهَاشِمَةِ قَوَدٌ وَكَذَلِكَ الْمُنَقِّلَةُ, وَفِي الذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ وَالْأَصَابِعِ إذَا كُسِرَتْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ قِصَاصٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ فِي عَظْمِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ سَائِرُ الْعِظَامِ, وَقَالَ الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْعِظَامِ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْ مَأْمُومَةٍ, فَأُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ كَانُوا الصَّحَابَةَ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ أُذُنَهُ فَيَبِسَتْ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ أُذُنَهُ حَتَّى تَيْبَسَ; لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ; فَكَذَلِكَ الْعِظَامُ. وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ فِيمَا تَقَدَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ رِوَايَةً وَالشَّعْبِيِّ رِوَايَةً: "أَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَلِلْمَجْرُوحِ إذَا عَفَوَا". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ رِوَايَةً وَالشَّعْبِيُّ رِوَايَةً: "هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي" كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَوْفِي لِحَقِّهِ, وَيَكُونُ الْجَانِي كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ تَابَ مِنْ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ فَعُقُوبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فِيمَا ارْتَكَبَ مِنْ نَهْيِهِ قَائِمَةٌ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى المذكور, وهو قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فَالْكَفَّارَةُ وَاقِعَةٌ لِمَنْ تَصَدَّقَ, وَمَعْنَاهُ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ.

قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ ثَابِتٌ, عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْإِنْجِيلِ إلَّا عَلَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ صَارَ شَرِيعَةً لَهُ; لِأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَعْمَلُوا مَا فِي الْإِنْجِيلِ مُخَالِفِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ لَهُ لَكَانُوا كُفَّارًا, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاسْتِعْمَالِ أَحْكَامِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "مُهَيْمِنًا يَعْنِي أَمِينًا" وَقِيلَ: شَاهِدًا, وَقِيلَ: حَفِيظًا, وَقِيلَ: مُؤْتَمَنًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهِ, يَنْقُلُ إلَيْنَا مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ; لِأَنَّ الْأَمِينَ عَلَى الشَّيْءِ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيهِ, مِنْ نَحْوِ الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْمُضَارَبَاتِ وَنَحْوِهَا; لِأَنَّهُ حِينَ أَنْبَأَ عَنْ وُجُوبِ التَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ سَمَّاهُ أَمِينًا عَلَيْهَا, وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْأَمِينَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا اُؤْتُمِنَ فِيهِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] وقال: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] فَلَمَّا جَعَلَهُ أَمِينًا فِيهِ وَعَظَهُ بِتَرْكِ الْبَخْسِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ في المراد بقوله: {وَمُهَيْمِناً} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُوَ الْكِتَابُ, وَفِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَاهِدٌ عَلَيْهَا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّخْيِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَرُدُّهُمْ إلَى الْكَنِيسَةِ أَوْ الْبِيعَةِ لِلِاسْتِحْلَافِ, لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْضِعِ وَهُمْ يَهْوَوْنَ ذَلِكَ; وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَرُدُّهُمْ إلَى دِينِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَالِاعْتِدَادِ بِأَحْكَامِهِمْ, وَلِأَنَّ رَدَّهُمْ إلَى أَهْلِ دِينِهِمْ إنَّمَا هُوَ رَدٌّ لَهُمْ لِيَحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا هُوَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ; إذْ كَانَ حُكْمُهُمْ بِمَا يَحْكُمُونَ بِهِ كُفْرًا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَمَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِتَرْكِهِ وَاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ وَاحِدٌ, وَمَعْنَاهَا

الطَّرِيقُ إلَى الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ الْحَيَاةُ, فَسَمَّى الْأُمُورَ الَّتِي تُعُبِّدَ اللَّهُ بِهَا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ شَرِيعَةً وَشِرْعَةً لِإِيصَالِهَا الْعَامِلِينَ بِهَا إلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ فِي النَّعِيمِ الْبَاقِي. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهَاجاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "سُنَّةً وَسَبِيلًا". وَيُقَالُ طَرِيقٌ نَهْجٌ إذَا كَانَ وَاضِحًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: شِرْعَةً الْقُرْآنَ, لِأَنَّهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ" وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ وَشَرِيعَةُ الْقُرْآنِ". وَهَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى لُزُومَ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا إيَّانَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوا; لِأَنَّ مَا كَانَ شَرِيعَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يُنْسَخْ إلَى أَنْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ صَارَتْ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ فِيمَا سَلَفَ شَرِيعَةً لِغَيْرِهِ; فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ. وَأَيْضًا فَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي تَجْوِيزِ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِشَرِيعَةٍ مُوَافِقَةٍ لِشَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ, فَلَمْ يَنْفِ قَوْلَهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوَافِقَةً لِكَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ, فَالْمُرَادُ فِيمَا نُسِخَ مِنْ شَرَائِعِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَتَعَبَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِهَا, فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْكُمْ شِرْعَةٌ غَيْرُ شِرْعَةِ الْآخَرِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ الْحَسَنُ: "لَجَعَلَكُمْ عَلَى الْحَقِّ", وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى إجْبَارِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَقِّ, وَلَكِنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَمْ يَسْتَحِقُّوا ثَوَابًا, وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] وَقَالَ قَائِلُونَ: "مَعْنَاهُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي دَعْوَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ". قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْخَيْرَاتِ الَّتِي تَعَبَّدْنَا بِهَا قَبْلَ الْفَوَاتِ بِالْمَوْتِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاجِبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا, نَحْوُ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ لِأَنَّهَا مِنْ الخيرات.

مطلب: الصوم في السفر أفضل من الإفطار فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا, لِأَنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ, وَالْآيَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْوُجُوبِ, فَهِيَ فِيمَا قَدْ وَجَبَ وَأُلْزِمَ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْخَيْرَاتِ. وقَوْله تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لَيْسَ بِتَكْرَارٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مِثْلِهِ لِأَنَّهُمَا نَزَلَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي شَأْنِ الرَّجْمِ, وَالْآخَرُ: فِي

التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الدِّيَاتِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ. قَوْله تَعَالَى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَرَادَ أَنَّهُمْ يَفْتِنُونَهُ بِإِضْلَالِهِمْ إيَّاهُ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَى مَا يَهْوَوْنَ مِنْ الْأَحْكَامِ, إطْمَاعًا مِنْهُمْ لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "إضْلَالُهُمْ بِالْكَذِبِ عَلَى التَّوْرَاةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ". قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ذَكَرَ الْبَعْضَ وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ, كَمَا يَذْكُرُ لَفْظَ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ, وَكَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَغْلِيظِ الْعِقَابِ فِي أَنَّ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِهِ يُهْلِكُهُمْ. وَقِيلَ: "أَرَادَ تَعْجِيلَ الْبَعْضِ بِتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "أَرَادَ مَا عَجَّلَهُ مِنْ إجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ". قَوْله تَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ أَلْزَمُوهُمْ إيَّاهُ, وَإِذَا وَجَبَ عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذُوهُمْ بِهِ; فَقِيلَ لَهُمْ: أَفَحُكْمُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ تَبْغُونَ وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقِيلَ: إنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ, وَهُوَ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ بِجَهَالَةٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ; وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ حُكْمًا أَحْسَنُ مَنْ حُكْمٍ كَمَا لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ نَصًّا وَعَرَفَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ كَانَ الْأَفْضَلُ أَحْسَنَ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْكُمُهُ الْمُجْتَهِدُ بِمَا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ, لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي النَّظَرِ أَوْ لِتَقْلِيدِهِ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ لَمَّا تَنَصَّحَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَشَارَ إلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الذَّبْحُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا كَانَ بَعْدَ أُحُدٍ خَافَ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ, حَتَّى قَالَ رَجُلٌ: أَوْ إلَى الْيَهُودِ, وَقَالَ آخَرُ: أَوْ إلَى النَّصَارَى; فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ: "نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ, لَمَّا تَبَرَّأَ عُبَادَةُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَتَمَسَّكَ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَقَالَ أَخَافُ الدَّوَائِرَ". وَالْوَلِيُّ هُوَ النَّاصِرُ; لِأَنَّهُ يَلِي صَاحِبَهُ بِالنُّصْرَةِ, وَوَلِيُّ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّى التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ بِالْحِيَاطَةِ, وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا لِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ.

مطلب: الكافر لا يكون وليل للمسلم وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلْمُسْلِمِ لَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي النُّصْرَةِ; وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُمْ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ, فَإِذَا أُمِرْنَا بِمُعَادَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِكُفْرِهِمْ فَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ بِمَنْزِلَتِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ يَسْتَحِقُّهَا لَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَهُودِيًّا, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ هُوَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ. وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا, وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْكُفْرِ كُلِّهِ مِلَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُ وَطُرُقُهُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ مُنَاكَحَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ, الْيَهُودِيِّ لِلنَّصْرَانِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلْيَهُودِيَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ فِي أَحْكَامِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ, وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكِتَابِيِّ وَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ حُكْمُ نَصَارَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ والحسن وقوله: {مِنْكُمْ} يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبَ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانُوا إذَا تَوَلَّوْا الْكُفَّارَ صَارُوا مُرْتَدِّينَ, وَالْمُرْتَدُّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا وَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَهُ وَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْوِلَايَةِ؟ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ لِإِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ مِمَّنْ تَوَلَّاهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْيَهُودِيَّ وَلَا النَّصْرَانِيَّ, فَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ قَالَ أَبُو بَكْر: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إلَى الْيَهُودِيَّةِ لَا يَكُونُ يَهُودِيًّا وَالْمُرْتَدَّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ لَا يَكُونُ نَصْرَانِيًّا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ وَلَا يَرِثُهُ؟ فَكَمَا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إيجَابِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ, كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُهُ, وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ إذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجِزْيَةِ, وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ بِمُوَالَاتِهِ إيَّاهُمْ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمِيرَاثِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} لَمْ يُحْتَمَلْ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِأَوَّلِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُمْ الْعَرَبُ, جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} الْعَرَبَ, فَيُفِيدَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إذَا تَوَلَّوْا الْيَهُودَ أَوْ النَّصَارَى بِالدِّيَانَةِ وَالِانْتِسَابِ إلَى الْمِلَّةِ يَكُونُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِجَمِيعِ شَرَائِعِ دِينِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ فِيمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا بَعْضَ الْمَذَاهِبِ الْمُوجِبَةِ لِإِكْفَارِ مُعْتَقِدِيهَا: إنَّ الْحُكْمَ بِإِكْفَارِهِ لَا يَمْنَعُ أَكْلَ ذَبِيحَتِهِ وَمُنَاكَحَةَ الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ, وَإِنْ كَفَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ; إذْ كَانُوا فِي الْجُمْلَةِ مُتَوَلِّينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مُنْتَسِبِينَ إلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ, كَمَا أَنَّ مَنْ انْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْيَهُودِيَّةَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَسِّكًا بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِمْ, وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: "نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ قَاتَلَ مَعَهُ أَهْلَ الرِّدَّةِ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "هِيَ فِي الْأَنْصَارِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "فِي أَهْلِ الْيَمَنِ". وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} أَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مَعَهُ إلَى أَبِي مُوسَى, فَقَالَ هُمْ قوم هذا".

مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وعلي رضي الله عنهم وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ, وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَأَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ. وَلَمْ يُقَاتِلْ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ; وَلَا يَتَهَيَّأُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْآيَةَ فِي غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا فِي غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْتِ بِقَوْمٍ يُقَاتِلُونَ الْمُرْتَدِّينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ غَيْرِ هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر.

مطلب: الدليل على صحة إمامة إبي بكر رضي الله عنه وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16] لِأَنَّهُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ, وَأَخْبَرَ تَعَالَى

بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 16] . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ. قِيلَ لَهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُ أَبَدًا وَلَا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ عَدُوًّا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ. قِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِمَامَةُ عُمَرَ ثَابِتَةٌ بِدَلِيلِ الْآيَةِ, وَإِذَا صَحَّتْ إمَامَتُهُ صَحَّتْ إمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَخْلِفُ لَهُ.. فَإِنْ قِيلَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَى مُحَارَبَةِ مَنْ حَارَبَ. قِيلَ لَهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَاتَلَ أَهْلَ الْبَغْيِ وَحَارَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ, وَلَمْ يُحَارِبْ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ, فَكَانَتْ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِ.

بَابُ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "هَذِهِ الْآيَةُ صِفَةُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} صِفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ وَلَيْسَتْ لِلْوَاحِدِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي معنى قوله {وَهُمْ رَاكِعُونَ} فَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ, مِنْهُمْ مَنْ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ رَاكِعٌ فِي الصلاة. وقال آخرون: "معنى {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ, وَأُفْرِدَ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِالنَّوَافِلِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَرْكَعُ أَيْ يَتَنَفَّلُ". فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِعْلَ الصَّدَقَةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي إبَاحَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِيهَا, فَمِنْهَا أَنَّهُ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ, وَمِنْهَا أَنَّهُ مَسَّ لِحْيَتَهُ وَأَنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ, وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَامَ عَلَى يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِهِ وَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ, وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ, فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَمَلَهَا. فَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ الرُّكُوعَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: "الَّذِينَ يَتَصَدَّقُونَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ, وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى إبَاحَتِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ; فَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصَّلَاةِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَصَدَّقُونَ وَيُصَلُّونَ, وَلَمْ يُرِدْ بِهِ فِعْلَ الصَّدَقَةِ فِي الصَّلَاةِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ, مِنْ قِبَلِ أن قوله تعالى {وَهُمْ رَاكِعُونَ} إخْبَارٌ عَنْ الْحَالِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الصَّدَقَةُ, كَقَوْلِك: تَكَلَّمَ فُلَانٌ وَهُوَ قَائِمٌ, وَأَعْطَى فُلَانًا وَهُوَ قَاعِدٌ, إنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْفِعْلِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْت, كَانَ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الخطاب. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُصَلُّونَ" وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَدْحِ الصَّدَقَةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ أَوْ فِي حَالِ الصَّلَاةِ وقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ تُسَمَّى زَكَاةً لِأَنَّ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ تَطَوُّعًا وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] انْتَظَمَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فَصَارَ اسْمُ الزَّكَاةِ يَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ كَاسْمِ الصَّدَقَةِ وَكَاسْمِ الصَّلَاةِ يَنْتَظِمُ الأمرين.

بَابُ الْأَذَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلصَّلَاةِ أَذَانًا يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إلَيْهَا; وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَقَدْ رَوَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ لِوَقْتٍ يَعْرِفُونَهُ وَيُؤْذِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا, حَتَّى نَقَسُوا1 أَوْ كَادُوا أَنْ يَنْقُسُوا, فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَذَكَرَ الْأَذَانَ, فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ طَافَ بِي الَّذِي طَافَ بِهِ وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَجْمَعُهُمْ فِي الصَّلَاةِ, فَقَالُوا الْبُوقُ; فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ وَذَكَرَ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَّ عُمَرَ رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْأَذَانَ لَمْ يَكُنْ مَسْنُونًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ, وَأَنَّهُ إنَّمَا سُنَّ بَعْدَهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ مُحَمَّدِ بْن بِشْرٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ الْأَذَانِ كَيْفَ كَانَ أَوَّلُهُ وَمَا كَانَ؟ فَقَالَ: شَأْنُ الْأَذَانِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ, وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ جُمِعَ النَّبِيُّونَ ثُمَّ نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَ لَيْلَتِهِ فَأَذَّنَ كَأَذَانِكُمْ وَأَقَامَ كَإِقَامَتِكُمْ ثُمَّ صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّبِيِّينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ كَانَ بِمَكَّةَ, وَقَدْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَجْمَعُهُمْ بِهِ لِلصَّلَاةِ, وَلَوْ كَانَتْ تَبْدِئَةُ الْأَذَانِ قَدْ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَمَا اسْتَشَارَ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ مُعَاذٌ وَابْنُ عُمَرَ في قصة الأذان ما ذكرنا.

_ 1 قوله: "نقسوا" مض من النقس بفتح النون وسكون القاف, ومعناه الضرب بالناقوس. "لمصححه".

وَالْأَذَانُ مَسْنُونٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ مُنْفَرِدًا كَانَ الْمُصَلِّي أَوْ فِي جَمَاعَةٍ, إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا جَائِزٌ لِلْمُقِيمِ الْمُنْفَرِدِ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ أَذَانٍ; لِأَنَّ أَذَانَ النَّاسِ دُعَاءٌ لَهُ, فَيَكْتَفِي بِهِ; وَالْمُسَافِرُ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ, وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ دُونَ الْأَذَانِ أَجْزَأَهُ, وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَذَانٌ يَكُونُ دُعَاءً لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "مَنْ صَلَّى فِي أَرْضٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَا يُرَى طَرَفَاهُ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ الْأَذَانَ. وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: " إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا" وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالِاخْتِلَافَ فِيهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.

مطلب: في الاستعانة بالمشركين قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ الِاسْتِنْصَارِ بِالْمُشْرِكِينَ; لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ هُمْ الْأَنْصَارُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى أُحُدٍ جَاءَ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ وَقَالُوا: نَحْنُ نَخْرُجُ مَعَك, فَقَالَ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ" , وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ الْيَهُودِ غَزَوْا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَ لَهُمْ كَمَا قَسَمَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْفَضْلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن نِيَارٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ يَحْيَى: إنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقَاتِلَ مَعَهُ فَقَالَ: ارْجِعْ ثُمَّ اتَّفَقَا فَقَالَ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إذَا كَانُوا مَتَى ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ, فَأَمَّا إذَا كَانُوا لَوْ ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الشِّرْكِ هُوَ الْغَالِبُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. وَمُسْتَفِيضٌ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ السِّيَرِ وَنَقَلَةِ الْمَغَازِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَغْزُو وَمَعَهُ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَفِي بَعْضِهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا وَجْهُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ" فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثِقْ بِالرَّجُلِ وَظَنَّ أَنَّهُ عَيْنٌ لِلْمُشْرِكِينَ, فَرَدَّهُ وَقَالَ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ" يَعْنِي بِهِ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ. قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ" هَلَّا" وَهِيَ تَدْخُلُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ, فَإِذَا كَانَتْ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ, كَقَوْلِهِ: "لِمَ لَا تَفْعَلُ" وَهِيَ هَهُنَا لِلْمُسْتَقْبَلِ, يَقُولُ: هَلَّا يَنْهَاهُمْ وَلِمَ لَا يَنْهَاهُمْ وَإِذَا كَانَتْ

لِلْمَاضِي فَهُوَ لِلتَّوْبِيخِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور: 12] . وَقِيلَ فِي الرَّبَّانِيِّ: إنَّهُ الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ, فَنُسِبَ إلَى الرَّبِّ, كَقَوْلِهِمْ: "رُوحَانِيٌّ" فِي النِّسْبَةِ إلَى الرُّوحِ, "وَبَحْرَانِيٌّ" فِي النِّسْبَةِ إلَى الْبَحْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ, وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "هُوَ كُلُّهُ فِي الْيَهُودِ; لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِهِمْ". وَذَكَرَ لَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ: "الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ الْعَامِلُ". وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَالِاجْتِهَادِ فِي إزَالَتِهِ, لِذَمِّهِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِالْبُخْلِ وَقَالُوا: هُوَ مَقْبُوضُ الْعَطَاءِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . وَقَالَ الْحَسَنُ: "قَالُوا هِيَ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عِقَابِنَا".

مَطْلَبٌ: فِي مَعَانِي الْيَدِ وَالْيَدُ فِي اللُّغَةِ تَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْجَارِحَةُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَمِنْهَا النِّعْمَةُ, تَقُولُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا, أَيْ نِعْمَةٌ وَمِنْهَا الْقُوَّةُ. فَقَوْلُهُ أُولِي الْأَيْدِي فَسَّرُوهُ بِأُولِي الْقُوَى; وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَحَمَّلْت مِنْ ذَلْفَاءَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ ... وَلَا لِلْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ يَدَانِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ, وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يَعْنِي يَمْلِكُهَا. وَمِنْهَا الِاخْتِصَاصُ بِالْفِعْلِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أَيْ تَوَلَّيْت خَلْقَهُ. وَمِنْهَا التَّصَرُّفُ, كَقَوْلِك: "هَذِهِ الدَّارُ فِي يَدِ فُلَانٍ" يَعْنِي التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالسُّكْنَى أَوْ الْإِسْكَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إنه قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ} عَلَى وَجْهِ التَّثْنِيَةِ; لِأَنَّهُ أَرَادَ نِعْمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا نِعْمَةُ الدُّنْيَا, وَالْأُخْرَى نِعْمَةُ الدِّينِ. وَالثَّانِي: قُوَّتَاهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ, عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْيَهُودِ, لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى عِقَابِنَا. وَقِيلَ: إنَّ التَّثْنِيَةَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي صِفَةِ النِّعْمَةِ, كَقَوْلِك: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ". وقيل في قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} يَعْنِي فِي جَهَنَّمَ; رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ. قَوْله تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فِيهِ إخْبَارٌ بِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} , وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الْغَيْبِ مَعَ كَثْرَةِ الْيَهُودِ وَشِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ; وَقَدْ كان من

حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ تُقَاوِمُ الْعَرَبَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ, فَكَانَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ, فَأَجْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النَّضِيرِ وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَانْقَادَتْ لَهُ سَائِرُ الْيَهُودِ صَاغِرِينَ حَتَّى لَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ فِئَةٌ تُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا ذِكْرُ النَّارِ هَهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَالتَّأَهُّبِ لَهَا, عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي إطْلَاقِ اسْمِ النَّارِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ" قِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا تَرَايَا نَارَاهُمَا" ; وَإِنَّمَا عَنَى بِهَا نَارَ الْحَرْبِ, يَعْنِي أَنَّ حَرْبَ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّيْطَانِ وَحَرْبَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَّفِقَانِ. وَقِيلَ: إنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَارَةِ بِاسْمِ النَّارِ عَنْ الْحَرْبِ, أَنَّ الْقَبِيلَةَ الْكَبِيرَةَ مِنْ الْعَرَبِ كَانَتْ إذَا أَرَادَتْ حَرْبَ أُخْرَى مِنْهَا أَوْقَدَتْ النِّيرَانَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ الَّتِي تَعُمُّ الْقَبِيلَةَ رُؤْيَتُهَا, فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ نُدِبُوا إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَالتَّأَهُّبِ لَهَا فَاسْتَعَدُّوا وَتَأَهَّبُوا, فَصَارَ اسْمُ النَّارِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُفِيدًا لِلتَّأَهُّبِ لِلْحَرْبِ. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّ الْقَبَائِلَ كَانَتْ إذَا رَأَتْ التَّحَالُفَ عَلَى التَّنَاصُرِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالْجِدَّ فِي حَرْبِهِمْ وَقِتَالِهِمْ, أَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً ثُمَّ قَرُبُوا مِنْهَا وَتَحَالَفُوا بِحِرْمَانِ مَنَافِعِهَا إنْ هُمْ غَدَرُوا أَوْ نَكَلُوا عَنْ الْحَرْبِ; وَقَالَ الْأَعْشَى: وَأَوْقَدْت لِلْحَرْبِ نَارًا. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فِيهِ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ جَمِيعًا مَا أَرْسَلَهُ بِهِ إلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِهِ وَأَحْكَامِهِ, وَأَنْ لَا يَكْتُمَ مِنْهُ شَيْئًا خَوْفًا مِنْ أَحَدٍ وَلَا مُدَارَاةً لَهُ, وَأُخْبِرَ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ تَبْلِيغَ شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئًا, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فَلَا يَسْتَحِقُّ مَنْزِلَةَ الْأَنْبِيَاءِ الْقَائِمِينَ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى لَا يَصِلُوا إلَى قَتْلِهِ وَلَا قَهْرِهِ وَلَا أَسْرِهِ, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَفِي ذَلِكَ إخْبَارُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَقِيَّةٌ مِنْ إبْلَاغِ جَمِيعِ مَا أُرْسِلَ بِهِ إلَى جَمِيعِ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ بَعْضَ الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ, وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ تَقِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَهُ الْكَافَّةَ وَأَنَّ وُرُودَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ, نَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسَّ الذَّكَرِ وَمَنْ مَسَّ الْمَرْأَةِ وَمِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَنَحْوُهَا, لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا; فَإِذَا لَمْ نَجِدْ مَا كَانَ مِنْهَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ, أَوْ تَأْوِيلُهُ وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ مِنْ نَحْوِ الْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ غَسْلُ اليد دون وضوء الحدث.

مطلب: في الدليل عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ الَّتِي وُجِدَ مُخْبَرُهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ بِقَتْلٍ وَلَا قَهْرٍ وَلَا أَسْرٍ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ الْمُحَارَبِينَ لَهُ مُصَالَتَةً وَالْقَصْدِ لِاغْتِيَالِهِ مُخَادَعَةً, نَحْوُ مَا فَعَلَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَرْبِدُ فَلَمْ يَصِلَا إلَيْهِ; وَنَحْوُ مَا قَصَدَهُ بِهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ, فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ, فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ بِمَا تَوَاطَأَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَلَيْهِ وَهُمَا فِي الْحَجَرِ مِنْ اغْتِيَالِهِ, فَأَسْلَمَ عُمَيْرٌ وَعَلِمَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَلَا ادَّعَى أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَهْرِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَمَا اتَّفَقَ فِي جَمِيعِهَا وُجُودُ مُخْبَرَاتِهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ, إذْ لَا يَتَّفِقُ مِثْلُهَا فِي أَخْبَارِ النَّاسِ إذَا أُخْبِرُوا عَمَّا يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ وَتَعَاطِي عِلْمِ النُّجُومِ وَالرِّزْقِ وَالْفَأْلِ وَنَحْوِهَا, فَلَمَّا اتَّفَقَ جَمِيعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ وَلَا تَخَلَّفَ شَيْءٌ مِنْهَا, عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَالِمِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فِيهِ أَمْرٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ; لِأَنَّ إقَامَتَهُمَا هُوَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَبِمَا فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} حَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ, فَكَانَ خِطَابًا لَهُمْ, وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى آبَائِهِمْ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وقوله تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} مُقْتَضَاهُ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ الْحَقِّ حَتَّى تَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا قَبْلَ مَبْعَثِ النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت الْحُكْمِ مَأْمُورٌ بِهِ وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أُمِرُوا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَعْلُومٌ نَسْخُ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم فَجَائِزٌ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نَسْخِ كَثِيرٍ مِنْهَا, وَيَكُونَ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَبِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ, وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْآيَةُ ذَلِكَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى بَقَاءِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قِيلَ لَهُ: لَا تَخْلُو هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ قَبْلَ نَسْخِ شَرَائِعِ الأنبياء

الْمُتَقَدِّمِينَ فَيَكُونَ فِيهَا أَمْرٌ بِاسْتِعْمَالِهَا وَإِخْبَارٌ بِبَقَاءِ حُكْمِهَا, أَوْ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ بَعْدَ نَسْخِ كَثِيرٍ مِنْهَا; فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَهَا ثَابِتٌ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا, كَاسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ مَنْ وَصْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ فَلَمْ تَخْلُ الْآيَةُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام.

مطلب: في الدليل عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي أَنَّ الْمَسِيحَ إله قَوْله تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فِيهِ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي أَنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ; لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعَامِ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ سَائِرِ الْعِبَادِ فِي الْحَاجَةِ إلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ; إذْ كَانَ مَنْ فِيهِ سِمَةُ الْحَدَثِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا, وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ قَادِرًا لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} إنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحَدَثِ لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا يَحْتَاجُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِمَا مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى حَدَثِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِمَا وَعَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ تَتَعَاقَبُ عَلَيْهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ إلَهًا وَقَدِيمًا. قَوْله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} , قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: "لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُد فَصَارُوا قِرَدَةً وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى فَصَارُوا خَنَازِيرَ". وَقِيلَ: إنَّ فَائِدَةَ لَعْنِهِمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ إعْلَامُهُمْ الْإِيَاسَ مِنْ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي; لِأَنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِاللَّعْنِ وَالْعُقُوبَةِ مُسْتَجَابٌ. وَقِيلَ: إنَّمَا ظَهَرَ لَعْنُهُمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ لِئَلَّا يُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ مَنْزِلَةً بِوِلَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ تُنَجِّيهِمْ مِنْ عِقَابِ الْمَعَاصِي. قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} مَعْنَاهُ لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ الْمُنْكَرِ; وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك, ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ, فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ, ثُمَّ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ" إلَى قَوْلِهِ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَالَ: "كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ

وَلَتَأْطُرَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا". وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ, عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ, عَنْ سَالِمٍ, عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ, عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ, زَادَ: "وَلَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ فِي تَأْوِيلِهَا دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُظْهِرِينَ لِلْمُنْكَرِ, وَأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ دُونَ الْهِجْرَانِ. قَوْله تَعَالَى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} , رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي" مِنْهُمْ" رَاجِعٌ إلَى الْيَهُودِ; وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ رَاجِعٌ إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ, وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ تَوَلَّاهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَارَبَتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} , رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُودِ, أَخْبَرَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ. وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِالنَّبِيِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِهِ; إذْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ. قَوْله تَعَالَى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} الآية. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: "نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا أَسْلَمُوا". وَقَالَ قَتَادَةُ: "قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ مُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِهِ". وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحًا لِلنَّصَارَى وَإِخْبَارًا بِأَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْيَهُودِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ قَوْمٍ قَدْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ إخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْنَةٍ صَحِيحَةٍ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي مَقَالَتَيْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ مَقَالَةَ النَّصَارَى أَقْبَحُ وَأَشَدُّ اسْتِحَالَةً وَأَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ; لِأَنَّ الْيَهُودَ تُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُشَبِّهَةٌ تُنْقِصُ مَا أَعْطَتْهُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ التَّوْحِيدِ بِالتَّشْبِيهِ.

بَابُ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} . وَالطَّيِّبَاتُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ, وَيَقَعُ عَلَى الْحَلَالِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْآيَةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا, فَيَكُونَ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: "قَدْ حَرَّمْت هَذَا الطَّعَامَ عَلَى نَفْسِي" فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الكفارة إن

أَكَلَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَغْصِبَ طَعَامَ غَيْرِهِ فَيَخْلِطَهُ بِطَعَامِهِ فَيُحَرِّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَغْرَمَ لِصَاحِبِهِ مِثْلَهُ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي إذَا أَكَلْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت فَحَرَّمْته عَلَى نَفْسِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ ناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمُّوا بِتَرْكِ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ وَالِاخْتِصَاءِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ, فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَيْسَ فِي دِينِي تَرْكُ النِّسَاءِ وَلَا اللَّحْمِ وَلَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ". وَرَوَى مَسْرُوقٌ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ, فَأُتِيَ بِضَرْعٍ, فَتَنَحَّى رَجُلٌ, فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: اُدْنُ فَكُلْ فَقَالَ: إنِّي كُنْت حَرَّمْت الضَّرْعَ; فَتَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} كُلْ وَكَفِّرْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ مَارِيَةَ; وَرُوِيَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَلَمِ فِيمَنْ حَرَّمَ طَعَامًا أَوْ جَارِيَةً عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إنْ أَكَلَ مِنْ الطَّعَامِ حَنِثَ, وَكَذَلِكَ إنْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ مَنْ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "حَرَّمْته عَلَى نَفْسِي" فَقَالُوا فِي التَّحْرِيمِ: إنْ أَكَلَ الْجُزْءَ مِنْهُ حَنِثَ, وَفِي الْيَمِينِ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ الْجَمِيعِ; وَجَعَلُوا تَحْرِيمَهُ إيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت مِنْهُ شَيْئًا "; إذْ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ فِي سَائِرِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى, مِثْلُ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] اقْتَضَى اللَّفْظُ تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ, فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْإِنْسَانِ طَعَامًا يَقْتَضِي إيجَابَ الْيَمِينِ فِي أَكْلِ الْجُزْءِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ فِي نَفْيِ أَكْلِ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَيْمَانِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلشُّرُوطِ وَالْجَوَابِ, كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "إنْ أَكَلْت هَذَا الطَّعَامَ فَعَبْدِي حَرٌّ" فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أَكْلَ الْجَمِيعِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] فَرُوِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ أَخَذَهُ عِرْقُ النَّسَا, فَحَرَّمَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ وَهُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ إنْ عَافَاهُ اللَّهُ, فَكَانَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا صَحِيحًا حَاظِرًا لِمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

مطلب: في الدليل على بطلان قول الممتنعين عن اكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُمْتَنِعِينَ مَنْ أَكْلِ اللُّحُومِ وَالْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ

تَزَهُّدًا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْ تَحْرِيمِهَا وَأَخْبَرَ بِإِبَاحَتِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} , وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَالْبِطِّيخَ. وَرَوَى غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ الدَّجَاجَةَ حَبَسَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَعَلَفَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "كُلْ مَا شِئْت وَاكْتَسِ مَا أَخْطَأْت اثْنَتَيْنِ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَشُرَيْحًا كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ. وَيَدُلُّ عَلَى نَحْوِ دَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي أَكْلِ إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] , وَقَوْلُهُ عَقِيبَ ذِكْرِهِ لِمَا خَلَقَ مِنْ الْفَوَاكِهِ: {مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: 96] .

مطلب: في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فِي تَحْرِيمِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ مِنْ الْمَرْأَةِ.

باب الأيمان مطلب: في اليمين اللغو قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} عَقِيبَ نَهْيِهِ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَمَّا حَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَنَاكِحِ وَالْمَلَابِسِ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ" وَأَمَّا اللَّغْوُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ, وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَوْ مِائَةٌ تَجْعَلُ أَوْلَادَهَا ... لَغْوًا وَعَرَضُ الْمِائَةِ الْجَلْمَدُ يَعْنِي نُوقًا لَا تَعْتَدُّ بِأَوْلَادِهَا. فَعَلَى هَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُفْيَانَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ عَبْدُوسَ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ, وَسُئِلَ عَنْ اللَّغْوِ فِي الْيَمِينِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ وَهِشَامِ بْنِ

عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَغْوُ الْيَمِينِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ: "أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْأَمْرِ يَرَاهُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا" أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ أَنْ تَحْلِفَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَإِبْرَاهِيمَ مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ هُوَ الْغَلَطُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ عَلَى سَبْقِ اللِّسَانِ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ أَنْ تَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَنْ تَفْعَلَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْعَلَهَا وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ "; وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا". وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: اللَّغْوُ هُوَ قَوْلُهُ: "لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ" فِيمَا يَظُنُّ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ عَلَى الْمَاضِي. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ نَحْوَ ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "اللَّغْوُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ". وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْهُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ وَجَدَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَعْقُودٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ هُوَ اللَّغْوُ لَمَا عَطَفَهُ عَلَيْهِ وَلَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ فِي نَفْيِهِ الْمُؤَاخَذَةَ بِلَغْوِ الْيَمِينِ وَإِثْبَاتَ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَعْقُودَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ اللَّغْوَ لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ; لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ قَائِمَةٌ فِي الْمَعْقُودَةِ وَحُكْمُهَا ثَابِتٌ, فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ وَإِنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَنَّهَا الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي فيما يظن الحالف أنه كما قال.

مطلب: في أقسام اليمين وَالْأَيْمَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ; وَالْمَاضِي يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ لَغْوٍ وَغَمُوسٍ, وَلَا كَفَّارَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْمُسْتَقْبَلُ ضَرْبٌ وَاحِدٌ, وَهُوَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ, وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي الْغَمُوسِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "فِي الْغَمُوسِ الْكَفَّارَةُ". وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَيْمَانَ الثَّلَاثَ فِي الْكِتَابِ, فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَمِينَ اللَّغْوَ وَالْمَعْقُودَةَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} , وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

[البقرة: 225] وَالْمُرَادُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْغَمُوسُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الْمُؤَاخَذَةُ فِيهَا بِكَسْبِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْمَأْثَمُ وَعِقَابُ الْآخِرَةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ; إذْ لَمْ تَكُنْ الْكَفَّارَةُ مُتَعَلِّقَةً بِكَسْبِ الْقَلْبِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا وَتَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ مَعَ ذَلِكَ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] الْمُرَادُ بِهِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا إلَى الْكَذِبِ, وَأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَا هِيَ عِقَابُ الْآخِرَةِ وَذِكْرُهُ لِلْمُؤَاخَذَةِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِيبَ ذِكْرِهِ اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ فِيهِ إلَى الْكَذِبِ وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى.

مطلب: لَا كَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77] فَذَكَرَ الْوَعِيدَ فِيهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ, فَلَوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الْكَفَّارَةَ كَانَ زِيَادَةً فِي النَّصِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا آثِمٌ فَاجِرٌ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ. تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ". فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَأْثَمَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِمِثْلِهِ, وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَهَا فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها فليأت الذي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَحِفْظُهَا مُرَاعَاتُهَا لِأَدَاءِ كَفَّارَتِهَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا, وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ حِفْظِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي لِوُقُوعِهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا الْمُرَاعَاةُ وَالْحِفْظُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يَقْتَضِي عُمُومُهُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ الْمَعْقُودَةَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ, فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْحِنْثُ; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْيَمِينَ الْمَعْقُودَةَ لَا تَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ قَبْلَ الْحِنْثِ, فَثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا فَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا; إذْ كَانَ حُكْمُهَا مُتَعَلِّقًا بِضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ الْأَيْمَانِ هِيَ الَّتِي

أَلْزَمَنَا حِفْظَهَا, وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ الَّتِي تُمْكِنُ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا لِأَدَاءِ كَفَّارَتِهَا, وَالْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي لَا يَقَعُ فِيهَا حِنْثٌ فَيَنْتَظِمُهَا اللَّفْظُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا فَتَقُولَ: "كَانَ أَمْسِ الْجُمُعَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ" وَ" وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ أَمْسِ الْجُمُعَةَ" إذَا كَانَ الْحِنْثُ وُجُودَ مَعْنَى بَعْدَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "وَاَللَّهِ" كَانَ ذَلِكَ قَسَمًا وَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ بِوُجُودِ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ. وقد قرئ قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} على ثلاثة أوجه1: {عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ قَرَأَهُ جَمَاعَةٌ, وَ" عَقَدْتُمْ" خَفِيفَةً, وَ" عاقدتم" فقوله تعالى: {عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَقْدَ قَوْلٍ, وَ" عَقَدْتُمْ" بِالتَّخْفِيفِ يَحْتَمِلُ عَقْدَ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ وَالْقَصْدُ إلَى الْقَوْلِ, وَيَحْتَمِلُ عَقْدَ الْيَمِينِ قَوْلًا; وَمَتَى احْتَمَلَ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْقَوْلَ وَاعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْأُخْرَى إلَّا عَقْدَ الْيَمِينِ قَوْلًا, وَجَبَ حَمْلُ مَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا, فَيَحْصُلُ الْمَعْنَى مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ عَقْدُ الْيَمِينِ قَوْلًا, وَيَكُونُ حُكْمُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً وَلَا تَجِبُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُودَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَاضٍ وَالْخَبَرُ عَنْ الْمَاضِي لَيْسَ بِعَقْدٍ سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: "عَقَدْتُمْ" بِالتَّخْفِيفِ يَحْتَمِلُ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَيَحْتَمِلُ عَقْدَ الْيَمِينِ, فَهَلَّا حَمَلْته عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ; إذْ لَيْسَا مُتَنَافِيَيْنِ وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى عَقْدِ الْيَمِينِ فَلَا يَنْفِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي الْقَصْدِ إلَى الْيَمِينِ فَيَكُونَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ قِيلَ لَهُ: لَوْ سَلِمَ لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ الِاحْتِمَالِ لَمَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا ذَكَرْت وَلَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ مَانِعَةً مَنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا وَصَفْت وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْيَمِينِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّ حُكْمَ إيجَابِهَا مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ دُونَ الْقَصْدِ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ, فَبَطَلَ بِذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ اللَّفْظَ عَلَى قَصْدِ الْقَلْبِ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ. وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُهُ: {عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ, وَالْمُؤَاخَذَةُ تَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ, فَمَا وَجْهُ اللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْرَارِ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي وُجُودِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ

_ 1 قوله: "على الثلاثة أوجه" قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "عقدتم" بتخفيف القاف دون ألف بين العين والقاف, وابن ذكوان عن عامر: "عاقدتم" على وزن فاعلتم, والباقون: "عقدتم" بتشديد القاف. كذا في حاشية شيخ زاده على البيضاوي. "لمصححه".

التَّكْرَارِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ يَكُونُ تَعْقِيدُ الْيَمِينِ بِأَنْ يُعَقِّدَهَا فِي قَلْبِهِ وَلَفْظِهِ, وَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ تَعْقِيدًا; إذْ هُوَ كَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً بِتَكْرِيرِ الْفِعْلِ وَالتَّضْعِيفِ وَتَارَةً بِعِظَمِ الْمَنْزِلَةِ; وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ إفَادَةَ حُكْمٍ لَيْسَ فِي غَيْرِهِ, وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى أَعَادَ الْيَمِينَ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ, وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ حَلَفَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ غَيْرِهِ وَأَرَادَ بِهِ التَّكْرَارَ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: "بِمَا عَقَدْتُمْ" بِالتَّخْفِيفِ يُفِيدُ أَيْضًا إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ. قِيلَ لَهُ: الْقِرَاءَتَانِ وَالتَّكْرَارُ جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَتَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا, وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فائدة مجددة.

فصل وَمَنْ يُجِيزُ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فَجَعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً عَقِيبَ عَقْدِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحِنْثِ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} . فأما قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مَتَى أَرَادَ إيجَابَهَا, وَقَدْ عَلِمْنَا لَا مَحَالَةَ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ وَأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَبْلَ الْحِنْثِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ: بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ وَحَنِثْتُمْ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وَالْمَعْنَى: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ; وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] فَمَعْنَاهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ; كَذَلِكَ قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} مَعْنَاهُ: فَحَنِثْتُمْ فَكَفَّارَتُهُ; لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَبْلَ الْحِنْثِ, وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ ضَمِيرُ الْحِنْثِ فِيهِ. وَأَيْضًا لَمَّا سَمَّاهُ كَفَّارَةً عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِهَا فِي حَالِ وُجُوبِهَا; لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَيْسَ بِكَفَّارَةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ: إذَا حَنِثْتُمْ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} مَعْنَاهُ: إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ; لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا كَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجِّلُهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ زَكَاةً لِوُجُوبِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ, وَكَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجِّلُهُ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُودِ الْقَتْلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِي هَذِهِ الْحَالِ, فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يُعَجِّلُهُ الْحَالِفُ كَفَّارَةً قَبْلَ الْحِنْثِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ إضْمَارِ الْحِنْثِ فِي جَوَازِهَا قِيلَ لَهُ: قَدْ

بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْوَاجِبَةَ بَعْدَ الْحِنْثِ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ, وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ امْتَنَعَ أَنْ يَنْتَظِمَ مَا لَيْسَ مِنْهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ مُقْتَضِيًا لِلْإِيجَابِ وَلِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ, فَمِنْ حَيْثُ أُرِيدَ بِهَا الْوَاجِبُ انْتَفَى مَا لَيْسَ مِنْهَا بِوَاجِبٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ لَا يَكُونُ مُكَفِّرًا بِمَا يَتَبَرَّعُ بِهِ إذَا لَمْ يَحْلِفْ, فَلَمَّا كَانَ الْمُكَفِّرُ قَبْلَ الْحِنْثِ مُتَبَرِّعًا بِمَا أَعْطَى, ثَبَتَ أَنَّ مَا أَخْرَجَ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ وَمَتَى فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ, وَأَمَّا إعْطَاءُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ وَتَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ, فَإِنَّ جَمِيعَ مَا أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ تَطَوُّعٌ وَلَيْسَ بِكَفَّارَةٍ وَلَا زَكَاةٍ, وَإِنَّمَا أَجَزْنَاهُ لَمَّا قَامَتْ الدَّلَالَةُ أَنَّ إخْرَاجَ هَذَا التَّطَوُّعِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْفَرْضِ بِوُجُودِ الْمَوْتِ وَحُئُولُ الحول.

فصل وَيَحْتَجُّ مَنْ يُوجِبُ عَلَى مَنْ عَقَدَ نَذْرَهُ بِشَرْطِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ دُونَ الْمَنْذُورِ, مِثْلُ قَوْلِهِ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ" أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ, فَحَنِثَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} قَالَ: فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَالِفًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ دُونَ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ. وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ; وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ الْوَفَاءَ بِالْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَلَهُ أَصْلٌ غَيْرُ الْيَمِينِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] , وَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] , وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:76] , فَذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْمَنْذُورِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ" وَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَكَانَتْ النُّذُورُ مَحْمُولَةً عَلَى الْأُصُولِ الْأُخَرِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فَقَالَ قَائِلُونَ: مَعْنَاهُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا وَاحْذَرُوا الْحِنْثَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: أَقَلُّوا مِنْ الْأَيْمَانِ, عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] , وَاسْتَشْهَدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... إذَا بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ رَاعُوهَا لِكَيْ تُؤَدُّوا الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا لِأَنَّ حِفْظَ الشَّيْءِ

هُوَ مُرَاعَاتُهُ; وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ, فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ الْحِنْثِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً, وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" فَأَمَرَهُ بِالْحِنْثِ فِيهَا; وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] الْآيَةَ; رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ حِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ, وَقَدْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَا قَرَابَةٍ مِنْهُ, فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ, فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ. وَأُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] بِالْكَفَّارَةِ وَالرُّجُوعِ عَمَّا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً, فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} نَهْيًا عَنْ الْحِنْثِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ الْحَلِفِ وَاسْتَشْهَدَ بِالْبَيْتِ; فَقَوْلُهُ مَرْذُولٌ سَاقِطٌ, لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِحِفْظِ الْيَمِينِ نَهْيًا عَنْ الْيَمِينِ, كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "احْفَظْ مَالَكَ" بِمَعْنَى أَنْ لَا تَكْسِبَهُ; وَمَعْنَى الْبَيْتِ هُوَ عَلَى مَا نَقُولُهُ مُرَاعَاةُ الْحِنْثِ لِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ" قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ" فَأَخْبَرَ بَدِيًّا بِقِلَّةِ أَيْمَانِهِ, ثُمَّ قَالَ: "حَافِظٌ لِيَمِينِهِ" وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُرَاعٍ لَهَا لِيُؤَدِّيَ كَفَّارَتَهَا عِنْدَ الْحِنْثِ; وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْمُخَالِفُ لَكَانَ تَكْرَارًا لِمَا قَدْ ذَكَرَ, فَصَحَّ أَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِمُرَاعَاتِهَا لِأَدَاءِ كَفَّارَتِهَا عِنْدَ الْحِنْثِ. قَوْله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: "كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ"; وَقَالَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ: "أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إذَا أَعْطَاهُمْ الطَّعَامَ تَمْلِيكًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَطَاءٌ فِي آخَرِينَ: "مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والشافعي.

مطلب: في الإطعام من غير تمليك فِي الْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَاخْتُلِفَ فِي الْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ: "يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي". وَقَالَ الْحَكَمُ: "لَا يُجْزِي الْإِطْعَامُ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَمُدٌّ لِإِدَامِهِ, وَلَا يَجْمَعُهُمْ فَيُطْعِمُهُمْ وَلَكِنْ يُعْطِيهِمْ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ

وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ: "يُطْعِمُهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً", وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُعْطِيهِمْ جُمْلَةً وَلَكِنْ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ الْإِطْعَامِ بِالْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ إعْطَاءٍ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} [الإنسان: 8] قَدْ عُقِلَ مِنْهُ إطْعَامُهُمْ بِالْإِبَاحَةِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ؟ وَيُقَالُ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ, وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ دُعَاؤُهُ إيَّاهُمْ إلَى أَكْلِ طَعَامِهِ, فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الْإِبَاحَةَ وَجَبَ جَوَازُهُ, وَإِذَا جَازَ إطْعَامُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ, فَالتَّمْلِيكُ أَحْرَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْإِبَاحَةِ; وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّمْلِيكِ, وَإِنَّمَا قَالُوا: "يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ" لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وَهُوَ مَرَّتَانِ فِي الْيَوْمِ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْعَادَةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ وَالْأَقَلُّ وَاحِدَةٌ وَالْأَوْسَطُ مَرَّتَانِ. وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا كَانَ خُبْزًا يَابِسًا فَهُوَ غَدَاؤُهُ وَعَشَاؤُهُ". وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَعْطَاهُمْ كَانَ مِنْ الْبُرِّ نِصْفَ صَاعٍ وَمِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ صَاعًا, لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: "أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ" وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "أَطْعِمْ سِتَّةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ" فَجَعَلَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ تَقْدِيرِ الطَّعَامِ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ, فَثَبَتَ أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مِثْلُهَا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: "وَسْقًا1 مِنْ تَمْرٍ لِسِتِّينَ مِسْكِينًا" وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَلَمَّا ثَبَتَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ كَانَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ مِثْلَهَا لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي مِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِمَا مِنْ الطَّعَامِ, وَإِذَا ثَبَتَ مِنْ التَّمْرِ صَاعٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبُرِّ نِصْفَ صَاعٍ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهَا صَاعًا مِنْ التَّمْرِ أَوْجَبَ مِنْ الْبُرِّ نِصْفَ صَاعٍ. قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قُوتٌ وَكَانَ لِلْكَبِيرِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلصَّغِيرِ وَلِلْحُرِّ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمَمْلُوكِ, فَنَزَلَتْ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} لَيْسَ بِأَفْضَلِهِ وَلَا بِأَخَسِّهِ" وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوْسَطُ فِي الْمِقْدَارِ, لَا بِأَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَوْسَطُهُ الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ, وَخَيْرُ مَا نُطْعِمُ أَهْلَنَا الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ" وَعَنْ عُبَيْدَةَ: "الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ". وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: "الْخُبْزُ والتمر والخل".

_ 1 قوله: "وسقا" أي فأطعم وسقا كما في سنن أبي داود في باب الظهار. "لمصححه".

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "أَفْضَلُهُ اللَّحْمُ وَأَوْسَطُهُ السَّمْنُ وَأَحْسَنُهُ التَّمْرُ مَعَ الْخُبْزِ" وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. فِي الِاحْتِجَاجِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الظِّهَارِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, وَلَمْ يَأْمُرْهُ مَعَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْإِدَامِ; وَأَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ, وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِدَامِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَحَدٍ بَيْنَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِدَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ الطَّعَامِ وَأَنَّ الْأَوْسَطَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْأَوْسَطُ فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ لَا فِي ضَمِّ الْإِدَامِ إليه.

مطلب: فِي الِاحْتِجَاجِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نصف صاع وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهُمْ, فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ; لِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْحُكْمَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ دُونَ بَعْضٍ, لَا سِيَّمَا فِيمَنْ قَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِالِاتِّفَاقِ, وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وَسَائِرُ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهَا, كَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ فِي ذَلِكَ سَدَّ جَوْعَةِ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ بَعْدَ أَنْ يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ أَوْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الْجَوْعَةِ, فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِإِعْطَاءِ الْعَشَرَةِ مَوْجُودًا فِي الْوَاحِدِ عِنْدَ تَكْرَارِ الدَّفْعِ وَالْإِطْعَامِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ اسْمِ إطْعَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى وَاحِدٍ بِتَكْرَارِ الدَّفْعِ; إذْ كَانَ الْمَقْصِدُ فِيهِ تَكْرَارَ الدَّفْعِ لَا تَكْرَارَ الْمَسَاكِينِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] وَهُوَ هِلَالٌ وَاحِدٌ, فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَمْعِ لِتَكْرَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الشُّهُورِ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ, وَلَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ أَجْزَأَهُ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِرَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ, وَلَوْ رَمَى بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَجْزَأَهُ; لِأَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ حُصُولُ الرَّمْيِ سَبْعَ مَرَّاتٍ, وَالْمَقْصِدَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ حُصُولُ الْمَسَحَاتِ دُونَ عَدَدِ الْأَحْجَارِ. فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ فِي إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ سَدُّ جَوْعَةِ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْوَاحِدِ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ

عَلَيْهِ فِي الْأَيَّامِ وَبَيْنَ الْجَمَاعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذلك أيضا قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِسْوَتَهُمْ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ, فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: "أَوْ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ" ثُمَّ لَمْ يُخَصِّصْهَا بِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَلَا بِجَمَاعَةٍ, فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ إعْطَاؤُهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ أَعْطَيْت كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِسْكَيْنَا وَاحِدًا؟ فقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} يَدُلُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ عَشَرَةٌ, وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الطَّعَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَلَا تُجْزِي الْكِسْوَةُ عِنْدَهُمْ إذَا أَعْطَاهَا مِسْكِينًا وَاحِدًا إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا; لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي الطَّعَامِ مِنْ تَفْرِيقِهِ فِي الْأَيَّامِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْكِسْوَةِ; إذْ لَمْ يفرق واحد بينهما.

مطلب: أجاز اصحابنا غعطاء قيمة الطعام والكسوة وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا إعْطَاءَ قِيمَةِ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ حُصُولُ النَّفْعِ لِلْمَسَاكِينِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ النَّفْعِ بِالْقِيمَةِ مِثْلَ حُصُولِهِ بِالطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ. وَلَمَّا صَحَّ إعْطَاءُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَالنَّظَرِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا مَا يَأْكُلُهُ وَيَلْبَسُهُ بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ أَطْعَمَهُ وَكَسَاهُ; وَإِذَا كَانَ إطْلَاقُ ذَلِكَ سَائِغًا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْآيَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِطْعَامِ أَنْ يُطْعِمَهُ إيَّاهُ بِأَنْ يُبِيحَهُ لَهُ فَيَأْكُلَهُ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَلَمْ يَأْكُلْهُ الْمِسْكِينُ وَبَاعَهُ أَجْزَأَهُ, وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ بِحُصُولِ الْمَقْصِدِ فِي وُصُولِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ إلَيْهِ, وَإِنْ لَمْ يُطْعِمْهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَكْلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ كُسْوَةً فَلَمْ يَكْتَسِ بِهَا وَبَاعَهَا, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَاسِيًا بِإِعْطَائِهِ; إذْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ بِإِعْطَائِهِ إيَّاهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصِدُ حُصُولَ الْمَطْعَمِ وَالِاكْتِسَاءِ, وَأَنَّ الْمَقْصِدَ وُصُولُهُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ, فَلَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ وَالطَّعَامِ, أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ثُمَّ قَالَ: "أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ"؟ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْغِنَى لَهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَا مِقْدَارُ الطَّعَامِ بِعَيْنِهِ; إذْ كَانَ الْغِنَى عَنْ الْمَسْأَلَةِ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ كَحُصُولِهِ بِالطَّعَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ جَازَتْ الْقِيمَةُ وَكَانَ الْمَقْصِدُ فِيهِ حُصُولُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ لِلْمَسَاكِينِ لَمَّا كَانَ لِذِكْرِ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَائِدَةٌ مَعَ تَفَاوُتِ قِيمَتِهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ, وَفِي ذِكْرِهِ الطَّعَامَ أَوْ الْكِسْوَةَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَدَّاهُمَا إلَى الْقِيمَةِ, وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصَدُ حُصُولَ النَّفْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ عَيْنِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَنْت; وَفِي ذِكْرِهِ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ, وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهُمَا وَدَلَّلَنَا بِمَا ذُكِرَ عَلَى

جَوَازِ إعْطَاءِ قِيمَتِهِمَا لِيَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ حِنْطَةً أَوْ يُطْعِمَ أَوْ يَكْسُوَ أَوْ يُعْطِيَ دَرَاهِمَ قِيمَةٍ عَنْ الْحِنْطَةِ أَوْ عَنْ الثِّيَابِ, فَيَكُونُ مُوسَعًا فِي الْعُدُولِ عَنْ الْأَرْفَعِ إلَى الْأَوْكَسِ إنْ تَفَاوَتَتْ الْقِيمَتَانِ, أَوْ عَنْ الْأَوْكَسِ إلَى الْأَرْفَعِ, أَوْ يُعْطَى أَيَّ الْمَذْكُورِينَ بِأَعْيَانِهِمَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَنْ وَجَبَتْ فِي إبِلِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تُوجَدْ أُخِذَ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَشَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا" فَخَيَّرَهُ فِي ذَلِكَ, وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِنْتُ لَبُونٍ وَهِيَ الْفَرْضُ الْمَذْكُورُ; وَكَمَا جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَيْضًا قِيمَةً لِلْإِبِلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا, وَكَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ فَإِنْ جَاءَ بِهِ بِعَيْنِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ جَاءَ بِقِيمَتِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ أَيْضًا. وَلَمْ يُبْطِلْ جَوَازُ أَخْذِ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حُكْمَ التَّسْمِيَةِ لِغَيْرِهَا, فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ وَالْعِتْقِ؟ فَالْقِيمَةُ مِثْلُ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّ فِي عُدُولِهِ إلَى الْأَرْفَعِ زِيَادَةٌ فَضِيلَةٌ وَفِي اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَوْكَسِ رُخْصَةٌ وَأَيُّهُمَا فَعَلَ فَهُوَ الْمَفْرُوضُ, وَهَذَا مِثْلُ مَا نَقُولُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْهَا مِقْدَارُ آيَةٍ, فَإِنْ أَطَالَ الْقِرَاءَةَ كَانَ الْجَمِيعُ هُوَ الْمَفْرُوضُ وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الرُّكُوعِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ رَاكِعًا, فَإِنْ أَطَالَ كَانَ الْفَرْضُ جَمِيعُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَطَالَ الرُّكُوعَ كَانَ مُدْرِكَهُ فِي آخِرِ الرُّكُوعِ مُدْرِكًا لِرَكْعَتِهِ؟ وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْكَفَّارَةِ قِيمَةَ الْأَوْكَسِ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ, فَإِنْ عَدَلَ إلَى قِيمَةِ الأرفع كان هو المفروض أيضا.

مطلب: في مقدار الكسوة في الكفارة وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْكِسْوَةِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "الْكِسْوَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ إزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ". وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّرَاوِيلَ تُجْزِي, وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ حَنِثَ إذَا كَانَ سَرَاوِيلَ الرِّجَالِ. وَرَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِي السَّرَاوِيلُ وَلَا الْعِمَامَةُ; وَكَذَلِكَ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "إنْ كَسَا الرَّجُلُ كَسَا ثَوْبًا وَلِلْمَرْأَةِ ثَوْبَيْنِ دِرْعًا وَخِمَارًا, وَذَلِكَ أَدْنَى مَا تُجْزِي فِيهِ الصَّلَاةُ, وَلَا يُجْزِي ثَوْبٌ وَاحِدٌ لِلْمَرْأَةِ وَلَا تُجْزِي الْعِمَامَةُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "تُجْزِي الْعِمَامَةُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "تُجْزِي الْعِمَامَةُ وَالسَّرَاوِيلُ وَالْمُقَنِّعَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدَ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي مَا يُسَمَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مُكْتَسِيًا إذَا لَبِسَهُ, وَلَابِسُ السَّرَاوِيلِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَوْ الْعِمَامَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا كَلَابِسِ الْقَلَنْسُوَةِ, فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُجْزِيَ السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ وَلَا الْخِمَارُ لِأَنَّهُ مَعَ لُبْسِهِ

لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ عُرْيَانًا غَيْرَ مُكْتَسٍ, وَأَمَّا الْإِزَارُ وَالْقَمِيصُ وَنَحْوُهُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ يَعُمُّ بَدَنَهُ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُكْتَسِي, فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ. قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَعْنِي عِتْقَ رَقَبَةٍ, وَتَحْرِيرُهَا إيقَاعُ الْحُرِّيَّةِ عَلَيْهَا. وَذَكَرَ الرَّقَبَةَ وَأَرَادَ بِهِ جُمْلَةَ الشَّخْصِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأَسِيرِ الَّذِي تُفَكُّ رَقَبَتُهُ وَيُطْلَقُ, فَصَارَتْ الرَّقَبَةُ عِبَارَةً عَنْ الشَّخْصِ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ: "رَقَبَتُك حُرَّةٌ" إنَّهُ يُعْتَقُ, كَقَوْلِهِ" أَنْتَ حُرٌّ". وَاقْتَضَى اللَّفْظُ رَقَبَةً سَلِيمَةً مِنْ الْعَاهَاتِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّخْصِ بِكَمَالِهِ, إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّقْصَ الْيَسِيرَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا, فَاعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا بَقَاءَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي جَوَازِهَا وَجَعَلُوا فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ مَانِعًا لِجَوَازِهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيٍّ: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: فِي قِرَاءَتِنَا: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَطَاوُسُ: "هُنَّ مُتَتَابِعَاتٌ لَا يُجْزِي فِيهَا التَّفْرِيقُ". فَثَبَتَ التَّتَابُعُ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ. وَلَمْ تَثْبُتْ التِّلَاوَةُ لِجَوَازِ كَوْنِ التِّلَاوَةِ مَنْسُوخَةً وَالْحُكْمُ ثَابِتًا, وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُجْزِي فِيهِ التَّفْرِيقُ". وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يَقْتَضِي إيجَابُ التَّكْفِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْخِطَابِ بِالْكَفَّارَةِ, وَإِنَّمَا يَجُوزُ الصَّوْمُ مَعَ عَدَمِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} فَنَقَلَهُ عَنْ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا, فَمَا دَامَ الْخِطَابُ بِالْكَفَّارَةِ قَائِمًا عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ, وَدُخُولُهُ فِي الصَّوْمِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ الْخِطَابَ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلرَّقَبَةِ لَمْ يُجْزِ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِهَا, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصَّوْمِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فَرْضَ الْأَصْلِ, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الرَّقَبَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ وَبَعْدَهُ; إذْ كَانَ الْخِطَابُ بِالتَّكْفِيرِ قَائِمًا عَلَيْهِ في الحالين.

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: قوله: {رِجْسٌ} لِأَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ فِي الشَّرْعِ لِمَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ; وَيَقَعُ اسْمُ الرِّجْسِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ النَّجِسِ, وَهَذَا أَيْضًا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فَأَوْجَبَ وَصْفُهُ إيَّاهَا بِأَنَّهَا رِجْسٌ لُزُومَ اجْتِنَابِهَا. وَالْوَجْهُ

الآخر: قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} وَذَلِكَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ, فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْخَمْرُ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ, وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَمْرٌ. وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِاسْمِ الْخَمْرِ تَشْبِيهًا بِهَا مِثْلُ الْفَضِيخِ وَهُوَ نَقِيعُ الْبُسْرِ وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا اسْمُ الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ, مِنْهَا مَا رَوَى مَالِكٌ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ" وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَسَائِرُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ, وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَشْرِبَةَ النَّخْلِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ تُسَمَّى خَمْرًا. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهُوَ الْفَضِيخُ", فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضِيخَ خَمْرٌ, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ خَمْرًا مِنْ حَيْثُ كَانَ شَرَابًا مُحَرَّمًا. وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كُنْت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ وَسُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فِي نَفَرٍ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ, فَمَرَّ بِنَا رِجْلٌ فَقَالَ: إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ, فَوَاَللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى نَتَبَيَّنَ حَتَّى قَالُوا: أَهْرِقْ مَا فِي إنَائِك يَا أَنَسُ ثُمَّ مَا عَادُوا فِيهَا حَتَّى لَقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ, وَإِنَّهُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ وَهُوَ خَمْرُنَا يَوْمَئِذٍ". فَأَخْبَرَ أَنَسٌ أَنَّ الْخَمْرَ يَوْمَ حُرِّمَتْ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ, وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا سَمَّاهُ خَمْرًا, وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجْرُونَهُ مَجْرَى الْخَمْرِ وَيُقِيمُونَهُ مَقَامَهَا, لَا أَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَتَادَةَ رَوَى عَنْ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ, وَقَالَ: "إنَّمَا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ خَمْرًا" فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَهَا خَمْرًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُجْرُونَهَا مَجْرَى الْخَمْرِ. وَرَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خُمُورَ الْأَعْنَابِ إلَّا الْقَلِيلَ وَعَامَّةُ خُمُورِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ" وَمَعَ هَذَا أَيْضًا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجْرُونَهُ مَجْرَى الْخَمْرِ فِي الشُّرْبِ وَطَلَبِ الْإِسْكَارِ وَطَيِّبَةِ النَّفَسِ, وَإِنَّمَا كَانَ شَرَابُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ. وَرَوَى الْمُخْتَارُ بْنُ فَلِفُلٍّ قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فَقَالَ: "حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَهِيَ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ, وَمَا خُمِّرَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ خَمْرٌ" فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ, وَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ; فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ فَهُوَ خَمْرٌ, ثُمَّ قَالَ: "وَمَا خُمِّرَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ خَمْرٌ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا سَمَّى ذَلِكَ خَمْرًا فِي حَالِ الْإِسْكَارِ, وَأَنَّ مَا لَا يُسْكِرُ مِنْهُ فَلَيْسَ بِخَمْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ, وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ" وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا سَمَّاهُ خَمْرًا فِي حَالِ مَا أَسْكَرَ إذَا أَكْثَرَ مِنْهُ, لِقَوْلِهِ: "وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السِّرِّيِّ بْنِ إسْمَاعِيلِ

عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانُ بن بشير يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا, وَإِنَّ مِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَإِنَّ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَإِنَّ مِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَإِنَّ مِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا" وَلَمْ يَقُلْ إنَّ جَمِيعَ مَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ خَمْرٌ, وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ مِنْهَا خَمْرًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يُسْكِرُ مِنْهُ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا فِي تِلْكَ الْحَالِ, لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لِهَذِهِ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ بِأَسَانِيدَ أَصَحَّ مِنْ إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْخَمْرُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيِّ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ وَالْعِنَبِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَمَّارٍ الْمُوصِلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْن عَمَّارٍ عَنْ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلِ وَالْعِنَبِ". وَهَذَا الْخَبَرُ يَقْضِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ, وَقَدْ تَضَمَّنَ نَفِيَ اسْمِ الْخَمْرِ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "الْخَمْرُ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ, فَاسْتَوْعَبَ بِذَلِكَ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى خَمْرًا, فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِهِمَا مُسَمًّى بِاسْمِ الْخَمْرِ. وَاقْتَضَى هَذَا الْخَبَرُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ الْخَارِجِ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ, وَهُوَ عَلَى أَوَّلِ الْخَارِجِ مِنْهُمَا مِمَّا يُسْكِرُ مِنْهُ, وَذَلِكَ هُوَ الْعَصِيرُ النِّيُّ الْمُشْتَدُّ وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ قَبْلَ أَنْ تُغَيِّرَهُ النَّارُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "مِنْهُمَا" يَقْتَضِي أَوَّلَ خَارِجٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُسْكِرُ. وَاَلَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْخَمْرِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ إذَا غَلَا وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ, فَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْخَمْرُ مَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ" أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهَا مِنْ إحْدَاهُمَا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وَإِنَّمَا الرُّسُلُ مِنْ الْإِنْسِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ مَا عَدَاهَا لَيْسَ بِخَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّ الْخَمْرِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ مُسْتَحِلَّ مَا سِوَاهَا مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِسِمَةِ الْكُفْرِ, فَلَوْ كَانَتْ خَمْرًا لَكَانَ مُسْتَحِلُّهَا كَافِرًا خَارِجًا عَنْ الْمِلَّةِ كَمُسْتَحِلِّ النِّيّ الْمُشْتَدِّ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا وَصَفْنَا. وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْوَرَعِ إلَّا تَشَدُّدَهُ

فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ دُونَ التَّوَرُّعِ عَنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَأَكْلِ السُّحْتِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَمْرِ مَا هِيَ وَاللُّغَةُ الْقَائِمَةُ الْمَشْهُورَةُ وَالنَّظَرُ وَمَا يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ بِعُقُولِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَسْكَرَ فَهُوَ خَمْرٌ فَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] فَعُلِمَ أَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْعِنَبِ مِثْلُ السُّكْرِ مِنْ النَّخْلِ. فَادَّعَى هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ فَهُوَ خَمْرٌ, ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ, وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ السُّكْرَ مَا هُوَ وَلَا أَنَّ السُّكْرَ خَمْرٌ; فَإِنْ كَانَ السُّكْرُ خَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّمَا هُوَ الْخَمْرُ الْمُسْتَحِيلَةُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "ومن ثمرات النخيل والأعناب", وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِإِبَاحَةِ السُّكْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى اعْتَدَّ عَلَيْنَا فِيهَا بِمَنَافِعِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ كَمَا اعْتَدَّ بِمَنَافِعِ الْأَنْعَامِ وَمَا خَلَقَ فِيهَا مِنْ اللَّبَنِ, فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ إذًا عَلَى تَحْرِيمِ السُّكْرِ وَلَا عَلَى أَنَّ السُّكْرَ خَمْرٌ, وَلَوْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ خَمْرٌ لَمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ تَكُونُ مِنْ كُلِّ مَا يُسْكِرُ; إذْ فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْنَابِ الَّتِي مِنْهَا تَكُونُ الْخَمْرُ الْمُسْتَحِيلَةُ مِنْ عَصِيرِهَا, فَكَانَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْكِتَابِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ. وَذَكَرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ, وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ, وَذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ" وَ "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" وَ "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ" وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَخْبَارِ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ حَالَ وُجُودِ الْإِسْكَارِ دُونَ غَيْرِهَا الْمُوَافِقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ النَّافِيَةِ لِكَوْنِهَا خَمْرًا وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ شُرْبُ النَّبِيذِ الشَّدِيدِ, مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءَ وَبُرَيْدَةُ, فِي آخَرَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا فِي الْأَشْرِبَةِ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ شُرِبَ مِنْ النَّبِيذِ الشَّدِيدِ, فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ, فَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ شَرِبُوا خَمْرًا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَطِينٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" فَقُلْنَا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّ هَذَا النَّبِيذَ الَّذِي نَشْرَبُ يُسْكِرُنَا قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا, إنْ شَرِبَ أَحَدُكُمْ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ لَمْ يُسْكِرْ فَهُوَ حَلَالٌ, فَإِنْ شَرِبَ الْعَاشِرَ فَأَسْكَرَهُ فَهُوَ حَرَامٌ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا هَوْذَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيِّينَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ, فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَبْعَثُنَا إلَى أَرْضٍ بِهَا أَشْرِبَةٌ مِنْهَا الْبِتْعُ مِنْ الْعَسَلِ وَالْمَزْرُ مِنْ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ يَشْتَدُّ حَتَّى يُسْكِرَ; قَالَ: وَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ: "إنَّمَا حُرِّمَ الْمُسْكِرُ الَّذِي يُسْكِرُ عَنْ الصَّلَاةِ". فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ السُّكْرَ دُونَ غَيْرِهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَلَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ الْغَطَفَانِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَشْرِبَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ, فَقَالَ "حُرِّمَ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ". وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا بَيَانُ مَا حُرِّمَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ سِوَى الْخَمْرِ وَهُوَ مَا يُوجِبُ السُّكْرَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَسْكَرُوا" , فَقَوْلُهُ: "اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ" مُنْصَرِفٌ إلَى مَا كَانَ حَظَرَهُ مِنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوْعِيَةِ, فَأَبَاحَ الشُّرْبَ مِنْهَا بِهَذَا الْخَبَرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "اشْرَبُوا الْمَاءَ وَلَا تَسْكَرُوا"; إذْ كَانَ الْمَاءُ لَا يُسْكِرُ بِوَجْهٍ مَا؟ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ إبَاحَةٌ شُرْبِ قَلِيلِ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ شُرْبِ النَّبِيذِ الشَّدِيدِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ, وَنَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ مَا رُوِيَ فِيهِ, حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَتَّاتُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مِهْرَانِ الْخَبَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدُ قَالَ: "كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَسْقِيَنَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوْنٍ الْفَرْضِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقِطَّانِ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ يُحَدِّثنَا فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ, فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ, فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُسْكُتْ يَا صَبِيُّ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: شَرِبْنَا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَبِيذًا صُلْبًا آخِرُهُ يُسْكِرُ; وَحَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ طُعِنَ وَقَدْ أُتِيَ بِالنَّبِيذِ فَشَرِبَهُ, قَالَ: عَجِبْنَا مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِيَحْيَى: "اُسْكُتْ يَا صَبِيُّ". وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَعَلْقَمَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَرِبَ مِنْ شَرَابِ عُمَرَ, فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ, فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إنَّمَا شَرِبْت مِنْ شَرَابِك فَدَعَا عُمَرُ شَرَابَهُ فَكَسَّرَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ وَقَالَ: "مَنْ رَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ شَيْءٌ فَلِيُكَسِّرْهُ بِالْمَاءِ", وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ, وَقَالَ فِيهِ: إنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَمَا ضَرَبَ الْأَعْرَابِيَّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَعْمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَبِي طَلْحَةَ: أنهما كانا

يَشْرَبَانِ نَبِيذَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ يَخْلِطَانِهِ, فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا فَقَالَ: "إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِلْعَوَزِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا نَهَى عَنْ الْإِقْرَانِ". وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ, وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِي كِتَابِنَا "الْأَشْرِبَةِ" وَكَرِهْت التَّطْوِيلَ بِإِعَادَتِهِ هُنَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَحْرِيمُهُ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي يُبِيحُهَا أَصْحَابُنَا فِيمَا نَعْلَمُهُ, وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُمْ تَحْرِيمُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَمَا لَمْ يُرَدَّ مِنْ الْعَصِيرِ إلَى الثُّلُثِ; إلَى أَنْ نَشَأَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ تَصَنَّعُوا عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالتَّشْدِيدِ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَوْ كَانَ النَّبِيذُ مُحَرَّمًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى كَانَتْ بِهِ; إذْ كَانَتْ عَامَّةُ أَشْرِبَتِهِمْ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ, كَمَا وَرَدَ تَحْرِيم الْخَمْرِ وَقَدْ كَانَتْ بَلْوَاهُمْ بِشُرْبِ النَّبِيذِ أَعَمَّ مِنْهَا بِشُرْبِ الْخَمْرِ لِقِلَّتِهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مُوجِبِي تَحْرِيمَهُ. وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِهِ فِي "الْأَشْرِبَةِ". وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: "الشَّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ" وَقَالَ عُثْمَانُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: "النَّرْدُ". وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: "الْقِمَارُ كُلُّهُ مِنْ الْمَيْسِرِ". وَأَصْلُهُ مِنْ تَيْسِيرِ أَمْرِ الْجَزُورِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْقِمَارِ فِيهِ, وَهُوَ السِّهَامُ الَّتِي يُجِيلُونَهَا, فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحَقَّ مِنْهُ مَا تُوجِبُهُ عَلَامَةُ السَّهْمِ, فَرُبَّمَا أَخْفَقَ بَعْضُهُمْ حَتَّى لَا يَحْظَى بِشَيْءٍ وَيَنْجَحَ الْبَعْضُ فَيَحْظَى بِالسَّهْمِ الْوَافِرِ; وَحَقِيقَتُهُ تَمْلِيكُ الْمَالِ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ. وَهُوَ أَصْلٌ فِي بُطْلَانِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْأَخْطَارِ, كَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَعُقُودِ الْبَيَّاعَاتِ وَنَحْوِهَا, إذَا عُلِّقَتْ عَلَى الْأَخْطَارِ, بِأَنْ يَقُولَ: "قَدْ بِعْتُك إذَا قَدِمَ زَيْدٌ" وَ "وَهَبْته لَك إذَا خَرَجَ عَمْرٌو" لِأَنَّ مَعْنَى إيسَارِ الْجَزُورِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحَقَّ مِنْ الْجَزُورِ كَذَا, فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ السَّهْمِ مِنْهُ مُعَلَّقًا عَلَى الْخَطَرِ. وَالْقُرْعَةُ فِي الْحُقُوقِ تَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَطْيِيبُ النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ إحْقَاقِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَرِعِينَ وَلَا بَخْسِ حَظٍّ مِمَّا اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ, مِثْلُ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي قَسْمِ النِّسَاءِ وَفِي تَقْدِيمِ الْخُصُومِ إلَى الْقَاضِي. وَالثَّانِي: مِمَّا ادَّعَاهُ مُخَالِفُونَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ عَبِيدٍ أَعْتَقَهُمْ الْمَرِيضُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ, فَقَوْلُ مُخَالِفَيْنَا هُنَا مِنْ جِنْسِ الْمَيْسِرِ الْمَحْظُورِ بِنَصِّ الْكِتَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقُرْعَةِ, وَلِمَا فِيهِ أَيْضًا مِنْ إحْقَاقِ بَعْضِهِمْ وَبَخْسِ حَقِّهِ حَتَّى لَا يَحْظَى مِنْهُ بِشَيْءٍ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضِهِمْ حَقَّهُ وَحَقَّ غَيْرِهِ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيْسِرِ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَهِيَ مَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ حَجَرٍ غَيْرِ مُصَوَّرٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ مَا يُنْصَبُ لِلْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ الْقِدَاحُ, وَهِيَ سِهَامٌ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهَا عَلَامَاتِ "افْعَلْ" وَ "لَا

تَفْعَلْ" وَنَحْوِ ذَلِكَ, فَيَعْمَلُونَ فِي سَائِرِ مَا يَهْتَمُّونَ بِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ تِلْكَ السِّهَامُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ, وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْأَنْسَابِ أَيْضًا إذَا شَكُّوا فِيهَا, فَإِنْ خَرَجَ "لَا" نَفَوْهُ, وَإِنْ خَرَجَ "نَعَمْ" أَثْبَتُوهُ; وَهِيَ سِهَامُ الْمَيْسِرِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فَإِنَّ الرِّجْسَ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ إمَّا لِنَجَاسَتِهِ وَإِمَّا لِقُبْحِ مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ تَعْظِيمٍ; لِأَنَّهُ يُقَالُ "رِجْسٌ نَجِسٌ" فَيُرَادُ بِالرِّجْسِ النَّجِسُ, وَيَتْبَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ, كَقَوْلِهِمْ: "حَسَنٌ بَسَنٌ" وَ "عَطْشَانُ نَطْشَانَ" وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَالرِّجْزُ قَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ الْعَذَابُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134] أَيْ الْعَذَابَ. وَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى الرِّجْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وَقَوْلُهُ: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] وإنما قال تعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ, فَأَكَّدَ بِذَلِكَ أَيْضًا حُكْمَ تَحْرِيمِهَا; إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ وَالْمُحَرَّمَاتِ, وَجَازَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الشَّيْطَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ; إذْ كَانَ هُوَ الدَّاعِيَ إلَيْهِ وَالْمُزَيِّنَ لَهُ, أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَغْرَى غَيْرَهُ بِضَرْبِ غَيْرِهِ أَوْ بِسَبِّهِ وَزَيَّنَهُ لَهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ هَذَا مِنْ عَمَلِك؟ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةُ; فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يَدْعُو الشَّيْطَانُ إلَيْهِ وَيُزَيِّنُهُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ حَتَّى يَسْكَرَ مِنْهَا شَارِبُهَا فَيُقْدِمُ عَلَى الْقَبَائِحِ وَيُعَرْبِدُ عَلَى جُلَسَائِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ; وَكَذَلِكَ الْقِمَارُ يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ, قَالَ قَتَادَةُ: "كَانَ الرَّجُلُ يُقَامِرُ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ فَيُقْمَرُ وَيَبْقَى حَزِينًا سَلِيبًا فَيُكْسِبُهُ ذَلِكَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ". وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ إذْ كَانَ السُّكْرُ مِنْهُ يُوجِبُ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِثْلُ مَا يُوجِبُهُ السُّكْرُ فِي الْخَمْرِ; وَهَذَا الْمَعْنَى لَعَمْرِي مَوْجُودٌ فِيمَا يُوجِبُ السُّكْرَ مِنْهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا لَا يُوجِبُهُ, وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ مَا يُوجِبُ السُّكْرَ مِنْهُ, وَأَمَّا قَلِيلُ الْخَمْرِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِيهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ, وَلَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ قَلِيلِ النَّبِيذِ. قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "لَمَّا حَرُمَ الْخَمْرُ كَانَ قَدْ مَاتَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ, فَقَالَتْ الصَّحَابَةُ: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوا بِالشَّامِّ وَقَالُوا هِيَ لَنَا حَلَالٌ وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ, فَأَجْمَعْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا

قُتِلُوا. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ1 قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بْنُ رَبِيعَةَ, أَنَّ الْجَارُودَ سَيِّدَ بَنِي عَبْدِ الْقِيسِ وَأَبَا هُرَيْرَةَ شَهِدَا عَلَى قَدَّامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَجْلِدَهُ, فَقَالَ قَدَّامَةُ: لَيْسَ لَك ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الْآيَةُ فَقَالَ عُمَرُ: إنَّك قَدْ أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ يَا قَدَّامَةُ, إذَا اتَّقَيْت اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْك فَلَمْ يَحْكُمُوا عَلَى قَدَّامَةَ بِحُكْمِهِمْ عَلَى الَّذِينَ شَرِبُوهَا بِالشَّامِّ, وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ لِأَنَّ أُولَئِكَ شَرِبُوهَا مُسْتَحِلِّينَ لَهَا, وَمُسْتَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ كَافِرٌ, فَلِذَلِكَ اسْتَتَابُوهُمْ. وَأَمَّا قَدَّامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ فَلَمْ يَشْرَبْهَا مُسْتَحِلًّا لِشُرْبِهَا, وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْحَالَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا وَوُجُودُ الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ فِيهِ مُكَفِّرَةٌ لِذُنُوبِهِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَى شُرْبِهَا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِتَحْرِيمِهَا وَلِتَكْفِيرِ إحْسَانِهِ إسَاءَتَهُ. وَأَعَادَ ذِكْرَ الِاتِّقَاءِ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْمُرَادُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْأُخْرَى, فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَمَنْ اتَّقَى فِيمَا سَلَفَ, وَالثَّانِي: الِاتِّقَاءُ مِنْهُمْ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ, وَالثَّالِثُ: اتِّقَاءُ ظُلْمِ الْعِبَادِ والإحسان إليهم.

_ 1 قوله "وروى الزهري إلى الخ" تفصيل هذه القصة مذكور في جامع أحكام القرآن للقرطبي. "لمصححه".

بَابُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} قِيلَ فِي مَوْضِعٍ "مِنْ" هَهُنَا إنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ, بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَيْدَ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ وَصَيْدَ الْإِحْرَامِ دُونَ صَيْدِ الْإِحْلَالِ. وَقِيلَ إنَّهَا لِلتَّمْيِيزِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَقَوْلُك" بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ" وَ" ثَوْبٌ مِنْ قُطْنٍ". وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ مَا يَكُونُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَيْدًا, كَالْبَيْضِ وَالْفَرْخِ; لِأَنَّ الْبَيْضَ مِنْ الصَّيْدِ, وَكَذَلِكَ الْفَرْخُ وَالرِّيشُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ; فَتَكُونُ الْآيَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي, وَيَكُونُ الْمُحَرَّمُ بَعْضُ الصَّيْدِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ, وَيُفِيدُ أَيْضًا تَحْرِيمَ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَنَمَا عَنْهُ كَالْبِيضِ وَالْفَرْخِ وَالْوَبَرِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} قَالَ: "فِرَاخُ الطَّيْرِ وَصِغَارُ الْوَحْشِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْفِرَاخُ وَالْبَيْضُ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِخَمْسِ بَيْضَاتٍ فَقَالَ: "إنَّنَا مُحْرِمُونَ وَإِنَّا لَا نَأْكُلُ; فَلَمْ يَقْبَلْهَا". وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ

كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ بِقِيمَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ: "أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ". وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذلك. وقوله تعالى: {وَرِمَاحُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كِبَارُ الصَّيْدِ". قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} , قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كُلُّهَا مُحْتَمَلٌ: أَحَدُهَا: مُحْرِمُونَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَالثَّانِي دُخُولُ الْحَرَمِ, يُقَالُ أَحْرَمَ الرَّجُلُ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ, كَمَا يُقَالُ أَنْجَدَ إذَا أَتَى نَجْدًا, وَأَعْرَقْ إذَا أَتَى الْعِرَاقَ, وَأَتْهَمَ إذَا أَتَى تِهَامَةَ. وَالثَّالِثُ: الدُّخُولُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ, كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قُتِلَ الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا يَعْنِي فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ, وَهُوَ يُرِيدُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّالِثَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ, وَأَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَا يَحْظُرُ الصَّيْدَ, وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مُرَادَانِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْحَرَمِ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ, فَدَلَّ أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ; لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمٌ يَنْتَظِمُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ غَيْرُ مُبْتَدَأٍ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يَقْتَضِي عُمُومُهُ صَيْدَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَوْلَا مَا خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أَنَّ كُلَّ مَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ غَيْرُ ذَكِيٍّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ قَتْلًا, وَالْمَقْتُولُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ عَلَى شَرَائِطِ الذَّكَاةِ, وَمَا ذُكِّيَ مِنْ الْحَيَوَانِ لَا يُسَمَّى مَقْتُولًا لِأَنَّ كَوْنَهُ مَقْتُولًا يُفِيدُ أَنَّهُ غَيْرُ مُذَكًّى. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ" قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ لَيْسَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ غَيْرُ مُذَكًّى, وَلَوْ كَانَ مُذَكًّى كَانَتْ إفَاتَةُ رُوحِهِ لَا تَكُونُ قَتْلًا وَلَمْ يَكُنْ يُسَمَّى بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ ذَبْحُ شَاةٍ" إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ, وَلَوْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ قَتْلُ شَاةٍ" لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ ذَبْحُ وَلَدِي أَوْ نَحْرُهُ" فَعَلَيْهِ شَاةٌ, وَلَوْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ قَتْلُ وَلَدِي" لَمْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ اسْمَ الذَّبْحِ مُتَعَلِّقٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْقُرْبَةِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَتْلُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قَالَ: "قَتْلُهُ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ" يَعْنِي أَكْلُ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مِنْهُ. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ قال: "كل

صَيْدٍ يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ فَذَلِكَ الصَّيْدُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ"; وَرَوَى عَنْهُ يُونُسُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلِمَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ قَالَ: "يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ". وَعَنْ عَطَاءٍ: "إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ لَا يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ". وَقَالَ الْحَكَمُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: "يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ". وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُذَكًّى; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَشْبَهَ صَيْدَ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَمَا تُرِكَ فِيهِ التَّسْمِيَةُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ, وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ مَغْصُوبَةٍ; لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ تَعَلَّقَ بِحَقِّ آدَمِيٍّ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ جَازَ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الذَّكَاةِ؟ إذْ كَانَتْ الذَّكَاةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى, فَشُرُوطُهَا مَا كَانَ حَقًّا لله تعالى.

بَابُ مَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لَمَّا كَانَ خَاصًّا فِي صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مِنْ التَّخْصِيصِ, اقْتَضَى عُمُومُهُ تَحْرِيمَ سَائِرِ صَيْدِ الْبَرِّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِهَا, وَفِي بَعْضِهَا: "هُنَّ فَوَاسِقُ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْأَسَدُ". وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ. فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الذِّئْبَ. وَذَكَرَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "الْكَلْبُ الْعَقُورُ الَّذِي أُمِرَ الْمُحْرِمُ بِقَتْلِهِ مَا قَتَلَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ, مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ, وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ لَا يَعْدُو مِثْلُ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالْهِرَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنْ السِّبَاعِ فَلَا يَقْتُلْهُنَّ الْمُحْرِمُ, فَإِنْ قَتَلَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَدَاهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَلَقَّى الْفُقَهَاءُ هَذَا الْخَبَرَ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي إبَاحَةِ قَتْلِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ, فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ: "إنَّهُ الْأَسَدُ" وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: "أَكَلَك كَلْبُ اللَّهِ" فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ هُوَ الذِّئْبُ. وَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ ابْنِ عُمَرَ فِي مَوْضِعٍ "الْكَلْبُ" "الذِّئْبُ", وَلَمَّا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَفَادَ بِذَلِكَ كَلْبًا مِنْ شَأْنِهِ الْعَدْوَ عَلَى النَّاسِ وَعَقْرِهِمْ, وَهَذِهِ صِفَةُ الذِّئْبِ, فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْكَلْبِ هَهُنَا الذِّئْبُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا عَلَى الْمُحْرِمِ وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى فَجَائِزٌ لَهُ قَتْلُهُ مِنْ غَيْرِ فَدِيَةٍ لِأَنَّ فَحْوَى ذِكْرِهِ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ

ابْتَدَأَهُ السَّبْعُ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ, وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السَّبْعَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ, لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . وَاسْمُ الصَّيْدِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ مُمْتَنِعِ الْأَصْلِ مُتَوَحِّشٍ, وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] فَعَلَّقَ الْحُكْمَ مِنْهُ بِمَا تَنَالُهُ أَيْدِينَا وَرِمَاحُنَا, وَلَمْ يُخَصِّصْ الْمُبَاحَ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ الْأَكْلِ. ثُمَّ خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْخَبَرِ وَذَكَرَ مَعَهَا الْكَلْبَ الْعَقُورَ, فَكَانَ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَذِكْرُهُ لِلْكَلْبِ الْعَقُورِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا ابْتَدَأَ الْإِنْسَانَ بِالْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ فَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ; لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْتَدِئَ بِالْأَذَى, فَجَعَلَ حُكْمَهَا حُكْمَ حَالِهَا فِي الْأَغْلَبِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ لَا تَبْتَدِئُ فِي حَالٍ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ فِي الْأَشْيَاءِ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ, وَلَا حُكْمَ لِلشَّاذِّ النَّادِرِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَقِيلَ هُوَ الْأَسَدُ فَإِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُ إذَا قَصَدَ بِالْعَقْرِ وَالْأَذَى, وَإِنْ كَانَ الذِّئْبُ فَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْأَغْلَبِ; فَمَا خَصَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَقَامَتْ دَلَالَتُهُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ, وَمَا لَمْ يَخُصَّهُ وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ تَخْصِيصِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ كَبْشٌ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ". وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَالضَّبُعُ مِنْ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَبْشًا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِسْت عَلَى الْخَمْسِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْخَمْسَةَ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَذْكُورَةً فِيهِ أَوْ دَلَالَةٌ قَائِمَةً فِيمَا خَصَّ, فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلْخَمْسِ عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِيهَا لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْأَصْلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا يَبْتَدِئُ الْإِنْسَانَ بِالْأَذَى مِنْ السِّبَاعِ, وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ مِنْ فَحْوَى الْخَبَرِ وَلَا عِلَّتَهُ مَذْكُورَةٌ فِيهِ, فَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَا ابْتَدَأَ الْمُحْرِمَ فِي سُقُوطِ الْجَزَاءِ, فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبَقِيَ حُكْمُ عُمُومِ الْآيَةِ فِيمَا لَمْ يَخُصَّهُ الْخَبَرُ وَلَا الْإِجْمَاعُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَأْبَى الْقِيَاسَ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّهُ حَصَرَهُ بِعَدَدٍ فَقَالَ "خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ" وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مَحْظُورٌ, فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي إسْقَاطِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى صِحَّةَ الِاعْتِلَالِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْكُولٍ; لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْيٌ وَالنَّفْيُ لَا يَكُونُ عِلَّةً, وَإِنَّمَا الْعِلَلُ أَوْصَافٌ ثَابِتَةٌ فِي الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ, وَأَمَّا نَفْيُ الصِّفَةِ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً. فَإِنْ غُيِّرَ الْحُكْمُ بِإِثْبَاتِ وَصْفٍ وَجَعَلَ الْعِلَّةَ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْحُكْمُ بِنَفْيِ الْأَكْلِ,

فَلَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِلصِّفَةِ, فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِلَالُ بِهَا. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْجُمْهُورُ: "سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ" وَجَعَلُوا فَائِدَةَ تَخْصِيصِهِ الْعَمْدَ بِالذِّكْرِ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} , وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْعَمْدِ دُونَ الْخَطَإِ; لِأَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ, فَخَصَّ الْعَمْدَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مِثْلَهُ لِيَصِحَّ رُجُوعُ الْوَعِيدِ إلَيْهِ; وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةً وَإِبْرَاهِيمَ وَفُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ رِجْلٍ قَدْ سَمَّاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى فِي الْخَطَإِ شَيْئًا" وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْ مُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةِ الْجُعْفِيِّ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مجاهد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} قَالَ: "إذَا كَانَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ, وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ" وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "قَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ نَحْوُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ فِي أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَعْذُورُ وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ فِي بَابِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَذَرَ الْمَرِيضَ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ وَلَمْ يُخْلِهِمَا مِنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ؟ وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِي فَوَاتِ الْحَجِّ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِفِ الْحُكْمِ; وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ وَكَانَ الْخَطَأُ عُذْرًا; لَمْ يَكُنْ مُسْقِطًا لِلْجَزَاءِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ قِيَاسًا, وَلَيْسَ فِي الْمُخْطِئِ نَصٌّ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا قِيَاسًا; لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَذَلِكَ عِنْدَنَا يَقْتَضِي إيجَابَ الْبَدَلِ عَلَى مُتْلِفِهِ, كَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ صَيْدِ الْآدَمِيِّ أَوْ إتْلَافِ مَالِهِ يَقْتَضِي إيجَابَ الْبَدَلِ عَلَى مُتْلِفِهِ; فَلَمَّا جَرَى الْجَزَاءُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَجْرَى الْبَدَلِ وَجَعَلَهُ اللَّهُ مِثْلًا لِلصَّيْدِ; اقْتَضَى النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ إيجَابَ بَدَلِهِ عَلَى مُتْلِفِهِ, ثُمَّ ذَلِكَ الْبَدَلُ يَكُونُ الْجَزَاءَ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ اسْتِوَاءُ حَالِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ فِي سَائِرِ جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ تَسَاوِي حَالِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ; وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا قِيَاسًا, كَمَا أَنَّ حُكْمَنَا فِي غَيْرِ بَرِيرَةَ بِمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرِيرَةَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ, وَكَذَلِكَ حُكْمُنَا فِي الْعُصْفُورِ بِحُكْمِ الْفَأْرَةِ وَحُكْمُنَا فِي الزَّيْتِ بِحُكْمِ السَّمْنِ إذَا مَاتَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ قِيَاسًا عَلَى الْفَأْرَةِ وَعَلَى السَّمْنِ; لِأَنَّهُ قَدْ ثبت

تَسَاوِي ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الْحُكْمِ بِمَا وَصَفْنَا, فَإِذَا وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ كَانَ حُكْمًا فِي جَمِيعِهِ, وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَاءِ صَوْمِ الْآكِلِ نَاسِيًا هُوَ حُكْمُ فِيهِ بِبَقَاءِ صَوْمِ الْمُجَامَعِ نَاسِيًا لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ فِي حَالِ الصَّوْمِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرُّعَافِ وَالْقَيْءِ اللَّذَيْنِ جَاءَ فِيهِمَا الْأَثَرُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِمَا; لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ, فَلَمَّا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا فِي جَمِيعِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ. كَذَلِكَ حُكْمُ قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأً. وَأَمَّا مُجَاهِدُ فَإِنَّهُ تَارِكٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فَمَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِ الصَّيْدِ فَقَدْ شَمِلَهُ الِاسْمُ, فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ, وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَفَّارَةِ قَاتِلِ الْخَطَإِ فَلَمْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ قَاتِلَ الْعَمْدِ, كَذَلِكَ لَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ لَمْ يَجُزْ إيجَابُهَا عَلَى قَاتِلِ الْخَطَإِ. قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتْلَيْنِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَمْ يَجُزْ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ لَمْ يَخْلُ مِنْ إيجَابِ الْقَوَدِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ, وَمَتَى أَخْلَيْنَا قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً مِنْ إيجَابِ الْجَزَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَيَكُونُ لَغْوًا عَارِيًّا مِنْ حُكْمٍ, وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَتْلِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ, وَلَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ, فَلِذَلِكَ اسْتَوَى حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ. قَوْله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمِثْلِ, فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْمِثْلَ نَظِيرُهُ; فِي الْأَرْوَى بَقَرَةٌ وَفِي الظَّبْيَةِ شَاةٌ وَفِي النَّعَامَةِ بَعِيرٌ" وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ وَذَلِكَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ النَّعَمِ, فَأَمَّا مَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْهُ كَالْعُصْفُورِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الْقِيمَةُ. وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ فِي الْمِثْلِ أَنَّهُ الْقِيمَةُ دَرَاهِمَ, وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ الْهَدْيُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "الْمِثْلُ هُوَ الْقِيمَةُ, وَيَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ هَدْيًا إنْ شَاءَ, وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى طَعَامًا وَأَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ, وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمِثْلُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْقِيمَةِ وَعَلَى النَّظِيرِ مِنْ جِنْسِهِ وَعَلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ, وَوَجَدْنَا الْمِثْلَ الَّذِي يَجِبُ فِي الْأُصُولِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ جِنْسِهِ كَمَنْ

اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ حِنْطَةً فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهَا, وَإِمَّا مِنْ قِيمَتِهِ كَمَنْ اسْتَهْلَكَ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا; وَالْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَلَا قِيمَتِهِ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ. وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْمِثْلَ مِنْ جِنْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ هُوَ الْقِيمَةُ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَلَمَّا كَانَ الْمِثْلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ هُوَ الْقِيمَةُ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ الْمَذْكُورُ لِلصَّيْدِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِثْلَ فِي آيَةِ الِاعْتِدَاءِ مُحْكَمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِثْلَ اسْمٌ لِلْقِيمَةِ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ اسْمٌ لِلنَّظِيرِ مِنْ النَّعَمِ, فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ اسْمًا لَهُ وَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْقِيمَةَ مُرَادَةٌ بِهَذَا الْمِثْلِ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ, فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقِيمَةَ مُرَادَةٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ نَصَّ عَلَيْهَا فَلَا يَنْتَظِمُ النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيمَةَ مُرَادَةٌ انْتَفَى النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ لِاسْتِحَالَةِ إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا مِنْ قِيمَةٍ أَوْ نَظِيرٍ مِنْ النَّعَمِ, وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّ الْقِيمَةَ مُرَادَةٌ انْتَفَى غَيْرُهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لَمَّا كَانَ عَامًا فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ وَفِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ, ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمِثْلُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَالْقِيمَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى; لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى الْقِيمَةِ كَانَ الْمِثْلُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورِ, وَإِذَا حُمِلَ عَلَى النَّظِيرِ كَانَ خَاصًّا فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ; وَحُكْمُ اللَّفْظِ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ, فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَوْلَى, وَمَنْ اعْتَبَرَ النَّظِيرَ جَعَلَ اللَّفْظَ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِ دُونَ الْبَعْضِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ اسْمُ الْمِثْلِ يَقَعُ عَلَى الْقِيمَةِ تَارَةً وَعَلَى النَّظِيرِ أُخْرَى, فَمَنْ اسْتَعْمَلَهُمَا فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ عَلَى النَّظِيرِ وَفِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ عَلَى الْقِيمَةِ, فَلَمْ يَخْلُ مِنْ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْمِثْلِ عَلَى عُمُومِهِ إمَّا فِي الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ, بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقِيمَةِ عَلَى الْخُصُوصِ وَفِي النَّظِيرِ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْضًا وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْخُصُوصِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمِثْلُ اسْمٌ لِلنَّظِيرِ وَلَيْسَ بِاسْمٍ لِلْقِيمَةِ, وَإِنَّمَا أُوجِبَتْ الْقِيمَةُ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْ الصَّيْدِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْقِيمَةَ مِثْلًا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى

عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ عَبْدًا أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ, وَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعْتِقِ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا, فَبَانَ بِذَلِكَ غَلَطُ هَذَا الْقَائِلِ فِي نَفْيِهِ اسْمَ الْمِثْلِ عَنْ الْقِيمَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَك "إنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ إيجَابَ الْجَزَاءِ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ" تَخْصِيصٌ لَهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ, مَعَ دُخُولِ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} والهاء في: {قَتَلَهُ} كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ الصَّيْدِ, فَإِذَا أَخْرَجْت مِنْهُ بَعْضَهُ فَقَدْ خَصَّصْته بِغَيْرِ دَلِيلٍ, وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ الْقِيمَةُ دُونَ النَّظِيرِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ: "فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ" وَلَا تَشَابُهَ بَيْنَ الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي الْمَنْظَرِ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوهَا عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ جَعَلَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ تِلْكَ كَانَتْ قِيمَتُهُ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ نَظِيرًا لَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا كَانَ يَسُوغُ هَذَا التَّأْوِيلُ وَحَمْلُ الْآيَةَ عَلَى الْقِيمَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْمِثْلِ, وَقَدْ فُسِّرَ فِي نَسَقِ الْآيَةِ مَعْنَى الْمِثْلِ فِي قَوْلِهِ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمِثْلَ مِنْ النَّعَمِ وَلَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ مَعَ النَّصِّ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَانَ يَكُونُ عَلَى مَا ادَّعَيْت لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَصِلْهُ بِمَا أَسْقَطَ دَعْوَاك, وَهُوَ قَوْلُهُ: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} فَلَمَّا وَصَلَهُ بِمَا ذَكَرَ وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ حَرْفَ التَّخْيِيرِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ النَّعَمِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالصِّيَامَ جَمِيعًا وَلَيْسَا مِثْلًا وَأَدْخَلَ "أَوْ" بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النِّعَمِ؟ وَلَا فَرْقَ; إذْ كَانَ ذَلِكَ تَرْتِيبُ الْآيَةِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ طَعَامًا أَوْ صِيَامًا أَوْ مِنْ النَّعَمِ هَدْيًا; لِأَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ النَّعَمِ فِي التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ تَقْدِيمَهُ فِي الْمَعْنَى, بَلْ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ مَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لَمْ يَقْتَضِ كَوْنَ الطَّعَامِ مُقَدَّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ وَلَا الْكِسْوَةِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعِتْقِ فِي الْمَعْنَى, بَلْ الْكُلُّ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَعًا؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} مَوْصُولًا بِقَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ النَّعَمِ تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ, وَقَوْلُهُ: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْمِثْلُ مُضَمَّنًا بِالنَّعَمِ مَعَ اسْتِغْنَاءِ الْكَلَامِ عَنْهُ لِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَلَهُ حُكْمٌ غَيْرُ جَائِزٍ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ سِوَاهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {مِنَ

النَّعَمِ} مَعْلُومٌ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ إرَادَةِ الْمُحْرِمِ, فَمَعْنَاهُ: "من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هَدْيًا" إنْ أَرَادَ الْهَدْيَ, وَالطَّعَامَ إنْ أَرَادَ الطَّعَامَ, فَلَيْسَ هُوَ إذًا تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ, كَمَا أَنَّ الطَّعَامَ وَالصِّيَامَ لَيْسَا تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ الْمَذْكُورِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ, وَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الصَّيْدِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَنُقْصَانِهَا. قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ, هَلْ تُوجِبُ فِي كُلِّ نَعَامَةٍ بَدَنَةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الصَّيْدِ فِي ارْتِفَاعِ قِيمَتِهِ وَانْخِفَاضِهَا فَتُوجِبُ فِي أَدْنَى النَّعَامِ بَدَنَةً رَفِيعَةً وَتُوجِبُ فِي أُرْفَعْ النَّعَامِ بَدَنَةً وَضِيعَةً؟ فَإِنْ قِيلَ: لَا, وَإِنَّمَا أُوجِبُ بَدَنَةً عَلَى قَدْرِ النَّعَامَةِ, فَإِنْ كَانَتْ رَفِيعَةً فَبَدَنَةٌ رَفِيعَةً وَإِنْ كَانَتْ وَضِيعَةً فَبَدَنَةٌ عَلَى قَدْرِهَا; قِيلَ لَهُ فَقَدْ خَالَفْت الصَّحَابَةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ حَالِ الصَّيْدِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرَّفِيعَةِ مِنْهَا وَالدَّنِيَّةِ فَاعْتَبَرْت خِلَافَ مَا اعْتَبَرُوا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالْبَدَنَةِ عَلَى حَسَبِ حَالِ النَّعَامَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي. قِيلَ لَهُ: فَكَذَلِكَ يَقُولُ لَك الْقَائِلُونَ بِالْقِيمَةِ إنَّهُمْ حَكَمُوا بِالْبَدَنَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قِيمَتَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ, وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالْبَدَنَةِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا كَانَتْ قِيمَةَ النَّعَامَةِ. وَيُقَال لَهُمْ: هَلْ يَدُلُّ حُكْمُهُمْ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا, قِيلَ لَهُمْ: فَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ فِيهَا بِالْبَدَنَةِ غَيْرُ دَالٍ عَلَى نَفْيِ جَوَازِ الْقِيمَةِ.

فصل وقرئ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} بِرَفْعِ الْمِثْلِ, وَقُرِئَ بِخَفْضِهِ وَإِضَافَةُ الْجَزَاءِ إلَيْهِ. وَالْجَزَاءُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ وَيَكُونُ مَصْدَرًا فَيَكُونُ فِعْلًا لِلْمَجَازِيِّ, فَمَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ جَعَلَ الْمِثْلَ صِفَةً لِلْجَزَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْقِيمَةُ أَوْ النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ; وَمَنْ أَضَافَهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا وَأَضَافَهُ إلَى الْمِثْلِ, فَكَانَ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْوَاجِبِ مُضَافًا إلَى الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ مُضَافًا إلَى الْمِثْلِ, وَالْمِثْلُ يَكُونُ مِثْلًا لِلصَّيْدِ, فَيُفِيدُ أَنَّ الصَّيْدَ مَيْتَةٌ مُحَرَّمٌ لَا قِيمَةَ لَهُ, وَأَنَّ الْوَاجِبَ اعْتِبَارُ مِثْلِ الصَّيْدِ حَيًّا فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ, فَالْإِضَافَةُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاءُ اسْمًا أَوْ مَصْدَرًا; وَالنَّعَمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ النَّظِيرِ مِنْ النَّعَمِ لِأَنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الصَّيْدِ, فَيَحْتَاجُ فِي كُلِّ حِينٍ وَفِي كُلِّ صَيْدٍ إلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فِي تَقْوِيمِهِ. وَمَنْ قَالَ بِالنَّظِيرِ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِ الْحَكَمَيْنِ, لِاخْتِلَافِ

الصَّيْدِ فِي نَفْسِهِ مِنْ ارْتِفَاعٍ أَوْ انْخِفَاضٍ حَتَّى يُوجِبَا فِي الرَّفِيعِ مِنْهُ الرَّفِيعَ مِنْ النَّظِيرِ وَفِي الْوَسَطِ الْوَسَطَ وَفِي الدَّنِيِّ الدَّنِيَّ, وَذَلِكَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَكَمَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ, قَالَا فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ قَطَاةً: "فِيهِ ثُلُثَا مَدٍّ وَثُلُثَا مُدٍّ خَيْرٌ مِنْ قَطَاةٍ فِي بَطْنِ مِسْكِينٍ". وَرَوَى مُعْمَرُ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْت الْقَاسِمَ وَسَالِمًا عَنْ حَجَلَةٍ ذَبَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ نَاسِيًا, فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَحَجَلَةٌ فِي بَطْنِ رِجْلٍ خَيْرٌ أَوْ ثُلُثَا مُدٍّ؟ فَقَالَ: بَلْ ثُلُثَا مُدٍّ, فَقَالَ: هِيَ خَيْرٌ أَوْ نِصْفُ مُدٍّ؟ قَالَ: بَلْ نِصْفُ مُدٍّ, قَالَ: هِيَ خَيْرٌ أَوْ ثُلُثُ مُدٍّ؟ قَالَ: قُلْت: أَتُجْزِي عَنِّي شَاةٌ؟ قَالَا: أَوَتَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قُلْت: نَعَمْ, قَالَا: فَاذْهَبْ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ رِدَاءَهُ عَلَى عُودٍ فِي دَارِ النَّدْوَةِ, فَأَطَارَ حَمَامًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ, فَقَالَ لِعُثْمَانَ وَنَافِعٍ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ: اُحْكُمَا عَلَيَّ فَحَكَمَا بِعَنَاقٍ بُنَيَّةَ عَفْرَاءَ, فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ. وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ: "أَنَّ مُحْرِمًا قَتَلَ ظَبْيًا, فَسَأَلَ عُمَرُ رَجُلًا إلَى جَنْبِهِ, ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا; قَالَ قَبِيصَةُ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِهِ قُلْت لَهُ: أَيُّهَا الْمُسْتَفْتِي ابْنِ الْخَطَّابِ إنَّ فُتْيَا ابْنِ الْخَطَّابِ لَمْ تُغْنِ عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, فَانْحَرْ نَاقَتَك وَعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمَ ابْنُ الْخَطَّابِ مَا يَقُولُ حَتَّى سَأَلَ الرَّجُلَ الَّذِي إلَى جَنْبِهِ, فَقُمْت إلَى عُمَرَ وَإِذَا عُمَرُ قَدْ أَقْبَلَ وَمَعَهُ الدِّرَّةُ عَلَى صَاحِبِي صَفْعًا وَهُوَ يَقُولُ: قَاتَلَك اللَّهُ أَتَقْتُلُ الْحَرَامَ وَتُعَدِّي الْفَتَيَا وَتَقُولُ مَا عَلِمَ عُمَرُ حَتَّى سَأَلَ مَنْ إلَى جَنْبِهِ أَمَا تَقْرَأُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ, أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَالْقَاسِمَ وَسَالِمًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَأَلَ صَاحِبَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ, فَلَمَّا اتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَى شَيْءٍ حَكَمَا بِهِ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِي تَقْوِيمِ الصَّيْدِ وَمَا يَجِبُ فِيهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُسْتَهْلَكَاتِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ, كَمَا أَوْجَبَ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ الْحَكَمَيْنِ فِي تَقْوِيمِ الصَّيْدِ. وَالْحَكَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَخْتَارُ الْمُحْرِمُ مَا شَاءَ مِنْ هَدْيٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "الْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ بِمَا يَرَيَانِ مِنْ هَدْيٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ, فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ". وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَإِنَّ الْهَدْيَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِنْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَيَّهَا شَاءَ مِنْهَا. هَذَا فِي الْإِحْصَارِ, فَأَمَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يُخَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ, فَإِنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ بَدَنَةً نَحَرَهَا, وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بَدَنَةً وَبَلَغَ بَقَرَةً ذَبَحَهَا, فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ وَبَلَغَ شَاةً ذَبَحَهَا, وَإِنْ اشْتَرَى

بِالْقِيمَةِ جَمَاعَةٌ شَاءٍ أَجْزَأَهُ. وَمَنْ يُوجِبُ النَّظِيرَ مِنْ النَّعَمِ, فَإِنَّهُ إنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْهَدْيِ أَهْدَى بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ إلَّا مَا يُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ وَفِي الْإِحْصَارِ وَالْقِرَانِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "يُجْزِي الْجَفْرَةُ وَالْعَنَاقُ عَلَى قَدْرِ الصَّيْدِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ هَدْيٌ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ, وَقَدْ اتَّفَقُوا فِي سَائِرِ الْهَدَايَا الَّتِي تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِالْإِحْرَامِ أَنَّهَا لَا يُجْزِي مِنْهَا إلَّا مَا يُجْزِي فِي الْأَضَاحِيِّ, وَهُوَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَصَاعِدًا, فَكَذَلِكَ هَدْيُ جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَأَيْضًا لَمَّا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَدْيًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْقُرْآنِ, فَلَا يُجْزِي دُونَ السِّنِّ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ, وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى شَاةً فَوَلَدَتْ ذُبِحَ وَلَدُهَا مَعَهَا. فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ, وَأَمَّا وَلَدُ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ تَبَعٌ لَهَا, فَيَسْرِي الْحَقُّ الَّذِي فِي الْأُمِّ مِنْ جِهَةِ التَّبَعِ, وَلَيْسَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ مَا كَانَ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ بِالِاتِّبَاعِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَالٍ وَعِتْقُهُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ وَلَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ إيجَابِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّبَعِ وَالدُّخُولِ فِي حُكْمِ الْأُمِّ؟ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ هُوَ مُكَاتَبٌ وَهُوَ عُلُوقٌ وَلَوْ ابْتَدَأَ كِتَابَةَ الْعُلُوقِ لَمْ يَصِحَّ; وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وقَوْله تَعَالَى: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صِفَةٌ لِلْهَدْيِ, وَبُلُوغُهُ الْكَعْبَةَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْحُرْمَةِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رِبَاعُهَا لِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْكَعْبَةِ عَنْ الْحَرَمِ, وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ ; وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَمَعَالِمُ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْحَجِّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَوَاضِعِ تَقْوِيمِ الصَّيْدِ, فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "يُقَوَّمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ, فَإِنْ كَانَ فِي فَلَاةٍ فَفِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْعُمْرَانِ إلَيْهَا", وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى". وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ; لِأَنَّهُ كَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ, فَيُعْتَبَرُ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاسْتِهْلَاكُ لَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْقِيمَةُ; وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ مَكَّةَ وَمِنًى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبِقَاعِ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ, فَلَا يَجُوزُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الظَّبْيِ بِشَاةٍ وَلَمْ يَسْأَلَا السَّائِلَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُ السَّائِلُ سَأَلَ عَنْ قَتْلِهِ فِي مَوْضِعٍ عَلِمَ أَنَّ قِيمَتَهُ فِيهِ شَاةٌ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فَإِنَّهُ قُرِئَ" كَفَّارَةُ" بِالْإِضَافَةِ, وَقُرِئَ بِالتَّنْوِينِ بِلَا إضَافَةٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ الطَّعَامِ, فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءُ وَمُجَاهِدُ وَمِقْسَمُ: "يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا, فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً: "يُقَوَّمُ الْهَدْيُ ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ طَعَامًا", وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا, وَالثَّانِي قَوْلُ الشَّافِعِيِّ; وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ, فَلَمَّا كَانَ الْهَدْيُ مِنْ حَيْثُ كَانَ جَزَاءً مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ إمَّا فِي قِيمَتِهِ أَوْ فِي نَظِيرِهِ; وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِثْلَهُ; لأنه قال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} إلى قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فَجَعَلَ الطَّعَامَ جَزَاءً وَكَفَّارَةً كَالْقِيمَةِ; فَاعْتِبَارُهُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْهَدْيِ, إذْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ الصَّيْدِ وَجَزَاءٌ عَنْهُ لَا مِنْ الْهَدْيِ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقُوا فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ أَنَّ اعْتِبَارَ الطَّعَامِ إنَّمَا هُوَ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ, فَكَذَلِكَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ; لِأَنَّ الْآيَةَ مُنْتَظِمَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ, فَلَمَّا اتَّفَقُوا فِي أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ اعْتِبَارُ الطَّعَامِ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ كَانَ الْآخَرُ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَرَادَ الْإِطْعَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَلَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ, كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى; وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَمِقْسَمٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: "لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا", وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا". وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ لِأَنَّ "أَوْ" يَقْتَضِي ذَلِكَ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} , وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ رِوَايَةً; وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ مِثْلُهُ; وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ, وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ زَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ, وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَشُرَيْحٍ: "إنْ عَادَ عَمْدًا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ مِنْهُ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "كَانُوا يَسْأَلُونَ هَلْ أَصَبْت شَيْئًا قَبْلَهُ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِ, وَإِنْ قَالَ لَا حُكِمَ عَلَيْهِ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: "يُحْكَمُ عَلَيْهِ أَبَدًا". وَسَأَلَ عُمَرَ قَبِيصَةُ بْنَ جَابِرٍ عَنْ صَيْدٍ أَصَابَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ, فَسَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ أَصَبْت قَبْلَهُ

شَيْئًا. وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ, وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} يُوجِبُ الْجَزَاءَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَذِكْرُهُ الْوَعِيدَ لِلْعَائِدِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ, أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ حَدَّ الْمُحَارِبِ جَزَاءً لَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] , ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ؟ فَلَيْسَ إذًا فِي ذِكْرِ الِانْتِقَامِ مِنْ الْعَائِدِ نَفْيٌ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ. وَعَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعَائِدُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِصَيْدٍ آخَرَ قَبْلَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: "عَفَا اللَّهُ عَمَّا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَمَنْ عَادَ يَعْنِي بَعْدَ التَّحْرِيمِ" وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ صَيْدٍ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ; وَإِذَا كَانَ فِيهِ احْتِمَالُ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْعَائِدَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الِانْتِقَامُ.

فصل قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُحْرِمِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ مَا أَكَلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْغُرْمَ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِهِ, فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ رَجَعَ مِنْ الْغُرْمِ فِي مِقْدَارِ مَا أَكَلَ مِنْهُ, فَهُوَ غَيْرُ ذَائِقٍ بِذَلِكَ وَبَالَ أَمْرِهِ; لِأَنَّ مَنْ غَرِمَ شَيْئًا وَأَخَذَ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ ذَائِقًا وَبَالَ أَمْرِهِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنْ شَاءَ الْمُحْرِمُ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الطَّعَامِ يَوْمًا, وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ بَعْضٍ وَأَطْعَمَ بَعْضًا" فَأَجَازُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ, وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَعَ الْإِطْعَامِ فَلَمْ يُجِيزُوا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا, وَفَرَّقُوا أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَعْتِقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَيُطْعِمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ. فَأَمَّا الصَّوْمُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَجَازُوا الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصِّيَامَ عَدْلًا لِلطَّعَامِ وَمِثْلًا لَهُ بِقَوْلِهِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ {عَدْلُ ذَلِكَ} يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ; إذْ لَا تَشَابُهَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي قِيَامِهِ مَقَامَ الطَّعَامِ وَنِيَابَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ صَامَ بَعْضًا, فَكَأَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَجَازَ ضَمُّهُ إلَى الطَّعَامِ فَكَانَ الْجَمِيعُ طَعَامًا. وَأَمَّا الصِّيَامُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الطَّعَامِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ, فَغَيْرُ جَائِزٍ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا; إذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ, فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّعَامِ لَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ فَالصَّوْمُ فَرْضُهُ بَدَلًا مِنْهُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ, كَالْمَسْحِ عَلَى أَحَدِ الْخُفَّيْنِ وَغَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى

وَكَالتَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ وَمَا جَرَى مُجْرَى ذَلِكَ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي. امْتِنَاعِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ, وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالطَّعَامُ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَإِذَا أَعْتَقَ النِّصْفَ وَأَطْعَمَ النِّصْفَ فَهُوَ غَيْرُ فَاعِلٍ لِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يُجْزِهِ, وَالْعِتْقُ لَا يَتَقَوَّمُ فَيُجْزِي عَنْ الْجَمِيعِ بِالْقِيمَةِ, وَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَكْسُوَ خَمْسَةً وَيُطْعِمُ خَمْسَةً فَيُجْزِي بِالْقِيمَةِ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُتَقَوِّمٌ فَيُجْزِي عن أحدهما بالقيمة.

فصل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} يَنْتَظِمُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ إذَا قَتَلُوا فِي إيجَابِ جَزَاءٍ تَامٍّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ; لِأَنَّ "مَنْ" يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ فِي إيجَابِ جَمِيعِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قَدْ اقْتَضَى إيجَابَ الرَّقَبَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ إذَا قَتَلُوا نَفْسًا وَاحِدَةً; وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] وَعِيدٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93] وَعِيدٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ; وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَتَدَافَعُونَهُ, وَإِنَّمَا يَجْهَلُهُ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ, وَالدِّيَةُ إنَّمَا دَخَلَتْ فِي اللَّفْظِ حَسَبَ دُخُولِ الرَّقَبَةِ. قِيلَ لَهُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَعُمُومِهِ إيجَابُ دِيَاتٍ بِعَدَدِ الْقَاتِلِينَ, وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ, وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ قَتَلَاهُ عَمْدًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَاتِلِ لَهُ عَلَى حِيَالِهِ وَيُقْتَلَانِ جَمِيعًا بِهِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لَا يَرِثُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ بَعْضَهُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ مِمَّا قَتَلَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ؟ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَرِثَانِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَاتِلٌ لَهُ وَحْدَهُ, كَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ; إذْ كَانَتْ النَّفْسُ لَا تَتَبَعَّضُ, وَكَذَلِكَ قَاتِلُو الصَّيْدَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلصَّيْدِ عَلَى حِيَالِهِ; فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ تَامَّةٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وَجَعَلَ فِيهَا صَوْمًا, فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا, وَأَنْتَ تَقُولُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَزَاءَانِ

وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْجَزَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءَانِ وَثَلَاثَةٌ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ; وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} وَلَمْ يَقُلْ: "قَتَلُوا" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا; وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ "شَرْحِ الْمَنَاسِكِ". وَالْخَصْمُ يَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَارِنِ, فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّهُ مُحْرِمٌ عِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ, وَإِذَا صَحَّ لَنَا ذَلِكَ ثُمَّ أُدْخِلَ النَّقْصُ عَلَيْهِمَا وَجَبَ أَنْ يَجْبُرَهُمَا بِدَمَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْهَدْيَ لَا يُجْزِي إلَّا بِمَكَّةَ, وَأَنَّ بُلُوغَهُ الْكَعْبَةَ أَنْ يَذْبَحَهُ هُنَاكَ فِي الْحَرَمِ, وَأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ بَعْدَ دُخُولِهِ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَنَّ عَلَيْهِ هَدْيًا آخَرَ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ بَعْدَ بُلُوغِ الْكَعْبَةِ فَإِنْ سُرِقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَعَيَّنَتْ فِيهِ بِالذَّبْحِ, فَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا اللَّحْمِ, فَسُرِقَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ, وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّعَامِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ"; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِي إلَّا أَنْ يُعْطِيَ مَسَاكِينَ مَكَّةَ". وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ حَيْثُ شَاءَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِهِمْ, وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِمَكَانٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ, وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ فَقَدْ خَصَّ الْآيَةَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأُصُولِ صَدَقَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ, فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً وَجَبَ جَوَازُهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ قِيَاسًا عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ; وَلِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِمَكَانٍ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ, وَمَا خَرَجَ عَنْ الْأُصُولِ وَظَاهِرِ الْكِتَابِ مِنْ الْأَقَاوِيلِ فَهُوَ سَاقِطٌ مَرْذُولٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْهَدْيُ سَبِيلُهُ الصَّدَقَةُ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ قِيلَ لَهُ: ذَبْحُهُ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ, فَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَحَيْثُ شَاءَ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الصِّيَامِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَهُوَ جَزَاءٌ لِلصَّيْدِ وَلَيْسَ بِذَبْحٍ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الطَّعَامِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.

بَابُ صَيْدِ الْبَحْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: "صَيْدُهُ مَا صِيدَ طَرِيًّا بالشباك ونحوها". فأما قوله: {وَطَعَامُهُ} . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عباس

وَقَتَادَةَ قَالُوا: "مَا قَذَفَهُ مَيِّتًا". رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: "الْمَمْلُوحُ مِنْهُ". وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ; لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ إبَاحَةَ الصِّنْفَيْنِ مِمَّا صِيدَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُصَدْ, وَأَمَّا المملوح فقد تناوله قوله {صَيْدُ الْبَحْرِ} , ويكون قوله: {وَطَعَامُهُ} عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكْرَارًا لِمَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الطَّافِي لِأَنَّهُ قَدْ انْتَظَمَ مَا صِيدَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُصَدْ وَالطَّافِي لَمْ يُصَدْ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا تَأَوَّلَ السَّلَفُ قَوْلَهُ: {وَطَعَامُهُ} عَلَى مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ, وَعِنْدَنَا أَنَّ مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا فَلَيْسَ بِطَافٍ وَإِنَّمَا الطَّافِي مَا يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ حَتْفَ أَنْفِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالُوا مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا, وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ فِيهِ ثُمَّ قَذَفَهُ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ أَرَادُوا بِهِ الطَّافِيَ. قِيلَ لَهُ: وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا يَكُونُ طَافِيًا; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ فِي الْبَحْرِ بِسَبَبٍ طَرَأَ عَلَيْهِ فَقَتْلِهِ مِنْ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ طَافِيًا; وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الطَّافِي فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَدْ روي عن الحسن في قوله: {وَطَعَامُهُ} قَالَ: مَا وَرَاءَ بَحْرِكُمْ هَذَا كُلُّهُ الْبَحْرُ وَطَعَامُهُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالْحُبُوبُ رَوَاهُ أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ الْحَسَنِ; فَلَمْ يَجْعَلْ الْبَحْرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بُحُورَ الْمِيَاهِ وَجَعَلَهُ عَلَى مَا اتَّسَعَ مِنْ الْأَرْضِ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا اتَّسَعَ بَحْرًا, وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَرَسِ الَّذِي رَكِبَهُ لِأَبِي طَلْحَةَ: "وَجَدْنَاهُ بَحْرًا" أَيْ وَاسِعَ الْخَطْوِ. وَقَدْ رَوَى حَبِيبٌ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَحْرِ الْأَمْصَارَ, لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ الْبَحْرَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ بَعْضِهِمْ عَنْ عِكْرِمَةَ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] قَالَ: "الْبَرُّ الْفَيَافِيُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ, وَالْبَحْرُ الْقُرَى". وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ غَيْرُ صَحِيحٍ; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِقَوْلِهِ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَحْرُ الْمَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْبَرَّ وَلَا الْأَمْصَارَ; لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . وقوله تعالى: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ قَالُوا مَنْفَعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ اقتضى قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إبَاحَةَ صَيْدِ الْأَنْهَارِ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي النَّهْرَ بَحْرًا, وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] , وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْبَحْرِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَاؤُهُ مِلْحًا, إلَّا أَنَّهُ إذَا جَرَى ذِكْرُهُ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْلَةِ انْتَظَمَ الْأَنْهَارَ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَالْمَقْصَدُ فِيهِ صَيْدُ الْمَاءِ, فَسَائِرُ حَيَوَانِ الْمَاءِ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ, وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يَحْتَجُّ بِهِ مِنْ يُبِيحُ أَكَلَ جَمِيعِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ; وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ, وَاَللَّهُ أعلم

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكُ", وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيُّ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ الضُّفْدَعِ وَحَيَّةِ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ", وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ; وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الثَّوْرِيُّ, قَالَ الثَّوْرِيُّ: "وَيُذْبَحُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ "صَيْدُ الْبَحْرِ كُلُّهُ حَلَالٌ", وَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَيْسَ بِمَيْتَةِ الْبَحْرِ بَأْسٌ وَكَلْبُ الْمَاءِ وَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ فَرَسُ الْمَاءِ, وَلَا يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ حِلٌّ كُلُّهُ وَأَخْذُهُ ذَكَاتُهُ, وَلَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ". وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ حَيَوَانَ الْمَاءِ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَهُوَ عَلَى جَمِيعِهِ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنْهُ. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر} إنَّمَا هُوَ عَلَى إبَاحَةِ اصْطِيَادِ مَا فِيهِ لِلْمُحْرِمِ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَكْلِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ بَيَانِ اخْتِلَافِ حُكْمِ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمُ مَصْدَرٍ, وَهُوَ اسْمٌ لِلِاصْطِيَادِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَصِيدِ, أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: "صِدْت صَيْدًا"؟ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْدَرًا كَانَ اسْمًا لِلِاصْطِيَادِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الصَّائِدِ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصِيدِ, إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ; لِأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفِعْلِ, وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَ جَمِيعَ حَيَوَانِ الْمَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ" , فَخَصَّ مِنْ الْمَيْتَاتِ هَذَيْنِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} هُوَ هَذَانِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ مَا عَدَاهُمَا قَدْ شَمِلَهُ عُمُومُ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي مَيْتَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُ حَصْرَهُ الْمُبَاحَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ دَلَالَةً عَلَى حَظْرِهِ مَا عَدَاهُ. وَأَيْضًا لَمَّا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَيْتَاتِ دَلَّ تَفَرُّقُهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهِمَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3, البقرة: 173, النحل:115] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ كَهُوَ فِي خِنْزِيرِ الْبَرِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ خِنْزِيرَ الْمَاءِ إنَّمَا يُسَمَّى حِمَارُ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: إنْ سَمَّاهُ إنْسَانٌ حِمَارًا لَمْ يَسْلُبْهُ ذَلِكَ اسْمَ الْخِنْزِيرِ الْمَعْهُودِ لَهُ فِي اللُّغَةِ, فَيَنْتَظِمُهُ عُمُومُ التَّحْرِيمِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عن سعيد بن خالد عن سعيد بن الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وذكر

الضفدع يكون في الدواء, فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ وَالضُّفْدَعُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ, وَلَوْ كَانَ أَكْلُهُ جَائِزًا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ سَائِغًا لَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ, وَلَمَّا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الضُّفْدَعِ بِالْأَثَرِ, كَانَ سَائِرُ حَيَوَانِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ بِمَثَابَتِهِ, لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَاحْتَجَّ الَّذِينَ أَبَاحُوهُ بِمَا رَوَى مَالِكٌ بْنُ أَنَسٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ سَلِمَةَ الزُّرَقِيِّ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". وَسَعِيدٌ بْنُ سَلِمَةَ مَجْهُولٌ لَا يُقْطَعُ بِرِوَايَتِهِ, وَقَدْ خُولِفَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ, فَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْعَلَوِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ الْمُدْلَجِي عَنْ الْفَرَّاسِي, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ يَعْنِي ابْنُ حَازِمٍ عَنْ ابْنِ مِقْسَمٍ يَعْنِي عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ لَا يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ, وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: "أُحِلَّتْ لَنَا مِيتَتَانِ". وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ حَيَوَانَ الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا يَمُوتُ فِيهِ, وَذَلِكَ يَعُمُّ ظَاهِرُهُ حَيَوَانَ الْمَاءِ وَالْبِرِّ جَمِيعًا إذَا مَاتَا فِيهِ, وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ, فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ السَّمَكَ خَاصَّةً مَا سِوَاهُ; إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْعُمُومَ وَلَا يَصِحُّ اعْتِقَادُهُ فِيهِ. وَاحْتَجَّ الْمُبِيحُونَ لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي جَيْشِ الْخَبَطُ وَأَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى لَهُمْ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ, فَأَكَلُوا مِنْهَا ثُمَّ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِيهِ"؟ وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا; لِأَنَّ جَمَاعَةً قَدْ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ وَذَكَرُوا فِيهِ أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى حُوتًا يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ, فَأَخْبَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ حُوتًا وَهُوَ السَّمَكُ, وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى إبَاحَةِ مَا سِوَاهُ.

بَابُ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدِ الْحَلَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُمَا كَرِهَا لِلْمُحْرِمِ أَكَلَ صَيْدٍ اصْطَادَهُ حَلَالٌ" إلَّا أَنَّ إسْنَادَ حَدِيثِ عَلِيٍّ لَيْسَ بِقَوِيٍّ, يَرْوِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ, وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقِفُهُ بَعْضُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَبِي قَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ إبَاحَتُهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي قتادة

وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: أَصَبْت حِمَارَ وَحْشٍ, فَقُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ: إنِّي أَصَبْت حِمَارَ وَحْشٍ وَعِنْدِي مِنْهُ فَضْلَةٌ, فَقَالَ لِقَوْمِ: "كُلُوا وَهُمْ مُحْرِمُونَ". وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ عَقَرَ أَبُو قَتَادَةَ حِمَارَ وَحْشٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ وَهُوَ حَلَالٌ, فَأَكَلْنَا مِنْهُ وَمَعَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصْطَادُ لَكُمْ". وَقَدْ رُوِيَ فِي إبَاحَتِهِ أَخْبَارٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا لِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ حَظَرَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وَعُمُومُهُ يَتَنَاوَلُ الِاصْطِيَادَ وَالْمَصِيدَ نَفْسَهُ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا, وَمَنْ أَبَاحَهُ ذَهَبَ إلَى قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} إذْ كَانَ يَتَنَاوَلُ الِاصْطِيَادَ وَتَحْرِيمَ الْمَصِيدِ نَفْسِهِ, فَإِنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ إنَّمَا يُسَمَّى صَيْدًا مَا دَامَ حَيًّا وَأَمَّا اللَّحْمُ فَغَيْرُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ, فَإِنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَيْدًا, فَأَمَّا اسْمُ الصَّيْدِ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَى اللَّحْمِ حَقِيقَةً. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَمْ يَنْتَظِمْ اللَّحْمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ فِي اللَّحْمِ بِالْإِتْلَافِ وَالشِّرَى وَالْبَيْعِ وَسَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ سِوَى الْأَكْلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ, وَلَوْ كَانَ عُمُومُ الْآيَةِ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ الْأَكْلِ كَهُوَ إذَا كَانَ حَيًّا وَلَوْ كَانَ عَلَى مُتْلِفِهِ إذَا كَانَ مُحْرِمًا ضَمَانُهُ كَمَا يَلْزَمُ ضَمَانَ إتْلَافِ الصَّيْدِ الْحَيِّ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} يَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ سَائِرِ أَفْعَالِنَا فِي الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ بَيْضُ الصَّيْدِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا وَلَا مُسَمًّى صَيْدًا, فَكَذَلِكَ لَحْمُهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ إتْلَافِ لَحْمِ الصَّيْدِ وَلَوْ أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ, وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ إتْلَافِ الْبَيْضِ وَالْفَرْخِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَيْضَ وَالْفَرْخَ قَدْ يَصِيرَانِ صَيْدًا مُمْتَنِعًا فَحَكَمَ لَهُمَا بِحُكْمِ الصَّيْدِ, وَلَحْمُ الصَّيْدِ لَا يَصِيرُ صَيْدًا بِحَالٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لُحُومِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ; إذْ لَيْسَ بِصَيْدٍ فِي الْحَالِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ صَيْدٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّا لَمْ نُحَرِّمْ الْفَرْخَ وَالْبَيْضَ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا حَرَّمْنَاهُمَا بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بن جثامة أنه أهدى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ غَيْرِهَا لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ, فَرَأَى فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ, فَقَالَ: "لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْك وَلَكِنَّا حُرُمٌ" , وَخَالَفَهُ مَالِكٌ, فَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ عَنْ الصَّعْبِ بْن جَثَّامَةَ, أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ حِمَارَ وَحْشٍ, فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ". قَالَ ابْنُ

إدْرِيسَ: فَقِيلَ لِمَالِكٍ: إنَّ سُفْيَانَ يَقُولُ رِجْلٌ حِمَارَ وَحْشٍ؟ فَقَالَ: ذَاكَ غُلَامٌ ذَاكَ غُلَامٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادٍ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ, وَقَالَ فِيهِ: إنَّهُ أَهْدَى لَهُ حِمَارَ وَحْشٍ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ, فَرَدَّهُ وَقَالَ: "لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ لَقَبِلْنَاهُ مِنْك" , فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وَهَاءِ حَدِيثِ سُفْيَانَ, وَأَنَّ الصَّحِيحَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ لِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ, وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو مُعَاوَمَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ جَابِرٍ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُحْرِمٍ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ يَأْكُلُ مِنْهُ, فَقَالَ: "احْسِبُوا لَهُ" قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: يَعْنِي إنْ كَانَ صِيدَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ فَيَأْكُلُ وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إذَا صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ أَعَانَهُ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ. قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} الْآيَةُ. قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ قِوَامًا لِمَعَايِشِهِمْ وَعِمَادًا لَهُمْ, مِنْ قَوْلِهِمْ: "هُوَ قِوَامُ الْأَمْرِ وَمَلَاكُهُ" وَهُوَ مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُهُ, فَهُوَ قِوَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: "قِوَامًا لِلنَّاسِ صَلَاحًا لَهُمْ" وَقِيلَ: "قِيَامًا لِلنَّاسِ" أَيْ تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ لَأَمْنِهِمْ بِهِ فِي التَّصَرُّفِ لِمَعَايِشِهِمْ, فَهُوَ قِوَامُ دِينِهِمْ لَمَا فِي الْمَنَاسِكِ مِنْ الزَّجْرِ عَنْ الْقَبِيحِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْحَسَنِ, وَلِمَا فِي الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ الْأَمْنِ, وَلِمَا فِي الْحَجِّ وَالْمَوَاسِمِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ مِنْ الْآفَاقِ فِيهَا مِنْ صَلَاحِ الْمَعَاشِ, وَفِي الْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ مُقَلَّدًا كَانُوا لَا يَعْرِضُونَ لَهُ; وَقِيلَ: إنَّ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَقَلَّدُ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَيَأْمَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْقَلَائِدُ مِنْ تَقْلِيدِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالنِّعَالِ وَالْخِفَافِ" فَهَذَا عَلَى صَلَاحِ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي الدِّينِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْلِيدَ الْبَدَنِ قِرْبَةٌ وَكَذَلِكَ سَوْقُ الْهَدْيِ. وَالْكَعْبَةُ اسْمٌ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ قَالَ مُجَاهِدُ وَعِكْرِمَةُ: "إنَّمَا سُمِّيَتْ كَعْبَةٌ لَتَرْبِيعِهَا", وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إنَّمَا قِيلَ كَعْبَةُ الْبَيْتِ فَأُضِيفَتْ لِأَنَّ كَعْبَتَهُ تَرَبُّعُ أَعْلَاهُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ الْكُعُوبَةِ وَهُوَ النُّتُوُّ, فَقِيلَ لِلتَّرْبِيعِ كَعْبَةٌ لِنُتُوِّ زَوَايَا الْمُرَبَّعِ, وَمِنْهُ كَعَبَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا نَتَأَ, وَمِنْهُ كَعْبُ الْإِنْسَانِ لِنُتَوِّهْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْتَهِي إلَيْهِمَا الْغَسْلُ فِي الْوُضُوءِ هُمَا النَّاتِئَانِ عَنْ جَنْبَيْ أَصْلِ السَّاقِ. وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْبَيْتَ حَرَامًا لِأَنَّهُ أَرَادَ الْحَرَمَ كُلَّهُ لِتَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَخَلَاهُ وَتَحْرِيمُ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ, وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ" فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَاحِدِ; لِأَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْسَ, وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ, وَوَاحِدٌ فَرْدٌ وَهُوَ رَجَبُ; فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الشَّهْرَ الحرام

قِيَامًا لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمَنُونَ فِيهَا وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا فِي مَعَايِشِهِمْ, فَكَانَ فِيهِ قِوَامُهُمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِوَامِ النَّاسِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْحَرَمَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمِ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ مِنْ ابْتِدَاءِ وَقْتِ الْحَجِّ فِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى آخِرِ الدَّهْرِ, فَلَا تَرَى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ صَلَاحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَا تَعَلَّقَ بِالْحَجِّ, أَلَا تَرَى إلَى كَثْرَةِ مَنَافِعِ الْحَاجِّ فِي الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَرِدُونَ عَلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ الَّتِي يَجْتَازُونَ بِمِنًى وَبِمَكَّةَ إلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى أَهَالِيِهِمْ وَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِمْ وَكَثْرَةِ مَعَايِشِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ مَعَهُمْ, ثُمَّ مَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ مِنْ التَّأَهُّبِ لِلْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ وَإِحْدَاثِ التَّوْبَةِ وَالتَّحَرِّي لَأَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ مِنْ أَحَلِّ مَالِهِ, ثُمَّ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي السَّفَرِ إلَيْهِ وَقَطْعِ الْمَخَاوِفِ وَمُقَاسَاةِ اللُّصُوصِ وَالْمُحْتَالِينَ فِي مَسِيرِهِمْ إلَى أَنْ يَبْلُغُوا مَكَّةَ, ثُمَّ الْإِحْرَامِ وَالتَّجَرُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّشَبُّهِ بِالْخَارِجِينَ يَوْمَ النُّشُورِ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ, ثُمَّ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّلْبِيَةِ وَاللَّجَأِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَالتَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِهِ مُوقِنًا بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُ غَيْرُهُ, كَالْغَرِيقِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَا يَرْجُو بِهِ النَّجَاةَ وَأَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ إلَّا بِالتَّمَسُّكِ بِهِ, ثُمَّ إظْهَارِ التَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللَّهِ الَّذِي مَنْ تَمَسَّك بِهِ نَجَا وَمَنْ حَادَ عَنْهُ هَلَكَ, ثُمَّ حُضُورِ الْمَوْقِفِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَقْدَامِ دَاعِينَ رَاجِينَ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَخَلِّفِينَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا تَارِكِينَ لَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَهَالِيِهِمْ عَلَى نَحْوِ وُقُوفِهِمْ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ, وَمَا فِي سَائِرِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مِنْ الذِّكْرِ وَالْخُشُوعِ وَالِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى, ثُمَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ سَائِرِ الْقُرَبِ الَّتِي هِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقُرُبَاتِ وَالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ, وَمَا لَوْ اسْتَقْصَيْنَا ذِكْرَهُ لَطَالَ بِهِ الْقَوْلُ; فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إخْبَارٌ عَنْ عِلْمِهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ شَرِيعَةُ الْحَجِّ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا, فَدَبَّرَهُ هَذَا التَّدْبِيرَ الْعَجِيبَ وَانْتَظَمَ بِهِ صَلَاحُ الْخَلْقِ مِنْ أَوَّلِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِالْغَيْبِ وَبِالْأَشْيَاءِ كُلٌّ قَبْلَ كَوْنِهَا لَمَا كَانَ تَدْبِيرُهُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مُؤَدِّيًا إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ صَلَاحِ عِبَادِهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ فِعْلُ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ عَلَى نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ نَفْعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . رَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضْبَانَ قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ, فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلَّا أَجَبْتُكُمْ" فَقَامَ إلَيْهِ رِجْلٌ فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ فَقَالَ: فِي النَّارِ فَقَامَ إلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: "أَبُوك حُذَافَةُ" فَقَامَ عُمَرُ

فَقَالَ: رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا; فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . رَوَى إبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيُّ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوَ ذَلِكَ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ مَنْ أَبِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فِي الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَقَالَ مِقْسَمٌ: فِيمَا سَأَلَتْ الْأُمَمُ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنْ الْآيَاتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ تَصْحِيحُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ, فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: "لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلَّا أَجَبْتُكُمْ" سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ عَنْ أَبِيهِ مَنْ هُوَ, لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُتَكَلَّمُ فِي نَسَبِهِ, وَسَأَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الَّذِينَ ذُكِرَ عَنْهُمْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى اخْتِلَافِهَا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} يَعْنِي عَنْ مِثْلِهَا; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إلَيْهَا; فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَدْ كَانَ نَسَبُهُ مِنْ حُذَافَةَ ثَابِتًا بِالْفِرَاشِ, فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ كَوْنِهِ مِنْ مَاءِ مَنْ هُوَ مِنْهُ, وَلِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ فَيَكْشِفُ عَنْ أَمْرٍ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَهْتِكُ أُمَّهُ وَيَشِينُ نَفْسَهُ بِلَا طَائِلٍ وَلَا فَائِدَةٍ لَهُ فِيهِ, لِأَنَّ نَسَبُهُ حِينَئِذٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ ثَابِتٌ مِنْ حُذَافَةَ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ, فَلِذَلِكَ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ عَقَقْتنِي بِسُؤَالِك, فَقَالَ: لَمْ تَسْكُنْ نَفْسِي إلَّا بِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. فَهَذَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي كَانَ ضَرَرُ الْجَوَابِ عَنْهَا عَلَيْهِ كَانَ كَثِيرًا لَوْ صَادَفَ غَيْرَ الظَّاهِرِ, فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَتَى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله, فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَةً أَقَمْنَا عَلَيْهِ كتاب الله" قال لِهُزَالٍ1 وَكَانَ أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا: "لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك" وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَنَا؟ قَدْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالسِّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا فَهَتَكَ سِتْرَهُ وَقَدْ كَانَ السِّتْرُ أُولَى بِهِ. وَكَذَلِكَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ الْآيَاتِ مَعَ ظُهُورِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ مَنْهِيٌّ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ; لِأَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِأَهْوَاءِ الْكُفَّارِ وَشَهَوَاتِهِمْ. فَهَذَا النَّحْوُ مِنْ الْمَسَائِلِ مُسْتَقْبَحَةٌ مَكْرُوهَةٌ, وَأَمَّا سُؤَالُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ فَقَدْ كَانَ عَلَى سَامِعِ آيَةِ الْحَجِّ الِاكْتِفَاءُ بِمُوجِبِ حُكْمِهَا مِنْ إيجَابِهَا حَجَّةً وَاحِدَةً, وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّهَا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ نَعَمْ لَوَجَبَتْ بِقَوْلِهِ دُونَ الْآيَةِ, فَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الْمَسْأَلَةِ مَعَ إمْكَانِ الِاجْتِزَاءِ بِحُكْمِ الْآيَةِ. وَأَبْعَدُ هَذِهِ التأويلات قول من ذكر أنه

_ 1 قوله: "لهزال" بفتح الهاء والزاي المنقوطة الشديدية, ابن يزيد الصحابي, كذا في شرح الموطأ للزرقاني في كتاب الحدود. "لمصححه".

سُئِلَ عَنْ الْبُحَيْرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ عَنْ مَعْنَى الْبُحَيْرَةِ مَا هُوَ أَوْ عَنْ جَوَازِهَا. وَقَدْ كَانَتْ الْبُحَيْرَةُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا أَسْمَاءٌ لِأَشْيَاءَ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا; وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ إبَاحَتِهَا وَجَوَازِهَا, لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ كُفْرًا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى أَوْثَانِهِمْ, فَمَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ فَقَدْ عَلِمَ بُطْلَانَهُ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمٌ فِي حَظْرِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ, وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ, لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِهَا إلَى النَّهْيِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَشْيَاءَ أَخْفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَاسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا وَهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إلَيْهَا بَلْ عَلَيْهِمْ فِيهَا ضَرَرٌ إنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ, كَحَقَائِقِ الْأَنْسَابِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" فَلَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ عَنْ حَقِيقَةِ خَلْقِهِ مِنْ مَاءِ مَنْ هُوَ دُونَ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ نِسْبَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ, نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى كَشْفِ عَيْبِهِ فِي كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ, وَكَسُؤَالِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي فَحْوَى الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَظْرَ تَعَلَّقَ بِمَا وَصَفْنَا. قَوْله تَعَالَى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} يَعْنِي الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَأَعْطَاهُمْ اللَّهُ إيَّاهَا. وَهَذَا تَصْدِيقُ تَأْوِيلِ مِقْسَمٍ. فَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ أَحْكَامٍ غَيْرِ مَنْصُوصَةٍ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي حَظْرِ الْآيَةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ الْبُدْنَ لِيَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ قَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: "انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَتَهَا وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك شَيْئًا" وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَهُ. وَفِي حَدِيثِ رَافِعٍ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى, فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَمَّا يَصْنَعُ فِي عُمْرَتِهِ, فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي سُؤَالِ قَوْمٍ سَأَلُوهُ عَنْ أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ فِيمَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى أَحَدٍ. وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ عَنْ مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ أَمْرٍ وَيَمْنَعُنِي مَكَانُ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} , فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْت: الْعَمَلُ الَّذِي يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "قَدْ سَأَلْت عَظِيمًا وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ" فَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّؤَالَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ الْأَحْنَفِ

عَنْ عُمَرَ قَالَ: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا", وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَذَاكَرُونَ حَوَادِثَ الْمَسَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ, وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ جَرَى أَمْرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ هَذَا قَوْمٌ حَشْوٌ جُهَّالٌ قَدْ حَمَلُوا أَشْيَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِمَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا فَعَجَزُوا عَنْ الْكَلَامِ فِيهَا وَاسْتِنْبَاطِ فِقْهِهَا, وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُنْكِرَةُ لِذَلِكَ كَمَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] . وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} مَعْنَاهُ: إنْ تَظْهَرْ لَكُمْ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِيمَنْ سَأَلَ مِثْلَ سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ وَالرَّجُلِ الَّذِي قَالَ أَيْنَ أَنَا; لِأَنَّ إظْهَارَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لَا يَسُوءُ السَّائِلِينَ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْأَلُونَ عَنْهَا لِيَعْلَمُوا أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} يَعْنِي: فِي حَالِ نُزُولِ الْمَلَكِ وَتِلَاوَتِهِ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يُظْهِرُهَا لَكُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُكُمْ وَيَضُرُّكُمْ. وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} يَعْنِي هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يُؤَاخِذْكُمْ اللَّهُ بِهَا بِالْبَحْثِ عَنْهَا وَالْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِهَا. وَالْعَفْوُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّسْهِيلُ وَالتَّوَسُّعَةُ فِي إبَاحَةِ تَرْكِ السُّؤَالِ عَنْهَا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] وَمَعْنَاهُ: سَهَّلَ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْحَلَالُ مَا أَحِلَّ اللَّهُ, وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ, وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ" يَعْنِي تَسْهِيلٌ وَتَوَسُّعَةٌ; وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ". قَوْله تَعَالَى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "قَوْمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا". وَقَالَ غَيْرُهُ: "قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا وَكَفَرُوا بِهَا". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "هَذَا حِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَوِّلَ لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا". وَقِيلَ إنَّ قَوْمًا سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَمَنْ قَالَ أَيْنَ أَنَا فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ سَاءَهُمْ فَكَذَّبُوا بِهِ وَكَفَرُوا. قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "الْبُحَيْرَةُ مِنْ الْإِبِلِ يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ, وَالسَّائِبَةُ مِنْ الْإِبِلِ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لَطَوَاغِيتِهِمْ, وَالْوَصِيلَةُ كَانَتْ النَّاقَةُ تُبَكِّرُ بِالْأُنْثَى ثُمَّ تُثْنِي بِالْأُنْثَى فَيُسَمُّونَهَا الْوَصِيلَةَ يَقُولُونَ وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ, فَكَانُوا يَذْبَحُونَهَا لَطَوَاغِيتِهِمْ, وَالْحَامِي الْفَحْلُ مِنْ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ يُقَالُ حَمَى ظَهْرَهُ فَيُتْرَكُ

فَيُسَمُّونَهُ الْحَامِيَ". وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْبُحَيْرَةُ النَّاقَةُ الَّتِي تُشَقُّ أُذُنُهَا, يُقَالُ: بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ أَبَحَرُهَا بَحْرًا, وَالنَّاقَةُ مَبْحُورَةٌ وَبُحَيْرَةٌ, إذَا شَقَقْتهَا وَاسِعًا; وَمِنْهُ الْبَحْرُ لَسَعَتِهِ; قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ الْبُحَيْرَةَ, وَهِيَ أَنْ تُنْتَجَ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ يَكُونُ آخِرُهَا ذَكَرًا بَحَرُوا أُذُنَهَا وَحَرَّمُوهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ رُكُوبِهَا وَنَحْرِهَا وَلَمْ تُطْرَدْ عَنْ مَاءٍ وَلَمْ تُمْنَعْ عَنْ مَرْعًى, وَإِذَا لَقِيَهَا الْمَعْيِيُّ لَمْ يَرْكَبْهَا; قَالَ: وَالسَّائِبَةُ الْمِخْلَاةُ وَهِيَ الْمُسَيِّبَةُ, وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ لِقُدُومٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ بُرْءٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ قَالَ: "نَاقَتِي سَائِبَةٌ" فَكَانَتْ كَالْبُحَيْرَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّخْلِيَةِ, وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا فَقَالَ: "هُوَ سَائِبَةٌ" لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْلٌ وَلَا وَلَاءٌ وَلَا مِيرَاثٌ. فَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ ذَكَرَ أَنَّهَا الْأُنْثَى مِنْ الْغَنَمِ إذَا وَلَدَتْ مَعَ ذَكَرٍ قَالُوا: "وَصَلَتْ أَخَاهَا" فَلَمْ يَذْبَحُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ الشَّاةُ إذَا وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ لَهُمْ, وَإِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ لَآلِهَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ, وَإِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: "وَصَلَتْ أَخَاهَا" فَلَمْ يَذْبَحُوهُ لَآلِهَتِهِمْ; وَقَالُوا: الْحَامِي الْفَحْلُ مِنْ الْإِبِلِ إذَا نَتَجَتْ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَةَ أَبْطُنٍ قَالُوا: "حَمَى ظُهْرَهُ" فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَاءٍ وَلَا مَرْعًى. وَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْبُحَيْرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ عِتْقِ السَّائِبَةِ عَلَى مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَائِبَةٌ فَلَا وَلَاءَ لَهُ مِنْهُ وَوَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَلا سَائِبَةٍ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا وَيُبَيِّنُهُ.

بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ, وَبَيْنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْهُ فِيهِ, وَأَجْمَعَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى وُجُوبِهِ, وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ مِنْ التَّقِيَّةِ يَسَعُ مَعَهَا السُّكُوتُ. فَمِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: وَاصْبِرْ عَلَى مَا سَاءَك مِنْ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى لَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِهِ لِنَقْتَدِيَ بِهِ وَنَنْتَهِيَ إلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا مَدَحَ بِهِ سَالِفَ الصَّالِحِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112] إلَى قَوْلِهِ: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] , وَقَالَ تَعَالَى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "مَا مِنْ رِجْلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُوا إلَّا أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا". فَأَحْكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَرُبَّمَا ظَنَّ مَنْ لَا فِقْهَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَوْ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ, وَتَأَوَّلَ فِيهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا يَظُنُّ هَذَا الظَّانُّ لَوْ تَجَرَّدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَنْ قَرِينَةٍ, وَذَلِكَ لأنه قال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي: احْفَظُوهَا لَا يَضُرُّ كُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ; وَمِنْ الِاهْتِدَاءِ اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ فِي أَنْفُسِنَا وَفِي غَيْرِنَا, فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا إذًا عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ وَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى, فَمِنْهَا مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِي عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي أَرَاكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ النَّاسَ إذَا عُمِلَ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي وَلَمْ يُغَيِّرُوا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ" ; فَأَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا رُخْصَةَ فِيهَا فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَى هُوَ بِالْقِيَامِ بِفَرْضِ اللَّهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: "يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ", وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: {مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ ضَلَّ مِنْ غَيْرِهِمْ} . فَكَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَقَرُّوا وَلَا يَجُوزُ لَنَا نَقْضُ عَهْدِهِمْ بِإِجْبَارِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ, فَهَذَا لَا يَضُرُّنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ. وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ مِنْ

الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ وَالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ, فَهَذَا عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ تَغْيِيرُهُ وَالْإِنْكَارُ عَلَى فَاعِلِهِ عَلَى مَا شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَدَّمْنَا. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَتَبَةَ بْن أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا, سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ, الصَّبْرُ فِيهِ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ" قَالَ: وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ" وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَتْ الْحَالُ مَا ذَكَرَ; لِأَنَّ ذِكْرَ تِلْكَ الْحَالِ تُنَبِّئُ عَنْ تَعَذُّرِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ لِشُيُوعِ الْفَسَادِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى الْعَامَّةِ, وَفَرْضُ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إنْكَارُهُ بِالْقَلْبِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ" فَكَذَلِكَ إذَا صَارَتْ الْحَالُ إلَى مَا ذَكَرَ كَانَ فَرْضُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ لِلتَّقِيَّةِ وَلِتَعَذُّرِ تَغْيِيرِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ إخْفَاءُ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ إظْهَارِهِ تَقِيَّةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] فَهَذِهِ مَنْزِلَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ عَنْ عَبَّادِ الْخَوَاصِّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرِو الشَّيْبَانِيِّ, أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَكَعْبًا كَانَا جَالِسَيْنِ بِالْجَابِيَةِ, فَأَتَاهُمَا آتٍ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الْيَوْمَ أَمْرًا كَانَ حَقًّا عَلَى مَنْ يَرَاهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ فَقَالَ رِجْلٌ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} , فَقَالَ كَعْبُ: إنَّ هَذَا لَا يَقُولُ شَيْئًا, ذُبَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَذُبُّ عَنْ عَائِلَتِك حَتَّى يَأْتِيَ تَأْوِيلُهَا. فَانْتَبَهَ لَهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: مَتَى يَأْتِي تَأْوِيلُهَا؟ فَقَالَ: إذَا هُدِمَتْ كَنِيسَةُ دِمَشْقَ وَبُنِيَ مَكَانَهَا مَسْجِدٌ فَذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِهَا, وَإِذَا رَأَيْت الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ فَذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِهَا; وَذَكَرَ خَصْلَة ثَالِثَةً لَا أَحْفَظُهَا, فَذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِهَا. قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: وَكَانَ هَدْمُ الْكَنِيسَةِ بِعَهْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ; أَدْخَلَهَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَزَادَ فِي سَعَتِهِ بِهَا. وَهَذَا أَيْضًا عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ دُونَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ لِلتَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ.

مطلب: في ذم الحججاج الظالم وَلَعَمْرِي إنَّ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجِ وَالْوَلِيدِ وَأَضْرَابِهِمْ كَانَتْ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا فَرْضُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْيَدِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا مَاتَ قَالَ الْحَسَنُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ فَاقْطَعْ سُنَّتَهُ فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشُ أُعَيْمِشُ1 يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ وَاَللَّهِ مَا عَرَقِ فِيهَا عِنَانٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, يُرَجِّلُ جَمَّتَهُ وَيَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْذِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ, لَا مِنْ اللَّهِ يَتَّقِي وَلَا مِنْ النَّاسِ يَسْتَحِيُ, فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لَا يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الرَّجُلُ" ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: "هَيْهَاتَ وَاَللَّهُ حَالٌ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفِ وَالسَّوْطِ" وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: "خَرَجَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْهَاجِرَةِ فَمَا زَالَ يَعْبُرُ مَرَّةً عَنْ أَهْلِ الشَّامِ يَمْدَحُهُمْ وَمَرَّةً عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَذُمُّهُمْ حَتَّى لَمْ نَرَ مِنْ الشَّمْسِ إلَّا حُمْرَةً عَلَى شُرَفِ الْمَسْجِدِ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ فَصَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ, ثُمَّ أُذِّنَ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ, ثُمَّ أُذِّنَ فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ, فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ يَوْمَئِذٍ". فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي تَرْكِ النَّكِيرِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ. وَقَدْ كَانَ فُقَهَاءُ التَّابِعِينَ وَقُرَّاؤُهُمْ خَرَجُوا عَلَيْهِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ إنْكَارًا مِنْهُمْ لَكُفْرِهِ وَظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ, فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ تِلْكَ الْحُرُوبُ الْمَشْهُورَةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَوَطِئَهُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا يَأْتِيهِ إلَّا بِقَلْبِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, أَنَّهُ ذَكَرَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فَقَالَ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ, إنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حِينَ أُنْزِلَ وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ, وَكَانَ مِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ, وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ, وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ عِنْدَ السَّاعَةِ, وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, قَالَ: فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فأمروا بالمعروف

_ 1 قوله" "أخيفش إلى آخره" يقرب منه ما ذكره أبو سليمان الخطابي في غريب الحديث حيث قال إن الحجاج أرسل إلى الحسن رحمه الله تعالى فأدخل عليه فلما خرج من عنده قال: دخلت على أحيول يطرطب شعيرات له فأخرج إلي بنان قصيرة قل ما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله, قال أبو سليمان: قوله: يطرطب شعيرلت له أي ينفخ بشفتيه في شاربه غيصظا أو كبرا والأصل في الطرطبة الدخاء بالضأن والصفير لها بالشفتين. ومثله في الفائق للزمخشري في "ط ر ب" وقال: والمعنى يستخف شاربه ويحركه في كلامه وقيل ينفخ بشفتيه إلى آخرهخ. "لمصححه".

وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ, فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَلُبِّسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ عِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي عَبْدُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: "لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ" أَنَّ النَّاسَ فِي عَصْرِهِ كَانُوا مُمَكَّنِينَ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ لِصَلَاحِ السُّلْطَانِ وَالْعَامَّةِ وَغَلَبَةِ الْأَبْرَارِ لِلْفُجَّارِ, فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ, ثُمَّ إذَا جَاءَ حَالُ التَّقِيَّةِ وَتَرْكُ الْقَبُولِ وَغَلَبَتْ الْفُجَّارُ سُوِّغَ السُّكُوتُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَعَ الْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ; وَقَدْ يَسَعُ السُّكُوتُ أَيْضًا فِي الْحَالِ الَّتِي قَدْ عَلِمَ فَاعِلُ الْمُنْكَرِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَحْظُورًا وَلَا يُمْكِنُ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ وَيُغَلَّبُ فِي الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إذَا قُتِلَ, فَحِينَئِذٍ يَسَعُ السُّكُوتُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ: قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ, فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. فَأَخْبَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ السُّكُوتِ إذَا رُدَّتْ وَلَمْ تُقْبَلْ, وَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إبَاحَتُهُ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ إمْكَانِ تَغْيِيرِهِ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْهَلِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَعُمَّكُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: جَاءَ رِجْلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنِّي أَعْمَلُ بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا إلَّا خَصْلَتَيْنِ, قَالَ: وَمَا هُمَا؟ قَالَ: لَا آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ, قَالَ: لَقَدْ طَمَسْت سَهْمَيْنِ مِنْ سِهَامِ الْإِسْلَامِ, إنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَ لَك وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَك. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرِيضَتَانِ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى كَتَبَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَخْبَرُونِي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَتْ ابْنُ شُبْرُمَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ مَرَّ, وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَمْ يَفِرَّ" فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا, لَا يَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنْ اثْنَيْنِ أَنْ يَأْمُرَهُمَا أَوْ يَنْهَاهُمَا. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلًا فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ مكحول في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} : إذَا هَابَ الْوَاعِظُ وَأَنْكَرَ الْمَوْعُوظُ فَعَلَيْك حِينَئِذٍ نَفْسَك لَا يَضُرُّك مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتَ, والله الموفق.

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ هَهُنَا, فَقَالَ قَائِلُونَ: "هِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ" وَأَجَازُوا بِهَا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا تُوفِيَ بِدُقُوقَا وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيتِهِ, فَأَشْهَدْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَأَحْلَفَهُمَا أَبُو مُوسَى بَعْدَ الْعَصْرِ بِاَللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا, وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتِرْكَتِهِ; فَأَمْضَى أَبُو مُوسَى شَهَادَتَهُمَا وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "مَعْنَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} حُضُورُ الْوَصِيَّيْنِ, مِنْ قَوْلِك شَهِدْته إذَا حَضَرْته". وَقَالَ آخَرُونَ: "إنَّمَا الشَّهَادَةُ هُنَا أَيْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِاَللَّهِ إذَا ارْتَابَ الْوَرَثَةُ بِهِمَا", وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى إلَى أَنَّهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ, وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ; وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ شُرَيْحٍ, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدَةَ وَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : "مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ: "مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ". فَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْيَمِينِ دُونَ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُقَامُ عِنْدَ الْحُكَّامِ, فَقَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ, وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةٌ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ الشَّهَادَةُ الْمُتَعَارِفَةُ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رجالكم} {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كُلُّ ذَلِكَ قَدْ عُقِلَ بِهِ الشَّهَادَاتُ عَلَى الْحُقُوقِ لَا الأيمان; وكذلك قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الْمَفْهُومُ فِيهِ الشَّهَادَةُ الْمُتَعَارَفَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيْمَانَ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ لِأَنَّ حَالَ الْمَوْتِ لَيْسَ حَالًا لِلْأَيْمَانِ. ثُمَّ زَادَ بِذَلِكَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إنْ لَمْ يُوجَدْ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ; وَلَا يَخْتَلِفُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ وُجُودُ ذَوِي الْعَدْلِ وَعَدَمُهُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْجُودَةٌ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مَكْتُومَةٍ, ثُمَّ ذَكَرَ يَمِينَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ اخْتِلَافِ الْوَصِيِّينَ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ, وَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ الْيَمِينُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ثُمَّ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يَعْنِي بِهِ الشَّهَادَةَ

عَلَى الْوَصِيَّةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ: "أَنْ تَأْتُوا بِالْيَمِينِ عَلَى وَجْهِهَا". وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ شَهَادَةٌ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّهَادَةَ وَالْيَمِينَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِحَقِيقَةِ لَفْظِهَا. فَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ; فَلَا مَعْنَى لَهُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ; لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِلَفْظِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِلْقَبِيلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ, وَلَمْ يَجْرِ لِلْقَبِيلَةِ ذِكْرٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهِ الْكِنَايَةُ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِنَايَةَ إنَّمَا تَرْجِعُ إمَّا إلَى مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ فِي الْخِطَابِ أَوْ مَعْلُومٍ بِدَلَالَةِ الْحَالِ, فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هُنَا دَلَالَةٌ عَلَى الْحَالِ تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ إلَيْهَا يَثْبُتُ أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ, فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فِي السَّفَرِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَشُرَيْحٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وُجُوهٌ مُخْتَلِفَةٌ, وَأَشْبَهَهَا بِمَعْنَى الْآيَةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ, قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رِجْلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيٍّ بْنِ بَدَاءٍ, فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ, فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامٌ فِضَّةٌ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ, فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ, فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَنَّ الْجَامَ لَصَاحِبِهِمْ, قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} . فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدِيًّا, لِأَنَّ الْوَرَثَةَ اتَّهَمُوهُمَا بِأَخْذِهِ, ثُمَّ لَمَّا ادَّعَيَا أَنَّهُمَا اشْتَرَيَا الْجَامَ مِنْ الْمَيِّتِ اسْتَحْلَفَ الْوَرَثَةَ وَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ وَأَخَذُوا الْجَامَ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ أَبُو مُوسَى فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّينَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْآنَ, هُوَ هَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ; وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ حُكْمِ جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فِي السَّفَرِ, فَقَالَ أَبُو مُوسَى وَشُرَيْحٍ: "هِيَ ثَابِتَةٌ" وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَالَ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : إنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ, يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ, وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمْ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ نَسْخُهُ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ

في قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قَالَ: "كَانَ ذَلِكَ فِي رِجْلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ, وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَالْأَرْضُ حَرْبٌ وَالنَّاسُ كُفَّارٌ, إلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ; فَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْمَدِينَةِ بِالْوَصِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتْ الْفَرَائِضُ وَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا". وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ, نَسَخَتْهَا: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَرَوَى ضَمْرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ وَعَطِيَّةَ بْنُ قَيْسٍ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا". قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نَفِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: "الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحَلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرَامٍ فَاسْتَحْرِمُوهُ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مُيَسَّرَةَ قَالَ: "فِي الْمَائِدَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ فَرِيضَةً وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ". فَهَؤُلَاءِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ جَوَازَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ, سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ بَيْعٌ أَوْ إقْرَارٌ بِدَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ بِشَيْءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ, هَذَا كُلُّهُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصِيَّةِ إذَا عَقَدَهُ فِي مَرَضِهِ; وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَ شَهَادَتَهُمَا عَلَيْهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا الْوَصِيَّةَ دُونَ غَيْرِهَا, وَحِينَ الْوَصِيَّةِ قَدْ يَكُونُ إقْرَارٌ بِدَيْنٍ أَوْ بِمَالِ عَيْنٍ وَغَيْرُهُ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ. ثُمَّ قَدْ رُوِيَ أَنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّ كَانَ قَوْمٌ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمَائِدَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ, وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ: "مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ": مِنْ آخِرِ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي الْجُمْلَةِ, لَا عَلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَآيَةُ الدَّيْنِ لَا مَحَالَةَ نَاسِخَةٌ لِجَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ, لِقَوْلِهِ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لَا مَحَالَةَ, لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ, وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهَا حَالَ الْوَصِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا, فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ; ثُمَّ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَلَيْسَ الْكُفَّارُ بِمَرْضِيِّينَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, فَتَضَمَّنَتْ آيَةُ الدَّيْنِ نَسْخَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ وَفِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا; فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ جَوَازَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ, وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِهَا عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ فَهِيَ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ, ثُمَّ نُسِخَ فِيهَا جَوَازُهَا عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ بِآيَةِ الدَّيْنِ وَبَقِيَ حُكْمُهَا عَلَى الذِّمِّيِّ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ; إذْ كَانَتْ حَالَةُ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّهَادَاتِ وَعَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَيْهِمَا وَأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى وَصِيتِهِ; وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَيِّتِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا على ذلك

اُسْتُحْلِفَا; وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ دَعْوَاهُمَا شَرَى شَيْءٍ مِنْ الْمَيِّتِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَرَثَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَبِعْ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَقْرَبُ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُبَدِّلُوا, {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} يَعْنِي: إذَا حَلَفَا مَا غَيَّرَا وَلَا كَتَمَا ثُمَّ عُثِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ عِنْدَهُمَا, أَنْ تُجْعَلَ أَيْمَانُ الْوَرَثَةِ أَوْلَى مِنْ أَيْمَانِهِمْ بَدِيًّا أَنَّهُمَا مَا غَيَّرَا وَلَا كَتَمَا, عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قصة تميم الداري وعدي بن بداء.

مطلب: في موضع الاستحلاف وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ: اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الْعَصْرِ; وَإِنَّمَا اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الْعَصْرِ تَغْلِيظًا لِلْيَمِينِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَظَّمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ اسْتَحْلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ بِالِاسْتِحْلَافِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُعَظَّمَةِ. وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ" ; فَأَخْبَرَ أَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا, وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمَوْسُومَةِ لِلْعِبَادَاتِ وَلِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ فِيهَا تَكُونُ الْمَعَاصِي فِيهَا أَعْظَمَ إثْمًا, أَلَا تَرَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي الْكَعْبَةِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؟ وَلَيْسَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَفِي الْمَسْجِدِ فِي الدَّعَاوَى بِوَاجِبَةٍ, وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّرْهِيبِ وَتَخْوِيفِ الْعِقَابِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ; وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَبِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "لَك يَمِينُهُ" قَالَ: إنَّهُ رِجْلٌ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي, قَالَ: "لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ" فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ, فَلَمَّا أَدْبَرَ لِيَحْلِفَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" وَبِحَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ, وَفِيهِ: فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ. فَقَالُوا: قَوْلُهُ: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ قَدْ كَانَتْ تَكُونُ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَسْنُونٌ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْلِسُ هُنَاكَ, فَلِذَلِكَ كَانَ يَقَعُ الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ, وَالْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا إذَا كَانَتْ كَاذِبَةً لِحُرْمَةِ الْمَوْضِعِ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ; وَالشَّافِعِيُّ لَا يَسْتَحْلِفُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ, وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ" فَقَدْ خَالَفَ الْخَبَرَ عَلَى أَصْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "انْطَلَقَ لِيَحْلِفَ" وَأَنَّهُ لَمَّا أَدْبَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ, فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى

الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعَزِيمَةُ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ, قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:23] لَمْ يُرِدْ بِهِ الذَّهَابَ إلَى الْمَوْضِعِ, وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّوَلِّيَ عَنْ الْحَقِّ وَالْإِصْرَارَ عَلَيْهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ الْحُكُومَةَ هُنَاكَ وَلَا يُنْكَرُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ هُنَاكَ أَغْلَظُ, وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وَلَمْ يُخَصِّصْهَا بِمَكَانٍ; وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ إنْ رَأَى تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِاسْتِحْلَافِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ, وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ, جَازَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْتِحْلَافِ هَذَيْنِ الْوَصِيَّيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ يُعَظِّمُونَهُ, وَوَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ.

فَصْلٌ قَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وَذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَجْوَزُ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ; وَلَمَّا نُسِخَ مِنْهَا جَوَازُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] نَفَى بِذَلِكَ جَوَازَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ, وَنَسَخَ بِذَلِكَ قَوْلَهُ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وَبَقِيَ حُكْمُ دَلَالَتِهَا فِي جَوَازِهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا فِي جَوَازِهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهَا عَلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُجِيزُهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَمَنَعَ جَوَازَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ أَجَازَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيَّ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَشُرَيْحٍ, وَلَا يُجِيزُونَهَا عَلَى الذِّمِّيِّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَاقِيَةٌ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَقَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالثَّوْرِيِّ; وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَصَالِحُ وَاللَّيْثُ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا تَجُوزُ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِهَا". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ". وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ يَقْتَضِي تُسَاوَيْ شَهَادَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِقَوْلِهِ تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِمْ, وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْمِلَلِ. وَمِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ أهل

الْمِلَلِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ, وَهِيَ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ. وَمِمَّا يُوجِبُ جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ, مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ "الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْهُمْ زَنَيَا, فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا". وَرَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مُحَمَّمٌ, فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ فَقَالُوا: زَنَى, فَرَجَمَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ جَابِرٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ فَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ" , فَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "يَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ", وَعَنْ شُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: خَالَفَ مَالِكٌ مُعَلِّمِيهِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضِ, وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةُ يُجِيزُونَهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ يَقُولُ: جَمَعْت هَذَا الْبَابَ فَمَا وَجَدْت عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ رَدَّ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضِ إلَّا مِنْ رَبِيعَةَ, فَإِنِّي وَجَدْت عَنْهُ رَدَّهَا وَوَجَدْت عَنْهُ إجَازَتَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي رُوِيَتْ فِيهَا عَنْ السَّلَفِ وَمَا نُسِخَ مِنْهَا وَمَا هُوَ مِنْهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ, فَلْنَذْكُرْ الْآيَةَ عَلَى سِيَاقِهَا مَعَ بَيَانِ حُكْمِهَا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ تَرْتِيبُهَا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ, فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ; فَحَذَفَ ذِكْرَ الشَّهَادَةِ. الثَّانِيَةِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمُرَادِ; وَيَحْتَمِلُ: عَلَيْكُمْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ; فَهُوَ أَمْرٌ بِإِشْهَادِ اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الدَّيْنِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فَأَفَادَ الْأَمْرَ بِإِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ. وَكَانَ نُزُولُهَا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ, فَذَكَرَ بَعْضَ السَّبَبِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فَجَعَلَ شَرْطَ قَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّينَ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ السَّفَرِ. وَقَوْلُهُ: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} قَدْ تَضَمَّنَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ هُمَا الْوَصِيَّيْنِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْصَى إلَى ذِمِّيَّيْنِ, ثُمَّ جَاءَا فَشَهِدَا بِوَصِيَّةٍ, فَضَمِنَ ذَلِكَ جَوَازُ شَهَادَةِ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ. ثُمَّ قَالَ: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} يَعْنِي قِصَّةَ الْمَيِّتِ الْمُوصِي. قَالَ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} يَعْنِي لَمَّا اتَّهَمَهُمَا الْوَرَثَةُ فِي حَبْسِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَأَخْذِهِ; عَلَى مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ فِي قِصَّةِ

تَمِيمٍ الدَّارِيِّ, وَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو مُوسَى فِي اسْتِحْلَافِهِ الذِّمِّيَّيْنِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا. فَصَارَا مُدَّعًى عَلَيْهِمَا, فَلِذَلِكَ اُسْتُحْلِفَا لَا مِنْ حَيْثُ كَانَا شَاهِدِينَ, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} يَعْنِي فِيمَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَأَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يَعْنِي ظُهُورَ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فِي أَيْدِيهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ, وَهُوَ جَامُ الْفِضَّةِ الَّذِي ظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَزَعَمَا أَنَّهُمَا كَانَا اشْتَرَيَاهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ. ثُمَّ قال تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يَعْنِي فِي الْيَمِينِ لِأَنَّهُمَا صَارَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُدَّعِيَيْنِ لِلشِّرَى, فَصَارَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْوَرَثَةِ, وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إلَّا وَارِثَانِ فَكَانَا مُدَّعًى عَلَيْهِمَا, فَلِذَلِكَ اُسْتُحْلِفَا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ أَوْلَى مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا الْوَصِيَّانِ أَنَّهُمَا مَا خَانَا وَلَا بَدَّلَا لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ صَارَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُدَّعِيَيْنِ وَصَارَ الْوَارِثَانِ مُدَّعًى عَلَيْهِمَا, وَقَدْ كَانَا بَرِيئَيْنِ فِي الظَّاهِرِ بَدِيًّا بِيَمِينِهِمَا فَمَضَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْوَصِيَّةِ, فَلَمَّا ظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ صَارَتْ أَيْمَانُ الْوَارِثِينَ أَوْلَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {الْأَوْلَيَانِ} , فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَعْنَى الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ يَعْنِي الْوَرَثَةَ, وَقِيلَ: الْأُولَيَانِ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ الْأَيْمَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إيجَابِ الْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا بِهِ, وَإِنَّمَا أَوْجَبَتْ الْيَمِينَ عَلَيْهِمَا لَمَّا ادَّعَى الْوَرَثَةُ عَلَيْهِمَا الْخِيَانَةَ وَأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ, فَصَارَ بَعْضُ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ الشَّهَادَاتِ أَيْمَانًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ, لقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} لَا مَحَالَةَ أُرِيدَ بِهَا شَهَادَاتُ الْحُقُوقِ, لِقَوْلِهِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وقوله بعد ذلك: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْيَمِينِ, ثُمَّ قَالَ: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا} يَعْنِي بِهَا الْيَمِينَ; لِأَنَّ هَذِهِ أَيْمَانُ الْوَارِثِينَ, وقوله: {أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يَحْتَمِلُ مِنْ يَمِينِهِمَا وَيَحْتَمِلُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ قَدْ كَانَ مِنْهُمَا شَهَادَةً وَحِينَ صَارَتْ يَمِينُ الْوَارِثِ أَحَقَّ مِنْ شَهَادَةِ الْوَصِيَّيْنِ وَيَمِينِهِمَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا غَيْرُ جَائِزَةٍ وَيَمِينَاهُمَا لَمْ تُوجِبْ تَصْحِيحَ دَعْوَاهُمَا فِي شِرَاءِ مَا ادَّعَيَا شِرَاهُ مِنْ الْمَيِّتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَأَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يُغَيِّرُوا, يَعْنِي أَنَّ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَإِيجَابِهَا تَارَةً عَلَى الشُّهُودِ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمَا مِنْ الْخِيَانَةِ وَتَارَةً عَلَى الْوَرَثَةِ فِيمَا

ادَّعَى الشُّهُودُ مِنْ شِرَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ, وَأَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ أَتَوْا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَلَا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَيْمَانِهِمْ وَلَا يُبَرِّئُهُمَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَا كَتَمُوهُ وَادَّعَوْا شِرَاهُ إذَا حلف الورثة على ذلك; والله أعلم.

باب من أين يقطع السارق

بَابُ مِنْ أَيْنَ يُقْطَعُ السَّارِقُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَاسْمُ الْيَدِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَمَّارًا تَيَمَّمَ إلَى المنكب بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا

باب ما لا يقطع فيه

بَابُ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عُمُومُ قَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يُوجِبُ قَطْعَ كُلِّ مَنْ تَنَاوَلَ الِاسْمَ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا فِي الْمِقْدَارِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ السَّلَفِ وَاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْعُمُومُ وَأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُسَمَّى آخِذُهُ سَارِقًا لَا قَطْعَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَشْيَاءَ مِنْهُ.

ذكر الاختلاف في ذلك

ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا قَطْعَ فِي كُلِّ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ نَحْوُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَاللَّحْمِ وَالطَّعَامِ الَّذِي لَا يَبْقَى وَلَا فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَالْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا حَافِظٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَشَبِ إلَّا السَّاجَ وَالْقَنَا وَلَا قَطْعَ فِي الطِّينِ وَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالزَّرْنِيخِ وَنَحْوِهِ وَلَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الطَّيْرِ ويقطع في

باب السرقة من ذوي الأرحام

بَابُ السَّرِقَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ أَبُو بكر قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عُمُومٌ فِي إيجَابِ قَطْعِ كُلِّ سَارِقٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ, عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدَّمْنَا, وَعَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ, لَيْسَ بِعُمُومٍ وَهُوَ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ; وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ. إلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُمُومًا عِنْدَنَا لَوْ خُلِّينَا وَمُقْتَضَاهُ فَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فيه.

ذكر الاختلاف في ذلك

ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي الرَّحِمِ" وَهُوَ الَّذِي لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ أَجْلِ الرَّحِمِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. وَلَا تُقْطَعُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ

باب فيمن سرق ما قد قطع فيه

بَابُ فِيمَنْ سَرَقَ مَا قَدْ قُطِعَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ بِعَيْنِهِ: "لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ". وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ, وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ, فَلَمَّا عَدِمْنَاهُمَا فِيمَا وَصَفْنَا لَمْ يَبْقَ فِي إثْبَاتِهِ إلَّا الْقِيَاسُ, وَلَا يَجُوزُ ذلك عندنا.

باب السرق يوجد قبل إخراج السرقة

باب السرق يُوجَدُ قَبْلَ إخْرَاجِ السَّرِقَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ وَاجِبٍ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَتَاعِ وَبَيْنَ حِرْزِهِ, وَالدَّارُ كُلُّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ, فَكَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ, وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إذا لم

باب غرم السارق بعد القطع

بَابُ غُرْمِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: "إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَخَذَهَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ, وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ", وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "يَضْمَنُهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "يَغْرَمُ السَّرِقَةَ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْخُذُهَا; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَرَدَّ الرِّدَاءَ عَلَى صَفْوَانَ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْقَطْعِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ; فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ هُوَ الْقَطْعُ, لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الضَّمَانِ مَعَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْمَنْصُوصِ, وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ, وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} , فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْجَزَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَزَاءٌ غَيْرُهُ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَخِيهِ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إذَا أَقَمْتُمْ عَلَى السَّارِقِ الْحَدَّ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ الْآدَمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِسَارِقٍ, فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَقَالَ: "لَا غُرْمَ عَلَيْهِ". وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ; وَأَخْطَأَ فِيهِ خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ, فَقَالَ الْمِسْوَرِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْمَالِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ, كما لا يجتمع

باب الرشوة

بَابُ الرِّشْوَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قِيلَ إنَّ أَصْلَ السُّحْتِ الِاسْتِئْصَالُ, يُقَالُ: أَسْحَتَهُ إسْحَاتًا: إذَا اسْتَأْصَلَهُ وَأَذْهَبَهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61] أَيْ يَسْتَأْصِلُكُمْ بِهِ. وَيُقَالُ: أَسْحَتَ مَالَهُ, إذَا أَفْسَدَهُ وَأَذْهَبَهُ. فَسُمِّيَ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ لَا بَرَكَةَ فِيهِ لِأَهْلِهِ وَيَهْلِكُ بِهِ صَاحِبُهُ هَلَاكَ الِاسْتِئْصَالِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ السُّحْتِ أَهُوَ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ؟ فَقَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَلَكِنَّ السُّحْتَ أَنْ يَسْتَشْفِعَ بِك عَلَى إمَامٍ فَتُكَلِّمَهُ فَيُهْدِيَ لَك هَدِيَّةً فَتَقْبَلَهَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ عَنْ الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ, فَقَالَ: "ذَلِكَ كُفْرٌ "; وَسَأَلْته عَنْ السُّحْتِ, فَقَالَ: "الرُّشَا". وَرَوَى عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ مُسْلِمٍ, أَنَّ مَسْرُوقًا قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ مِنْ السُّحْتِ؟ قَالَ: "لَا, وَلَكِنْ كُفْرٌ, إنَّمَا السُّحْتُ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَاهٌ وَمَنْزِلَةٌ وَيَكُونَ لِلْآخَرِ إلَى السُّلْطَانِ حَاجَةٌ, فَلَا يَقْضِيَ حَاجَتَهُ حَتَّى يُهْدِيَ إلَيْهِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالِاسْتِجْعَالِ فِي الْقَضِيَّةِ". فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السُّحْتَ اسْمًا لِأَخْذِ مَا لَا يَطِيبُ أَخْذُهُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "السُّحْتُ الرُّشَا". وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "إنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ, وَإِذَا أَكَلَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ". وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "بَابَانِ مِنْ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ: الرُّشَا وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ". وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَدَايَا الْأُمَرَاءِ مِنْ السُّحْتِ". وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا". وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ". وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سلمة عن أبي

مطلب: في وجوه الرشوة

مَطْلَبٌ: فِي وُجُوهِ الرِّشْوَةِ وَالرِّشْوَةُ تَنْقَسِمُ إلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ, وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي جَمِيعًا, وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" وَالرَّائِشُ وَهُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَرْشُوَهُ لِيَقْضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ, فَإِنْ رَشَاهُ لِيَقْضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ فَقَدْ فَسَقَ الْحَاكِمُ بِقَبُولِ الرِّشْوَةِ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ, وَاسْتَحَقَّ الرَّاشِي الذَّمَّ حِينَ حَاكَمَ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِحَاكِمٍ, وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ; لِأَنَّهُ قَدْ انْعَزَلَ عَنْ الْحُكْمِ بِأَخْذِهِ الرِّشْوَةَ, كَمَنْ أَخَذَ الْأُجْرَةَ عَلَى أَدَاءِ الْفُرُوضِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَأَنَّهَا مِنْ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَفْعُولًا عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ, كَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ; وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْأَبْدَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ جَائِزًا لَجَازَ أَخْذُ الرُّشَا عَلَى إمْضَاءِ الْأَحْكَامِ, فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَخْذَ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَبْدَالِ عَلَى الْفُرُوضِ وَالْقُرَبِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ الرِّشْوَةَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِبَاطِلٍ فَقَدْ فَسَقَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَخْذُ الرِّشْوَةِ, وَالْآخَرُ: الْحُكْمُ بِغَيْرِ حَقٍّ; وَكَذَلِكَ الرَّاشِي. وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ السُّحْتَ عَلَى الْهَدِيَّةِ فِي الشَّفَاعَةِ إلَى السُّلْطَانِ, وَقَالَ: "إنْ أَخْذَ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ كُفْرٌ". وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ: "الرُّشَا مِنْ السُّحْتِ". وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ, فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي الْهَدِيَّةِ إلَى الرِّجْلِ لِيُعِينَهُ بِجَاهِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ, وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ عَلَيْهِ مَعُونَتَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ الْمَرْءِ مَا دَامَ الْمَرْءُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الرِّشْوَةِ, وَهُوَ الَّذِي يَرْشُو السُّلْطَانَ لِدَفْعِ ظُلْمِهِ عَنْهُ, فَهَذِهِ الرِّشْوَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى آخِذِهَا غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَى مُعْطِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إذَا خَافَ الظُّلْمَ" وَعَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" قَالَ الْحَسَنُ: "لِيُحِقَّ بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلَ حَقًّا, فَأَمَّا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ مَالِك فَلَا بَأْسَ". وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ: "لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ مَا يَصُونُ بِهِ عِرْضَهُ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "اجْعَلْ مَالَك جنة

باب الحكم بين أهل الكتاب

بَابُ الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْلِيَتُهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ, وَالثَّانِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْنَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ, فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: "إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْنَا فَإِنْ شَاءَ الْحَاكِمُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى دِينِهِمْ". وَقَالَ آخَرُونَ: "التَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ, فَمَتَى ارْتَفَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ".

ذكر الخلاف في ذلك

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى لَا فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الْيَدِ, وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ إلَّا بِمِثْلِهَا مِنْ الْجَانِي". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ" تُفْقَأُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَالْيُسْرَى بِالْيُمْنَى وَكَذَلِكَ الْيَدَانِ, وَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ وَالضِّرْسُ بِالثَّنِيَّةِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ كَفٍّ فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ مِنْ تِلْكَ الْكَفِّ أُصْبُعٌ مِثْلُهَا قُطِعَ مِمَّا يَلِي تِلْكَ الْأُصْبُعَ, وَلَا يُقْطَعُ أُصْبُعُ كَفٍّ بِأُصْبُعِ كَفٍّ أُخْرَى, وَكَذَلِكَ تُقْلَعُ السِّنُّ الَّتِي تَلِيهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْقَاطِعِ سِنٌّ مِثْلُهَا وَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الْأَضْرَاسَ, وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ يُمْنَى, وَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَلَا اليسرى باليمنى".

مطلب: الصوم في السفر أفضل من الإفطار

مطلب: الصوم في السفر أفضل من الإفطار فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا, لِأَنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ, وَالْآيَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْوُجُوبِ, فَهِيَ فِيمَا قَدْ وَجَبَ وَأُلْزِمَ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْخَيْرَاتِ. وقَوْله تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لَيْسَ بِتَكْرَارٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مِثْلِهِ لِأَنَّهُمَا نَزَلَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي شَأْنِ الرجم, والآخر: في

مطلب: الكافر لا يكون وليل للمسلم

مطلب: الكافر لا يكون وليل للمسلم وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلْمُسْلِمِ لَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي النُّصْرَةِ; وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُمْ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ, فَإِذَا أُمِرْنَا بِمُعَادَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِكُفْرِهِمْ فَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ بِمَنْزِلَتِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ يَسْتَحِقُّهَا لَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَهُودِيًّا, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ هُوَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ. وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا, وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْكُفْرِ كُلِّهِ مِلَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُ وَطُرُقُهُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ مُنَاكَحَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ, الْيَهُودِيِّ لِلنَّصْرَانِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلْيَهُودِيَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ فِي أَحْكَامِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ, وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكِتَابِيِّ وَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ حُكْمُ نَصَارَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ والحسن وقوله: {مِنْكُمْ} يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبَ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانُوا إذَا تَوَلَّوْا الْكُفَّارَ صَارُوا مُرْتَدِّينَ, وَالْمُرْتَدُّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا وَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَهُ وَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْوِلَايَةِ؟ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ لِإِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ مِمَّنْ تَوَلَّاهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْيَهُودِيَّ وَلَا النَّصْرَانِيَّ, فَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ قَالَ أَبُو بَكْر: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إلَى الْيَهُودِيَّةِ لَا يَكُونُ يَهُودِيًّا وَالْمُرْتَدَّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ لَا يَكُونُ نَصْرَانِيًّا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ وَلَا يَرِثُهُ؟ فَكَمَا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إيجَابِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ, كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُهُ, وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ إذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجِزْيَةِ, وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ بِمُوَالَاتِهِ إيَّاهُمْ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمِيرَاثِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم

مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وعلي رضي الله عنهم وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ, وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَأَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ. وَلَمْ يُقَاتِلْ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ; وَلَا يَتَهَيَّأُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْآيَةَ فِي غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا فِي غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْتِ بِقَوْمٍ يُقَاتِلُونَ الْمُرْتَدِّينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ غَيْرِ هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر.

مطلب: الدليل على صحة إمامة إبي بكر رضي الله عنه

مطلب: الدليل على صحة إمامة إبي بكر رضي الله عنه وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16] لِأَنَّهُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ, وَأَخْبَرَ تَعَالَى

باب العمل اليسير في الصلاة

بَابُ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "هَذِهِ الْآيَةُ صِفَةُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} صِفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ وَلَيْسَتْ لِلْوَاحِدِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي معنى قوله {وَهُمْ رَاكِعُونَ} فَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ, مِنْهُمْ مَنْ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ رَاكِعٌ فِي الصلاة. وقال آخرون: "معنى {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ, وَأُفْرِدَ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِالنَّوَافِلِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَرْكَعُ أَيْ يَتَنَفَّلُ". فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِعْلَ الصَّدَقَةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي إبَاحَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِيهَا, فَمِنْهَا أَنَّهُ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ, وَمِنْهَا أَنَّهُ مَسَّ لِحْيَتَهُ وَأَنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ, وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَامَ عَلَى يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِهِ وَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ, وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ, فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَمَلَهَا. فَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ الرُّكُوعَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: "الَّذِينَ يَتَصَدَّقُونَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ, وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى إبَاحَتِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ; فَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ على إباحة الصدقة في الصلاة.

باب الاذان

بَابُ الْأَذَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلصَّلَاةِ أَذَانًا يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إلَيْهَا; وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَقَدْ رَوَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ لِوَقْتٍ يَعْرِفُونَهُ وَيُؤْذِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا, حَتَّى نَقَسُوا1 أَوْ كَادُوا أَنْ يَنْقُسُوا, فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَذَكَرَ الْأَذَانَ, فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ طَافَ بِي الَّذِي طَافَ بِهِ وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَجْمَعُهُمْ فِي الصَّلَاةِ, فَقَالُوا الْبُوقُ; فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ وَذَكَرَ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَّ عُمَرَ رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْأَذَانَ لَمْ يَكُنْ مَسْنُونًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ, وَأَنَّهُ إنَّمَا سُنَّ بَعْدَهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ مُحَمَّدِ بْن بِشْرٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ الْأَذَانِ كَيْفَ كَانَ أَوَّلُهُ وَمَا كَانَ؟ فَقَالَ: شَأْنُ الْأَذَانِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ, وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ جُمِعَ النَّبِيُّونَ ثُمَّ نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَ لَيْلَتِهِ فَأَذَّنَ كَأَذَانِكُمْ وَأَقَامَ كَإِقَامَتِكُمْ ثُمَّ صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّبِيِّينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ كَانَ بِمَكَّةَ, وَقَدْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَجْمَعُهُمْ بِهِ لِلصَّلَاةِ, وَلَوْ كَانَتْ تَبْدِئَةُ الْأَذَانِ قَدْ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَمَا اسْتَشَارَ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ مُعَاذٌ وَابْنُ عُمَرَ في قصة الأذان ما ذكرنا.

_ 1 قوله: "نقسوا" مض من النقس بفتح النون وسكون القاف, ومعناه الضرب بالناقوس. "لمصححه".

مطلب: في الاستعانة بالمشركين

مطلب: في الاستعانة بالمشركين قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ الِاسْتِنْصَارِ بِالْمُشْرِكِينَ; لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ هُمْ الْأَنْصَارُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى أُحُدٍ جَاءَ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ وَقَالُوا: نَحْنُ نَخْرُجُ مَعَك, فَقَالَ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ" , وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ الْيَهُودِ غَزَوْا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَ لَهُمْ كَمَا قَسَمَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْفَضْلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن نِيَارٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ يَحْيَى: إنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقَاتِلَ مَعَهُ فَقَالَ: ارْجِعْ ثُمَّ اتَّفَقَا فَقَالَ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إذَا كَانُوا مَتَى ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ, فَأَمَّا إذَا كَانُوا لَوْ ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الشِّرْكِ هُوَ الْغَالِبُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. وَمُسْتَفِيضٌ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ السِّيَرِ وَنَقَلَةِ الْمَغَازِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَغْزُو وَمَعَهُ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَفِي بَعْضِهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا وَجْهُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ" فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثِقْ بِالرَّجُلِ وَظَنَّ أَنَّهُ عَيْنٌ لِلْمُشْرِكِينَ, فَرَدَّهُ وَقَالَ: "إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ" يَعْنِي بِهِ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ. قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ" هَلَّا" وَهِيَ تَدْخُلُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ, فَإِذَا كَانَتْ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ, كَقَوْلِهِ: "لِمَ لَا تَفْعَلُ" وَهِيَ هَهُنَا لِلْمُسْتَقْبَلِ, يَقُولُ: هَلَّا يَنْهَاهُمْ وَلِمَ لَا ينهاهم وإذا كانت

مطلب: في معاني اليد

مَطْلَبٌ: فِي مَعَانِي الْيَدِ وَالْيَدُ فِي اللُّغَةِ تَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْجَارِحَةُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَمِنْهَا النِّعْمَةُ, تَقُولُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا, أَيْ نِعْمَةٌ وَمِنْهَا الْقُوَّةُ. فَقَوْلُهُ أُولِي الْأَيْدِي فَسَّرُوهُ بِأُولِي الْقُوَى; وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَحَمَّلْت مِنْ ذَلْفَاءَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ ... وَلَا لِلْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ يَدَانِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ, وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يَعْنِي يَمْلِكُهَا. وَمِنْهَا الِاخْتِصَاصُ بِالْفِعْلِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أَيْ تَوَلَّيْت خَلْقَهُ. وَمِنْهَا التَّصَرُّفُ, كَقَوْلِك: "هَذِهِ الدَّارُ فِي يَدِ فُلَانٍ" يَعْنِي التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالسُّكْنَى أَوْ الْإِسْكَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إنه قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ} عَلَى وَجْهِ التَّثْنِيَةِ; لِأَنَّهُ أَرَادَ نِعْمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا نِعْمَةُ الدُّنْيَا, وَالْأُخْرَى نِعْمَةُ الدِّينِ. وَالثَّانِي: قُوَّتَاهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ, عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْيَهُودِ, لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى عِقَابِنَا. وَقِيلَ: إنَّ التَّثْنِيَةَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي صِفَةِ النِّعْمَةِ, كَقَوْلِك: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ". وقيل في قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} يَعْنِي فِي جَهَنَّمَ; رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ. قَوْله تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فِيهِ إخْبَارٌ بِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} , وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الْغَيْبِ مَعَ كَثْرَةِ الْيَهُودِ وَشِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ; وَقَدْ كان من

مطلب: في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم

مطلب: في الدليل عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ الَّتِي وُجِدَ مُخْبَرُهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ بِقَتْلٍ وَلَا قَهْرٍ وَلَا أَسْرٍ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ الْمُحَارَبِينَ لَهُ مُصَالَتَةً وَالْقَصْدِ لِاغْتِيَالِهِ مُخَادَعَةً, نَحْوُ مَا فَعَلَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَرْبِدُ فَلَمْ يَصِلَا إلَيْهِ; وَنَحْوُ مَا قَصَدَهُ بِهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ, فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ, فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ بِمَا تَوَاطَأَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَلَيْهِ وَهُمَا فِي الْحَجَرِ مِنْ اغْتِيَالِهِ, فَأَسْلَمَ عُمَيْرٌ وَعَلِمَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَلَا ادَّعَى أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَهْرِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَمَا اتَّفَقَ فِي جَمِيعِهَا وُجُودُ مُخْبَرَاتِهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ, إذْ لَا يَتَّفِقُ مِثْلُهَا فِي أَخْبَارِ النَّاسِ إذَا أُخْبِرُوا عَمَّا يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ وَتَعَاطِي عِلْمِ النُّجُومِ وَالرِّزْقِ وَالْفَأْلِ وَنَحْوِهَا, فَلَمَّا اتَّفَقَ جَمِيعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ وَلَا تَخَلَّفَ شَيْءٌ مِنْهَا, عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَالِمِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فِيهِ أَمْرٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ; لِأَنَّ إقَامَتَهُمَا هُوَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَبِمَا فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} حَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ, فَكَانَ خِطَابًا لَهُمْ, وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى آبَائِهِمْ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وقوله تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} مُقْتَضَاهُ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ الْحَقِّ حَتَّى تَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا قَبْلَ مَبْعَثِ النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت الْحُكْمِ مَأْمُورٌ بِهِ وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أُمِرُوا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَعْلُومٌ نَسْخُ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم فَجَائِزٌ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نَسْخِ كَثِيرٍ مِنْهَا, وَيَكُونَ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَبِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ, وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْآيَةُ ذَلِكَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى بَقَاءِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قِيلَ لَهُ: لَا تَخْلُو هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ قَبْلَ نَسْخِ شَرَائِعِ الأنبياء

مطلب: في الدليل على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله

مطلب: في الدليل عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي أَنَّ الْمَسِيحَ إله قَوْله تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فِيهِ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي أَنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ; لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعَامِ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ سَائِرِ الْعِبَادِ فِي الْحَاجَةِ إلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ; إذْ كَانَ مَنْ فِيهِ سِمَةُ الْحَدَثِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا, وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ قَادِرًا لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} إنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحَدَثِ لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا يَحْتَاجُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِمَا مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى حَدَثِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِمَا وَعَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ تَتَعَاقَبُ عَلَيْهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ إلَهًا وَقَدِيمًا. قَوْله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} , قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: "لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُد فَصَارُوا قِرَدَةً وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى فَصَارُوا خَنَازِيرَ". وَقِيلَ: إنَّ فَائِدَةَ لَعْنِهِمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ إعْلَامُهُمْ الْإِيَاسَ مِنْ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي; لِأَنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِاللَّعْنِ وَالْعُقُوبَةِ مُسْتَجَابٌ. وَقِيلَ: إنَّمَا ظَهَرَ لَعْنُهُمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ لِئَلَّا يُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ مَنْزِلَةً بِوِلَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ تُنَجِّيهِمْ مِنْ عِقَابِ الْمَعَاصِي. قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} مَعْنَاهُ لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ الْمُنْكَرِ; وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك, ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ, فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ, ثُمَّ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ" إلَى قَوْلِهِ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَالَ: "كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ

باب تحريم ما أحل الله عز وجل

بَابُ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} . وَالطَّيِّبَاتُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ, وَيَقَعُ عَلَى الْحَلَالِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْآيَةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا, فَيَكُونَ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: "قَدْ حَرَّمْت هَذَا الطَّعَامَ عَلَى نَفْسِي" فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الكفارة إن

مطلب: في الدليل على بطلان قول الممتنعين عن اكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا

مطلب: في الدليل على بطلان قول الممتنعين عن اكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة

مطلب: في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث

مطلب: في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فِي تَحْرِيمِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ مِنْ الْمَرْأَةِ.

باب الأيمان مطلب: في اليمين اللغو

باب الأيمان مطلب: في اليمين اللغو قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} عَقِيبَ نَهْيِهِ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَمَّا حَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَنَاكِحِ وَالْمَلَابِسِ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ" وَأَمَّا اللَّغْوُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ, وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَوْ مِائَةٌ تَجْعَلُ أَوْلَادَهَا ... لَغْوًا وَعَرَضُ الْمِائَةِ الْجَلْمَدُ يَعْنِي نُوقًا لَا تَعْتَدُّ بِأَوْلَادِهَا. فَعَلَى هَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُفْيَانَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ عَبْدُوسَ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ, وَسُئِلَ عَنْ اللَّغْوِ فِي الْيَمِينِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ". وَرَوَى إبراهيم عن الأسود وهشام بن

مطلب: في أقسام اليمين

مطلب: في أقسام اليمين وَالْأَيْمَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ; وَالْمَاضِي يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ لَغْوٍ وَغَمُوسٍ, وَلَا كَفَّارَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْمُسْتَقْبَلُ ضَرْبٌ وَاحِدٌ, وَهُوَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ, وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي الْغَمُوسِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "فِي الْغَمُوسِ الْكَفَّارَةُ". وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَيْمَانَ الثَّلَاثَ فِي الْكِتَابِ, فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَمِينَ اللَّغْوَ وَالْمَعْقُودَةَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} , وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

مطلب: لا كفارة في اليمين الغموس

مطلب: لَا كَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77] فَذَكَرَ الْوَعِيدَ فِيهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ, فَلَوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الْكَفَّارَةَ كَانَ زِيَادَةً فِي النَّصِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا آثِمٌ فَاجِرٌ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ. تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ". فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَأْثَمَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِمِثْلِهِ, وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَهَا فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها فليأت الذي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَحِفْظُهَا مُرَاعَاتُهَا لِأَدَاءِ كَفَّارَتِهَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا, وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ حِفْظِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي لِوُقُوعِهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا الْمُرَاعَاةُ وَالْحِفْظُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يَقْتَضِي عُمُومُهُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ الْمَعْقُودَةَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ, فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْحِنْثُ; وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْيَمِينَ الْمَعْقُودَةَ لَا تَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ قَبْلَ الْحِنْثِ, فَثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا فَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا; إذْ كَانَ حُكْمُهَا مُتَعَلِّقًا بِضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَجِبُ فِيهِ الكفارة من الأيمان هي التي

فصل

فصل وَمَنْ يُجِيزُ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فَجَعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً عَقِيبَ عَقْدِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحِنْثِ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} . فأما قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مَتَى أَرَادَ إيجَابَهَا, وَقَدْ عَلِمْنَا لَا مَحَالَةَ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ وَأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَبْلَ الْحِنْثِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ: بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ وَحَنِثْتُمْ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ, وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وَالْمَعْنَى: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ; وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] فَمَعْنَاهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ; كَذَلِكَ قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} مَعْنَاهُ: فَحَنِثْتُمْ فَكَفَّارَتُهُ; لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَبْلَ الْحِنْثِ, وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ ضَمِيرُ الْحِنْثِ فِيهِ. وَأَيْضًا لَمَّا سَمَّاهُ كَفَّارَةً عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِهَا فِي حَالِ وُجُوبِهَا; لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَيْسَ بِكَفَّارَةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ: إذَا حَنِثْتُمْ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} مَعْنَاهُ: إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ; لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا كَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجِّلُهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ زَكَاةً لِوُجُوبِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ, وَكَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجِّلُهُ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُودِ الْقَتْلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِي هَذِهِ الْحَالِ, فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يُعَجِّلُهُ الْحَالِفُ كَفَّارَةً قَبْلَ الْحِنْثِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ إضْمَارِ الْحِنْثِ فِي جوازها قيل له: قد

فصل

فصل وَيَحْتَجُّ مَنْ يُوجِبُ عَلَى مَنْ عَقَدَ نَذْرَهُ بِشَرْطِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ دُونَ الْمَنْذُورِ, مِثْلُ قَوْلِهِ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ" أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ, فَحَنِثَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} قَالَ: فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَالِفًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ دُونَ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ. وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ; وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ الْوَفَاءَ بِالْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَلَهُ أَصْلٌ غَيْرُ الْيَمِينِ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] , وَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] , وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:76] , فَذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْمَنْذُورِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ" وَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَكَانَتْ النُّذُورُ مَحْمُولَةً عَلَى الْأُصُولِ الْأُخَرِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فَقَالَ قَائِلُونَ: مَعْنَاهُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا وَاحْذَرُوا الْحِنْثَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: أَقَلُّوا مِنْ الْأَيْمَانِ, عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] , وَاسْتَشْهَدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... إذَا بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ رَاعُوهَا لِكَيْ تُؤَدُّوا الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا لأن حفظ الشيء

مطلب: في الإطعام من غير تمليك

مطلب: في الإطعام من غير تمليك فِي الْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَاخْتُلِفَ فِي الْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ: "يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي". وَقَالَ الْحَكَمُ: "لَا يُجْزِي الْإِطْعَامُ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَمُدٌّ لِإِدَامِهِ, وَلَا يَجْمَعُهُمْ فَيُطْعِمُهُمْ وَلَكِنْ يُعْطِيهِمْ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وجابر بن زيد ومكحول

مطلب: في الاحتجاج في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع

مطلب: فِي الِاحْتِجَاجِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نصف صاع وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهُمْ, فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ; لِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْحُكْمَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ دُونَ بَعْضٍ, لَا سِيَّمَا فِيمَنْ قَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِالِاتِّفَاقِ, وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وَسَائِرُ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهَا, كَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ فِي ذَلِكَ سَدَّ جَوْعَةِ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ بَعْدَ أَنْ يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ أَوْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الْجَوْعَةِ, فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِإِعْطَاءِ الْعَشَرَةِ مَوْجُودًا فِي الْوَاحِدِ عِنْدَ تَكْرَارِ الدَّفْعِ وَالْإِطْعَامِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ اسْمِ إطْعَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى وَاحِدٍ بِتَكْرَارِ الدَّفْعِ; إذْ كَانَ الْمَقْصِدُ فِيهِ تَكْرَارَ الدَّفْعِ لَا تَكْرَارَ الْمَسَاكِينِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] وَهُوَ هِلَالٌ وَاحِدٌ, فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَمْعِ لِتَكْرَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الشُّهُورِ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ, وَلَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ أَجْزَأَهُ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِرَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ, وَلَوْ رَمَى بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَجْزَأَهُ; لِأَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ حُصُولُ الرَّمْيِ سَبْعَ مَرَّاتٍ, وَالْمَقْصِدَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ حُصُولُ الْمَسَحَاتِ دُونَ عَدَدِ الْأَحْجَارِ. فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ فِي إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ سَدُّ جَوْعَةِ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَخْتَلِفْ حكم الواحد إذا تكرر ذلك

مطلب: أجاز اصحابنا غعطاء قيمة الطعام والكسوة

مطلب: أجاز اصحابنا غعطاء قيمة الطعام والكسوة وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا إعْطَاءَ قِيمَةِ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ حُصُولُ النَّفْعِ لِلْمَسَاكِينِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ النَّفْعِ بِالْقِيمَةِ مِثْلَ حُصُولِهِ بِالطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ. وَلَمَّا صَحَّ إعْطَاءُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَالنَّظَرِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا مَا يَأْكُلُهُ وَيَلْبَسُهُ بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ أَطْعَمَهُ وَكَسَاهُ; وَإِذَا كَانَ إطْلَاقُ ذَلِكَ سَائِغًا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْآيَةِ, أَلَا تَرَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِطْعَامِ أَنْ يُطْعِمَهُ إيَّاهُ بِأَنْ يُبِيحَهُ لَهُ فَيَأْكُلَهُ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَلَمْ يَأْكُلْهُ الْمِسْكِينُ وَبَاعَهُ أَجْزَأَهُ, وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ بِحُصُولِ الْمَقْصِدِ فِي وُصُولِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ إلَيْهِ, وَإِنْ لَمْ يُطْعِمْهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَكْلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ كُسْوَةً فَلَمْ يَكْتَسِ بِهَا وَبَاعَهَا, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَاسِيًا بِإِعْطَائِهِ; إذْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ بِإِعْطَائِهِ إيَّاهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصِدُ حُصُولَ الْمَطْعَمِ وَالِاكْتِسَاءِ, وَأَنَّ الْمَقْصِدَ وُصُولُهُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ, فَلَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ وَالطَّعَامِ, أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ثُمَّ قَالَ: "أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ"؟ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْغِنَى لَهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَا مِقْدَارُ الطَّعَامِ بِعَيْنِهِ; إذْ كَانَ الْغِنَى عَنْ الْمَسْأَلَةِ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ كَحُصُولِهِ بِالطَّعَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ جَازَتْ الْقِيمَةُ وَكَانَ الْمَقْصِدُ فِيهِ حُصُولُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ لِلْمَسَاكِينِ لَمَّا كَانَ لِذِكْرِ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَائِدَةٌ مَعَ تَفَاوُتِ قِيمَتِهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ, وَفِي ذِكْرِهِ الطَّعَامَ أَوْ الْكِسْوَةَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَدَّاهُمَا إلَى الْقِيمَةِ, وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصَدُ حُصُولَ النَّفْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ عَيْنِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَنْت; وَفِي ذِكْرِهِ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ, وَذَلِكَ أَنَّهُ ذكرهما ودللنا بما ذكر على

مطلب: في مقدار الكسوة في الكفارة

مطلب: في مقدار الكسوة في الكفارة وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْكِسْوَةِ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "الْكِسْوَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ إزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ". وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّرَاوِيلَ تُجْزِي, وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ حَنِثَ إذَا كَانَ سَرَاوِيلَ الرِّجَالِ. وَرَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِي السَّرَاوِيلُ وَلَا الْعِمَامَةُ; وَكَذَلِكَ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "إنْ كَسَا الرَّجُلُ كَسَا ثَوْبًا وَلِلْمَرْأَةِ ثَوْبَيْنِ دِرْعًا وَخِمَارًا, وَذَلِكَ أَدْنَى مَا تُجْزِي فِيهِ الصَّلَاةُ, وَلَا يُجْزِي ثَوْبٌ وَاحِدٌ لِلْمَرْأَةِ وَلَا تُجْزِي الْعِمَامَةُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "تُجْزِي الْعِمَامَةُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "تُجْزِي الْعِمَامَةُ وَالسَّرَاوِيلُ وَالْمُقَنِّعَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدَ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي مَا يُسَمَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مُكْتَسِيًا إذَا لَبِسَهُ, وَلَابِسُ السَّرَاوِيلِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَوْ الْعِمَامَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا كَلَابِسِ الْقَلَنْسُوَةِ, فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُجْزِيَ السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ وَلَا الْخِمَارُ لأنه مع لبسه

باب تحريم الخمر

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: قوله: {رِجْسٌ} لِأَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ فِي الشَّرْعِ لِمَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ; وَيَقَعُ اسْمُ الرِّجْسِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ النَّجِسِ, وَهَذَا أَيْضًا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فَأَوْجَبَ وَصْفُهُ إياها بأنها رجس لزوم اجتنابها. والوجه

باب الصيد للمحرم

بَابُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} قِيلَ فِي مَوْضِعٍ "مِنْ" هَهُنَا إنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ, بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَيْدَ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ وَصَيْدَ الْإِحْرَامِ دُونَ صَيْدِ الْإِحْلَالِ. وَقِيلَ إنَّهَا لِلتَّمْيِيزِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَقَوْلُك" بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ" وَ" ثَوْبٌ مِنْ قُطْنٍ". وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ مَا يَكُونُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَيْدًا, كَالْبَيْضِ وَالْفَرْخِ; لِأَنَّ الْبَيْضَ مِنْ الصَّيْدِ, وَكَذَلِكَ الْفَرْخُ وَالرِّيشُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ; فَتَكُونُ الْآيَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي, وَيَكُونُ الْمُحَرَّمُ بَعْضُ الصَّيْدِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ, وَيُفِيدُ أَيْضًا تَحْرِيمَ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَنَمَا عَنْهُ كَالْبِيضِ وَالْفَرْخِ وَالْوَبَرِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} قَالَ: "فِرَاخُ الطَّيْرِ وَصِغَارُ الْوَحْشِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْفِرَاخُ وَالْبَيْضُ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِخَمْسِ بَيْضَاتٍ فَقَالَ: "إنَّنَا مُحْرِمُونَ وَإِنَّا لَا نَأْكُلُ; فَلَمْ يَقْبَلْهَا". وروى عكرمة عن ابن عباس عن

باب ما يقتله المحرم

بَابُ مَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لَمَّا كَانَ خَاصًّا فِي صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مِنْ التَّخْصِيصِ, اقْتَضَى عُمُومُهُ تَحْرِيمَ سَائِرِ صَيْدِ الْبَرِّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِهَا, وَفِي بَعْضِهَا: "هُنَّ فَوَاسِقُ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْأَسَدُ". وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ. فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الذِّئْبَ. وَذَكَرَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "الْكَلْبُ الْعَقُورُ الَّذِي أُمِرَ الْمُحْرِمُ بِقَتْلِهِ مَا قَتَلَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ, مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ, وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ لَا يَعْدُو مِثْلُ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالْهِرَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنْ السِّبَاعِ فَلَا يَقْتُلْهُنَّ الْمُحْرِمُ, فَإِنْ قَتَلَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَدَاهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَلَقَّى الْفُقَهَاءُ هَذَا الْخَبَرَ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي إبَاحَةِ قَتْلِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ, فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ: "إنَّهُ الْأَسَدُ" وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: "أَكَلَك كَلْبُ اللَّهِ" فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ هُوَ الذِّئْبُ. وَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ ابْنِ عُمَرَ فِي مَوْضِعٍ "الْكَلْبُ" "الذِّئْبُ", وَلَمَّا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَفَادَ بِذَلِكَ كَلْبًا مِنْ شَأْنِهِ الْعَدْوَ عَلَى النَّاسِ وَعَقْرِهِمْ, وَهَذِهِ صِفَةُ الذِّئْبِ, فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْكَلْبِ هَهُنَا الذِّئْبُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا عَلَى الْمُحْرِمِ وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى فَجَائِزٌ لَهُ قَتْلُهُ مِنْ غَيْرِ فَدِيَةٍ لِأَنَّ فَحْوَى ذِكْرِهِ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ قال أصحابنا فيمن

فصل

فصل وقرئ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} بِرَفْعِ الْمِثْلِ, وَقُرِئَ بِخَفْضِهِ وَإِضَافَةُ الْجَزَاءِ إلَيْهِ. وَالْجَزَاءُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ وَيَكُونُ مَصْدَرًا فَيَكُونُ فِعْلًا لِلْمَجَازِيِّ, فَمَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ جَعَلَ الْمِثْلَ صِفَةً لِلْجَزَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْقِيمَةُ أَوْ النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ; وَمَنْ أَضَافَهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا وَأَضَافَهُ إلَى الْمِثْلِ, فَكَانَ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْوَاجِبِ مُضَافًا إلَى الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ مُضَافًا إلَى الْمِثْلِ, وَالْمِثْلُ يَكُونُ مِثْلًا لِلصَّيْدِ, فَيُفِيدُ أَنَّ الصَّيْدَ مَيْتَةٌ مُحَرَّمٌ لَا قِيمَةَ لَهُ, وَأَنَّ الْوَاجِبَ اعْتِبَارُ مِثْلِ الصَّيْدِ حَيًّا فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ, فَالْإِضَافَةُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاءُ اسْمًا أَوْ مَصْدَرًا; وَالنَّعَمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ النَّظِيرِ مِنْ النَّعَمِ لِأَنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الصَّيْدِ, فَيَحْتَاجُ فِي كُلِّ حِينٍ وَفِي كُلِّ صَيْدٍ إلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فِي تَقْوِيمِهِ. وَمَنْ قَالَ بِالنَّظِيرِ فَرَجَعَ إلَى قول الحكمين, لاختلاف

فصل

فصل قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُحْرِمِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ مَا أَكَلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْغُرْمَ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِهِ, فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ رَجَعَ مِنْ الْغُرْمِ فِي مِقْدَارِ مَا أَكَلَ مِنْهُ, فَهُوَ غَيْرُ ذَائِقٍ بِذَلِكَ وَبَالَ أَمْرِهِ; لِأَنَّ مَنْ غَرِمَ شَيْئًا وَأَخَذَ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ ذَائِقًا وَبَالَ أَمْرِهِ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنْ شَاءَ الْمُحْرِمُ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الطَّعَامِ يَوْمًا, وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ بَعْضٍ وَأَطْعَمَ بَعْضًا" فَأَجَازُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ, وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَعَ الْإِطْعَامِ فَلَمْ يُجِيزُوا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا, وَفَرَّقُوا أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَعْتِقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَيُطْعِمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ. فَأَمَّا الصَّوْمُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَجَازُوا الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصِّيَامَ عَدْلًا لِلطَّعَامِ وَمِثْلًا لَهُ بِقَوْلِهِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ {عَدْلُ ذَلِكَ} يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ; إذْ لَا تَشَابُهَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي قِيَامِهِ مَقَامَ الطَّعَامِ وَنِيَابَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ صَامَ بَعْضًا, فَكَأَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَجَازَ ضَمُّهُ إلَى الطَّعَامِ فَكَانَ الْجَمِيعُ طَعَامًا. وَأَمَّا الصِّيَامُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الطَّعَامِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ, فَغَيْرُ جَائِزٍ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا; إذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ, فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّعَامِ لَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ فَالصَّوْمُ فَرْضُهُ بَدَلًا مِنْهُ, وَغَيْرُ جَائِزٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ, كَالْمَسْحِ عَلَى أَحَدِ الخفين وغسل الرجل الأخرى

فصل

فصل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} يَنْتَظِمُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ إذَا قَتَلُوا فِي إيجَابِ جَزَاءٍ تَامٍّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ; لِأَنَّ "مَنْ" يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ فِي إيجَابِ جَمِيعِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قَدْ اقْتَضَى إيجَابَ الرَّقَبَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ إذَا قَتَلُوا نَفْسًا وَاحِدَةً; وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] وَعِيدٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93] وَعِيدٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ; وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَتَدَافَعُونَهُ, وَإِنَّمَا يَجْهَلُهُ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ, وَالدِّيَةُ إنَّمَا دَخَلَتْ فِي اللَّفْظِ حَسَبَ دُخُولِ الرَّقَبَةِ. قِيلَ لَهُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَعُمُومِهِ إيجَابُ دِيَاتٍ بِعَدَدِ الْقَاتِلِينَ, وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ, وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ قَتَلَاهُ عَمْدًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَاتِلِ لَهُ عَلَى حِيَالِهِ وَيُقْتَلَانِ جَمِيعًا بِهِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لَا يَرِثُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ بَعْضَهُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ مِمَّا قَتَلَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ؟ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَرِثَانِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَاتِلٌ لَهُ وَحْدَهُ, كَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ; إذْ كَانَتْ النَّفْسُ لَا تَتَبَعَّضُ, وَكَذَلِكَ قَاتِلُو الصَّيْدَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلصَّيْدِ عَلَى حِيَالِهِ; فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ تَامَّةٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وَجَعَلَ فِيهَا صَوْمًا, فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا, وَأَنْتَ تَقُولُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَزَاءَانِ

باب صيد البحر

بَابُ صَيْدِ الْبَحْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: "صَيْدُهُ مَا صِيدَ طَرِيًّا بالشباك ونحوها". فأما قوله: {وَطَعَامُهُ} . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عباس

ذكر الخلاف في ذلك

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكُ", وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيُّ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ الضُّفْدَعِ وَحَيَّةِ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ", وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ; وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الثَّوْرِيُّ, قَالَ الثَّوْرِيُّ: "وَيُذْبَحُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ "صَيْدُ الْبَحْرِ كُلُّهُ حَلَالٌ", وَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَيْسَ بِمَيْتَةِ الْبَحْرِ بَأْسٌ وَكَلْبُ الْمَاءِ وَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ فَرَسُ الْمَاءِ, وَلَا يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ حِلٌّ كُلُّهُ وَأَخْذُهُ ذَكَاتُهُ, وَلَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ". وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ حَيَوَانَ الْمَاءِ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَهُوَ عَلَى جَمِيعِهِ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنْهُ. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر} إنَّمَا هُوَ عَلَى إبَاحَةِ اصْطِيَادِ مَا فِيهِ لِلْمُحْرِمِ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَكْلِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ بَيَانِ اخْتِلَافِ حُكْمِ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمُ مَصْدَرٍ, وَهُوَ اسْمٌ لِلِاصْطِيَادِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَصِيدِ, أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: "صِدْت صَيْدًا"؟ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْدَرًا كَانَ اسْمًا لِلِاصْطِيَادِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الصَّائِدِ, وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصِيدِ, إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ; لِأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفِعْلِ, وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَ جَمِيعَ حَيَوَانِ الْمَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ" , فَخَصَّ مِنْ الْمَيْتَاتِ هَذَيْنِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} هُوَ هَذَانِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ مَا عَدَاهُمَا قَدْ شَمِلَهُ عُمُومُ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي مَيْتَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُ حَصْرَهُ الْمُبَاحَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ دَلَالَةً عَلَى حَظْرِهِ مَا عَدَاهُ. وَأَيْضًا لَمَّا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَيْتَاتِ دَلَّ تَفَرُّقُهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهِمَا; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3, البقرة: 173, النحل:115] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ كَهُوَ فِي خِنْزِيرِ الْبَرِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ خِنْزِيرَ الْمَاءِ إنَّمَا يُسَمَّى حِمَارُ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: إنْ سَمَّاهُ إنْسَانٌ حِمَارًا لَمْ يَسْلُبْهُ ذَلِكَ اسْمَ الْخِنْزِيرِ الْمَعْهُودِ لَهُ فِي اللُّغَةِ, فَيَنْتَظِمُهُ عُمُومُ التَّحْرِيمِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عن سعيد بن خالد عن سعيد بن الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وذكر

باب أكل المحرم لحم صيد الحلال

بَابُ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدِ الْحَلَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُمَا كَرِهَا لِلْمُحْرِمِ أَكَلَ صَيْدٍ اصْطَادَهُ حَلَالٌ" إلَّا أَنَّ إسْنَادَ حَدِيثِ عَلِيٍّ لَيْسَ بِقَوِيٍّ, يَرْوِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ, وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقِفُهُ بَعْضُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَبِي قَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ إبَاحَتُهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي قتادة

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ, وَبَيْنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْهُ فِيهِ, وَأَجْمَعَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى وُجُوبِهِ, وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ مِنْ التَّقِيَّةِ يَسَعُ مَعَهَا السُّكُوتُ. فَمِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: وَاصْبِرْ عَلَى مَا سَاءَك مِنْ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى لَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِهِ لِنَقْتَدِيَ بِهِ وَنَنْتَهِيَ إلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا مَدَحَ بِهِ سَالِفَ الصَّالِحِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112] إلَى قَوْلِهِ: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] , وَقَالَ تَعَالَى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قال:

مطلب: في ذم الحججاج الظالم

مطلب: في ذم الحججاج الظالم وَلَعَمْرِي إنَّ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجِ وَالْوَلِيدِ وَأَضْرَابِهِمْ كَانَتْ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا فَرْضُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْيَدِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا مَاتَ قَالَ الْحَسَنُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ فَاقْطَعْ سُنَّتَهُ فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشُ أُعَيْمِشُ1 يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ وَاَللَّهِ مَا عَرَقِ فِيهَا عِنَانٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, يُرَجِّلُ جَمَّتَهُ وَيَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْذِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ, لَا مِنْ اللَّهِ يَتَّقِي وَلَا مِنْ النَّاسِ يَسْتَحِيُ, فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لَا يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الرَّجُلُ" ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: "هَيْهَاتَ وَاَللَّهُ حَالٌ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفِ وَالسَّوْطِ" وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: "خَرَجَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْهَاجِرَةِ فَمَا زَالَ يَعْبُرُ مَرَّةً عَنْ أَهْلِ الشَّامِ يَمْدَحُهُمْ وَمَرَّةً عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَذُمُّهُمْ حَتَّى لَمْ نَرَ مِنْ الشَّمْسِ إلَّا حُمْرَةً عَلَى شُرَفِ الْمَسْجِدِ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ فَصَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ, ثُمَّ أُذِّنَ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ, ثُمَّ أُذِّنَ فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ, فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ يَوْمَئِذٍ". فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي تَرْكِ النَّكِيرِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ. وَقَدْ كَانَ فُقَهَاءُ التَّابِعِينَ وَقُرَّاؤُهُمْ خَرَجُوا عَلَيْهِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ إنْكَارًا مِنْهُمْ لَكُفْرِهِ وَظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ, فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ تِلْكَ الْحُرُوبُ الْمَشْهُورَةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَوَطِئَهُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا يَأْتِيهِ إلَّا بِقَلْبِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, أَنَّهُ ذَكَرَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فَقَالَ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ, إنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حِينَ أُنْزِلَ وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ, وَكَانَ مِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ, وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ, وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ عِنْدَ السَّاعَةِ, وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, قَالَ: فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فأمروا بالمعروف

_ 1 قوله" "أخيفش إلى آخره" يقرب منه ما ذكره أبو سليمان الخطابي في غريب الحديث حيث قال إن الحجاج أرسل إلى الحسن رحمه الله تعالى فأدخل عليه فلما خرج من عنده قال: دخلت على أحيول يطرطب شعيرات له فأخرج إلي بنان قصيرة قل ما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله, قال أبو سليمان: قوله: يطرطب شعيرلت له أي ينفخ بشفتيه في شاربه غيصظا أو كبرا والأصل في الطرطبة الدخاء بالضأن والصفير لها بالشفتين. ومثله في الفائق للزمخشري في "ط ر ب" وقال: والمعنى يستخف شاربه ويحركه في كلامه وقيل ينفخ بشفتيه إلى آخرهخ. "لمصححه".

باب الشهادة على الوصية في السفر

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ هَهُنَا, فَقَالَ قَائِلُونَ: "هِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ" وَأَجَازُوا بِهَا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا تُوفِيَ بِدُقُوقَا وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيتِهِ, فَأَشْهَدْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَأَحْلَفَهُمَا أَبُو مُوسَى بَعْدَ الْعَصْرِ بِاَللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا, وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتِرْكَتِهِ; فَأَمْضَى أَبُو مُوسَى شَهَادَتَهُمَا وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "مَعْنَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} حُضُورُ الْوَصِيَّيْنِ, مِنْ قَوْلِك شَهِدْته إذَا حَضَرْته". وَقَالَ آخَرُونَ: "إنَّمَا الشَّهَادَةُ هُنَا أَيْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِاَللَّهِ إذَا ارْتَابَ الْوَرَثَةُ بِهِمَا", وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى إلَى أَنَّهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ, وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ; وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ شُرَيْحٍ, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدَةَ وَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : "مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ: "مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ". فَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْيَمِينِ دُونَ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُقَامُ عِنْدَ الْحُكَّامِ, فَقَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ, وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةٌ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ الشَّهَادَةُ الْمُتَعَارِفَةُ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رجالكم} {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كُلُّ ذَلِكَ قَدْ عُقِلَ بِهِ الشَّهَادَاتُ عَلَى الْحُقُوقِ لَا الأيمان; وكذلك قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الْمَفْهُومُ فِيهِ الشَّهَادَةُ الْمُتَعَارَفَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيْمَانَ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ لِأَنَّ حَالَ الْمَوْتِ لَيْسَ حَالًا لِلْأَيْمَانِ. ثُمَّ زَادَ بِذَلِكَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إنْ لَمْ يُوجَدْ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ; وَلَا يَخْتَلِفُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ وُجُودُ ذَوِي الْعَدْلِ وَعَدَمُهُمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْجُودَةٌ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مَكْتُومَةٍ, ثُمَّ ذَكَرَ يَمِينَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ اخْتِلَافِ الْوَصِيِّينَ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ, وَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ الْيَمِينُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ثُمَّ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يعني به الشهادة

مطلب: في موضع الاستحلاف

مطلب: في موضع الاستحلاف وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ: اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الْعَصْرِ; وَإِنَّمَا اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الْعَصْرِ تَغْلِيظًا لِلْيَمِينِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَظَّمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ اسْتَحْلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ بِالِاسْتِحْلَافِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُعَظَّمَةِ. وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ" ; فَأَخْبَرَ أَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا, وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمَوْسُومَةِ لِلْعِبَادَاتِ وَلِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ فِيهَا تَكُونُ الْمَعَاصِي فِيهَا أَعْظَمَ إثْمًا, أَلَا تَرَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي الْكَعْبَةِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؟ وَلَيْسَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَفِي الْمَسْجِدِ فِي الدَّعَاوَى بِوَاجِبَةٍ, وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّرْهِيبِ وَتَخْوِيفِ الْعِقَابِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ; وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَبِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "لَك يَمِينُهُ" قَالَ: إنَّهُ رِجْلٌ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي, قَالَ: "لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ" فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ, فَلَمَّا أَدْبَرَ لِيَحْلِفَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" وَبِحَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ, وَفِيهِ: فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ. فَقَالُوا: قَوْلُهُ: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ قَدْ كَانَتْ تَكُونُ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَسْنُونٌ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْلِسُ هُنَاكَ, فَلِذَلِكَ كَانَ يَقَعُ الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ, وَالْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا إذَا كَانَتْ كَاذِبَةً لِحُرْمَةِ الْمَوْضِعِ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ; وَالشَّافِعِيُّ لَا يَسْتَحْلِفُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ, وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ" فَقَدْ خَالَفَ الْخَبَرَ عَلَى أَصْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "انْطَلَقَ لِيَحْلِفَ" وَأَنَّهُ لَمَّا أَدْبَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ, فَإِنَّهُ لَا دلالة فيه على أنه ذهب إلى

فصل

فَصْلٌ قَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وَذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَجْوَزُ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ; وَلَمَّا نُسِخَ مِنْهَا جَوَازُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] نَفَى بِذَلِكَ جَوَازَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ, وَنَسَخَ بِذَلِكَ قَوْلَهُ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وَبَقِيَ حُكْمُ دَلَالَتِهَا فِي جَوَازِهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا فِي جَوَازِهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهَا عَلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُجِيزُهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَمَنَعَ جَوَازَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ أَجَازَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيَّ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَشُرَيْحٍ, وَلَا يُجِيزُونَهَا عَلَى الذِّمِّيِّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَاقِيَةٌ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَقَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالثَّوْرِيِّ; وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَصَالِحُ وَاللَّيْثُ: "تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا تَجُوزُ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِهَا". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ". وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ يَقْتَضِي تُسَاوَيْ شَهَادَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِقَوْلِهِ تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِمْ, وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْمِلَلِ. وَمِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ أهل

المجلد الثالث

المجلد الثالث سُورَةُ الْأَنْعَامِ بَابُ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ ... سورة الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم بَابُ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الْآيَةُ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ الْقُرْآنُ، بِالتَّكْذِيبِ وَإِظْهَارِ الِاسْتِخْفَافِ إعْرَاضًا يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارَ الْكَرَاهَةِ لِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا تَرْكَ مُجَالَسَةِ الْمُلْحِدِينَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ عِنْدَ إظْهَارِهِمْ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يُمْكِنَّا إنْكَارَهُ وَكُنَّا فِي تَقِيَّةٍ مِنْ تَغْيِيرِهِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ; لِأَنَّ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} الْمُرَادُ: إنَّ أَنْسَاك الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ الشُّغْلِ فَقَعَدْت مَعَهُمْ وَأَنْتَ نَاسٍ لِلنَّهْيِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْك فِي تِلْكَ الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يَعْنِي: بَعْدَمَا تَذْكُرُ نَهْيَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْعُدْ مَعَ الظَّالِمِينَ. وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ سَائِرِ الظَّالِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَهْلِ الْمِلَّةِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي ثِقَةٍ مِنْ تَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِقُبْحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مُجَالَسَتُهُمْ مَعَ تَرْكِ النَّكِيرِ سَوَاءٌ كَانُوا مُظْهِرِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِلظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ أَوَغَيْرَ مُظْهِرِينَ لَهُ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ; لِأَنَّ فِي مُجَالَسَتِهِمْ مُخْتَارًا مَعَ تَرْكِ النَّكِيرِ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا بِفِعْلِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:78] الْآيَاتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا رُوِيَ فِيهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] . قَوْله تَعَالَى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

[التوبة:5] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لَكِنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّهَدُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وَقَوْلُهُ {تُبْسَلَ} قَالَ الْفَرَّاءُ: "تُرْتَهَنُ" وَقَالَ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: "تُسْلَمَ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "تُحْبَسَ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "تُفْضَحَ". وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِارْتِهَانُ، وَقِيلَ: التَّحْرِيمُ، وَيُقَالُ أَسَدٌ بَاسِلٌ لِأَنَّ فَرِيسَتَهُ مُرْتَهَنَةٌ بِهِ لَا تَفْلِتُ مِنْهُ، وَهَذَا بَسْلٌ عَلَيْك أَيْ حَرَامٌ عَلَيْك لِأَنَّهُ مِمَّا يُرْتَهَنُ بِهِ، وَيُقَالُ: أُعْطِيَ الرَّاقِي بَسْلَتَهُ أَيْ أُجْرَتَهُ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُرْتَهَنٌ بِالْأُجْرَةِ، وَالْمُسْتَبْسَلُ الْمُسْتَسْلَمُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهَنِ بِمَا أَسْلَمَ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَالٍ نَظَرَهُ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى مَا سَبَقَ إلَى وَهْمِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ; لِأَنَّ قَوْمَهُ قَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ فَيَقُولُونَ هَذَا صَنَمُ زُحَلَ وَصَنَمُ الشَّمْسِ وَصَنَمُ الْمُشْتَرِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ، إكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ، فَقَالَ ذَلِكَ وَقَدْ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الْأُمُورُ وَحَرَّكَتْهُ الْخَوَاطِرُ وَالدَّوَاعِي عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا شَاهَدَهُ مِنْ الْحَوَادِثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ وَلَدَتْهُ فِي مَغَارٍ خَوْفًا مِنْ نُمْرُودٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ الْأَطْفَالَ الْمَوْلُودِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَغَارِ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ حِينَ شَاهَدَ الْكَوَاكِبَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمِهِ، وَحَذَفَ الْأَلِفَ وَأَرَادَ: أَهَذَا رَبِّي قَالَ الشَّاعِرُ: كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا وَمَعْنَاهُ: أَكْذَبَتْك. وَقَالَ آخَرُ: رَقَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ ... فَقُلْت وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمْ هُمْ مَعْنَاهُ: أَهُمْ هم ومعنى قوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ وَلَوْ كَانَ رَبًّا لَأَحْبَبْته وَعَظَّمْته تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال الَّذِي سَلَكَ إبْرَاهِيمُ طَرِيقَهُ مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَوْضَحِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ فِي عُلُوِّهِ وَضِيَائِهِ قَرَّرَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَنْقَسِمُ إلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا خَالِقًا أَوْ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا، فَلَمَّا رَآهُ طَالِعًا آفِلًا وَمُتَحَرِّكَا زَائِلًا قَضَى بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ لِمُقَارَنَتِهِ لِدَلَالَاتِ الْحَدَثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُحْدَثَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إحْدَاثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِيهِ كَمَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مِنْهُ إذْ كَانَ مُحْدَثًا، فَحَكَمَ بِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي جِهَةِ الْحُدُوثِ وَامْتِنَاعِ كَوْنِهِ خَالِقًا رَبًّا ثُمَّ لَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ فَوَجَدَهُ مِنْ الْعِظَمِ وَالْإِشْرَاقِ وَانْبِسَاطِ النُّورِ عَلَى خِلَافِ الْكَوْكَبِ قَرَّرَ أَيْضًا نَفْسَهُ عَلَى حُكْمِهِ فَقَالَ: هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا رَاعَاهُ وَتَأَمَّلَ وَجَدَهُ فِي مَعْنَاهُ فِي بَابِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَوَادِثِ مِنْ الطُّلُوعِ وَالْأُفُولِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ وَأَضْوَأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَا شَاهَدَ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا مِنْ الْعِظَمِ وَالضِّيَاءِ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ بِالْحُدُوثِ لِوُجُودِ

دَلَالَاتِ الْحَدَثِ فِيهِ ثُمَّ لَمَّا أَصْبَحَ رَأَى الشَّمْسَ طَالِعَةً فِي عِظَمِهَا وَإِشْرَاقِهَا وَتَكَامُلِ ضِيَائِهَا قَالَ: هَذَا رَبِّي; لِأَنَّهَا بِخِلَافِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ، ثُمَّ لَمَّا رَآهَا آفِلَةً مُنْتَقِلَةً حَكَمَ لَهَا بِالْحُدُوثِ أَيْضًا وَأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ لِشُمُولِ دَلَالَةِ الْحَدَثِ لِلْجَمِيعِ. وَفِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْحَشْوِ الْقَائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالتَّقْلِيدِ لَكَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا اسْتَدَلَّ إبْرَاهِيمُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ ثَبَتَ بِذَلك أَنَّ عَلَيْنَا مِثْلَهُ; وَقَدْ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ إيَّاهُ مَعَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فَأَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ. وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ أَحْوَالُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ خَالِقَةٍ وَمَرْبُوبَةٌ غَيْرُ رَبٍّ فَهِيَ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهَا فِي الِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا وَأَنَّهُ يَكُونُ مَرْبُوبًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَلَا الزَّوَالُ وَلَا الْمَجِيءُ وَلَا الذَّهَابُ، لِقَضِيَّةِ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَبَدَ كَوْكَبًا أَوْ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ قَبْلَ إرْسَالِ الرُّسُلِ; لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ بِحُجَجِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} . يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُدُوثِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهَا مِنْ مُقَارَنَةِ الْحَوَادِثِ لَهُ لَا يَكُونُ إلَهًا. وَلَمَّا قُرِّرَ ذَلِكَ عندهم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أَمَّنْ يَعْبُدُ إلَهًا وَاحِدًا أَحَقُّ أَمْ مَنْ يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى؟ قَالُوا: مَنْ يَعْبُدُ إلَهًا وَاحِدًا، فَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَصَارُوا مَحْجُوجِينَ. وَقِيلَ إنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ أَمَا تَخَافُ أَنْ يَخْبِلَك آلِهَتُنَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تَخْبِلَكُمْ بِجَمْعِكُمْ الصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ فِي الْعِبَادَةِ؟ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ حِجَاجُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ رَجَعَ عَلَيْهِمْ مَا أَرَادُوا إلْزَامَهُ إيَّاهُ فَأَلْزَمَهُمْ مِثْلَهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ. قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أَمْرٌ لَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ ذَكَرَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهُ لَمْ يُخَصَّصْ بذلك

الِاسْتِدْلَال عَلَى التَّوْحِيدِ مِنْ الشَّرَائِعِ السَّمْعِيَّةِ وَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. قَوْله تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} يُقَالُ إنَّ الْإِدْرَاكَ أَصْلُهُ اللُّحُوقُ، نَحْوُ قَوْلِك: أَدْرَكَ زَمَانَ الْمَنْصُورِ، وَأَدْرَكَ أَبَا حَنِيفَةَ، وَأَدْرَكَ الطَّعَامَ أَيْ لَحِقَ حَالَ النُّضْجِ، وَأَدْرَكَ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَةَ، وَأَدْرَكَ الْغُلَامَ إذَا لَحِقَ حَالَ الرِّجَالِ وَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ لِلشَّيْءِ لُحُوقُهُ لَهُ بِرُؤْيَتِهِ إيَّاهُ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَدْرَكْت بِبَصَرِي شَخْصًا مَعْنَاهُ رَأَيْته بِبَصَرِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْإِحَاطَةَ لِأَنَّ الْبَيْتَ مُحِيطٌ بِمَا فِيهِ وَلَيْسَ مُدْرِكًا له، فقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} مَعْنَاهُ: لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ، وَهَذَا تَمَدُّحٌ بِنَفْيِ رُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وَمَا تَمَدَّحَ اللَّهُ بِنَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ إثْبَاتَ ضِدِّهِ ذَمٌّ وَنَقْصٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ نَقِيضِهِ بِحَالٍ، كَمَا لَوْ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُ الصِّفَةِ بـ {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لَمْ يَبْطُلْ إلَّا إلَى صِفَةِ نَقْصٍ، فَلَمَّا تَمَدَّحَ بِنَفْيِ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ ضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ بِحَالٍ; إذْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ نَقْصٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مخصوصا بقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} لِأَنَّ النَّظَرَ مُحْتَمِلٌ لِمَعَانٍ، مِنْهُ انْتِظَارُ الثَّوَابِ كَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِمَا لَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ. وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الرُّؤْيَةِ إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ لَوْ صَحَّتْ، وَهُوَ عِلْمُ الضَّرُورَةِ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ شُبْهَةٌ وَلَا تَعْرِضُ فِيهِ الشُّكُوكُ; لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ. قَوْله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى ضِدِّ الشِّرْكِ مِنْ الْإِيمَانِ قَسْرًا مَا أَشْرَكُوا; لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ لَا بِأَنْ لَا يَكُونَ، فَمُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ; وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ الْحَالُ الَّتِي تُنَافِي الشِّرْكَ قَسْرًا بِالِاقْتِطَاعِ عَنْ الشِّرْكِ عَجْزًا وَمَنْعًا وَإِلْجَاءً، فَهَذِهِ الْحَالُ لَا يَشَاؤُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مَنْعٌ مِنْ الطَّاعَةِ وَإِبْطَالٌ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} قَالَ السُّدِّيُّ: لَا تَسُبُّوا الْأَصْنَامَ فَيَسُبُّوا مِنْ أَمْرِكُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَيْبِهَا. وَقِيلَ: "لَا تَسُبُّوا الْأَصْنَامَ فَيَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ وَالْجَهْلُ عَلَى أَنْ يَسُبُّوا مَنْ تَعْبُدُونَ كَمَا سَبَبْتُمْ مَنْ يَعْبُدُونَ". وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحِقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ سَبِّ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ يَتَسَرَّعُونَ إلَى سَبِّهِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ لَهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} ظَاهِرُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ الْإِبَاحَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] {فَإِذَا قُضِيَتِ

الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة:10] هَذَا إذَا أَرَادَ بِأَكْلِهِ التَّلَذُّذَ فَهُوَ إبَاحَةٌ وَيَحْتَمِلُ التَّرْغِيبَ فِي اعْتِقَادِ صِحَّةِ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهِ لِلِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ آكِلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَأْجُورًا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يقول: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِاقْتِضَائِهِ مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقوله {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَيُحْتَجُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذَبْحِ الْغَاصِبِ لِلشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَفِي الذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبَةٍ أَنَّ الْمَالِكَ لِلشَّاةِ لَهُ أَكْلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إذْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ إعْلَانَ الزِّنَا إثْمًا وَالِاسْتِسْرَارُ بِهِ غَيْرُ إثْمٍ، فَقَالَ الله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ مَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ أَنَّ عَلَيْهِ تَرْكَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فَهُوَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْإِثْمِ مَا يَفْعَلُهُ بِالْجَوَارِحِ، وَبَاطِنُهُ مَا يَفْعَلُهُ بِقَلْبِهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْفُصُولِ وَنَحْوِهَا مِمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ منها. مطلب: الأقوال في ترك التسمية على الذبيحة قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ"، وَذَكَرَ مِثْلَهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِي تَارِكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ شِهَابٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا ذَبَحَ وَنَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: "إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمِلَّةِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ ذِكْرُ اللَّهَ فِي قَلْبِهِ وَقَالَ: كَمَا لَا يَنْفَعُ الِاسْمُ فِي الشِّرْكِ لَا يَضُرُّ النِّسْيَانُ فِي الْمِلَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُسْلِمُ تَسْمِيَةُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى; الْمُسْلِمُ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُؤْمِنُ هُوَ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَالْمُؤْمِنُ تَسْمِيَةٌ لَلذَّابِحِ. وَرَوَى أَبُو خَالِدٍ الْأَصَمُّ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ غُلَامَا لِابْنِ عُمَر قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ قَالَ: قَدْ قُلْت، قَالَ: قُلْ بِسْمِ اللَّهِ قَالَ: قَدْ قُلْت، قَالَ: قُلْ بِسْمِ اللَّهِ قَالَ: قَدْ قُلْت، قَالَ: فَذَبَحَ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ" وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا لَمْ يُؤْكَلْ. وَرَوَى يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ مَوْلًى لِقُرَيْشٍ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّهُ أَتَى عَلَى غُلَامٍ لِابْنِ عُمَرَ قَائِمًا عِنْدَ

قَصَّابٍ ذَبَحَ شَاةً وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَأَمَرَهُ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَقُومَ عِنْدَهُ فَإِذَا جَاءَ إنْسَانٌ يَشْتَرِي قَالَ: ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إنَّ هَذِهِ لَمْ يُذَكِّهَا فَلَا تَشْتَرِ". وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَذْبَحُ فَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ قَالَ: "أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَأْكُلَ". وَظَاهِرُ الْآيَةِ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِ مَا تَرَكَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ نَاسِيًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ عَامِدًا، إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ; فَأَمَّا مَنْ أَبَاحَ أَكْلَهُ مَعَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ غَيْرُ مُسْتَعْمِلٍ لَحُكْمِهَا بِحَالٍ، هَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي إيجَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الذَّبَائِحُ الَّتِي ذَبَحَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى شريك عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَمَّا مَا قَتَلَ رَبُّكُمْ فَمَاتَ فَلَا تَأْكُلُونَهُ وَأَمَّا مَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ وَذَبَحْتُمْ فَتَأْكُلُونَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قَالَ: "الْمَيْتَةَ". وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} فَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ فِي الْمَيْتَةِ وَفِي ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ فَهِيَ مَقْصُورَةُ الْحُكْمِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا ذَبَائِحُ الْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لَهُ: نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهَا عَلَيْهِ بَلْ الْحُكْمُ لِلْعُمُومِ إذَا كَانَ أَعُمَّ مِنْ السَّبَبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لَذَكَرَهَا وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ سَمُّوا عَلَى ذَبَائِحِهِمْ لَمْ تُؤْكَلْ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ; إذْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُسَمُّوا، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الْمَيْتَةَ لَكَانَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةً عَلَى فَسَادِ التَّذْكِيَةِ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ; إذْ جَعَلَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَمًا لِكَوْنِهِ مَيْتَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَيْتَةٌ. وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّسْمِيَةُ دُونَ ذَبِيحَةِ الْكَافِرِ. وَهُوَ مَا رَوَاهُ إسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَا تَأْكُلُوهُ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُجَادَلَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي إيجَابِهَا لَا مِنْ طَرِيقِ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا الْمَيْتَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا يُفْسِدُ الزَّكَاةَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] إلَى قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَأَنَّهُ غير

وَاجِبٍ عَلَى الْآكِلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَالَ الِاصْطِيَادِ، وَالسَّائِلُونَ قَدْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَلَمْ يُبَحْ لَهُمْ الْأَكْلُ إلَّا بِشَرِيطَةِ التَّسْمِيَةِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] يَعْنِي فِي حَالِ النَّحْرِ; لِأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] وَالْفَاء لِلتَّعْقِيبِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيد الْكَلْبِ، فَقَالَ: "إذَا أَرْسَلَتْ كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ إذَا أَمْسَكَ عَلَيْك، وَإِنْ وَجَدَتْ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ وَقَدْ قَتَلَهُ فلا تأكله" فإنما ذكرت اسم الله على كَلْبِك وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ مُسْلِمًا، فَأَمَرَهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى إرْسَالِ الْكَلْبِ وَمَنَعَهُ الْأَكْلَ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ بِقَوْلِهِ: "فَلَا تَأْكُلُهُ فَإِنَّمَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك". وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالنَّهْيُ عَنْ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ أَيْضًا. وَيَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَمْرَيْنِ مِنْ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَمِنْ الْأَكْلِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَالُ تَرْكِهَا عَامِدًا; إذْ كَانَ النَّاسِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أن النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْأَعْرَابَ يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ فَبِتْنَا عِنْدَهُمْ وَهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ لَا نَدْرِي ذَكَرُوا اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: "سَمُّوا عَلَيْهِ اللَّهَ وَكُلُوا"، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ التَّسْمِيَةُ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ لَقَالَ: وَمَا عَلَيْكُمْ مِنْ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: "كُلُوا" لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْفَسَادِ وَمَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْمُسْلِمِ التَّسْمِيَةَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَبَاحَ أَكْلَهُ فَاسِقًا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ التَّارِكَ لِلتَّسْمِيَةِ عَامِدًا غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ بِسِمَةِ الْفِسْقِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَيْتَةُ أَوْ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ قيل له: ظاهر قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَقِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِ بَعْضِهِمْ غَيْرُ مَانِعٍ بَقَاءَ حُكْمِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الذَّبِيحَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: مَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِوُجُوبِهَا هُوَ فَاسِقٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَكَلَ مَا هَذَا سَبِيلُهُ مَعَ الِاعْتِقَادِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهَا فَقَدْ لَحِقَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ، وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَيْتَةِ أَوْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فَاسِقًا لِزَوَالِهِ عِنْدَ حُكْمِ الْآيَةِ بِالتَّأْوِيلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ ذِكْرًا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي اسْتِدَامَتِهِ وَلَا فِي انْتِهَائِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَاسْتَوَى فِيهِ الْعَامِدُ وَالنَّاسِي. قِيلَ لَهُ:

أَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ دَعْوَى مَحْضٌ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى أَصْلٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، عَلَى أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْإِيمَانِ وَالشَّهَادَتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي التَّلْبِيَةِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَمَا شَاكَلَ هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ إذَا كَانَتْ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي اسْتِدَامَتِهَا وَانْتِهَائِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الذَّكَاةِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} خِطَابٌ لِلْعَامِدِ دُونَ النَّاسِي; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تعالى في نسق التلاوة: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةٌ لِلنَّاسِي; وَلِأَنَّ النَّاسِيَ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلتَّسْمِيَةِ، وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُبَيْدِ بْن عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِلتَّسْمِيَةِ فَقَدْ أَوْقَعَ الذَّكَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُفْسِدُهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ ذَكَاةً أُخْرَى لِفَوَاتِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ نِسْيَانِ تَكْبِيرَةِ الصَّلَاةِ أَوْ نِسْيَانِ الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُ بَعْدَ الذِّكْرِ هُوَ فَرْضٌ آخَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ فَرْضٌ آخَرُ فِي الذَّكَاةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ لَمَا أَسْقَطَهَا النِّسْيَانُ، كَتَرْكِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ. وَهَذَا السُّؤَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ: مَنْ أَسْقَطَ التَّسْمِيَةَ رَأْسًا، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فِي حَالِ النِّسْيَانِ; فَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَهَا فَإِنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَيْنَا بِاتِّفَاقِنَا عَلَى سُقُوطِهَا فِي حَالِ النِّسْيَانِ، وَشَرَائِطُ الذَّكَاةِ لَا يُسْقِطُهَا النِّسْيَانُ كَتَرْكِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فِي حَالِ النِّسْيَانِ يُشَبِّهُهَا بِتَرْكِ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ نَاسِيَا أَوْ عَامِدًا أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الذَّكَاةِ. فَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَ فَرَضَ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا فَإِنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَصِحُّ لَهُ; لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ فِعْلُ الطَّهَارَةِ وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ شُرُوطِهَا، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ تَارِكِ الطَّهَارَةِ نَاسِيًا وَبَيْنَ الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا; وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ أَيْضًا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَلَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ نَاسِيًا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، فَهَذَا سُؤَالٌ يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِ هَذَا السَّائِلِ. وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَهَا فِي حَالِ النِّسْيَانِ وَاسْتَدَلَّ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ هُوَ نَفْسُ الذَّبْحِ الَّذِي يُنَافِي مَوْتَهُ حَتْفَ أَنْفِهِ وَيَنْفَصِلُ بِهِ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ مَشْرُوطَةٌ لِذَلِكَ لَا عَلَى أَنَّهَا نَفْسُ الذَّبْحِ بَلْ هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا عِنْدَهُ فِي حَالِ الذِّكْرِ دُونَ حَالِ النِّسْيَانِ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ مِنْ وُجُودِ الذَّبْحِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} الْآيَةُ الْحَرْثُ الزَّرْعُ، وَالْحَرْثُ الْأَرْضُ الَّتِي تُثَارُ لِلزَّرْعِ; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ عَمَدَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَجَزَّءُوا مِنْ حُرُوثِهِمْ وَمَوَاشِيهمْ جُزْءًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجُزْءًا لِشُرَكَائِهِمْ، فَكَانُوا إذَا خالط

شَيْءٌ مِمَّا جَزَّءُوا لِشُرَكَائِهِمْ مَا جَزَّءُوا لِلَّهِ تَعَالَى رَدُّوهُ عَلَى شُرَكَائِهِمْ، وَكَانُوا إذَا أَصَابَتْهُمْ السَّنَةُ اسْتَعَانُوا بِمَا جَزَّءُوا لِلَّهِ تَعَالَى وَوَفَّرُوا مَا جَزَّءُوا لِشُرَكَائِهِمْ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا إذَا هَلَكَ الَّذِي لِأَوْثَانِهِمْ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: "إنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَ بَعْضَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى أَوْثَانِهِمْ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ". وَإِنَّمَا جَعَلَ الْأَوْثَانَ شُرَكَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفِقُونَهَا عَلَيْهَا فَشَارَكُوهَا فِي نِعَمِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} . قَالَ الضَّحَّاك: الْحَرْثُ الزَّرْعُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِأَوْثَانِهِمْ، وَأَمَّا الْأَنْعَامُ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوَّلًا فَهُوَ مَا جَعَلُوهُ لِأَوْثَانِهِمْ كَمَا جَعَلُوا الْحَرْثَ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهَا فِي سَدَنَتِهَا وَمَا يَنُوبُ مِنْ أَمْرِهَا. وَقِيلَ: "مَا جُعِلَ مِنْهَا قُرْبَانًا لِلْأَوْثَانِ"، وَأَمَّا الْأَنْعَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ ثَانِيًا فَإِنَّ الْحَسَنَ وَمُجَاهِدًا قَالَا: هِيَ السَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي، وَأَمَّا الَّتِي ذُكِرَتْ ثَالِثًا فَإِنَّ السُّدِّيَّ وَغَيْرَهُ قَالُوا: "هِيَ الَّتِي إذَا وَلَّدُوهَا أَوْ ذَبَحُوهَا أَوْ رَكِبُوهَا لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا"، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: "هِيَ الَّتِي لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا". وقَوْله تَعَالَى: {حِجْرٌ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي حَرَامٌ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22] أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "يَعْنُونَ اللَّبَنَ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: "مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا": الْبَحَائِرُ كَانَتْ لِلذُّكُورِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً اشْتَرَكَ فِيهَا ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ} . قَوْله تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِي، تَحْرِيمًا مِنْ الشَّيْطَانِ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ يَعْنِي بِهَا الْأَجِنَّةَ وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "أَرَادَ بِهَا الْأَلْبَانَ وَالْأَجِنَّةَ جَمِيعًا" وَالْخَالِصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِهِ كَالذَّهَبِ الْخَالِصِ، وَمِنْهُ إخْلَاصُ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أَنَّثَ خَالِصَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، كَالْعَلَامَةِ وَالرَّاوِيَةِ، وَقِيلَ: عَلَى تَأْنِيثِ الْمَصْدَرِ، نَحْوُ الْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَمِنْهُ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] وَقِيلَ: لِتَأْنِيثِ مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَالِصَةٌ فُلَانٌ وَخُلْصَانُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} يَعْنِي أَجِنَّةَ الْأَنْعَامِ إذَا كَانَتْ مَيْتَةً اسْتَوَى ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِيهَا فَأَكَلُوهَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْق الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سورة الأنعام

إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} . قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن عباس والسدي: {مَعْرُوشَاتٍ} مَا عَرَشَ النَّاسُ مِنْ الْكُرُومِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ رَفْعُ بَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ إنَّ تَعْرِيشَهُ أَنْ يُحْظَرَ عَلَيْهِ بِحَائِطٍ، وَأَصْلُهُ الرَّفْعُ، ومنه: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] [الكهف:42] [الحج:45] أَيْ عَلَى أَعَالِيهَا وَمَا ارْتَفَعَ مِنْهَا، وَالْعَرْشُ السَّرِيرُ لِارْتِفَاعِهِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الزَّرْعَ وَالنَّخْلَ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ثُمَّ قَالَ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الْحَقِّ فِي سَائِرِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالسُّدِّيِّ وَإِبْرَاهِيمَ: نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ عِنْدَ الصِّرَامِ غَيْرُ الزَّكَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ وَعَنْ صِرَامِ اللَّيْلِ" قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ كَيْ يَحْضُرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا حَصَدْت طَرَحْت لِلْمَسَاكِينِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا نَقَّيْت وَإِذَا كَدَّسْت، وَيُتْرَكُونَ يَتَّبِعُونَ آثَارَ الْحَصَّادِينَ، وَإِذَا أَخَذْت فِي كَيْلِهِ حَثَوْت لَهُمْ مِنْهُ، وَإِذَا عَلِمْت كَيْلَهُ عَزَلْت زَكَاتَهُ، وَإِذَا أَخَذَتْ فِي جِدَادِ النَّخْلِ طَرَحْت لَهُمْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذْت فِي كَيْلِهِ، وَإِذَا عَلِمْت كَيْلَهُ عَزَلْت زَكَاتَهُ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّ قَوْله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} مَنْسُوخٌ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، يُبَيِّنُ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ تجويز نسخ القرآن بالسنة. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الصِّنْفِ الْمُوجَبِ فِيهِ، والآخر في مقداره. ذكر الخلاف في الموجب فيه قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: "فِي جَمِيعِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ الْعُشْرُ إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا شَيْءَ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ إلَّا مَا كَانَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ". وَقَالَ مَالِكٌ: "الْحُبُوبُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالذُّرَةُ

وَالدُّخْنُ وَالْأُرْزُ وَالْحِمَّصُ وَالْعَدَسُ وَالْجُلْبَانُ وَاللُّوبْيَاءُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْحُبُوبِ وَفِي الزَّيْتُونِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ: "لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّرْعِ زَكَاةٌ إلَّا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنُ صَالِحٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ مَأْكُولًا، وَلَا شَيْءَ فِي الزَّيْتُونِ لِأَنَّهُ إدَامٌ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُضَرِ صَدَقَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ دَسَاتِجِ الْكُرَّاثِ الْعُشْرَ بِالْبَصْرَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَفِي بَقَاءِ حُكْمِهِ أَوْ نَسْخِهِ، وَالْكَلَامُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هَلْ الْمُرَادُ زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ أَوْ حَقٌّ آخِرُ غَيْرُهُ؟ وَهَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَيْرُ مَنْسُوخٍ؟ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْحَقِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَتَى وَجَدْنَا حُكْمًا قَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَلَفْظُ الْكِتَابِ يَنْتَظِمُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُحْكَمَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ وَأَنَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ حَقًّا غَيْرَهُ ثُمَّ إثْبَاتُ نَسْخِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ الْعُشْرُ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" بَيَانًا لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: "فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ" بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وَقَوْلُهُ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} مَنْسُوخًا بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ; لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا، فَأَمَّا مَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا مَعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَهُوَ الْعُشْرُ؟ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ هَذَا الْحَقَّ ثَابِتَ الْحُكْمِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَقٌّ آخَرُ غَيْرُ الْعُشْرِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَصَادِ وَعِنْدَ الدِّيَاسِ وَعِنْدَ الْكَيْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو قَوْلُهُ هَذَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ عِنْدَهُ الْوُجُوبَ، أَوْ النَّدْبَ; فَإِنْ كَانَ نَدْبًا عِنْدَهُ لَمْ يَسُغْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُ الْأَمْرِ عَنْ الْإِيجَابِ إلَى النَّدْبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَإِنَّ رَآهُ وَاجِبًا، فَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَوَجَبَ أَنْ يَرِدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَكَانَ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ فِي نَقْلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ هُوَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ الَّذِي بَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: الزَّكَاةُ لَا تُخْرَجُ يَوْمَ الْحَصَادِ وَإِنَّمَا تُخْرَجُ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ

بِهِ الزَّكَاةَ قِيلَ لَهُ: الْحَصَادُ اسْمٌ لِلْقَطْعِ، فَمَتَى قَطَعَهُ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ عُشْرِ مَا صَارَ فِي يَدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْخُضَرُ كُلُّهَا إنَّمَا يَخْرُجُ الْحَقُّ مِنْهَا يَوْمَ الْحَصَادِ غَيْرَ مُنْتَظَرٍ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَقِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} لَمْ يَجْعَلْ "الْيَوْمَ" ظَرْفًا لِلْإِيتَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ لَحِقَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَآتُوا الْحَقَّ الَّذِي وَجَبَ يَوْمَ حَصَادِهِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هُوَ الْعُشْرُ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي جَمِيعِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ الزَّرْعَ بِلَفْظِ عُمُومٍ يَنْتَظِمُ لِسَائِرِ أَصْنَافِهِ، وَذَكَرَ النَّخْلَ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهُوَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، فَمَنْ ادَّعَى خُصُوصَ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ إيجَابُ الْحَقِّ فِي الْخُضَرِ وَغَيْرِهَا وَفِي الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْحَقَّ فِيمَا ذَكَرَ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اسْتِحْكَامِهِ وَمَصِيرِهِ إلَى حَالٍ تَبْقَى ثَمَرَتُهُ، فَأَمَّا مَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ وَقْتِ الْحَصَادِ مِنْ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ لَا يُحْصَدَانِ فَلَمْ يَدْخُلَا فِي عُمُومِ اللَّفْظِ قِيلَ لَهُ: الْحَصَادُ اسْمٌ لِلْقَطْعِ وَالِاسْتِيصَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:15] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا"، فَيَوْمَ حَصَادِهِ هُوَ يَوْمُ قَطْعِهِ، فَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْخُضَرِ وَفِي كُلِّ مَا يُقْطَعُ مِنْ الثِّمَارِ عَنْ شَجَرَةٍ سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ أَخْضَرَ رَطْبًا وَأَيْضًا قَدْ أَوْجَبَ الْآيَةُ الْعُشْرَ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ قَطْعِهِ لِشُمُولِ اسْمِ الْحَصَادِ لِقَطْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْحَصَادِ هَهُنَا أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ وَاجِبٍ إخْرَاجُهُ بِنَفْسِ خُرُوجِهِ وَبُلُوغِهِ حَتَّى يَحْصُلَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ، وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ لَزِمَهُ بِخُرُوجِهِ قَبْلَ قَطْعِهِ وَأَخْذِهِ، فَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ دُونَ مَا تَلِفَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ فِي يَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي جَمِيعِ الْخَارِجِ قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْخَارِجِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّفَقَةُ لَا تُعْقَلْ مِنْهَا الصَّدَقَةُ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ النَّفَقَةَ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا غَيْرُ الصَّدَقَةِ، وَبِهَذَا وَرَدَ الْكِتَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] الْآيَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ

الْمُوجِبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] أَمْرٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَيْسَ هَهُنَا نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ; إذْ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِ وَاجِبَةٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ مَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْأَمْرِ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا يُصْرَفُ إلَى النَّدْبِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] قَدْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ; لِأَنَّ الْإِغْمَاضَ إنَّمَا يَكُونُ فِي اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَكُلُّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ فَضْلٌ وَرِبْحٌ فَلَا إغْمَاضَ فِيهِ; وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ فَنِصْفُ الْعُشْرِ"، وَهَذَا خَبَرٌ قَدْ تَلْقَاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ، فَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ وَعُمُومُهُ يُوجِبُ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْخَارِجِ. فَإِنَّ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ" قِيلَ لَهُ: قَدْ قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ إنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَقُولُ: حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ ضَعِيفٌ، قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ رَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلًا، وَعَبْدُ السَّلَامِ ثِقَةٌ; وَإِنَّمَا أَصْلُ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُوهَبٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ بَعَثَ إلَيْهِ فِي صَدَقَةِ أَرْضِهِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضُ خُضَرٍ وَرِطَابٍ، إنَّ مُعَاذًا إنَّمَا أَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ النَّخْلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعِنَبِ. فَهَذَا أَصْلُ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَخْذِ مِنْ الْأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ عَمَّا سِوَاهَا; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ إنَّمَا اسْتَعْمَلَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ دُونَ غَيْرِهَا وَأَيْضًا فَلَوْ اسْتَقَامَ سَنَدُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ وَصَحَّتْ طَرِيقَتُهُ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى خَبَرِ مُعَاذٍ فِي الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي اسْتِعْمَالِ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَمَتَى وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَانِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ كَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْهُمَا خَاصًّا كَانَ ذَلِكَ أَوْ عَامًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" قَاضِيًا عَلَى خَبَرِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ:

"لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ" وَأَيْضًا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْخَبَرِ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ عَلَى مَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ; لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ، وَيَكُونُ خَبَرُ مُعَاذٍ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" مُسْتَعْمَلًا فِي الْجَمِيعِ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَرْضَ يُقْصَدُ طَلَبُ نَمَائِهَا بِزِرَاعَتِهَا الْخَضْرَاوَاتِ كَمَا يُطْلَبُ نَمَاؤُهَا بِزِرَاعَتِهَا الْحَبَّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْعُشْرُ كَالْحُبُوبِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبُتُ فِي الْعَادَةِ إذَا صَادَفَهُ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ زِرَاعَةٍ وَلَيْسَ يَكَادُ يُقْصَدُ بِهَا الْأَرْضُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا خِلَافَ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الْحَقِّ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَأْكُلُهُ رَبُّ النَّخْلِ مِنْ التَّمْرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يُحْسَبُ عَلَيْهِ مَا أَكَلَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إذَا أَكَلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَأَطْعَمَ جَارَهُ وَصَدِيقَهُ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُ مَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ الصَّاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِمَّا أَكَلَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَوْ أَكَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ صَاعٍ وَأَطْعَمَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُشْرٌ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ عُشْرُ مَا بَقِيَ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ". وَقَالَ اللَّيْثُ فِي زَكَاةِ الْحُبُوبِ: "يُبْدَأُ بِهَا قَبْلَ النَّفَقَةِ، وَمَا أَكَلَ مِنْ فَرِيكٍ هُوَ وَأَهْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الرُّطَبِ الَّذِي يُتْرَكُ لِأَهْلِ الْحَائِطِ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يُخْرَصُ عَلَيْهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُتْرَكُ الْخَارِصُ لِرَبِّ الْحَائِطِ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يَخْرُصُهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْ نَخْلِهِ وَهُوَ رُطَبٌ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْمَأْخُوذِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَكَلَهُ هُوَ وَأَهْلُهُ، فَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُمِرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ، فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ. قِيلَ لَهُ: الْحَصَادُ اسْمٌ لِلْقَطْعِ، فَكُلَّمَا قَطَعَ مِنْهُ شَيْئَا لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ; وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عَمَّا أُخِذَ قَبْلَ الْحَصَادِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ: وَآتُوا حَقَّ الْجَمِيعِ يَوْمَ حَصَادِهِ الْمَأْكُولِ مِنْهُ وَالْبَاقِي وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَحْتَسِبْ بِالْمَأْكُولِ بِمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: جَاءَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ إلَى مَجْلِسِنَا، فَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعَوْا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبْعَ"، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا حثمة خارصا,

فَجَاءَهُ رِجْلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا حَثْمَةَ قَدْ زَادَ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أن ابْنَ عَمِّك يَزْعُمُ أَنَّك قَدْ زِدْت عَلَيْهِ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ تَرَكْت لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَمَا يُصِيبُ الرِّيحُ، فَقَالَ: "قَدْ زَادَك ابْنُ عَمِّك وَأَنْصَفَك"، وَالْعَرَايَا هِيَ الصَّدَقَةُ; فَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ الثُّلُثِ صَدَقَةً وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ مَكْحُولٍ الشَّامِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ" فَجَمَعَ بَيْنَ الْعَرِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ فِي الْعَرَايَا صَدَقَةٌ"، فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا صَدَقَةً لِأَنَّ الْعَرِيَّةَ نَفْسَهَا صَدَقَةٌ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ الْخَبَرِ أَنَّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ صَاحِبُ الْعُشْرِ يُحْتَسَبُ لَهُ وَلَا تَجِبُ فيها صدقة ولا يضمنها. ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَقُّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: يَجِبُ الْعُشْرَ فِي قَلِيلِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ إلَّا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجِبُ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَقُّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ" وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَقُّ مَكِيلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْوَسْقِ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إلَّا فِي الْعَسَلِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ عَشْرَ قِرَبٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ فِي الْوَسْقِ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَيُعْتَبَرُ مِنْهُ أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَمْثَالٍ، وَذَلِكَ نَحْوُ الزَّعْفَرَانِ، فَإِنَّ أَعْلَى مَقَادِيرِهِ مَنًّا فَيُعْتَبَرُ بُلُوغُهُ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ; لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمَنِّ فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ أَوْ يُنْسَبُ إلَيْهِ فَيُقَالُ مَنَوَانِ وَثَلَاثَةٌ وَنِصْفُ مَنٍّ وَرُبْعُ مَنٍّ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ لِأَنَّ الْحِمْلَ أَعْلَى مَقَادِيرِهِ وَمَا زَادَ فَتَضْعِيفٌ لَهُ، وَفِي الْعَسَلِ خَمْسَةُ أَفِرَاقَ لِأَنَّ الْفِرَقَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَيُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَذَلِكَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ عُمُومٌ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ; لأن قوله: {حَقَّهُ} مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَقَدْ وَرَدَ الْبَيَانُ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ وَيُحْتَجُّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وَذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْخَارِجِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ كَالرِّكَازِ وَالْغَنَائِمِ

وَاحْتَجَّ مُعْتَبِرُو الْمِقْدَارِ بِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا صَدَقَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّرْعِ أَوْ الْكَرْمِ أَوْ النَّخْلِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ". وَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" وَرَوَاهُ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ قَاضٍ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ خَبَرُ الْعُشْرِ مُتَّفَقًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي خَبَرِ الْمِقْدَارِ كَانَ اسْتِعْمَالُ خَبَرِ الْعُشْرِ عَلَى عُمُومِهِ أَوْلَى وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مَنْسُوخًا أَوْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى لَا يُنَافِي شَيْئَا مِنْ خَبَرِ الْعُشْرِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" عَامٌّ فِي إيجَابِهِ فِي الْمَوْسُوقِ وَغَيْرِهِ، وَخَبَرُ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ خَاصٌّ فِي الْمَوْسُوقِ دُونَ غَيْرِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ; لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا اقْتَضَى الْبَيَانُ، فَلَمَّا كَانَ خَبَرُ الْأَوْسَاقِ مَقْصُورًا عَلَى ذِكْرِ مِقْدَارِ الْوَسْقِ دُونَ غَيْرِهِ وَكَانَ خَبَرُ الْعُشْرِ عُمُومًا فِي الْمَوْسُوقِ وَغَيْرِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْبَيَانِ لِمِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يُوسَقُ يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْحَقِّ بُلُوغُ مِقْدَارِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَمَا لَيْسَ بِمَوْسُوقٍ يَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" وَفَقْدُ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ مِقْدَارِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي الْأَوْسَاقِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَطْرُوحٌ وَالْقَائِلُ بِهِ سَاقِطٌ مَرْذُولٌ لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعَشْرِ" وَقَوْلُهُ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ زَكَاةٌ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ الرِّقَةِ إلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَزْنِ، وَالْأَوَاقِي مَذْكُورَةٌ لِلْوَزْنِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ جَمِيعِ الرِّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلَّهِ حُقُوقًا وَاجِبَةً فِي الْمَالِ غَيْرَ الزَّكَاةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: "نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ"، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّقْدِيرُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُقُوقِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً فَنُسِخَتْ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] وَنَحْوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا حَصَدْت طَرَحْت لِلْمَسَاكِينِ وَإِذَا كَدَّسْت وَإِذَا نَقَّيْت، وَإِذَا عَلِمْت كَيْلَهُ عَزَلْت زَكَاتَهُ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ الْيَوْمَ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ مِنْ تَقْدِيرِ الْخَمْسَةِ الأوسق كان

مُعْتَبَرًا فِي تِلْكَ الْحُقُوقِ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ الْآيَةِ وَالْأَثَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى نَقْلِهِ بِهِ وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ زَكَاةٌ"، فَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ بِأَنْ يَكُونَ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقِ طَعَامٍ أَوْ تَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ، فَأَخْبَرَ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِقُصُورِ قِيمَتِهِ عَنْ النِّصَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَنَقَلَ الرَّاوِي كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ ذِكْرَ السَّبَبِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ في كثير من الأخبار. ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "لَا يَجْتَمِعَانِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَشَرِيكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا كَانَتْ أَرْضُ خَرَاجٍ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ السَّوَادَ وَضَعَ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْعُشْرَ مِنْ الْخَارِجِ وَذَلِكَ بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَمُوَافَقَتِهِمْ إيَّاهُ عَلَيْهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ وَعَلَيْهِ مَضَى الْخَلَفُ، وَلَوْ جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا لَجَمَعَهُمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّاضِحِ نِصْفُ الْعُشْرِ" وَذَلِكَ إخْبَارٌ بِجَمِيعِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَوْ وَجَبَ الْخَرَاجُ مَعَهُ لَكَانَ ذَلِكَ بَعْضَ الْوَاجِبِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ قَدْ يَكُونُ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ وَقَدْ يَكُونُ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَدَّ الْعُشْرَ إلَى النِّصْفِ لِأَجْلِ الْمُؤْنَةِ الَّتِي لَزِمَتْ صَاحِبَهَا، فَلَوْ لَزِمَ الْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ لَزِمَ سُقُوطُ نِصْفِ الْعُشْرِ الْبَاقِي لِلُزُومِ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ، وَلَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ مَا تَغْلُظُ فِيهِ الْمُؤْنَةُ وَمَا تَخِفُّ فِيهِ كَمَا خَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَبَيْنَ مَا سُقِيَ بِالنَّاضِحِ لِأَجْلِ الْمُؤْنَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا" وَمَعْنَاهُ: سَتَمْنَعُ; وَلَوْ كَانَ الْعُشْرُ وَاجِبًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ مَمْنُوعًا مِنْهُ وَالْعُشْرُ غَيْرَ مَمْنُوعٍ; لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ الْخَرَاجَ كَانَ لِلْعُشْرِ أَمْنَعَ، وَفِي تَرْكِهِ ذِكْرَ الْعُشْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا عُشْرَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ وَرُوِيَ أَنَّ دِهْقَانَةَ نَهْرِ الْمُلْكِ أَسْلَمَتْ، فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا الْخَرَاجُ إنْ اخْتَارَتْ أَرْضَهَا وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَفِيلًا أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "إنْ أَقَمْت عَلَى أَرْضِك أَخَذْنَا مِنْك الْخَرَاجَ"; وَلَوْ كَانَ الْعُشْرُ وَاجِبًا مَعَ ذَلِكَ لَأَخْبَرَ بِوُجُوبِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ حَقَّيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ وُجُوبِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ وَزَكَاةِ التِّجَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ، وَالْعُشْرُ صَدَقَةٌ، فَكَمَا جَازَ اجْتِمَاعُ أَجْرِ الأرض

وَالْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ الْفَيْءِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِزَارِعِهَا الِانْتِفَاعُ بِهَا بِالْخَرَاجِ وَهُوَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْعُشْرِ مَعَ الْخَرَاجِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَمَتَى لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ سَقَطَ عَنْهُ الْعُشْرُ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ الْآخِذِ لِلْأُجْرَةِ; فَهَذَا الْإِلْزَامُ سَاقِطٌ عَنْهُ وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَهْلِهَا وَإِنَّهَا مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ الْفَيْءِ خَطَأٌ; لِأَنَّهَا عِنْدَنَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلُهُ: "إنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ" خَطَأٌ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَرَاجَ يُؤَدَّى عَنْهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَرْبَابِ أَرَاضِي الْخَرَاجِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَتْ أَرْض الْخَرَاجِ وَأَهْلُهَا مُقِرُّونَ عَلَى حُكْمِ الْفَيْءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ اجْتِمَاعِ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ تَنَافِي سَبَبَيْهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ سَبَبُهُ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ، وَسَائِرُ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالْعُشْرِ سَبَبُهُ الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا تَنَافَى سَبَبَهُمَا تَنَافَى مُسَبِّبَاهُمَا. قَوْله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَالْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: الْحَمُولَةُ كِبَارُ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ الصِّغَارُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ رِوَايَةً: الْحَمُولَةُ مَا حَمَلَ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً أُخْرَى قَالَ: الْحَمُولَةُ كُلُّ مَا حَمَلَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ، فَأَدْخَلَ فِي الْأَنْعَامِ الْحَافِرَ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِأَنَّ اسْمَ الْأَنْعَامِ لَا يَقَعُ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَانَ قَوْلُ السَّلَفِ فِي الْفَرْشِ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا صِغَارُ الْإِبِلِ وَإِمَّا الْغَنَمُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَرَادَ بِالْفَرْشِ مَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَجُلُودِهَا الَّتِي يَفْتَرِشُونَهَا وَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَلَوْلَا قَوْلُ السَّلَفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَكَانَ هَذَا الظَّاهِرُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِأَصْوَافِ الْأَنْعَامِ وَأَوْبَارِهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ أُخِذَتْ مِنْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ; وَيُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِاقْتِضَاءِ الْعُمُومِ لَهُ، إلَّا أَنَّهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالْجُلُودِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ وَحُكْمُ الْآيَةِ ثَابِتٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} فِيهِ إضْمَارٌ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمْ مِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا. قَوْله تَعَالَى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} إلى {الظَّالِمِينَ} .

قوله {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} لِدُخُولِهِ فِي الْإِنْشَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْشَأَ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا يُسَمَّى زَوْجًا، وَيُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ زَوْجٌ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ خَصْمٌ وَلِلِاثْنَيْنِ خَصْمٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَحَلَّ لِعِبَادِهِ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَرَّمُوا مِنْهَا مَا حَرَّمُوا مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَمَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ لِيُضِلُّوا النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَالَ: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثُمَّ قَالَ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ إمَّا الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الدَّلِيلُ الَّذِي يَشْتَرِك الْعُقَلَاءُ فِي إدْرَاكِ الْحَقِّ بِهِ، فَبَانَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنْ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةُ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} مما تستحلون {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الْآيَةُ وَسِيَاقَةُ الْمُخَاطَبَةِ تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ طَاوُسٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّمَ ذِكْرَ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ الْأَنْعَامِ وَذَمَّهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ وَعَنَّفَهُمْ وَأَبَانَ بِهِ عَنْ جَهْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ حَرَّمُوا بِغَيْرِ حُجَّةٍ، ثُمَّ عَطَفَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} يَعْنِي تُحَرِّمُونَهُ إلَّا مَا ذُكِرَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَقْدِيرَ الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى إبَاحَةِ مَا خَرَجَ عَنْ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ: فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ثُمَّ فَسَرَّ وُجُوهَهَا وَالْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِكَوْنِهَا مَيْتَةً فَقَدْ اشْتَمَلَ اسْمُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُنْخَنِقَةِ وَنَظَائِرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ، وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ حَرَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا مَا قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمَائِدَةُ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ "أَوْ" إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ ثَبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى حِيَالِهِ وَأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي تَخْيِيرًا; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ على حياله. مطلب: في لحوم الحمر الأهلية وَقَدْ احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ فِي إبَاحَةِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا، فَمِنْهَا لُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قُلْت لجابر بن

زَيْدٍ: إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةُ رَوَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى بِلُحُومِ السِّبَاعِ وَالدَّمِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَعْلَى الْعُرُوقِ بَأْسًا، وَقَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةُ فَأَمَّا لُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَمَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَالشَّافِعِيَّ يَنْهَوْنَ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إبَاحَتِهِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ, وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، مِنْهَا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْحَسَنِ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ". وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ عَلِيًّا يَرْوِي النَّهْيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ عَمَّا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ. وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُر الْأَهْلِيَّةِ". وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ محمد بن علي عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ" , وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ سَمِعَهُ مِنْهُ قَالَ: "أَصَبْنَا حُمُرًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ". وَرَوَى النَّهْيَ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ فِي آخَرِينَ, فِي بَعْضِهَا ابْتِدَاءُ نَهْيٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضُهَا ذِكْرُ قِصَّةِ خَيْبَرَ وَالسَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَهَى عَنْهَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: "إنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ نُهْبَةً انْتَهَبُوهَا". وَقَالَ آخَرُونَ: "لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ إنَّ الْحُمْرَ قَدْ قَلَّتْ". وَقَالَ آخَرُونَ: "لِأَنَّهَا كَانَتْ جَلَّالَةً". فَتَأَوَّلَ مَنْ أَبَاحَهَا نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَمَنْ حَظَرَهَا أَبْطَلَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِأَشْيَاءَ: أَحَدُهَا مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ" مِنْهُمْ الْمِقْدَادُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ وَأَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ وَغَيْرُهُمَا; وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ

أَصَابُوا حُمُرًا فَطَبَخُوا مِنْهَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَّا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَاكُمْ عَنْهَا، فَإِنَّهَا نَجَسٌ فَاكْفَئُوا الْقُدُورَ" وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ، قَالَ: فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ". وَهَذَا يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى النُّهْبَةِ وَتَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى خَوْفِ فَنَاءِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِالذَّبْحِ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهَا نَجَسٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ عَيْنِهَا لَا لَسَبَبٍ غَيْرَهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ لِأَجْلِ مَا ذَكَرُوا لَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعَمَ الْمَسَاكِينُ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهَا بِأَنْ يُطْعَمَ الْأَسْرَى. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "لَا تَأْكُلُ الْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ وَلَا كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ"، فَبِهَذَا أَيْضًا يَبْطُلُ سَائِرُ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ مُبِيحِهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ, فَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ لِلنَّهْيِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ فَإِنَّ خَبَرَ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرَهُ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ خَيْبَرَ يُوجِبُ إيهَامَ تَحْرِيمِهَا لَا لِعِلَّةٍ غَيْرِ أَعْيَانِهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ رِجْلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: غَالِبُ بْنُ الْأَبْجَرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُرُّ بْنُ غَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِي شَيْءٌ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُطْعِمَ فِيهِ أَهْلِي غَيْرَ حُمُرَاتٍ لِي، قَالَ: "فَأَطْعِمْ أَهْلَك مِنْ سَمِينِ مَالِكِ فَإِنَّمَا كَرِهْت لَكُمْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ" ; فَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا; لِأَنَّهُ قَالَ: "كَرِهْت لَكُمْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ" وَالْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ كُلُّهَا جَوَّالُ الْقُرَى، وَالْإِبَاحَةُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا انْصَرَفَتْ إلَى الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ. مطلب: الكلام في الحمار الوحشي إذا ألف وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ إذَا دُجِّنَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ إذَا دُجِّنَ وَأُلِفَ: "إنَّهُ جَائِزٌ أَكْلُهُ"، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا دُجِّنَ وَصَارَ يُعْمَلُ عَلَيْهِ كَمَا يُعْمَلُ عَلَى الْأَهْلِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ". وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَحْشَ الْأَهْلِيَّ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ جِنْسِهِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ كَذَلِكَ مَا أُنِسَ من الوحش. مطلب: الكلام فِي ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ من الطير قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وذي المخلب

مِنْ الطَّيْرِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُؤْكَلُ سِبَاعُ الْوَحْشِ وَلَا الْهِرُّ الْوَحْشِيُّ وَلَا الْأَهْلِيُّ وَلَا الثَّعْلَبُ وَلَا الضَّبُعُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ السِّبَاعِ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ سِبَاعِ الطَّيْرِ الرُّخْمِ وَالْعُقْبَانِ وَالنُّسُورِ وَغَيْرِهَا مَا أَكَلَ الْجِيَفَ مِنْهَا وَمَا لَا يَأْكُلُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "الطَّيْرُ كُلُّهُ حَلَالٌ إلَّا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الرَّخْمَ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْهِرِّ وَأَكْرَهُ الضَّبُعَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُؤْكَلُ ذُو النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي تَعْدُو عَلَى النَّاسِ الْأَسَدُ وَالنَّمِرُ وَالذِّئْبُ، وَيُؤْكَلُ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ، وَلَا يُؤْكَلُ النِّسْرُ وَالْبَازِيُّ وَنَحْوُهُ لِأَنَّهَا تَعْدُو عَلَى طُيُورِ النَّاسَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ سُئِلَ عَنْ الْغُرَابِ قَالَ: دَجَاجَةٌ سَمِينَةٌ، وَسُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ فَقَالَ: نَعْجَةٌ سَمِينَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ"، وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْمِقْدَادُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا. فَهَذِهِ آثَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ، وَالثَّعْلَبِ وَالْهِرِّ وَالنِّسْرِ وَالرَّخْمُ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لِاسْتِثْنَاءِ شَيْءِ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، وَلَيْسَ فِي قَبُولِهَا مَا يُوجِبُ نَسْخَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} لِأَنَّهُ إنَّمَا فِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُحَرَّمُ غَيْرَ الْمَذْكُورِ وَأَنَّ مَا عَدَاهُ كَانَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ هَذَا حُكْمُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ فَجَازَ قَبُولُ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي تَخْصِيصِهَا وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا الْغُرَابَ الْأَبْقَعَ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَلَمْ يَكْرَهُوا الْغُرَابَ الزَّرْعِيَّ لِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "خَمْسُ فَوَاسِقَ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ" وَذَكَرَ أَحَدُهَا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، فَخَصَّ الْأَبْقَعَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْجِيَفَ، فَصَارَ أَصْلًا فِي كَرَاهَةِ أَشْبَاهِهِ مِمَّا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ" يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ هَذِهِ الْخَمْسِ وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَقْتُولَةً غَيْرَ مُذْكَاةٍ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ لَأَمَرَ بِذَبْحِهَا وَذَكَاتِهَا لِئَلَّا تَحْرُمَ بِالْقَتْلِ. فَإِنْ قِيلَ بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عن أبي الزبير

قال: سَأَلْت جَابِرًا: هَلْ يُؤْكَلُ الضَّبُعُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ قَاضٍ عَلَى ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي استعمال ذلك. مطلب في الكلام على الضب وَاخْتُلِفَ فِي أَكْلِ الضَّبِّ، فَكَرِهَهُ أَصْحَابُنَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِهِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْن وَهْبِ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ قَالَ: "نَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الضِّبَابِ، فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَطَبَخْنَا مِنْهَا، فَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي بِهَا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ " فَقُلْنَا ضِبَابٌ أَصَبْنَاهَا، فَقَالَ: "إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ الْأَرْضِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ فَأَكْفِئُوهَا! " وَهَذَا يَقْتَضِي حَظْرَهُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَاحَ الْأَكْلِ لَمَا أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ الطَّائِيُّ أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ نَافِعٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبّ وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهَا ضَبٌّ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ فَنَهَاهَا عَنْهُ، فَجَاءَ سَائِلٌ فَقَامَتْ لِتُنَاوِلَهُ إيَّاهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُطْعِمِينَهُ مَا لَا تَأْكُلِينَ! " فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَقَدْ رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الضَّبِّ وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا تَرَكَ أَكْلَهُ تَقَذُّرًا. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، وَأَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَكَلَهُ بِحَضْرَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إنَّ هَذِهِ الضِّبَابَ طَعَامُ عَامَّةِ هَذِهِ الرِّعَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَمْنَعُ غَيْرَ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ لَأَكَلْته، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُحَرِّمْهُ وَلَكِنَّهُ قَذِرُهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بَحْرُ عَنْ أَبِي هَارُونَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَتُهْدَى إلَيْهِ الضِّبَّةُ الْمَكْنُونَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الدَّجَاجَةِ السَّمِينَةِ" فَاحْتَجَّ مُبِيحُوهُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِهِ; لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ تَقَذُّرًا وَأَنَّهُ قَذِرَهُ، وَمَا قَذِرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَجِسٌ وَلَا يَكُونُ نَجِسًا إلَّا وَهُوَ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ. وَلَوْ ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ لَعَارَضَتْهَا أَخْبَارٌ وَمَتَى وَرَدَ الْخَبَرَانِ فِي شَيْءٍ وَأَحَدُهُمَا مُبِيحٌ

وَالْآخَرُ حَاظِرٌ فَخَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَظْرَ وَارِدٌ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ; لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ الْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ طَارِئٌ عَلَيْهَا وَلَمْ يَثْبُتُ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ فَحُكْمُ الْحَظْرِ ثابت لا محالة. مطلب: في الكلام على هوام الأرض وَاخْتُلِفَ فِي هَوَامِّ الْأَرْضِ، فَكَرِهَ أَصْحَابُنَا أَكْلَ هَوَامِّ الْأَرْضِ الْيَرْبُوعِ وَالْقُنْفُذِ وَالْفَأْرِ وَالْعَقَارِبِ وَجَمِيعِ هَوَامِّ الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّةِ إذَا ذُكِّيَتْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ مِنْهُ الذَّكَاةَ وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْقُنْفُذِ وَفِرَاخِ النَّحْلِ وَدُودِ الْجُبْنِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضِّفْدَعِ"، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ خُشَاشِ الْأَرْضِ وَعَقَارِبِهَا وَدُودِهَا; لِأَنَّهُ قَالَ: مَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "كُلُّ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَقْذِرُهُ فَهُوَ مِنْ الْخَبَائِثِ، كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالْغُرَابِ وَالْحَيَّةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِالْأَذَى فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ، وَكَانَتْ تَأْكُلُ الضَّبُعَ وَالثَّعْلَبَ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْدُوَانِ عَلَى النَّاسِ بِأَنْيَابِهِمَا فَهُمَا حَلَالُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو ثَوْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عِيسَى بْنِ نُمَيْلَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ، فَتَلَا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةُ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ" فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ كَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فَهُوَ كَمَا قَالَ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبِيثَةً مِنْ الْخَبَائِثِ فَشَمِلَهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالْقُنْفُذُ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ حَشَرَاتِهَا فَهُوَ مُحَرَّمٌ قِيَاسًا عَلَى الْقُنْفُذِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عن سعيد بن خالد عن سعيد بن الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ذُكِرَ طَبِيبُ الدَّوَاءِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر الضفدع يكون في الدواء، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَيَجْعَلَهُ فِي الدَّوَاءِ، وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ قَتْلِهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ قَالَ: "يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَامِ الْحِدَأَةَ وَالْغُرَابَ وَالْفَأْرَةَ وَالْعَقْرَبَ" وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "وَالْحَيَّةُ"، فَفِي أَمْرِهِ بِقَتْلِهِنَّ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِنَّ

لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ لَأَمَرَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى ذَكَاتِهَا فِيمَا تَتَأَتَّى فِيهِ الذَّكَاةُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهَا وَالْقَتْلُ إنَّمَا يَكُونُ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ، وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ كَانَ سَائِرُ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِثْلَهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ كَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْيَرْبُوعُ لِأَنَّهُ جِنْسٌ مِنْ الْفَأْرِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اعْتِبَارِهِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَقْذِرُهُ وَأَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَا مَعْنَى لَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ قَاضٍ بِتَحْرِيمِ جَمِيعِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ مَا قَدْ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا جَعَلَ كَوْنَهُ ذَا نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذَا مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ عِلْمًا لِلتَّحْرِيمِ، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ الدَّلَالَةُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّاسِ بِتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، بَلْ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَابِ، فَاعْتِبَارُ مَا يَسْتَقْذِرُهُ الْعَرَبُ دُونَ غَيْرِهِمْ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ يَسْتَقْذِرُونَهُ جَمِيعُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ كَانَ اُعْتُبِرَ الْجَمِيعُ فَإِنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ لَمْ يَكُنْ يَسْتَقْذِرُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَلَا الْأَسَدَ وَالذِّئَابَ وَالْفَأْرَ وَسَائِرَ مَا ذُكِرَ، بَلْ عَامَّةُ الْأَعْرَابِ تَسْتَطِيبُ أَكْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا كَانَ جَمِيعُ الْعَرَبِ يَسْتَقْذِرُونَهُ. وَإِنْ أَرَادَ مَا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَسْتَقْذِرُهُ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِطَابَ إذَا كَانَ لِجَمِيعِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْبَعْضُ الْمُسْتَقْذَرُ كَذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْبَعْضِ الَّذِي يَسْتَطِيبُهُ. فَهَذَا قَوْلٌ مُنْتَقِضٌ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ أَبَاحَ الضَّبُعَ وَالثَّعْلَبَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَأْكُلُهُ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالْأَسَدَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ مَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْحِدَأَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْغُرَابِ وَقَدْ حَرَّمَهَا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْعَدْوَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ الضَّبُعَ قَدْ يَعْدُو عَلَى الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَسَدُ الْعَدْوَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ جَائِعًا، وَالْجَمَلُ الْهَائِجُ قَدْ يَعْدُو عَلَى الْإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الثَّوْرُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَإِبَاحَتِهِ، وَالْكَلْبُ وَالسِّنَّوْرُ لَا يَعْدُوَانِ عَلَى النَّاسِ وَهُمَا محرمان. مطلب: في لحوم الإبل الجلالة وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ، فَكَرِهَهَا أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ غَيْرَ الْعَذِرَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "لَا بَأْسَ بِلُحُومِ الْجَلَّالَةِ كَالدَّجَاجِ"; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ عَنْ قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ ابْتِدَائِنَا بِأَحْكَامِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} وَأَبَاحَ أَكْلَ مَا ذَهَبَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إلَى حَظْرِهِ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الْآيَةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فِيمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ مِنْ الْأَنْعَامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نُزُولُهُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَانَ خَبَرًا مُبْتَدَأً لَمْ يَمْتَنِعْ بِذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ لَمْ تَنْتَظِمْهَا الْآيَةُ وَلَا اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي حَظْرِ كَثِيرٍ مِنْهُ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُحَرَّمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ إلَّا الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، وَقَدْ كَانَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ جَائِزًا وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ سَائِغًا فِي تَحْرِيمِ مَا هَذَا وَصْفُهُ، وَكَذَلِكَ إخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ بِالشَّرْعِ إلَّا الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ غَيْرَ مَانِعٍ تَحْرِيمَ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. وقَوْله تَعَالَى: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْهَا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ الْمَدْبُوغَ وَلَا الْقَرْنَ وَالْعَظْمَ وَالظِّلْفَ وَالرِّيشَ وَنَحْوَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "إنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهَا". وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الدَّمِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا وَأَنَّ مَا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّمِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فِي الدَّمِ الَّذِي فِي الْمَذْبَحِ أَوْ فِي أَعْلَى الْقِدْرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَمَ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَالذُّبَابِ لَيْسَ بِنَجِسٍ; إذْ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُحَرَّمُ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ غَيْرَ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ نَسَخَ بِهِ كَثِيرًا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا يَكُونُ سَبِيلُهُ سَبِيلَ بَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ بَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ مَا قَدْ نَصَّ عَلَى إبَاحَتِهِ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ بذلك كثيراً

مِنْ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} وَشُحُومُهُمَا مُبَاحَةٌ لَنَا، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ذَوَاتِ الْأَظْفَارِ. قِيلَ لَهُ: مَا ذَكَرْت لَا يُخْرِجُ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ عَلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ ذَلِكَ وَأُبِيحَ لَنَا لَمْ يَصِرْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ، إنَّمَا كَانَ مُوَقَّتًا إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَأَنَّ مُضِيَّ الْوَقْتِ أَعَادَهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُحْظَرْ قَطُّ. وَأَيْضًا فَلَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت كَانَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِيمَا وَصَفْنَا سَائِغًا لِأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} لَاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ كَالْخَمْرِ وَلَحْمِ الْقِرَدَةِ وَالنَّجَاسَاتِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ سَاغَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَفْتُوحِ الْأَصَابِعِ كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَسَائِرُ مَا يَصْطَادُ بِظُفُرِهِ مِنْ الطَّيْرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، فَحُكْمُ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عِنْدَنَا ثَابِتٌ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ نَسْخُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ تَحْرِيمِ الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ بَدِيًّا وَكَوْنِهِ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وقَوْله تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ أَحْنَثَ الْحَالِفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ شَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ شَحْمِ الطَّيْرِ لَاسْتِثْنَاء اللَّهِ مَا عَلَى ظُهُورِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا عَلَى الظَّهْرِ إنَّمَا يُسَمَّى لَحْمًا سَمِينًا فِي الْعَادَةِ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الشَّحْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ; وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ إيَّاهُ شَحْمًا لَا تُوجِبُ دُخُولَهُ فِي الْيَمِينِ; إذْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ لَهُ مُتَعَارَفًا أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى السَّمَكَ لَحْمًا وَالشَّمْسَ سِرَاجًا وَلَا يَدْخُلُ فِي الْيَمِينِ؟ وَالْحَوَايَا، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْمَبَاعِرُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هِيَ بَنَاتُ اللَّبَنِ، وَيُقَالُ: إنَّهَا الْأَمْعَاءُ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّحْمُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ السُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ شَحْمُ الْجَنْبِ وَالْأَلْيَةِ لِأَنَّهُمَا عَلَى عَظْمٍ وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ دُخُولَ "أَوْ" عَلَى

النَّفْيِ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَلَى حِيَالِهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} تَحْرِيمٌ لِلْجَمِيعِ, وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان:24] نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا أَنَّهُ أَيُّهُمَا كَلَّمَ حَنِثَ لِأَنَّهُ نَفَى كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فِيهِ إكْذَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وَمَنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي تَكْذِيبِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كَذِبِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وَلَوْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ الشِّرْكَ لَمَا كَانُوا كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} يَعْنِي: تَكْذِبُونَ; فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ شَاءٍ لِشِرْكِهِمْ وَأَنَّهُ قَدْ شَاءَ مِنْهُمْ الْإِيمَانَ اخْتِيَارًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ قَسْرًا لَكَانَ عَلَيْهِ قَادِرًا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الثَّوَابَ وَالْمَدْحَ. وَقَدْ دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى مِثْلِ مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُرِيدَ الشِّرْكِ وَالْقَبَائِحِ سَفِيهٌ كَمَا أَنَّ الْآمِرَ بِهِ سَفِيهٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لِلشِّرْكِ اسْتِدْعَاءٌ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ اسْتِدْعَاءٌ إلَيْهِ، فَكُلُّ مَا شَاءَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادِ فَقَدْ دَعَاهُمْ إلَيْهِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ وَلِذَلِكَ كَانَ طَاعَةً، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ دَعَاهُمْ إلَيْهِ وَيَكُونُ طَاعَةً مِنْهُمْ إذَا فَعَلُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالشِّرْكِ; لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِهِ مُسْتَدْعِيًا إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْلُومُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ طَاعَةً إذَا لَمْ يَرُدَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاحْتِجَاجِهِمْ لِشِرْكِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَاءَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ تَكْذِيبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ لَقَالَ: كَذَلِكَ كَذَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بِالتَّخْفِيفِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ الْكُفْرَ مِنْهُمْ لَكَانَ احْتِجَاجُهُمْ صَحِيحًا وَلَكَانَ فِعْلُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ، فَلَمَّا أَبْطَلَ اللَّهُ احْتِجَاجَهُمْ بِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ بِتَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ وَالْمُكَذِّبُ بِالْحَقِّ لَا يَكُونُ إلَّا كَاذِبًا. وَالثَّانِي: قَوْلُ: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} يَعْنِي: تَكْذِبُونَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} الْآيَةُ. يَعْنِي أَبْطَلَ لِعَجْزِهِمْ إقَامَةَ الدَّلَالَةِ, إلَّا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا; إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إثْبَاتُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ جِهَةِ عَقْلٍ وَلَا سَمْعٍ, وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَلَيْسَ بِمَحْسُوسٍ مُشَاهَدٍ فَطَرِيقُ

الْعِلْمِ بِهِ مُنْسَدٌّ وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ وَاجِبٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ دُعُوا لِلشَّهَادَةِ حَتَّى إذَا شَهِدُوا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَرْجِعُ مِنْ قَوْلِهِمْ فِيهِ إلَى ثِقَةٍ، وَقِيلَ إنَّهُمْ كَلَّفُوا شُهَدَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ حُجَّةٌ. وَنَهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ. وَاعْتِقَادُ الْمَذَاهِبِ بِالْهَوَى يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: هَوَى مَنْ سِيقَ إلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ حَلَّتْ فِي نَفْسِهِ مَعَ زَوَاجِرِ عَقْلِهِ عَنْهَا، وَمِنْهَا هَوَى تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ لِلْمَشَقَّةِ، وَمِنْهَا هَوَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ لِأُلْفَةٍ لَهُ; وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَمَيِّزٌ مِمَّا اسْتَحْسَنَهُ بِعَقْلِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} كَانَتْ الْعَرَبُ تَدْفِنُ أَوْلَادَهَا أَحْيَاءً الْبَنَاتِ مِنْهُنَّ خَوْفَ الْإِمْلَاقِ، وَهُوَ الْإِفْلَاسُ; وَمِنْهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَعْظَمُ الذُّنُوبِ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ تَأْكُلَ مَعَك، وَأَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك" وَهِيَ الْمَوْءُودَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تعالى في قوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي كَانُوا مِنْ أَجْلِهِ يَقْتُلُونَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَازِقُهُمْ وَرَازِقُ أَوْلَادِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا ظَهَرَ مِنْهَا نِكَاحُ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ". وَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالُوا لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مِنْ حَقِّهَا، لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نفس بغير نفس" وَهَذَا عِنْدَنَا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَقَدْ يَجِبُ قَتْلُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ، مِثْلُ قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَمَنْ قَصَدَ قَتْلَ رِجْلٍ وَأَخْذَ مَالِهِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ عَلَى جِهَةِ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . إنَّمَا خَصَّ الْيَتِيمَ بِالذِّكْرِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَمَنْعِ غَيْرِهِ عَنْ مَالِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْأَطْمَاعُ

تَقْوَى فِي أَخْذِ مَالِهِ أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ مَالِهِ بِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْيَتِيمِ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ مَالِ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، وَأَنْ يَعْمَلَ بِهِ هُوَ مُضَارَبَةً فَيَسْتَحِقُّ رِبْحَهُ; إذْ رَأَى ذَلِكَ أَحْسَنَ، وَأَنْ يُبْضِعَ وَيَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ وَيَتَّجِرُ فِي مَالِهِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ مَالَهُ مِنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْطِي الْيَتِيمَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِمَّا يَأْخُذُهُ مِنْهُ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شِرَاهُ مَالَ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ; وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَلَمْ يَشْرِطْ الْبُلُوغَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَجُوزُ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِ مَالَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْنُوسَ الرُّشْدِ وَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفُوتَ مَالٌ سَوَاءٌ آنَسَ مِنْهُ الرُّشْدَ أَوْ لَمْ يُؤْنِسْ رُشْدَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا; لِأَنَّهُ جَعَلَ بُلُوغَ الْأَشُدِّ نِهَايَةً لِإِبَاحَةِ قُرْبِ مَالِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا وَلَا يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَحْسَنَ وَلَا خَيْرًا لِلْيَتِيمِ. وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ بُلُوغَ الْأَشُدِّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَإِذَا بَلَغَهَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالُهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْتُوهًا; وَذَلِكَ لِأَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَغَالِبُ الظَّنِّ، فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ السِّنَّ مَتَى بَلَغَهَا كَانَ بَالِغًا أَشُدَّهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بُلُوغِ الْأَشُدِّ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: "هُوَ ثَلَاثُونَ سَنَةً". وَقِيلَ: "ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً". وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: إنَّ الْأَشُدَّ وَاحِدُهَا شَدٌّ وَهُوَ قُوَّةُ الشَّبَابِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَدِّ النَّهَارِ وَهُوَ قُوَّةُ الضِّيَاءِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ; قَالَ الشَّاعِرُ: تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهَارِ ظَعِينَةٌ ... طَوِيلَةُ أَنْقَاءِ الْيَدَيْنِ سَحُوقُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فِيهِ أَمَرَ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ عَلَى الْكَمَالِ; وَلَمَّا كَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ يَتَعَذَّرُ فِيهِمَا التَّحْدِيدُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَلَّفَنَا الِاجْتِهَادَ فِي التَّحَرِّي دُونَ حَقِيقَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالِاجْتِهَادِ وَاحِدَةً; لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ لِلْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْكَيْلِ حَقِيقَةً مَعْلُومَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِتَحَرِّيهَا وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا وَلَمْ يُكَلِّفْنَا إصَابَتَهَا; إذْ لَمْ يَجْعَلْ لَنَا دَلِيلًا عَلَيْهَا، فَكَانَ كُلُّ مَا أَدَّانَا إلَيْهِ اجْتِهَادُنَا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَاصِرًا عَنْ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ لَنَا سَبِيلًا إلَيْهَا أَسْقَطَ حُكْمَهَا عَنَّا. وَيَدُلُّك عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ الْمَطْلُوبَةَ غَيْرُ مُدْرَكَةٍ يَقِينًا أَنَّهُ قَدْ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ثُمَّ يُعَادُ عَلَيْهِ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ فَيَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ لَا سِيَّمَا فِيمَا كَثُرَ مِقْدَارُهُ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ

عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَحَرَّاهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ بِأَمْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَلَى حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَشَبَّهَهُ بِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ تَحَرِّيَ الصِّدْقِ وَعَدْلَ الْقَوْلِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135] وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا قلتم فاعدلوا} مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّى صِدْقَ الْقَوْلِ فِي الْعَدْلِ فَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ فِي الْفِعْلِ أَحْرَى، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ حَازَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أوفوا} عَهْدُ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس:60] وَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْمَنْذُورَ وَمَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْقُرَبِ, أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الْآيَةُ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ; وَالصِّرَاطُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلشَّرْعِ الطَّرِيقُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ طَرِيقٌ إلَيْهَا وَإِلَى النَّعِيمِ، وَأَمَّا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ فَطَرِيقٌ إلَى النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا جَازَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّفَلِ وَالْمُبَاحِ كَمَا جَازَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إنَّمَا هُوَ اعْتِقَادُ صِحَّتِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ مِنْ قُبْحِ الْمَحْظُورِ وَوُجُوبِ الْفَرْضِ وَالرَّغْبَةِ فِي النَّفْلِ وَاسْتِبَاحَةِ الْمُبَاحِ وَالْعَمَلِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ لَهُ مِنْ إيجَابٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ إبَاحَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} . قيل في قوله: {ثُمَّ} إنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ قُلْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا; لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ، وَكَقَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:17] وَمَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِلْكَلَامِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ثُمَّ بَعْدَ مَا ذَكَرْت لَكُمْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْكَلَامِ. قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} . هُوَ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ

عَلَى حَسَبِ مَا تَضْمَنَّهُ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ إبَاحَةٍ وَاعْتِقَادِ كُلٍّ مِنْهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَالْبَرَكَةُ ثُبُوتُ الْخَيْرِ وَنُمُوُّهُ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ صِفَةُ ثَبَاتٍ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ، هَذَا تَعْظِيمٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: "أَرَادَ بِهِمَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى"، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ، قِيلَ لَهُ: هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} فَقَطَعَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَأَبْطَلَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكِتَابَ إنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْنَا. قَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} : أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بِالْعَذَابِ، ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب:57] وَمَعْنَاهُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَقِيلَ: أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ بِجَلَائِلِ آيَاتِهِ وَقِيلَ: تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّك: أَمْرُ رَبِّك يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} . قَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُمَالِئُونَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ قَتَادَةُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنَّ بَعْضَ النَّصَارَى يُكَفِّرُ بَعْضًا وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَدُعَاءٌ إلَى الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ عَلَى الدِّينِ وَقَالَ الْحَسَنُ هُمْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ". وَأَمَّا دِينُهُمْ فَقَدْ قِيلَ: الَّذِي أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَجَعَلَهُ دِينًا لَهُمْ، وَقِيلَ: الدِّينُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ لِإِكْفَارِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِجَهَالَةٍ فِيهِ. وَالشِّيَعُ الْفِرَقُ الَّذِينَ يُمَالِئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي غَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الظُّهُورُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَاعَ الْخَبَرُ، إذَا ظَهَرَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاتِّبَاعُ، مِنْ قَوْلِك: شَايَعَهُ عَلَى الْمُرَادِ، إذَا اتَّبَعَهُ. وَقَوْلُهُ: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . الْمُبَاعَدَةُ التَّامَّةُ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهُمْ فِي مَعْنًى مِنْ مَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي مَعْنًى مِنْ الباطل

وَإِنَّ افْتَرَقُوا فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِهِ. قَوْله تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الْحَسَنَةُ اسْمٌ لِلْأَعْلَى فِي الْحُسْنِ; لِأَنَّ "الْهَاءَ" دَخَلَتْ لِلْمُبَالَغَةِ فَتَدْخُلُ فِيهَا الْفُرُوضُ وَالنَّوَافِلُ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُبَاحُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا; لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَمْدٌ وَلَا ثَوَابٌ، وَلِذَلِكَ رَغَّبَ اللَّهُ فِي الْحَسَنَةِ وَكَانَتْ طَاعَةً، وَكَذَلِكَ الْإِحْسَانُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدُ. فَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَاحُ; لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَاءُ صَارَتْ اسْمًا لَا عَلَى الْحُسْنِ وَهِيَ الطاعات. قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} مَعْنَاهُ: فِي النَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ أَمْثَالُهَا فِي عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْزِلَةَ التَّعْظِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَهَا إلَّا بِالطَّاعَةِ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ إنَّمَا هِيَ بِفَضْلِ اللَّهِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30] وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُسَاوَيْ مَنْزِلَةُ التَّفْضِيلِ مَنْزِلَةَ الثَّوَابِ فِي التَّعْظِيمِ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَبْتَدِئَهُمْ بِهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ، وَلَجَازَ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْمُنْعِمِ بِأَعْظَمِ النِّعَمِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُنْعِمْ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} قوله: {دِيناً قِيَماً} يَعْنِي مُسْتَقِيمًا; وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ، وَالْحَنِيفُ الْمُخْلِصُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَيْلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ رِجْلٌ أَحْنَفُ إذَا كَانَ مَائِلَ الْقَدَمِ بِإِقْبَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى خِلْقَةً لَا مِنْ عَارِضٍ، فَسُمِّيَ الْمَائِلُ إلَى الْإِسْلَامِ حَنِيفًا لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ، وَإِنَّمَا جَاءَ أَحْنَفُ لِلْمَائِلِ الْقَدَمِ عَلَى التَّفَاؤُلِ كَمَا قِيلَ لِلَّدِيغِ سَلِيمٌ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ دِينَهُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: نُسُكِي: دِينِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ: نُسُكِي: دِينِي. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "عِبَادَتِي". إلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَيْهِ هُوَ الذَّبْحُ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُمْ: فُلَانٌ نَاسِكٌ، مَعْنَاهُ عَابِدٌ لِلَّهِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الصلاة قال: "إِنِي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلَى قَوْلِهِ: "مِنَ الْمُسْلِمِينَ" وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك" وَالْأَوَّلُ كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَنَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ

تَقُومُ} [الطور:48] فَلَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ تَرَكَ الْأَوَّلَ; وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ رُوِيَا جَمِيعًا". قَوْله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي} يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا صَلَاةَ الْعَبْدِ {وَنُسُكِي} الْأُضْحِيَّةَ; لِأَنَّهَا تُسَمَّى نُسُكًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَبِيحَةٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ نُسُكٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النُّسُكُ شَاةٌ"، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يَوْمَ النَّحْرِ: " إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ" فَسَمَّى الصَّلَاةَ وَالذَّبْحَ جَمِيعًا نُسُكًا، وَلَمَّا قَرَنَ النُّسُكَ إلَى الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْأُضْحِيَّةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ} . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} يُحْتَجُّ بِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَصَرُّفِ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ، لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَحْكَامَ أَفْعَالِ كُلِّ نَفْسٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا; فَيُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَفِي بُطْلَانِ الْحَجْرِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ بَيْعِ أَمْلَاكِهِ عَلَيْهِ وَفِي جَوَازِ تَصَرُّفِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا، لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِاكْتِسَابِ كُلِّ نَفْسٍ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْأَبْنَاءَ بِذَنْبِ الْآبَاءِ. وَقَدْ احْتَجَّتْ عَائِشَةُ فِي رَدِّ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" فَقَالَتْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَإِنَّمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ يُبْكَى عَلَيْهِ فَقَالَ: "إنَّهُ لَيُعَذَّبُ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ" وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَهُ الْوِزْرُ وَالْمَلْجَأُ، مِنْ قَوْلِهِ: {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:11] وَلَكِنَّهُ جَرَى فِي الْأَغْلَبِ عَلَى الْإِثْمِ وَشُبِّهَ بِمَنْ الْتَجَأَ إلَى غَيْرِ مَلْجَأٍ، وَيُقَالُ: "وَزَرَ يَزِرُ وَوَزِرَ يَوْزَرُ وَوُزِرَ يُوزَرُ فَهُوَ مَوْزُورٌ", وَكُلُّهُ بِمَعْنَى الْإِثْمِ; وَالْوَزِيرُ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ; لِأَنَّ الْمَلِكَ يَلْجَأُ إلَيْهِ فِي الْأُمُورِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

سورة الأعراف بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ النَّهْيِ وَمَعْنَاهُ نَهْيُ الْمُخَاطَبِ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَجِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْحَرَجِ أَنَّهُ الضِّيقُ، وَذَلِكَ أَصْلُهُ، وَمَعْنَاهُ: فَلَا يَضِقْ صَدْرُك خَوْفًا أَنْ لَا تَقُومَ بِحَقِّهِ، فَإِنَّمَا عَلَيْك الْإِنْذَارُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "الْحَرَجُ هُنَا الشَّكُّ، يَعْنِي لَا تَشُكَّ فِي لُزُومِ الْإِنْذَارِ بِهِ". وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَضِقْ صَدْرُك بِتَكْذِيبِهِمْ إيَّاكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] . قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ مَقْصُورًا عَلَى مُرَادِ أَمْرِهِ; وَهُوَ نَظِيرُ الِائْتِمَامِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي اتِّبَاعِ مُرَادِهِ وَفِي فِعْلِهِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ تَدْبِيرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَكُونُ فَاعِلُ الْمُبَاحِ مُتَّبِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا إذَا قَصَدَ بِهِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ فِي اعْتِقَادِ إبَاحَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُقُوعُ الْفِعْلِ مُرَادًا مِنْهُ، وَأَمَّا فَاعِلُ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الِاتِّبَاعُ فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ، وَالثَّانِي: إيقَاعُ فِعْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَمَّا ضَارَعَ الْمُبَاحَ الْوَاجِبَ فِي الِاعْتِقَادِ; إذْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُوبُ الِاعْتِقَادِ بِحُكْمِ الشَّيْءِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ فِي إبَاحَةٍ أَوْ إيجَابٍ جَازَ أَنْ يَشْتَمِلَ قَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} على المباح والواجب

مطلب: لا يجوز الإعتراض على حكم القرآن بأخبار الأحاد وَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ حَالٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ قَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ ثَابِتٍ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ; لِأَنَّ لُزُومَ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَلَا يَجُوزُ تركه

وَلَا الِاعْتِرَاضَ بِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ قَوْلَ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولٍ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا جَاءَكُمْ مِنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ عَنِّي وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَيْسَ عَنِّي" فَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَا كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ فَجَائِزٌ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِهِ وَكَذَلِكَ نَسَخَهُ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] عَنْهُ فَانْتَهُوا فَمَا تَيَقَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَإِنَّهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ، فَجَائِزٌ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ نَسْخُهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . روي عن الحسن: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يَعْنِي بِهِ آدَمَ; لِأَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَتَصْوِيرِهِ, وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة:63] أَيْ مِيثَاقَ آبَائِكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة:91] وَالْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَقِيلَ: {ثُمَّ} رَاجِعٌ إلَى صِلَةِ الْمُخَاطَبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ إنَّا نُخْبِرُكُمْ أَنَّا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَخْفَشِ: {ثُمَّ} هَهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:46] وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ. قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِنَفْسِ وُرُودِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى قَرِينَةٍ فِي إيجَابِهِ; لِأَنَّهُ عَلَّقَ الذَّمَّ بِتَرْكِهِ الْأَمْرَ الْمُطَلَّقَ. وَقِيلَ في قوله تعالى {أَلَّا تَسْجُدَ} إنَّ " {لَا} " هَهُنَا صِلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ. وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ: مَا دَعَاك إلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ وَمَا أَحْوَجَك؟ وَقِيلَ فِي السُّجُودِ لِآدَم وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّكْرُمَةُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ امْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَذَكَّرَهُ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ قِبْلَةً لَهُمْ كَالْكَعْبَةِ. قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} . قِيلَ فِيهِ: خَيَّبَتْنِي، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا يَعْنِي: مِنْ يَخِبْ. وَحَكَى لَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي غَيًّا إذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] أَيْ فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ; قَالَ: وَيُقَالُ غَوَى الْفَصِيلُ إذَا لَمْ يَرْوَ مِنْ لبن أمه. وقيل في {أَغْوَيْتَنِي} : أَيْ حَكَمْت بِغَوَايَتِي، كَقَوْلِك أَضْلَلْتَنِي أَيْ حَكَمْت بضلالتي. وقيل: {أَغْوَيْتَنِي} أَيْ أَهْلَكْتَنِي. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مُحْتَمَلَةٌ فِي إبْلِيسَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} يَحْتَمِلُ فَسَادَ أَمْرِهِ فِي الْجَنَّةِ،

وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْخَيْبَةِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ وَلَا الْحُكْمَ بِالْغَوَايَةِ الَّتِي هِيَ ضَلَالٌ; لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ والسدي: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، مِنْ جِهَةِ حَسَنَاتِهِمْ وَسَيِّئَاتِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ وَمِنْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ. وَقِيلَ: "مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِيَالُ عَلَيْهِمْ". وَلَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مِنْهُ مُمْتَنِعٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْحَقِيقَةُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} قَرَنَ قُرْبَهُمَا الشَّجَرَةَ، إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْطُ الذِّكْرِ فِيهِ وَتَعَمُّدُ الْأَكْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ; لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَإِ فِيمَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. وَلَمْ يَكُنْ أَكْلُهُمَا لِلشَّجَرَةِ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً بَلْ كَانَتْ صَغِيرَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا نَسِيَا الْوَعِيدَ وَظَنَّا أَنَّهُ نَهْيُ اسْتِحْبَابٍ لَا إيجَابٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُشِيرَ لَهُمَا إلَى شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا وَظَنَّا الْمُرَادَ الْعَيْنَ وَكَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ ذَهَبًا وَحَرِيرًا فَقَالَ: "هَذَانِ مُهْلِكَا أُمَّتِي" وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجِنْسَ لَا الْعَيْنَ دُونَ غَيْرِهَا. قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى} هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ كَمَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1} خِطَابًا لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ، إلَّا أَنَّهُ لِمَنْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ عَلَى شَرْطِ الْوُجُودِ وَبُلُوغِ كَمَالِ الْعَقْلِ. قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ سِتْرِ الْعَوْرَةِ، لِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْنَا لِبَاسًا لِنُوَارِيَ سَوْآتِنَا بِهِ. وَإِنَّمَا قال: {أَنْزَلْنَا} لِأَنَّ اللِّبَاسَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ جُلُودِ الْحَيَوَانِ وَأَصْوَافِهَا، وَقِوَامُ جَمِيعِهَا بِالْمَطَرِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ. وَقِيلَ إنَّهُ وَصَفَهُ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّ الْبَرَكَاتِ تُنْسَبُ إلَى أَنَّهَا تَأْتِي مِنْ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25] . وَقَوْلُهُ: {رِيشاً} قِيلَ إنَّهُ الْأَثَاثُ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ نَحْوُ الْفُرُشِ وَالدِّثَارِ. وَقِيلَ: الرِّيشُ مَا فِيهِ الْجَمَالُ، ومنه ريش الطائر. وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} قِيلَ فِيهِ إنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ; وَسَمَّاهُ لِبَاسًا لِأَنَّهُ يَقِي الْعِقَابَ كَمَا يَقِي اللِّبَاسُ مِنْ الثِّيَابِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "هُوَ الْإِيمَانُ".

وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْحَيَاءُ الَّذِي يُكْسِبُهُمْ التَّقْوَى. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "هُوَ لِبَاسُ الصُّوفِ وَالْخَشِنِ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ لِلتَّوَاضُعِ وَالنُّسُكِ فِي الْعِبَادَةِ" وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ لُزُومِ فَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَوَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيَا؟ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ" وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ" وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] يَعْنِي عَنْ الْعَوْرَاتِ; إذْ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إلَى غَيْرِ الْعَوْرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} قِيلَ فِي الْفِتْنَةِ إنَّهَا الْمِحْنَةُ بِالدُّعَاءِ إلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّهْوَةِ أَوْ الشُّبْهَةِ، وَالْخِطَابُ تَوَجَّهَ إلَى الْإِنْسَانِ بِالنَّهْيِ عَنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ وَإِلْزَامِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ. وقَوْله تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} فَأَضَافَ إخْرَاجَهُمَا مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ أَغْوَاهُمَا حَتَّى فَعَلَا مَا اسْتَحَقَّا بِهِ الْإِخْرَاجَ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ فِرْعَوْنَ: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص:4] وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَتَوَلَّهُ بِنَفْسِهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَضَافَ نَزْعَ لِبَاسِهِمَا إليه بقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَخِيطُ قَمِيصَهُ أَوْ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّى الضَّرْبَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ إنْ أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَفَعَلَهُ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَبْنِي دَارِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَبَنَاهَا. وَقِيلَ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا إنَّهُ كَانَ ثِيَابًا مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ; وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لِبَاسِهِمَا الظُّفُرَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لِبَاسُهُمَا نُورًا. قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: تَوَجَّهُوا إلَى قِبْلَةِ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: تَوَجَّهُوا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى لا لوثن ولا غيره.

مطلب: في وجوب فعل المكتوبات في جماعة قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ غَيْرَ عَادِلٍ عَنْهَا، وَالثَّانِي: فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ

الْمَكْتُوبَاتِ فِي جَمَاعَةٍ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ مَبْنِيَّةٌ لِلْجَمَاعَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي وَعِيدِ تَارِكِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَأَخْبَارٌ أُخَرُ فِي التَّرْغِيبِ فِيهَا، فَمِمَّا رُوِيَ مَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ تَرْكِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ"، "وَقَوْلُهُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ حِينَ قَالَ لَهُ إنَّ مَنْزِلِي شَاسِعٌ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: لَا أَجِدْ لَك عُذْرًا" وَقَوْلُهُ: "لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ آمُرُ بِحَطَبٍ فَيُحْرَقَ عَلَى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ بُيُوتُهُمْ" فِي أَخْبَارٍ نَحْوِهَا. وَمِمَّا رُوِيَ مِنْ التَّرْغِيبِ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَقَوْلُهُ: "بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ إلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ يَقُولُ: هُوَ عِنْدِي فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَغَسْلِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، مَتَى قَامَ بِهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَ عن الباقين.

مطلب: في ستر العورة في الصلاة قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ إنْ تَرَكَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ"، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ" "الصَّلَاةُ مُجْزِيَةٌ مَعَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَيُوجِبَانِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ وَالْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا اسْتِحْبَابٌ. وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَرْضِ سِتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْمَسْجِدِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ السَّتْرُ لِلصَّلَاةِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَسْجِدِ فَائِدَةٌ، فَصَارَ تَقْدِيرُهَا: خُذُوا زِينَتَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ سَتْرَهَا عَنْ النَّاسِ لَمَا خَصَّ الْمَسْجِدَ بِالذِّكْرِ; إذْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، فَأَفَادَ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ وُجُوبَهُ فِي الصَّلَاةِ إذْ كَانَتْ الْمَسَاجِدُ مَخْصُوصَةً بِالصَّلَاةِ. وَأَيْضًا لَمَّا أَوْجَبَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَرْضُ السَّتْرِ فِي الصَّلَاةِ إذَا فَعَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا وَجَبَ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَجَبَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ فُعِلَتْ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ السُّجُودِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] وَالْمُرَادُ السُّجُودُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لُزُومَ السَّتْرِ عِنْدَ السُّجُودِ، وَإِذَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ لَزِمَ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا; رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقِيلَ إنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً لِأَنَّ

الثِّيَابَ قَدْ دَنَّسَتْهَا الْمَعَاصِي فِي زَعْمِهِمْ فَيَتَجَرَّدُونَ مِنْهَا. وَقِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِالتَّعَرِّي مِنْ الذُّنُوبِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَجُّ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: إنَّ هَؤُلَاءِ السَّلَفَ لَمَّا ذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ طَوَافُ الْعُرْيَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا كَذَلِكَ; لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ عِنْدَنَا عَلَى سَبَبٍ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَهُ فِي الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ السَّتْرُ فِي الطَّوَافِ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوَجَبُ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ تَرْكُ السَّتْرِ صِحَّةَ الصَّلَاةِ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الطَّوَافِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ وَإِنْ وَقَعَ نَاقِصًا. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْجَمِيعِ عِنْدَ عَدَمِ السَّتْرِ، وَلَكِنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ مَعَ النَّهْيِ كَمَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مَعَ السَّتْرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا; وَلِأَنَّ تَرْكَ بَعْضِ فُرُوضِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا مِثْلُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَتَرْكُ بَعْضِ فُرُوضِ الْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ أَحْرَمَ صَحَّ إحْرَامُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُجَامِعٌ لِامْرَأَتِهِ وَقَعَ إحْرَامُهُ، فَصَارَ الْإِحْرَامُ آكِدًا فِي بَقَائِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْسِدَهُ ترك الستر ولا يمنع وقوعه. ويدل عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الطَّوَافِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصَّلَاةُ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَالطَّوَافُ مَخْصُوصٌ بِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفْعَلُ فِي غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الصَّلَاةُ الَّتِي تَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ" فَنَفَى قَبُولَهَا لِمَنْ بَلَغَتْ الْحَيْضَ فَصَلَّتْهَا مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، كَمَا نَفَى قَبُولَهَا مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ فَرَوْضِهَا. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ; وَلِذَلِكَ يَأْمُرُهُ مُخَالِفُنَا بِإِعَادَتِهَا فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالسَّتْرِ وَمَنْهِيًّا عَنْ تَرْكِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ قَدْ أُرِيدَ بِهَا السَّتْرُ فِي الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْفِعْلِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجَوَازِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ السَّتْرُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لَمَا جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ عَدَمِهِ عند

الضَّرُورَةِ إلَّا بِبَدَلٍ يَقُومُ مَقَامَهُ مِثْلُ الطَّهَارَةِ، فَلَمَّا جَازَتْ صَلَاةُ الْعُرْيَانِ إذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ عَلَى السَّتْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرْضِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ مَعَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ عَنْهَا، وَلَمْ يُخْرِجْهَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا. وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَجُّ لِمَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّوْبُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ وَمِنْ فَرْضِهَا لَوَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْوِيَ بِلُبْسِ الثَّوْبِ أَنَّهُ لِلصَّلَاةِ كَمَا يَنْوِي بِالِافْتِتَاحِ أَنَّهُ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ. وَهَذَا كَلَامٌ وَاهٍ جِدًّا فَاسِدُ الْعِبَارَةِ مَعَ ضَعْفِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ فُرُوضِهَا وَلَكِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ شُرُوطِهَا الَّتِي لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ كَالطَّهَارَةِ، كَمَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ مِنْ شُرُوطِهَا، وَلَا يَحْتَاجُ الِاسْتِقْبَالُ إلَى نِيَّةٍ، وَالطَّهَارَةُ مِنْ شُرُوطِهَا وَلَا تَحْتَاجُ عِنْدَنَا إلَى نِيَّةٍ، وَالْقِيَامُ فِي حَالِ الِافْتِتَاحِ مِنْ فُرُوضِهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَالْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ مِنْ فُرُوضِهَا وَلَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ أَغْنَتْ عَنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ. قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ قَدْ أَغْنَتْ عَنْ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لِلسَّتْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي حُضُورِ الْمَسْجِدِ إلَى أَخْذِ ثَوْبٍ نَظِيفٍ مِمَّا يَتَزَيَّنُ بِهِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "نُدِبَ إلَى ذَلِكَ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ"، كَمَا أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ لِلْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} الْآيَةُ ظَاهِرُهُ يُوجِبُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ; وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْإِيجَابُ فِي بَعْضِهَا، فَالْحَالُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ هِيَ الْحَالُ الَّتِي يَخَافُ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ يَكُونُ تَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُتْلِفُ نَفْسَهُ أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ أَوْ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَأْكُلَ مَا يَزُولُ مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ; وَالْحَالُ الَّتِي هُمَا مُبَاحَانِ فِيهَا هِيَ الْحَالُ الَّتِي لَا يَخَافُ فِيهَا ضَرَرًا بِتَرْكِهَا. وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ أَكْلِ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ وَشُرْبِ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مِمَّا لَا يَحْظُرُهُ دَلِيلٌ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْرِفًا فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْرِفًا فِيهِمَا. وَالْإِسْرَافُ هُوَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ الِاسْتِوَاءِ، فَتَارَةً يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ الْحَلَالِ إلَى الْحَرَامِ وَتَارَةً يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ فَيَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] وَالْإِسْرَافُ وَضِدُّهُ مِنْ الْإِقْتَارِ مَذْمُومَانِ، وَالِاسْتِوَاءُ هُوَ التَّوَسُّطُ; وَلِذَلِكَ قِيلَ دَيْنُ اللَّهِ بَيْنَ الْمَقْصُورِ وَالْغَالِي،

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إلَى الضَّرَرِ، فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: "أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ السَّوَائِبَ وَالْبَحَائِرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ".وَقَالَ السُّدِّيُّ: "كَانُوا يُحَرِّمُونَ فِي الْإِحْرَامِ أَكْلَ السَّمْنِ وَالْأَدْهَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ"، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا قَدَّمَ إبَاحَتَهُ فِي قَوْلِهِ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةُ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَطَابَهُ الْإِنْسَانُ وَاسْتَلَذَّهُ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَهُوَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ سَائِرِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إلَّا مَا قَامَتْ دَلَالَةُ تَحْرِيمِهِ وَالثَّانِي: الْحَلَالُ مِنْ الرِّزْقِ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا وَهِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُمْ مِنْ شَوَائِبِ التَّنْغِيصِ وَالتَّكْدِيرِ وَقِيلَ: هِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "الْفَوَاحِشُ وَالزِّنَا وَهُوَ الَّذِي بَطَنَ، وَالتَّعَرِّي فِي الطَّوَافِ وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ". وَقِيلَ: الْقَبَائِحُ كُلُّهَا فَوَاحِشُ، أَجْمَلَ ذِكْرَهَا بَدِيًّا ثُمَّ فَصَّلَ وُجُوهَهَا فَذَكَرَ أَنَّ مِنْهَا الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ وَالْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ، وَالْبَغْيُ هُوَ طَلَبُ التَّرَؤُّسِ عَلَى النَّاسِ بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلُهُ: {وَالْأِثْمَ} مَعَ وَصْفِهِ الْخَمْرَ وَالْمَيْسَرَ بِأَنَّ فِيهِمَا إثْمٌ، وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَيْضًا. قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْفَاءِ لِلدُّعَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: عَلَّمَكُمْ كَيْفَ تَدْعُونَ رَبَّكُمْ، وَقَالَ لِعَبْدٍ صَالِحٍ رَضِيَ دُعَاءَهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] وَرَوَى مُبَارَكٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُسْمَعُ إلَّا هَمْسًا" وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا" وَرَوَى سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي" وَرَوَى بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ عَنْ ضِرَارِ عَنْ أَنَسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَمَلُ الْبِرِّ كُلُّهُ نِصْفُ الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءُ نِصْفُ الْعِبَادَةِ" وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ

يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَا يَرُدُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بهما وجهه". ال أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إظْهَارِهِ; لِأَنَّ الْخُفْيَةَ هِيَ السِّرُّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ "وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إخْفَاءَ آمِينَ" بَعْدَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ إظْهَارِهِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] قَالَ: كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤَمِّنُ، فَسَمَّاهُمَا اللَّهُ دَاعِيَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا كَانَ إخْفَاءُ الدُّعَاءِ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ، وَأَمَّا التَّضَرُّعُ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ الْمَيْلُ فِي الْجِهَاتِ، يُقَالُ يَضْرَعُ الرَّجُلُ ضَرْعًا إذَا مَالَ بِأُصْبُعَيْهِ يَمِينًا وَشِمَالًا خَوْفًا وَذُلًّا، قَالَ: وَمِنْهُ ضَرْعُ الشَّاةِ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَمِيلُ إلَيْهِ، وَالْمُضَارَعَةُ الْمُشَابَهَةُ لِأَنَّهَا تَمِيلُ إلَى شَبَهِهِ نَحْوُ الْمُقَارَبَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ "كَانَ يَدْعُو وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَقَدْ رُئِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو حَتَّى إنَّهُ لَيُرَى مَا تَحْتَ إبْطَيْهِ" وَقَالَ أَنَسٌ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَمَدَّ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إبْطَيْهِ". وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ وَالْإِشَارَةِ بِالسَّبَّابَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ مِنْ تَأَوَّلَ التَّضَرُّعَ عَلَى تَحْوِيلِ الْأُصْبُعِ يَمِينًا وَشِمَالًا. قَوْله تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} جَازَ أَنْ يَسْبِقَ إلَى وَهْمِ بَعْضِ السَّامِعِينَ أَنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ فَصَارَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فَأَزَالَ هَذَا التَّوَهُّمَ وَالتَّجَوُّزَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَمَّ الثَّلَاثِينَ بِعَشْرٍ غَيْرَهَا زِيَادَةً عَلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قِيلَ إنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ عَلَى جِهَةِ اسْتِخْرَاجِ الْجَوَابِ لِقَوْمِهِ لَمَّا قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} وَقِيلَ: إنَّهُ سَأَلَهُ الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ عِلْمُ الضَّرُورَةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَازَ أَنْ يَسْأَلَ الرُّؤْيَةَ وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَهَلْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَسْأَلَهُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الظُّلْمِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي فِعْلِ الظُّلْمِ أَنَّهُ صِفَةُ نَقْصٍ وَذَمٍّ فَلَا يَجُوزُ سُؤَالُ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ إلَّا بِالدَّلَالَةِ، وَهَذَا إنْ كَانَ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ عِلْمُ الضَّرُورَةِ أَوْ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ لِقَوْمِهِ،

فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ وَقِيلَ إنَّ تَوْبَةَ مُوسَى إنَّمَا كَانَتْ مِنْ التَّقَدُّمِ بِالْمَسْأَلَةِ قَبْلَ الْإِذْنِ فِيهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّوْبَةَ عَلَى وَجْهِ التَّسْبِيحِ عَلَى مَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِهِ عِنْدَ ظُهُورِ دَلَائِلِ الْآيَاتِ الدَّاعِيَةِ إلَى التَّعْظِيمِ. قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فَإِنَّ التَّجَلِّيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: ظُهُورٌ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ; وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَحِيلَةٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ظُهُورُ آيَاتِهِ الَّتِي أَحْدَثَهَا لِحَاضِرِي الْجَبَلِ. وَقِيلَ: إنَّهُ أَبْرَزُ مِنْ مَلَكُوتِهِ لِلْجَبَلِ مَا يُدَكْدَكُ بِهِ; لِأَنَّ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَقُومُ لِمَا يَبْرُزُ مِنْ الْمَلَكُوتِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَبْرَزَ قَدْرَ الْخِنْصَرِ مِنْ الْعَرْشِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} قِيلَ: بِأَحْسَنِ مَا كُتِبَ فِيهِ، وَهُوَ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ دُونَ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا حَمْدَ فِيهِ ولا ثواب، وكذلك قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحْسَنُهَا النَّاسِخُ دُونَ الْمَنْسُوخِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ; لِأَنَّ فِعْلَ الْمَنْسُوخِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَبِيحٌ، فَلَا يُقَالُ الْحَسَنُ أَحْسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ. قَوْله تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ} قِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ: عَنْ آيَاتِي مِنْ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي تُكْسِبُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; وَيَحْتَمِلُ: صَرْفُهُمْ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى آيَاتِي بِالْإِبْطَالِ أَوْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْإِظْهَارِ لِلنَّاسِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: سَأَصْرِفُ عَنْ الْإِيمَانِ بِآيَاتِي; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ يَمْنَعَ مِنْهُ; إذْ كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا وعبثا. قوله تعالى: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} قَدْ قِيلَ إنَّ الْعَجَلَةَ التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَالسُّرْعَةُ عَمَلُهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهِ; وَلِذَلِكَ صَارَتْ الْعَجَلَةُ مَذْمُومَةً وَقَدْ يَكُونُ تَعْجِيلُ الشَّيْءِ فِي وَقْتِهِ، كَمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَجِّلُ الظُّهْرَ فِي الشِّتَاءِ وَيُبْرِدُ بِهَا فِي الصَّيْفِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاتَبَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ; وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْعَادَةِ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْعَادَةِ حِينَئِذٍ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ. وَقِيلَ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الرَّجُلِ مِنَّا عِنْدَ غَضَبِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ وَعَضِّهِ عَلَى شَفَتِهِ بِإِبْهَامِهِ. قَوْله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} قِيلَ إنَّ الْأَغْلَبَ فِي "خَلْفٌ" بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لِلذَّمِّ; وَقَالَ لَبِيدِ: وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كجلد الأجرب

وَقَدْ جَاءَ بِالتَّسْكِينِ فِي الْمَدْحِ أَيْضًا، قَالَ حَسَّانُ: لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ قَوْله تَعَالَى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} قِيلَ إنَّ الْعَرَضَ مَا يَقِلُّ لُبْثُهُ، يُقَالُ عَرَضَ هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ عَارِضٌ خِلَافُ اللَّازِمِ، قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] يَعْنِي السَّحَابَ لِقِلَّةِ لُبْثِهِ وَرُوِيَ فِي قَوْلِهِ {عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} أَنَّ مَعْنَاهُ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ "أَهْلُ إصْرَارٍ عَلَى الذُّنُوبِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْبِعُهُمْ شَيْءٌ". قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} قِيلَ إنَّهُ أَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَأَشْهَدْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا جَعَلَ فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ مِنْ الْمُنَازَعَةِ لِكَيْ تَقْتَضِيَ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. وَقِيلَ: إنَّهُ قَالَ لَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص:8] وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْتِقَاطِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ أُطْلِقَ ذَلِكَ فِيهِمْ; وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَقَالَ أَيْضًا: وَأُمُّ سِمَاكٍ فَلَا تَجْزَعِي ... فَلِلْمَوْتِ مَا غَذَتْ الْوَالِدَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} فِيهِ حَثٌّ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّفَكُّرِ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَصُنْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ وُجُودِهِ وَعَدْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَدَاعٍ إلَيْهِ، وَحَذَّرَهُمْ التَّفْرِيطَ بِتَرْكِ النَّظَرِ إلَى وَقْتِ حُلُولِ الْمَوْتِ وَفَوَاتَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} . قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} الآية. قوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "قِيَامُهَا". وَأَيَّانَ بِمَعْنَى مَتَى; وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ الزَّمَانِ عَلَى جِهَةِ الظَّرْفِ

لِلْفِعْلِ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَقْتِهَا لِيَكُونَ الْعِبَادُ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُ فَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى الطَّاعَةِ وَأَزْجَرَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ. وَالْمَرْسَى مُسْتَقَرُّ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ، وَمِنْهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ يَعْنِي الثَّابِتَاتُ، وَرَسِيَتْ السَّفِينَةُ إذَا ثَبَتَتْ فِي مُسْتَقَرِّهَا، وَأَرْسَاهَا غَيْرُهَا أَثْبَتَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ السَّائِلُونَ عَنْ السَّاعَةِ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "سَأَلَتْ عَنْهَا قُرَيْشٌ". قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} قَالَ قَتَادَةُ غَفْلَةً، وَذَلِكَ أَشَدُّهَا. وقَوْله تَعَالَى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: "ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ يُطِيقُوهُ إدْرَاكًا لَهُ"، وَقَالَ الْحَسَنُ "عَظُمَ وَصْفُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ انْتِثَارِ النُّجُومِ وَتَكْوِيرِ السَّمَوَاتِ وَتَسْيِيرِ الْجِبَالِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "ثَقُلَتْ عَلَى السَّمَوَاتِ فَلَا تُطِيقُهَا لِعِظَمِهَا". وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمَعْمَرٌ: "كَأَنَّك عَالِمٌ بِهَا" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنَّك حَفِيٌّ بِهِمْ عَلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ كَأَنَّك لَطِيفٌ بِبِرِّك إيَّاهُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَ الْحَفَا الْإِلْحَاحُ فِي الْأَمْرِ، يُقَالُ: أَحْفَى فُلَانٌ فُلَانًا إذَا أَلَحَّ فِي الطَّلَبِ مِنْهُ، وَأَحْفَى السُّؤَالَ إذَا أَلَحَّ فِيهِ، وَمِنْهُ أَحْفَى الشَّارِبَ إذَا اسْتَأْصَلَهُ وَاسْتَقْصَى فِي أَخْذِهِ. وَمِنْهُ الْحَفَا وَهُوَ أَنْ يَتَسَحَّجَ قَدَمُهُ لِإِلْحَاحِ الْمَشْيِ بِغَيْرِ نَعْلٍ، وَالْحَفِيُّ اللَّطِيفُ بِبِرِّك لِإِلْحَاحِهِ بِالْبِرِّ لك، و {حَفِيّ عَنٌهَا} بِمَعْنَى عَالِمٍ بِهَا لِإِلْحَاحِهِ بِطَلَبِ عِلْمِهَا.

مطلب: في بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِبَقَاءِ مُدَّةِ الدنيا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِبَقَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَيَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ وَقْتُ قِيَامِ السَّاعَةِ مَعْلُومًا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَهَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بَغْتَةً لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْبَغْتَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي بَقَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِيهَا تَحْدِيدٌ لِلْوَقْتِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: "بُعِثْت وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَنَحْوُ قَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ قَالَ: "أَلَا إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى إلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَغِيبَ". وَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَخْبَارِ لَيْسَ

فِيهَا تَحْدِيدُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِيبُ الْوَقْتِ وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أَنَّ مَبْعَثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} ثم قال: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} فَإِنَّهُ قِيلَ إنَّهُ بِالْأَوَّلِ عِلْمُ وَقْتِهَا وَبِالْآخِرِ عِلْمُ كُنْهِهَا. قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} قِيلَ فِيهِ: جَعَلَ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ زَوْجَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ مِنْ النَّفْسِ زَوْجَهَا وَيُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ وَأَضْمَرَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مِنْ آدَمَ وحواء. قوله تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قَالَ الْحَسَنُ: غُلَامًا سَوِيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَشَرًا سَوِيًّا لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً. وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي جَعَلَا عَائِدٌ إلَى النَّفْسِ وَزَوْجِهِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ لَا إلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: رَاجِعٌ إلَى الْوَلَدِ الصَّالِحِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ وَذَلِكَ صَلَاحٌ فِي خَلْقِهِ لَا فِي دِينِهِ وَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَى اثْنَيْنِ لِأَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} عَنَى بِالدُّعَاءِ الْأَوَّلِ تَسْمِيَتَهُمْ الْأَصْنَامَ آلِهَةً، وَالدُّعَاءِ الثَّانِي طَلَبَ الْمَنَافِعِ وَكَشْفَ الْمَضَارِّ مِنْ جِهَتِهِمْ، وذلك ميئوس منهم. وقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} قِيلَ: إنَّمَا سَمَّاهَا عِبَادًا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الْعِبَادِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "إنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ هَذِهِ الْأَوْثَانَ مَخْلُوقَةٌ أَمْثَالُكُمْ". قَوْله تَعَالَى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} تَقْرِيعٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ; إذْ لَا شُبْهَةَ عَلَى أَحَدٍ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ تَبِعَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ أَلْوَمُ مِمَّنْ عَبَدَ مَنْ لَهُ جَارِحَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَعَ بِهَا أَوْ يَضُرَّ وَقِيلَ: إنَّهُ قَدَّرَهُمْ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا; لِأَنَّ لَهُمْ جَوَارِحَ يَتَصَرَّفُونَ بِهَا وَالْأَصْنَامُ لَا تَصَرُّفَ لَهَا، فَكَيْفَ يَعْبُدُونَ مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ وَالْعَجَبُ مِنْ أَنَفَتِهِمْ مِنْ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ وَالدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْ عِبَادَةِ حَجَرٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا تَصَرُّفَ وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي القدرة على النفع والضر والحياة والعلم.

مطلب: فِي الْعَفْوِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. قَوْله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى وَسَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْرَابِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ قَالَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُقْبَلَ الْعَفْوُ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسَ. وَالْعَفْوُ هُوَ التَّسْهِيلُ وَالتَّيْسِيرُ، فَالْمَعْنَى اسْتِعْمَالُ الْعَفْوِ وَقَبُولِ مَا سَهُلَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَقَبُولِ الْعُذْرِ وَنَحْوِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عباس في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} قَالَ: "هُوَ الْعَفْوُ مِنْ الْأَمْوَالِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فَرْضُ الزَّكَاةِ"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْعَفْوِ التَّرْكُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] يَعْنِي: تُرِكَ لَهُ; وَالْعَفْوُ عَنْ الذَّنْبِ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قَالَ قَتَادَةُ وَعُرْوَةُ: "الْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا سهل بن بكار قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْخَلِيلِ عَنْ عُبَيْدَةَ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو جُرَيٍّ جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ "رَكِبْت قَعُودِي ثُمَّ انْطَلَقْت إلَى مَكَّةَ فَطَلَبْته، فَأَنَخْت قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٌ، فَقُلْت: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "وَعَلَيْك السَّلَامُ" قُلْت: إنَّا مَعْشَرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَ: اُدْنُ ثَلَاثًا. فَدَنَوْت، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ فَأَعَدْت، قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئَا، وَأَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ فَضْلِ دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ سبك بِمَا يَعْلَمُ مِنْك فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا، ولا تسبن شيئا مما خولك الله تَعَالَى"، قَالَ أَبُو جُرَيٍّ: فَوَاَلَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِهِ ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بَعِيرًا. وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا حَسُنَ فِي الْعَقْلِ فِعْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ الصحيحة. قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أَمْرٌ بِتَرْكِ مُقَابَلَةِ الْجُهَّالِ وَالسُّفَهَاءِ عَلَى سَفَهِهِمْ وَصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْهُمْ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ; لِأَنَّ الْفَرْضَ كَانَ حِينَئِذٍ عَلَى الرَّسُولِ إبْلَاغُهُمْ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عليهم، وهو مثل قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [لنجم:29] وَأَمَّا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَدْ

تَقَرَّرَ أَمْرُ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُفْسِدِينَ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ إنْكَارِ فِعْلِهِمْ تَارَةً بِالسَّيْفِ وَتَارَةً بِالسَّوْطِ وَتَارَةً بِالْإِهَانَةِ وَالْحَبْسِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قِيلَ فِي نَزْغِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ الْإِغْوَاءُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَقِيلَ إنَّ أَصْلَهُ الْإِزْعَاجُ بِالْحَرَكَةِ إلَى الشَّرِّ، وَيُقَالُ: هَذِهِ نَزْغَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، لِلْخَصْلَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ. فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَزْغَ الشَّيْطَانِ إيَّانَا إلَى الشَّرِّ عَلِمْنَا كَيْفَ الْخَلَاصُ مِنْ كَيْدِهِ وَشَرِّهِ بِالْفَزَعِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَبَيَّنَ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّهُ مَتَى لَجَأَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ وَاسْتَعَاذَ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ حَرَسَهُ مِنْهُ وَقَوَّى بَصِيرَتَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّيْفُ هُوَ النَّزْغُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: "الْوَسْوَسَةُ". وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ أَعَاذَهُ مِنْهُ وَازْدَادَ بَصِيرَةً فِي رَدِّ وَسْوَاسِهِ وَالتَّبَاعُدِ مِمَّا دَعَاهُ إلَيْهِ، وَرَآهُ فِي أَخَسِّ مَنْزِلَةٍ وَأَقْبَحِ صُورَةٍ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ إنْ وَافَقَهُ وَهَوَّنَ عِنْدَهُ دَوَاعِيَ شَهْوَتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إخْوَانُ الشَّيَاطِينِ فِي الضَّلَالِ يَمُدُّهُمْ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَسَمَّاهُمْ إخْوَانًا لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، كَالْإِخْوَةِ مِنْ النَّسَبِ فِي التَّعَاطُفِ بِهِ وَحُنَيْنِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ لِأَجْلِهِ، كَمَا سَمَّى الْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] لِتَعَاطُفِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ بِالدِّينِ; فَأَخْبَرَ عَنْ حَالِ مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ فِي بَصِيرَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِقُبْحِ مَا يَدْعُوهُ إلَيْهِ وَتَبَاعُدِهِ مِنْهُ وَمِنْ دَوَاعِي شَهَوَاتِهِ بِرُجُوعِهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى ذِكْرِهِ. وَهَذِهِ الِاسْتِعَاذَةُ تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ بِالْفِكْرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَفِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَمَا يَئُولُ بِهِ إلَيْهِ الْحَالُ مِنْ دَوَامِ النَّعِيمِ فَيَهُونُ عِنْدَهُ دَوَاعِي هَوَاهُ وَحَوَادِثُ شَهَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ بِهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ بِهِ فَقَالَ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} فَكُلَّمَا تَبَاعَدُوا عَنْ الذِّكْرِ مَضَوْا مَعَ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَغَيِّهِ غَيْرَ مُقْصِرِينَ عَنْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

بَابُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال أبو

بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ وَقَرَأَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ فَخَلَطُوا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَرَوَى ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قَالَ: "الْمُؤْمِنُ فِي سَعَةٍ مِنْ الِاسْتِمَاعِ إلَيْهِ إلَّا فِي صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ أَوْ يَوْمَ جُمُعَةٍ أَوْ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى". وَرَوَى الْمُهَاجِرُ أَبُو مَخْلَدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى قَرَأَ أَصْحَابُهُ أَجْمَعُونَ خَلْفَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} فَسَكَتَ الْقَوْمُ وَقَرَأَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَرُوِيَ الشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ قَالَا: "فِي الصَّلَاةِ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قِرَاءَةَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ". وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ. وَالْخُطْبَةُ لَا مَعْنَى لَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقُرْآنِ فِي الْخُطْبَةِ كَغَيْرِهِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُلَائِمُ مَعْنَى الْآيَةِ; لِأَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي مَعْنَى تَأْوِيلِ الْآخَرِينَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَالِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ لِقِرَاءَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ السَّلَفِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى نُزُولِهَا فِي وُجُوبِ تَرْكِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَكَانَتْ الْآيَةُ كَافِيَةً فِي ظُهُورِ مَعْنَاهَا وَعُمُومِ لَفْظِهَا وَوُضُوحِ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، فَإِنْ قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فِي غَيْرِهَا لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ دَلَالَتِهِ فِي إيجَابِهِ ذَلِكَ فِيهَا. وَكَمَا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى النَّهْيِ فِيمَا يُخْفِي; لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ حَالَ الْجَهْرِ مِنْ الْإِخْفَاءِ، فَإِذَا جَهَرَ فَعَلَيْنَا الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ وَإِذَا أَخْفَى فَعَلَيْنَا الْإِنْصَاتُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيَّ وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ: "لَا يَقْرَأُ فِيمَا جَهَرَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَقْرَأُ فِيمَا جَهَرَ وَفِيمَا أَسَرَّ". وَقَالَ مَالِكٌ: "يَقْرَأُ فِيمَا أَسَرَّ وَلَا يَقْرَأُ فِيمَا جَهَرَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَقْرَأُ فِيمَا

جَهَرَ وَفِيمَا أَسَرَّ" فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيّ، وَفِي الْبُوَيْطِيِّ: "أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيمَا أَسَرَّ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَفِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ لَا يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ"، قَالَ الْبُوَيْطِيُّ: وَكَذَلِكَ يَقُولُ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْإِنْصَاتُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ لِاسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يَكُونُ الْقَارِئُ مُنْصِتًا وَلَا سَاكِتًا بِحَالٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّكُوتَ ضِدُّ الْكَلَامِ، وَهُوَ تَسْكِينُ الْآلَةِ عَنْ التَّحْرِيكِ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مَنْظُومَةٌ ضَرْبًا مِنْ النِّظَامِ، فَهُمَا يَتَضَادَّانِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بَآلَةِ اللِّسَانِ وَتَحْرِيكِ الشَّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَاكِتٌ مُتَكَلِّمٌ كَمَا لَا يُقَالُ سَاكِنٌ مُتَحَرِّكٌ؟ فَمَنْ سَكَتَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ وَمَنْ تَكَلَّمَ فَهُوَ غَيْرُ سَاكِتٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يُسَمَّى مُخْفِي الْقِرَاءَةِ سَاكِتًا إذَا لَمْ تَكُنْ قِرَاءَتُهُ مَسْمُوعَةً; كَمَا رَوَى عُمَارَةُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَبَّرَ سَكَتَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ فَقُلْت لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَرَأَيْت سَكَتَاتِك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخْبِرْنِي مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَسَمَّاهُ سَاكِتًا وَهُوَ يَدْعُو خَفِيًّا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا هُوَ إخْفَاءُ الْقَوْلِ وَلَيْسَ يَتْرُكُهُ رَأْسًا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا سَمَّيْنَاهُ سَاكِتًا مَجَازًا; لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُهُ يَظُنُّهُ سَاكِتًا، فَلَمَّا أَشْبَهَ السَّاكِتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ لِقُرْبِ حَالِهِ مِنْ حَالِ السَّاكِتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] تَشْبِيهًا بِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَكَمَا قَالَ فِي الْأَصْنَامِ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف:198] تَشْبِيهًا لَهُمْ بِمَنْ يَنْظُرُ وَلَيْسَ هُوَ بِنَاظِرٍ فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ فِي حَالِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا يَقْرَأُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكْتَتَانِ فِي صَلَاتِهِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْأُخْرَى بَعْدَهَا"، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَكْتَةٌ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِيَقْرَأَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ثُمَّ يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ سَكَتَ سَكْتَةً أُخْرَى لِيَقْرَأَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ السَّكْتَتَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يُدْرَكْ عَلَى مَا ذَكَرْت; لِأَنَّ السَّكْتَةَ الْأُولَى إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالثَّانِيَةُ إنْ ثَبَتَتْ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهَا بِمِقْدَارِ مَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هِيَ فَصْلٌ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ لِئَلَّا يَظُنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ الْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِهَا، وَلَوْ كَانَتْ السَّكْتَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِمِقْدَارِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا وَنَقْلُهُ شَائِعًا ظَاهِرًا، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ; إذْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَدَاءِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمَأْمُومِ ثَبَتَ أَنَّهُمَا غَيْرُ ثَابِتَتَيْنِ. وَأَيْضًا

فَإِنَّ سَبِيلَ الْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ الْإِمَامَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ تَابِعًا لِلْمَأْمُومِ، فَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ يَسْكُتُ الْإِمَامُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَقْرَأَ الْمَأْمُومُ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" فَأَمَرَ الْمَأْمُومَ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ، وَهُوَ يَأْمُرُ الْإِمَامَ بِالْإِنْصَاتِ لِلْمَأْمُومِ وَيَجْعَلُهُ تَابِعًا لَهُ، وَذَلِكَ خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَامَ فِي الثِّنْتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ سَاهِيًا لَكَانَ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ قَامَ الْمَأْمُومُ سَاهِيًا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِمَامِ اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ سَهَا الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْجُدْ هُوَ وَلَا إمَامُهُ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ وَلَمْ يَسْهُ الْمَأْمُومُ لَكَانَ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعُهُ؟ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مَأْمُورًا بِالْقِيَامِ سَاكِتًا لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ آثَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهَا حَدِيثُ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي غَلَّابٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا" وَحَدِيثُ ابْنِ عِجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ يُوجِبَانِ الْإِنْصَاتَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَقَوْلُهُ: "إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" إخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّ مِنْ الِائْتِمَامِ بِالْإِمَامِ الْإِنْصَاتُ لِقِرَاءَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْصِتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْإِنْصَاتِ لَهُ لَكَانَ مَأْمُورًا بِالِائْتِمَامِ بِهِ، فَيَصِيرُ الْإِمَامُ مَأْمُومًا وَالْمَأْمُومُ إمَامًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ. وَمِنْهَا حَدِيثُ جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ" رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "إذَا كَانَ لَك إمَامٌ فَقِرَاءَتُهُ لَك قِرَاءَةٌ". وَمِنْهَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ" رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَرْطَاةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ. وَمِنْهَا حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ وَفِي بَعْضِهَا: لَمْ يُصَلِّ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ" فَأَخْبَرَ أَنَّ تَرْكَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقْرَأَ لَكَانَ تَرْكُهَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا كَالْمُنْفَرِدِ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: "هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ خَلْفَهُ أَخْفَى قِرَاءَتَهُ وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَهَرَ بِهَا لَمَا قَالَ: "هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ" ثُمَّ قَالَ: "إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ"، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا وَاَلَّتِي تُخَافِتُ لِإِخْبَارِهِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِمُنَازَعَةِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ" فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا يُسَرُّ فِيهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاوِي وَتَأْوِيلٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ" وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ; إذْ لَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَهُمَا. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ آنِفًا فِي الصَّلَاةِ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ"، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَهُ مُنْذُ قَالَ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ تَرْكِهِمْ الْقِرَاءَةَ خَلْفَهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ; فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ أَوْ يُسِرُّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَائِعًا لَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى الصَّحَابَةِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَكَانَ مِنْ الشَّارِعِ تَوْقِيفٌ لِلْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ وَلَعَرَفُوهُ كَمَا عَرَفُوا الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، إذْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ كَهِيَ إلَى الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ، فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ إنْكَارُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ. فَمِمَّنْ نَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَنَسٌ. رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَخْطَأَ الْفِطْرَةَ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ تُرَابًا". وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ". وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يَكْفِيك قِرَاءَةُ الْإِمَامِ. قَالَ أَنَسٌ: الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ التَّسْبِيحُ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ. وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ: مَا سَمِعْنَا بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى كَانَ الْمُخْتَارُ الْكَذَّابُ فَاتَّهَمُوهُ فَقَرَءُوا خَلْفَهُ. وَقَالَ سَعْدٌ: وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي فِيهِ جَمْرَةٌ.

وَاحْتَجَّ مُوجِبُو الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ قَالَ: صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلاة الْفَجْرِ فَتَعَامَى عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "أَتَقْرَءُونَ خَلْفِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" وَهَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَاهُ صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُبَادَةَ، وَنَافِعُ بْنُ مَحْمُودٍ هَذَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ مَوْقُوفًا عَلَى عُبَادَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَيُّوبٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "أَتَقْرَءُونَ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ؟ فَسَكَتُوا، فَسَأَلَهُمْ ثَلَاثًا فَقَالُوا: إنَّا لَنَفْعَلُ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا" فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِثْنَاءَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا أَصْلُ حَدِيثِ عُبَادَةَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ". فَلَمَّا اضْطَرَبَ حَدِيثُ عُبَادَةَ هَذَا الِاضْطِرَابِ فِي السَّنَدِ وَالرَّفْعِ وَالْمُعَارَضَةِ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ الصِّحَاحِ النَّافِيَةِ لِلْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ" فَلَيْسَ فِيهِ إيجَابُ قِرَاءَتِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ; لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ بِأُمِّ الْقُرْآنِ; إذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "من صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ فَقُلْت: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا خَلْفَ الْإِمَامِ؟ فَغَمَزَ ذِرَاعِي وَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِك". فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهَا خِدَاجٌ وَالْخِدَاجُ إنَّمَا هُوَ النُّقْصَانُ، وَتَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِوُقُوعِ اسْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي الْمُنْفَرِدِ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي نَفْيِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنَّهُ لَمْ يَعْزُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْبَارَنَا أَوْلَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ، وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَانَ مَا اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي حَالٍ أَوْلَى مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: تُسْتَعْمَلُ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا، فَيَكُونُ أَخْبَارُ النَّهْيِ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَأَخْبَارُ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَبْطُلُ بِمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا" وَقَوْلُهُ: "مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" وَالْقُرْآنُ لَا يَخْتَصُّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ دون

غَيْرِهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمِيعَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ" فَنَصَّ عَلَى تَرْكِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ تَأْوِيلَك وَقَوْلَك بِاسْتِعْمَالِ الْأَخْبَارِ بَلْ أَنْتَ رَادُّهَا غَيْرُ مُسْتَعْمِلٍ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا اسْتَدْلَلْت بِهِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ لَا دَلِيلَ فِيهِ; لِأَنَّهُمْ قَدْ خَالَفَهُمْ نُظَرَاؤُهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ جَوَابٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَسَمِعْت رَجُلًا قَالَ لَهُ اقْرَأْ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْت: وَإِنْ قَرَأَ؟ قَالَ: وَإِنْ قَرَأَ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْفَيْضِ عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ مُعَاذٌ: إذَا كُنْت تَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَاقْرَأْ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَنَحْوِهَا، وَإِذَا لَمْ تَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ فَفِي نَفْسِك. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ: أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَدَعْ أَنْ تَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ جَهَرَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَجْهَرْ. فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَرُوِيَ عَنْهُمْ تَرْكُهَا فَكَيْفَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَمُعَاذٍ فَمَجْهُولُ السَّنَدِ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ إنَّمَا هُوَ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمُخَالِفُنَا لَا يَقْبَلُ مِثْلَهُ لِإِرْسَالِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا رَوَاهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو حَمْزَةَ النَّهْيَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ احْتِجَاجُنَا مِنْ جِهَةِ قَوْلِ الصَّحَابَةِ فَحَسْبُ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ الْفُرُوضِ الَّتِي عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَلِّيهِمْ مِنْ تَوْقِيفٍ لَهُمْ عَلَى إيجَابِهِ، فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ قَائِلِينَ بِالنَّهْيِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَلَا يَصِيرُ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِإِيجَابِهِ قَادِحًا فِيمَا ذَكَرْنَا، مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ تَوْقِيفٌ عَلَيْهِ لِلْكَافَّةِ، فَذَهَبَ مِنْهُمْ ذَاهِبُونَ إلَى إيجَابِ قِرَاءَتِهَا بِتَأْوِيلٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ طَرِيقَةُ تَوْقِيفِ الْكَافَّةِ وَنَقْلُ الْأُمَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ يُتَابِعُهُ مَعَ تَرْكِ الْقِرَاءَةِ، فَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا جَازَ تَرْكُهَا بِحَالٍ، كَالطَّهَارَةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَهُوَ خَوْفُ فَوَاتِ الرَّكْعَةِ. قِيلَ لَهُ خَوْفُ فَوَاتِ الرَّكْعَةِ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَيْسَ بِفَرْضٍ; لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا أَجْزَأْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضِيلَةٌ، فَإِذًا خَوْفُ فَوَاتِهَا لَيْسَ بِضَرُورَةٍ فِي تَرْكِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يَكُنْ خَوْفُ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ مُبِيحًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي السُّجُودِ لَمْ تَكُنْ لَهُ ضَرُورَةٌ فِي جَوَازِ سُقُوطِ الرُّكُوعِ، فَلَمَّا جَازَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ دُونَ سَائِرِ الْفُرُوضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا لَا يَقْرَأُ السُّورَةَ مَعَ

الْفَاتِحَةِ، فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فَرْضًا لَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا قِرَاءَةُ السُّورَةِ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ; لِأَنَّ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي الْقِرَاءَةُ فِيهَا مَفْرُوضَةٌ فَإِنَّ مِنْ سُنَنِهَا قِرَاءَةَ السُّورَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَجَهَرَ بِهَا كَالْإِمَامِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ; إذْ كَانَتْ صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ لَوْ كَانَتْ فَرْضًا عَلَيْهِ كَهِيَ عَلَى الْإِمَامِ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الذِّكْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفِكْرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَآيَاتِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ; إذْ بِهِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ سِوَاهُ، وَبِهِ يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ. وَالذِّكْرُ الْآخَرُ: الْقَوْلُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الذِّكْرُ دُعَاءً وَقَدْ يَكُونُ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ قِرَاءَةً لِلْقُرْآنِ وَيَكُونُ دُعَاءً لِلنَّاسِ إلَى اللَّهِ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الذِّكْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْفِكْرِ وَالْقَوْلِ فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وقَوْله تعالى: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} فِيهِ نَصَّ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الذِّكْرُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الدُّعَاءَ، فَيَكُونَ الْأَفْضَلُ فِي الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءَ، عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وَإِنْ أَرَادَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ كَانَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] وَقِيلَ: إنَّمَا كَانَ إخْفَاءُ الدُّعَاءِ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ وَأَقْرَبُ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَأَجْدَرُ بِالِاسْتِجَابَةِ; إذْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُسْتَمِعِ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . وَقِيلَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى عَامٌّ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] . وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْآصَالُ الْعَشِيَّاتُ". آخِرُ سُورَةِ الأعراف

سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا يَصِلُ إلَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَتَاعٍ، فَذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضُمُّهُ حَيْثُ يَشَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْأَنْفَالَ الْخُمُسُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ السَّرَايَا الَّتِي تَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْجَيْشِ الْأَعْظَمِ. وَالنَّفَلُ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ وَهِيَ التَّطَوُّعُ; وَهُوَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ: لَكُمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ الرُّبُعُ حِيزَ مِنْ الْجَمِيعِ قَبْلَ الْخُمُسِ، أَوْ يَقُولَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّضْرِيَةِ عَلَى الْعَدُوِّ; أَوْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَأَمَّا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ نَصِيبِ الْجَيْشِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ الْخُمُسِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أَصَبْت يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفًا، فَأَتَيْت بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ: "ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أخذت" فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} . قَالَ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "اذْهَبْ وَخُذْ سَيْفَك" وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قَالَ: "الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ الَّتِي كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [لأنفال:41] الْآيَةَ; قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي بِذَلك سُلَيْمَانُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرهمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْفَالًا مُخْتَلِفَةً وَقَالَ: "مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ" فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ مَا قُلْنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ حَمَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، قَالَ: فَلَمَّا اخْتَلَفْنَا وَسَاءَتْ أَخْلَاقُنَا انْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ فَقَسَمَهُ عَنْ الْخُمُسِ،

وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوَى وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِيَرُدَّ قَوِيُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ تَحِلَّ الْغَنِيمَةُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا" فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] قَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ الْقِتَالِ: "مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا" وَيُقَالُ إنَّ هَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِكُمْ" وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} نَزَلَتْ بَعْدَ حِيَازَةِ غَنَائِمِ بَدْرٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ رواية مَنْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَهُمْ مَا أَصَابُوا قَبْلَ الْقِتَالِ غَلَطٌ; إذْ كَانَتْ إبَاحَتُهَا إنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى غَلَطِهِ أَنَّهُ قَالَ: "من أخذ شيئا فهو له ومن قتل قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا ثُمَّ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفُ الْوَعْدِ وَلَا اسْتِرْجَاعُ مَا جَعَلَهُ لِإِنْسَانٍ وَأَخْذُهُ مِنْهُ وَإِعْطَاؤُهُ غَيْرَهُ; وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلٌ فِي الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الْقِتَالِ تَنَازَعُوا فِي الْغَنَائِمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} فَجَعَلَ أَمْرَهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَجْعَلَهَا لِمَنْ شَاءَ، فَيَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، فَجَعَلَ الْخُمُسَ لِأَهْلِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَبَقِيَ حُكْمُ النَّفْلِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِأَنْ يَقُولَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ" وَمِنْ الْخُمُسِ وَمَا شَذَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ نَفْلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَشَاءُ; وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ فِي النَّفْلِ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ غَنَائِمِ بَدْرٍ إنَّمَا كَانَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَتَهَا لَا عَلَى قِسْمَتِهَا الْآنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْهَا الْخُمُسَ، وَلَوْ كَانَتْ مَقْسُومَةً قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا الْحُكْمُ لِعَزْلِ الْخُمُسِ لِأَهْلِهِ وَلِفَضْلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ; وَقَدْ كَانَ فِي الْجَيْشِ فَرَسَانِ أَحَدُهُمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ لِلْمِقْدَادِ قَسَمَا الْجَمِيعَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلِمْنَا أَنَّ قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} قَدْ اقْتَضَى تَفْوِيضَ أَمْرِهَا إلَيْهِ لَيُعْطِيَهَا مَنْ يَرَى، ثُمَّ نُسِخَ النَّفَلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ قَبْلَ إحْرَازِهَا عَلَى جِهَةِ تَحْرِيضِ الْجَيْشِ وَالتَّضْرِيَةِ عَلَى الْعَدُوِّ وَمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقَسْمَ وَمِنْ الْخُمُسِ عَلَى مَا شَاءَ

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَلَطَ الرِّوَايَةِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ" وَأَنَّهُ نَفَلَ الْقَاتِلَ وَغَيْرَهُ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جِئْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي الْيَوْمَ مِنْ الْعَدُوِّ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ فَقَالَ: "إنَّ هَذَا السَّيْفَ لَيْسَ لِي وَلَا لَك"، فَذَهَبْت وَأَنَا أَقُولُ يُعْطَاهُ الْيَوْمَ مَنْ لَمْ يُبْلِ بَلَائِي; فَبَيْنَا أَنَا; إذْ جَاءَنِي الرَّسُولُ فَقَالَ: أَجِبْ فَظَنَنْت أَنَّهُ نَزَلَ فِي شَيْءٍ بِكَلَامِي، فَجِئْت فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّك سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا لَك وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُ لِي فَهُوَ لَك" ثُمَّ قَرَأَ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِسَعْدٍ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ آثَرَهُ بِهِ} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ رِوَايَةِ مَنْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَقَالَ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ضُرُوبٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، أَحَدُهَا: إخْبَارُهُ إيَّاهُمْ بِأَنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَهُمْ، وَهِيَ عِيرُ قُرَيْشٍ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ وَجَيْشُهُمْ الَّذِينَ خَرَجُوا لِحِمَايَتِهَا، فَكَانَ وَعْدُهُ عَلَى مَا وَعَدَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} يَعْنِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوَدُّونَ الظَّفَرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَقِلَّةِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ قُرَيْشًا تَخْرُجُ لِقِتَالِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} وَهُوَ إنْجَازُ مَوْعِدِهِ لَهُمْ فِي قَطْعِ دَابِرِ الْكَافِرِينَ وَقَتْلِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:9] فَوُجِدَ مُخْبِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَكَانَ مِنْ طُمَأْنِينَةِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ النُّعَاسَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطِيرُ فِيهِ النُّعَاسُ بِإِظْلَالِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ بِالْعِدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَهُمْ أَضْعَافُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} يَعْنِي مِنْ الْجَنَابَةِ; لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ احْتَلَمَ وَهُوَ رِجْزُ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مِنْ وَسْوَسَتِهِ في المنام {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} بِمَا صَارَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْأَمَنَةِ وَالثِّقَةِ بموعود الله {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} يَحْتَمِلُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الْبَصِيرَةِ وَالْأَمْنِ وَالثِّقَةِ الْمُوجِبَةِ لِثَبَاتِ الْأَقْدَامِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَهُمْ كَانَ رَمْلًا دَهْسًا

لَا تَثْبُت فِيهِ الْأَقْدَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَطَرِ مَا لَبَّدَ الرَّمْلَ وَثَبَّتَ عَلَيْهِ الْأَقْدَامَ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} أي أنصركم {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إلْقَاؤُهُمْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَاطِرِ وَالتَّنْبِيهِ أَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِثَبَاتِهِمْ وَتَحَزُّبِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّثْبِيتُ إخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَيُخْبِرُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الثَّبَاتِ ثُمَّ قَالَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ وَرَمَى بِهِ وُجُوهَهُمْ فَانْهَزَمُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فِي عَيْنَيْهِ. وَعَنَى بِذَلك أَنَّ اللَّهَ بَلَغَ بِذَلك التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَعُيُونَهُمْ; إذْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ أَنْ يُبْلِغَ ذَلِكَ التُّرَابُ عُيُونَهُمْ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَمِنْهَا وُجُودُ مُخْبِرَاتِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّفَقَ مِثْلُهَا تَخَرُّصًا وَتَخْمِينًا. وَمِنْهَا مَا أَنْزَلَ مِنْ الْمَطَرِ الَّذِي لَبَّدَ الرَّمْلَ حَتَّى ثَبَتَتْ أَقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ وَصَارُوا وَبَالًا عَلَى عَدُوِّهِمْ; لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ أَنَّ أَرْضَهُمْ صَارَتْ وَحْلًا حَتَّى مَنَعَهُمْ مِنْ الْمَسِيرِ. وَمِنْهَا الطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي صَارَتْ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ كَرَاهَتِهِمْ لِلِقَاءِ الْجَيْشِ. وَمِنْهَا النُّعَاسُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالِ الَّتِي يَطِيرُ فِيهَا النُّعَاسُ. وَمِنْهَا رَمْيُهُ لِلتُّرَابِ وَهَزِيمَةُ الْكُفَّارِ بِهِ.

الْكَلَامُ فِي الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} رَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: "لِأَنَّهُمْ لَوْ انْحَازُوا يَوْمَئِذٍ لَانْحَازُوا إلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمٌ غَيْرُهُمْ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو نَضْرَةَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَكُونُ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّهَا الْعِيرُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ خَفَّ مَعَهُ. فَقَوْلُ أَبِي نَضْرَةَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ غَيْرَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَوْ انْحَازُوا انْحَازُوا إلَى الْمُشْرِكِينَ غَلَطٌ لِمَا وَصَفْنَا. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ الِانْحِيَازُ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ الِانْحِيَازُ جَائِزًا لَهُمْ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَخْذُلُوا نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَيُسْلِمُوهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِهِ وَعَصَمَهُ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

النَّاسِ} [المائدة:67] وَكَانَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ قَلَّتْ أَعْدَاؤُهُمْ أَوْ كَثُرُوا. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِئَةَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَمَنْ كَانَ بِمُنْحَازٍ عَنْ الْقِتَالِ فَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ الِانْحِيَازُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ انْحِيَازُهُ إلَى فِئَةٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِئَتَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ غَيْرَهُ. {قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْت فِي جَيْشٍ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً وَاحِدَةً، وَرَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَنَا فِئَتُكُمْ" فَمَنْ كَانَ بِالْبُعْدِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْحَازَ عَنْ الْكُفَّارِ فَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ الِانْحِيَازُ إلَى فِئَةٍ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ فِي الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِئَةٌ غَيْرَهُ يَنْحَازُونَ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ الْفِرَارُ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قَالَ: {شَدَدْت عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ} ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فَرُّوا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَرُّوا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاقَبَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] فَهَذَا كَانَ حُكْمُهُمْ; إذْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ عَدَدُ الْعَدُوِّ أَوْ كَثُرَ; إذْ لَمْ يَحُدَّ اللَّهُ فِيهِ شَيْئًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضِرًا مَعَهُمْ، فَكَانَ عَلَى الْعِشْرِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْمِائَتَيْنِ وَلَا يَهْرُبُوا عَنْهُمْ، فَإِذَا كَانَ عَدَدُ الْعَدُوِّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَبَاحَ لَهُمْ التَّحَيُّزَ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ نُصْرَةٌ لِمُعَاوَدَةِ الْقِتَالِ. ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال:66] الْآيَةَ، فَكَتَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ فَرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ فَقَدْ فَرَّ وَإِنَّ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ قَالَ الشَّيْخُ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ فَقَدْ فَرَّ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ إيجَابُ فَرْضِ الْقِتَالِ عَلَى الْوَاحِدِ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ، فَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى اثْنَيْنِ فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ لِلْوَاحِدِ التَّحَيُّزُ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نُصْرَةٌ، فَأَمَّا إنَّ أَرَادَ الْفِرَارَ لِيَلْحَقَ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا نُصْرَةَ مَعَهُمْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ" وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ اسْتَقْتَلَ يَوْمَ

الْجَيْشِ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يَنْهَزِمْ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ لَوْ انْحَازَ إلَيَّ لَكُنْت لَهُ فِئَةً فَلَمَّا رَجَعَ إلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: "أَنَا فِئَةٌ لَكُمْ"، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا ثَابِتٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ عَدَدُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْهَزِمُوا عَنْ مِثْلَيْهِمْ إلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرُوا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى غَيْرِهِ مُكَايِدِينَ لِعَدُوِّهِمْ مِنْ نَحْوِ خُرُوجٍ مِنْ مَضِيقٍ إلَى فُسْحَةٍ أَوْ مِنْ سَعَةٍ إلَى مَضِيقٍ أَوْ يَكْمُنُوا لِعَدُوِّهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِيهِ انْصِرَافٌ عَنْ الْحَرْبِ، أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَعَهُمْ. فَإِذَا بَلَغُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ أَنَّ الْجَيْشَ إذَا بَلَغُوا كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُؤْتَى اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ وَلَنْ يُغْلَبَ" وَفِي بَعْضِهَا: "مَا غُلِبَ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: أَيَسَعُنَا التَّخَلُّفُ عَنْ قِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ وَحَكَمَ بِغَيْرِهَا؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: إنْ كَانَ مَعَك اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِثْلَك لَمْ يَسَعْك التَّخَلُّفُ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّخَلُّفِ; وَكَانَ السَّائِلُ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَهُوَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْمُشْرِكِينَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَضْعَافَهُمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ" وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَمْعَ كَلِمَتِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} قِيلَ فِي الْفِتْنَةِ وُجُوهٌ: فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] . وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْفِتْنَةُ الْبَلِيَّةُ". وَقِيلَ: هِيَ الْعَذَابُ. وَقِيلَ: هِيَ الْفَرَحُ الَّذِي يَرْكَبُ النَّاسَ فِيهِ بِالظُّلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِالْعَذَابِ. وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إذَا كَثُرَ الْخَبَثُ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُ فَلَمْ يُنْكِرُوا إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ". فَحَذَّرَنَا اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ مِنْ الْعَاصِينَ وَمَنْ لَمْ يَعْصِ إذَا لَمْ يُنْكِرْهُ. وَقِيلَ إنَّمَا يَعُمُّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفَرَحَ وَالْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَا دَخَلَ ضَرَرُهُمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يَعْنِي مَا كَانَ لِيُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ الِاسْتِيصَالِ وَأَنْتَ فِيهِمْ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَلَا يُعَذَّبُونَ وَهُوَ فِيهِمْ حَتَّى يَسْتَحِقُّوا سَلْبَ النِّعْمَةِ فَيَعُمَّهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ خُرُوجِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ لَمَّا اسْتَحَقُّوا الِاسْتِيصَالَ أَمَرَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِهِمْ نَحْوَ لُوطٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؟ وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ بَقِيَتْ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "أَنْ لَوْ اسْتَغْفَرُوا لَمْ يُعَذِّبْهُمْ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:34] وَهَذَا الْعَذَابُ غَيْرُ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى; لِأَنَّ هَذَا عَذَابُ الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلَ عَذَابُ الِاسْتِيصَالِ فِي الدُّنْيَا. وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَ الْحَسَنُ إنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ أَوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ; وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ إلَّا الْمُتَّقُونَ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْقِيَامِ بِعِمَارَتِهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قِيلَ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطِيَّةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ التَّصْدِيَةَ صَدُّهُمْ عَنْ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَسُمِّيَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ صَلَاةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّفِيرَ وَالتَّصْفِيقَ مَقَامَ الدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: "حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: "حَتَّى لَا يُفْتَتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ". وَالْفِتْنَةُ هَهُنَا جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْكُفْرَ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْبَغْيَ وَالْفَسَادَ; لِأَنَّ الْكُفْرَ إنَّمَا سُمِّيَ فِتْنَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ، فَتَنْتَظِمُ الْآيَةُ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ. وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْكُفْرِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ، فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ. وَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ لَا يُقَرُّ سَائِرُ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِهِمْ بِالذِّمَّةِ إلَّا هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِهَا بالجزية.

الْكَلَامُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَقَالَ فِي آيَةٍ

أخرى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَفِّلُ مَا أَحْرَزُوهُ بِالْقِتَالِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا مَنْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ; وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ السَّيْفِ الَّذِي اسْتَوْهَبَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا السَّيْفُ لَيْسَ لِي وَلَا لَك"، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} دَعَاهُ وَقَالَ "إنَّك سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا لَك وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لِي وَجَعَلْته لَك"، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صالح قال: حدثنا أبو الأحوص عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَعَجَّلَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَ النَّبِيُّ إذَا غَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} مِنْ الْفِدَاءِ، ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمَ} . فَأَخْبَرَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْغَنَائِمَ إنَّمَا أُحِلَّتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَهَذَا مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْكُولَةً إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ أُبِيحَتْ بِهَا الْغَنَائِمُ عَلَى جِهَةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إعْطَائِهَا مَنْ رَأَى، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وَأَنَّ فِدَاءَ الْأُسَارَى كَانَ بَعْدَ نُزُولِ قَوْله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَإِنَّمَا كَانَ النَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ الْأَسْرَى بَدِيًّا، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُحِلَّتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جُعِلَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْغَنَائِمُ مُبَاحَةً وَفِدَاءُ الْأَسْرَى مَحْظُورًا، وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ لَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَيْشَ لَمْ يَكُونُوا اسْتَحَقُّوا قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ إلَّا بِجَعْلِ النَّبِيِّ ذَلِكَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَمِّسْ غَنَائِمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ سِهَامَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ إلَى أَنْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، فَجَعَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ وَالْخُمُسَ لِلْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَنَسَخَ بِهِ مَا كَانَ

لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَنْفَالِ إلَّا مَا كَانَ شَرَطَهُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْتَظِمْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} إذْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ غَنِيمَةً لِغَيْرِ آخِذِهِ أَوْ قَاتِلِهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي النَّفَلِ بَعْدَ إحراز الغنيمة.

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "لَا نَفَلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ إنَّمَا النَّفَلُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ} . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ". قَالَ الشَّيْخُ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ النَّفَلِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَقَدْ رَوَى حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ فِي بَدْأَتِهِ الرُّبُعَ وَفِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ. فَأَمَّا التَّنْفِيلُ فِي الْبَدْأَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثُ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُصِيبُ السَّرِيَّةَ فِي الرَّجْعَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَا أَصَبْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَلَكُمْ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَفْظِ عُمُومٍ فِي سَائِرِ الْغَنَائِمِ وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ لِلسَّرِيَّةِ فِي الرَّجْعَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ فِي الرَّجْعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا جَعَلَهُ فِي الْبَدْأَةِ; لِأَنَّ فِي الرَّجْعَةِ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِ الْغَنَائِمِ وَإِحْرَازِهَا وَيَكُونُ مِنْ حَوَالَيْهِمْ الْكُفَّارُ مُتَأَهِّبِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ لِانْتِشَارِ الْخَبَرِ بِوُقُوعِ الْجَيْشِ إلَى أَرْضِهِمْ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: ذُكِرَ فِي حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْت; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ الْخُمُسُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَهْلِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى خُمُسٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَلَمَّا احْتَمَلَ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إذْ كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ يَقْتَضِي إيجَابَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ اقْتِضَاءَهُ إيجَابَ الْخُمُسِ لِأَهْلِهِ الْمَذْكُورِينَ، فَمَتَى أُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْجَمِيعِ فِيهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ شيء منها

لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ مُقْتَضَى الْآيَةِ إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ تَخْصِيصُ الْآيَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا"، فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سُهْمَانَ الْجَيْشِ وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّفَلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ وَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ السُّهْمَانِ وَذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْت عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ إلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ: "وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ"، فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَائِزَ التَّصَرُّفِ إلَّا فِي الْخُمُسِ مِنْ الْغَنَائِمِ وَأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أُحْرِزَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ لِأَهْلِهَا وَلَا يَجُوزُ التَّنْفِيلُ مِنْهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا يَتَمَانَعُهُ النَّاسُ مِنْ نَحْوِ النَّوَاةِ وَالتَّبِنَةِ وَالْخِرَقِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُنَفِّلَهُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ وَقَالَ: "لَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا" يَعْنِي فِي أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ; إذْ لَمْ تَكُنْ لِتِلْكَ الْوَبَرَةِ قِيمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ "لَا يَحِلُّ لِي مِثْلُ هَذَا" قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ: مِثْلُ هَذَا فِيمَا يَتَمَانَعُهُ النَّاسُ لَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ ذَكَرَ قِصَّةً قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْمَالِ؟ قَالَ: "خُمُسُهُ لِلَّهِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْجَيْشِ" قَالَ: قُلْت: هَلْ أَحَقُّ أَحَدٍ بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: "لَوْ انْتَزَعْت سَهْمَك مِنْ جَنْبِك لَمْ تَكُنْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيك الْمُسْلِمِ" وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عَنْ وَهْبٍ أَبِي خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَبِيبَةَ عَنْ أَبِيهَا الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً فَقَالَ: "مَا لِي فِيكُمْ هَذِهِ مَا لِي فِيهِ إلَّا الْخُمُسُ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده، ذَكَرَ غَنَائِمَ هَوَازِنَ وَقَالَ: ثُمَّ دَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا" وَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ: "إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ"، فَقَامَ رَجُلٌ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: أَخَذْت هَذِهِ لِأُصْلِحَ بِهَا بُرْدَةً، فَقَالَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَك" فَقَالَ: أَمَّا إذْ بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي فِيهَا، وَنَبَذَهَا فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مُوَافِقَةٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا يُخَالِفُهُ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْن مَسْلَمَةَ مَعَ احْتِمَالِ حَدِيثِهِ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَجَمْعُنَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَقٌّ لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ فِي غَزَاةٍ فَأَصَابُوا سَبْيًا، فَأَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَ أَنَسًا مِنْ السَّبْيِ قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ، فَقَالَ أَنَسٌ: لَا، وَلَكِنْ اقْسِمْ ثُمَّ أَعْطِنِي مِنْ الْخُمُسِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: لَا، إلَّا مِنْ جَمِيعِ الْغَنَائِمِ فَأَبَى أَنَسٌ أَنْ يَقْبَلَ وَأَبَى عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْخُمُسِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا نَفَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قَالَ الشَّيْخُ أَيَّدَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَتْ لَهُ الْأَنْفَالُ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْقِسْمَةِ وَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِصِحَّةِ مَذْهَبِنَا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ نَفَلٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَخَصَّصْنَاهُ وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنْ الْخُمُسِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ صَنَادِيدَ الْعَرَبِ عَطَايَا نَحْوَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ ذَلِكَ مِنْ سَهْمِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَسَهْمِهِ مِنْ الْخُمُسِ; إذْ لَمْ يَكُنْ يَتَّسِعُ لِهَذِهِ الْعَطَايَا لِأَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيُعْطِيَهُمْ مِنْ بَقِيَّةِ سِهَامِ الْخُمُسِ سِوَى سَهْمِهِ لِأَنَّهَا لِلْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ فُقَرَاءَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ فِيهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ قِيلَ لَهُ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانُوا مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَسَبِيلُ الْخُمُسِ سَبِيلُ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى الْفُقَرَاءِ كَالصَّدَقَاتِ الْمَصْرُوفَةِ إلَيْهِمْ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أعطاهم من جملة الخمس كما يعطيهم من الصدقات.

مطلب: في سلب القتيل وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "السَّلَبُ مِنْ غَنِيمَةِ الْجَيْشِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ

وَالشَّافِعِيُّ: "السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْأَمِيرُ" قَالَ الشَّيْخُ أَيَّدَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يَقْتَضِي وُجُوبَ الْغَنِيمَةِ لِجَمَاعَةِ الْغَانِمِينَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاخْتِصَاصُ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ غَنِيمَةٌ قِيلَ لَهُ: {غَنِمْتُمْ} هِيَ الَّتِي حَازُوهَا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَتَوَازُرِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ وَأَخْذِ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا كَانَ قَتْلُهُ لِهَذَا الْقَتِيلِ وَأَخْذُهُ سَلَبَهُ بِتَضَافُرِ الْجَمَاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَنِيمَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ سَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ لَكَانَ غَنِيمَةً; إذْ لَمْ يَصِلْ إلَى أَخْذِهِ إلَّا بِقُوَّتِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ وَكَانَ قَائِمًا فِي الصَّفِّ رِدْءًا لَهُمْ مُسْتَحِقُّ الْغَنِيمَةِ وَيَصِيرُ غَانِمًا لِأَنَّ بِظَهْرِهِ وَمُعَاضَدَتِهِ حَصَلَتْ وَأُخِذَتْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّلَبُ غَنِيمَةً فَيَكُونَ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وَالسَّلَبُ مِمَّا غَنِمَهُ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ لَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا أحمد بن خالد الجزوري: حدثنا محمد بن يَحْيَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: نَزَلْنَا دَابِقَ وَعَلَيْنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَبَلَغَ حَبِيبَ بْنَ مُسْلِمٍ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُصَ خَرَجَ يُرِيدُ طَرِيقَ أَذْرَبِيجَانَ مَعَهُ زَبَرْجَدُ وَيَاقُوتٌ وَلُؤْلُؤٌ وَدِيبَاجٌ، فَخَرَجَ فِي جَبَلٍ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الدَّرْبِ وَجَاءَ بِمَا كَانَ مَعَهُ إلَى عُبَيْدَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يُخَمِّسَهُ فَقَالَ حَبِيبٌ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ لَا تَحْرِمْنِي رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ فَإِنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَهْلًا يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ" فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ" يَقْتَضِي حَظْرَ مَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُ إمَامِهِ، فَمَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُ إمَامِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ السَّلَبُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ مُعَاذٌ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ السَّلَبِ. فَإِنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ وَطَلْحَةُ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ". وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَاتِلُ السَّلَبَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَسَّرَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: "إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ" أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ طَابَتْ لَلْقَاتِل بِذَلِكَ وَهُوَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ. قِيلَ لَهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ" الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَمِيرُهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ، وَكَذَلِكَ عَقَلَ مُعَاذٌ وَهُوَ رَاوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ لَقَالَ إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسِي، فَهَذَا الَّذِي ذكره هذا

السَّائِلُ تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي أَنَّ السَّلَبَ لَلْقَاتِل فَإِنَّمَا ذَلِكَ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي حَضَّ فِيهَا لِلْقِتَالِ، وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ تَحْرِيضًا لَهُمْ وَتَضْرِيَةً عَلَى الْعَدُوِّ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ"، وَكَمَا حَدَّثَنَا أحمد بن خالد الجزوري: حدثنا محمد بن يَحْيَى الدَّهَّانِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ حُجْرَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ وَهِيَ ابْنَةُ الْمِلْقَامِ بْنِ التَّلِبِّ عَنْ أَبِيهَا عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَتَى بِمُوَلٍّ فَلَهُ سَلَبُهُ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ خَاصَّةً; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِأَخْذِهِ مُوَلِّيًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ". وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَاتِلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ الْأَمِيرُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلَا فَلَهُ سَلَبُهُ، مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْت مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا، فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَاِتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقِ، وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ وَخَرَّ وَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ السَّلَبَ; قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْته فَقُلْت: يَا خَالِدُ أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى وَلَكِنْ اسْتَكْثَرْته، فَقُلْت: لَتَرُدَّنَّهُ إلَيْهِ أَوْ لِأُعَرِّفَنكهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ; قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا خَالِدُ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْثَرْته، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا خَالِدُ رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْت مِنْهُ! " قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْت: "دُونَك يَا خَالِدُ أَلَمْ أَفِ لَك"؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " فَأَخْبَرْته، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو أُمَرَائِي لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدِرِهِ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: سَأَلْت ثَوْرًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ نَحْوَهُ. فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ: "يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَاتِلِ; لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّهُ لَمَا جَازَ أَنْ

يَمْنَعَهُ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَدِيًّا ادْفَعْهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى يُوسُفُ الْمَاجِشُونُ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ قَتَلَا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ" وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو. فَلَمَّا قَضَى بِهِ لِأَحَدِهِمَا مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّاهُ بِالْقَتْلِ، أَلَا تَرَى أنه لو قال من قتل قتيلا فله سَلَبُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلَانِ اسْتَحَقَّا السَّلَبَ نِصْفَيْنِ؟ فَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مُسْتَحِقًّا لِلسَّلَبِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ أَنْ لَا يَكُونَ سَلَبُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ بَلْ يَكُونُ لُقَطَةً لِأَنَّ لَهُ مُسْتَحِقًّا بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ سَلَبَ مَنْ لَمْ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فِي الْإِدْبَارِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْإِقْبَالِ"، فَالْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي السَّلَبِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ. فَإِنْ اُحْتُجَّ بِالْخَبَرِ فَقَدْ خَالَفَهُ، وَإِنْ اُحْتُجَّ بِالنَّظَرِ فَالنَّظَرُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ غَنِيمَةً لِلْجَمِيعِ لَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ فِي حَالَ الْإِدْبَارِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَكَانَ غَنِيمَةً، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمُعَاوَنَةِ الْجَمِيعِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ الْأَمِيرِ قَوْلٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمِيرِ قَوْلٌ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ مُقْبِلًا أَوْ مُدْبِرًا اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، فَلَوْ كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحِقًّا بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قَتِيلِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ وَأَنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا وَلَا أُرَانَا إلا خامسيه.

مطلب: إذا قال الأمير من أصاب شيئا فهو له وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمِيرِ إذَا قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "هُوَ كَمَا قَالَ وَلَا خُمُسَ فِيهِ"، وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ لِأَنَّهُ قِتَالٌ بِجُعْلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُخَمِّسُ مَا أَصَابَهُ إلَّا سَلَبَ الْمَقْتُولِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ وَجَبَ أَنْ لَا خُمُسَ فِيهِ وَأَنْ يَجُوزَ قَطْعُ حُقُوقِ أَهْلِ الْخُمُسِ عَنْهُ كَمَا جَازَ قَطْعُ حُقُوقِ سَائِرِ الْغَانِمِينَ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ فِي السَّلَبِ الْخُمُسُ إذَا قَالَ الْأَمِيرُ ذَلِكَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْغَنِيمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ

الْخُمُسَ فِيمَا صَارَ غَنِيمَةً لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَهَذَا لَمْ يَصِرْ غَنِيمَةً لَهُمْ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِيرِ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْجَيْشِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ غَنِيمَةً لَهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا خمس فيه.

مطلب: فيمن دخل دار الحرب مغيرا بغير إذن الإمام وَاخْتُلِفَ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ وَحْدَهُ مُغِيرًا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "مَا غَنِمَهُ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً وَلَا خُمُسَ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ". وَلَمْ يَحُدَّ مُحَمَّدٌ فِي الْمَنَعَةِ شَيْئَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إذَا كَانُوا تِسْعَةً فَفِيهِ الْخُمُسُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يُخَمِّسُ مَا أَخَذَهُ وَالْبَاقِي لَهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إنْ شَاءَ الْإِمَامُ عَاقَبَهُ وَحَرَمَهُ وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَ مَا أَصَابَ وَالْبَاقِي لَهُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْغَانِمُونَ جَمَاعَةً; لِأَنَّ حُصُولَ الْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ شَرْطٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وَ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:29] فِي لُزُومِ قَتْلِ الْوَاحِدِ عَلَى حِيَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ جَمَاعَةٌ إذَا كَانَ مُشْتَرِكًا; لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ الْجَمَاعَةِ لَا يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْجَمِيعِ; إذْ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهُوَ حُصُولُ الْغَنِيمَةِ لَهُمْ وَبِقِتَالِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إنْ كَلَّمْت هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةَ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودُ الْكَلَامِ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ بَعْضِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْجَيْشَ إذَا غَنِمُوا لَمْ يُشَارِكْهُمْ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ حِيَازَةُ الْغَنِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُغِيرُ وَحْدَهُ اسْتَحَقَّ مَا غَنِمَهُ، وَأَمَّا الْخُمُسُ فَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِظَهْرِ الْمُسْلِمِينَ وَنُصْرَتِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا فِئَةً لِلْغَانِمِينَ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَحْدَهُ مُغِيرًا فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ نُصْرَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ عَاصٍ لَهُ دَاخِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْخُمُسَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الرِّكَازِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ: لَمَّا كَانَ الْمَوْضِعُ مَظْهُورًا عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ وَلَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْخُمُسُ. وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ خُمِّسَ مَا غَنِمَ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ ضَمِنَ نُصْرَتَهُ وَحِيَاطَتَهُ، وَالْإِمَامُ قَائِمٌ مَقَامَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَحَقَّ لَهُمْ الْخُمُسُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغِيرُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ السَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ، لِحُصُولِ الْمَنَعَةِ لَهُمْ وَلِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِ الخمس من غنائمهم.

مطلب: فِي الْمَدَدِ يَلْحَقُ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قبل إحراز الغنيمة وَاخْتُلِفَ فِي الْمَدَدِ يَلْحَقُ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا غَنِمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ جَيْشٌ آخَرُ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِيهَا". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُشَارِكُونَهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهَا الْحَقُّ بِالْإِحْرَازِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَحُصُولُهَا فِي أَيْدِيهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُثْبِتُ لَهُمْ فِيهَا حَقًّا; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْجَيْشُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مَغْنُومًا إذَا لَمْ يَفْتَتِحُوهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا ثُمَّ دَخَلَ جَيْشٌ آخَرُ فَفَتَحُوهَا لَمْ يَصِرْ الْمَوْضِعُ الَّذِي صَارَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ مِلْكًا لَهُمْ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ غَيْرِهِ مِنْ بِقَاعِ أَرْضِ الْحَرْبِ؟ وَلِلْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ إلَّا بِالْحِيَازَةِ فِي دَارِنَا، فَإِذَا لَحِقَهُمْ جَيْشٌ آخَرُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حُكْمُ مَا أَخَذُوهُ حُكْمَ مَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِيهِ. وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَنِيمَةً لِجَمِيعِهِمْ; إذْ بِهِمْ صَارَ مُحْرَزًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعُونَةِ هَؤُلَاءِ فِي إحْرَازِهَا كَمَا لَوْ لَحِقُوهُمْ قَبْلَ أَخْذِهَا شَارَكُوهُمْ؟ وَلَوْ كَانَ حُصُولُهَا فِي أَيْدِيهِمْ يُثْبِتُ لَهُمْ فِيهَا حَقًّا قَبْلَ إحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَطِئَهُ الْجَيْشُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ افْتَتَحُوهَا لَصَارَتْ دَارًا لِلْإِسْلَامِ، وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الْجَيْشِ لِمَوْضِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجْعَلُهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ فِيهِ إلَّا بِالْحِيَازَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَقْسِمْ لِلْمَدَدِ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا فُتِحَتْ وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ اللِّيفُ، قَالَ أَبَانُ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْت: لَا تَقْسِمْ لَهُمْ شَيْئًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبَانُ: أَنْتَ بِهَذَا يَا وَتَرَ نَجْدٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْلِسْ يَا أَبَانُ" فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ; لِأَنَّ خَيْبَرَ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "مَا شَهِدْت لِرَسُولِ اللَّهِ مَغْنَمًا إلَّا قَسَمَ لِي إلَّا خَيْبَرَ فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً". فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً

شَهِدُوهَا أَوْ لَمْ يَشْهَدُوهَا دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ وَعَدَهُمْ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] وَقَدْ رَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ بِثَلَاثٍ، فَقَسَمَ لَنَا وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ غَيْرِنَا". فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ لِأَبِي مُوسَى وَأَصْحَابِهِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ وَلَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ وَلَمْ يَقْسِمْ فِيهَا لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِطِيبَةِ أَنْفُسِ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ، كَمَا رَوَى خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَنَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: فَقَدِمْنَا وَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَكَلَّمَ النَّاسَ فَأَشْرَكُونَا فِي سِهَامِهِمْ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ بِالْجَيْشِ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ لَا يُشْرِكُونَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ. وَقَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَظَهَرُوا، فَأَرَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَمَّارٌ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُطَارِدَ: أَيُّهَا الْأَجْدَعُ تُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا فَقَالَ: جَيْرِ إذْ بِي سَبَيْت; فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ: إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَهَذَا أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِنَا; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرُوا عَلَى نَهَاوَنْدَ وَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ; إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْكُفَّارِ هُنَاكَ فِئَةٌ، فَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَحِقُوهُمْ بَعْدَ مَا صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رَأَى عَمَّارٌ وَمَنْ مَعَهُ أَنْ يُشْرِكُوهُمْ، وَرَأَى عُمَرُ أَنْ لَا يُشْرِكُوهُمْ لِأَنَّهُمْ لَحِقُوهُ بَعْدَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْأَرْضَ صَارَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ

بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْغَانِمِينَ وَقَدْ شَمِلَهُمْ هَذَا الِاسْمُ، أَلَا تَرَى إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] قَدْ عُقِلَ مِنْ ظَاهِرِهِ اسْتِحْقَاقُهُنَّ لِلثُّلُثَيْنِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِهَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرْ التَّفْضِيلَ، كَذَلِكَ مُقْتَضَى قَوْله تعالى: {غَنِمْتُمْ}

يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُتَسَاوِينَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {غَنِمْتُمْ} عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِهِمْ لَهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سهم الفارس

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ". وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْمُنْذِرِ بْن أَبِي حِمَّصَةَ عَامِلِ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا فَرَضِيَهُ عُمَرُ وَمِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بِخُرَاسَانَ وَقَدْ غَنِمُوا، فَقَالَ: جُعْلُ جَائِزَتِك أَنْ أَضْرِبَ لَك بِأَلْفِ سَهْمٍ، فَقَالَ: اضْرِبْ لِي بِسَهْمٍ وَلِفَرَسِي بِسَهْمٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَارِسِ بِسَهْمٍ فَضَّلْنَاهُ وَخَصَّصْنَا بِهِ لِلظَّاهِرِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَاهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ غَيْلَانَ الْعُمَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْجَرْجَرَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: لَمْ يَجِئْ بِهِ عَنْ الثَّوْرِيِّ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ" وَاخْتَلَفَ حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ بَدِيًّا سَهْمَيْنِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ ثُمَّ أَعْطَاهُ فِي غَنِيمَةٍ أُخْرَى ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَكَانَ السَّهْمُ الزَّائِدُ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ الْمُسْتَحِقَّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَا لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ سَنَدِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ قَالَ: فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْكُمَيْتِ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صُبَيْحُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَهَذَا إنْ ثَبَتَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ; لِأَنَّ قِسْمَةَ يَوْمِ بَدْرٍ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلْجَيْشِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَنْفَالَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيَّرَهُ فِي إعْطَائِهِ مَنْ رَأَى، وَلَوْ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئَا لَكَانَ جَائِزًا فَلَمْ تَكُنْ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحِقَّةً يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بَعْدَ

ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَنَسَخَ بِهَذَا الْأَنْفَالَ الَّتِي جَعَلَهَا لِلرَّسُولِ فِي جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ وَقَدْ رَوَى مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ فَجَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَرَوَى ابْنُ الْفُضَيْلِ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ "لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا" وَهَذَا خِلَافُ رِوَايَةِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ قَسَمَ لِبَعْضِ الْفُرْسَانِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ وَقَسَمَ لِبَعْضِهِمْ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَكَانَ السَّهْمُ الزَّائِدُ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ، كَمَا رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ وَكَانَ رَاجِلًا يَوْمَئِذٍ وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى الزُّبَيْرَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يَضْرِبُ لَهُ فِي الْمَغْنَمِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى إيجَافِ الْخَيْلِ، كَمَا كَانَ يُنَفِّلُ سَلَبَ الْقَتِيلِ وَيَقُولُ: "مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ" تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ كَانَ خَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى: قِيلَ لَهُ: هَذَا إذَا ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَأَمَّا إذَا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مُسْتَحِقَّةً. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي خَبَرِنَا إثْبَاتَ زِيَادَةٍ لِسَهْمِ الرَّاجِلِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا نَقَصَ نَصِيبُ الْفَارِسِ زَادَ نَصِيبُ الرَّاجِلِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ الْفَرَسَ لَمَّا كَانَ آلَةً كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ كَسَائِرِ الْآلَاتِ، فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي السَّهْمِ الْوَاحِدِ وَالْبَاقِي مَحْمُولٌ عَلَى الْقِيَاسِ; وَعَلَى هَذَا لَوْ حَضَرَ الْفَرَسُ دُونَ الرَّجُلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَوْ حَضَرَ الرَّجُلُ دُونَ الْفَرَسِ اسْتَحَقَّ، فَلَمَّا لَمْ يُجَاوِزْ بِالرَّجُلِ سَهْمًا وَاحِدًا كَانَ الْفَرَسُ بِهِ أَوْلَى. وَأَيْضًا الرَّجُلُ آكَدُ أَمْرًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ مِنْ الْفَرَسِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الرِّجَالَ وَإِنْ كَثُرُوا اسْتَحَقُّوا سِهَامَهُمْ، وَلَوْ حَضَرَتْ جَمَاعَةُ أَفْرَاسٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ آكَدَ أَمْرًا مِنْ الْفَرَسِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمٍ فَالْفَرَسُ أَحْرَى بِذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْبَرَاذِينِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "الْبِرْذَوْنُ وَالْفَرَسُ سَوَاءٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "كَانَتْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا سَلَفَ لَا يُسْهِمُونَ لِلْبَرَاذِينِ حَتَّى هَاجَتْ الْفِتْنَةُ مِنْ بَعْدِ قَتْلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "لِلْهَجِينِ وَالْبِرْذَوْنِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَا يُلْحَقَانِ بِالْعِرَابِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَقَالَ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] وَقَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل:8] فَعُقِلَ بِاسْمِ الْخَيْلِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَرَاذِينُ كَمَا عُقِلَ مِنْهَا الْعِرَابُ، فَلَمَّا شَمِلَهَا اسْمُ الْخَيْلِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي السُّهْمَانِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَاكِبَ الْبِرْذَوْنِ يُسَمَّى فَارِسًا كَمَا يُسَمَّى بِهِ رَاكِبُ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ، فَلَمَّا أُجْرِيَ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْفَارِسِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ" عَمَّ ذَلِكَ فَارِسَ الْبِرْذَوْنِ كَمَا عَمَّ فَارِسَ الْعِرَابِ وَأَيْضًا إنْ كَانَ مِنْ الْخَيْلِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ سَهْمُهُ وَسَهْمُ الْعَرَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْخَيْلِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، فَلَمَّا وَافَقَنَا اللَّيْثُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْخَيْلِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِيِّ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ وَحَظْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا كَفَرْقِ مَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْهَزِيلِ وَالسَّمِينِ وَالْجَوَادِ وَمَا دُونَهُ، وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يُوجِبْ اخْتِلَافَ سِهَامِهِمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَسَ الْعَرَبِيَّ وَإِنْ كَانَ أَجْرَى مِنْ الْبِرْذَوْنِ فَإِنَّ الْبِرْذَوْنَ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُلَ الْعَرَبِيَّ وَالْعَجَمِيَّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ السِّهَامِ كَذَلِكَ الْخَيْلُ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينِ فَقَالَ سَعِيدٌ: وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ؟ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الْبَرَاذِينُ بِمَنْزِلَةِ الْخَيْلِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: أَوَّلُ مَنْ قَسَمَ لِلْبَرَاذِينِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمَ دِمَشْقَ، قَسَمَ لِلْبَرَاذِينِ نِصْفَ سُهْمَانِ الْخَيْلِ لِمَا رَأَى مِنْ جَرْيِهَا وَقُوَّتِهَا، فَكَانَ يُعْطِي الْبَرَاذِينَ سَهْمًا سَهْمًا، وَهَذَا حَدِيثٌ مَقْطُوعٌ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ لِمَا رَأَى مِنْ قُوَّتِهَا، فَإِذًا لَيْسَ بِتَوْقِيفٍ وَقَدْ رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَغَارَتْ الْخَيْلُ بِالشَّامِ وَعَلَى النَّاسِ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ يُقَالُ لَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حِمَّصَةَ الْوَادِعِيُّ، فَأَدْرَكَتْ الْخَيْلُ الْعِرَابُ مِنْ يَوْمِهَا وَأَدْرَكَتْ الْكَوَادِنُ مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَا أَدْرَكَ كَمَا لَمْ يُدْرِكْ، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ فِيهِ، فَكَتَبَ عُمَرُ: هَبِلَتْ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ اذَّكَّرَتْ بِهِ، أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ فَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُسْهِمْ لِلْبَرَاذِينِ بِذَلِكَ. وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ رَأْيَ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ فَأَنْفَذَهُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَغْزُو بِأَفْرَاسٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُسْهَمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: "يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْجَيْشَ قَدْ كَانُوا يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَمَكَّةَ وَحُنَيْنٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَغَازِي، وَلَمْ يَكُنْ يَخْلُو الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَرَسَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَسَ آلَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُضْرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ كَسَائِرِ الْآلَاتِ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ سَهْمُ الْفَرَسِ الْوَاحِدِ أَثْبَتْنَاهُ وَلَمْ نُثْبِتْ الزِّيَادَةَ إلَّا بِتَوْقِيفٍ; إذْ كَانَ الْقِيَاسُ يَمْنَعُهُ.

بَابُ قِسْمَةِ الْخُمُسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمُسِ فِي الْأَصْلِ، فَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَتْ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ; فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَرُبُعٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا، وَالرُّبُعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبُعُ الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبُعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: "يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ خُمُسٌ، وَلِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسٌ، وَلِلْيَتَامَى خُمُسٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ خُمُسٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ خُمُسٌ". وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ الرَّسُولِ وَاحِدٌ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: "هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لَيْسَ لِلَّهِ نَصِيبٌ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: "لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسُ الْخُمُسِ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ بَيْتِ اللَّهِ; ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيَكُونُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ وَلِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، وَاَلَّذِي جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ هُوَ السَّهْمُ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى". وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ الْخُمُسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جَعَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ". وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: "أَنَّ الْخُمُسَ الَّذِي كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، ثُمَّ قَسَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: "إنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ عَلَى أَرْبَعَةٍ سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ وَاحِدًا، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا". وَقَالَ آخَرُونَ:

قوله {لله} افْتِتَاحُ كَلَامٍ وَهُوَ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِلَّهِ سَهْمٌ يُجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسَمَّيْنَ فِي الْآيَةِ سَهْمٌ. وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ قَسَمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ يَحْمِلُ مِنْ الْخُمُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَهُوَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: جَعَلَ اللَّهُ الرَّأْيَ فِي الْخُمُسِ إلَى نَبِيِّهِ كَمَا كَانَتْ الْأَنْفَالُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، فَنَسَخَتْ الْأَنْفَالَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَتُرِكَ الْخُمُسُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] ثُمَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فَذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ ثُمَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فَبَيَّنَ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ. وَكَذَلِكَ الْخُمُسُ قَالَ فِيهِ إنَّهُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ يَعْنِي قِسْمَتُهُ مَوْكُولَةٌ إلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْوُجُوهَ الَّتِي يُقَسِّمُ عَلَيْهَا عَلَى مَا يَرَى وَيَخْتَارُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ: "كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِالْخُمُسِ؟ قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الرَّجُلَ ثُمَّ الرَّجُلَ ثُمَّ الرَّجُلَ". وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي مِنْهُ الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَمْ يَكُنْ يُقَسِّمُهُ أَخْمَاسًا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى سِتَّةٍ وَإِنَّ سَهْمَ اللَّهِ كَانَ مَصْرُوفًا إلَى الْكَعْبَةِ" فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا وَلَكَانَتْ الْخُلَفَاءُ بَعْدَ النَّبِيِّ أَوْلَى النَّاسِ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهُمْ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ سَهْمَ الْكَعْبَةِ لَيْسَ بِأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَائِرِ السِّهَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إذْ كُلُّهَا مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِسَهْمِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِفْتَاحًا لِلْكَلَامِ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَعَلَى وَجْهِ تَعْلِيمِنَا التَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَافْتِتَاحَ الْأُمُورِ بِاسْمِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخُمُسَ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى; ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ الْوُجُوهَ فَقَالَ: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ، فَأَجْمَلَ بَدِيًّا حُكْمَ الْخُمُسِ ثُمَّ فَسَّرَ الْوُجُوهَ الَّتِي أَجْمَلَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ مَا قُلْت لَقَالَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وَلَمْ يَكُنْ يُدْخِلُ الْوَاوَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ إدْخَالُ الْوَاوِ وَالْمُرَادُ إلْغَاؤُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ

وَضِيَاءً} [الأنبياء:48] وَالْوَاوُ مُلْغَاةٌ وَالْفُرْقَانُ ضِيَاءٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] مَعْنَاهُ: لَمَّا أَسْلَمَا تَلَّهُ لِلْجَبِينِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} يَقْتَضِي جَوَابًا وَجَوَابُهُ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ; وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بَلَى شَيْءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ ... وَأَحْيَانًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ وَمَعْنَاهُ: يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ أَحْيَانًا، وَالْوَاوُ مُلْغَاةٌ; وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: فَإِنَّ رَشِيدًا وَابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَكُنْ ... لِيَفْعَلَ حَتَّى يُصْدِرَ الْأَمْرَ مَصْدَرَا وَمَعْنَاهُ: فَإِنَّ رَشِيدَ بْنَ مَرْوَانَ; وَقَالَ الْآخَرُ: إلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَالْوَاوُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دُخُولُهَا وَخُرُوجُهَا سَوَاءٌ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أن قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُرَادَيْنِ لَاحْتِمَال الْآيَةِ لَهُمَا، فَيَنْتَظِمُ تَعْلِيمُنَا افْتِتَاحَ الْأُمُورِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْخُمُسَ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ وَكَانَ لَهُ الصَّفِيُّ وَسَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ إذَا شَهِدَ الْقِتَالَ. وَرَوَى أَبُو حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ "قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُعْطُوا سَهْمَ اللَّهِ مِنْ الْغَنَائِمِ وَالصَّفِيِّ". وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: "اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ وَفَاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَهْمِ الرَّسُولِ وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ سَهْمُ الرَّسُولِ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْكُرَاعِ وَالْعِدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ سَهْمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَقَطَ سَهْمُهُ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ بِمَوْتِهِ، فَرَجَعَ سَهْمُهُ إلَى جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ كَمَا رَجَعَ إلَيْهَا وَلَمْ يَعُدْ لِلنَّوَائِبِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: "يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ". وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ "خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَخُمُسُ ذَوِي الْقُرْبَى لِكُلِّ صِنْفٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُمُسَ الْخُمُسِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ "سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمُسِ هُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ وَمَا بَقِيَ فَلِلطَّبَقَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى". وَقَالَ مَالِكٌ: "يُعْطِي مِنْ

الْخُمُسِ أَقْرِبَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَرَى وَيَجْتَهِدُ". وَقَالَ "الْأَوْزَاعِيُّ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُقَسَّمُ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ وَلَيْسَ بِعُمُومٍ; وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْقُرْبَى لَا يَخْتَصُّ بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا أَقْرِبَاءَ سَائِرِ النَّاسِ، فَصَارَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ. وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ أَقْرِبَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ لِسَهْمِ الْخُمُسِ مِنْ الْأَقْرِبَاءِ هُمْ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ نُصْرَةٌ وَإِنَّ السَّهْمَ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالنُّصْرَةِ وَإِنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نُصْرَةٌ مِمَّنْ حَدَثَ بَعْدُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْفَقْرِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ سَائِرُ الْفُقَرَاءِ; وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْته أَنَا وَعُثْمَانُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ بِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ، أَرَأَيْت بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتنَا وَإِنَّمَا هُمْ وَنَحْنُ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ." فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ بِالْقَرَابَةِ فَحَسْبُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي الْقُرْبِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ، فَأَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْقَرَابَةِ لَسَاوَى بَيْنَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ ذِي الْقُرْبَى، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّصْرَةَ مَعَ الْقَرَابَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ نُصْرَةٌ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْفَقْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْفَقْرِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْت: مَا فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّهُ عَنْهُ بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى حِينَ وُلِّيَ؟ فَقَالَ: سَلَكَ بِهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَرِهَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ خِلَافُهُمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَأْيَهُ لَمَا قَضَى بِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ مِثْلِ الْجَدِّ وَالتَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَايَا وَأَشْيَاءَ أُخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ رَأْيَهُ وَرَأْيَهُمَا كَانَ سَوَاءً فِي أَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ. وَلَمَّا أَجْمَعَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَلَيْهِ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ بِإِجْمَاعِهِمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي" وَفِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إلَى نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَنَا فَدَعَانَا عُمَرُ إلَى أَنْ نُزَوِّجَ مِنْهُ أَيِّمَنَا وَنَقْضِيَ مِنْهُ عَنْ مَغْرَمِنَا فَأَبَيْنَا أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ لَنَا وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا " وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ" "فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا بَنُو عَمِّنَا". فَأَخْبَرَ أَنَّ قَوْمَهُ وَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَوْهُ

لِفُقَرَائِهِمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ" "كُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَنَا إخْبَارٌ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَلَا حَظَّ لِلرَّأْيِ مَعَ السُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ جُلِّ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ عُمَرَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ وَالْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَاك لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إلَيْك مَا يُؤَدِّي الْعُمَّالُ وَنُصِيبَ مَا يُصِيبُونَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ" ثُمَّ أَمَرَ مَحْمِيَّةَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا مِنْ الْخُمُسِ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ بِالْفَقْرِ، إذْ كَانَ إنَّمَا اقْتَضَى لَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ الصَّدَاقِ الَّذِي احْتَاجَا إلَيْهِ لِلتَّزَوُّجِ وَلَمْ يَأْمُرْ لَهُمَا بِمَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ قِسْمَتُهُ عَلَى السُّهْمَانِ وَأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا لِي مِنْ هَذَا الْمَالِ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ" وَلَمْ يُخَصِّصْ الْقَرَابَةَ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فِيهِ كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهُ مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ وَسَدِّ الْخُلَّةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَذْهَبُ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ أَبَدًا وَيَذْهَبُ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ أَبَدًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقُنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ! " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يُخَصِّصُ بِهِ قَوْمًا مِنْ قَوْمٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي آيَةِ الْخُمُسِ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ سُمِّيَ فِي آيَةِ الْخُمُسِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْفَقْرِ وَهُمْ الْيَتَامَى وَابْنُ السَّبِيلِ، فَكَذَلِكَ ذُو الْقُرْبَى; لِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ أُقِيمَ ذَلِكَ لَهُمْ مَقَامَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ مِنْهُمْ إلَّا فَقِيرٌ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أُقِيمَ هَذَا مَقَامَهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا فَقِيرٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ مِنْ الْخُمُسِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ مَوَالِيَ بَنِي هَاشِمٍ لَهُمْ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا هُوَ لِبَنِي هَاشِمٍ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمَهُمْ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِ إيَّاهُمْ بِالذِّكْرِ وَقَدْ دَخَلُوا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ؟ قِيلَ لَهُ: كَمَا خَصَّ الْيَتَامَى وَابْنَ السَّبِيلِ بِالذِّكْرِ وَلَا يَسْتَحِقُّونَهُ إلَّا بِالْفَقْرِ، وَأَيْضًا لَمَّا سَمَّى اللَّهُ الْخُمُسَ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ" فَلَوْ لَمْ يُسَمِّهِمْ فِي الْخُمُسِ جَازَ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُمْ مِنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الصَّدَقَاتِ، فَسَمَّاهُمْ إعْلَامًا مِنْهُ لَنَا أَنَّ سَبِيلَهُمْ فِيهِ بِخِلَافِ سَبِيلِهِمْ فِي الصَّدَقَاتِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ مِنْ الْخُمُسِ وَكَانَ ذَا يَسَارٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ. قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالْقَرَابَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ" فَاسْتَوَى فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ لِتَسَاوِيهِمْ فِي النُّصْرَةِ وَالْقَرَابَةِ. وَالثَّانِي: إنه جائز أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْطَى الْعَبَّاسَ لَيُفَرِّقَهُ فِي فُقَرَاءِ بَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ يُعْطِهِ لِنَفْسِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا قَرَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ هُمْ ذَوُو قَرَابَاتِهِ وَآلُهُ وَهُمْ آلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "بَنُو الْمُطَّلِبِ دَاخِلُونَ فِيهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ مِنْ الْخُمُسِ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ "قُرَيْشٌ كُلُّهَا مِنْ أَقْرِبَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَهُمْ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ إلَّا أَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ رَأَى مِنْهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ ذَوُو قَرَابَاتِهِ، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَهُمْ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِي الْقُرْبِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ، فَإِنْ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْقَرَابَةِ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ مِثْلَهُمْ لِمُسَاوَاتِهِمْ إيَّاهُمْ فِي الدَّرَجَةِ، وَأَمَّا إعْطَاءُ سَهْمِ الْخُمُسِ فَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ بِهِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بِالنُّصْرَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: "لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ" وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ تَحْرِيمُهَا بِالنُّصْرَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَيْسُوا مِنْ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَمَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ وَلَا قَرَابَةَ لَهُمْ وَلَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا بِالْقَرَابَةِ "وَقَدْ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَادِمًا مِنْ الْخُمُسِ فَوَكَّلَهَا إلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَلَمْ يُعْطِهَا" فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يُعْطِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوِي قُرْبَاهُ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ ذَوِي قُرْبَاهُ. قِيلَ لَهُ فَقَدْ خَاطَبَ عَلِيًّا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَقَالَ لِبَعْضِ بَنَاتِ عَمِّهِ حِينَ ذَهَبَتْ مَعَ فَاطِمَةَ إلَيْهِ تَسْتَخْدِمُهُ: "سَبَقَكُنَّ يَتَامَى بَدْرٍ" وَفِي يَتَامَى بَدْرٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّتَا بِالْقَرَابَةِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ مَنْعُهُمَا إيَّاهُ لَمَا مَنَعَهُمَا حَقَّهُمَا وَلَا عَدَلَ بِهِمَا إلَى غَيْرِهِمَا; وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَهْمَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ أَمْرُهُ كَانَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّ إعْطَاءَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مَنْعَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشٌ كُلُّهَا فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ يَا بَنِي فُلَانٍ" لِبُطُونِ قُرَيْشٍ "إنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "يَا بَنِي

كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ" وَأَنَّهُ قَالَ: "يَا بَنِي هَاشِمٍ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ "اجْمَعْ لِي بَنِي هَاشِمٍ" وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا. قَالُوا: فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَكَانَ إعْطَاءُ السَّهْمِ مِنْ الْخُمُسِ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ نُصْرَةٌ دُونَ غَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْمُ الْقَرَابَةِ وَاقِعٌ عَلَى هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عِنْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِذَوِي قُرْبَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: اسْتِحْقَاقُ سَهْمٍ مِنْ الخمس بقوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وَهُمْ الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ عَلَى الشَّرَائِطِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا، وَالثَّانِي: تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَظَّ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ آلِهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَنُو الْمُطَّلِبِ لِمُسَاوَاتِهِمْ إيَّاهُ فِي نَسَبِهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَالثَّالِثُ: تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ; فَانْتَظَمَ ذَلِكَ بُطُونَ قُرَيْشٍ كُلَّهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِي إنْذَارِهِ إيَّاهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ بِالْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ وَأَقْرَبُ إلَى نَفْيِ الْمُحَابَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ; لِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ عَشِيرَتَهُ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَأَنْذَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ أَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ; إذْ لَوْ جَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ لَكَانَتْ أَقْرِبَاؤُهُ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا. وقوله تعالى: {وَالْيَتَامَى} فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْيُتْمِ هُوَ الِانْفِرَادُ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ الْمُنْفَرِدَةُ تُسَمَّى يَتِيمَةً وَالْمَرْأَةُ الْمُنْفَرِدَةُ عَنْ الْأَزْوَاجِ تُسَمَّى يَتِيمَةً، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اُخْتُصَّ فِي النَّاسِ بِالصَّغِيرِ الَّذِي قَدْ مَاتَ أَبُوهُ، وَهُوَ يُفِيدُ الْفَقْرَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مَعَ الْيُتْمِ الْفَقْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ مِنْ الْأَيْتَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي قَدْ مَاتَ أَبُوهُ دُونَ الْكَبِيرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ"، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ كُلَّ وَلَدٍ يَتِيمٍ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ إلَّا الْإِنْسَانَ فَإِنَّ يُتْمَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} فَإِنَّهُ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ الْمُحْتَاجُ إلَى مَا يُتَحَمَّلُ بِهِ إلَى بَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي بَلَدِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي وُجُوبِ إعْطَائِهِ حَاجَتَهُ إلَيْهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ لَهُ مَالٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَبَيْنَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ

وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ آيَةِ الصَّدَقَاتِ وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ وَالْيَتِيمَ إنَّمَا يَسْتَحِقَّانِ حَقَّهُمَا مِنْ الْخُمُسِ بِالْحَاجَةِ دُونَ الِاسْمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ بِالْخُمُسِ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْفَقْرَ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ ذَوِي الْقُرْبَى قِيلَ لَهُ: فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ أَنَّ آلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْخُمُسَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ كَتَحْرِيمِهَا; إذْ كَانَ سَبِيلُهُ صَرْفَهُ إلَى الْفُقَرَاءِ، فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَسْمِيَتِهِمْ فِي الْآيَةِ عَنْ جَوَازِ إعْطَائِهِمْ مِنْ الْخُمُسِ بِالْفَقْرِ، وَيَلْزَمُ هَذَا السَّائِلَ أَنْ يُعْطِيَ الْيَتَامَى وَابْنَ السَّبِيلِ بِالِاسْمِ دُونَ الْحَاجَةِ عَنْ قَضِيَّتِهِ بِأَنْ لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْفَقْرِ مَا كَانَ لِتَسْمِيَتِهِ ابْنَ السَّبِيلِ وَالْيَتِيمَ مَعْنًى وَهُمَا إنَّمَا يَسْتَحِقَّانِهِ بِالْفَقْرِ. قَوْله تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} قِيلَ إنَّ الْفِئَةَ هِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُنْقَطِعَةُ عَنْ غَيْرِهَا، وَأَصْلُهُ مِنْ فَأَوَتْ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ إذَا قَطَعْته، وَالْمُرَادُ بِالْفِئَةِ هَهُنَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الْآيَةَ، وَمَعْنَاهُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ مِنْ جَوَازِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ أَوْ الِانْحِيَازِ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيُقَاتِلَ مَعَهُمْ، وَمُرَتَّبٌ أَيْضًا عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّمَا هُمْ مَأْمُورُونَ بِالثَّبَاتِ لَهُمْ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ مِثْلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَضْعَافِهِمْ فَجَائِزٌ لَهُمْ الِانْحِيَازُ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ معهم. وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِاللِّسَانِ وَالْآخَرُ: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ ثَوَابِ الصَّبْرِ عَلَى الثَّبَاتِ لِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ وَذِكْرُ عِقَابِ الْفِرَارِ وَالثَّانِي: ذِكْرُ دَلَائِلِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقِيَامِ بِفَرْضِهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَضُرُوبُ هَذِهِ الْأَذْكَارِ كُلِّهَا تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَيُسْتَدْعَى بِهَا النَّصْرُ مِنْ اللَّهِ وَالْجُرْأَةُ عَلَى الْعَدُوِّ وَالِاسْتِهَانَةُ بِهِمْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ جَمِيعَ الْأَذْكَارِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لِجَمِيعِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مَا يُوَافِقُ مَعْنَى الْآيَةِ، مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَإِنْ أَجْلَبُوا أَوْ ضَجُّوا فَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ".

قَوْله تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَنَهَى بِهَا عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ يُؤَدِّي إلَى الْفَشَلِ وَهُوَ ضَعْفُ الْقَلْبِ مِنْ فَزَعٍ يَلْحَقُهُ، وَأَمَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ لِنَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ الْمُؤَدِّيَيْنِ إلَى الْفَشَلِ فِي قَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَاهُمْ فِي مَنَامِهِمْ قَلِيلًا لِئَلَّا يَتَنَازَعُوا إذَا رَأَوْهُمْ كَثِيرًا فَيَفْشَلُوا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ إذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ" فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا النَّهْيَ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْفَشَلِ وَإِلَى ذَهَابِ الدَّوْلَةِ بقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . وَقِيلَ إنَّ الْمَعْنَى رِيحُ النَّصْرِ الَّتِي يَبْعَثُهَا اللَّهُ مَعَ مَنْ يَنْصُرُهُ عَلَى مَنْ يَخْذُلُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "تَذْهَبَ دَوْلَتُكُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَهَبَتْ رِيحُهُ أَيْ ذَهَبَتْ دَوْلَتُهُ". قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} تَثْقَفَنَّهُمْ: مَعْنَاهُ تُصَادِفُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بن جبير: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} : "إذَا أَسَرْتهمْ فَنَكِّلْ بِهِمْ تَنْكِيلًا تُشَرِّدُ غَيْرَهُمْ مِنْ نَاقِضِي الْعَهْدِ خَوْفًا مِنْك". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "افْعَلْ بِهِمْ مِنْ الْقَتْلِ مَا تُفَرِّقُ بِهِ مَنْ خَلْفَهُمْ عَنْ التَّعَاوُنِ عَلَى قِتَالِك". وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ التَّنْكِيلِ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ وَإِحْرَاقِهِمْ بِالنِّيرَانِ وَرَمْيِهِمْ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ وَطَرْحِهِمْ فِي الْآبَارِ ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ فِي تَشْرِيدِ سَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ التَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الْآيَةَ. يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا خِفْت غَدْرَهُمْ وَخَدْعَتَهُمْ وَإِيقَاعَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَفَعَلُوا ذَلِكَ خُفْيًا وَلَمْ يُظَهِّرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، يَعْنِي أَلْقِ إلَيْهِمْ فَسْخَ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْعَهْدِ وَالْهُدْنَةِ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْجَمِيعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {عَلَى سَوَاءٍ} لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّك نَقَضْت الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ. وقيل: {عَلَى سَوَاءٍ} عَلَى عَدْلٍ، مِنْ قَوْلِ الرَّاجِزِ: فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغَدْرِ لِلْأَعْدَاءِ ... حَتَّى يُجِيبُوك إلَى السَّوَاءِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَسَطِ سَوَاءٌ لِاعْتِدَالِهِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ: يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمَلْحَدِ أَيْ فِي وَسَطِهِ. وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إليهم; لأنهم

قَدْ كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ بِمُعَاوَنَتِهِمْ بَنِي كِنَانَةَ عَلَى قَتْلِ خُزَاعَةَ وَكَانَتْ حُلَفَاءَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذَلِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى النَّبْذِ إلَيْهِمْ; إذْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا نَقْضَ العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ نَحْوُ مَعْنَى الْآيَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْفَيْضِ عَنْ سُلَيْمٍ وَقَالَ غَيْرُهُ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ، حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ فَنَظَرُوا فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِعْدَادِ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ قَبْلَ وَقْتِ الْقِتَالِ إرْهَابًا لِلْعَدُوِّ وَالتَّقَدُّمِ فِي ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ اسْتِعْدَادًا لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْقُوَّةِ أَنَّهَا الرَّمْيُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ1 الْهَمْدَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا فَضْلُ بْنُ سَحْتَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَكُلُّ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ أَوْ مُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَّامٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ; وَارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ

_ 1 قوله: "شفي" بضم المعجمة وفتح الفاء وتشديد التحتانية, كذا في خلاصة تهذيب الكمال "لمصححه".

تَرْكَبُوا، لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ ثَلَاثَةٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا" أَوْ قَالَ: "كَفَرَهَا" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَوْلَى أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُعَلِّمَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَالسِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ". وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ" أَنَّهُ مِنْ مُعْظَمِ مَا يَجِبُ إعْدَادُهُ مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَنْفِ بِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْقُوَّةِ، بَلْ عُمُومُ اللَّفْظِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْقَتِيلِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ إبْرَاهِيمَ الثُّمَالِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نُحْفِيَ الْأَظْفَارَ فِي الْجِهَادِ وَقَالَ: "إنَّ الْقُوَّةَ فِي الْأَظْفَارِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا يُقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْدَادِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّقَدُّمِ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ مَا يُوَاطِئُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْمَهْرِيِّ عَنْ أَبِي الْمُصَبِّحِ قَالَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَالنَّيْلُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَصْحَابُهَا مُعَانُونَ، قَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَيْرَ هُوَ الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ، وَفِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنَّ ارْتِبَاطَهَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجِهَادُ; وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى بَقَاءِ الْجِهَادِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ; إذْ كَانَ الْأَجْرُ مُسْتَحِقًّا بِارْتِبَاطِهَا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ" قِيلَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: خَشْيَةُ اخْتِنَاقِهَا بِالْوَتَرِ، وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إذَا طَلَبُوا بِالْأَوْتَارِ الدُّخُولَ قَلَّدُوا خَيْلَهُمْ الْأَوْتَارَ يَدُلُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّهُمْ طَالِبُونَ بِالْأَوْتَارِ مُجْتَهِدُونَ فِي قَتْلِ مَنْ يَطْلُبُونَهُمْ بِهَا، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَبَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "أَلَا إنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَأْثَرَةٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ".

بَابُ الْهُدْنَةِ وَالْمُوَادَعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} وَالْجُنُوحُ الْمَيْلُ، وَمِنْهُ يُقَالُ:

جَنَحَتْ السَّفِينَةُ إذَا مَالَتْ، وَالسَّلْمُ الْمُسَالَمَةُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ إنْ مَالُوا إلَى الْمُسَالَمَةِ، وَهِيَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْحَرْبِ، فَسَالِمْهُمْ وَاقْبَلْ ذَلِكَ منهم. وإنما قال: {فَاجْنَحْ لَهَا} لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُسَالَمَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، فَرَوَى سَعِيدٌ وَمَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قَالَ: نَسَخَتْهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وَقَالَ آخَرُونَ: "لَا نَسْخَ فِيهَا لِأَنَّهَا فِي مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَصْنَافًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ النَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةُ، وَعَاهَدَ قَبَائِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى أَنْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْعَهْدَ بِقِتَالِهَا خُزَاعَةَ حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَلَمْ يَخْتَلِفْ نَقَلَةُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَكْثُرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَيَقْوَى أَهْلُهُ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَوِيَ الدِّينُ أَمَرَ بِقَتْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] وَأَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا باليوم الآخر} إلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَكَانَ نُزُولُهَا حِينَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَسُورَةُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ عَقِيبَ يَوْمِ بَدْرٍ بَيَّنَ فِيهَا حُكْمَ الْأَنْفَالِ وَالْغَنَائِمِ وَالْعُهُودِ وَالْمُوَادَعَاتِ، فَحُكْمُ سُورَةِ بَرَاءَةَ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى مَا وَرَدَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمُسَالَمَةِ إذَا مَالَ الْمُشْرِكُونَ إلَيْهَا حُكْمٌ ثَابِتٌ أَيْضًا. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، فَالْحَالُ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْمُسَالَمَةِ هِيَ حَالُ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَالْحَالُ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَبِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ هِيَ حَالُ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] فَنَهَى عَنْ الْمُسَالَمَةِ عِنْدَ الْقُوَّةِ عَلَى قَهْرِ الْعَدُوِّ وَقَتْلِهِمْ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قَدَرَ بَعْضُ أَهْلِ الثُّغُورِ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ وَمُقَاوَمَتِهِمْ لَمْ تَجُزْ لَهُمْ مُسَالَمَتُهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إقْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْ قِتَالِهِمْ جَازَ لَهُمْ مُسَالَمَتُهُمْ كَمَا سَالَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَهَادَنَهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ أَخَذَهَا مِنْهُمْ; قَالُوا: فَإِنْ قَوُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قِتَالِهِمْ نَبَذُوا

إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ; قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ الْعَدُوِّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ إلَّا بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لَهُمْ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ صَالَحَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَغَيْرَهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى نِصْفِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، حَتَّى لَمَّا شَاوَرَ الْأَنْصَارَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ أَمْرٌ أَمَرَك اللَّهُ بِهِ أَمْ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا بَلْ هُوَ رَأْيٌ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا" فَقَالَ السَّعْدَانِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا مِنَّا إلَّا قِرًى وَشِرًى وَنَحْنُ كُفَّارٌ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ؟ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ وَشَقَاءَ الصَّحِيفَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا خَافُوا الْمُشْرِكِينَ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْمَالِ. فَهَذِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ وَبَعْضُهَا بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَاسْتَعْمَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي مِيرَاثِ الْحَلِيفِ أَنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] فِي حَالِ عَدَمِ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقِ، فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ ذُو نَسَبٍ أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ فَهُمْ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ كَمَا أَنَّ الِابْنَ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الْآيَةَ، رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، وَكَانُوا عَلَى غَايَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْإِسْلَامِ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ فِي كُلِّ مُتَحَابَّيْنِ فِي اللَّهِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صالح عن معاوية بن صالح عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّجُلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنْ الْكُفَّارِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَرَحِمَهُمْ فَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَيُّمَا رِجْلٍ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ. وَإِنَّمَا عَنَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ الْفَرْضُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَاحِدِ قِتَالُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْكُفَّارِ لِصِحَّةِ بَصَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَصِدْقِ يَقِينِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ قَوْمٌ آخَرُونَ خَالَطَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَصَائِرُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ خَفَّفَ عَنْ الْجَمِيعِ وَأَجْرَاهُمْ مَجْرًى وَاحِدًا فَفَرَضَ عَلَى الْوَاحِدِ مُقَاوَمَةَ الِاثْنَيْنِ.

قَوْله تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} لَمْ يُرِدْ بِهِ ضَعْفَ الْقُوَى وَالْأَبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ ضَعْفُ النِّيَّةِ لِمُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ فَرْضَ الْجَمِيعِ فَرْضَ ضُعَفَائِهِمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ بِقِتَالِهِ غَيْرَ اللَّهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] فَكَانَ الْأَوَّلُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ النِّيَّاتِ فَلَمَّا خَالَطَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا بِقِتَالِهِ سَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي الْفَرْضِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ أَبَى وُجُودَ النَّسْخِ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهُ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَالتَّخْفِيفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِزَوَالِ بَعْضِ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ أَوْ النَّقْلِ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْفَرْضِ الْأَوَّلِ وَزَعَمَ الْقَائِلُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إنْكَارِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَإِنَّمَا فِيهِ الْوَعْدُ بِشَرِيطَةٍ فَمَتَى وَفَّى بِالشَّرْطِ أَنْجَزَ الْوَعْدَ وَإِنَّمَا كَلَّفَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِمْ فَكَانَ عَلَى الْأَوَّلِينَ مَا ذَكَرَ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ وَالْآخَرُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ نَفَاذِ الْبَصِيرَةِ مِثْلُ مَا لِلْأَوَّلِينَ فَكُلِّفُوا مُقَاوَمَةَ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ وَالْمِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ قَالَ وَمُقَاوَمَةُ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ وَكَذَلِكَ الْمِائَةُ لِلْمِائَتَيْنِ وَإِنَّمَا الصَّبْرُ مَفْرُوضٌ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَقَادِيرِ اسْتِطَاعَاتِهِمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ زُعِمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا كَلَامٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ وَالتَّنَاقُضِ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ النَّقْلِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مُقَاوَمَةُ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233] وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:228] وَلَيْسَ هُوَ إخْبَارًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِأَنْ لَا يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا خَبَرًا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} مَعْنًى لِأَنَّ التَّخْفِيفَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ لَا فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُقَاوِمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فَلَا مَحَالَةَ قَدْ وَقَعَ النَّسْخُ عَنْهُمْ فِيمَا كَانُوا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ الْقَوْمُ قَدْ نَقَصَتْ بَصَائِرُهُمْ وَلَا قَلَّ صَبْرُهُمْ وَإِنَّمَا خَالَطَهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ بَصَائِرِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَهُمْ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ بِمَا

وَصَفْنَا وَقَدْ أَقَرَّ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ بَعْضَ التَّكْلِيفِ قَدْ زَالَ مِنْهُمْ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى النَّسْخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ الْأُسَارَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} مِنْ الْفِدَاءِ ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ الْغَنَائِمَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بن موسى قال حدثنا عبد الله بن صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَعَجَّلَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا غَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} . وَرُوِيَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ شَاوَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالِاسْتِبْقَاءِ وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ وَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِالْإِحْرَاقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَثَلُ عِيسَى; إذْ قَالَ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ وَمَثَلُك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ; إذْ قَالَ: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وَمَثَلُ مُوسَى; إذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} الْآيَةَ، أَنْتُمْ عَالَةٌ فَلَا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ". فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْإِسْلَامَ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ "إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك فَقَالَ: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ

مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَذَكَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْبَابِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إنَّمَا نَزَلَ فِي أَخْذِهِمْ الْغَنَائِمَ. وَذَكَرَ فِي حديث عبد الله بن مسعود وابن عباس الْآخَرِ أَنَّ الْوَعِيدَ إنَّمَا كَانَ فِي عَرْضِهِمْ الْفِدَاءَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِشَارَتِهِمْ عَلَيْهِ بِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} وَلَمْ يَقُلْ فِيمَا عَرَضْتُمْ وَأَشَرْتُمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ فِي قَوْلٍ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ; لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ طَرِيقِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَبَاحَ لَهُمْ أَخْذَ الْفِدَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً صَغِيرَةً فَعَاتَبَهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَحِلَّ قَبْلَ نَبِيِّنَا لِأَحَدٍ وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فَكَانَ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ تَحْرِيمُ الْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ وَفِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا تَحْرِيمُهَا حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ وَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ إبَاحَةَ الْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَقَدْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَأْمُورِينَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وَكَانَ الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْقَتْلَ حَتَّى إذَا أُثْخِنَ الْمُشْرِكُونَ فَحِينَئِذٍ إبَاحَةُ الْفِدَاءِ وَكَانَ أَخْذُ الْفِدَاءِ قَبْلَ الْإِثْخَانِ مَحْظُورًا وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ حَازُوا الْغَنَائِمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخَذُوا الْأَسْرَى وَطَلَبُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ فِي ذَلِكَ وَلِذَلِكَ عَاتَبَهُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ نَقَلَةُ السِّيَرِ وَرُوَاةُ الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ أَخَذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ "لَا يَنْفَلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ" وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُ حَظَرَ أَخْذَ الْأَسْرَى وَمُفَادَاتِهِمْ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَأَخَذَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا وَهُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَتْ الْمُعَاتَبَةُ مِنْ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُمْتَنِعٌ وُقُوعُ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ قِيلَ لَهُ إنَّ أَخْذَ الْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى وَقَعَ بَدِيًّا عَلَى وَجْهِ الْحَظْرِ فَلَمْ يَمْلِكُوا مَا أَخَذُوا ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا لَهُمْ، وَمَلَّكَهُمْ إيَّاهَا فَالْأَخْذُ الْمُبَاحُ ثَانِيًا هُوَ غَيْرُ الْمَحْظُورِ أَوَّلًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَرَوَى أَبُو زُمَيْلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَبَقْت لَهُمْ الرَّحْمَةُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا

الْمَعْصِيَةَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ رِوَايَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا ذَلِكَ مَعْصِيَةً صَغِيرَةً، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ غُفْرَانَهَا بِاجْتِنَابِهِمْ الْكَبَائِرَ، وَكَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِهِمْ لِلْمَعْصِيَةِ الصَّغِيرَةِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مُطْعِمًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنِيمَةَ فَفَعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ لَهُمْ الْغَنِيمَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَتَحِلُّ لَهُمْ الْغَنِيمَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُزِيلُ عَنْهُمْ حُكْمَ الْحَظْرِ قَبْلَ إحْلَالِهَا، وَلَا يُخَفِّفُ مِنْ عِقَابِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ أَنَّ إزَالَةَ الْعِقَابِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْلُومِهِ إبَاحَةُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَا "سَبَقَ مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فِيهَا"، وَهَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِتَحْرِيمِ الْغَنَائِمِ عَلَى أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ مِنْ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا فَاسْتَبَاحُوهَا عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ النَّبِيِّ قَوْلٌ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا إخْبَارٌ مِنْهُ إيَّاهُمْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَلَمْ يَكُنْ خَطَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةً يُسْتَحَقّ عَلَيْهَا الْعِقَابُ. قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فِيهِ إبَاحَةُ الْغَنَائِمِ، وَقَدْ كَانَتْ مَحْظُورَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: "أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَأُرْسِلْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ" فَأَخْبَرَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُمَمِهَا قَبْلَهُ وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} قَدْ اقْتَضَى وُقُوعَ مِلْكِ الْغَنَائِمِ لَهُمْ إذَا أَخَذُوا، وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ الْآيَةِ هُوَ الْأَكْلَ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ; إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَبْدَانِ، وَبَقَاءُ الْحَيَاةِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَمْلِيكَ سَائِرِ وُجُوهِ مَنَافِعِهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] فَخَصَّ اللَّحْمَ بِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ; لِأَنَّهُ مُبْتَغَى مَنَافِعِهِ، وَمُعْظَمُهَا فِي لُحُومِهِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فَخَصَّ الْبَيْعَ بِالْحَظْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَا يَشْغَلُ عَنْ الصَّلَاةِ، وَكَانَ وَجْهُ تَخْصِيصِهِ أَنَّهُ مُعْظَمُ مَنَافِعِ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِذَا كَانَ مُعْظَمُهُ مَحْظُورًا فَمَا دُونَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي مَفْهُومِ اللَّفْظِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:10] فَخَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ، وَدَلَّ بِهِ عَلَى حَظْرِ الْأَخْذِ وَالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ

الْأَكْلِ فَهَذَا حُكْمُ اللَّفْظِ إذَا وَرَدَ فِي مِثْلِهِ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ، وَكَوْنُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَمَا كَانَتْ إبَاحَةُ الْأَكْلِ مُوجِبَةً لِلتَّمْلِيكِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَبَاحَ لِرَجُلٍ أَكْلَ طَعَامِهِ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَلَا يَأْخُذَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ الْأَكْلُ فَحَسْبُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَفْهُومِ خِطَابِ الْآيَةِ التَّمْلِيكُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ غَنِيمَةً لَهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} لَمَّا أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَيْهِمْ فَقَدْ أَفَادَ تَمْلِيكَهَا إيَّاهُمْ بِإِطْلَاقِهِ لَفْظَ الْغَنِيمَةِ فِيهِ ثُمَّ عَطْفِهِ الْأَكْلَ عَلَيْهَا لَمْ يَنْفِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ قَالَ كُلُوا مِمَّا مَلَكْتُمْ لَمْ يَكُنْ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَكْلِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْمِلْكِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ قَدْ مَلَّكْتُكُمْ ذَلِكَ فَكُلُوا. وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِمَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالٍ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْغَانِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ كُلُّ مَا صَارَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ. رُوِيَ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْفَيْءُ كُلُّ مَا صَارَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ أَوْ بِغَيْرِ قِتَالٍ; إذْ كَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ الْكُفْرَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْجِزْيَةُ فَيْءٌ وَالْخَرَاجُ وَمَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنْ الْعَدُوِّ عَلَى وَجْهِ الْهُدْنَةِ وَالْمُوَادَعَةِ فَهُوَ فَيْءٌ أَيْضًا. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] الْآيَةَ فَقِيلَ: إنَّ هَذَا فِيمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ فَدَكَ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَرْفُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي الْغَنَائِمِ فَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . وَجَائِزٌ عِنْدَنَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنْسُوخَةً، وَأَنْ تَكُونَ آيَةُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقِتَالِ، وَآيَةُ الْفَيْءِ الَّتِي فِي الْحَشْرِ فِيمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمُوَادَعَةِ، وَالْهُدْنَةِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ بِأَهْلِ نَجْرَانَ، وَفَدَكَ، وَسَائِرِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَاَللَّهُ أعلم بالصواب.

بَابُ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} الْآيَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنا

جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ، وَلَا يَرِثُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ فنسختها {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: "آخَى رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَآخَى بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أُخُوَّةً يَتَوَارَثُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا وَتَرَكُوا أَقْرِبَاءَهُمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمَوَارِيثِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ التَّوَارُثَ كَانَ ثَابِتًا بَيْنَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُونَ الْأَرْحَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ قوله تعالى: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ إيجَابُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} قَدْ نَفَى إثْبَاتَ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ بِنَفْيِهِ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُوَالَاةِ يُوجِبُ التَّوَارُثَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ عَلَى حَسَبِ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَكِّدَة لَهُ كَمَا أَنَّ النَّسَبَ سَبَبٌ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِتَأَكُّدِ سَبَبِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] مُوجِبٌ لِإِثْبَاتِ الْقَوَدِ لِسَائِرِ وَرَثَتِهِ، وَأَنَّ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِتَسَاوِيهِمْ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ مُسْتَحِقِّي مِيرَاثِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِيرَاثِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ" مُثْبِتٌ لِلْوِلَايَةِ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ، وَتَأْكِيدِ السَّبَبِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ لِلْأُمِّ تَزْوِيجُ أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبٌ عَلَى مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ; إذْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فِي الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا حِينَ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ فَتَحَ النَّبِيُّ مَكَّةَ فَقَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" فَنُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ بِسُقُوطِ فَرْضِ الهجرة، وأثبت التوارث بالأنساب بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قَالَ الْحَسَنُ "كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ حَتَّى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فَتَوَارَثُوا بِالْأَرْحَامِ"، وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ". وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ: "وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَنْ يُفْتَنُوا عَنْهُ، وَقَدْ أَذَاعَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَفْشَاهُ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إيجَابَ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةَ دُونَ الْأَنْسَابِ، وَقَطْعَ

الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، وَاقْتَضَى أَيْضًا إيجَابَ نُصْرَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إذَا اسْتَنْصَرَ الْمُهَاجِرَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} مَا قَدْ بَيَّنَّا ذِكْرُهُ فِي نَفْيِ الْمِيرَاثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ فِي آخَرِينَ. وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ إيجَابِ النُّصْرَةِ فَلَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُهَاجِرِ نُصْرَةُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرَ فَتَكُونَ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُ إلَّا عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ فَلَا يَنْقُضْ عَهْدَهُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْوِلَايَةِ مُقْتَضِيًا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ نَفْيِ التَّوَارُثِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ نُسِخَ نَفْيُ الْمِيرَاثِ بِإِيجَابِ التَّوَارُثِ بِالْأَرْحَامِ مُهَاجِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُهَاجِرٍ، وَإِسْقَاطِهِ بِالْهِجْرَةِ فَحَسْبُ، وَنُسِخَ نَفْيُ إيجَابِ النُّصْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] . قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي النُّصْرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} نَافِيًا لِلْمِيرَاثِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ; لِأَنَّ الْوَلَايَةَ قَدْ صَارَتْ عِبَارَةً عَنْ إثْبَاتِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ فَاقْتَضَى عُمُومُهُ إثْبَاتَ التَّوَارُثِ بَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُهُمْ وَيَقَعُ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ عَلَى أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لَهُ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إنْ لَا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ إيجَابِ الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ بِالْأُخُوَّةِ وَالْهِجْرَةِ وَمِنْ قَطْعِهَا بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَلَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاضِلَ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْفَضْلِ بِمَا يَدْعُو إلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْفَاجِرِ وَالضَّالِّ بِمَا يَصْرِفُهُ عَنْ ضَلَالِهِ وَفُجُورِهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْفَسَادِ وَالْفِتْنَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} نَسَخَ بِهِ إيجَابَ

التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ وَالْحِلْفِ وَالْمُوَالَاةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْعَصَبَاتِ وَغَيْرِهِمْ، فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ مِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا تَسْمِيَةَ لَهُمْ وَلَا تَعْصِيبَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إلَى أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ; وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ أَعْتَقَتْ عَبْدًا، وَمَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ مِيرَاثِهِ لِابْنَتِهِ، وَنِصْفَهُ لِابْنَةِ حَمْزَةَ بِالْوِلَايَةِ فَجَعَلَهَا عَصَبَةً، وَالْعَصَبَةُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ". وقوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَمَا قَالَ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. آخِرُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.

سُورَةُ بَرَاءَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبَرَاءَةُ هِيَ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ وَارْتِفَاعُ الْعِصْمَةِ، وَزَوَالُ الْأَمَانِ. وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ; وَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ فِي "إلَى" فَاقْتَضَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ، وَرَفْعَ الْأَمَانِ، وَإِعْلَامَ نَصْبِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [لأنفال:58] فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْبَرَاءَةِ نَبْذًا إلَيْهِمْ وَرَفْعًا لِلْعَهْدِ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا فِيمَنْ أَضْمَرُوا الْخِيَانَةَ وَهَمُّوا بِالْغَدْرِ، وَكَانَ حُكْمُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يُرْفَعَ الْعَهْدُ فِي حَالِ ذِكْرِ ذَلِكَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا النَّبْذَ إلَيْهِمْ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ عَهْدَ ذَوِي الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْهُمْ بَاقٍ إلَى آخِرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ; قَالَ الْحَسَنُ: فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حُطَّ إلَيْهَا. وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَقَلَّ رُفِعَ إلَيْهَا. وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْعَهْدِ أَوَّلُهَا مِنْ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرٌ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ; لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَرَأَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى النَّاسِ بِمَكَّةَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ صَارَ الْحَجُّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَّتَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَجِّ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ، فَاتَّفَقَ عَوْدُ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَدِيًّا عَلَى إبْرَاهِيمِ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ: "أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" فَثَبَتَ الْحَجُّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالنَّحْرُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْهُ; فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي جَعَلَهَا لِلسِّيَاحَةِ، وَقَطَعَ بِمُضِيِّهَا عِصْمَةَ المشركين وعهدهم.

وَقَدْ قِيلَ: فِي جَوَازِ نَقْضِ الْعَهْدِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّتِهِ عَلَى جِهَةِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ، وَإِعْلَامِهِمْ نَصْبَ الْحَرْبِ وَزَوَالَ الْأَمَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَثْبُتَ غَدْرُهُمْ سِرًّا فَيَنْبِذَ إلَيْهِمْ ظَاهِرًا، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِ الْعَهْدِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى الْأَمَانِ مَا يَشَاءُ وَيَنْقُضَهُ مَتَى يَشَاءُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ لِأَهْلِ خَيْبَرَ: "أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ" الْآخَرُ: أَنَّ الْعَهْدَ الْمَشْرُوطَ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فِيهِ ثُبُوتُ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ وَقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِمْ، وَأَنْ لَا يُقْصَدُوا وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنَّهُ مَتَى أَعْلَمَهُمْ رَفْعَ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي مَضْمُونِ الْعَهْدِ، وَسَوَاءٌ خَافَ غَدْرَهُمْ أَوْ لَمْ يَخَفْ أَوْ كَانَ فِي شَرْطِ الْعَهْدِ أَنَّ لَنَا نَقْضَهُ مَتَى شِئْنَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ لَنَا مَتَى رَأَيْنَا ذَلِكَ حَظًّا لِلْإِسْلَامِ أَنْ نَنْبِذَ إلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَدْرٍ مِنَّا وَلَا خِيَانَةٍ وَلَا خَفْرٍ لِلْعَهْدِ; لِأَنَّ خَفْرَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَعْدَ الْأَمَانِ، وَهُمْ غَارُّونَ بِأَمَانِنَا، فَأَمَّا مَتَى نَبَذْنَا إلَيْهِمْ فَقَدْ زَالَ الْأَمَانُ، وَعَادُوا حَرْبًا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُمْ فِي نَبْذِ الْأَمَانِ إلَيْهِمْ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ الْعَدُوَّ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَإِنْ قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ وَأَطَاقُوا قِتَالَهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلَهُمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَلَيْسَ جَوَازُ رَفْعِ الْأَمَانِ مَوْقُوفًا عَلَى خَوْفِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْ قِبَلِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمَ هِيَ رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ حِينَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، وَكَانَ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ; فَكَأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا بَقِيَ عَهْدُهُمْ إلَى آخِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ. وَقَدْ رَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْمُحَرَّرِ بْن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرَاءَةٌ إلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكُنْت أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي، وَكَانَ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: "لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ". وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ نِدَائِهِ، وَإِعْلَامِهِمْ إيَّاهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهَا تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ عَنْ عَلَى: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنْ لَا يَطُوفَ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَلَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحُجَّ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى مُدَّتِهِ; فَجَعَلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ لَهُ عَهْدٌ عَهْدُهُ إلَى أَجَلِهِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَعَهْدُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ جَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ تَمَامَ

أَرْبَعَةٍ أَشْهُرٍ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ، وَجَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ إلَى مُدَّتِهِ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ. وَذِكْرُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَذِكْرُ إثْبَاتِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَجَّلَهَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فَكَانَ أَجَلُ بَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِي خِيفَ غَدْرُهُمْ وَخِيَانَتُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَجَلُ مَنْ لَمْ يُخْشَ غَدْرُهُمْ إلَى مُدَّتِهِ. وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَهْدِ، وَاَلَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُصَدَّ عَنْ الْبَيْتِ أَحَدٌ، وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَهْدًا عَامًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ} وَكَانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَصَائِصُ إلَى آجَالٍ مُسَمَّاةٍ، فَنَزَلَتْ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَهْلُ الْعَهْدِ الْعَامِّ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ العرب، {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَجَّةِ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يَعْنِي: الْعَهْدُ الْخَاصُّ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الَّتِي ضَرَبَهُ لَهُمْ أَجَلًا. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مِنْ قَبَائِلِ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ إلَى الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ; فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إلَّا هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَبَنُو الدِّئْلِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَهُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى مُدَّتِهِ، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} . وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} قَالَ: "جَعَلَ اللَّهُ لِلَّذِينَ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا، وَأَجَّلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَمَرَهُ إذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمِ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدُوا، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقَضَ مَا سَمَّى لَهُمْ مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْعَهْدِ لِمَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ جَعَلَ أَجَلَهُ انْسِلَاخَ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ تَمَامُ خَمْسِينَ لَيْلَةً مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْعَشْرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذَلِكَ آخِرُ وَقْتِ أَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ

مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : إلَى أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجَ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ، وَعَلِيًّا فَأَذِنُوا أَصْحَابَ الْعُهُودِ أَنْ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمُتَوَالِيَاتُ مِنْ عَشْرٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى عَشْرٍ تَخْلُو مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ; قَالَ: وَهِيَ الْحُرُمُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَعَلَ مُجَاهِدٌ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فِي أَشْهُرِ الْعَهْدِ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَشْهُرُ التي قال الله فيها: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وَقَالَ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَقَالَ السدي: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} قَالَ: عِشْرُونَ يَبْقَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى عَشْرٍ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ ثُمَّ لَا أَمَانَ لِأَحَدٍ وَلَا عَهْدَ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي رَبِيعٍ الْجُرْجَانِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي شَوَّالٍ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَشْهُرٍ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. قَالَ قَتَادَةُ: عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحْرَمَ وَصَفَرَ وَرَبِيعَ الْأَوَّلَ وَعَشْرٌ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ قَتَادَةَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فَأَظُنُّهُ وَهْمًا; لِأَنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ خُرُوجِهِ سُورَةُ بَرَاءَةٌ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيٍّ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ بِمِنًى; فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عَامٌّ، وَهُوَ أَنْ لَا يَصُدَّ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَهْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَوَاصَّ مِنْهُمْ عُهُودٌ إلَى آجَالٍ مُسَمَّاةٍ، وَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ لَهُمْ وَإِتْمَامِ عُهُودِهِمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إذَا لَمْ يَخْشَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ إمَّا أَنْ تَكُونَ إلَى آخِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي قَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهَا، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّتُهُمْ إلَى آخِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَآخِرُهُ عَشْرٌ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَسَمَّاهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ

عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَهْدٌ. وَأَوْجَبَ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ دَفْعَ الْعُهُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ خَاصٌّ، وَسَائِرُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَمَّهُمْ عَهْدُهُ فِي تَرْكِ مَنْعِهِمْ مِنْ الْبَيْتِ، وَحَظْرِ قَتْلِهِمْ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ انْسِلَاخَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ آخِرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَظَرَ الْقِتَالَ فِيهَا، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} يَعْنِي إعْلَامٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، يُقَالُ: آذَنَنِي بِكَذَا أَيْ أَعْلَمَنِي فَعَلِمْت، وَاخْتُلِفَ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ الرِّوَايَةِ فِيهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ مِنْ الرُّوَاةِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَيَّامُ الْحَجِّ كُلُّهَا، وَهَذَا شَائِعٌ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمُ صِفِّينَ، وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْإِفْرَادُ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا التَّأْوِيلُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِفْرَادِ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ، وَلِلْقِرَانِ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ يَوْمَ الْقِرَانِ هُوَ يَوْمُ الْإِفْرَادِ لِلْحَجِّ، فَتَبْطُلُ فَائِدَةُ تَفْضِيلِ الْيَوْمِ لِلْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ بِذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِرَانِ. وقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} لَمَّا كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكَانَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيَّامُ الْحَجِّ غَيْرَ أَيَّامِ الْعُمْرَةِ فَلَا تُفْعَلُ الْعُمْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَالَ: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} لِأَنَّ أَعْيَادَ الْمِلَلِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فَقِيلَ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْأَذَانَ بِذَلِكَ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَلِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. قَالَ أبو بكر: قوله: {الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَجٌّ أَصْغَرُ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْعُمْرَةُ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى"، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَقَعُ عَلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ حِينَ سَأَلَهُ فَقَالَ: "الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا، بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِنَفْيِ النَّبِيِّ الْوُجُوبَ إلَّا فِي حِجَّةِ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْحَجُّ عَرَفَةَ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم

عَرَفَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّ فِيهِ تَمَامَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَالتَّفَثَ، وَيَحْتَمِلُ أَيَّامَ مِنًى عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَخَصَّهُ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِفِعْلِ الْحَجِّ فِيهِ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَجُّ لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَعَرَفَةُ قَدْ يَأْتِيهَا بَعْضُهُمْ لَيْلًا، وَبَعْضُهُمْ نَهَارًا، وَأَمَّا النِّدَاءُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَجَائِزٌ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة:13] وقَوْله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ} [الجاثية:14] قَالَ: نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ"، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَدْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُفُّ عَمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90] ثُمَّ نُسِخَ ذلك بقوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عُمُومُهُ يَقْتَضِي قَتْلَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفُ، إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الجزية بقوله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: "إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ فَعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ"، وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، فَخَصَّصْنَا مِنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالْآيَةِ، وَصَارَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} خَاصًّا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وقَوْله تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} يَدُلُّ عَلَى حَبْسِهِمْ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِينَاءِ بِقَتْلِهِمْ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِهِمْ; لِأَنَّ الْحَصْرَ هُوَ الْحَبْسُ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ حَصْرِ الْكُفَّارِ فِي حُصُونِهِمْ وَمُدُنِهِمْ إنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَأَنْ يُلْقَوْا بِالْحِصَارِ. وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ قَتْلِهِمْ عَلَى سَائِرِ وُجُوهِ الْقَتْلِ، إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ، وَعَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ بِالنَّبْلِ، وَنَحْوِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ" وَقَالَ: "إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ" وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ وَالْحِجَارَةِ وَالرَّمْيِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ

وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ إنَّمَا ذَهَبَ فِيهِ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَحْرَقَ قَوْمًا مُرْتَدِّينَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ عُمُومَ الْآيَةِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ شَرْطًا فِي زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ، وَيَكُونَ قَبُولُ ذَلِكَ، وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ هُوَ الشَّرْطَ دُونَ وُجُودِ الْفِعْلِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْ الشِّرْكِ شَرْطٌ لَا مَحَالَةَ فِي زَوَالِ الْقَتْلِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا أَمْرَ اللَّهِ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ وَقْتَ صَلَاةٍ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مَحْظُورَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَ زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ هُوَ قَبُولُ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِلُزُومِهَا دُونَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي زَوَالِ الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا شَرْطُهُ قَبُولُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَالْتِزَامُهَا وَالِاعْتِرَافُ بِوُجُوبِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} فَشَرَطَ مَعَ التَّوْبَةِ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا هِيَ الْإِقْلَاعُ عَنْ الْكُفْرِ وَالرُّجُوعُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ عُقِلَ بِذِكْرِهِ التَّوْبَةَ الْتِزَامُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ، وَالِاعْتِرَافُ بِهَا; إذْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِهِ، ثُمَّ لَمَّا شَرَطَ مَعَ التَّوْبَةِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُزِيلَ لِلْقَتْلِ هُوَ اعْتِقَادُ الْإِيمَانِ بِشَرَائِطِهِ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلْإِيمَانِ مُعْتَرِفًا بِلُزُومِ شَرَائِعِهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ شَرَائِطِ زَوَالِ الْقَتْلِ لَمَا زَالَ الْقَتْلُ عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَعَمَّنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مَعَ إسْلَامِهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَمَّنْ وَصَفْنَا أَمْرَهُ بَعْدَ اعْتِقَادِهِ لِلْإِيمَانِ لِلُزُومِ شَرَائِعِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ زَوَالِ الْقَتْلِ، وَأَنَّ شَرْطَهُ إظْهَارُ الْإِيمَانِ، وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَبُولَ الْإِيمَانِ، وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ القتل عند إخلاله ببعض ذلك.

مطلب: فيما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالذين امتنعوا من أداء الزكاة وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ سَبَتْ ذَرَارِيَّ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقَتَلَتْ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ الْتِزَامِ الزَّكَاةِ وَقَبُولِ وُجُوبِهَا فَكَانُوا مُرْتَدِّينَ بِذَلِكَ; لِأَنَّ مِنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَجْرَى حُكْمَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ حِينَ قَاتَلُوهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ مَا رَوَى مَعْمَرٍ عن

الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ كَافَّةً فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ الْعَرَبَ كَافَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوْا الزَّكَاةَ مَنَعُونِي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ". وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه. وَرَوَى مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَّا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَنَصَبَ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ الْحَرْبَ فَقَالُوا: فَإِذًا نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَنُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، فَمَشَى عُمَرُ، وَالْبَدْرِيُّونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالُوا: دَعْهُمْ فَإِنَّهُمْ إذَا اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ وَثَبَتَ أَدَّوْا فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا أَخَذَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلَتْهُمْ عَلَيْهِ، وَقَاتَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَاَللَّهِ لَا أَسْأَلُ فَوْقَهُنَّ، وَلَا أُقَصِّرُ دُونَهُنَّ فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ نَحْنُ نُزَكِّي، وَلَا نَدْفَعُهَا إلَيْك، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ حَتَّى آخُذَهَا كَمَا أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا، وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِثْلَهُ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ، بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ لِقِتَالِ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إلا الله فإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ " فَقَالَ: "لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ". فَأَخْبَرَ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ إنَّمَا كَانَ رِدَّتُهُمْ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ لَهَا وَتَرْكِ قَبُولِهَا، فَسُمُّوا مُرْتَدِّينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُوبِهَا; لِأَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ نُزَكِّي، وَلَا نُؤَدِّيهَا إلَيْك، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ حَتَّى آخُذَهَا كَمَا أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ ضَرْبَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ عَلَى وَجْهِ تَرْكِ الْتِزَامِهَا وَالِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا مُرْتَدٌّ، وَأَنَّ مَانِعَهَا مِنْ الْإِمَامِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهَا يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَدَّى صَدَقَةَ مَوَاشِيهِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِهَا، وَأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ قَاتَلَهُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي. وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا كَمَا يَأْخُذُونَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ عُثْمَانَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ فجعل الأداء

إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ لِلْإِمَامِ فِي أَدَائِهَا. وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ بِمُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْهُمْ بَعْدَمَا تَبَيَّنُوا صِحَّةَ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي ذَلِكَ. وَيَحْتَجُّ مَنْ أَوْجَبَ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَمَانِعِ الزَّكَاةِ عَامِدًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا تُوجِبُ قَتْلَ الْمُشْرِكِ إلَّا أَنْ يُؤْمِنَ، وَيُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وَأَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ لُزُومِهِمَا، وَالْتِزَامُ فَرْضِهِمَا دُونَ فِعْلِهِمَا. وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا إنَّمَا أَوْجَبَتْ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمَ فُرُوضَهُ، وَأَقَرَّ بِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُشْرِكٍ بِاتِّفَاقٍ، فَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ قَتْلَهُ; إذْ كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ كَانَ مُشْرِكًا وَتَارِكُ الصَّلَاةِ، وَمَانِعُ الزَّكَاةِ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا أَزَالَ الْقَتْلَ عَنْهُ بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا: التَّوْبَةُ، وَهِيَ الْإِيمَانُ، وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ. قِيلَ: لَهُ: إنَّمَا أَوْجَبَ بَدِيًّا قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فَمَتَى زَالَتْ عَنْهُمْ سِمَةُ الشِّرْكِ فَقَدْ وَجَبَ زَوَالُ الْقَتْلِ، وَيَحْتَاجُ فِي إيجَابِهِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ: هَذَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْآيَةِ. قِيلَ: لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَنْت وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ هَذَيْنِ الْقُرْبَيْنِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْقَتْلَ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْرِ، فَإِذَا زَالَ الْقَتْلُ بِزَوَالِ سِمَةِ الشِّرْكِ فَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ بَاقٍ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَامِدًا، وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ الزَّكَاةَ جَازَ لِلْإِمَامِ حَبْسُهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ حُكْمَ إيجَابِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ، وَحَبْسَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَفْعَلَهُمَا.

مطلب: يجب علينا بيان دلائل التوحيد والرسالة وتعليم أمور الدين قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ أَمَانِ الْحَرْبِيِّ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا لِيَسْمَعَ دَلَالَةَ صِحَّةِ الإسلام; لأن قوله: {اسْتَجَارَكَ} معناه: استأمنك، وقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ} مَعْنَاهُ: فَأَمِّنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا طَلَبَ مِنَّا إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَبَيَانَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ حتى يعتقدهما

لِحُجَّةٍ وَدَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْنَا إقَامَةُ الْحُجَّةِ، وَبَيَانُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا قَتْلُهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الدَّلَالَةِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهِ الْأَمَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا تَعْلِيمَ كُلِّ مَنْ الْتَمَسَ مِنَّا تَعْرِيفَهُ شَيْئَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ; لِأَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي اسْتَجَارَنَا لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا قَصَدَ الْتِمَاسَ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الدِّينِ.

مطلب: يجب على الإمام حفظ أهل الذمة وقوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ هَذَا الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَجِيرِ، وَحِيَاطَتَهُ وَمَنْعَ النَّاسِ مِنْ تَنَاوُلِهِ بشر، لقوله: {فَأَجِرْهُ} وقوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمَنْعَ مِنْ أَذِيَّتِهِمْ، وَالتَّخَطِّي إلَى ظُلْمِهِمْ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِيهَا إلَّا بِمِقْدَارِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} فَأَمَرَ بِرَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ سَمَاعِهِ كَلَامَ اللَّهِ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُقِيمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا سَبَبٍ يُوجِبُ إقَامَتَهُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ ذِمِّيًّا، وَوُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ. قَوْله تَعَالَى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ يَذْكُرُ قَطْعَ الْعَهْدِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَغَدَرُوا وَأَسَرُّوا وَهَمُّوا بِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالنَّبْذِ إلَيْهِمْ ظَاهِرًا، وَفَسَخَ لَهُمْ فِي مُدَّةٍ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً فِي أَنْ لَا يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ، وَأَنْ لَا يُقَاتِلُوا، وَلَا يَقْتُلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمًا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ خَاصٌّ، وَلَمْ يَغْدِرُوا، وَلَمْ يَهُمُّوا بِهِ فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوهُمْ، وَلَمْ يُعَاوِنُوا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إلَى مُدَّتِهِمْ، وَأَمَرَ بِالنَّبْذِ إلَى الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ أَحَدُ

فَرِيقَيْنِ مَنْ غَادَرَ قَاصِدًا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ خَاصٌّ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ بَلْ فِي دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْأَمَانِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّذِي كَانَ يَأْمَنُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاهَدَ مَتَى عَاوَنَ عَلَيْنَا عَدُوًّا لَنَا فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فَرَفَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَشْهُرِ الْحُرُمِ عَهْدَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ مِنْ خَاصٍّ وَمِنْ عَامٍّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} لِأَنَّهُمْ غَدَرُوا، وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا; ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ الَّذِينَ عَاهَدُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ "هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ"، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ خُزَاعَةُ، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ فِي الْوَفَاءِ بِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَهْدِ دُونَ مُضِيِّ أَشْهُرِ الْحُرُمِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي رَفْعَ سَائِرِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عَهْدِهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكَانُوا مَخْصُوصِينَ مِمَّنْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ خَاصًّا فِي قَوْمٍ مِنْهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} وَلَمْ يَحْصُرْهُ بِمُدَّةٍ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ فَعَلَيْنَا مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ عَلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ مَعَ وُجُودِ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ فِي الْمَغِيبِ خِلَافَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ مَتَى خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا عُوهِدُوا عَلَيْهِ، وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَكْثَ الْأَيْمَانِ يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا وَلَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَلَا هَذِهِ" أَيَّهمَا فَعَلَ حَنِثَ وَنَكَثَ يَمِينَهُ; ثُمَّ لَمَّا ضَمَّ إلَى ذَلِكَ الطَّعْنَ فِي الدِّينِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ مِنْ شُرُوطِ بَقَاءِ عَهْدِهِمْ تَرْكُهُمْ لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا، وَأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ إظْهَارِ الطَّعْنِ فِي دَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّ مَنْ أَظْهَرَ شَتْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ ووجب قتله

مطلب: في حكم من شتم النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ"، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ شَتَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى "قُتِلَ إلَّا أَنْ

يُسْلِمَ". وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٍ فِيمَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَا: هِيَ رِدَّةٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ نَكَلَ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ قَالَ: يُضْرَبُ مِائَةً ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى إذَا هُوَ بَرِئَ ضُرِبَ مِائَةً وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْمُسْلِمِ يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ لَا يُنَاظَرُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَيُقْتَلُ مَكَانَهُ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَيُشْتَرَطُ عَلَى الْمُصَالِحِينَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ كِتَابَ اللَّهِ أَوْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقًا أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِدَلَالَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ آوَى عَيْنًا لَهُمْ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأُحِلَّ دَمُهُ وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ". وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فَجَعَلَ الطَّعْنَ فِي دِينِنَا بِمَنْزِلَةِ نَكْثِ الْأَيْمَانِ إذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْعَلَ نَكْثَ الْأَيْمَانِ وَالطَّعْنَ فِي الدِّينِ بِمَجْمُوعِهِمَا شَرْطًا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ; لِأَنَّهُمْ لَوْ نَكَثُوا الْأَيْمَانَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُظْهِرُوا الطَّعْنَ فِي الدِّينِ لَكَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ. وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ مُعَاوَنَةَ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، وَهُمْ حُلَفَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إظْهَارُ طَعْنٍ فِي الدِّينِ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ مَنْ أَظْهَرَ سب النبي صلى الله عليه وسلم من أَهْلِ الْعَهْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، إذْ سَبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْثَرِ الطَّعْنِ فِي الدِّينِ، فَهَذَا وَجْهٌ يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَا وَصَفْنَا. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رِجْلٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنِّي سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: لَوْ سَمِعْته لَقَتَلْته إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا. وَهُوَ إسْنَادٌ ضَعِيفٌ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَدْرُونَ مَا قَالَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْك" وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: فَفَهِمْتهَا فَقُلْت:، وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ" فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُلْت عَلَيْكُمْ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهُ لَوْ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ لَصَارَ بِهِ مُرْتَدًّا مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقَالُوا: أَلَا تَقْتُلُهَا؟

قَالَ: "لَا"، قَالَ: فَمَا زِلْت أَعْرِفُهَا فِي سَهَوَاتِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبِيحَةً لِدَمِهَا بِمَا فَعَلَتْ فَكَذَلِكَ إظْهَارُ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الذِّمِّيِّ مُخَالِفٌ لِإِظْهَارِ الْمُسْلِمِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُمْ الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ قَدْ كَانُوا قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ أَحَدٌ يُظْهِرُ الْكُفْرَ فِي وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى ذَلِكَ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْمًا مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَهُمْ الطُّلَقَاءُ، مِنْ نَحْوِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَحْزَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقَ قَلْبُهُ مِنْ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ مُرَادُ الْآيَةِ هَؤُلَاءِ دُونَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ، وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، وَبَدَرَهُمْ بِالْقِتَالِ وَالْحَرْبِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا، وَسَائِرَ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُعَاضِدِينَ لِقُرَيْشٍ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إنْ هُمْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَطَعَنُوا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} مَعْنَاهُ: لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً مَوْثُوقًا بِهَا. وَلَمْ يَنْفِ بِهِ وُجُودَ الْأَيْمَانِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَدِيًّا: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَهُ: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {لا أَيْمَانَ لَهُمْ} نَفْيَ الْأَيْمَانِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْوَفَاءِ بِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ {لَا} وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْفَضْلِ دُونَ نَفْيِ الْأَصْلِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مَوْجُودَةٌ فِي السُّنَنِ، وَفِي كَلَامِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ" وَ "لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" و "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ"، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَطْلَقَ الْإِمَامَةَ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ الْمُتَّبَعُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] وَقَالَ فِي الْخَيْرِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] فَالْإِمَامُ فِي الْخَيْرِ هَادٍ مُهْتَدٍ، وَالْإِمَامُ فِي الشَّرِّ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا غَدَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَكَثُوا مَا كَانُوا أَعْطَوْا مِنْ الْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ عَلَى أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَعْدَاءَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهَمُّوا بِمُعَاوَنَةِ الْمُنَافِقِينَ

وَالْكُفَّارِ عَلَى إخْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ بَدَءُوا بِالْغَدْرِ، وَنَكْثِ الْعَهْدِ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ بقوله: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} . قَوْله تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمْ تُجَاهِدُوا; لِأَنَّهُمْ إذَا جَاهَدُوا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْعِلْمِ، وَأَرَادَ بِهِ قِيَامَهُمْ بِفَرْضِ الْجِهَادِ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ وُجُودَ ذَلِكَ منهم.

مطلب: فِي حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَقَوْلِهِ: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} يَقْتَضِي لُزُومَ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكَ الْعُدُولِ عَنْهُمْ كَمَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] ، وَالْوَلِيجَةُ الْمَدْخَلُ، يُقَالُ: وَلَجَ إذَا دَخَلَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ غَيْرُ مَدْخَلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُقَالُ إنَّ الْوَلِيجَةَ بِمَعْنَى الدَّخِيلَةِ وَالْبِطَانَةِ، وَهِيَ مِنْ الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى هَذَا فَقَدْ دَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُخَالَطَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُدَاخَلَتِهِمْ وَتَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَمَا قَالَ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] . قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ تَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَارَتُهُ، وَالْكَوْنُ فِيهِ، وَالْآخَرُ: بِبِنَائِهِ وَتَجْدِيدِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اعْتَمَرَ إذَا زَارَ، وَمِنْهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَفُلَانٌ مِنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُضِيِّ إلَيْهَا وَالسُّكُونِ فِيهَا، وَفُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ إذَا أَكْثَرَ غَشَيَانَهُ لَهُ. فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ مَنْعَ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ بِنَائِهَا وَتُوَلِّي مَصَالِحِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا لِانْتِظَامِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} فِيهِ نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَنُصْرَتِهِمْ وَالِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ وَتَفْوِيضِ أُمُورِهِمْ إلَيْهِمْ وَإِيجَابِ التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَتَرْكِ تَعْظِيمِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، وَسَوَاءٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْأَبِ الْكَافِرِ، وَصُحْبَتِهِ بالمعروف

بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ لِيَتَمَيَّزُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ، إذْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ، وَيُظْهِرُونَ إكْرَامَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ إذَا لَقُوهُمْ، وَيُظْهِرُونَ لَهُمْ الْوِلَايَةَ وَالْحِيَاطَةَ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْمُنَافِقِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ رَبِّهِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} إطْلَاقُ اسْمِ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ كَمَا يَجِبُ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ; فَلِذَلِكَ سَمَّاهُمْ نَجَسًا. وَالنَّجَاسَةُ فِي الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَجَاسَةُ الْأَعْيَانِ، وَالْآخَرُ نَجَاسَةُ الذُّنُوبِ; وَكَذَلِكَ الرِّجْسُ، وَالرِّجْزُ يَنْصَرِفُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الشَّرْعِ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} فَسَمَّاهُمْ رِجْسًا كَمَا سَمَّى الْمُشْرِكِينَ نَجَسًا. وَقَدْ أفاد قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} مَنْعَهُمْ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرٍ، إذْ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس

مطلب: هل يجوز دخول المشرك المسجد وقَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} قَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَدْخُلُ الْمُشْرِكُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" قَالَ مَالِكٌ: "وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا لِحَاجَةٍ مِنْ نَحْوِ الذِّمِّيِّ يَدْخُلُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْخُصُومَةِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَدْخُلُ كُلَّ مَسْجِدٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ"، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ، وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ، وَكَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَامِ الَّذِي نَبَذَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الْآيَةَ، وَفِي حَدِيثِ

عَلِيٍّ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَادَى: وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} وَإِنَّمَا كَانَتْ خَشْيَةُ الْعَيْلَةِ لِانْقِطَاعِ تِلْكَ الْمَوَاسِمِ بِمَنْعِهِمْ مِنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالتِّجَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ الْحَجُّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْحَجِّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعِينَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، ثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْحَجُّ دُونَ قُرْبِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الْحَجِّ; لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ كَانَ خَاصًّا فِي ذَلِكَ دُونَ قُرْبِ الْمَسْجِدِ، وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْمَسْجِدِ بِهِ دُونَ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ "أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ أَنْجَاسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسٍ شَيْءٌ إنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ" وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا وَفْدُ ثَقِيفٍ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ، فَأَنْزَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ كَوْنَهُمْ أَنْجَاسًا لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُمْ الْمَسْجِدَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ لَا يَمْنَعُ الْكَافِرَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَجْدِيدِ الْهُدْنَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مُشْرِكًا حِينَئِذٍ، وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا اقْتَضَتْ النَّهْيَ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ تَقْتَضِ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الْكُفَّارِ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْحَرَمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وَلِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ يُثَيِّعٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ" قِيلَ: لَهُ: إنْ صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ لِلْحَجِّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَادَى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ دُخُولُ الْحَرَمِ لِلْحَجِّ. وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً يَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ" فَأَبَاحَ دُخُولَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ

لِلْحَاجَةِ لَا لِلْحَجِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الذِّمِّيَّ لَهُ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ لِلْحَجِّ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} : إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَوَقَفَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَلَى جَابِرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ فَيَكُونَ جَابِرٌ قَدْ رَفَعَهُ تَارَةً، وَأَفْتَى بِهَا أُخْرَى. وَرَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مُشْرِكٌ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ; قَالَ عَطَاءٌ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْحَرَمُ كُلُّهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:. وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْحَرَمُ كُلُّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ، إذْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَسْجِدِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مُرَادٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ فِي أَيِّ الْحَرَمِ نَحَرَ الْبُدْنَ أَجْزَأَهُ، فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الْحَرَمَ كُلَّهُ لِلْحَجِّ، إذْ كَانَ أَكْثَرُ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ مُتَعَلِّقًا بِالْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لِمَا وَصَفْنَا، فَعَبَّرَ عَنْ الْحَرَمِ بِالْمَسْجِدِ، وَعَبَّرَ عَنْ الْحَجِّ بِالْحَرَمِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ هَهُنَا الْحَرَمُ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ عَلَى شَفِيرِ الْحَرَمِ; وَذَكَرَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ الْحِلِّ وَبَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ. فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا أَنَّهَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْحَرَمِ، وَإِطْلَاقُهُ تَعَالَى اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ، وَتَرْكَ مُخَالَطَتِهِمْ، إذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِاجْتِنَابِ الأنجاس. وقوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فَإِنَّ قَتَادَةَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَلَا عَلِيٌّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ، وَهُوَ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ بَعْدَهُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} فَإِنَّ الْعَيْلَةَ الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ يَعِيلُ إذَا افْتَقَرَ; قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "كَانُوا خَافُوا انْقِطَاعَ الْمَتَاجِرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى

أَنَّهُ يُغْنِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الْجِزْيَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِإِبْقَاءِ الْمَتَاجِرِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْعَرَبَ، وَأَهْلَ بُلْدَانِ الْعَجَمِ سَيُسْلِمُونَ، وَيَحُجُّونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا يَنَالُونَ مِنْ مَنَافِعِ مَتَاجِرِهِمْ عَنْ حُضُورِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة:97] الْآيَةَ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا فِي حَجِّ الْبَيْتِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ، وَأَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} عَمَّا يَنَالُونَ مِنْ الْغِنَى بِحَجِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْغِنَى بِالْمَشِيئَةِ لِمَعْنَيَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ، وَلَا يَبْلُغُ. هَذَا الْغِنَى الْمَوْعُودَ بِهِ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ، وَالثَّانِي: لِيَنْقَطِعَ الْآمَالُ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]

بَابُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ إظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ بِالنُّشُورِ وَالْبَعْثِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْرِي حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي النَّارِ، وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُرَادُهُ حُكْمُ يَوْمِ الْآخِرِ، وَقَضَاؤُهُ فِيهِ، كَمَا تَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ، وَالْمُرَادُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فِيهِ إنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِهِ فِي عِظَمِ الْجُرْمِ، كَمَا إنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ. وَقِيلَ: أَيْضًا: لَمَّا كَانَ إقْرَارُهُمْ عَنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيمَانًا، وَأَكْثَرُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} فَإِنَّ دِينَ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] وَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالدِّينُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الطَّاعَةُ، وَمِنْهَا الْقَهْرُ، وَمِنْهَا الْجَزَاءُ; قَالَ الْأَعْشَى: هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اذ كرهوا الدين ... دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ

يَعْنِي: قَهَرَ الرَّبَابَ إذْ كَرِهُوا طَاعَتَهُ وَأَبَوْا الِانْقِيَادَ لَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قِيلَ: إنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَمِنْهُ: كَمَا تدين تدان.

مَطْلَبٌ: فِي تَفْسِيرِ دِينِ الْحَقِّ وَدِينُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ دِينِ الْحَقِّ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا طَائِعِينَ لَهُ لِجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُمْ يَدِينُونَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ مُنْقَادِينَ لَهُ. قِيلَ: لَهُ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ نَبِيُّنَا، وَأُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ، وَهُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بِذَلِكَ بَلْ تَارِكُونَ لَهُ، فَهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ دِينَ الْحَقِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَدْ نُسِخَتْ، وَالْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ ضَلَالٌ فَلَيْسَ هُوَ إذًا دِينَ الْحَقِّ. وَأَيْضًا فَهُمْ قَدْ غَيَّرُوا الْمَعَانِيَ وَحَرَّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَأَزَالُوهَا إلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ دُونَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمْ غير دائنين دين الحق.

مطلب: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156] فَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ طَائِفَتَانِ; وَقَدْ بيناه فيما سلف.

سورة الأعراف

سورة الأعراف مدخل ... سورة الأعراف بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ النَّهْيِ وَمَعْنَاهُ نَهْيُ الْمُخَاطَبِ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَجِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْحَرَجِ أَنَّهُ الضِّيقُ، وَذَلِكَ أَصْلُهُ، وَمَعْنَاهُ: فَلَا يَضِقْ صَدْرُك خَوْفًا أَنْ لَا تَقُومَ بِحَقِّهِ، فَإِنَّمَا عَلَيْك الْإِنْذَارُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: "الْحَرَجُ هُنَا الشَّكُّ، يَعْنِي لَا تَشُكَّ فِي لُزُومِ الْإِنْذَارِ بِهِ". وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَضِقْ صَدْرُك بِتَكْذِيبِهِمْ إيَّاكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] . قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ مَقْصُورًا عَلَى مُرَادِ أَمْرِهِ; وَهُوَ نَظِيرُ الِائْتِمَامِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي اتِّبَاعِ مُرَادِهِ وَفِي فِعْلِهِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ تَدْبِيرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَكُونُ فَاعِلُ الْمُبَاحِ مُتَّبِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا إذَا قَصَدَ بِهِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ فِي اعْتِقَادِ إبَاحَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُقُوعُ الْفِعْلِ مُرَادًا مِنْهُ، وَأَمَّا فَاعِلُ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الِاتِّبَاعُ فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ، وَالثَّانِي: إيقَاعُ فِعْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَمَّا ضَارَعَ الْمُبَاحَ الْوَاجِبَ فِي الِاعْتِقَادِ; إذْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُوبُ الِاعْتِقَادِ بِحُكْمِ الشَّيْءِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ فِي إبَاحَةٍ أَوْ إيجَابٍ جَازَ أَنْ يَشْتَمِلَ قَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} على المباح والواجب

مطلب: لا يجوز الإعتراض على حكم القرآن بأخبار الأحاد

مطلب: لا يجوز الإعتراض على حكم القرآن بأخبار الأحاد وَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ حَالٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ قَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ ثَابِتٍ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ; لِأَنَّ لُزُومَ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَلَا يَجُوزُ تركه

مطلب: في وجوب فعل المكتوبات في جماعة

مطلب: في وجوب فعل المكتوبات في جماعة قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ غَيْرَ عَادِلٍ عَنْهَا، وَالثَّانِي: فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ

مطلب: في ستر العورة في الصلاة

مطلب: في ستر العورة في الصلاة قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ إنْ تَرَكَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ"، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ" "الصَّلَاةُ مُجْزِيَةٌ مَعَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَيُوجِبَانِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ وَالْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا اسْتِحْبَابٌ. وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَرْضِ سِتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْمَسْجِدِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ السَّتْرُ لِلصَّلَاةِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَسْجِدِ فَائِدَةٌ، فَصَارَ تَقْدِيرُهَا: خُذُوا زِينَتَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ سَتْرَهَا عَنْ النَّاسِ لَمَا خَصَّ الْمَسْجِدَ بِالذِّكْرِ; إذْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، فَأَفَادَ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ وُجُوبَهُ فِي الصَّلَاةِ إذْ كَانَتْ الْمَسَاجِدُ مَخْصُوصَةً بِالصَّلَاةِ. وَأَيْضًا لَمَّا أَوْجَبَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَرْضُ السَّتْرِ فِي الصَّلَاةِ إذَا فَعَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا وَجَبَ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَجَبَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ فُعِلَتْ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ السُّجُودِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] وَالْمُرَادُ السُّجُودُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لُزُومَ السَّتْرِ عِنْدَ السُّجُودِ، وَإِذَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ لَزِمَ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا; رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقِيلَ إنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يطوفون بالبيت عراة لأن

مطلب: في بطلان قول من يدعي العلم ببقاء مدة الدنيا

مطلب: في بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِبَقَاءِ مُدَّةِ الدنيا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِبَقَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَيَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ وَقْتُ قِيَامِ السَّاعَةِ مَعْلُومًا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَهَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بَغْتَةً لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْبَغْتَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي بَقَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِيهَا تَحْدِيدٌ لِلْوَقْتِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: "بُعِثْت وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَنَحْوُ قَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ قَالَ: "أَلَا إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى إلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَغِيبَ". وَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشمس" ونحوها من الأخبار ليس

مطلب: في العفو والأمر بالمعروف

مطلب: فِي الْعَفْوِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. قَوْله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ

باب القراءة خلف الإمام

بَابُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال أبو

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدخل ... سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا يَصِلُ إلَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَتَاعٍ، فَذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضُمُّهُ حَيْثُ يَشَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْأَنْفَالَ الْخُمُسُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ السَّرَايَا الَّتِي تَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْجَيْشِ الْأَعْظَمِ. وَالنَّفَلُ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ وَهِيَ التَّطَوُّعُ; وَهُوَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ: لَكُمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ الرُّبُعُ حِيزَ مِنْ الْجَمِيعِ قَبْلَ الْخُمُسِ، أَوْ يَقُولَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّضْرِيَةِ عَلَى الْعَدُوِّ; أَوْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَأَمَّا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ نَصِيبِ الْجَيْشِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ الْخُمُسِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أَصَبْت يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفًا، فَأَتَيْت بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ: "ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أخذت" فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} . قَالَ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "اذْهَبْ وَخُذْ سَيْفَك" وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قَالَ: "الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ الَّتِي كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [لأنفال:41] الْآيَةَ; قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي بِذَلك سُلَيْمَانُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرهمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْفَالًا مُخْتَلِفَةً وَقَالَ: "مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ" فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ مَا قُلْنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ حَمَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، قَالَ: فَلَمَّا اخْتَلَفْنَا وَسَاءَتْ أَخْلَاقُنَا انْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا فَجَعَلَهُ إلى رسوله فقسمه عن الخمس،

الكلام في الفرار من الزحف

الْكَلَامُ فِي الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} رَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: "لِأَنَّهُمْ لَوْ انْحَازُوا يَوْمَئِذٍ لَانْحَازُوا إلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمٌ غَيْرُهُمْ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو نَضْرَةَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَكُونُ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّهَا الْعِيرُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ خَفَّ مَعَهُ. فَقَوْلُ أَبِي نَضْرَةَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ غَيْرَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَوْ انْحَازُوا انْحَازُوا إلَى الْمُشْرِكِينَ غَلَطٌ لِمَا وَصَفْنَا. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ الِانْحِيَازُ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ الِانْحِيَازُ جَائِزًا لَهُمْ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَخْذُلُوا نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَيُسْلِمُوهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِهِ وَعَصَمَهُ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

الكلام في قسمة الغنائم

الْكَلَامُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقال في آية

ذكر الخلاف فيه

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "لَا نَفَلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ إنَّمَا النَّفَلُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ} . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ". قَالَ الشَّيْخُ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ النَّفَلِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَقَدْ رَوَى حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ فِي بَدْأَتِهِ الرُّبُعَ وَفِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ. فَأَمَّا التَّنْفِيلُ فِي الْبَدْأَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثُ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُصِيبُ السَّرِيَّةَ فِي الرَّجْعَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَا أَصَبْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَلَكُمْ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَفْظِ عُمُومٍ فِي سَائِرِ الْغَنَائِمِ وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ لِلسَّرِيَّةِ فِي الرَّجْعَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ فِي الرَّجْعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا جَعَلَهُ فِي الْبَدْأَةِ; لِأَنَّ فِي الرَّجْعَةِ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِ الْغَنَائِمِ وَإِحْرَازِهَا وَيَكُونُ مِنْ حَوَالَيْهِمْ الْكُفَّارُ مُتَأَهِّبِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ لِانْتِشَارِ الْخَبَرِ بِوُقُوعِ الْجَيْشِ إلَى أَرْضِهِمْ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: ذُكِرَ فِي حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْت; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ الْخُمُسُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَهْلِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى خُمُسٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَلَمَّا احْتَمَلَ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إذْ كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ يَقْتَضِي إيجَابَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ اقْتِضَاءَهُ إيجَابَ الْخُمُسِ لِأَهْلِهِ الْمَذْكُورِينَ، فَمَتَى أُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْجَمِيعِ فِيهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ شيء منها

مطلب: في سلب القتيل

مطلب: في سلب القتيل وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "السَّلَبُ مِنْ غَنِيمَةِ الْجَيْشِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فله سلبه". وقال الأوزاعي والليث

مطلب: إذا قال الأمير من أصاب شيئا فهو له

مطلب: إذا قال الأمير من أصاب شيئا فهو له وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمِيرِ إذَا قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "هُوَ كَمَا قَالَ وَلَا خُمُسَ فِيهِ"، وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ لِأَنَّهُ قِتَالٌ بِجُعْلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُخَمِّسُ مَا أَصَابَهُ إلَّا سَلَبَ الْمَقْتُولِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ وَجَبَ أَنْ لَا خُمُسَ فِيهِ وَأَنْ يَجُوزَ قَطْعُ حُقُوقِ أَهْلِ الْخُمُسِ عَنْهُ كَمَا جَازَ قَطْعُ حُقُوقِ سَائِرِ الْغَانِمِينَ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئَا فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ فِي السَّلَبِ الْخُمُسُ إذَا قَالَ الْأَمِيرُ ذَلِكَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْغَنِيمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تعالى إنما أوجب

مطلب: فيمن دخل دار الحرب مغيرا بغير إذن الإمام

مطلب: فيمن دخل دار الحرب مغيرا بغير إذن الإمام وَاخْتُلِفَ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ وَحْدَهُ مُغِيرًا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "مَا غَنِمَهُ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً وَلَا خُمُسَ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ". وَلَمْ يَحُدَّ مُحَمَّدٌ فِي الْمَنَعَةِ شَيْئَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إذَا كَانُوا تِسْعَةً فَفِيهِ الْخُمُسُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يُخَمِّسُ مَا أَخَذَهُ وَالْبَاقِي لَهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إنْ شَاءَ الْإِمَامُ عَاقَبَهُ وَحَرَمَهُ وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَ مَا أَصَابَ وَالْبَاقِي لَهُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْغَانِمُونَ جَمَاعَةً; لِأَنَّ حُصُولَ الْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ شَرْطٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وَ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:29] فِي لُزُومِ قَتْلِ الْوَاحِدِ عَلَى حِيَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ جَمَاعَةٌ إذَا كَانَ مُشْتَرِكًا; لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ الْجَمَاعَةِ لَا يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْجَمِيعِ; إذْ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهُوَ حُصُولُ الْغَنِيمَةِ لَهُمْ وَبِقِتَالِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إنْ كَلَّمْت هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةَ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودُ الْكَلَامِ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ بَعْضِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْجَيْشَ إذَا غَنِمُوا لَمْ يُشَارِكْهُمْ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ حِيَازَةُ الْغَنِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُغِيرُ وَحْدَهُ اسْتَحَقَّ مَا غَنِمَهُ، وَأَمَّا الْخُمُسُ فَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِظَهْرِ الْمُسْلِمِينَ وَنُصْرَتِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا فِئَةً لِلْغَانِمِينَ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَحْدَهُ مُغِيرًا فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ نُصْرَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ عَاصٍ لَهُ دَاخِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْخُمُسَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الرِّكَازِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ: لَمَّا كَانَ الْمَوْضِعُ مَظْهُورًا عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ وَلَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْخُمُسُ. وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ خُمِّسَ مَا غَنِمَ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ ضَمِنَ نُصْرَتَهُ وَحِيَاطَتَهُ، وَالْإِمَامُ قَائِمٌ مَقَامَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَحَقَّ لَهُمْ الْخُمُسُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغِيرُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ السَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ، لِحُصُولِ الْمَنَعَةِ لَهُمْ وَلِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِ الخمس من غنائمهم.

مطلب: في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة

مطلب: فِي الْمَدَدِ يَلْحَقُ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قبل إحراز الغنيمة وَاخْتُلِفَ فِي الْمَدَدِ يَلْحَقُ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا غَنِمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ جَيْشٌ آخَرُ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِيهَا". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُشَارِكُونَهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهَا الْحَقُّ بِالْإِحْرَازِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَحُصُولُهَا فِي أَيْدِيهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُثْبِتُ لَهُمْ فِيهَا حَقًّا; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْجَيْشُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مَغْنُومًا إذَا لَمْ يَفْتَتِحُوهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا ثُمَّ دَخَلَ جَيْشٌ آخَرُ فَفَتَحُوهَا لَمْ يَصِرْ الْمَوْضِعُ الَّذِي صَارَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ مِلْكًا لَهُمْ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ غَيْرِهِ مِنْ بِقَاعِ أَرْضِ الْحَرْبِ؟ وَلِلْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ إلَّا بِالْحِيَازَةِ فِي دَارِنَا، فَإِذَا لَحِقَهُمْ جَيْشٌ آخَرُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حُكْمُ مَا أَخَذُوهُ حُكْمَ مَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِيهِ. وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَنِيمَةً لِجَمِيعِهِمْ; إذْ بِهِمْ صَارَ مُحْرَزًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعُونَةِ هَؤُلَاءِ فِي إحْرَازِهَا كَمَا لَوْ لَحِقُوهُمْ قَبْلَ أَخْذِهَا شَارَكُوهُمْ؟ وَلَوْ كَانَ حُصُولُهَا فِي أَيْدِيهِمْ يُثْبِتُ لَهُمْ فِيهَا حَقًّا قَبْلَ إحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَطِئَهُ الْجَيْشُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ افْتَتَحُوهَا لَصَارَتْ دَارًا لِلْإِسْلَامِ، وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الْجَيْشِ لِمَوْضِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجْعَلُهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ فِيهِ إلَّا بِالْحِيَازَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَقْسِمْ لِلْمَدَدِ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا فُتِحَتْ وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ اللِّيفُ، قَالَ أَبَانُ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْت: لَا تَقْسِمْ لَهُمْ شَيْئًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبَانُ: أَنْتَ بِهَذَا يَا وَتَرَ نَجْدٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْلِسْ يَا أَبَانُ" فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ; لِأَنَّ خَيْبَرَ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "مَا شَهِدْت لِرَسُولِ اللَّهِ مَغْنَمًا إلَّا قَسَمَ لِي إلَّا خَيْبَرَ فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً". فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ لأهل الحديبية خاصة

باب سهمان الخيل

بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْغَانِمِينَ وَقَدْ شَمِلَهُمْ هَذَا الِاسْمُ، أَلَا تَرَى إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] قَدْ عُقِلَ مِنْ ظَاهِرِهِ اسْتِحْقَاقُهُنَّ لِلثُّلُثَيْنِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِهَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرْ التَّفْضِيلَ، كَذَلِكَ مُقْتَضَى قَوْله تعالى: {غَنِمْتُمْ}

ذكر الخلاف في ذلك

ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ". وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْمُنْذِرِ بْن أَبِي حِمَّصَةَ عَامِلِ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا فَرَضِيَهُ عُمَرُ وَمِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بِخُرَاسَانَ وَقَدْ غَنِمُوا، فَقَالَ: جُعْلُ جَائِزَتِك أَنْ أَضْرِبَ لَك بِأَلْفِ سَهْمٍ، فَقَالَ: اضْرِبْ لِي بِسَهْمٍ وَلِفَرَسِي بِسَهْمٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَارِسِ بِسَهْمٍ فَضَّلْنَاهُ وَخَصَّصْنَا بِهِ لِلظَّاهِرِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَاهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ غَيْلَانَ الْعُمَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْجَرْجَرَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: لَمْ يَجِئْ بِهِ عَنْ الثَّوْرِيِّ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ" وَاخْتَلَفَ حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ بَدِيًّا سَهْمَيْنِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ ثُمَّ أَعْطَاهُ فِي غَنِيمَةٍ أُخْرَى ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَكَانَ السَّهْمُ الزَّائِدُ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ الْمُسْتَحِقَّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَا لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ عَلَى وَجْهِ النَّفَلِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ سَنَدِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ قَالَ: فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْكُمَيْتِ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صُبَيْحُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَهَذَا إنْ ثَبَتَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ; لِأَنَّ قِسْمَةَ يَوْمِ بَدْرٍ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلْجَيْشِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَنْفَالَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيَّرَهُ فِي إعْطَائِهِ مَنْ رَأَى، وَلَوْ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئَا لَكَانَ جَائِزًا فَلَمْ تَكُنْ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحِقَّةً يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بَعْدَ

باب قسمة الخمس

بَابُ قِسْمَةِ الْخُمُسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمُسِ فِي الْأَصْلِ، فَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَتْ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ; فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَرُبُعٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا، وَالرُّبُعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبُعُ الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبُعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: "يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ خُمُسٌ، وَلِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسٌ، وَلِلْيَتَامَى خُمُسٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ خُمُسٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ خُمُسٌ". وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ الرَّسُولِ وَاحِدٌ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: "هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لَيْسَ لِلَّهِ نَصِيبٌ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: "لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسُ الْخُمُسِ". وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ بَيْتِ اللَّهِ; ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيَكُونُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ وَلِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، وَاَلَّذِي جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ هُوَ السَّهْمُ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى". وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ الْخُمُسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جَعَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ". وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: "أَنَّ الْخُمُسَ الَّذِي كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، ثُمَّ قَسَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: "إنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ عَلَى أَرْبَعَةٍ سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ وَاحِدًا، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا". وَقَالَ آخَرُونَ:

باب الهدنة والموادعة

بَابُ الْهُدْنَةِ وَالْمُوَادَعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} والجنوح الميل، ومنه يقال:

باب الأسارى

بَابُ الْأُسَارَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} مِنْ الْفِدَاءِ ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ الْغَنَائِمَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بن موسى قال حدثنا عبد الله بن صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَعَجَّلَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا غَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} . وَرُوِيَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ شَاوَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالِاسْتِبْقَاءِ وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ وَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِالْإِحْرَاقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَثَلُ عِيسَى; إذْ قَالَ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ وَمَثَلُك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ; إذْ قَالَ: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وَمَثَلُ مُوسَى; إذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} الْآيَةَ، أَنْتُمْ عَالَةٌ فَلَا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ". فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْإِسْلَامَ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ "إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك فَقَالَ: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ

باب التوارث بالهجرة

بَابُ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} الْآيَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنا

سورة براءة

سورة براءة مدخل ... سُورَةُ بَرَاءَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبَرَاءَةُ هِيَ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ وَارْتِفَاعُ الْعِصْمَةِ، وَزَوَالُ الْأَمَانِ. وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ; وَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ فِي "إلَى" فَاقْتَضَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ، وَرَفْعَ الْأَمَانِ، وَإِعْلَامَ نَصْبِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [لأنفال:58] فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْبَرَاءَةِ نَبْذًا إلَيْهِمْ وَرَفْعًا لِلْعَهْدِ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا فِيمَنْ أَضْمَرُوا الْخِيَانَةَ وَهَمُّوا بِالْغَدْرِ، وَكَانَ حُكْمُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يُرْفَعَ الْعَهْدُ فِي حَالِ ذِكْرِ ذَلِكَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا النَّبْذَ إلَيْهِمْ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ عَهْدَ ذَوِي الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْهُمْ بَاقٍ إلَى آخِرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ; قَالَ الْحَسَنُ: فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حُطَّ إلَيْهَا. وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَقَلَّ رُفِعَ إلَيْهَا. وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْعَهْدِ أَوَّلُهَا مِنْ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرٌ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ; لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَرَأَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى النَّاسِ بِمَكَّةَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ صَارَ الْحَجُّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَّتَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَجِّ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ، فَاتَّفَقَ عَوْدُ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَدِيًّا عَلَى إبْرَاهِيمِ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ: "أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" فَثَبَتَ الْحَجُّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالنَّحْرُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْهُ; فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي جَعَلَهَا لِلسِّيَاحَةِ، وَقَطَعَ بِمُضِيِّهَا عِصْمَةَ المشركين وعهدهم.

مطلب: فيما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالذين امتنعوا من أداء الزكاة

مطلب: فيما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالذين امتنعوا من أداء الزكاة وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ سَبَتْ ذَرَارِيَّ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقَتَلَتْ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ الْتِزَامِ الزَّكَاةِ وَقَبُولِ وُجُوبِهَا فَكَانُوا مُرْتَدِّينَ بِذَلِكَ; لِأَنَّ مِنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَجْرَى حُكْمَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ حِينَ قَاتَلُوهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ مَا رَوَى مَعْمَرٍ عن

مطلب: يجب علينا بيان دلائل التوحيد والرسالة وتعليم أمور الدين

مطلب: يجب علينا بيان دلائل التوحيد والرسالة وتعليم أمور الدين قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ أَمَانِ الْحَرْبِيِّ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا لِيَسْمَعَ دَلَالَةَ صِحَّةِ الإسلام; لأن قوله: {اسْتَجَارَكَ} معناه: استأمنك، وقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ} مَعْنَاهُ: فَأَمِّنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا طَلَبَ مِنَّا إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَبَيَانَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ حتى يعتقدهما

مطلب: يجب على الإمام حفظ أهل الذمة

مطلب: يجب على الإمام حفظ أهل الذمة وقوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ هَذَا الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَجِيرِ، وَحِيَاطَتَهُ وَمَنْعَ النَّاسِ مِنْ تَنَاوُلِهِ بشر، لقوله: {فَأَجِرْهُ} وقوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمَنْعَ مِنْ أَذِيَّتِهِمْ، وَالتَّخَطِّي إلَى ظُلْمِهِمْ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِيهَا إلَّا بِمِقْدَارِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} فَأَمَرَ بِرَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ سَمَاعِهِ كَلَامَ اللَّهِ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُقِيمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا سَبَبٍ يُوجِبُ إقَامَتَهُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ ذِمِّيًّا، وَوُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ. قَوْله تَعَالَى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ يَذْكُرُ قَطْعَ الْعَهْدِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَغَدَرُوا وَأَسَرُّوا وَهَمُّوا بِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالنَّبْذِ إلَيْهِمْ ظَاهِرًا، وَفَسَخَ لَهُمْ فِي مُدَّةٍ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً فِي أَنْ لَا يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ، وَأَنْ لَا يُقَاتِلُوا، وَلَا يَقْتُلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمًا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ خَاصٌّ، وَلَمْ يَغْدِرُوا، وَلَمْ يَهُمُّوا بِهِ فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوهُمْ، وَلَمْ يُعَاوِنُوا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إلَى مُدَّتِهِمْ، وَأَمَرَ بِالنَّبْذِ إلى الأولين، وهم أحد

مطلب: في حكم من شتم النبي صلى الله عليه وسلم

مطلب: في حكم من شتم النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ"، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ شَتَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى "قتل إلا أن

مطلب: في حجة الإجماع

مطلب: فِي حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَقَوْلِهِ: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} يَقْتَضِي لُزُومَ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكَ الْعُدُولِ عَنْهُمْ كَمَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] ، وَالْوَلِيجَةُ الْمَدْخَلُ، يُقَالُ: وَلَجَ إذَا دَخَلَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ غَيْرُ مَدْخَلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُقَالُ إنَّ الْوَلِيجَةَ بِمَعْنَى الدَّخِيلَةِ وَالْبِطَانَةِ، وَهِيَ مِنْ الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى هَذَا فَقَدْ دَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُخَالَطَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُدَاخَلَتِهِمْ وَتَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَمَا قَالَ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] . قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ تَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَارَتُهُ، وَالْكَوْنُ فِيهِ، وَالْآخَرُ: بِبِنَائِهِ وَتَجْدِيدِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اعْتَمَرَ إذَا زَارَ، وَمِنْهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَفُلَانٌ مِنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُضِيِّ إلَيْهَا وَالسُّكُونِ فِيهَا، وَفُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ إذَا أَكْثَرَ غَشَيَانَهُ لَهُ. فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ مَنْعَ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ بِنَائِهَا وَتُوَلِّي مَصَالِحِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا لِانْتِظَامِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} فِيهِ نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَنُصْرَتِهِمْ وَالِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ وَتَفْوِيضِ أُمُورِهِمْ إلَيْهِمْ وَإِيجَابِ التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَتَرْكِ تَعْظِيمِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، وَسَوَاءٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْأَبِ الْكَافِرِ، وَصُحْبَتِهِ بالمعروف

مطلب: هل يجوز دخول المشرك المسجد

مطلب: هل يجوز دخول المشرك المسجد وقَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} قَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَدْخُلُ الْمُشْرِكُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" قَالَ مَالِكٌ: "وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا لِحَاجَةٍ مِنْ نَحْوِ الذِّمِّيِّ يَدْخُلُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْخُصُومَةِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَدْخُلُ كُلَّ مَسْجِدٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ"، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ، وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ، وَكَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَامِ الَّذِي نَبَذَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية، وفي حديث

باب أخذ الجزية من أهل الكتاب

بَابُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ إظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ بِالنُّشُورِ وَالْبَعْثِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْرِي حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي النَّارِ، وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُرَادُهُ حُكْمُ يَوْمِ الْآخِرِ، وَقَضَاؤُهُ فِيهِ، كَمَا تَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ، وَالْمُرَادُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فِيهِ إنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِهِ فِي عِظَمِ الْجُرْمِ، كَمَا إنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ. وَقِيلَ: أَيْضًا: لَمَّا كَانَ إقْرَارُهُمْ عَنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيمَانًا، وَأَكْثَرُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} فَإِنَّ دِينَ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] وَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالدِّينُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الطَّاعَةُ، وَمِنْهَا الْقَهْرُ، وَمِنْهَا الْجَزَاءُ; قَالَ الْأَعْشَى: هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اذ كرهوا الدين ... دراكا بغزوة وصيال

مطلب: في تفسير دين الحق

مَطْلَبٌ: فِي تَفْسِيرِ دِينِ الْحَقِّ وَدِينُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ دِينِ الْحَقِّ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا طَائِعِينَ لَهُ لِجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُمْ يَدِينُونَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ مُنْقَادِينَ لَهُ. قِيلَ: لَهُ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ نَبِيُّنَا، وَأُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ، وَهُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بِذَلِكَ بَلْ تَارِكُونَ لَهُ، فَهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ دِينَ الْحَقِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَدْ نُسِخَتْ، وَالْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ ضَلَالٌ فَلَيْسَ هُوَ إذًا دِينَ الْحَقِّ. وَأَيْضًا فَهُمْ قَدْ غَيَّرُوا الْمَعَانِيَ وَحَرَّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَأَزَالُوهَا إلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ دُونَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمْ غير دائنين دين الحق.

مطلب: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى

مطلب: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156] فَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ طَائِفَتَانِ; وَقَدْ بيناه فيما سلف.

مطلب: في الصابئين وفي بعض فرق النصارى

مطلب: في الصابئين وفي بعض فرق النصارى وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا فِي حُكْمِ الصَّابِئِينَ، وَهَلْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَمْ لَا، وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بِنَوَاحِي كَسْكَرَ وَالْبَطَائِحَ، وَهُمْ فِيمَا بَلَغْنَا صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى، وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِيَانَاتِهِمْ; لِأَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ الْمَرْقُونِيَّةُ والْآرْيُوسِيَّةُ، وَالْمَارُونِيَّةُ، وَالْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنْ النَّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلْكِيَّةِ، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ يَبْرَءُونَ مِنْهُمْ، وَيُحَرِّمُونَهُمْ، وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَشِيثٌ، وَيَنْتَحِلُونَ كُتُبًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى شِيثِ بْنِ آدَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا،, وَالنَّصَارَى تُسَمِّيهِمْ يُوحَنَّاسِيَّةَ; فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ يَجْعَلُهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُبِيحُ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَمُنَاكَحَةَ نِسَائِهِمْ. وَفِرْقَةٌ أُخْرَى قَدْ تَسَمَّتْ بِالصَّابِئِينَ، وَهُمْ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَلَا يَنْتَمُونَ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ النِّحْلَةَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَعْلِهِ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مُرَادِهِ الْفِرْقَةَ الْأُولَى. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ

وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: "إنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ" وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ التَّابِعِينَ. وَرَوَى هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَهُ رَجُلٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّابِئِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ كُنْت أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ؟ وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْقَاسِمِ بْن أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّابِئِينَ أَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ وَطَعَامُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ حِلٌّ لِلْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ"، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْجِزْيَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السيف، وَتُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ، وَمِنْ سَائِرِ كُفَّارِ الْعَجَمِ الْجِزْيَةُ". وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "أَنَّهُ تُقْبَلُ مِنْ الْجَمِيعِ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ" وَقَالَ مَالِكٌ فِي الزِّنْجِ، وَنَحْوِهِمْ: "إذَا سُبُوا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ عَلَى الصَّلَاةِ،, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْعَرَبُ لَا يُسْبَوْنَ، وَهَوَازِنُ سُبُوا ثُمَّ تَرَكَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} يَقْتَضِي قَتْلَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ عُمُومَهُ مَقْصُورٌ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [لحج:17] فَعَطَفَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ يَخْتَصُّ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ النَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ، وَالصَّابِئِينَ مُشْرِكِينَ; وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ أَشْرَكَتْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةَ الْمَسِيحِ، وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا مُغَالِبًا، وَالصَّابِئُونَ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْآخَرُ لَا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَلَكِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فِي وُجُوهٍ أُخَرُ، إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، فَلَمْ يوجب قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلَّا قَتْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى الشِّرْكِ مَوْجُودًا فِي مَقَالَاتِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنْ النَّصَارَى

وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ فَقَدْ انْتَظَمَهُمْ اللَّفْظُ، وَلَوْلَا وُرُودُ آيَةِ التَّخْصِيصِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُّوا مِنْ الْجُمْلَةِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ مَحْمُولُونَ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ إقْرَارِ الْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في ذلك أَخْبَارٌ، وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ مُجَالِدًا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ". وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزَ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُنْذِرِ "أَنَّهُ مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتِنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَجُوسِ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ" وَرَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ لَهُمْ امْرَأَةٌ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَكَّارَ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عِمْرَانَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ: أَمَّا بَعْدُ فَاسْأَلْ الْحَسَنَ مَا مَنَعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَجْمَعُهُنَّ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ؟ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ الْجِزْيَةَ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَجُوسِيَّتِهِمْ، وَعَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَفَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ. وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ السَّوَادِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ أَخَذَهَا مِنْ بَرْبَرَ. وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ. وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ أَخْذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ السَّوَادِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا أَخَذَهَا لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ، وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَأَهْلَ عِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ فَنُزِعَ ذَلِكَ مِنْ صُدُورِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا

أَهْلَ كِتَابٍ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِنَّهُ إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ نُزِعَ مِنْ صُدُورِهِمْ، فَإِذًا لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْن مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ: "إنَّ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ لَهُمْ امْرَأَةٌ"، وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَجَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا ثَبَتَ أَخْذُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِهَا مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ أَهْلَ كِتَابٍ كَانُوا أَوْ غَيْرَ أَهْلِ كِتَابٍ إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَهَذَا فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ سِوَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَدِيثُ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: "إذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ". وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَخَصَّصْنَا مِنْهُمْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالْآيَةِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ.

بَابُ حُكْمُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَنْتَحِلُونَ نِحْلَتَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَسِّكِينَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَوَلَّى قَوْمًا مِنْهُمْ فِي حُكْمِهِمْ; وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ: إنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وَذَلِكَ حِينَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: "أَمَا تَقُولُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ " فَقَالَ: إنَّ لِي دِينًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْك أَلَسْت رَكُوسِيًّا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك" فَنَسَبَهُ إلَى صِنْفٍ مِنْ النَّصَارَى مَعَ إخْبَارِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَسِّكٍ بِهِ بِأَخْذِهِ الْمِرْبَاعَ، وَهُوَ رُبْعُ الْغَنِيمَةِ، وَالْغَنِيمَةُ غَيْرُ مُبَاحَةٍ فِي دِينِ النَّصَارَى، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ انْتِحَالَ بَنِي تَغْلِبَ لِدِينِ النَّصَارَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَبَ أَخْذُ الجزية منهم.

وَالْجِزْيَةُ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا، وَمَهْمَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ اسْمَ الْجِزْيَةِ يَتَنَاوَلُهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ: "فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَلَوْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَكَانَ الْعِتْقُ قَدْ أَضَرَّ بِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْئًا"، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي بَنِي تَغْلِبَ شَيْئًا. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ السَّفَّاحِ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَدْ عَلِمْت شَوْكَتَهُمْ، وَأَنَّهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَإِنْ ظَاهَرُوا عَلَيْك الْعَدُوَّ اشْتَدَّتْ مُؤْنَتُهُمْ; فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْطِيَهُمْ شَيْئًا فَافْعَلْ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَتُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ; قَالَ: وَكَانَ عُمَارَةُ يَقُولُ: قَدْ فَعَلُوا فَلَا عَهْدَ لَهُمْ. وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ الشَّائِعُ عَمَلًا، وَهُوَ مِثْلُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِينَ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي عَقَدَهَا عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي نَفَاذِهَا وَجَوَازِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ بَقِيَتْ لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ لَأَقْتُلَنَّ الْمُقَاتِلَةَ، وَلَأَسْبِيَنَّ الذُّرِّيَّةَ وَذَلِكَ أَنِّي كَتَبْت الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْ عَلِيًّا فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَانْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُهُمْ، وَثَبَتَ بِهِ اتِّفَاقُهُمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَعْتَقِدُ عَلَيْهِمْ أَوَّلُهُمْ"، وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ جَوَازُ عُقُودِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ عَلَى الْأُمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَنَا الِاقْتِصَارُ بِهِمْ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ، وَإِعْفَاؤُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ. قِيلَ لَهُ: الْجِزْيَةُ لَيْسَ لَهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ وَعُقُوبَةٌ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَزَاءُ لَا يَخْتَصُّ بِمِقْدَارٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ هُوَ عِنْدَنَا جِزْيَةٌ لَيْسَتْ بِصَدَقَةٍ، وَتُوضَعُ مَوَاضِعَ الْفَيْءِ; لِأَنَّهُ لَا صَدَقَةَ لَهُمْ، إذْ كَانَ سَبِيلُ الصَّدَقَةِ وُقُوعَهَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَلَا قُرْبَةَ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ بَنُو تَغْلِبَ: نُؤَدِّي الصَّدَقَةَ مُضَاعَفَةً، وَلَا نَقْبَلُ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ عِنْدَنَا جِزْيَةٌ، وَسَمُّوهَا أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ. فَأَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّهَا جِزْيَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَأْخُوذًا مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَزَرْعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ جِزْيَةً لَمَا أُخِذَتْ مِنْ نِسَائِهِمْ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ. قِيلَ: لَهُ: يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه أمر بعض

أُمَرَائِهِ عَلَى بَعْضِ بُلْدَانِ الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تُؤْخَذُ مِنْ مَوَالِي بَنِي تَغْلِبَ إذْ كَانُوا كُفَّارًا الْجِزْيَةُ، وَلَا تُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الْحُقُوقُ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ; لِأَنَّ عُمَرَ إنَّمَا صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمَوَالِيَ، فَمَوَالِيهِمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ سَائِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَخْذِ جِزْيَةِ الرُّءُوسِ مِنْهُمْ عَلَى الطَّبَقَاتِ الْمَعْلُومَةِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونُوا فِي حُكْمِ مَوَالِيهِمْ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا لَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَوْلَاهُ فِي بَابِ سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" قِيلَ: لَهُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الِانْتِسَابِ إلَيْهِمْ، نَحْوُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ يُسَمَّى هَاشِمِيًّا، وَمَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ يُسَمَّى تَمِيمِيًّا، وَفِي النُّصْرَةِ وَالْعَقْلِ كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُ ذَوُو الْأَنْسَابِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: "مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ" وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُمْ فِي إيجَابِ الْجِزْيَةِ وَسُقُوطِهَا. وَأَمَّا شَرْطُ عُمَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَصْبُغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ إذَا أَرَادُوا الْإِسْلَامَ، فَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَوْلَادَهُمْ الْإِسْلَامَ إذَا أَرَادُوهُ.

مطلب: في محاورة الرشد مع محمد بن الحسن وَقَدْ حَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَكْرَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إذْ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ، فَقَامَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مُعْتَلَّ الْقَلْبِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَامَ وَدَخَلَ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ، فَأَمْهَلَ الرَّشِيدُ يَسِيرًا ثُمَّ خَرَجَ الْإِذْنُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَجَزِعَ أَصْحَابُهُ لَهُ، فَأُدْخِلَ فَأُمْهِلَ ثُمَّ خَرَجَ طَيِّبَ النَّفْسِ مَسْرُورًا، قَالَ: قَالَ لِي: مَا لَك لَمْ تَقُمْ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَ: كَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ عَنْ الطَّبَقَةِ الَّتِي جَعَلْتنِي فِيهَا، إنَّك أَهَّلَتْنِي لِلْعِلْمِ فَكَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ إلَى طَبَقَةِ الْخِدْمَةِ الَّتِي هِيَ خَارِجَةٌ مِنْهُ، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمِيلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"، وَإِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءَ، فَمَنْ قَامَ بِحَقِّ الْخِدْمَةِ، وَإِعْزَازِ الْمَلِكِ فَهُوَ هَيْبَةٌ لِلْعَدُوِّ، وَمَنْ قَعَدَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الَّتِي عَنْكُمْ أُخِذَتْ فَهُوَ زَيْنٌ لَكُمْ، قَالَ: صَدَقْت يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ شَاوَرَنِي فَقَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرُوا أَوْلَادَهُمْ، وَقَدْ نَصَرُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَحَلَّتْ بِذَلِكَ دِمَاؤُهُمْ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: قُلْت: إنَّ عُمَرَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَصَرُوا أَوْلَادَهُمْ بَعْدَ عُمَرَ، وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَمِّك. وَكَانَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَيْك، وَجَرَتْ بِذَلِكَ السُّنَنُ، فَهَذَا صُلْحٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَلَا شَيْءَ يَلْحَقُك فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَشَفْت لَك الْعِلْمَ

وَرَأْيُك أَعْلَى، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا نُجْرِيهِ عَلَى مَا أَجْرَوْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، إنَّ اللَّه جل اسمه أمر نبيه بالمشورة تمام المايه1 الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ، فَكَانَ يُشَاوِرُ فِي أَمْرِهِ فَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلَيْك بِالدُّعَاءِ لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَك، وَمُرْ أَصْحَابَك بِذَلِكَ، وَقَدْ أَمَرْت لَك بِشَيْءٍ تُفَرِّقُهُ عَلَى أَصْحَابِك. قَالَ: فَخَرَجَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَفَرَّقَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي إقْرَارِ الْخُلَفَاءِ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَبْغِهِمْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ النَّصَارَى، فَلَا تَخْلُو مُصَالَحَةُ عُمَرَ إيَّاهُمْ أَنْ لَا يَصْبِغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إذَا أَرَادُوا الْإِسْلَامَ، أَوْ أَنْ لَا يُنْشِئُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ صِغَرِهِمْ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ التَّابِعِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَيَصِيرُوا بِهِ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَخَالِعِينَ لِلذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِي فَإِنَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَقْتُلُوهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْعَبْدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، فَتَرْكٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُعْتَقُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَوْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَكَانَ العتق قد أضر به ولم ينفعه شيئا" فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ فِي حَالِ الرِّقِّ إنَّمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْجِزْيَةُ لِأَنَّ مَالَهُ لِمَوْلَاهُ، وَالْمَوْلَى الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، وَالْجِزْيَةُ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِذَا عَتَقَ وَمَلَكَ الْمَالَ وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ، وَأَخَذْنَا الْجِزْيَةَ مِنْهُ لَمْ يَسْلُبْهُ مَنَافِعَ الْعِتْقِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَأَمْرِهِ عَنْهُ وَتَمْلِيكِهِ سَائِرَ أَمْوَالِهِ. وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَالِهِ قَدْ حَقَنَ بِهَا دَمَهُ فَمَنْفَعَةُ الْعِتْقِ حَاصِلَةٌ له.

_ 1 قوله: "تمام المايه" هكذا في بعض النسخ وفي بعضها: "تمام المايه خلق" ولم أفهم معناه والظاهر من إشكال العبارة أنه تحريف ولعل صحيحه: "تماما لما به من الأخلاق" فليحرر. "لمصححه".

بَابُ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحَوَى الْآيَةِ، وَمَضْمُونِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، إذْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَاتِلًا لِصَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَمَنْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَرِفِينَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ

الْقِتَالِ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَنْ كَانَ أَعْمَى أَوْ زَمِنًا أَوْ مَفْلُوجًا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا فَانِيًا، وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ; وَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا كَانُوا مُوسِرِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ: قُلْت: أَرَأَيْت أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ حِرْفَةٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنَّمَا يُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْمُعْتَمِلِ مِنْهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّصْرَانِيِّ يَكْتَسِبُ، وَلَا يَفْضُلُ لَهُ شَيْءٌ عَنْ عِيَالِهِ: "إنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِخَرَاجِ رَأْسِهِ". وَقَالُوا فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، وَالسَّيَّاحِينَ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ: فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِطُونَ النَّاسَ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ إذْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. وَرَوَى أَيُّوبُ وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَلَا يَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَلَا يَقْتُلُوا إلَّا مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَكَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ، وَلَا يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي. وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ أَبِي، وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أو عدله من المعافر"

مطلب في مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَلَمْ تَكُنْ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "عَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ سَوَاءٌ لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْخَرَاجَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى مَا وَرَاءِ دِجْلَةَ وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مَا دُونَ دِجْلَةَ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَهُمَا: كَيْفَ وَضَعْتُمَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؟ قَالَا: وَضَعْنَا عَلَى كُلِّ رِجْلٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا؟ قَالَا: إنَّ لَهُمْ فُصُولًا فَذَكَرَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ ثَمَانِيَةً، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يُفَصِّلْ الطَّبَقَاتِ، وَذَكَرَ حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ تَفْصِيلَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ما

فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَكْثَرُ مَا وَضَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ مَا عَلَى الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا دُونَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مَعَ أَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا نَحْوُ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ الْأَرْبَعِينَ يَفِي ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلُ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَبَيَانِ حُكْمِ كُلِّ طَبَقَةٍ; وَلِأَنَّ مَنْ وَضَعَهَا عَلَى الطَّبَقَاتِ فَهُوَ قَائِلٌ بِخَبَرِ الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ، وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ فَهُوَ تَارِكٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ تَمْيِيزِ الطَّبَقَاتِ، وَتَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمِقْدَارٍ مِنْهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِدِينَارٍ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ، وَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ جِزْيَةُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ إلَّا أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُعَاذٍ، وَهُوَ بِالْيَمَنِ: "إنَّ فِي الْحَالِمِ وَالْحَالِمَةِ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ". قَالَ أَبُو عُبَيْدُ: وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: "إنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَعَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ دِينَارٌ أَوْ قِيمَتُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ"، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرَضِينَ جُعِلَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّاقَةِ، وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِي الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا، فَجَعَلَ عَلَى بَعْضِهَا قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَعَلَى بَعْضِهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى بَعْضِهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ خَرَاجِ الرُّءُوسِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاقَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ لِحُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا أَهْلَ الْأَرْضِ مَا لَا يُطِيقُونَ؟ فَقَالَا: بَلْ تَرَكْنَا لَهُمْ فَضْلًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمِقْدَارِ الطَّاقَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِبَارَ حَالَيْ الْإِعْسَارِ، وَالْيَسَارِ. وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى مِقْدَارِ الِاحْتِمَالِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى وَظِيفَةِ عُمَرَ، وَيَجُوزُ النُّقْصَانُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ. وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ يَقُولُ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: وَاَللَّهِ لَئِنْ وَضَعْت عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَعَلَى كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمَيْنِ لَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يجهدهم قال:

وَكَانَتْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ فَجَعَلَهَا خَمْسِينَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الزِّيَادَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ بِهِ رِوَايَةٌ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى أَبُو الْيَمَانِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلٍّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ، وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ ذَاهِبٌ مِنْ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَا رَأَى مِنْ احْتِمَالِهِمْ لَهُ، كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: سَأَلْت مُجَاهِدًا: لِمَ وَضَعَ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ مِنْ الْجِزْيَةِ أَكْثَرَ مِمَّا، وَضَعَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ؟ قَالَ: لِلْيَسَارِ

فِي تَمْيِيزِ الطَّبَقَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: "تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الطَّبَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْت ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ عَلَى الْمُوسِرِ مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الصَّنْعَةِ، وَالتَّاجِرِ وَالْمُعَالِجِ وَالطَّبِيبِ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهُمْ صَنْعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَلَى الْمُوسِرِ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ، مَنْ احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمَنْ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَاثْنَا عَشَرَ عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وَالْإِسْكَافِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ". فَلَمْ يَعْتَبِرْ الْمِلْكَ، وَاعْتَبَرَ الصِّنَاعَاتِ، وَالتِّجَارَاتِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ مِنْهُمْ. وَذَكَرَ عَلِيٌّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَزَى ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّبَقَةَ الْأُولَى مَنْ يَحْتَرِفُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ الْفُقَرَاءُ الْمُحْتَرِفُونَ، فَمَنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، قَالَ: وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَبْلُغَ مَالُ الرَّجْعِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا زَادَ إلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ; لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَنِيٌّ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ طِبْقَةِ الْفُقَرَاءِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذْنَا اعْتِبَارَ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ: "أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ كَثِيرٌ" قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ لِمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِي الضَّيْفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ صَفَائِحُ يُعَذَّبُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ هُوَ اجْتِهَادٌ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ صوابه. وقوله تعالى: {عَنْ يَدٍ} قَالَ قَتَادَةُ: "عَنْ قَهْرٍ" كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي الْيَدِ إلَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى اسْتِعْلَاءٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَهْرِهِمْ. وَقِيلَ: {عَنْ يَدٍ} يَعْنِي عَنْ يَدِ الْكَافِرِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَدَ لِيُفَارِقَ حَالَ الْغَصْبِ; لِأَنَّهُ يُعْطِيهَا بِيَدِهِ رَاضِيًا بها

حَاقِنًا بِهَا دَمَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يُعْطِيَهَا، وهو راض بها. ويحتمل: {عَنْ يَدٍ} عَنْ نِعْمَةٍ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ اعْتِرَافٍ مِنْهُمْ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا عَلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا منهم. وقال بعضهم: {عَنْ يَدٍ} يَعْنِي عَنْ نَقْدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَدًا بِيَدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: كُلُّ مَنْ أَطَاعَ الْقَاهِرَ بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَهْرٍ لَهُ مِنْ يَدٍ فِي يَدِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ. قَالَ: وَالصَّاغِرُ الذَّلِيلُ الحقير. وقوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْشُونَ بِهَا مُلَبِّبِينَ، وَقَالَ سَلْمَانُ1: مَذْمُومِينَ غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَقِيلَ: إنَّمَا كَانَ صَغَارًا لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِمْ يُؤْخَذُونَ بِهَا، وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّغَارُ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ قَائِمًا وَالْأَخْذُ جَالِسًا. وَقِيلَ: "الصَّغَارُ الذُّلُّ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الذِّلَّةُ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] وَالْحَبْلُ الذِّمَّةُ الَّتِي عَهِدَهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِيهِمْ. وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُتْعِبَ الْأَنْبَاطَ فِي الْجِزْيَةِ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَعْذِيبَهُمْ، وَلَا تَكْلِيفَهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِخْفَافَ بِهِمْ، وَإِذْلَالَهُمْ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى ضَيِّقِهِ" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُطَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَافِحُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى" فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ; وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] الْآيَةَ، وَقَالَ: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَإِكْرَامِهِمْ وَأَمَرَ بِإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ وَنَهَى عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِزِّ، وَعُلُوِّ الْيَدِ. وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] وَقَالَ: لَا تَرُدُّوهُمْ إلَى الْعِزِّ بَعْدَ إذْلَالِهِمْ مِنْ اللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِر} قَدْ اقْتَضَى وُجُوبَ قَتْلِهِمْ إلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ، فَغَيْرُ جائز على هذه القضية أن تكون

_ 1 قوله: "وقال سلمان" هو سلمان الفارسي رضي الله عنه صرح به أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط."لمصححه".

لَهُمْ ذِمَّةٌ إذَا تَسَلَّطُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْوِلَايَاتِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، إذْ كَانَ اللَّهُ إنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ الذِّمَّةَ وَحَقَنَ دِمَاءَهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ. فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا قَتْلُ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْغُصُوبِ، وَأَخْذِ الضَّرَائِبِ، وَالظُّلْمِ سَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانُ وَلَّاهُ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَعْمَالَ السُّلْطَانِ وَظَهَرَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ وَاسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْذُ الضَّرَائِبِ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ، وَإِنْ كَانَ آخِذُو الضَّرَائِبِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ وَالْقُعُودَ عَلَى الْمَرَاصِدِ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ يُوجِبُ إبَاحَةَ دِمَائِهِمْ إذْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ قَصَدَ إنْسَانًا لِأَخْذِ مَالِهِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لَهُ قَتْلَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ طَلَبَ مَالَهُ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ" وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمُ مَنْ طَلَبَ أَخْذَ مَالِ غَيْرِهِ غَصْبًا وَهُوَ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ فَالذِّمِّيُّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَالْآخَرُ: قَصْدُهُ الْمُسْلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ ظُلْمًا.

بَابُ وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ; فَأَوْجَبَ قِتَالَهُمْ، وَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِهِ عَنْهُمْ; لِأَنَّ {حَتَّى} غَايَةٌ، هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] قَدْ حَظَرَ إبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ. وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ" مَنَعَ الْإِعْطَاءَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ; وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "لَا تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ الْجِزْيَةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ، وَيَمْضِيَ شَهْرَانِ مِنْهَا بَعْضُ مَا عَلَيْهِ بِشَهْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُعَامَلُ فِي الْجِزْيَةِ، بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ كُلَّمَا كَانَ يَمْضِي شَهْرَانِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أُخِذَتْ مِنْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِالضَّرِيبَةِ الْأُجْرَةَ فِي الْإِجَارَاتِ; قَالَ أَبُو يُوسُفَ: "وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ حِينَ تَدْخُلُ السَّنَةُ، وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى تَتِمَّ السَّنَةُ، وَلَكِنْ يُعَامَلُ ذَلِكَ فِي سَنَتِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذِكْرُهُ لِلشَّهْرَيْنِ إنَّمَا هُوَ تَوْفِيَةٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِإِقْرَارِنَا إيَّاهُ عَلَى الذِّمَّةِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ: "يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ فِي سَنَتِهِ مَا دَامَ فِيهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ". وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنَّهُ رَآهَا وَاجِبَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَأَنَّ تَأْخِيرَنَا بَعْضَ السَّنَةِ إنَّمَا هُوَ تَوْفِيَةٌ لِلْوَاجِبِ وَتَوْسِعَةٌ. أَلَا تَرَى أنه قال:

"فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ"؟ لِأَنَّ دُخُولَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ جِزْيَةً أُخْرَى، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا سَقَطَتْ إحْدَاهُمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: "اجْتِمَاعُهُمَا لَا يُسْقِطُ إحْدَاهُمَا". وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَحَقُّ الْأَخْذِ فِيهَا إلَى الْإِمَامِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ، إذْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، وَحَقُّ الْأَخْذِ إلَى الْإِمَامِ، فَلَمَّا كَانَ اجْتِمَاعُ الْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ، وَاحِدٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ أَنْ يَزْنِيَ مِرَارًا أَوْ يَسْرِقَ مِرَارًا ثُمَّ يُرْفَعُ إلَى الْإِمَامِ فَلَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ إذْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ هِيَ أَخَفُّ أَمْرًا، وَأَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْحُدُودِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ إسْلَامَهُ يُسْقِطُهَا، وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا، وَحَقًّا فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسْقِطْهُ اجْتِمَاعُهُ، كَالدُّيُونِ وَخَرَاجِ الْأَرَضِينَ. قِيلَ: لَهُ: خَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ بِصَغَارٍ وَلَا عُقُوبَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْجِزْيَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُسْلِمٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ طَاوُسٍ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: "إذَا تَدَارَكَتْ صَدَقَاتٌ فَلَا تُؤْخَذُ الْأُولَى كَالْجِزْيَةِ". وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ، وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ هَلْ يُؤْخَذُ بِهَا؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُؤْخَذُ"، وَهُوَ قَوْلُ مَالِك وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِحِسَابِ ذَلِكَ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنْ الْجِزْيَةِ قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ لِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ إنْ لَمْ يُؤَدِّهَا، وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَخْذُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَمَتَى أَخَذْنَاهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةٌ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ هِيَ مَا أُخِذَ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ" فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذَهَا مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ مَا لَمْ يَجِبْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ إسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ، وَالْجَزَاءَ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ جَزَاءُ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَمَتَى أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْكُفْرِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عِقَابُ التَّائِبِ فِي حَالِ الْمُهْلَةِ، وَبَقَاءِ التَّكْلِيفِ;

وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَسْقَطَهَا أَصْحَابُنَا بِالْمَوْتِ لِفَوَاتِ أَخْذِهَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ جِزْيَةٌ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ، وَمَوَاشِيهِ فَمَاتَ: إنَّهَا تَسْقُطُ وَلَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْهُ; لِأَنَّ سَبِيلَ أَخْذِهَا، وَمَوْضُوعِهَا فِي الْأَصْلِ سَبِيلُ الْعِبَادَاتِ يُسْقِطُهَا الْمَوْتُ، وَقَالُوا فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ بِفَرْضِ الْقَاضِي فَمَاتَ أَوْ مَاتَتْ إنَّهَا تَسْقُطُ; لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعُ الصِّلَةِ إذْ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ، وَمَعْنَى الصِّلَةِ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَسْقَطُوهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُدُودُ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، وَالتَّوْبَةُ لَا تُسْقِطُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ، وَقَدْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ، وَتَوْبَتُهُ مُسْقِطَيْنِ لِحَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى فِعْلٍ قَدْ صَحَّتْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْحَدُّ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ، وَمَا نُوجِبُهُ بَعْدَهَا لَيْسَ هُوَ الْحَدُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ هُوَ حَدٌّ وَاجِبٌ عَلَى وَجْهِ الْمِحْنَةِ بِدَلَالَةٍ قَامَتْ لَنَا عَلَى وُجُوبِهِ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، فَإِنْ قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ وَالْعُقُوبَةِ لَمْ نَأْبَ إيجَابَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ جِزْيَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجِزْيَةِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا عُقُوبَةً، وَأَنْتَ فَإِنَّمَا تَزْعُمُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفْت بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَيْرُ جِزْيَةٍ، وَأَنَّ الْجِزْيَةَ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةٌ قَدْ سَقَطَتْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ مَالٌ آخَرُ غَيْرَ الْجِزْيَةِ فَإِنَّمَا أَنْتَ رِجْلٌ سُمْتنَا إيجَابَ مَالٍ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي إيجَابَهُ، وَهَذَا لَا نُسَلِّمُ لَك إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَقَدْ رَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فَقَامَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَّا أَنْتَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْك، وَأَمَّا أَرْضُك فَلَنَا، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: إنْ تَحَوَّلْت عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أَسْلَمَ رَجُلٌ فَأَخَذَ بِالْخَرَاجِ، وَقِيلَ لَهُ: إنَّك مُتَعَوِّذٌ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: إنَّ فِي الْإِسْلَامِ لَمُعَاذًا إنْ فَعَلْت، فَقَالَ عُمَرُ أَجَلْ وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مُعَاذًا إنْ فَعَلَ فَرَفَعَ عَنْهُ الْجِزْيَةَ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ شَهِدَ شَهَادَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَاخْتَتَنَ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ الْجِزْيَةَ. فَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْوَاجِبَةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ حَالِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي نَفْيهَا عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ.

مطلب: كَانَ آلُ مَرْوَانَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ من أهل الذمة وَقَدْ كَانَ آلُ مَرْوَانَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ إسْلَامُ الْعَبْدِ ضَرِيبَتَهُ، وَهَذَا خَلَلٌ فِي جَنْبٍ مَا ارتكبوه

مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَنَقْضُ الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إلَى أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَكَتَبَ إلَى عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا، فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَارْفَعْ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَعَادَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَهَا اسْتَجَازَ الْقُرَّاءُ وَالْفُقَهَاءُ قِتَالَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالْحَجَّاجِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ أَخْذُهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ أَيْضًا أَحَدَ أَسْبَابِ زَوَالِ دَوْلَتِهِمْ، وَسَلْبِ نِعْمَتِهِمْ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ:"أَعْظَمُ مَا أَتَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ: قَتْلُهُمْ عُثْمَانَ، وَإِحْرَاقُهُمْ الْكَعْبَةَ، وَأَخْذُهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ". وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "إنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ" فَلَيْسَ بِبِدْعٍ، هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ، إذْ قَدْ جَهِلُوا مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَيْسُوا عَبِيدًا، وَلَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَمَا زَالَ عَنْهُمْ الرِّقُّ بِإِسْلَامِهِمْ لِأَنَّ إسْلَامَ الْعَبْدِ لَا يُزِيلُ رِقَّهُ، وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ عُوقِبُوا بِهَا لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَمَتَى أَسْلَمُوا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبُوا بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ النَّصْرَانِيَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ؟ فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الذمة عبيدا لما أخذ منهم الجزية

فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ جِزْيَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِينَ هَلْ هُوَ صَغَارٌ، وَهَلْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ أَرْضَ الْخَرَاجِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَرَاهَتُهُ، وَرَأَوْهُ دَاخِلًا فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَشَرِيكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْجِزْيَةُ إنَّمَا هِيَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَغَارٍ"، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْهُ، وَهُوَ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ رِجْلٍ مِنْ طَيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بِرَاذَانَ مَا بِرَاذَانَ، وَبِالْمَدِينَةِ مَا بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً بِرَاذَانَ، وَضَيْعَةً بِالْمَدِينَةِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَاذَانَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، فَلَمْ يَكْرَهْ عَبْدُ اللَّهِ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةِ نَهْرِ الْمَلِكِ حِينَ أَسْلَمَتْ: إنْ أَقَامَتْ عَلَى أَرْضِهَا أَخَذْنَا مِنْهَا الْخَرَاجَ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرُّفَيْلِ أَسْلَمَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَسْلَمَ فَقَالَ: إنْ أَقَمْت عَلَى أَرْضِك أَخَذْنَا مِنْك الْخَرَاجَ، وَإِلَّا فَنَحْنُ أَوْلَى بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرَوَى سهيل بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا، وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لحم أبي

هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِصَغَارٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ لَهُمْ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ الَّتِي عَلَيْهَا قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهَا لَذَكَرَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَنْعِهِمْ لِحَقِّ اللَّهِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "عُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ" يَعْنِي فِي مَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ لَا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ. وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْقِطُ جِزْيَةَ الرُّءُوسِ، وَلَا يُسْقِطُ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ صَغَارًا لَأَسْقَطَهُ الْإِسْلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ فَيْئًا، وَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَغَارٌ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ مِنْ الْفَيْءِ مَا يُصْرَفُ إلَى الْغَانِمِينَ، وَمِنْهُ مَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهُوَ الْخُمُسُ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصْرَفُ فِيهِ، وَلَيْسَ يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَغَارًا; لِأَنَّ الصَّغَارَ فِي الْفَيْءِ هُوَ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا قَدْ وَجَبَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ مَلَكَهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَهُ لَا يُزِيلُهُ إذْ كَانَ وُجُوبُهُ فِيهَا مُتَقَدِّمًا لِمِلْكِهِ، وَهُوَ حَقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ تَكُنْ الْجِزْيَةُ صَغَارًا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ فَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ صَغَارًا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ عُقُوبَةً، وَلَيْسَ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَرْضَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ يَجِبُ فِيهِمَا الْخَرَاجُ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا الْجِزْيَةُ؟ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عقوبة، وخراج الأرضين ليس كذلك.

فَصْلٌ إنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ: كَيْفَ جَازَ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنْ الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ رِضًا بِكُفْرِهِمْ، وَلَا إبَاحَةً لِبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَبْقِيَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَهِيَ لَوْ تَرَكْنَاهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ إيجَابُ قَتْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ كَافِرًا طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإِذَا بَقَّاهُمْ لِعُقُوبَةٍ يُعَاقِبُهُمْ بِهَا مَعَ التَّبْقِيَةِ اسْتِدْعَاءً لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا إمْهَالُهُ إيَّاهُمْ إذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصْلَحَةِ مَعَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا مِنْ الرِّفْقِ وَالْمَنْفَعَةِ; فَلَيْسَ إذًا فِي إقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَرْكِ قَتْلِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مَا يُوجِبُ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ، وَلَا الْإِبَاحَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ، وَشِرْكِهِمْ، فَكَذَلِكَ إمْهَالُهُمْ بِالْجِزْيَةِ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْجِيلِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ الْمُسْتَحَقِّ بِكُفْرِهِمْ، وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِأَدَائِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} قيل: إنه

أَرَادَ فِرْقَةً مِنْ الْيَهُودِ قَالَتْ ذَلِكَ; وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَمِعَتْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تُنْكِرْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْخَوَارِجُ تَرَى الِاسْتِعْرَاضَ وَقَتْلَ الْأَطْفَالَ، وَالْمُرَادُ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ; وَكَقَوْلِك: جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "قَالَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ; صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُمْ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ"، وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْآنَ فِيمَا نَعْلَمُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ قَالَتْ ذَلِكَ فَانْقَرَضَتْ. قَوْله تَعَالَى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي يُشَابِهُونَهُمْ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ لِلَّتِي لَا تَحِيضُ; لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَالَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَسَاوَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا اللَّذَيْنِ هُمَا خَلْقَانِ لِلَّهِ وَلَدَيْنِ لَهُ وَشَرِيكَيْنِ، كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَصْنَامَ الْمَخْلُوقَةَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي بِهِ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: إنَّهُمْ يُضَاهِئُونَهُمْ لِأَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: عُزَيْرٌ وَمَسِيحٌ ابْنَا اللَّهِ. وَقِيلَ: يُضَاهِئُونَهُمْ فِي تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى صَحِيحٍ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَا مَحْصُولَ أَكْثَرَ مِنْ وُجُودِهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 30] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَنَهُمْ اللَّهُ، وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، كَقَوْلِهِمْ عَافَاهُ اللَّهُ أَيْ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْ السُّوءِ. وَقِيلَ: إنَّهُ جُعِلَ كَالْقَاتِلِ لِغَيْرِهِ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ؛ قِيلَ: إنَّ الْحَبْرَ الْعَالِمُ الَّذِي صِنَاعَتُهُ تَحْبِيرُ الْمَعَانِي بِحُسْنِ الْبَيَانِ عَنْهَا، يُقَالُ فِيهِ حَبْرٌ وَحَبِيرٌ; وَالرَّاهِبُ الْخَاشِي الَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ لِبَاسُ الْخَشْيَةِ، يُقَالُ رَاهِبٌ وَرُهْبَانٌ، وَقَدْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي مُتَنَسِّكِي النَّصَارَى. وَقَوْلُهُ: {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ، وَإِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لَمَّا أَتَى النَّبِيَّ قَالَ: فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ قَالَ: "أَلَيْسَ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ، وَإِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا أَحَلُّوهُ"؟ قَالَ: قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: "فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ" وَلَمَّا كَانَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ

بِالْمَصَالِحِ ثُمَّ قَلَّدُوا هَؤُلَاءِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَقَبِلُوهُ مِنْهُمْ، وَتَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَرَّمَ وَحَلَّلَ، صَارُوا مُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا، إذْ نَزَّلُوهُمْ فِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَرْبَابِ. وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ عَظَّمُوهُمْ كَتَعْظِيمِ الرَّبِّ لِأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لَهُمْ إذَا رَأَوْهُمْ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ فَهُمْ كَانُوا مُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا. قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فِيهِ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَإِظْهَارِ دِينِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ إعْلَاؤُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَةِ وَقَهْرِ أُمَّتِهِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ; وَقَدْ وَجَدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ بِظُهُورِ أُمَّتِهِ وَعُلُوِّهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَمِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَتَّفِقُ لِلْمُتَخَرِّصِينَ وَالْكَذَّابِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ الْغُيُوبِ، إذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ، فَهُوَ إذًا كَلَامُهُ وَخَبَرُهُ، وَلَا يُنْزِلُ اللَّهُ كَلَامَهُ إلَّا عَلَى رَسُولِهِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ هُوَ تَمَلُّكُهُ مِنْ الْجِهَةِ الْمَحْظُورَةِ; وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرِّشَا فِي الْحُكْمِ وَذَكَرَ الْأَكْلَ، وَالْمُرَادُ سَائِرُ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالتَّصَرُّفِ، إذْ كَانَ أَعْظَمُ مَنَافِعِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] وَالْمُرَادُ سَائِرُ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء:10] . مطلب: في زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ; يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابُ إنْفَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ; لِأَنَّ الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِتَرْكِ إنْفَاقِ الْجَمِيعِ لِقَوْلِهِ: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} وَلَمْ يَقُلْ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَمِيعَ لَقَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَ الْكُنُوزَ، وَالْآخَرَانِ يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لِلْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] قَالَ الشَّاعِرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَالْمَعْنَى: رَاضُونَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَبَقِيَ أَحَدُهُمَا عَارِيًّا مِنْ خَبَرِهِ فَيَكُونُ كَلَامَا مُنْقَطِعًا لا معنى له; إذ كان قوله:

مطلب: في زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ; يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابُ إنْفَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ; لِأَنَّ الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِتَرْكِ إنْفَاقِ الْجَمِيعِ لِقَوْلِهِ: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} وَلَمْ يَقُلْ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَمِيعَ لَقَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَ الْكُنُوزَ، وَالْآخَرَانِ يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لِلْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] قَالَ الشَّاعِرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَالْمَعْنَى: رَاضُونَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَبَقِيَ أَحَدُهُمَا عَارِيًّا مِنْ خَبَرِهِ فَيَكُونُ كَلَامَا مُنْقَطِعًا لَا مَعْنَى لَهُ; إذْ كَانَ قَوْلُهُ:

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} مُفْتَقِرًا إلَى خَبَرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْآيَةِ أَخْبَارٌ; رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ مَالِكٍ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحِدْثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا مِنْ جَمْعٍ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ، وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهِيَ كَيٌّ يُكْوَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: قُلْت: اُنْظُرْ مَا يَجِيءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ قَدْ فَشَتْ فِي النَّاسِ" فَقَالَ: أَمَا تقرأ القرآن: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ. فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا لَا جَمِيعُهَا، وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إخْرَاجُ جَمِيعِهِمَا; وَكَذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ادِّخَارُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يَمُرُّ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ لَا أَجِدَ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنِّي صَدَقَةً إلَّا أَنْ أَرْصُدَهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ" فَذَكَرَ فِي هذا الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَاخْتَارَ إنْفَاقَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَعِيدَ تَارِكِ إنْفَاقِهِ، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ مَعَهُ دِينَارٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيَّةٌ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخَذَ الدِّينَارَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ سَأَلَهُ غَيْرَهُ بِإِظْهَارِ الْفَاقَةِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ فَقُلْنَا: وَمَا غِنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ" وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ إيجَابُهُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ، كَمَا أَوْجَبَ فَرَائِضَ الْمَوَاشِي، وَلَمْ يُوجِبْ الْكُلَّ، فَلَوْ كَانَ إخْرَاجُ الْكُلِّ وَاجِبًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْدِيرِ وَجْهٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ ذَوُو يَسَارٍ ظَاهِرٍ وَأَمْوَالٍ جَمَّةٍ مِثْلُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِخْرَاجِ الْجَمِيعِ، فَثَبَتَ أَنَّ إخْرَاجَ جَمِيعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ الْمَفْرُوضَ إخْرَاجُهُ هُوَ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ تَحْدُثَ أُمُورٌ تُوجِبُ الْمُوَاسَاةَ وَالْإِعْطَاءَ نَحْوِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ وَالْعَارِي الْمُضْطَرِّ أَوْ مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُكَفِّنُهُ أَوْ يُوَارِيهِ. وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] الْآيَةَ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا، فَحَذَفَ "مِن" وَهُوَ يُرِيدُهَا، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] فَأَمَرَ بِأَخْذِ بَعْضِ الْمَالِ لَا جَمِيعِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْأَوَّلِ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَبْسُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ الْهُذَلِيُّ: لَا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْت نَازِلَكُمْ ... قَرْفَ الْحَتِيِّ وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ وَيُقَالُ: كَنَزْت التَّمْرَ إذَا كَبَسْته فِي الْقَوْصَرَةِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ لِمَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَامِرٍ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: "مَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ" فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا وَمَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَنْزَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ الْمَفْرُوضَةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} : الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ {وَلا يُنْفِقُونَهَا} يَعْنِي الزَّكَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ إلَّا وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَحَسْبُ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا غَيْلَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلَقَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِك هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ الزَّكَاةَ إلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ إنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ"، قَالَ: فَكَبَّرَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ" فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ إنْفَاقُ بَعْضِ الْمَالِ لَا جَمِيعِهِ، وأن قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الْمُرَادُ بِهِ مَنْعُ الزَّكَاةِ، وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْت الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْك" فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ هُوَ الزَّكَاةُ، وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إلَّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِكَنْزِهِ فَيُحْمَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ"، فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَنْزِ هُوَ الزَّكَاةُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ جَمِيعُهُ. وَقَوْلُهُ: "فَيُحْمَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله:

{فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ} يَعْنِي: لَمْ تُؤَدُّوا زَكَاتَهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ يُمَثَّلُ لَهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُك أَنَا كَنْزُك" فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ هُوَ الْكَنْزُ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مُرَادُهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ، أَوْجَبَ عُمُومَهُ إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إذْ كَانَ اللَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهِمَا بِالِاسْمِ فَاقْتَضَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِوُجُودِ الِاسْمِ دُونَ الصَّنْعَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ أَوْ مَضْرُوبٌ أَوْ تِبْرٌ أَوْ فِضَّةٌ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ ضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِهِ الْحَقَّ فِيهِمَا مَجْمُوعَيْنِ فِي قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

مطلب: فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَأَوْجَبَ أَصْحَابُنَا فِيهِ الزَّكَاةَ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الْحُلِيَّ تُزَكَّى مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا تُزَكَّى بَعْدَ ذَلِكَ.، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْحُلِيِّ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ آثَارٌ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَتَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: "أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ " قَالَتْ: لَا، قَالَ: "أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ" فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي السِّوَارِ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْت أَلْبِسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: "مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ". وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، وَالْآخَرُ: أَنَّ الْكَنْزَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ " فَقُلْت: صَنَعْتهنَّ أَتَزَّيَّنُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ "

قُلْت: لَا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: "هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ" فَانْتَظَمَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، وَالْآخَرُ: أَنَّ الْمَصُوغَ يُسَمَّى وَرِقًا لِأَنَّهَا قَالَتْ: "فَتَخَاتٍ مِنْ وَرَقٍ" فَاقْتَضَى ظَاهِرُ قَوْلِهِ: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ" إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ; لِأَنَّ الرِّقَةَ وَالْوَرِقَ وَاحِدٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَعْيَانِهِمَا فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ لَا بِمَعْنَى يَنْضَمَّ إلَيْهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النُّقَرَ وَالسَّبَائِكَ تَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ، وَفَارَقَا بِهَذَا غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا بِوُجُودِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْمَصُوغِ وَالْمَضْرُوبِ. وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْحُلِيَّ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي الْحُلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُلِيُّ كَالنُّقُرِ الْعَوَامِلِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَنْ يَكُونَ مُرْصَدًا لِلنَّمَاءِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَجِبْ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لِأَعْيَانِهِمَا بِدَلَالَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالنُّقَرُ وَالسَّبَائِكُ إذَا أَرَادَ بِهِمَا الْقُنْيَةَ وَالتَّبْقِيَةَ لَا طَلَبَ النَّمَاءِ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنْعَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا، وَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَهُمَا فِي حَالٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الصَّنْعَةِ وَعَدَمِهَا. فَإِنْ قِيلَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ، فَبَطَلِ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ زَكَاةً. وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْحُلِيِّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وجبت في كل حول.

فَصْلٌ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمَجْمُوعِهِمَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ ضَمِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَإِذَا كَمُلَ النِّصَابُ بِهَا زُكِّيَ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ كَالْعُرُوضِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "يُضَمُّ بِالْأَجْزَاءِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُضَمَّانِ". وَرُوِيَ الضَّمُّ عَنْ الْحَسَنِ وَبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَقَتَادَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا مَجْمُوعِينَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا الزَّكَاةَ مَجْمُوعِينَ; لِأَنَّ قوله: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} قَدْ أَرَادَ بِهِ إنْفَاقَهُمَا جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضَّمِّ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ

فِي وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِمَا، وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ الْمُخْتَلِفَةِ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا رُبْعَ الْعُشْرِ ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَعَرْضٌ لِلتِّجَارَةِ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ: "إنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ" فَضَمَّ الْعَرْضَ إلَى الْمِائَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ. وَلَيْسَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ زَكَاتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: زَكَاةُ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ مِثْلُ زَكَاةِ أَرْبَعِينَ شَاةً، وَلَمْ يَكُنْ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ مُوجِبًا لِضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ اتِّفَاقَهُمَا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ يُوجِبُ ضَمَّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ اتِّفَاقَهُمَا فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ فِيهِمَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلضَّمِّ، كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ عِنْدَ اتِّفَاقِهَا فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ وَقْتَ الضَّمِّ، وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ لَيْسَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعَ الْعُشْرِ لِأَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَلَا رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً أَيْضًا; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْغَنَمُ خِيَارًا وَيَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهَا شَاةً وَسَطًا فَيَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ عُشُرِهَا، فَهَذَا إلْزَامٌ سَاقِطٌ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ"، وَذَلِكَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِيهَا. سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا ذَهَبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قِيلَ لَهُ: كَمَا لَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ" وُجُوبُ ضَمِّ الْمِائَةِ إلَى الْعُرُوضِ، وَكَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَك: إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعُرُوضِ، كَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ فِي ضَمِّهِ إلَى الذَّهَبِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} إلى قوله: {حُرُمٌ} . لَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وَقَالَ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فَعَلَّقَ بِالشُّهُورِ كَثِيرًا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الشُّهُورَ، وَإِنَّمَا تُجْرَى عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ لَا يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ مِنْهَا، وَلَا يُؤَخَّرُ الْمُقَدَّمُ، وَقَالَ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ، وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى مَا رَتَّبَهَا عَلَيْهِ يَوْمَ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} وَحُكْمُهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبِهَا تَغْيِيرُ الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا وَتَقْدِيمُ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرُ الْمُقَدَّمِ فِي الْأَسْمَاءِ مِنْهَا، وَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا لِنَتَّبِعَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، وَنَرْفُضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ وَتَقْدِيمِهَا وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِالْعَقَبَةِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: "قَدْ اسْتَدَارَ

كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ" الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ صَفَرَ عَامًا حَرَامًا وَعَامًا حَلَالًا، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا حَلَالًا وَعَامًا حَرَامًا، وَكَانَ النَّسِيءُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الزَّمَانَ يَعْنِي زَمَانَ الشُّهُورِ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ قَدْ عَادَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ.

مطلب: قد اجتهد محمد بن موسى المنجم في كشف حقيقة قول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ الزَّمَانَ قد استدار كهيئته" ثماني سنين. وَقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَوْلَادِ بَنِي الْمُنَجِّمِ أَنَّ جَدَّهُ وَهُوَ أَحْسَبُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْمُنَجِّمُ الَّذِي يَنْتَمُونَ إلَيْهِ حَسَبَ شُهُورِ الْأَهِلَّةِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَوَجَدَهَا قَدْ عَادَتْ فِي مَوْقِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ عَادَ إلَيْهِ يَوْمَ النَّحْر مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ; لِأَنَّ خُطْبَتَهُ هَذِهِ كَانَتْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ; وَأَنَّهُ حَسَبَ ذَلِكَ فِي ثَمَانِي سِنِينَ فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ ابْتِدَاءِ الشُّهُورِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ عَادَ الزَّمَانُ إلَيْهِ مَعَ النَّسِيءِ بِاَلَّذِي قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُنْسِئُونَ، وَتَغْيِيرُ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ السَّنَةُ الَّتِي حَجِّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي وُضِعَ الْحَجُّ فِيهِ. وَإِنَّمَا قَالَ "رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" دُونَ رَمَضَانَ الَّذِي يُسَمِّيهِ رَبِيعَةُ رَجَبَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخِرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَهُوَ أَنَّ اللَّه قَسَمَ الزَّمَانَ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا، فَجَعَلَ نُزُولَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْ الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا مِنْهَا، فَيَكُونُ قطعها للفلك في ثلاثمائة وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبْعِ يَوْمٍ، فَيَجِيءُ نَصِيبُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَسْرٍ، وَقَسَّمَ الْأَزْمِنَةَ أَيْضًا عَلَى مَسِيرِ الْقَمَرِ، فَصَارَ الْقَمَرُ يَقْطَعُ الْفَلَكَ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ونصف يوم. وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَرُبْعَ يَوْمٍ، فَكَانَ قَطْعُ الشَّمْسِ لِلْبُرْجِ مُقَارِبًا لِقَطْعِ الْقَمَرِ لِلْفَلَكِ كُلِّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12] ; فَلَمَّا كَانَتْ السَّنَةُ

مَقْسُومَةً عَلَى نُزُولِ الشَّمْسِ فِي الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَكَانَ شُهُورُهَا اثْنَيْ عَشَرَ، وَاخْتَلَفَتْ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَالْقَمَرِيَّةُ فِي الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَكَانَتْ شُهُورُهَا اثْنَيْ عَشَرَ، وَاخْتَلَفَتْ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَالْقَمَرِيَّةُ فِي الْكَسْرِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا بِالتَّقْرِيبِ، وَكَانَتْ شُهُورُ الْقَمَرِ ثَلَاثِينَ وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِنِصْفِ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا حُكْمٌ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقِسْمَةُ الَّتِي قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا السَّنَةَ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَلْقِ. ثُمَّ غَيَّرَتْ الْأُمَمُ الْعَادِلَةُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَكَانَتْ شُهُورُ الرُّومِ بَعْضُهَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَنِصْفًا، وَبَعْضُهَا وَاحِدًا وَثَلَاثِينَ. وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ اعْتِبَارِ الشُّهُورِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا. ثُمَّ كَانَتْ الْفُرْسُ شُهُورُهَا ثَلَاثِينَ إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا، وَهُوَ "بادماه" فَإِنَّهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ، ثُمَّ كَانَتْ تَكْبِسُ فِي كُلِّ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً شَهْرًا كَامِلًا فَتَصِيرُ السَّنَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا لَا زِيَادَةَ فِيهَا وَلَا نُقْصَانَ، وَهِيَ الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ الَّتِي إمَّا أَنْ تَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَلَاثِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ"، وَقَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ"، فَجَعَلَ الشَّهْرَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ اشْتَبَهَ لِغَمَامٍ أَوْ قَتَرَةٍ فَثَلَاثُونَ; فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يَعْنِي أَنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا، وَأَبْطَلَ بِهِ الْكَبِيسَةَ الَّتِي كَانَتْ تَكْبِسُهَا الْفُرْسُ فَتَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ انْقِضَاءَ الشُّهُورِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَتَارَةً تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَتَارَةً ثَلَاثُونَ; فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَضَعَ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْدَ الزَّمَانِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلَ مَا غَيَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَرْتِيبِ الشُّهُورِ وَنِظَامِهَا، وَمَا زَادَ بِهِ فِي السِّنِينَ وَالشُّهُورِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَصْلِ لِمَا عَلِمَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ تَعَلُّقِ مَصَالِحِ النَّاسِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ بِكَوْنِ الشَّهْرِ وَالسِّنِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ تَارَةً فِي الرَّبِيعِ، وَتَارَةً فِي الصَّيْفِ، وَأُخْرَى فِي الْخَرِيفِ وَأُخْرَى فِي الشِّتَاءِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ; لِعِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ صَوْمَ النَّصَارَى كَانَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ يَدُورُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إلَى الصَّيْفِ اجْتَمَعُوا إلَى أَنْ نَقَلُوهُ إلَى زَمَانِ الرَّبِيعِ، وَزَادُوا فِي الْعَدَدِ وَتَرَكُوا مَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ اعْتِبَارِ شُهُورِ الْقَمَرِ مُطْلَقَةً عَلَى مَا يَتَّفِقُ مِنْ وُقُوعِهَا فِي الْأَزْمَانِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِهِمْ أَوَامِرَهُمْ وَاعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَهَا دُونَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فضلوا وأضلوا.

وقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ،, وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا حُرُمًا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِيهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} . وَالثَّانِي: تَعْظِيمُ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِيهَا بِأَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِهِ فِي غَيْرِهَا، وَتَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ فِيهَا أَيْضًا. وَإِنَّمَا فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِ الظُّلْمِ فِيهَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى الطَّاعَاتِ مِنْ الِاعْتِمَادِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا، كَمَا فَرَضَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وَصَوْمَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَجَعَلَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ فِي حُكْمِ الطَّاعَاتِ، وَمُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورَاتِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِ نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَيَكُونُ تَرْكُ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ وَالْمَوَاضِعِ دَاعِيًا إلَى تَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ، وَمَصِيرَ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الشُّهُورِ وَهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ دَاعِيًا إلَى فِعْلِ أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِهَا لِلْمُرُورِ وَالِاعْتِيَادِ، وَمَا يَصْحَبُ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ تَوْفِيقِهِ عِنْدَ إقْبَالِهِ إلَى طَاعَتِهِ، وَمَا يَلْحَقُ الْعَبْدَ مِنْ الْخِذْلَانِ عِنْدَ إكْبَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَاشْتِهَارِهِ وَأُنْسِهِ بِهَا، فَكَانَ فِي تَعْظِيمِ بَعْضِ الشُّهُورِ وَبَعْضِ الْأَمَاكِنِ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ فِي الِاسْتِدْعَاءِ إلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْقَبَائِحِ، وَلِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَجُرُّ إلَى أَشْكَالِهَا، وَتُبَاعِدُ مِنْ أَضْدَادِهَا، فَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ الطَّاعَةِ يَدْعُو إلَى أَمْثَالِهَا، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ يَدْعُو إلَى أَمْثَالِهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} . الضمير في قوله: {فِيهِنَّ} عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاجِعٌ إلَى الشُّهُورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَائِدٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ. وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِقِتَالِ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الشِّرْكِ إلَّا مَنْ اعْتَصَمَ مِنْهُمْ بِالذِّمَّةِ، وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْآخَرُ: الْأَمْرُ بِأَنْ نُقَاتِلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ مُتَعَاضِدِينَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ. وَلِمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا إذْ لَيْسَا مُتَنَافِيَيْنِ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَعَاضِدِينَ على القتال. وقوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} يَعْنِي أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ فِيكُمْ، وَيَعْتَقِدُونَهُ. وَيَحْتَمِلُ: كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ مُجْتَمِعِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي معنى قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} مُتَضَمِّنَةٌ لِرَفْعِ الْعُهُودِ وَالذِّمَمِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى، وَهُوَ الْأَمْرُ بِأَنْ نَكُونَ مُجْتَمِعِينَ فِي حَالِ قِتَالِنَا إيَّاهُمْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} : فَالنَّسِيءُ التَّأْخِيرُ، وَمِنْهُ الْبَيْعُ بِنَسِيئَةٍ، وَأَنْسَأْت الْبَيْعَ أَخَّرْته وَ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة:106] أَيْ نُؤَخِّرْهَا،

وَنُسِئَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَبِلَتْ لِتَأَخُّرِ حَيْضِهَا، وَنُسِئَتْ النَّاقَةُ إذَا دَفَعْتهَا فِي السَّيْرِ لِأَنَّك زَجَرْتهَا عَنْ التَّأَخُّرِ وَالْمِنْسَأَةُ الْعَصَا الَّتِي يُنْسَأُ بِهَا الْأَذَى وَيُزْجَرُ وَيُسَاقُ بِهَا فَيُمْنَعُ مِنْ التَّأَخُّرِ. وَمُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ النَّسِيءَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ تَأْخِيرِ الشُّهُورِ، فَكَانَ يَقَعُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَاعْتِقَادِ حُرْمَةِ الشُّهُورِ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَغَيْرُهُ: "كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْخِلُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَيَّامًا يُوَافِقُونَ ذَا الْحِجَّةِ فِي كُلِّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَوَفَّقَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِي حَجَّتِهِ اسْتِدَارَةَ زَمَانِهِمْ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَاسْتَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى عَدَدِ الشُّهُورِ وَوَقَفَ الْحَجُّ عَلَى ذِي الْحِجَّةِ". وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "كَانَ مَلِكٌ مِنْ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ أَوَّلَ مَنْ أَنْسَأَ النَّسِيءَ، أَنْسَأَ الْمُحَرَّمَ فَكَانَ يُحِلُّهُ عَامًا، وَيُحَرِّمُهُ عَامًا، فَكَانَ إذَا حَرَّمَهُ كَانَتْ ثَلَاثَ حُرُمَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَهِيَ الْعِدَّةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِي عَهْدِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، فَإِذَا أَحَلَّهُ دَخَلَ مَكَانَهُ صَفَرٌ فِي الْمُحَرَّمِ لِتُوَاطِئَ الْعِدَّةُ، يَقُولُ: قَدْ أَكْمَلْت الْأَرْبَعَةَ كَمَا كَانَتْ لِأَنِّي لَمْ أُحِلَّ شَهْرًا إلَّا قَدْ حَرَّمْت مَكَانَهُ شَهْرًا، فَحَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَادَ الْمُحَرَّمُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ النَّسِيءَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ كُفْرًا; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكُفْرِ لَا تَكُونُ إلَّا كُفْرًا، لِاسْتِحْلَالِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَتَحْرِيمِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، فَكَانَ الْقَوْمُ كُفَّارًا بِاعْتِقَادِهِمْ الشِّرْكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالنَّسِيءِ".

بَابُ فَرْضُ النَّفِيرِ وَالْجِهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} . اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبَ النَّفِيرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَنْفِرْ، وَقَالَ فِي آيَةٍ بَعْدَهَا: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . فَأَوْجَبَ النَّفِيرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ الِاسْتِنْفَارِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ لَهُ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَابْنِ أَبِي بِلَالٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ أَنَّهُ وَافَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ يُجَهِّزُ، قَالَ: فَقُلْت: يَا أَبَا الْأَسْوَدِ قَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَيْك، أَوْ قَالَ: قَدْ عَذَرَك اللَّهُ، يَعْنِي فِي الْقُعُودِ عَنْ الْغَزْوِ; فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ بَرَاءَةٌ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ شَهِدَ بَدْرًا

مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ فَكَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا. وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زيد عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَرَأَ هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قَالَ: مَا أَرَى اللَّه إلَّا يَسْتَنْفِرُنَا شُبَّانًا وَشُيُوخًا، جَهِّزُونِي فَجَهَّزْنَاهُ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، وَمَاتَ فِي غَزَاتِهِ تِلْكَ فَمَا وَجَدْنَا لَهُ جَزِيرَةً نَدْفِنُهُ فِيهَا أَوْ قَالَ: يَدْفِنُونَهُ فِيهَا إلَّا بَعْدَ سَابِعِهِ1. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَالُوا فِينَا الثَّقِيلُ وَذُو الْحَاجَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالْمُنْتَشِرُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . فَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى فَرْضِ النَّفِيرِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْفِرُوا، وَالْآيَةُ الْأُولَى يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا وُجُوبَ فَرْضِ النَّفِيرِ إذَا اُسْتُنْفِرُوا، وَقَدْ ذُكِرَ فِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا نَدَبَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إلَيْهَا فَكَانَ النَّفِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَرْضًا عَلَى مَنْ اسْتَنْفَرَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] قَالُوا: وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ النَّفِيرِ مَعَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وَ {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120] . نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] . وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَسْخٌ، وَحُكْمُهُمَا ثَابِتٌ فِي حَالَيْنِ، فَمَتَى لَمْ يُقَاوِمْ أَهْلُ الثُّغُورِ الْعَدُوَّ، وَاسْتُنْفِرُوا فَفُرِضَ عَلَى النَّاسِ النَّفِيرُ إلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَحْيُوا الثُّغُورَ، وَإِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ بِاكْتِفَائِهِمْ بِمَنْ هُنَاكَ سَوَاءٌ اُسْتُنْفِرُوا أَوْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا، وَمَتَى قَامَ الَّذِينَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ، وَاسْتَغْنَوْا بِأَنْفُسِهِمْ عَمَّنْ وَرَاءَهُمْ فَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ فَيَكُونَ فَاعِلًا لِلْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْقُعُودِ بَدِيَّا لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَتَى قَامَ بِهِ بعضهم سقط عن الباقين. وقد حدثنا

_ 1 قوله: "إلا بعد سابعه" هكذا في نسخنا, وفي جامع أحكام القرآن للقرطبي: "إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير رضي الله عنه". فالجملة الزائدة مفيدة جدا."لمصححه".

مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِنَّ اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، فَأَمَرَ بِالنَّفِيرِ عِنْدَ الِاسْتِنْفَارِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِنْفَارِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ الثُّغُورِ مَتَى اكْتَفَوْا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ إلَى غَيْرِهِمْ فَلَيْسَ يَكَادُونَ يُسْتَنْفَرُونَ، وَلَكِنْ لَوْ اسْتَنْفَرَهُمْ الْإِمَامُ مَعَ كِفَايَةِ مَنْ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الثُّغُورِ وَجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَيَطَأَ دِيَارَهُمْ فَعَلَى مِنْ اُسْتُنْفِرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْفِرُوا. وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ، فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ فِي آخَرِينَ أَنَّ الْجِهَادَ تَطَوُّعٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَالُوا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ عَلَى النَّدْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] . وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ عَنْ الْفَرَائِضِ، وَابْنُ عُمَرَ جَالِسٌ حَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ، فَقَالَ: الْفَرَائِضُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: الْفَرَائِضُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ قَالَ: وَتَرَكَ الْجِهَادَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوُهُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن "محمد بن" اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: "إنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إلَّا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَانَ الْبَاقُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ".، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَكِنْ لَا يَسَعُ النَّاسَ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى تَرْكِهِ، وَيَجْزِي فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ هَذَا قَوْلَ سُفْيَانَ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَمَعْلُومٌ فِي اعْتِقَادِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا خَافَ أَهْلُ الثُّغُورِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ مُقَاوِمَةٌ لَهُمْ فَخَافُوا عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ

أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ أَنْ يَنْفِرُ إلَيْهِمْ مَنْ يَكُفُّ عَادِيَتَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إبَاحَةُ الْقُعُودِ عَنْهُمْ حَتَّى يَسْتَبِيحُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيَ ذَرَارِيِّهِمْ، وَلَكِنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ مَتَى كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مُقَاوِمِينَ لَهُ، وَلَا يَخَافُونَ غَلَبَةَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ تَرْكُ جِهَادِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ؟ فَكَانَ مِنْ قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْزُوهُمْ، وَأَنْ يَقْعُدُوا عَنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ أَبَدًا حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ} ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ السَّلَفِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَبُو طَلْحَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ:"الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ"، وَذَكَرَ سَهْمًا مِنْهَا الْجِهَادُ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ"مُحَمَّدِ بْنِ" الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ مَكْحُولٌ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يَحْلِفُ عَشْرَ أَيْمَانٍ أَنَّ الْغَزْوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ يَقُولُ: إنْ شِئْتُمْ زِدْتُكُمْ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَتَبَ اللَّهُ الْجِهَادَ عَلَى النَّاسِ غَزَوْا أَوْ قَعَدُوا، فَمَنْ قَعَدَ فَهُوَ عِدَّةٌ إنْ اُسْتُعِينَ بِهِ أَعَانَ، وَإِنْ اُسْتُنْفِرَ نَفَرَ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ قَعَدَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضٍ يَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فَرْضُهُ مُتَعَيَّنًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَأَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالْآيَاتُ الْمُوجِبَةُ لِفَرْضِ الْجِهَادِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ قِتَالِهِمْ حَتَّى يُجِيبُوا إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} الْآيَةَ، وَقَالَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ، وَقَالَ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} . وَقَالَ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وَقَالَ: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11] فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ; فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى فَرْضِ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى فَرْضِ الْإِيمَانِ، وَالْآخَرُ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّ

النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِهِ وَبِالْإِيمَانِ، وَالْعَذَابُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وَمَعْنَاهُ: فُرِضَ، كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] . فَإِنْ قِيلَ هُوَ كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] وَإِنَّمَا هِيَ نَدْبٌ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ اللَّهِ الْمَوَارِيثَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ الْمِيرَاثِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْإِيجَابَ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ لِلنَّدْبِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ نَدْبٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِغَيْرِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ فَرَضَ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِنَفْسِهِ، وَمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَحُضُورِهِ، وَالْآخَرُ: بِالتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ وَالْبَيَانِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ إنْفَاقَ الْمَالِ، وَقَالَ لِغَيْرِهِ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} فَأَلْزَمَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَلَهُ مَالٌ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فَلَمْ يَخْلُ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلْعَجْزِ وَالْعُدْمِ مِنْ إيجَابِ فَرْضِهِ بِالنُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا وَعَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى مَرَاتِبِهِ الَّتِي وَصَفْنَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْكِيدِ فَرْضِهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا مَا حُدِّثْنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ السَّدُوسِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عَفَازَةَ عَنْ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَايِعُهُ فَقُلْت لَهُ: عَلَامَ تُبَايِعُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَمَدَّ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ فَقَالَ: "عَلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ لِوَقْتِهِنَّ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَلًّا لَا أُطِيقُ إلَّا اثْنَتَيْنِ إيتَاءُ الزَّكَاةِ فَمَا لِي إلَّا حُمُولَةَ أَهْلِي، وَمَا يَقُومُونَ بِهِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَإِنِّي رَجُلٌ جَبَانٌ فَأَخَافُ أَنْ تَخْشَعَ نَفْسِي فَأَفِرَّ فَأَبُوءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ; فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، وَقَالَ: "يَا بَشِيرُ لَا جِهَادَ وَلَا صدقة فبما تَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ " فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُبْسُطْ يَدَك فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته عَلَيْهِنَّ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ

قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ" فَأَوْجَبَ الْجِهَادَ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ الْجِهَادُ بِهِ. وَلَيْسَ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرْضٌ آكَدُ وَلَا أَوْلَى بِالْإِيجَابِ مِنْ الْجِهَادِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِالْجِهَادِ يُمْكِنُ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَفِي تَرْكِ الْجِهَادِ غَلَبَةُ الْعَدُوِّ وَدُرُوسُ الدِّينِ، وَذَهَابُ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ فَرْضَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ"، فَذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَصَوْمَ رَمَضَانَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْجِهَادَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ فِي الْأَصْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ وَهْبٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْت الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ، وَقَوْلُهُ: "وَجَدْت" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ مِنْ رَأْيِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَجِدَ غَيْرُهُ مَا هُوَ أَكْثَرَ مِنْهُ; وَقَوْلُ حُذَيْفَةَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ أَحَدُهَا الْجِهَادُ يُعَارِضُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْت عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُسًا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَغْزُو؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ"، فَهَذَا حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ السَّنَدِ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ لَهُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ إلَى ذِكْرِ مَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ دُونَ مَا يَكُونُ مِنْهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَتَعَلُّمَ عُلُومِ الدِّينِ، وَغَسْلَ الْمَوْتَى وَتَكْفِينَهُمْ وَدَفْنَهُمْ كُلُّهَا فُرُوضٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ؟ وَلَمْ يُخْرِجْهُ تَرْكُ ذِكْرِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَصَدَ إلَى بَيَانِ ذِكْرِ الْفُرُوضِ اللَّازِمَةِ لِلْإِنْسَانِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فِي أَوْقَاتٍ مُرَتَّبَةٍ، وَلَا يَنُوبُ غَيْرُهُ عَنْهَا فِيهِ، وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَهُوَ مَا حُدِّثْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ، وَمَا نَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَّا أَحَقَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، حَتَّى إنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،, وَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ".

وَحُدِّثْنَا عَنْ خَلَفِ بْنِ عَمْرٍو الْعُكْبَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَهْدِيٍّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُهُ فَقَدْ اقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ وُجُوبَ الْجِهَادِ لِإِخْبَارِهِ بِإِدْخَالِ اللَّهِ الذُّلَّ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ عُقُوبَةٍ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْعُقُوبَاتُ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْجِهَادِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي نَفْيِ فَرْضِ الْجِهَادِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} وَقَوْلُهُ: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وَقَوْلُهُ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95] فَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مَوْعُودِينَ بِالْحُسْنَى بَلْ كَانُوا يَكُونُونَ مَذْمُومِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ بِتَرْكِهِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وَفِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قَالَ: نَسَخَتْهَا {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} قَالَ: تَنْفِرُ طَائِفَةٌ وَتَمْكُثُ طَائِفَةٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَالْمَاكِثُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيُنْذِرُونَ إخْوَانَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنْ الْغَزْوِ بِمَا نَزَلَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَحُدُودِهِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ "مُحَمَّدِ بْنِ" الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "يَعْنِي مِنْ السَّرَايَا كَانَتْ تَرْجِعُ، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ تَعَلَّمَهُ الْقَاعِدُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُمْ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ" قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} . فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا لُزُومُ فَرْضِ الْجِهَادِ، وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إذَا كَفَاهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ. قَوْله تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ} الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: شُبَّانًا وَشُيُوخًا. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: "أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ". وَعَنْ الْحَسَنِ: مَشَاغِيلَ، وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَتَادَةَ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَقِيلَ:"ذَا صَنْعَةٍ وَغَيْرَ ذِي صَنْعَةٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ

يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَعُمَّهَا، إذْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ. وَقَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَأَوْجَبَ فَرْضَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ فَيَغْزُو بِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَجَلَدٌ، وَأَمْكَنَهُ الْجِهَادُ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ وَيَسَارٍ بَعْدَ أَنْ يَجِدَ مَا يَبْلُغُهُ، وَمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِتَالِ، وَلَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ مُعْدَمًا فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِالنُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} . وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدِهِمَا: خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ إلَى الْمُبَاحِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ، وَالْآخَرِ: أَنَّ الْخَيْرَ فِيهِ لَا فِي تَرْكِهِ. وَقَوْلُهُ: {ْإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قِيلَ فِيهِ: إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْخَيْرَ فِي الْجُمْلَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَ اللَّهِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} الْآيَةَ. لَمَّا أَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْجَبْرِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ لِمَا كُلِّفُوا فِي حَالِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَكْذَبَهُمْ فِي نَفْيِهِمْ الِاسْتِطَاعَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ، فَجَاءُوا فَحَلَفُوا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} . الْعَفْوُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ" وَالْعَفْوُ التَّرْكُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى" وَالْعَفْوُ الْكَثْرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف:95] يَعْنِي: كَثُرُوا، وَأَعْفَيْت فُلَانًا مِنْ كَذَا وَكَذَا إذَا سَهَّلْت لَهُ تَرْكَهُ، وَالْعَفْوُ الصَّفْحُ عَنْ الذَّنْبِ، وَهُوَ إعْفَاؤُهُ مِنْ تَبِعَتِهِ وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِثْلُ الْغُفْرَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ التَّسْهِيلَ، فَإِذَا عَفَا عَنْ ذَنْبِهِ فَلَمْ يَسْتَقْصِ عَلَيْهِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا التَّرْكَ وَالتَّوْسِعَةَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ صَغِيرٌ فِي إذْنِهِ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ

لَهُمْ} إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ؟ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك بِفِعْلِهِ؟ قَالُوا: فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ الْعَفْوِ عَمَّا قَدْ جَعَلَ لَهُ فِعْلَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ لَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، وَإِنَّمَا عَاتَبَهُ بِأَنْ قَالَ: لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ مِمَّا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ؟ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] فَأَبَاحَ الْأَمْرَيْنِ وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} : كَانَتْ كَمَا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رُخْصَةً فِي ذَلِكَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {يَتَرَدَّدُونَ} : هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} . وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قَالَ: "نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَحِقَتْهُمْ تُهْمَةٌ، فَكَانَ يُمْكِنُ النَّبِيَّ اسْتِبْرَاءُ أَمْرِهِمْ بِتَرْكِ الْإِذْنِ لَهُمْ، فَيَظْهَرُ نِفَاقُهُمْ إذَا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي أُولَئِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] وَقَوْلُهُ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا، فَلَا تَكُونُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى. قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {بِأَمْوَالِهِمْ} الْآيَةَ. يَعْنِي: لَا يَسْتَأْذِنُك الْمُؤْمِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ لَأَنْ لَا يُجَاهِدُوا وَأَضْمَرَ "لَا" في قوله: {ِأَنْ يُجَاهِدُوا} لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ فِي التَّخَلُّفِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُجَاهِدُوا} أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا، وَهُوَ يُؤَوَّلُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إضْمَارَ "لَا" فِيهِ وَإِضْمَارَ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَرْضِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} فَذَمَّهُمْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ بِهِمَا.

مطلب: في الجهاد بالمال وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي إعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالرَّاحِلَةِ وَالزَّادِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي إنْفَاقُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يجاهد، ومعونته بالزاد والعدة ونحوها.

مطلب: في الجهاد بالنفس وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ عَلَى ضُرُوبٍ: مِنْهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهِ، وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ، وَمِنْهَا بَيَانُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ مِنْ الْجِهَادِ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ بِهِ، وَالْعِقَابِ لِمَنْ قَعَدَ عَنْهُ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ وَالْأَمْرُ، وَمِنْهَا الْإِخْبَارُ بِعَوْرَاتِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْأَوْلَى وَالْأَصْلَحِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ، كَمَا قَالَ الْخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ حِينَ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهَذَا رَأْيٌ رَأَيْته أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ: "بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته" قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ، وَتَجْعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِك، وَتُغْوِرَ الْآبَارَ الَّتِي فِي نَاحِيَةِ الْعَدُوِّ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُقَوِّي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ويوهن أمر العدو.

باب حكم نصارى بني تغلب

بَابُ حُكْمُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَنْتَحِلُونَ نِحْلَتَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَسِّكِينَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَوَلَّى قَوْمًا مِنْهُمْ فِي حُكْمِهِمْ; وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ: إنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وَذَلِكَ حِينَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: "أَمَا تَقُولُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ " فَقَالَ: إنَّ لِي دِينًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْك أَلَسْت رَكُوسِيًّا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك" فَنَسَبَهُ إلَى صِنْفٍ مِنْ النَّصَارَى مَعَ إخْبَارِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَسِّكٍ بِهِ بِأَخْذِهِ الْمِرْبَاعَ، وَهُوَ رُبْعُ الْغَنِيمَةِ، وَالْغَنِيمَةُ غَيْرُ مُبَاحَةٍ فِي دِينِ النَّصَارَى، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ انْتِحَالَ بَنِي تَغْلِبَ لِدِينِ النَّصَارَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَبَ أَخْذُ الجزية منهم.

مطلب: في محاورة الرشد مع محمد بن الحسن

مطلب: في محاورة الرشد مع محمد بن الحسن وَقَدْ حَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَكْرَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إذْ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ، فَقَامَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مُعْتَلَّ الْقَلْبِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَامَ وَدَخَلَ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ، فَأَمْهَلَ الرَّشِيدُ يَسِيرًا ثُمَّ خَرَجَ الْإِذْنُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَجَزِعَ أَصْحَابُهُ لَهُ، فَأُدْخِلَ فَأُمْهِلَ ثُمَّ خَرَجَ طَيِّبَ النَّفْسِ مَسْرُورًا، قَالَ: قَالَ لِي: مَا لَك لَمْ تَقُمْ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَ: كَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ عَنْ الطَّبَقَةِ الَّتِي جَعَلْتنِي فِيهَا، إنَّك أَهَّلَتْنِي لِلْعِلْمِ فَكَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ إلَى طَبَقَةِ الْخِدْمَةِ الَّتِي هِيَ خَارِجَةٌ مِنْهُ، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمِيلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"، وَإِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءَ، فَمَنْ قَامَ بِحَقِّ الْخِدْمَةِ، وَإِعْزَازِ الْمَلِكِ فَهُوَ هَيْبَةٌ لِلْعَدُوِّ، وَمَنْ قَعَدَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الَّتِي عَنْكُمْ أُخِذَتْ فَهُوَ زَيْنٌ لَكُمْ، قَالَ: صَدَقْت يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ شَاوَرَنِي فَقَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرُوا أَوْلَادَهُمْ، وَقَدْ نَصَرُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَحَلَّتْ بِذَلِكَ دِمَاؤُهُمْ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: قُلْت: إنَّ عُمَرَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَصَرُوا أَوْلَادَهُمْ بَعْدَ عُمَرَ، وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَمِّك. وَكَانَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَيْك، وَجَرَتْ بِذَلِكَ السُّنَنُ، فَهَذَا صُلْحٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَلَا شَيْءَ يَلْحَقُك فِي ذلك، وقد كشفت لك العلم

باب من تؤخذ منه الجزية

بَابُ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحَوَى الْآيَةِ، وَمَضْمُونِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، إذْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَاتِلًا لِصَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَمَنْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَرِفِينَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ

مطلب في مقدار الجزية

مطلب في مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَلَمْ تَكُنْ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "عَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ سَوَاءٌ لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْخَرَاجَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى مَا وَرَاءِ دِجْلَةَ وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مَا دُونَ دِجْلَةَ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَهُمَا: كَيْفَ وَضَعْتُمَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؟ قَالَا: وَضَعْنَا عَلَى كُلِّ رِجْلٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا؟ قَالَا: إنَّ لَهُمْ فُصُولًا فَذَكَرَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ ثَمَانِيَةً، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يُفَصِّلْ الطَّبَقَاتِ، وَذَكَرَ حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ تَفْصِيلَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ما

في تمييز الطبقات

فِي تَمْيِيزِ الطَّبَقَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: "تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الطَّبَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْت ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ عَلَى الْمُوسِرِ مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الصَّنْعَةِ، وَالتَّاجِرِ وَالْمُعَالِجِ وَالطَّبِيبِ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهُمْ صَنْعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَلَى الْمُوسِرِ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ، مَنْ احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمَنْ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَاثْنَا عَشَرَ عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وَالْإِسْكَافِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ". فَلَمْ يَعْتَبِرْ الْمِلْكَ، وَاعْتَبَرَ الصِّنَاعَاتِ، وَالتِّجَارَاتِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ مِنْهُمْ. وَذَكَرَ عَلِيٌّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَزَى ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّبَقَةَ الْأُولَى مَنْ يَحْتَرِفُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ الْفُقَرَاءُ الْمُحْتَرِفُونَ، فَمَنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، قَالَ: وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَبْلُغَ مَالُ الرَّجْعِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا زَادَ إلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ; لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَنِيٌّ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ طِبْقَةِ الْفُقَرَاءِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذْنَا اعْتِبَارَ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ: "أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ كَثِيرٌ" قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ لِمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِي الضَّيْفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ صَفَائِحُ يُعَذَّبُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ هُوَ اجْتِهَادٌ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ صوابه. وقوله تعالى: {عَنْ يَدٍ} قَالَ قَتَادَةُ: "عَنْ قَهْرٍ" كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي الْيَدِ إلَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى اسْتِعْلَاءٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَهْرِهِمْ. وَقِيلَ: {عَنْ يَدٍ} يَعْنِي عَنْ يَدِ الْكَافِرِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَدَ لِيُفَارِقَ حَالَ الْغَصْبِ; لِأَنَّهُ يُعْطِيهَا بِيَدِهِ رَاضِيًا بها

باب وقت وجوب الجزية

بَابُ وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ; فَأَوْجَبَ قِتَالَهُمْ، وَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِهِ عَنْهُمْ; لِأَنَّ {حَتَّى} غَايَةٌ، هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] قَدْ حَظَرَ إبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ. وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ" مَنَعَ الْإِعْطَاءَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ; وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "لَا تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ الْجِزْيَةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ، وَيَمْضِيَ شَهْرَانِ مِنْهَا بَعْضُ مَا عَلَيْهِ بِشَهْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُعَامَلُ فِي الْجِزْيَةِ، بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ كُلَّمَا كَانَ يَمْضِي شَهْرَانِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أُخِذَتْ مِنْهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِالضَّرِيبَةِ الْأُجْرَةَ فِي الْإِجَارَاتِ; قَالَ أَبُو يُوسُفَ: "وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ حِينَ تَدْخُلُ السَّنَةُ، وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى تَتِمَّ السَّنَةُ، وَلَكِنْ يُعَامَلُ ذَلِكَ فِي سَنَتِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذِكْرُهُ لِلشَّهْرَيْنِ إنَّمَا هُوَ تَوْفِيَةٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِإِقْرَارِنَا إيَّاهُ عَلَى الذِّمَّةِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ: "يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ فِي سَنَتِهِ مَا دَامَ فِيهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ". وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنَّهُ رَآهَا وَاجِبَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَأَنَّ تَأْخِيرَنَا بَعْضَ السَّنَةِ إنَّمَا هُوَ تَوْفِيَةٌ لِلْوَاجِبِ وَتَوْسِعَةٌ. أَلَا تَرَى أنه قال:

مطلب: كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة

مطلب: كَانَ آلُ مَرْوَانَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ من أهل الذمة وَقَدْ كَانَ آلُ مَرْوَانَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ إسْلَامُ الْعَبْدِ ضَرِيبَتَهُ، وَهَذَا خَلَلٌ فِي جَنْبٍ مَا ارتكبوه

في خراج الأرض هل هو جزية

فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ جِزْيَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِينَ هَلْ هُوَ صَغَارٌ، وَهَلْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ أَرْضَ الْخَرَاجِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَرَاهَتُهُ، وَرَأَوْهُ دَاخِلًا فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَشَرِيكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْجِزْيَةُ إنَّمَا هِيَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَغَارٍ"، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْهُ، وَهُوَ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ رِجْلٍ مِنْ طَيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بِرَاذَانَ مَا بِرَاذَانَ، وَبِالْمَدِينَةِ مَا بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً بِرَاذَانَ، وَضَيْعَةً بِالْمَدِينَةِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَاذَانَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، فَلَمْ يَكْرَهْ عَبْدُ اللَّهِ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةِ نَهْرِ الْمَلِكِ حِينَ أَسْلَمَتْ: إنْ أَقَامَتْ عَلَى أَرْضِهَا أَخَذْنَا مِنْهَا الْخَرَاجَ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرُّفَيْلِ أَسْلَمَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَسْلَمَ فَقَالَ: إنْ أَقَمْت عَلَى أَرْضِك أَخَذْنَا مِنْك الْخَرَاجَ، وَإِلَّا فَنَحْنُ أَوْلَى بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرَوَى سهيل بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا، وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لحم أبي

فصل

فَصْلٌ إنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ: كَيْفَ جَازَ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنْ الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ رِضًا بِكُفْرِهِمْ، وَلَا إبَاحَةً لِبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَبْقِيَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَهِيَ لَوْ تَرَكْنَاهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ إيجَابُ قَتْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ كَافِرًا طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإِذَا بَقَّاهُمْ لِعُقُوبَةٍ يُعَاقِبُهُمْ بِهَا مَعَ التَّبْقِيَةِ اسْتِدْعَاءً لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا إمْهَالُهُ إيَّاهُمْ إذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصْلَحَةِ مَعَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا مِنْ الرِّفْقِ وَالْمَنْفَعَةِ; فَلَيْسَ إذًا فِي إقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَرْكِ قَتْلِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مَا يُوجِبُ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ، وَلَا الْإِبَاحَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ، وَشِرْكِهِمْ، فَكَذَلِكَ إمْهَالُهُمْ بِالْجِزْيَةِ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْجِيلِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ الْمُسْتَحَقِّ بِكُفْرِهِمْ، وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِأَدَائِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} قيل: إنه

مطلب: في زكاة الذهب والفضة

مطلب: في زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ; يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابُ إنْفَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ; لِأَنَّ الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِتَرْكِ إنْفَاقِ الْجَمِيعِ لِقَوْلِهِ: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} وَلَمْ يَقُلْ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَمِيعَ لَقَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَ الْكُنُوزَ، وَالْآخَرَانِ يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لِلْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] قَالَ الشَّاعِرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَالْمَعْنَى: رَاضُونَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَبَقِيَ أَحَدُهُمَا عَارِيًّا مِنْ خَبَرِهِ فَيَكُونُ كَلَامَا مُنْقَطِعًا لا معنى له; إذ كان قوله:

مطلب: في زكاة الحلي

مطلب: فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَأَوْجَبَ أَصْحَابُنَا فِيهِ الزَّكَاةَ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الْحُلِيَّ تُزَكَّى مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا تُزَكَّى بَعْدَ ذَلِكَ.، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْحُلِيِّ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ آثَارٌ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَتَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: "أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ " قَالَتْ: لَا، قَالَ: "أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ" فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي السِّوَارِ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْت أَلْبِسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: "مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ". وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، وَالْآخَرُ: أَنَّ الْكَنْزَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ " فَقُلْت: صَنَعْتهنَّ أَتَزَّيَّنُ لَك يَا رَسُولَ الله قال: "أتؤدين زكاتهن؟ "

فصل

فَصْلٌ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمَجْمُوعِهِمَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ ضَمِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَإِذَا كَمُلَ النِّصَابُ بِهَا زُكِّيَ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ كَالْعُرُوضِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "يُضَمُّ بِالْأَجْزَاءِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُضَمَّانِ". وَرُوِيَ الضَّمُّ عَنْ الْحَسَنِ وَبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَقَتَادَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا مَجْمُوعِينَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا الزَّكَاةَ مَجْمُوعِينَ; لِأَنَّ قوله: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} قَدْ أَرَادَ بِهِ إنْفَاقَهُمَا جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَى وجوب الضم أنهما متفقان

مطلب: قد اجتهد محمد بن موسى المنجم في كشف حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم"إن الزمان قد استدار كهيئته" ثماني سنين

مطلب: قد اجتهد محمد بن موسى المنجم في كشف حقيقة قول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ الزَّمَانَ قد استدار كهيئته" ثماني سنين. وَقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَوْلَادِ بَنِي الْمُنَجِّمِ أَنَّ جَدَّهُ وَهُوَ أَحْسَبُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْمُنَجِّمُ الَّذِي يَنْتَمُونَ إلَيْهِ حَسَبَ شُهُورِ الْأَهِلَّةِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَوَجَدَهَا قَدْ عَادَتْ فِي مَوْقِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ عَادَ إلَيْهِ يَوْمَ النَّحْر مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ; لِأَنَّ خُطْبَتَهُ هَذِهِ كَانَتْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ; وَأَنَّهُ حَسَبَ ذَلِكَ فِي ثَمَانِي سِنِينَ فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ ابْتِدَاءِ الشُّهُورِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ عَادَ الزَّمَانُ إلَيْهِ مَعَ النَّسِيءِ بِاَلَّذِي قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُنْسِئُونَ، وَتَغْيِيرُ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ السَّنَةُ الَّتِي حَجِّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي وُضِعَ الْحَجُّ فِيهِ. وَإِنَّمَا قَالَ "رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" دُونَ رَمَضَانَ الَّذِي يُسَمِّيهِ رَبِيعَةُ رَجَبَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخِرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَهُوَ أَنَّ اللَّه قَسَمَ الزَّمَانَ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا، فَجَعَلَ نُزُولَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْ الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا مِنْهَا، فَيَكُونُ قطعها للفلك في ثلاثمائة وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبْعِ يَوْمٍ، فَيَجِيءُ نَصِيبُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَسْرٍ، وَقَسَّمَ الْأَزْمِنَةَ أَيْضًا عَلَى مَسِيرِ الْقَمَرِ، فَصَارَ الْقَمَرُ يَقْطَعُ الْفَلَكَ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ونصف يوم. وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَرُبْعَ يَوْمٍ، فَكَانَ قَطْعُ الشَّمْسِ لِلْبُرْجِ مُقَارِبًا لِقَطْعِ الْقَمَرِ لِلْفَلَكِ كُلِّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الاسراء:12] ; فلما كانت السنة

باب فرض النفير والجهاد

بَابُ فَرْضُ النَّفِيرِ وَالْجِهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} . اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبَ النَّفِيرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَنْفِرْ، وَقَالَ فِي آيَةٍ بَعْدَهَا: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . فَأَوْجَبَ النَّفِيرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ الِاسْتِنْفَارِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ لَهُ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَابْنِ أَبِي بِلَالٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ أَنَّهُ وَافَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ يُجَهِّزُ، قَالَ: فَقُلْت: يَا أَبَا الْأَسْوَدِ قَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَيْك، أَوْ قَالَ: قَدْ عَذَرَك اللَّهُ، يَعْنِي فِي الْقُعُودِ عَنْ الْغَزْوِ; فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ بَرَاءَةٌ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا أيوب شهد بدراً

مطلب: في الجهاد بالمال

مطلب: في الجهاد بالمال وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي إعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالرَّاحِلَةِ وَالزَّادِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي إنْفَاقُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يجاهد، ومعونته بالزاد والعدة ونحوها.

مطلب: في الجهاد بالنفس

مطلب: في الجهاد بالنفس وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ عَلَى ضُرُوبٍ: مِنْهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهِ، وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ، وَمِنْهَا بَيَانُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ مِنْ الْجِهَادِ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ بِهِ، وَالْعِقَابِ لِمَنْ قَعَدَ عَنْهُ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ وَالْأَمْرُ، وَمِنْهَا الْإِخْبَارُ بِعَوْرَاتِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْأَوْلَى وَالْأَصْلَحِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ، كَمَا قَالَ الْخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ حِينَ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهَذَا رَأْيٌ رَأَيْته أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ: "بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته" قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ، وَتَجْعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِك، وَتُغْوِرَ الْآبَارَ الَّتِي فِي نَاحِيَةِ الْعَدُوِّ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُقَوِّي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ويوهن أمر العدو.

مطلب: في جهاد العلم

مطلب: في جهاد العلم فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادَيْنِ أَفْضَلُ أَجِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ أَمْ جِهَادُ الْعِلْمِ؟ قِيلَ لَهُ: الْجِهَادُ بِالسَّيْفِ مَبْنِيٌّ عَلَى جِهَادِ الْعِلْمِ وَفُرِّعَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعُدُّوا فِي جِهَادِ السَّيْفِ مَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ، فَجِهَادُ الْعِلْمِ أَصْلٌ وَجِهَادُ النَّفْسِ فَرْعٌ، وَالْأَصْلُ أَوْلَى بِالتَّفْضِيلِ مِنْ الفرع.

مطلب: في أن تعلم العلم أفضل أم الجهاد

مطلب: في أن تعلم العلم أفضل أم الجهاد ... مطلب: في أن تعلم العلم أفضل من الجهاد فَإِنْ قِيلَ: تَعَلُّمُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ أَمْ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قِيلَ لَهُ: إذَا خِيفَ مَعَرَّةُ الْعَدُوِّ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بِإِزَائِهِ مَنْ يَدْفَعُهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَدُوِّ إذَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْكِنْ تَلَافِيهِ، وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ مُمْكِنٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَمَا كَانَ فَرْضًا مُعَيَّنًا عَلَى الْإِنْسَانِ غَيْرَ

مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْفَرْضِ الَّذِي قَامَ بِهِ غَيْرُهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا هُوَ أَوْلَى مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إذْ كَانَ الْفَرْضُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنْ قَامَ بِفَرْضِ الْجِهَادِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ وَغِنًى فَقَدْ عَادَ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَى حُكْمِ الْكِفَايَةِ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى، وَأَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، عَلَى مَرْتَبَةِ الْجِهَادِ، فَإِنَّ ثَبَاتَ الْجِهَادِ بِثَبَاتِ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ فرع له ومبني عليه.

مطلب: يجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقا فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ الْجِهَادُ مَعَ الْفُسَّاقِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِفَرْضِ نَفْسِهِ، فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُ الْجَيْشِ وَجُنُودُهُ فَاسِقًا، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُونَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُسَّاقِ،, وَغَزَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ مَعَ يَزِيدَ اللَّعِينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَنِ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ؟ فَكَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ مَعَ الْفُسَّاقِ كَوُجُوبِهِ مَعَ الْعُدُولِ، وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَرْضِ الْجِهَادِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ وَمَعَ الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إذَا جَاهَدُوا فَهُمْ مُطِيعُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِهَادَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ رَأَيْنَا فَاسِقًا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ كَانَ عَلَيْنَا مُعَاوَنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْجِهَادُ، فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ الْعُدُولَ دُونَ الْفُسَّاقِ، فَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْجِهَادِ مَعَ الْعُدُولِ، وَمَعَ الْفُسَّاقِ

مطلب: في وجوب الاستعداد للجهاد قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} الْعُدَّةُ مَا يُعِدُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُهَيِّئُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأُهْبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ قَبْلَ وَقْتِ وُقُوعِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} يَعْنِي خُرُوجَهُمْ; لِأَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ وَتَخْذِيلِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ وَالتَّضْرِيبِ بَيْنَهُمْ، وَالْخُرُوجُ

عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ، فَكَرِهَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَثَبَّطَهُمْ عَنْهُ إذْ كَانَ مَعْصِيَةً، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أَيْ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: اُقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. قَوْله تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} الْآيَةَ. فِيهِ بَيَانُ وَجْهِ خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا، وَإِخْبَارٌ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَتْ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعَاتَبَةَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا أَيْضًا فَيَظْهَرُ لِلْمُسْلِمِينَ كِذْبُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ خُرُوجَهُمْ لَوْ خَرَجُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَكُونُ مَعْصِيَةً وَفَسَادًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} ، وَالْخَبَالُ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا لَسَعَوْا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّضْرِيبِ وَإِفْسَادِ الْقُلُوبِ وَالتَّخْذِيلِ عَنْ الْعَدُوِّ، فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ اضْطِرَابَ آرَائِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لم قال: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى خَبَالٍ يُزَادُ فِيهِ؟ قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، تَقْدِيرُهُ: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً لَكِنْ طَلَبُوا لَكُمْ الْخَبَالَ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانُوا عَلَى خَبَالٍ فِي الرَّأْيِ لِمَا يَعْرِضُ فِي النُّفُوسِ مِنْ التَّلَوُّنِ إلَى أَنْ اسْتَقَرَّ عَلَى الصَّوَابِ، فَيُقَوِّيهِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَصِيرَ خَبَالًا مَعْدُولًا بِهِ عَنْ صَوَابِ الرَّأْيِ. قوله تعالى: {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} . قَالَ الْحَسَنُ: "وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ بينكم". وقوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} فَإِنَّ الْفِتْنَةَ هَهُنَا الْمِحْنَةُ بِاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَالْفُرْقَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكُفْرَ; لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] وَقَوْلُهُ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] . وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "عُيُونٌ مِنْهُمْ يَنْقُلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ". وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ:"قَابِلُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِمْ". قَوْله تَعَالَى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي طَلَبُوا الْفِتْنَةَ، وَهِيَ هَهُنَا الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ الْأُلْفَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} يَعْنِي بِهِ تَصْرِيفُ الْأُمُورِ، وَتَقْلِيبُهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ طَلَبًا لِوَجْهِ الْحِيلَةِ وَالْمَكِيدَةِ فِي إطْفَاءِ نُورِهِ وَإِبْطَالِ أَمْرِهِ، فَأَبَى اللَّهُ تَعَالَى إلَّا إظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ وَعَصَمَهُ مِنْ كَيَدِهِمْ وَحِيَلِهِمْ.

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: "نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنِّي مُسْتَهْتِرٌ بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَزَاةِ تَبُوكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: لَا تُؤَثِّمْنِي بِالْعِصْيَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْفُرْقَةَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا} . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: كُلُّ مَا يُصِيبُنَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَلَيْسَ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ الْكُفَّارُ مِنْ إهْمَالِنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْجِعَ أَمْرُنَا إلَى تَدْبِيرِ رَبِّنَا. وَقِيلَ:"لَنْ يُصِيبَنَا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا مِنْ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَنَا". قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ، وَالْمُرَادُ الْبَيَانُ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْخَبَرُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ "إنْ" لِلْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتْ وَمَعْنَاهُ: إنْ أَحْسَنْت أَوْ أَسَأْت لَمْ تُلَامِي. قَوْله تَعَالَى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فَلَا تُعْجِبْك أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عَلَى تَقْدِيمِ الْكَلَامِ وَتَأْخِيرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "لِيُعَذِّبَهُمْ فِي الزَّكَاةِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "يُعَذِّبُهُمْ بِهَا بِالْمَصَائِبِ". وَقِيلَ: "قَدْ يَكُونُ صِفَةُ الْكُفَّارِ بِالسَّبْيِ وَغَنِيمَةِ الْأَمْوَالِ". وَهَذِهِ "اللَّامُ" الَّتِي فِي قوله: {لِيُعَذِّبَهُمْ} هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص:8] . قَوْله تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} الْحَلْفُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِذِكْرِ الْمُعَظَّمِ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاَللَّهِ، وَبِاَللَّهِ وَالْحُرُوفِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْقَسَمِ، وَكَذَلِكَ الْقَسَمُ وَالْيَمِينُ، إلَّا أَنَّ الْحَلِفَ مِنْ إضَافَةِ الْخَبَرِ إلى المعظم وقوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} إخْبَارٌ عَنْهُمْ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فِي أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَحَلِفُ بِاَللَّهِ، هُوَ يَمِينٌ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ حَذَفَ ذِكْرَ الْحَلِفِ، وَقَالَ بِاَللَّهِ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "أَنَا حَالِفٌ بِاَللَّهِ" إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعِدَّةَ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، فَهُوَ يَنْصَرِفُ عَلَى الْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ إيقَاعُ الْحَلِفِ بِهَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِك "أَنَا أَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ"، وَيَحْتَمِلُ الْعِدَّةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ "بِاَللَّهِ" فَهُوَ إيقَاعٌ لِلْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إضْمَارُ "أَحْلِفُ بِاَللَّهِ" أَوْ "قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ". وَقِيلَ: إنَّمَا حَذَفَ ذِكْرَ الْحَلِفِ لِيَدُلَّ

عَلَى وُقُوعِ الْحَلِفِ، وَيَزُولَ احْتِمَالُ الْعِدَّةِ كَمَا حَذَفَ فِي "وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ" لِيَدُلَّ أَنَّ الْقَائِلَ حَالِفٌ لَا وَاعِدٌ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} مَعْنَاهُ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالدِّينِ وَالْمِلَّةِ، فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِضَافَةُ مِنْهُمْ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا قَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} و {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} فَنَسَبَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعِيبُكَ. وَقِيلَ: اللَّمْزُ الْعَيْبُ سِرًّا، وَالْهَمْزُ الْعِيَبُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "يَطْعَنُ عَلَيْك". وَيُقَالُ: إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُنَافِقِينَ أَرَادُوا أَنْ يُعْطِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَطَعَنُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ، وَقَالُوا يُؤْثِرُ بِهَا أَقْرِبَاءَهُ وَأَهْلَ مَوَدَّتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لِهَؤُلَاءِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ ذُكِرَ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فِيهِ ضَمِيرُ جَوَابِ "لَوْ" تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَوْ أَعْوَدَ عَلَيْهِمْ، وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي مِثْلِهِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِهِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ تَذْهَبُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، وَالذِّكْرُ يَقْصُرُهُ عَلَى الْمَذْكُورِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَفِيهِ إخْبَارٌ عَلَى أَنَّ الرِّضَا بِفِعْلِ اللَّهِ يُوجِبُ الْمَزِيدَ مِنْ الْخَيْرِ جزاء للراضي على فعله.

مطلب: في بيان معنى الفقير والمسكين قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ مِثْلَ هَذَا; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْمِسْكِينَ أَضْعَفَ حَالًا وَأَبْلَغَ فِي جَهْدِ الْفَقْرِ وَالْعُدْمِ مِنْ الْفَقِيرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: الْفَقِيرُ: الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي يَسْأَلُ; فَكَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] فَسَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَوَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْفَقِيرُ ذُو الزَّمَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ

وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ مِنْهُمْ". وَقِيلَ: إنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمِسْكِينُ إلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ بِالصِّفَتَيْنِ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ. وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: "الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَهُ أَدْنَى بُلْغَةً" وَيَحْكِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَعْرَابِيٍّ: أَفَقِيرٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا بَلْ مِسْكِينٌ وَأَنْشَدَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَسَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ وُجُودِ الْحَلُوبَةِ. قَالَ: وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ عَنْ يُونُسَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ:"الْفَقِيرُ يَكُونُ لَهُ بَعْضُ مَا يُغْنِيهِ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَمْلِكُ بَعْضَ مَا يُغْنِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَحُسُّهُ الْجَاهِلُ بِحَالِهِ غَنِيًّا إلَّا وَلَهُ ظَاهِرُ جَمِيلٍ، وَبَزَّةٌ حَسَنَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ لِبَعْضِ مَا يُغْنِيهِ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الْفَقْرِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا قَالَ فِي صِفَةِ الْمِسْكِينِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الْمِسْكِينَ لَيْسَ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَالْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ" قَالَ: فَلَمَّا نَفَى الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَسْكَنَةِ عَمَّنْ تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَأَثْبَتَهَا لِمَنْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ وَسَمَّاهُ مِسْكِينًا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ الَّذِي قَدْ لَزِقَ بِالتُّرَابِ وَهُوَ جَائِعٌ عَارٍ لَا يُوَارِيهِ عَنْ التُّرَابِ شَيْءٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ وَالْعُدْمِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فَأَثْبَتَ لَهُمْ مِلْكَ السَّفِينَةِ، وَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ. قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُجَرَاءَ فِيهَا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا لَهَا، وَإِنَّمَا نَسَبَهَا إلَيْهِمْ بِالتَّصَرُّفِ وَالْكَوْنِ فِيهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:53] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فَأَضَافَ الْبُيُوتَ تَارَةً إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ أَوْ لَهُنَّ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُنَّ، وَلَهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ وَالسُّكْنَى، كَمَا يُقَالُ: "هَذَا مَنْزِلُ فُلَانٍ" وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا فِيهِ غَيْرَ مَالِكٍ لَهُ وَ "هَذَا مَسْجِدُ فُلَانٍ"، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمِلْكُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79] هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

وَيُقَالُ إنَّ الْفَقِيرَ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ كُسِرَتْ فَقَارُهُ، يُقَالُ مِنْهُ فَقَرَ الرَّجُلُ فَقْرًا، وَأَفْقَرَهُ اللَّهُ إفْقَارًا، وَتَفَاقَرَ تَفَاقُرًا، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي قَدْ أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ، وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ. أَنَّ الْفُقَرَاءَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، كَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8] ، وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى بَعْضِ جَسَدِهِ، وَبِهِ حَاجَةٌ، وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُصِيبُ الْمَكْسَبَ". وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ، وَأَنَّ الْمِسْكِينَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِفُلَانٍ; أَنَّ لِفُلَانٍ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَانِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ; فَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَأَنَّهُمَا صِنْفَانِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ نِصْفَ الثُّلُثِ لِفُلَانٍ، وَنِصْفَهُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفًا واحدا. وقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فَإِنَّهُمْ السُّعَاةُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَةِ; رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِمْ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ الثَّمَنَ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا بِقَدْرِ عَمَلِهِمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ قِسْمَةَ الصَّدَقَاتِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجْزِي أَنْ يُعْطَى رَبُّ الْمَاشِيَةِ صَدَقَتَهَا الْفُقَرَاءَ فَإِنْ فَعَلَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ ثَانِيًا، وَلَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِمَا أَدَّى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَدَاؤُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى عَامِلٍ لِجِبَايَتِهَا فَيَضُرُّ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا إلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ لَا يجوز له إعطاؤها الفقراء.

مطلب: في المؤلفة القلوب قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا يُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَكَانُوا يُتَأَلَّفُونَ بِجِهَاتٍ ثَلَاثٍ: إحْدَاهَا لِلْكُفَّارِ لِدَفْعِ مَعَرَّتِهِمْ، وَكَفِّ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَالثَّانِيَةِ: لِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ إلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِئَلَّا يَمْنَعُوا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، وَالثَّالِثَةِ إعْطَاءُ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْكُفْرِ لِئَلَّا يَرْجِعُوا إلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ

أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ زَيْدِ الْخَيْرِ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، وَالْأَنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ قَالَ: "إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ". رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ الْعَطَاءَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ، وَمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِهِ". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَ هَوَازِنَ وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطَى رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنْ الْإِبِلِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ أُصَانِعُهُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَأَلَّفُ بِمَا يُعْطِي قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَرْجِعُوا كُفَّارًا. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ" وَرَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِحُنَيْنٍ، وَقَسَمَ لِلْمُتَأَلَّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ مَا قَسَمَ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: "أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْت بِهَا أَقْوَامًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إلَى مَا قَسَمَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ! " فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَأَلَّفَهُمْ لِيُسْلِمُوا، وَفِي الْأَوَّلِ: "إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ"، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَأَلَّفُ بِذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ جَمِيعًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنَّمَا كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَاسْتَغْنَى بِهِمْ عَنْ تَأَلُّفِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِتَرْكِهِمْ الْجِهَادَ، وَمَتَى اجْتَمَعُوا وَتَعَاضَدُوا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَأَلُّفِ غَيْرِهِمْ بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ". وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ; رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: "جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا أَرْضًا سَبِخَةً لَيْسَ فِيهَا كَلَأٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْطِينَاهَا فَأَقْطَعَهَا إيَّاهُمَا، وَكَتَبَ لَهُمَا عَلَيْهَا كِتَابًا وَأَشْهَدَ، وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ عُمَرُ، فَانْطَلَقَا إلَى عُمَرَ لِيَشْهَدَ لَهُمَا، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ مَا فِي الْكِتَابِ تَنَاوَلَهُ مِنْ أَيْدِيهِمَا ثُمَّ تَفَلَ فِيهِ فَمَحَاهُ فَتَذَمَّرَا، وَقَالَا مَقَالَةً سَيِّئَةً، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان

يَتَأَلَّفُكُمَا وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَغْنَى الْإِسْلَامَ، اذْهَبَا فَاجْهَدَا جَهْدَكُمَا لَا يَرْعَى اللَّهُ عَلَيْكُمَا إنْ رَعَيْتُمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَرْكُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّكِيرَ عَلَى عُمَرَ فِيمَا فَعَلَهُ بَعْدَ إمْضَائِهِ الْحُكْمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَذْهَبَ عُمَرَ فِيهِ حِينَ نَبَّهَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنْ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ الِاجْتِهَادَ سَائِغًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ سَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ لَمَا أَجَازَ فَسْخَ الْحُكْمِ الَّذِي أَمْضَاهُ، فَلَمَّا أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ بِتَنْبِيهِ عُمَرَ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ امْتِنَاعَ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِهِ. وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ قُلُوبُهُمْ". وَرَوَى إسْرَائِيلُ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَامِرٍ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَالَ:"كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ انْقَطَعَ الرِّشَا". وَرَوَى ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ مُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، قَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، قُلْت: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. قَوْله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: "لَا يُجْزِي أَنْ تُعْتَقَ مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةُ"، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِك". وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يُعْتِقُ مِنْ الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرِّقَابِ: "إنَّهَا رِقَابٌ يُبْتَاعُونَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَيُعْتَقُونَ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُعْتِقِينَ". قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا، وَلَا عَبْدًا مُوسِرًا كَانَ مَوْلَاهُ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ الْكَفَّارَاتِ أَيْضًا، قَالَ مَالِكٌ:"لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَثَبَتَ أَنَّ إعْطَاءَهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ، وَالدَّفْعُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ صَحِيحَةٌ، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} وَعِتْقُ الرَّقَبَةِ لَا يُسَمَّى صَدَقَةً، وَمَا أُعْطِيَ فِي ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ لِأَنَّ بَائِعَهَا أَخَذَهُ ثَمَنًا لِعَبْدِهِ فَلَمْ تَحْصُلْ بِعِتْقِ الرَّقَبَةِ صَدَقَةٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الصَّدَقَاتِ فِي الرِّقَابِ فَمَا لَيْسَ بِصَدَقَةٍ فَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَقْتَضِي تَمْلِيكًا وَالْعَبْدُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا بِالْعِتْقِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الرِّقُّ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ مَقَامَ الْمَوْلَى فَيَتَصَرَّفَ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لِلْعَبْدِ إنَّمَا هُوَ سُقُوطُ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِذَلِكَ شَيْئَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُجْزِيًا مِنْ الصَّدَقَةِ إذْ شَرْطُ الصدقة وقوع

الْمِلْكِ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِتْقَ وَاقِعٌ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى غَيْرُ مُنْتَقِلٍ إلَى الْغَيْرِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ وَلَاؤُهُ مِنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ عَنْ الصَّدَقَةِ. وَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُكَاتَبُونَ. وَأَيْضًا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعَانَ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَوْ غَازِيًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ"، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ مَعُونَةٌ لَهُمْ فِي رِقَابِهِمْ حَتَّى يُعْتَقُوا، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تعالى: {وفِي الرِّقَابِ} . وَرَوَى طَلْحَةُ الْيَمَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: "لَئِنْ كُنْت أَقْصَرْت الْخُطْبَةَ لَقَدْ عَرَضْت الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقْ النَّسْمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ! " قَالَ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ: "لَا عِتْقُ النَّسْمَةِ أَنْ تَفُوزَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا، وَالْمِنْحَةُ الرَّكُوبُ، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَك إلَّا مِنْ خَيْرٍ" فَجَعَلَ عِتْقَ النَّسْمَةِ غير فك الرقبة، فلما قال: {فِي الرِّقَابِ} كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي مَعُونَتِهَا بِأَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَفُكَّ الْعَبْدُ رَقَبَتَهُ مِنْ الرِّقِّ. وَلَيْسَ هُوَ ابْتِيَاعُهَا وَعِتْقُهَا; لِأَنَّ الثَّمَنَ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قُرْبَةٌ، وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي أَنْ يُعْطَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ حَتَّى يَفُكَّ بِهِ رَقَبَتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ قَبْلَهَا يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى، وَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا فَمَا يَأْخُذُهُ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْمُكَاتَبِ فَيَجْزِي مِنْ الزَّكَاةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ يُسْقِطُ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ رَقَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَضَى دَيْنَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَجْزِي مِنْ زَكَاتِهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْغَارِمِ فَقَضَى بِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ جَازَ; كَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَمَلَكَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ، وَإِذَا أَعْتَقَهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَحَصَلَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا إذْنِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَالْغَارِمِينَ} ; قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ الْمَدِينُونَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ فَضْلًا عَنْ دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ". فَحَصَلَ لَنَا بِمَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَنَّ الْغَارِمَ فَقِيرٌ، إذْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ لَا تُعْطَى إلَّا الْفُقَرَاءَ بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ" وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إذْ كَانَ فَقِيرًا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.

وَالْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ الْغَارِمِينَ دُونَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الزَّكَاةُ، وَلَمْ يُجْزِ مُعْطِيهِ إيَّاهَا وَإِنْ كَانَ غَارِمًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَا يَفْضُلُ لَهُ عَمَّا فِي يَدِهِ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ مِقْدَارُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا، فَيَجْعَلُ الْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَقَّ بِالدَّيْنِ مِمَّا فِي يَدِهِ كَأَنَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَمَا فَضَلَ عَنْهُ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَفِي جَعْلِهِ الصَّدَقَةَ لِلْغَارِمِينَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْغَارِمَ إذَا كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةَ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَهُ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ الْحَمَالَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَالَ: "إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ فُلَانًا أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَمَالَةَ وَسَائِرَ الدُّيُونِ سَوَاءٌ; لِأَنَّ الْحَمَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَالْحَمِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ لَهُ الْمَسْأَلَةَ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ عَلِمَ مُسَاوَاةَ دَيْنِ الْكَفَالَةِ لِسَائِرِ الدُّيُونِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إبَاحَةُ الْمَسْأَلَةِ لِأَجْلِ الْحَمَالَةِ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَائِهَا، وَكَانَ الْغُرْمُ الَّذِي لَزِمَهُ بِإِزَاءِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِهِ كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ. وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ فِي قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} قَالَ: "الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ". وَقَالَ سَعِيدٌ فِي قوله: {وَالْغَارِمِينَ} قَالَ: "نَاسٌ عَلَيْهِمْ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ فَسَادٍ وَلَا إتْلَافٍ وَلَا تَبْذِيرٍ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا سَهْمًا". وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ فِي الدَّيْنِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إفْسَادٍ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا لَمْ يُؤْمَنْ إذَا قَضَى دَيْنَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ مِثْلَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي الْفَسَادِ، فَكَرِهُوا قَضَاءَ دَيْنِ مِثْلِهِ لِئَلَّا يَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً إلَى السَّرَفِ وَالْفَسَادِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ قَضَاءِ دَيْنِ مِثْلِهِ وَدَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ عَدَمَ الْفَسَادِ وَالتَّبْذِيرِ فِيمَا اسْتَدَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْغَارِمِينَ} قَالَ: "الْغَارِمُ مَنْ ذَهَبَ السَّيْلُ بِمَالِهِ، أَوْ أَصَابَهُ حَرِيقٌ فَأَذْهَبَ مَالَهُ، أَوْ رَجُلٌ لَهُ عِيَالٌ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَيَسْتَدِينُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يُسَمَّى غَرِيمًا; لِأَنَّ الغرم هو

اللُّزُومُ، وَالْمُطَالَبَةُ، فَمَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ يُسَمَّى غَرِيمًا، وَمَنْ لَهُ الدَّيْنُ أَيْضًا يُسَمَّى غَرِيمًا لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ، فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ فَلَيْسَ بِغَرِيمٍ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ"، وَإِنَّمَا أَرَادَ إذَا لَزِمَهُ الدَّيْنُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدٌ أَرَادَ مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَقَلُّ مِنْ مَالِهِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ الْمُرَادِينَ بِالْآيَةِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُمَيْطٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ، وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْغُرْمِ الدَّيْنُ. قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَى لَهُ". وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلُونَ: "هِيَ لِلْمُجَاهِدِينَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءِ"، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُعْطَى مِنْهَا إلَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ، وَلَا يُعْطَى الْأَغْنِيَاءُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ، فَإِنْ أُعْطُوا مَلَكُوهَا، وَأَجْزَأَ الْمُعْطِي، وَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ; لِأَنَّ شَرْطَهَا تَمْلِيكُهُ، وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَأَجْزَأَ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك! " فَلَمْ يَمْنَعْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُولَ عَلَى الْفَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ بَيْعِهَا، وَإِنْ أَعْطَى حَاجًّا مُنْقَطِعًا بِهِ أَجْزَأَ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاجْعَلْهُ فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ:"إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ بِهِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أوصى بثلث ماله في سبيل الله إنه لِفُقَرَاءِ الْغَزَاةِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَغْنِيَاءِ الْغَزَاةِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ بِقَوْلِهِ: "لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قِيلَ لَهُ: قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا فِي أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا وَأَثَاثٍ يَتَأَثَّثُ بِهِ فِي بَيْتِهِ وَخَادِمٍ يَخْدُمُهُ، وَفَرَسٍ يَرْكَبُهُ، وَلَهُ فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتُهَا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ فِي سَفَرِ غَزْوٍ احْتَاجَ مِنْ آلَاتِ السَّفَرِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ إلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيُنْفِقُ الْفَضْلَ عَنْ أَثَاثِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مِصْرِهِ على

السِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالْعُدَّةِ، فَتَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ دَابَّةً أَوْ سِلَاحًا أَوْ شَيْئًا مِنْ آلَاتِ السَّفَرِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمِصْرِ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَ إعْطَائِهِ الصَّدَقَةَ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ هُوَ خَرَجَ لِلْغَزْوِ فَاحْتَاجَ إلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ غَنِيٌّ فِي هَذَا الْوَجْهِ; فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّدَقَةُ تَحِلُّ للغازي الغني قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ} هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ، يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي بَلَدِهِ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: "هُوَ مَنْ يَعْزِمُ عَلَى السَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَتَحَمَّلُ بِهِ" وَهَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ السَّبِيلَ هُوَ الطَّرِيقُ، فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَلَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِالْعَزِيمَةِ كَمَا لَا يَكُونُ مُسَافِرًا بِالْعَزِيمَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُسَافِرُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ. وَجَمِيعُ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا صَدَقَةً بِالْفَقْرِ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا لَا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْإِمَامِ لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ يُعْطِي الْإِمَامُ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهَا لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعْطِيهَا الْعَامِلِينَ عِوَضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ لَا عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةٌ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت أن آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ" فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَى الْفُقَرَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَأْخُذُهَا صَدَقَةً إلَّا بِالْفَقْرِ، وَأَنَّ الْأَصْنَافَ الْمَذْكُورِينَ إنَّمَا ذُكِرُوا بَيَانًا لِأَسْبَابِ الْفَقْرِ.

باب الفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة مطلب: في بيان حد الغنى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي إذَا مَلَكَهُ الرَّجُلُ دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْغَنِيِّ، وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حَدِّ الْفَقِيرِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَقَالَ قَوْمٌ: "إذَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ"، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ"، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ظَهْرُ غِنًى؟ قَالَ: "أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ" وَقَالَ آخَرُونَ: "حَتَّى يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا مِنْ الذَّهَبِ"، وَاحْتَجُّوا بِمَا

رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْته يَقُولُ لِرَجُلٍ: "مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ، وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا"، وَالْأُوقِيَّةُ يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: "حَتَّى يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا مِنْ الذَّهَبِ"، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَسْأَلُ عَبْدٌ مَسْأَلَةً، وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ إلَّا جَاءَتْ شَيْئًا أَوْ كُدُوحًا أَوْ خُدُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا غِنَاهُ؟ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ" وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَا نُعْطِي مِنْهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: "حَتَّى يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنْ غَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَأَثَاثٍ وَفَرَسٍ" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ عِدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ سَأَلَ إلْحَافًا" وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "إن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ اللَّهُ أَمَرَك أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتُقَسِّمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". وَرَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِي عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: "أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ إلَى فُقَرَائِهِمْ" وَرَوَى الْأَشْعَثُ عَنْ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَاعِيًا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَيُقَسِّمَهَا فِي فُقَرَائِنَا". فَلَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ فُقَرَاءَ وَأَغْنِيَاءَ، وَأَوْجَبَ أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ صِنْفِ الْأَغْنِيَاءِ، وَرَدَّهَا فِي الْفُقَرَاءِ، لَمْ تَبْقَ هَهُنَا وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَمَّا كَانَ الْغَنِيُّ هُوَ الَّذِي مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَمَا دُونَهَا لَمْ يَكُنْ مَالِكُهَا غَنِيًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا، وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ دُونَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ إبَاحَتُهَا مَوْقُوفَةً عَلَى الضَّرُورَةِ الَّتِي تَحِلُّ مَعَهَا الْمَيْتَةُ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ مَا يَدْخُلُ بِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِمَّا وَصَفْنَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مِثْلَهَا مِنْ عَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مِلْكُ الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالْخَمْسِينَ الدِّرْهَمِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَارِدَةٌ فِي كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ لَا فِي تَحْرِيمِهَا، وَقَدْ تكره المسألة

لِمَنْ عِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فِي الْوَقْتِ لَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ مَا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ كَثْرَةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ، فَاسْتَحَبَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيه تَرْكَ الْمَسْأَلَةِ لِيَأْخُذَهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ مِمَّنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ لَا يَسْأَلُنَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّنْ يَسْأَلُنَا". وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ" فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ السَّائِلِ مَعَ مِلْكِهِ لِلْفَرَسِ وَالْفَرَسُ فِي أَكْثَرِ الْحَالِ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْمَكِّيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: أن لِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَفَمِسْكِينٌ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْمُطَّوِّعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْجَزَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَمِسْكِينٌ أَنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَأَبَاحَ لَهُ الصَّدَقَةَ مَعَ مِلْكِهِ لِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا حِينَ سَمَّاهُ مِسْكِينًا، إذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِلْمَسَاكِينِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُف عَنْ غَالِبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ أَحَدُهُمْ الصَّدَقَةَ وَلَهُ مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالْعَقَارِ قِيمَةُ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا لَا يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ مَنْ لَهُ الْبَيْتُ وَالْخَادِمُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ أُعْطِيَ مِنْ الزَّكَاةِ. وَرَوَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ:"يُعْطَى مَنْ لَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ يُعْطَى مَنْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءِ احْتَاجَ إلَيْهِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ قَائِلُونَ:"مَنْ كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا"، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ"، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَرَوَى سَعْدُ بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ"، وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ" عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِ إعْطَائِهِ الزَّكَاةَ، كَذَلِكَ الْقَوِيُّ الْمُكْتَسِبُ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْغِنَى الَّذِي يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ

الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، لَا الْغِنَى الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي حَيِّزِ مَنْ يَمْلِكُ مَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ، إذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَنِيًّا لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَا يَمْلِكُهُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمِلْكِ مِثْلِهِ وُجُوبُ الْغِنَى، فَكَانَ قَوْلُهُ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ" عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلْمَسْأَلَةِ لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ. وَعَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سَوِيٍّ" مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ، فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ مَرْفُوعًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَالَ: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سَوِيٍّ" وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ"، فَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ, وَظَاهِرُ قَوْله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} عَامٌّ فِي سَائِرِهِمْ مَنْ قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَسْبِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: الذريات:19] يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَقِّ لِلسَّائِلِ الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ، إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَكْتَسِبُ مِنْ الضُّعَفَاءِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا قَاضِيَةٌ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُعْطَى الْفَقِيرَ إذَا كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي رَفْعِهِ، وَاضْطِرَابِ مَتْنِهِ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: "قَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" وَبَعْضُهُمْ: "لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ". وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ هِيَ أَشَدُّ اسْتِفَاضَةً، وَأَصَحُّ طُرُقًا مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مُعَارَضَةً لَهُمَا، مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا فِي إحْدَى ثَلَاثٍ فَذَكَرَ إحْدَاهُنَّ فَقْرٌ مُدْقِعٌ، وَقَالَ: أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ"، وَلَمْ يَشْرُطْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَدَمَ الْقُوَّةِ وَالْعَجْزَ عَنْ الِاكْتِسَابِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ حَمَلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةً، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أَقْوِيَاءَ مُكْتَسِبِينَ، وَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ زَمِنًا أَوْ عَاجِزًا عَنْ الِاكْتِسَابِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَصَعَّدَ فِيهِمَا الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: "إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لقوي مكتسب"

فَلَمَّا قَالَ لَهُمَا: "إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا"، وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا مَا أَعْطَاهُمَا مَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَلَدِهِمَا وَقُوَّتِهِمَا وَأَخْبَرَ. مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ كَرَاهَةَ الْمَسْأَلَةِ، وَمَحَبَّةَ النَّزَاهَةِ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَا يُغْنِيهِ أَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ مِثْلُ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ لَا عَلَى وَجْهِ تَحْقِيقِ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ يَبِيتُ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ"، قَالَ: "لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ"، وَقَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ"، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ رَأْسًا حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ لَيْسَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّهُ فِيهَا كَحَقِّ الزَّمِنِ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ" فَعَمَّ سَائِرَ الْفُقَرَاءِ الزَّمْنَى مِنْهُمْ وَالْأَصِحَّاءِ. وَأَيْضًا قَدْ كَانَتْ الصَّدَقَاتُ وَالزَّكَوَاتُ تُحْمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيهَا فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَكَانُوا أَقْوِيَاءَ مُكْتَسِبِينَ، وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّ بِهَا الزَّمْنَى دُونَ الْأَصِحَّاءِ، وَعَلَى هَذَا أَمْرُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا يُخْرِجُونَ صَدَقَاتِهِمْ إلَى الْفُقَرَاءِ الْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ مِنْهَا ذَوِي الْعَاهَاتِ وَالزَّمَانَةِ دُونَ الْأَقْوِيَاءِ الْأَصِحَّاءِ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً وَغَيْرَ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَقْوِيَاءِ الْمُكْتَسِبِينَ الْفُرُوضَ مِنْهَا أَوْ النَّوَافِلَ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَى حَظْرِ دَفْعِ الزَّكَوَاتِ إلَى الْأَقْوِيَاءِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمُتَكَسَّبِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْهُ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إعْطَائِهَا الْأَقْوِيَاءَ الْمُتَكَسِّبِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَجَوَازِ إعْطَائِهَا الزَّمْنَى وَالْعَاجِزِينَ عَنْ الِاكْتِسَابِ.

بَابُ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ مِنْهُمْ آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عَقِيلٍ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمِيعًا. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ: وَوَلَدُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ عَنْهُمْ رِوَايَةً. وَاَلَّذِي تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ أَنَّ فُقَرَاءَ بَنِي هَاشِمٍ يَدْخُلُونَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، ذَكَرَهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَدْخُلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ آلِ العباس وآل علي

وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ خَاصٌّ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْهُ دُونَ التَّطَوُّعِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَالتَّطَوُّعُ يَحِلُّ" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "تَحْرُمُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَيَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إلَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُهَا". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إلَّا بِثَلَاثٍ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نُنْزِيَ الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَأَخْرَجَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ تَمْرَةً فَقَالَ: "لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لَأَكَلْتهَا" وَرَوَى بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ". وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الصدقة لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ". فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ عِيرُ الْمَدِينَةِ، فَاشْتَرَى مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَاعًا فَبَاعَهُ بِرِبْحِ أَوَاقٍ فِضَّةٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَرَامِلِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ قَالَ: "لَا أَعُودُ أَنْ أَشْتَرِيَ بَعْدَهَا شَيْئًا، وَلَيْسَ ثَمَنُهُ عِنْدِي" فَقَدْ تَصَدَّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَهُنَّ هَاشِمِيَّاتٌ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُنَّ كُنَّ هَاشِمِيَّاتٍ، وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُنَّ هَاشِمِيَّاتٍ بَلْ زَوْجَاتِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ غَيْرِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، بَلْ عَرَبِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُنَّ أَزْوَاجًا لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَمَاتُوا عَنْهُنَّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى; لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ فِيهِ بِحُكْمِهِ فِيهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحَظْرُ مُتَأَخِّرٌ لِلْإِبَاحَةِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ مِنْهُ كَقَرَابَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو الْمُطَّلِبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمْسِ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَمَا أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يُعْطِ بَنِي أُمَيَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي هَاشِمٍ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِهِمْ لِلْقَرَابَةِ فَحَسْبُ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فَلَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْك، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَنَحْنُ، وَهُمْ فِي النَّسَبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَأَعْطَيْتهمْ، وَلَمْ تُعْطِنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ تُفَارِقْنِي فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا إسْلَامٍ"، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ بِالْقَرَابَةِ فَحَسْبُ بَلْ بِالنُّصْرَةِ وَالْقَرَابَةِ، وَلَوْ كَانَتْ إجَابَتُهُمْ إيَّاهُ وَنُصْرَتُهُمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا آلُ أَبِي لَهَبٍ، وَبَعْضَ آلِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيبُوهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَى مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوهُ، وَهَذَا سَاقِطٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَهْمَ الْخُمُسِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ خَاصٌّ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِي بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ اسْتِحْقَاقُ سَهْمٍ مِنْ الْخُمْسِ أَصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ; لِأَنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنْ الْخُمْسِ، وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمٍ مِنْ الْخُمْسِ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَهَلْ أُرِيدُوا بِآيَةِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ:"مَوَالِيهمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَيْهِمْ" وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطَى مَوَالِيهمْ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَرْقَمَ بْنَ أَرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ عَنْ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ هُرْمُزُ أَوْ كَيْسَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "يَا أَبَا فُلَانٍ إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا تَأْكُلْ الصَّدَقَةَ". وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ"، وَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ قَرُبَ نَسَبُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوَالِيهمْ بِمَثَابَتِهِمْ، إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَهُ لُحْمَةً كَالنَّسَبِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ أَخْذِ بَنِي هَاشِمٍ لِلْعِمَالَةِ مِنْ الصَّدَقَةِ إذَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ذَكَرَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا يَأْخُذُ عِمَالَتَهُ مِنْهَا"، قَالَ مُحَمَّدٌ: "وَإِنَّمَا يَصْنَعُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُرُوجِهِ إلَى الْيَمَنِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "لَا يَعْمَلُ عَلَى الصَّدَقَةِ" عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَعْمَلُهَا لِيَأْخُذَ عِمَالَتَهَا، فَأَمَّا إذَا عَمِلَ عَلَيْهَا مُتَبَرِّعًا عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا فَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "لَا بَأْسَ بِالْعِمَالَةِ لَهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ". وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ جَيْشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْطَلِقَا إلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعْمِلُكُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَا فَحَدَّثَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَاجَتِهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا غُسَالَةُ الْأَيْدِي، إنَّ لَكُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمَا أَوْ يَكْفِيكُمَا" وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَك عَلَى الصَّدَقَةِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "مَا كُنْت لِأَسْتَعْمِلكَ عَلَى غُسَالَةِ ذُنُوبِ النَّاسِ" وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ لِيُصِيبَا مِنْهَا، فَقَالَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ" فَمَنَعَهُمَا أَخْذَ الْعِمَالَةِ، وَمَنَعَ أَبَا رَافِعٍ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: "مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ". وَاحْتَجَّ الْمُبِيحُونَ لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ عَلَى الصَّدَقَةِ رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَبُو سَعِيدٍ جَمِيعًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا لَهُمْ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلِيًّا أَخَذَ عِمَالَتَهُ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ عِمَالَةً، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حِينَ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْحَرْبَ بِهَا، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ رِزْقَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لَا مِنْ جِهَةِ الصَّدَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَنِيُّ عِمَالَتَهُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ فَكَذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوْ افْتَقَرَ أَخَذَ مِنْهَا، وَالْهَاشِمِيَّ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِحَالٍ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعَامِلَ لَا يَأْخُذُ عِمَالَتَهُ صَدَقَةً، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهَا، وَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ" قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ تَحْصُلُ فِي مِلْكِ بَرِيرَةَ ثُمَّ تُهْدِيهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَيْنَ مِلْكِ الْمُتَصَدِّقِ وَبَيْنَ مِلْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَةُ مِلْكٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بَيْنَ مِلْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَبَيْنَ مِلْكِ الْعَامِلِ وَاسِطَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ فِي مِلْكِ الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الْعَامِلُ.

بَابُ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهَا لِمَنْ شَمِلَهُ الِاسْمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ بَعْضِ الْأَقْرِبَاءِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "لَا يُعْطَى مِنْهَا وَالِدًا وَإِنْ عَلَا

وَلَا وَلَدًا، وَإِنْ سَفَلَ وَلَا امْرَأَةً". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا يُعْطَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ قَرَابَتُهُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ، وَإِنَّمَا يُعْطَى مَنْ لَا يَرِثُهُ، وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَتَخَطَّى بِزَكَاةِ مَالِهِ فُقَرَاءَ أَقَارِبِهِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ عِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى مَوَالِيهِ مِنْ غَيْرِ زَكَاةٍ لِمَالِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يُعْطَى الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ مَنْ يَعُولُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ:"وَيُعْطَى الرَّجُلُ مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ قَرَابَتِهِ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَالزَّوْجَةَ إذَا كَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ تَطَوُّعًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَالزَّوْجَةَ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك"، وَقَالَ: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ" فَإِذَا كَانَ مَالُ الرَّجُلِ مُضَافًا إلَى أَبِيهِ وَمَوْصُوفًا بِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ مَتَى أَعْطَى ابْنَهُ فَكَأَنَّهُ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ مِلْكَ ابْنِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَلَمْ تَحْصُلْ صَدَقَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الِابْنِ فَالْأَبُ مِثْلُهُ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى الْآخَرِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادَةِ، وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بُطْلَانُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَلَمَّا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُحَصِّلُهُ بِشَهَادَتِهِ لِصَاحِبِهِ كَأَنَّهُ يُحَصِّلُهُ لِنَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهُ الزَّكَاةَ كَتَبْقِيَتِهِ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ إخْرَاجَهَا إلَى مِلْكِ الْفَقِيرِ إخْرَاجًا صَحِيحًا، وَمَتَى أَخْرَجَهَا إلَى مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ شَهَادَتُهُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ زَوْجَتَهُ مِنْهَا، وَأَمَّا اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ يَلْزَمُهُ، وَلَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ الدُّيُونِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتُهَا مِنْ جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ. وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ دَفْعِهَا إلَيْهِ بِاسْمِ الْفَقْرِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَلَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهَا لِأَجْلِ النَّفَقَةِ مِنْ عُمُومِهَا وَأَيْضًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"، وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ إلَى مَنْ يَعُولُ، وَخَرَجَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَالزَّوْجَانِ بِدَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يَجُزْ إعْطَاءُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ لِأَنَّهُ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ مُسْتَغْنِيَيْنِ بِقَدْرِ الْكَفَافِ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ نَفَقَتُهُمَا لَمَا جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ; لِأَنَّهُمَا مَمْنُوعَانِ مِنْهَا مَعَ لُزُومِ النَّفَقَةِ وَسُقُوطِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَيْهِمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى الْآخَرِ بِالْوِلَادَةِ، وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلْآخَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عِلَّةٌ فِي مَنْعِ دَفْعِ الزَّكَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي إعْطَاءِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ:

"لَا تُعْطِيهِ" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "تُعْطِيهِ". وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْطِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ زَكَاتِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ دَفْعِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِدَفْعِ زَكَاتِهَا إلَيْهِ بِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى أَيْتَامٍ لِأَخِيهَا فِي حِجْرِهَا، فَقَالَ: "لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ". قِيلَ لَهُ: كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ بِحُلِيِّكُنَّ": جَمَعْت حُلِيًّا لِي وَأَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نَاجِيَةٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: "إنَّ لِي طَوْقًا فِيهِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا أَفَأُؤَدِّي زَكَاتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ نِصْفَ مِثْقَالٍ، قَالَتْ: فَإِنَّ فِي حِجْرِي بِنْتَيْ أَخٍ لِي أَيْتَامًا أَفَأَجْعَلُهُ أَوْ أَضَعُهُ فِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ" فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ زَكَاتِهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ إعْطَاءِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ إعْطَاءَ بَنِي أَخِيهَا، وَنَحْنُ نُجِيزُ ذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ سَأَلَتْهُ عَنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى زَوْجِهَا وَبَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا، وَسَأَلَتْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ عَنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، وَدَفْعِهَا إلَى بَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا، وَنَحْنُ نُجِيزُ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى بَنِي الْأَخِ. وَاخْتُلِفَ فِي إعْطَاءِ الذِّمِّيِّ مِنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُعْطَى الذِّمِّيُّ مِنْ الزَّكَاةِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: "إذَا لَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا أَعْطَى الذِّمِّيَّ" فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُسْلِمٌ; فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى إعْطَائِهَا لِلذِّمِّيِّ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ" فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ أَخَذَهَا إلَى الْإِمَامِ مَقْصُورَةً عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهَا الْكُفَّارَ، وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ لَمْ يُعْطَ الْكُفَّارُ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ، إذْ لَوْ جَازَ إعْطَاؤُهَا إيَّاهُمْ بِحَالٍ لَجَازَ فِي كُلِّ حَالٍ لِوُجُودِ الْفَقْرِ كَسَائِرِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ

مِسْكِينًا وَاحِدًا". وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "وَأَقَلُّ مَا يُعْطَى أَهْلُ السَّهْمِ مِنْ سِهَامِ الزَّكَاةِ ثَلَاثَةٌ فَإِنْ أَعْطَى اثْنَيْنِ، وَهُوَ يَجِدُ الثَّالِثَ ضَمِنَ ثُلُثَ سَهْمٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} اسْمٌ لِلْجِنْسِ فِي الْمَدْفُوعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ، وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ إذَا أُطْلِقَتْ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ بِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا الْكُلُّ، وَإِمَّا أَدْنَاهُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ، إذْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعَدَدِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] وَقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وَقَوْلِهِ: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهَا عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت النِّسَاءَ أَوْ اشْتَرَيْت الْعَبِيدَ، أَنَّهُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَلَوْ قَالَ: إنْ شَرِبْت الْمَاءَ أَوْ أَكَلْت الطَّعَامَ، كَانَ عَلَى الْجُزْءِ مِنْهَا لَا عَلَى اسْتِيعَابِ جَمِيعِ مَا تَحْتَهُ، وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ بِيَمِينِهِ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ كَانَ مُصَدَّقًا، وَلَمْ يَحْنَثْ أَبَدًا إذْ كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ إمَّا اسْتِيعَابُ الْجَمِيعِ أَوْ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْجَمِيعِ حَظٌّ فِي ذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ كُلِّهِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي جَوَازِ الْإِعْطَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْأَعْدَادِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ بَعْضٍ، إذْ لَا يَخْتَصُّ الِاسْمُ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ. وَأَيْضًا لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ، وَقَدْ عَلِمْنَا تَعَذُّرَ اسْتِيفَائِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ، إذْ كَانَ فِي اعْتِبَارِهِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَى إسْقَاطِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يَجْزِيهِ وَضْعُهُ فِي فَقِيرٍ وَاحِدٍ"، وَقَالَ مُحَمَّدٌ:"لَا يَجْزِي إلَّا فِي اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا" شَبَّهَهُ أَبُو يُوسُفَ بِالصَّدَقَاتِ، وَهُوَ أَقْيَسُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ:"تُقَسَّمُ صَدَقَةُ كُلِّ بَلَدٍ فِي فُقَرَائِهِ، وَلَا يُخْرِجُهَا إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِ فَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ جَازَ، وَيُكْرَهُ". وَرَوَى عَلِيٌّ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبْعَثَ الزَّكَاةَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ آخَرَ إلَى ذِي قَرَابَتِهِ" قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: فَحَدَّثْت بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقَالَ: هَذَا حَسَنٌ، وَلَيْسَ لَنَا فِي هَذَا سَمَاعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ; قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: فَكَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "لَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ إلَّا لِذِي قَرَابَتِهِ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: "يُؤَدِّيهَا حَيْثُ هُوَ، وَعَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ حَيْثُ هُمْ، وَزَكَاةِ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تُنْقَلُ صَدَقَةُ الْمَالِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا أَنْ تَفْضُلَ فَتُنْقَلَ إلَى أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَيْهِمْ" قَالَ: "وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَلَّتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَمَالُهُ بِمِصْرَ، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ زَكَاتَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَيْثُ هُوَ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا تُنْقَلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ نَقْلَهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ، وَهُوَ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ: إنَّهُ إنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ إلَى بَلَدِهِ قَرِيبَةً فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْدَمَ بَلَدَهُ فَيُخْرِجَهَا، وَلَوْ أَدَّاهَا حَيْثُ هُوَ رَجَوْت أَنْ تُجْزِيَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ طَوِيلَةً، وَأَرَادَ الْمُقَامَ بِهَا فَإِنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ حَيْثُ هُوَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَائِهَا فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "أَيُّ مَوْضِعٍ أَدَّى فِيهِ أَجْزَأَهُ"، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا لَمْ نَرَ فِي الْأُصُولِ صَدَقَةً مَخْصُوصَةً بِمَوْضِعٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهَا بِأَدَائِهَا فِي مَكَان دُونَ غَيْرِهِ؟ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْقُلُهَا مِنْ الْيَمَنِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا أَحْوَجَ إلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ نَقَلَ صَدَقَةَ طَيِّئٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلَادُهُمْ بِالْبُعْدِ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَنَقَلَ أَيْضًا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَوْمِهِمَا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنْ بِلَادِ طَيِّئٍ وَبِلَادِ بَنِي تَمِيمٍ فَاسْتَعَانَ بِهَا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا كَرِهُوا نَقْلَهَا إلَى بَلَدِ غَيْرِهِ إذَا تَسَاوَى أَهْلُ الْبَلَدَيْنِ فِي الْحَاجَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: "أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ"، وَذَلِكَ يَقْتَضِي رَدَّهَا فِي فُقَرَاءِ الْمَأْخُوذِينَ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا إلَى ذِي قَرَابَتِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ لِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ وَحَبِيبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَدَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى قَرَابَتِهِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ: حدثنا ابن

لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ تُضَاعَفُ مَرَّتَيْنِ". وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ صَدَقَتِهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامِ بَنِي أَخٍ لَهَا فِي حِجْرِهَا. فَقَالَ: "لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ الصُّدَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ". فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ وَالْمَحْرَمِ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ; فَلِذَلِكَ قَالَ:"يَجُوزُ نَقْلُهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ إذَا أَعْطَاهَا ذَا قَرَابَتِهِ". وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ:"إنَّهُ يُؤَدِّيهَا عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ رَفِيقِهِ وَوَلَدِهِ حَيْثُ هُمْ" لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ عَنْهُمْ، فَكَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالُ كَذَلِكَ تُؤَدَّى صَدَقَةُ الْفِطْرِ حَيْثُ المؤدى عنه.

فِيمَا يُعْطَى مِسْكِينٌ وَاحِدٌ مِنْ الزَّكَاةِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْرَهُ أَنْ يُعْطَى إنْسَانٌ مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ أَعْطَيْته أَجْزَاك وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ:"وَأَنْ يُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ". وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ لَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدِرْهَمَيْنِ:"أَنَّهُ يَقْبَلُ وَاحِدًا وَيَرُدُّ وَاحِدًا" فَقَدْ أَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ تَمَامَ الْمِائَتَيْنِ، وَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَ مَا فَوْقَهَا، وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُعْطَى مِقْدَارُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ خَادِمًا إذَا كَانَ ذَا عِيَالٍ، وَالزَّكَاةُ كَثِيرَةٌ. وَلَمْ يَحُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا، وَاعْتَبَرَ مَا يَرْفَعُ الْحَاجَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ مَا يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ وَتَعَذُّرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ دَفْعُهَا إلَى بَعْضٍ أَيِّ بَعْضٍ كَانَ، وَأَقَلُّهُمْ وَاحِدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ صَدَقَتِهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ قَلَّ الْمَدْفُوعُ أَوْ كَثُرَ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّفْعَ وَالتَّمْلِيكَ يُصَادِفَانِهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِحُصُولِ التَّمْلِيكِ فِي الْحَالَتَيْنِ لِلْفَقِيرِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُعْطَى إنْسَانٌ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِأَنَّ المائتين هي

النِّصَابُ الْكَامِلُ فَيَكُونُ غَنِيًّا مَعَ تَمَامِ مِلْكِ الصَّدَقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الزَّكَوَاتِ إلَى الْفُقَرَاءِ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا، وَيَتَمَلَّكُوهَا، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا، وَهُوَ غَنِيٌّ; فَكَرِهَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ دَفْعَ نِصَابٍ كَامِلٍ، وَمَتَى دَفَعَ إلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَيَحْصُلُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَمْ يَكْرَهْهُ، إذْ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَصِرْ غَنِيًّا، فَالنِّصَابُ عِنْدَ وُقُوعِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: "وَأَنْ يُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ" فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ وَيَتَصَرَّفُ بِهِ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْمَعَاشِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَعْطَى زَكَاتَهُ رَجُلًا ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَأَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "يَجْزِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ أَوْ إلَى ذِمِّيٍّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ يَجْزِيهِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يَجْزِيهِ" ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْرَجَ صَدَقَةً فَدَفَعَهَا إلَيْهِ لَيْلًا، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا إيَّاكَ أَرَدْت، وَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: "لَك مَا نَوَيْت يَا يَزِيدُ"، وَقَالَ لِمَعْنٍ: "لَك مَا أَخَذْت"، وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَنَوَيْتهَا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ غَيْرِهَا بَلْ قَالَ: "لَك مَا نَوَيْت"، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إنْ نَوَاهَا زَكَاةً، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ قَدْ تَكُونُ صَدَقَةً صَحِيحَةً مِنْ وَجْهٍ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، فَأَشْبَهَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الصَّلَاةَ إلَى الْكَعْبَةِ إذَا أَدَّاهَا بِاجْتِهَادٍ صَحِيحٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً، إذْ كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ قَدْ تَكُونُ صَلَاةً صَحِيحَةً مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ الْمُصَلِّي تَطَوُّعًا عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَكَانَ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ بِاجْتِهَادٍ مُشْبِهًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الزَّكَاةِ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ يَظُنُّهُ طَاهِرًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَلَا تَجْزِيهِ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينِ، كَذَلِكَ مُؤَدِّي الزَّكَاةِ إلَى غَنِيٍّ أَوْ ابْنِهِ أَوْ ذِمِّيٍّ إذَا عَلِمَ فَقَدْ صَارَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينٍ، فَبَطَلَ حُكْمُ اجْتِهَادِهِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَكُونُ طَهَارَةً بِحَالٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِهَادِ تَأْثِيرٌ فِي جَوَازِهِ، وَتَرْكُ الْقِبْلَةِ جَائِزٌ فِي أَحْوَالٍ، فَمَسْأَلَتُنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَشْبَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الصَّلَاةُ قَدْ تَجُوزُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ فِي حَالٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ أَدَّاهَا بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّجَاسَةَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلَمْ يَكُنْ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ بِحَالٍ مُوجِبًا لِجَوَازِ أَدَائِهَا بِالِاجْتِهَادِ مَتَى صَارَ إلَى يَقِينِ النَّجَاسَةِ. قِيلَ لَهُ: أَغْفَلْت مَعْنَى اعْتِلَالِنَا; لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ تَرْكَ الْقِبْلَةِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَجَوَازِ إعْطَاءِ هَؤُلَاءِ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَلَا

تَرَى أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ بِالْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي فِعْلِ التَّطَوُّعِ كَمَا لَا ضَرُورَةَ بِالْمُتَصَدِّقِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؟ فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اشْتَبَهَا فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ مُصَلِّي الْفَرْضِ أَوْ مُتَنَفِّلٍ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا.

بَابُ دَفْعُ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ قَالَ الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ. فَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: إذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الصَّدَقَةَ صِنْفًا وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ أَجْزَأَهُ، وَرَوَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحُذَيْفَةَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ،, وَلَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، فَصَارَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الْعُرُوضَ فِي الزَّكَاةِ وَيَجْعَلُهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "تُقَسَّمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ إلَّا أَنْ يُفْقَدَ صِنْفٌ فَتُقَسَّمُ فِي الْبَاقِينَ لَا يَجْزِي غَيْرُهُ" وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ السَّلَفِ وَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ وَالسُّنَنِ وَظَاهِرِ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ دَفْعَ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ، وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَسْبَابِ الْفَقْرِ لَا قِسْمَتُهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:25] وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَاءِ الصَّدَقَةِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ قِسْمَتِهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا في كل زمان، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} إلَى آخِرِهِ عُمُومٌ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قِسْمَةَ كُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَوْجُودِينَ، وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ إمْكَانِ ذَلِكَ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيَ إعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ وَاحِدٍ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ ثَانٍ لِصِنْفٍ آخَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ صَدَقَةُ كُلِّ عَامٍ لِصِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ قِسْمَتَهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ عَامٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا

بِالشَّرِكَةِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُحْرَمَ الْبَعْضُ مِنْهُمْ، وَيُعْطَى الْبَعْضُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصِدَ صَرْفُهَا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ إعْطَاؤُهَا بَعْضَ الْأَصْنَافِ كَمَا جَازَ إعْطَاؤُهَا بَعْضَ الْفُقَرَاءِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حَقًّا لَهُمْ جَمِيعًا لَمَا جَازَ حِرْمَانُ الْبَعْضِ وَإِعْطَاءُ الْبَعْضِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يُطْعَمُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْطَلِقَ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ لِيَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَاتِهِمْ; فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفْعَ صَدَقَاتِهِمْ إلَى سَلَمَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: "إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا"، وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ هُمَا لِيَحْسِبَهُمَا مِنْ الصِّنْفِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْفَقْرِ قَوْلُهُ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ، وَأَرُدَّهَا في فقرائكم، وَقَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أغنيائهم ويرد في فقرائهم"، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ هُوَ الْفَقْرُ; لِأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ الصَّدَقَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَعَ مَا تَضَمَّنَ مِنْ الدَّلَالَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْتَحَقَّ بِهِ الصَّدَقَةُ هُوَ الْفَقْرُ، وَأَنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ دَفْعِ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى لَا يُعْطَى غَيْرُهُمْ، بَلْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي إيجَابَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت". فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ يَسْتَحِقُّهُ لَا بِالْفَقْرِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصَّدَقَةُ لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِ لَا صَدَقَةً، كَفَقِيرٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا عِوَضًا عَنْ عَمَلٍ عُمِلَ لَهُ، وَكَمَا كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَى بَرِيرَةَ فَتُهْدِيه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً لِلنَّبِيِّ، وَصَدَقَةً لِبَرِيرَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ قَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً لَا بِالْفَقْرِ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَحْصُلُ صَدَقَةً لِلْفُقَرَاءِ فَيُدْفَعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلْيُسْلِمُوا فَيَكُونُوا قُوَّةً لَهُمْ، فَلَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ صَدَقَةً فَتُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إذْ كَانَ مَالُ الْفُقَرَاءِ جَائِزًا صَرْفُهُ فِي بَعْضِ مَصَالِحِهِمْ إذْ كَانَ الْإِمَامُ يَلِي عَلَيْهِمْ، وَيَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِهِمْ. فَأَمَّا ذِكْرُ الْأَصْنَافِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ لِبَيَانِ أَسْبَابِ الْفَقْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَارِمَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَالْغَازِي لَا يَسْتَحِقُّونَهَا إلَّا بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَهَا هُوَ الْفَقْرُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ الْعَمِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ يَقُولُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ، فَقُلْت: أَعْطِنِي مِنْ صَدَقَاتِهِمْ

فَفَعَلَ، وَكَتَبَ لِي بِذَلِكَ كِتَابًا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ، وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا مِنْ السَّمَاءِ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك مِنْهَا" قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ قَالَ: "إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك" فَبَانَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِلصُّدَائِيِّ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ هُوَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ" مَعْنَاهُ لِيُوضَعَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا جَمِيعًا إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ، وَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ تَخْلُو الصَّدَقَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً بِالِاسْمِ أَوْ بِالْحَاجَةِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، وَفَاسِدٌ أَنْ يُقَالَ هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا كُلُّ غَارِمٍ، وَكُلُّ ابْنِ سَبِيلٍ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ اجْتَمَعَ لَهُ الْفَقْرُ، وَابْنُ السَّبِيلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَيْنِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمساكين} الْآيَةَ، يَقْتَضِي إيجَابَ الشَّرِكَةِ، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْهَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ لَمْ يُحْرِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ، فَيُعْطِي صَدَقَةَ الْعَامِ صِنْفًا وَاحِدًا، وَيُعْطِي صَدَقَةَ عَامٍ آخَرَ صِنْفًا آخَرَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ هَلْ يَسْتَحِقُّهَا الْأَصْنَافُ كُلُّهَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا حُكْمُ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا، فَنُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَنَكُونُ قَدْ وَفَّيْنَا الْآيَةَ حَقَّهَا مِنْ مُقْتَضَاهَا، وَاسْتَعْمَلْنَا سَائِرَ الْآيِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، وَالْآثَارَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلَ السَّلَفِ، فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ قِسْمَةِ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَرَدِّ أَحْكَامِ سَائِرِ الْآيِ وَالسُّنَنِ الَّتِي قَدَّمْنَا. وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا انْفَصَلَتْ الصَّدَقَاتُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِأَعْيَانٍ لِأَنَّ الْمُسَمِّينَ لَهُمْ مَحْصُورُونَ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالشَّرِكَةِ. وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ لِلْمُسَمِّينَ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا جَائِزٌ إخْرَاجُ بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ. وَأَيْضًا لَمَا جَازَ التَّفْضِيلُ فِي الصَّدَقَاتِ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ، كَذَلِكَ جَازَ حِرْمَانُ بَعْضِ الْأَصْنَافِ كَمَا جَازَ حِرْمَانُ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ، فَفَارَقَ الْوَصَايَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الصَّدَقَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِآدَمِيٍّ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لِآدَمِيٍّ يَسْتَحِقُّهَا لِنَفْسِهِ، فَأَيُّ صِنْفٍ أُعْطِيَ فَقَدْ وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا، وَالْوَصِيَّةُ لِأَعْيَانٍ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَا مُطَالَبَةَ لغيرهم بها،

فَاسْتَحَقُّوهَا كُلُّهُمْ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْآدَمِيِّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي الْكَفَّارَةِ إطْعَامَ مَسَاكِين، وَلَوْ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ جَازَ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَ مَا سَمَّى لِلْمَسَاكِينِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْوَصِيَّةُ مُخَالِفَةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ لَمْ يُعْطَ عَمْرٌو. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: "يَقُولُونَ هُوَ صَاحِبُ أُذُنٍ يُصْغِي إلَى كُلِّ أَحَدٍ". وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَذَنَ يَأْذِنُ إذَا سَمِعَ، قَالَ الشَّاعِرُ: فِي سَمَاعٍ يَأْذِنُ الشَّيْخُ لَهُ ... وَحَدِيثٍ مِثْلِ مَاذِيٍّ مُشَارِ وَمَعْنَاهُ أُذُنُ صَلَاحٍ لَكُمْ لَا أُذُنُ شَرٍّ وَقَوْلُهُ: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ"، وَدُخُولُ "اللَّامِ" هَهُنَا كَدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل:72] وَمَعْنَاهُ: رَدِفَكُمْ. وَقِيلَ: إنَّمَا أُدْخِلَتْ "اللَّامُ" لِلْفَرْقِ بَيْنَ إيمَانِ التَّصْدِيقِ وإيمان الأمان فإذا قيل: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} لَمْ يُعْقَلْ بِهِ غَيْرُ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة:94] أَيْ لَنْ نُصَدِّقَكُمْ، وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ أَنَّهُ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ، وَهَذَا لَعَمْرِي يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَأَمَّا أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إلَى أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْ أَحَدٍ إذْ كَانَ الْجَمِيعُ عَنْهُ يَأْخُذُونَ وَبِهِ يَقْتَدُونَ فِيهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} قِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا رَدَّ ضَمِيرَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ: يُرْضُوهُ لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ يَنْتَظِمُ رِضَا الرَّسُولِ إذْ كُلُّ مَا رَضِيَ اللَّهُ فَقَدْ رَضِيَهُ الرَّسُولُ، فَتَرَكَ ذِكْرَ ضَمِيرِ الرَّسُولِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُجْمَعُ مَعَ اسْمِ غَيْرِهِ فِي الْكِنَايَةِ تَعْظِيمًا بِإِفْرَادِ الذِّكْرِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُمْ فَبِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ" فَأَنْكَرَ الْجَمْعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَبَيْنَ اسْمِهِ فِي الْكِنَايَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ جَمْعِ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ إلَى اسْمِهِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ، فَقَالَ:"لَا تَقُولُوا: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا: إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ". قَوْله تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "كَانُوا يَحْذَرُونَ"، فَحَمَلَاهُ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ وَقَالَ غَيْرُهُمَا: "صُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ تَقْدِيرُهُ: لِيَحْذَرْ الْمُنَافِقُونَ". وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ بِإِخْرَاجِ إضْمَارِ السُّوءِ

وَإِظْهَارِهِ وَهَتْكِ صَاحِبِهِ بِمَا يَخْذُلُهُ اللَّهُ بِهِ وَيَفْضَحُهُ، وَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَحْذِيرٌ لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مُضْمِرِي السُّوءِ وَكَاتِمِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] . قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} إلى قوله: {إِنْ نَعْفُ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اللَّاعِبَ وَالْجَادَّ سَوَاءٌ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِكْرَاهِ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا مَا قَالُوهُ لَعِبًا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّعِبِ بِذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِّ وَحُصُونَهَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قَالُوهُ مِنْ جِدٍّ أَوْ هَزْلٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ كُفْرٌ مِنْ فَاعِلِهِ. قَوْله تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَضَافَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ، فَهُمْ مُتَشَاكِلُونَ مُتَشَابِهُونَ فِي تَعَاضُدِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ وَالْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمَعْرُوفِ كَمَا يُضَافُ بَعْضُ الشَّيْءِ إلَيْهِ لِمُشَاكَلَتِهِ لِلْجُمْلَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: عَنْ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "عَنْ كُلِّ خَيْرٍ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "عَنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا قَبَضُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ جَمِيعَ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ وَالْقِيَامَ بِطَاعَتِهِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيِّ، إذْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْهُ شَيْئًا كَمَا لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسِيِّ. وَقَوْلُهُ: {فَنَسِيَهُمْ} مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِ الذَّنْبِ لِمُقَابَلَتِهِ; لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَجَزَاءٌ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ مَجَازٌ كَقَوْلِهِمْ: الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: "جَاهِدْهُمْ بِيَدِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك وَقَلْبِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاكْفَهَرَّ فِي وُجُوهِهِمْ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُودَ".

قَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} فِيهِ إخْبَارٌ عَنْ كُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ كُلُّ كَلِمَةٍ فِيهَا جَحْدٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ أَوْ بَلَغَتْ مَنْزِلَتَهَا فِي الْعِظَمِ، وَكَانُوا يَطْعَنُونَ فِي النُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَيُقَالُ إنَّ الْقَائِلَ لِكَلِمَةِ الْكُفْر الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: إنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحَمِيرِ ثُمَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا قَالَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ حِينَ قَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا ذَلِكَ". وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْبَارِهِ عَنْهُمْ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَقَوْلِهِ ثُمَّ تَبْقِيَتِهِ إيَّاهُمْ، وَاسْتِحْيَاؤُهُمْ لِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ الْمُسِرِّ لِلْكُفْرِ وَالْمُظْهِرِ لِلْإِيمَانِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِيهِ قُرْبَةٌ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ; لِأَنَّ الْعَهْدَ هُوَ النَّذْرُ وَالْإِيجَابُ نَحْوُ قَوْلِهِ: إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ مِنْهَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا، مِنْهَا: أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ الْمَنْذُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} فَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَأَبْطَلَ إيجَابَ إخْرَاجِ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِشَرْطٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إنْ قَدَمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ صِيَامٌ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمُضَافَ إلَى الْمِلْكِ إيجَابٌ فِي الْمِلْكِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ"، وَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَذْرًا فِي الْمِلْكِ وَأَلْزَمَهُ الْوَفَاءَ بِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبِ زَيْدٍ، أَوْ نَحْوِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهُ مُطَلِّقٌ فِي نِكَاحٍ لَا قَبْلَ النِّكَاحِ، كَمَا كَانَ الْمُضِيفُ لِلنَّذْرِ إلَى الْمِلْكِ نَاذِرًا فِي الْمِلْكِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ نَفْسِ الْمَنْذُورِ عَلَى مُوجِبِهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] فَاقْتَضَى ذَلِكَ فِعْلَ الْمَقُولِ بِعَيْنِهِ، وَإِخْرَاجُ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَيْسَ هُوَ الْمَقُولَ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91] وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَعْهُودِ بِعَيْنِهِ لَا غَيْرُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] وَقَوْلُهُ {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] فَمَدَحَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا

عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ كُلِّ مَا ابْتَدَعَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قُرْبَةٍ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا لِذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى تَارِكَ مَا ابْتَدَعَ مِنْ الْقُرْبَةِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّذْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ". قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} قَالَ الْحَسَنُ: "بُخْلُهُمْ بِمَا نَذَرُوهُ أَعْقَبَهُمْ النِّفَاقَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْقَبَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ بِحِرْمَانِ التَّوْبَةِ كَمَا حَرَمَ إبْلِيسَ". وَمَعْنَاهُ نَصْبُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَبَدًا ذَمًّا لَهُ عَلَى مَا كَسَبَتْهُ يَدُهُ. وَقَوْلُهُ: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} قِيلَ فِيهِ: "يَلْقَوْنَ جَزَاءَ بُخْلِهِمْ" وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْقَبَهُمْ رَدَّ الضَّمِيرَ إلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لَا يُوجِبُ لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ذَكَرَ السَّبْعِينَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْيَأْسِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: "لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ"، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ رَاوِيهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلَ اللَّهَ مَغْفِرَةَ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ عَلِمْت أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُمْ لَزِدْت عَلَيْهَا"، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِنِفَاقِهِمْ، فَكَانُوا إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَاتُوا مُنَافِقِينَ وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدُهَا: فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَحَظْرُهَا عَلَى مَوْتَى الْكُفَّارِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ إلَى أَنْ يُدْفَنَ، وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُهُ وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ: "أَنَّ عَلِيًّا قَامَ عَلَى قَبْرٍ حَتَّى دُفِنَ". وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: "شَهِدْت عَلْقَمَةَ قَامَ عَلَى قَبْرٍ حَتَّى دُفِنَ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: "أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ إذَا مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى نَدْفِنَهُ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حَتَّى يُدْفَنَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قِيَامَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ التَّأْوِيلِ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَنَهَى عَنْ الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ كَنَهْيِهِ عَنْ الصلاة على

الْمَيِّتِ عَطْفًا عَلَيْهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَذَا الْقَائِلُ أَنْ يَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنْهَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ بِصَرِيحِ اسْمِهَا ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ فَيَجْعَلُهُ كِنَايَةً عَنْهَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى الْقَبْرِ غَيْرُ الصَّلَاةِ. وَأَيْضًا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: "لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هَذَا أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعْنَاهُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ فَقُمْ فَصَلِّ عَلَيْهِ فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَثَبْت مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ تَحَوَّلْت وَقُمْت فِي صَدْرِهِ وَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَدُوِّ اللَّهِ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا أَعُدُّ أَيَّامَهُ الْخَبِيثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِتَدَعْنِي يَا عُمَرُ إنَّ اللَّهَ خَيَّرَنِي فَاخْتَرْت، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الْآيَةَ، فَوَاَللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ يَا عُمَرُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى سَبْعِينَ مَرَّةً أَنْ يُغْفَرَ لَهُ لَزِدْت"، ثُمَّ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى دُفِنَ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى أَنْزبَلَ اللَّهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَوَاَللَّهِ مَا صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَهُ} فَذَكَرَ عُمَرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّلَاةَ، وَالْقِيَامَ عَلَى الْقَبْرِ جَمِيعًا، فَدَلَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فأخذ جبريل بثوبه فقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ". قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} فَذَمَّهُمْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَعْذُورِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَرَ الضُّعَفَاءَ وَهُمْ الَّذِينَ يَضْعُفُونَ عَنْ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَمَانَةٍ، أَوْ عَمًى، أَوْ سِنٍّ، أَوْ ضَعْفٍ فِي الْجِسْمِ، وَذَكَرَ الْمَرْضَى وَهُمْ الَّذِينَ بِهِمْ أَعْلَالٌ مَانِعَةٌ مِنْ النُّهُوضِ، وَالْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ، وَعَذَرَ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَكَانَ عُذْرُ هَؤُلَاءِ وَمَدْحُهُمْ بِشَرِيطَةِ النُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ; لِأَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ نَاصِحٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يُرِيدُ التَّضْرِيبَ وَالسَّعْيَ فِي إفْسَادِ قُلُوبِ مَنْ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ مَذْمُومًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ. وَمِنْ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى حَثُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِيهِ وَالسَّعْيُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى الدِّين، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُخَلِّصًا لِعَمَلِهِ مِنْ الْغِشِّ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ النُّصْحُ، وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ. قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} عُمُومٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا في

شَيْءٍ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي مَسَائِلَ مِمَّا قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، نَحْوُ مَنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ، أَوْ دَابَّةً لِيَحُجَّ عَلَيْهَا فَتَهْلَكُ، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِي تَضْمِينِهِ; لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى السَّبِيلَ عَلَيْهِ نَفْيًا عَامًّا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِ صِفَةِ الْإِحْسَانِ لَهُ، فَيَحْتَجُّ بِهِ نَافُو الضَّمَانِ. وَيَحْتَجُّ مُخَالِفُنَا فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ الْجَمَلِ الصَّئُولِ إذَا قَتَلَهُ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهُ بِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي قَتْلِهِ لِلْجَمَلِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} هو كقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ; لِأَنَّ الرِّجْسَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّجَسِ، وَيُقَالُ رِجْسٌ نَجَسٌ عَلَى الْإِتْبَاعِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُجَانَبَةِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَإِينَاسِهِمْ وَتَقْوِيَتِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الِاعْتِذَارِ مِمَّنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُوجِبُ الرِّضَا عَنْهُ وَقَبُولَ عُذْرِهِ; لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ النَّهْيَ عَنْ الرِّضَا عَنْ هَؤُلَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَحْلِفُونَ} وَلَمْ يَقُلْ "بِاَللَّهِ" وَقَالَ في الآية الأولى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فِي الْحَلِفِ فِي الْأُولَى وَاقْتَصَرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحَلِفِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَسَمِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحَلِفِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ "أَحْلِفُ" وَبَيْنَ قَوْلِهِ "أَحْلِفُ بِاَللَّهِ" وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أُقْسِمُ" وَ "أُقْسِمُ بِاَللَّهِ". قَوْله تَعَالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أُطْلِقَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ الْأَعْرَابِ وَمُرَادُهُ الْأَعَمُّ الْأَكْثَرُ مِنْهُمْ، وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُوَاطِنُونَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ وَمُجَالَسَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أَجْهَلُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، وَالْأَحْكَامَ، فَكَانَ الْأَعْرَابُ أَجْهَلَ بِحُدُودِ الشَّرَائِعِ مِنْ أُولَئِكَ، وَكَذَلِكَ هُمْ الْآنَ فِي الْجَهْلِ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَفِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ; لِأَنَّ مَنْ بَعُدَ مِنْ الْأَمْصَارِ وَنَاءَ عَنْ حَضْرَةِ الْعُلَمَاءِ كَانَ أَجْهَلَ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ مِمَّنْ جَالَسَهُمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ; وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَصْحَابُنَا إمَامَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ عَلَى الْأَعْرَابِ خَاصٌّ فِي بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا

يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: "صَلَوَاتِ الرَّسُولِ اسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ"، وَقَالَ قَتَادَةُ: دُعَاؤُهُ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، وَالْبَرَكَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّابِقِ إلَى الْخَيْرِ عَلَى التَّالِي; لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَيْهِ يَسْبِقُهُ وَالتَّالِي تَابِعٌ لَهُ فَهُوَ إمَامٌ لَهُ وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وَكَذَلِكَ السَّابِقُ إلَى الشَّرِّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ التَّابِعِ لَهُ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ سَنَّهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] يَعْنِي أَثْقَالَ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ فِي الشَّرِّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ قَتِيلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَتْ الْآيَةُ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "فِيمَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "فِيمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ " وقَوْله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} . الآية، إلى قوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقَبْرِ {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فِي الدُّنْيَا بِالْفَضِيحَةِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رِجَالًا مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْأُخْرَى فِي الْقَبْرِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَالْجُوعِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَالِاعْتِرَافُ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْرِفَةٍ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إذَا ثَبَتَ، وَالِاعْتِرَافُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ; لِأَنَّ تَذَكُّرَ قُبْحِ الذَّنْبِ أَدْعَى إلَى إخْلَاصِ التَّوْبَةِ مِنْهُ وَأَبْعَدُ مِنْ حَالِ مَنْ يُدْعَى إلَى التَّوْبَةِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مَا هُوَ وَلَا يَعْرِفُ مَوْقِعَهُ مِنْ الضَّرَرِ، فَأَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّوْبَةِ أَنْ تَقَع مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمَا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [لأعراف:23] وَإِنَّمَا قَالَ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} لِيَكُونُوا بَيْنَ الطَّمَعِ، وَالْإِشْفَاقِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ مِنْ الِاتِّكَالِ، وَالْإِهْمَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ: "عَسَى" مِنْ اللَّهِ وَاجِبٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْيَأْسُ مِنْ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا يَعْرُضُ مَا دَامَ يَعْمَلُ مَعَ الشَّرِّ خيرا لقوله

تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمُذْنِبِ رُجُوعٌ إلَى اللَّهِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الذَّنْبِ أَنَّهُ مَرْجُوُّ الصَّلَاحِ مَأْمُونُ خَيْرِ الْعَاقِبَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] فَالْعَبْدُ، وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِانْصِرَافُ عَنْ الْخَيْرِ يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ مَا بَقِيَ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ، فَأَمَّا مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ مَظَالِمُهُ وَمُوبِقَاتُهُ فَأَعْرَضَ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] .

مطلب: في محاورة الحسن بن علي رضي الله عنهما مع حبيب بن مسلمة الفهري من أصحاب ومعاوية روي أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ: رُبَّ مَسِيرٍ لَك فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ: أَمَّا مَسِيرِي إلَى أَبِيك فَلَا فَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَى، وَلَكِنَّك اتَّبَعْت مُعَاوِيَةَ عَلَى عَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرٍ وَاَللَّهِ لَئِنْ قَامَ بِك مُعَاوِيَةُ فِي دُنْيَاك قَدْ قَعَدَ بِك فِي دِينِك وَلَوْ كُنْت إذْ فَعَلْت شَرًّا قُلْت خَيْرًا كُنْت مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَلَكِنَّك أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسِوَارِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ. قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ظَاهِرُهُ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ; لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ، فَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونَ الْكِنَايَةَ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَوْلُهُ: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] وَهُوَ يَعْنِي الْأَرْضَ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] يَعْنِي الشَّمْسَ، فَكَنَّى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهَا مُظْهَرَةً فِي الْخِطَابِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخِطَابِ مِنْ الْمُعْتَرِفِينَ بِذُنُوبِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ ظَاهِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ المسلمين; لاستواء

الْجَمِيعِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فِي شَخْصٍ، أَوْ عَلَى شَخْصٍ مِنْ عِبَادِهِ، أَوْ غَيْرِهَا فَذَلِكَ الْحُكْمُ لَازِمٌ فِي سَائِرِ الْأَشْخَاصِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ التخصيص فيه وقوله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ} يَعْنِي إزَالَةَ نَجَسِ الذُّنُوبِ بِمَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْكُفْرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِنَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ، أَطْلَقَ فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِزَالَتِهِ اسْمَ التَّطْهِيرِ كَتَطْهِيرِ نَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ بِإِزَالَتِهَا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الذُّنُوبِ فِي إطْلَاقِ اسْمِ النَّجَسِ عَلَيْهَا، وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَى إزَالَتِهَا بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهَا، فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِأَدَائِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْذِ لَمَا اسْتَحَقُّوا التَّطْهِيرَ; لِأَنَّ ذَلِكَ ثَوَابٌ لَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ الصَّدَقَةَ، وَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ التَّطْهِيرَ وَلَا يَصِيرُونَ أَزْكِيَاءَ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ فِي مَضْمُونِهِ إعْطَاءَ هَؤُلَاءِ الصَّدَقَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ صَارُوا بِهَا أَزْكِيَاءَ مُتَطَهِّرِينَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مُرَادِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، أَوْ هِيَ كَفَّارَةٌ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: "هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ". وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الزَّكَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً دُونَ سَائِرِ النَّاسِ سِوَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ خَبَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْعِبَادَاتِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَخْصُوصِينَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وُجُوبُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ لِتَسَاوِي النَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَنْ خَصَّهُ دَلِيلٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةً عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتْ هِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ إذْ لَيْسَ فِي أَمْوَالِ سَائِرِ النَّاسِ حَقٌّ سِوَى الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةٌ مُكَفِّرَةٌ لِلذُّنُوبِ غَيْرُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَيْضًا تُطَهِّرُ وَتُزَكِّي مُؤَدِّيَهَا، وَسَائِرُ النَّاسِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ. وَقَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} عُمُومٌ فِي سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ وَمُقْتَضٍ لِأَخْذِ الْبَعْضِ مِنْهَا، إذْ كَانَتْ مِنْ مُقْتَضَى التَّبْعِيضِ، وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى عُمُومِ الْأَمْوَالِ فَاقْتَضَتْ إيجَابَ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ بَعْضَهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَتَى أَخَذَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إيجَابَ فَرْضِ الزَّكَاةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِلَفْظٍ

مُجْمَلٍ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ فِي الْمَأْخُوذِ، وَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَمَقَادِيرِ الْوَاجِبِ، وَالْمُوجِبِ فِيهِ وَوَقْتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَا يَنْصَرِفُ فِيهِ، فَكَانَ لَفْظُ الزَّكَاةِ مُجْمَلًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَقَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فَكَانَ الْإِجْمَالُ فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ دُونَ لَفْظِ الْأَمْوَالِ; لِأَنَّ الْأَمْوَالَ اسْمُ عُمُومٍ فِي مُسَمَّيَاتِهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ جَمِيعِهَا، وَالْوُجُوبَ فِي وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ دُونَ سَائِرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:25] وَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا صُرَدُ بْنُ أَبِي الْمَنَازِلِ قَالَ: سَمِعْت حَبِيبًا الْمَالِكِيَّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: يَا أَبَا نُجَيْدٍ إنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَنَا بِأَحَادِيثَ مَا نَجِدُ لَهَا أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ فَغَضِبَ عِمْرَانُ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: أَوَجَدْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَمِنْ كُلِّ كَذَا وَكَذَا شَاةً شَاةً وَمِنْ كَذَا وَكَذَا بَعِيرًا كَذَا وَكَذَا أَوَجَدْتُمْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَعَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا؟ أَخَذْتُمُوهُ عَنَّا وَأَخَذْنَاهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هَذَا فَمِمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِمَا بِأَخَصِّ أَسْمَائِهِمَا تَأْكِيدًا وَتَبْيِينًا وَمِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام:141] إلَى قَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فَالْأَمْوَالُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ وَعَرُوضُ التِّجَارَةِ، وَالْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ السَّائِمَةُ، وَالزَّرْعُ وَالثَّمَرُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضٌ صَدَقَةَ الزَّرْعِ، وَالثَّمَرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ، فَإِنَّ نِصَابَ الْوَرِقِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَنِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِبِلُ، فَإِنَّ نِصَابَهَا خَمْسٌ مِنْهَا، وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعُونَ شَاةً، وَنِصَابُ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فَفِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَعَرُوضِ التِّجَارَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ إذَا بَلَغَ النِّصَابَ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا الْوَقْتُ فَهُوَ حَوَلُ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ مَعَ كَمَالِ النِّصَابِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ، وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا صَحِيحَ الْمِلْكِ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يُحِيطُ بِمَالِهِ، أَوْ بِمَا لَا يَفْضُلُ عَنْهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ

قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَالِك بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَإِذَا كَانَتْ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَكُونَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَتْ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ". وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فَصَارَ فِي حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ مَلَكَ نِصَابًا: "أَنَّهُ يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ" وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ: "لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ". وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عَلِمْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ دُونَ الْحَوْلِ وَأَنَّهُ بِهِمَا جَمِيعًا يَجِبُ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَبَرَ الْحَوْلِ بَعْدَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ بَلْ نَفَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ نَفْيًا عَامًّا إلَّا بَعْدَ حَوَلِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ نِصَابٍ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرَادَ إيجَابَ الْأَدَاءِ بِوُجُودِ مِلْكِ النِّصَابِ وَأَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُ الْوُجُوبِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ بِحِسَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَحْتَجُّ مَنْ اعْتَبَرَ الزِّيَادَةَ أَرْبَعِينَ بِمَا رَوَى عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَيْسَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ الدِّرْهَمِ شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا" وَحَدِيثِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ" فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ قَوْلِهِ "فِي كُلّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ" عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِيهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِذَا كَثُرَتْ الْغَنَمُ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ هَذَا مَالٌ لَهُ نِصَابٌ فِي الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ; لِأَنَّهُ لَا نِصَابَ لَهُ فِي الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لما

كَانَ عِنْدَهُمَا أَنَّ لِزَكَاةِ الثِّمَارِ نِصَابًا فِي الْأَصْلِ ثُمَّ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ مِقْدَارٍ بَعْدَهُ بَلْ الْوَاجِبُ فِي الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، كَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَلَوْ سَلِمَ لَهُمَا ذَلِكَ كَانَ قِيَاسُهُ عَلَى السَّوَائِمِ، أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الثِّمَارِ; لِأَنَّ السَّوَائِمَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فِيهَا بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ وَمَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْحَقُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَمُرُورُ الْأَحْوَالِ لَا يُوجِبُ تَكْرَارَ وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فِيهِ، أَوْلَى بِوُجُوبِهِ فِي قَلِيلِ مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ وَكَثِيرِهِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فيه. فإن قِيلَ لَهُ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالسَّوَائِمِ; لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِيهَا وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَفْوِ بَعْدَ النِّصَابِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى السَّوَائِمِ، أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُسْقِطُ الْعُشْرَ، وَكَذَلِكَ مَوْتُ رَبِّ الْأَرْضِ وَيُسْقِطُ زَكَاةَ الدَّرَاهِمِ وَالسَّوَائِمِ، فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا، أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ مِنْ الْبَقَرِ عَلَى أَرْبَعِينَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "فِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ سِتِّينَ" وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَيُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، لَا سِيَّمَا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهَا، فَوَجَبَ فِي الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ بِحَقِّ الْعُمُومِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَتَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةً وَرُبْعَ مُسِنَّةٍ، وَيَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ إثْبَاتِ الْوَقَصِ تِسْعًا فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالْكَسْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي فُرُوضِ الصَّدَقَاتِ، أَوْ بِجَعْلِ الْوَقَصِ تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خِلَافُ، أَوْقَاصِ الْبَقَرِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا، وَهَذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ إيجَابُهُ فِي الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: "فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ"، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ وَوُرُودِ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُطْلَانِهِ. وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ خَمْسُ شِيَاهٍ"، وَقَدْ أَنْكَرَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ: عَلِيٌّ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا، هَذَا مِنْ غَلَطِ الرِّجَالِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ خَمْسَ شِيَاهٍ عَنْ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ فَرْضُهَا عِنْدَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "تَسْتَقْبِلُ الْفَرِيضَةَ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ

وَاحِدَةٌ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَإِنْ شَاءَ حِقَّتَيْنِ". وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَتَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ"، يَتَّفِقُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ وَمَالِكٍ فِي هَذَا وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا بَيْنَ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "مَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ، وَالْمِائَةِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِهِ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَالْعِشْرِينَ بِحَيْثُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا فِيهَا؟ فَقَالَ: فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتهَا عَنْ النَّبِيِّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا ثَبَتَ قَوْلُ عَلِيٍّ بِاسْتِئْنَافِ الْفَرِيضَةِ وَثَبَتَ أَنَّهُ أَخَذَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا لَازِمًا لَا يُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَالْعِشْرِينَ. وَأَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، أَوْ الِاتِّفَاقِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْحِقَّتَيْنِ فِي الْمِائَةِ، وَالْعِشْرِينَ وَاخْتَلَفُوا عِنْدَ الزِّيَادَةِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُ الْحِقَّتَيْنِ; لِأَنَّهُمَا فَرْضٌ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، أَوْ اتِّفَاقٍ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ: "وَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ". قِيلَ لَهُ: قَدْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ، فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: "وَإِذَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِبِلَ لَا تَكْثُرُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "وَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ" إلَّا زِيَادَةً كَثِيرَةً يُطْلَقُ عَلَى مِثْلِهَا أَنَّ الْإِبِلَ قَدْ كَثُرَتْ بِهَا، وَنَحْنُ قَدْ نُوجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ ضَرْبٍ مِنْ الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَكُونُ فِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ. وَأَيْضًا فَمُوجِبُ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ فَيُوجِبُ فِيهَا وَفِي الْأَصْلِ، أَوْ يُغَيِّرُهُ فَيُوجِبُ فِي الْمِائَةِ، وَالْعِشْرِينَ وَلَا يُوجِبُ فِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ شَيْئًا، فَإِنْ، أَوْجَبَ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ الْأَصْلِ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَهُوَ لَمْ يُوجِبْ فِي الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا فِي أَرْبَعِينَ وَفِي الْوَاحِدَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْفَرْضِ بِالْوَاحِدَةِ فَيَجْعَلُ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ فِي الْمِائَةِ، وَالْعِشْرِينَ، وَالْوَاحِدَةُ عَفْوٌ فَقَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ، إذْ كَانَ الْعَفْوُ لَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ. وَاخْتُلِفَ فِي فَرَائِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "فِي مِائَتَيْنِ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعمِائَةٍ فَتَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ ثَلَاثَ مِائَةِ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ

شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ"، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَتْ آثَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَاخْتُلِفَ فِي صَدَقَةِ الْعَوَامِلِ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "فِيهَا صَدَقَةٌ". وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَعَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ زُهَيْرٌ: أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ" وَأَيْضًا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ فِي النَّخَّةِ وَلَا فِي الْكَسْعَةِ وَلَا فِي الْجَبْهَةِ صَدَقَةٌ". وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّخَّةُ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ، وَالْكَسْعَةُ الْحَمِيرُ، وَالْجَبْهَةُ الْخَيْلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهِ مَرْصَدًا لِلنَّمَاءِ مِنْ نَسْلِهَا، أَوْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَالسَّائِمَةُ يُطْلَبُ نَمَاؤُهَا إمَّا مِنْ نَسْلِهَا، أَوْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَالْعَامِلَةُ غَيْرُ مُرْصَدَةٍ لِلنَّمَاءِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ دُورِ الْغَلَّةِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَنَحْوِهَا. وَأَيْضًا الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَوَامِلِ كَهِيَ إلَى السَّائِمَةِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِهَا فِي الْعَامِلَةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا فِي وَزْنِ وُرُودِهِ فِي السَّائِمَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ مُسْتَفِيضٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِهَا، بَلْ قَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ عَنْهَا، مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ وَمِنْهَا مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ فِي ثَوْرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ نَفْيُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كِتَابًا فِي الصَّدَقَاتِ: "هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ صَدَقَةُ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فِيهَا شَاةٌ"، فَنَفَى بِذَلِكَ الصَّدَقَةَ عَنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ السَّائِمَةَ وَنَفَى الصَّدَقَةَ عَمَّا عَدَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ" وَذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ فِي السَّائِمَةِ وَغَيْرِهَا. قِيلَ لَهُ: يَخُصُّهُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إيجَابِهِ الصَّدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ أَحَدٌ قَبْلَهُ.

فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً مَسَانَّ وَصِغَارٍ مُسِنَّةٌ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ الْمَسَانُّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ يُعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصِّغَارِ" وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ. وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي، فَقَالَ فِيهِ: "وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النِّصَابِ وَمَا زَادَ وَأَيْضًا الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ"، وَمَتَى اجْتَمَعَ الصِّغَارُ، وَالْكِبَارُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ الِاسْمُ فَيُقَالُ: عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَهَا فِي الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الِاعْتِدَادِ بِالصِّغَارِ بَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ الْكِبَارِ مَعَهَا، فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّصَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ، فَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ إنَاثًا، أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا صَدَقَةَ فِيهَا". وَرَوَى عُرْوَةُ السَّعْدِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ"، وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَقَالَ: "هِيَ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِآخَرَ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا، وَلَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا" فَأَثْبَتَ فِي الْخَيْلِ حَقًّا، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى سُقُوطِ سَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى صَدَقَةِ السَّوَائِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةَ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَمِيرِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْخَيْلَ فَقَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إلَّا الْآيَةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} " [الزلزلة:7] فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا شَيْئًا، وَلَوْ أَرَادَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لَأَوْجَبَهَا فِي الْحَمِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ حَقًّا غَيْرَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَةُ سَمِينِهَا"، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْخَيْلِ مِثْلَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْحَمِيرِ، وَالْخَيْلِ;

لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ، فَلَمَّا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الزَّكَاةَ. وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ كَانَ وَاجِبًا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ" وَأَيْضًا قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِّ سَأَلُوا عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْلِهِمْ، فَشَاوَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ" فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الصَّدَقَةِ فِيهَا; لِأَنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُشَاوِرْهُمْ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا وَاجِبَةً بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلِيٌّ: "لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ"; لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ"، وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ"، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خَيْلِ الرُّكُوبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ صَدَقَتَهَا إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ؟. وَاخْتُلِفَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا شَيْءَ فِيهِ" وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ حِينَ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ مَا رُوِيَ فِيهِ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ" قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ بِذَلِكَ. وَقَالَ يَحْيَى: إنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ الْعُشْرُ فِي كُلِّ عَامٍ بِذَلِكَ مَضَتْ السُّنَّةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي الْعَسَلِ، إذْ هُوَ مِنْ مَالِهِ، وَالصَّدَقَةُ إنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً، فَإِنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ إيجَابَ صَدَقَةٍ مَا، وَإِذَا وَجَبَتْ الصَّدَقَةُ كَانَتْ الْعُشْرَ إذْ لَا يُوجِبُ أَحَدٌ غَيْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْمِصْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُ يُقَالُ لَهُ سَلَبَةَ فَحَمَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْوَادِيَ فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إنْ أَدَّى إلَيْك مَا

كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ وَإِلَّا، فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد قال: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا، قَالَ: "أَدِّ الْعُشْرَ" قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي فَحَمَاهَا لِي" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: "كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعْطِيَ زَكَاةَ الْعَسَلِ وَنَحْنُ بِالطَّوَافِ الْعُشْرَ، يُسْنِدُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إمَامُ مَسْجِدِ الْأَهْوَازِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةٌ عَنْ مُوسَى بْنُ يَسَارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزْقَاقٍ مِنْ الْعَسَلِ زِقٌّ". وَلَمَّا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الثَّمَرِ وَمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ; لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ، فَكَذَلِكَ الْعَسَلُ. وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الزَّكَاةِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا جُمَلًا مِنْهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وقَوْله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَدَّاهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُجْزِهِ; لِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ قَائِمٌ فِي أَخْذِهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إسْقَاطِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَجِّهُ الْعُمَّالَ عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى الْمِيَاهِ فِي مَوَاضِعِهَا"، وَهَذَا مَعْنَى مَا شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ بِأَنْ لَا يَحْشُرُوا وَلَا يُعَشِّرُوا، يَعْنِي لَا يُكَلَّفُونَ إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى الْمُصَدَّقِ وَلَكِنَّ الْمُصَدَّقَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي مِيَاهِهِمْ وَمَظَانِّ مَوَاشِيهمْ فَيَأْخُذُهَا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الثِّمَارِ. وَأَمَّا زَكَوَاتُ الْأَمْوَالِ فَقَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، ثُمَّ خَطَبَ عُثْمَانُ فَقَالَ: هَذَا شَهْرُ زَكَوَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ" فَجَعَلَ لَهُمْ أَدَاءَهَا إلَى الْمَسَاكِينِ، وَسَقَطَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَقُّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا; لِأَنَّهُ عَقَدَ عَقْدَهُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ نَافِذٌ عَلَى الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَوَّلُهُمْ"، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ بَعَثَ سُعَاةً عَلَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ كَمَا بَعَثَهُمْ عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِلْإِمَامِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَخْبُوَّةً فِي الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَالْمَوَاضِعِ الْحَرِيزَةِ، وَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا لِلسُّعَاةِ دُخُولُ أَحْرَازِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ إحْضَارَهَا كَمَا لَمْ يُكَلَّفُوا

إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى الْعَامِلِ، بَلْ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ حُضُورُ مَوْضِعِ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَخْذِ صَدَقَتِهِ هُنَاكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْعَثْ عَلَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ السُّعَاةَ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَهَا إلَى الْإِمَامِ، وَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيهَا، وَلَمَّا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ بِهَا فِي الْبُلْدَانِ أَشْبَهَتْ الْمَوَاشِيَ فَنُصِبَ عَلَيْهَا عُمَّالٌ يَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا وَجَبَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ وَمِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ، ثُمَّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ، أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ تُعْتَبَرُ فِيهَا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا مِنْ حَوْلٍ وَنِصَابٍ وَصِحَّةِ مِلْكٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزَّكَاةُ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ، فَاحْتَذَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ، إذْ قَدْ صَارَتْ أَمْوَالًا ظَاهِرَةً يُخْتَلَفُ بِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَظُهُورِ الْمَوَاشِي السَّائِمَةِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا خَالَفَهُ، فَصَارَ إجْمَاعًا مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ"، وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ: "لَا تُحَشَّرُوا وَلَا تُعَشَّرُوا"، وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ احْمَدُوا اللَّهَ إذْ دَفَعَ عَنْكُمْ الْعُشُورَ". وَرُوِيَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَكَانَ عُمَرُ يُعَشِّرُ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: لَا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْعُشُورِ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْمَكْسِ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ فِي حَدِيثِ محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ" يَعْنِي عَاشِرًا، وَإِيَّاهُ عَنَى الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: وَفِي كُلِّ أَمْوَالِ الْعِرَاقِ إتَاوَةٌ ... وَفِي كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ فَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعُشْرِ هُوَ الْمَكْسُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَيْسَتْ بِمَكْسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ وَجَبَ فِي مَالِهِ يَأْخُذهُ الْإِمَامُ فَيَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ كَمَا يَأْخُذُ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورَ الْأَرْضِينَ، وَالْخَرَاجَ. وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَفَى أَخْذَهُ مِنْ

الْمُسْلِمِينَ مَا يَكُونُ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ، وَالْجِزْيَةِ; وَلِذَلِكَ قَالَ: "إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ" يَعْنِي مَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ، وَبَيْنَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وَلَمْ يَشْرُطْ فِيهَا أَخْذَ الْإِمَامِ لَهَا، وَقَالَ فِي الصَّدَقَاتِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وَنَصْبُ الْعَامِلِ عَلَيْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم"، فَإِنَّمَا شَرَطَ أَخْذَهُ فِي الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَهُ فِي الزَّكَوَاتِ، وَمَنْ يَقُولُ هَذَا يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً، فَإِنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ أَخَصُّ بِهَا، وَالصَّدَقَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاشِي وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا خَصَّ الزَّكَاةَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ دُونَ أَخْذِ الْإِمَامِ وَأَمَرَ فِي الصَّدَقَةِ بِأَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الزَّكَوَاتِ مَوْكُولًا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَيَكُونُ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ إلَى الْأَئِمَّةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ عَنْ ابْنِ أَبِي، أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ مَالِهِ صَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَتَيْته بِصَدَقَةِ مَالِ أَبِي فَقَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى". وَرَوَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغَضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهِمْ، وَأَرْضُوهُمْ، فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِهِمْ رِضَاهُمْ وَلْيَدْعُوَا لَكُمْ". وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَخْتَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا قَالُوا: وَمَا ثَوَابُهَا؟ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا". وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} هو الدعاء وقوله: {سَكَنٌ لَهُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِمَّا تَسْكُنُ قُلُوبُهُمْ إلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ، فَيُسَارِعُونَ إلَى أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ وَفِيمَا يَنَالُونَهُ مِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِعَامِلِ الصَّدَقَةِ إذَا قَبَضَهَا أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً} الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْأَوْسِ، وَالْخَزْرَجِ قَدْ سُمُّوا اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في

بِنَاءِ مَسْجِدٍ لِلَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَالْمَطَرِ، وَالْحَرِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَصْدَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُمْ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَتَحَزَّبُوا فَيُصَلِّي حِزْبٌ فِي مَسْجِدٍ وَحِزْبٌ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ لِتَخْتَلِفَ الْكَلِمَةُ وَتَبْطُلَ الْأُلْفَةُ، وَالْحَالُ الْجَامِعَةُ، وَأَرَادُوا بِهِ أَيْضًا لَيُكَفِّرُوا فِيهِ بِالطَّعْنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامِ، فَيَتَفَاوَضُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلُونَ فِيهِ فَلَا يُخَالِطُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِهِ أَبَا عَامِرٍ الْفَاسِقَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ قَبْلُ; وَكَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَادًا وَحَسَدًا لِذَهَابِ رِيَاسَتِهِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوْسِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لِلْمُنَافِقِينَ: سَيَأْتِي قَيْصَرٌ وَآتِيكُمْ بِجُنْدٍ فَأُخْرِجُ بِهِ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَبَنَوْا الْمَسْجِدَ إرْصَادًا لَهُ، يَعْنِي مُتَرَقِّبِينَ لَهُ، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْفِعْلِ فِي الْحُسْنِ، أَوْ الْقُبْحِ بِالْإِرَادَةِ، وَأَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ الَّتِي تَعَلَّقَ الْفِعْلُ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَدْعُو الْحِكْمَةُ إلَى تَعْلِيقِهِ بِهِ، أَوْ تَزْجُرُ عَنْهَا; لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا بِبِنَائِهِ إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ فِيهِ لَكَانَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمَّا أَرَادُوا بِهِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهُمْ مِنْ قَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ كَانُوا مَذْمُومِينَ كُفَّارًا. قَوْله تَعَالَى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْمَبْنِيَّ لِضِرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعَاصِي لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُهُ; لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقِيَامِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الضِّرَارِ، وَالْفَسَادِ وَحَرَّمَ عَلَى أَهْلِهِ قِيَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إهَانَةً لَهُمْ وَاسْتِخْفَافًا بِهِمْ، عَلَى خِلَافِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ قَدْ يَكُونُ، أَوْلَى بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيَّةً عَنْهَا فِي بَعْضِهَا وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ بِحَسَبِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهَا فِي الْمَسْجِدِ السَّابِقِ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ؟ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقِيَامَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ لَوْ كَانَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجُوزُ لَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقَّ بِالْقِيَامِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا لَكَانَ تَقْدِيرُهُ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ مِنْ مَسْجِدٍ لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِعْلُ الْفَرْضِ أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ، وَهَذَا قَدْ يَسُوغُ، إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ هُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَا هُوَ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ وَعَطِيَّةَ أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ. قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَضِيلَةٌ لِلْمَسْجِدِ وَلِلصَّلَاةِ فِيهِ وَقَوْلُهُ: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "يَتَطَهَّرُونَ مِنْ الذُّنُوبِ" وَقِيلَ فِيهِ: التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ". وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْأَحْجَارِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} . أُطْلِقَ الشِّرَى فِيهَا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي يَشْتَرِي مَا لَا يَمْلِكُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَالِكُ أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] فَسَمَّاهُ شِرًى كَمَا سَمَّى الصَّدَقَةَ قَرْضًا لِضَمَانِ الثَّوَابِ فِيهَا بِهِ، فَأَجْرَى لَفْظَهُ مَجْرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمُعَامِلُ فِيهِ اسْتِدْعَاءً إلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {السَّائِحُونَ} قِيلَ: إنَّهُمْ الصَّائِمُونَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ" وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ الصوم. وقوله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} هُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ، وَذَلِكَ; لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُدُودًا فِي أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَمَا نَدَبَ إلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، أَوْ أَبَاحَهُ وَمَا خَيَّرَ فِيهِ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودُ اللَّهِ، فَوَصَفَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِهَذَا الْوَصْفِ، مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ فَرَائِضِهِ وَقَامَ بِسَائِرِ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُرَادِينَ بِهَا، وَهُمْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} ثم عطف عليه: {التَّائِبُونَ} فَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الدِّينِ، وَالْإِسْلَامِ وَمَحِلَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ فِي وَصْفِ الْعَبِيدِ بِالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَلَامٌ أَبْلَغُ وَلَا أَفْخَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} . قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وَالْعُسْرَةُ هِيَ شِدَّةُ الْأَمْرِ وَضِيقُهُ وَصُعُوبَتُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَقِلَّةٍ مِنْ الْمَاءِ وَالزَّادِ وَالظَّهْرِ، فَحَضَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ لِعِظَمِ مَنْزِلَةِ الِاتِّبَاعِ فِي مِثْلِهَا وَجَزِيلِ الثَّوَابِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهَا لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَحُسْنِ الْبَصِيرَةِ، وَالْيَقِينِ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، إذْ لَمْ تُغَيِّرْهُمْ عَنْهَا صُعُوبَةُ الْأَمْرِ وَشِدَّةُ الزَّمَانِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِمُقَارَبَةِ مَيْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منهم} ، وَالزَّيْغُ هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ، فَقَارَبَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا فَعَلُوا وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ. وَبِمِثْلِ الْحَالِ الَّتِي فَضَّلَ بِهَا مُتَّبِعِيهِ فِي حَالِ الْعُسْرَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَضَّلَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَبِمِثْلِهَا فَضَّلَ السَّابِقِينَ عَلَى النَّاسِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلِمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبَصِيرَةِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِالِاتِّبَاعِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِعْلَاءِ أَمْرِ الْكُفَّارِ وَمَا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ مِنْ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ. قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ" قَالَ مُجَاهِدٌ: "خُلِّفُوا عَنْ التَّوْبَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ: خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ" وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِيمَنْ تَخَلَّفَ وَكَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ جَاءَ الْمُنَافِقُونَ فَاعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا بِالْبَاطِلِ، وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} وَقَالَ: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَنَهَى عَنْ الرِّضَا عَنْهُمْ، إذْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ مُظْهِرِينَ لِغَيْرِ مَا يُبْطِنُونَ، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ صَدَقُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّا تَخَلَّفْنَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَمَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ عَنْ أَنْفُسِكُمْ فَامْضُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى فِيكُمْ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَمْرِهِمْ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُمْ وَأَنْ يَأْمُرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ، فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ نَحْوَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى رَدِّ تَوْبَتِهِمْ; لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالتَّوْبَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ مَنْ يَتُوبُ فِي وَقْتِ التَّوْبَةِ إذَا فَعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَشْدِيدَ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ فِي تَأْخِيرِ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ وَنَهْي النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَرَادَ بِهِ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَاسْتِصْلَاحَ

غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَعُودُوا وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِثْلِهِ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ بِمَوْضِعِ الِاسْتِصْلَاحِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَوْضِعُ اسْتِصْلَاحٍ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ بِتَرْكِ كَلَامِهِمْ، وَتَأْخِيرَ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً، وَإِنَّمَا كَانَ مِحْنَةً وَتَشْدِيدًا فِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا تَقُولهُ فِي إيجَابِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَى التَّائِبِ مِمَّا قَارَبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِحْنَةٌ وَتَعَبُّدٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِالْفِعْلِ بَدِيًّا كَأَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} يعني مع سعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} يَعْنِي ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِالْهَمِّ الَّذِي حَصَلَ فِيهَا مِنْ تَأْخِيرِ نُزُولِ تَوْبَتِهِمْ وَمِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ كَلَامَهُمْ وَمُعَامَلَتَهُمْ وَأَمْرِ أَزْوَاجِهِمْ بِاعْتِزَالِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} يَعْنِي أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنْ لَا مَخْلَصَ لَهُمْ وَلَا مُعْتَصَمَ فِي طَلَبِ الْفَرَجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ إلَّا إلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ لِهَمِّهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ سَيُنَجِّيهِ وَيَكْشِفُ عَنْهُ غَمَّهُ، وَكَذَلِكَ حَكَى جَلَّ وَعَلَا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77] إلَى أَنْ قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شديد} فَتَبَرَّأَ مِنْ الْحَوْلِ، وَالْقُوَّةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَمِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا هُوَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، حِينَئِذٍ جَاءَهُ الْفَرَجُ فَقَالُوا: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وَمَنْ يَنْوِ الِانْقِطَاعَ إلَيْهِ وَقَطْعَ الْعَلَائِقِ دُونَهُ فَمَتَى صَارَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَيُنْجِيَهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ بَلْوَاهُمْ مِثْلُ قَوْلِ أَيُّوبَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41] فَالْتَجَأَ إلَى اللَّهِ فِي الْخَلَاصِ مِمَّا كَانَ يُوَسْوِسُ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمَا ابْتَلَاهُ بِمَا ابْتَلَاهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه قَابِلًا لِوَسَاوِسِهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَشْغَلُ خَاطِرَهُ وَفِكْرَهُ عَنْ التَّفَكُّرِ فِيمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ بِأَنْ الْتَجَأَ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كَشْفِ ضُرِّهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَلَى إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ مِنْ فَرَجٍ عَاجِلٍ، أَوْ سُكُونِ قَلْبٍ إلَى وَعْدِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ من الدنيا وما فيها. قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} يعني والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل

توبتهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله قابل توبتهم. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: يَعْنِي لَازِمْ الصِّدْقَ، وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ إذْ لَيْسَ فِي الْكَذِبِ رُخْصَةٌ". قَالَ نَافِعٌ وَالضَّحَّاكُ: "مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا" وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:177] إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا مُخَالَفَتُهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِاتِّبَاعِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فِيهِ مَدْحٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ غَزَوْا مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَإِخْبَارٌ بِصِحَّةِ بَوَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخْبِرُ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ إلَّا، وَقَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ أَفْعَالَهُمْ، وَهَذَا نَصٌّ فِي رَدِّ قَوْلِ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ وَالنَّاسِبِينَ بِهِمْ إلَى غَيْرِ مَا نَسَبَهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَوَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ صِحَّةِ الضَّمَائِرِ وَصَلَاحِ السَّرَائِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} قَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزَوَاتِهِ إلَّا الْمَعْذُورِينَ وَمَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ وَلِذَلِكَ ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} أَيْ يَطْلُبُونَ الْمَنْفَعَةَ بِتَوْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ نَفْسِهِ، بَلْ كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَبَذَلَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ لِيَقِيَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ وَطْءَ دِيَارِهِمْ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَتْلُهُمْ، أَوْ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ إخْرَاجُهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، هَذَا كُلُّهُ نَيْلٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَ وَطْءِ مَوْضِعٍ يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَبَيْنَ النَّيْلِ مِنْهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ دِيَارِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يَغِيظُهُمْ وَيُدْخِلُ الذُّلَّ عَلَيْهِمْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ نَيْلِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ مِنْ

سِهَامِهِمَا بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرْبِ لِانْحِيَازِهِ الْغَنِيمَةَ، وَالْقِتَالَ; إذْ كَانَ الدُّخُولُ بِمَنْزِلَةِ حِيَازَةِ الْغَنَائِمِ وَقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، وَنَظِيرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] فَاقْتَضَى ذَلِكَ اعْتِبَارَ إيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فِي دَارِ الْحَرْبِ; وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَا وُطِئَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذَلُّوا". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَسَخَ قَوْلَهُ: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وَقَوْلُهُ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فَقَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا فِي السَّرَايَا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ تَبْقَى بَقِيَّةٌ لِتَتَفَقَّهَ ثُمَّ تُنْذِرَ النَّافِرَةَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَقَالَ الْحَسَنُ: "لِتَتَفَقَّهَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ ثُمَّ تُنْذِرَ إذَا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا الْمُتَخَلِّفَةَ" وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ قَوْمَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ. وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الْفِرْقَةُ الَّتِي نَفَرَتْ مِنْهَا الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ الطَّائِفَةَ إذَا رَجَعَتْ إلَيْهَا وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْعَطْفِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَلِيهِ دُونَ مَا يَتَقَدَّمُهُ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أن يكون قوله: {مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا} أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ، وَلَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ تَنْفِرُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إزَالَةَ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَإِثْبَاتَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} الطَّائِفَةُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْفِرْقَةِ النَّافِرَةِ مِنْهَا الطَّائِفَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْرَ الطَّائِفَةِ لِلتَّفَقُّهِ مَعْنًى مَفْهُومٌ يَقَعُ النَّفْرُ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْفِرْقَةُ الَّتِي مِنْهَا الطَّائِفَةُ لَيْسَ تَفَقُّهُهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا; لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَفَقَّهُ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُزُومِ حَضْرَتِهِ لَا لِأَنَّ الطَّائِفَةَ نَفَرَتْ مِنْهَا، فَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ يُبْطِلُ فائدة قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّتِي تَتَفَقَّهُ هِيَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْ الْفِرْقَةِ الْمُقِيمَةِ فِي بَلَدِهَا وَتُنْذِرُ قَوْمَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ الْأَمْرِ بِنَفْرِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْفِرْقَةِ لِلتَّفَقُّهِ، وَأَمْرِ الْبَاقِينَ بِالْقُعُودِ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"، وَهَذَا عِنْدَنَا يَنْصَرِفُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الْعِلْمِ فِيمَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ، مِثْلُ مَنْ لَا يَعْرِفُ حُدُودَ الصَّلَاةِ وَفُرُوضَهَا وَحُضُورَ وَقْتِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا، وَمِثْلُ مَنْ مَلَكَ مائتي

دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالْحَجُّ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إلَّا أَنَّهُ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْكَافَّةَ وَلَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا، وَذَلِكَ; لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالْإِنْذَارِ انْتَظَمَ فَحْوَاهُ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْذَارَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إنْذَارًا وَالثَّانِي: أَمْرُهُ إيَّانَا بِالْحَذَرِ عِنْدَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} مَعْنَاهُ: لِيَحْذَرُوا، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ; لِأَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] وَلَا خِلَافَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ إذَا اقْتَتَلَا كَانَا مُرَادَيْنِ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِك الْبَعْضُ، وَالْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاحِدِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ قَالَ بَعْضُهَا، أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا، فَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ إيجَابِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ إنَّمَا تَنْفِرُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَاَلَّتِي تَتَفَقَّهُ إنَّمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَالَتُهَا أَيْضًا قَائِمَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ; لِأَنَّ النَّافِرَةَ إذَا رَجَعَتْ أَنْذَرَتْهَا الَّتِي لَمْ تَنْفِرْ وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا نَزَلَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْمَدِينَةٍ مَعَ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، لِإِيجَابِهَا الْحَذَرَ عَلَى السَّامِعِينَ بِنِذَارَةِ الْقَاعِدِينَ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} خَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِلَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} فَأَوْجَبَ قِتَالَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ بِالذِّكْرِ الَّذِينَ يَلُونَنَا مِنْ الْكُفَّارِ; إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُنَا قِتَالُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْمُمْكِنَ مِنْهُ هُوَ قِتَالُ طَائِفَةٍ فَكَانَ مِنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، أَوْلَى بِالْقِتَالِ مِمَّنْ بَعُدَ; لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقِتَالِ مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ مَعَ تَرْكِ قِتَالِ مَنْ قَرُبَ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ هَجْمُ مَنْ قَرُبَ عَلَى ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَائِهِمْ وَبِلَادِهِمْ إذَا خَلَتْ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ قَرُبَ قَبْلَ قِتَالِ مَنْ بَعُدَ، وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ قِتَالِ الْأَبْعَدِ; إذْ لَا حَدَّ لِلْأَبْعَدِ يُبْتَدَأُ مِنْهُ الْقِتَالُ كَمَا لِلْأَقْرَبِ. وَأَيْضًا فَغَيْرُ مُمْكِنٍ الْوُصُولُ إلَى قِتَالِ الْأَبْعَدِ إلَّا بَعْدَ قِتَالِ مَنْ قَرُبَ وَقَهْرِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فِيهِ أَمْرٌ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَمَرَ بقتالهم

فِي الْقَوْلِ، وَالْمُنَاظَرَةِ وَالرِّسَالَةِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ يُوقِعُ الْمَهَابَةَ لَنَا فِي صُدُورِهِمْ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَسْتَشْعِرُونَ مِنَّا بِهِ شِدَّةَ الِاسْتِبْصَارِ فِي الدِّينِ، وَالْجِدِّ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَتَى أَظْهَرُوا لَهُمْ اللِّينَ فِي الْقَوْلِ، وَالْمُحَاوَرَةَ اسْتَجْرَءُوا عَلَيْهِمْ وَطَمِعُوا فِيهِمْ، فَهَذَا حَدُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ السِّيرَةِ فِي عَدُوِّهِمْ آخِرَ سورة التوبة.

سورة يونس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا; لِأَنَّ الرَّجَاءَ يُقَامُ مَقَامَ الْخَوْفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: لَا تَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِنَا كَقَوْلِهِمْ: تَابَ رَجَاءً لِثَوَابِ اللَّهِ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ وَبَيْنَ تَبْدِيلِهِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي رَفْعَهُ بَلْ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ مَعَهُ، وَتَبْدِيلُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرَفْعِهِ وَوَضْعِ آخَرَ مَكَانَهُ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَكَانَ سُؤَالُهُمْ لِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالتَّحَكُّمِ; إذْ لَمْ يَجِدُوا سَبَبًا آخَرَ يَتَعَلَّقُونَ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَتَحَكُّمِهِمْ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِالْمَصَالِحِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِهِ، أَوْ يُبَدِّلَهُ بِقَوْلِهِمْ لَقَالُوا فِي الثَّانِي مِثْلَهُ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الثَّالِثِ مِثْلَهُ فِي الثَّانِي فَكَانَ يَصِيرُ دَلَائِلُ اللَّهِ تَعَالَى تَابِعَةً لِمَقَاصِد السُّفَهَاءِ، وَقَدْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُقْنِعُهُمْ ذَلِكَ مَعَ عَجْزِهِمْ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِثْلُهُ. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ مَنْ يَأْبَى جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وَمُجِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ مُجِيزٌ لِتَبْدِيلِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْدِيلُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ وَلَا الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَسْأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ، وَالْمُسْتَدِلُّ بِمِثْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مُغَفَّلٌ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا بِسُنَّةٍ هِيَ وَحْيٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [لنجم:4] فَنَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ نَسْخٌ بِوَحْيِ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ

أَذِنَ لَكُمْ} الْآيَةَ. رُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إبْطَالِهِ; لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْقَائِسَ يُحَرِّمُ بِقِيَاسِهِ وَيُحِلُّ. وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ حُجَّةَ الْعَقْلِ دَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَالنُّصُوصِ وَالسُّنَنِ كُلُّ هَذِهِ دَلَائِلُ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَائِسُ إنَّمَا يَتْبَعُ مَوْضِعَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَرِّمَ بِنَصْبِهِ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَالَفَ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَكُنْ كَلَامُهُ مَعَنَا فِي إثْبَاتِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ سَقَطَ سُؤَالُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِهِ فَقَدْ اكْتَفَى فِي إيجَابِ بُطْلَانِهِ بِعَدَمِ دَلَالَةِ صِحَّتِهِ، فَلَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ صِحَّةَ الْقِيَاسِ إلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ دَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَامَتْ بِصِحَّتِهِ ضُرُوبٌ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَلَا تَعَلُّقَ لِلْآيَةِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ وَلَا إثْبَاتِهِ. وَرُبَّمَا احْتَجُّوا أَيْضًا فِي نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قَبْلَهُ; لِأَنَّ الْقَائِسِينَ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ مِمَّا آتَانَا الرَّسُولُ بِهِ وَأَقَامَ اللَّهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ. قوله تعالى: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص:8] ، وَالْآخَرُ: لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِك، فَحُذِفَتْ "لَا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282] أَيْ لِئَلَّا تَضِلَّ، وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [لأعراف:172] أَيْ لِئَلَّا تَقُولُوا، وَقَوْلُهُ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] مَعْنَاهُ أَنْ لَا تَضِلُّوا. قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} أَضَافَ الدُّعَاءَ إلَيْهِمَا، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ مُوسَى: "كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤَمِّنُ فَسَمَّاهُمَا اللَّهُ دَاعِيَيْنِ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آمِينَ دُعَاءٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دُعَاءٌ فَإِخْفَاؤُهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] آخر سورة يونس عليه السلام.

وَمِنْ سُورَةِ هُودٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} فِيهِ إخْبَارٌ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "بَشِّرْ أُمَّتِي بِالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلًا لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سَبِيلُهُ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، فَمَتَى أَخَذَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقِيلَ في قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِلَ الْكَافِرُ رَحِمًا، أَوْ يُعْطِيَ سَائِلًا، أَوْ يَرْحَمَ مُضْطَرًّا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ جَزَاءَ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا بِتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ فِيمَا خُوِّلَ وَدَفْعِ مَكَارِهِ الدُّنْيَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْغَزْوِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَنِيمَةِ دُونَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ وَسَهْمَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. فَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِيَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا شَهِدَ الْقِتَالَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَحَقَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ نَصِيبًا. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ الِاسْتِعَانَةُ بِالْكُفَّارِ فِي قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا. إذَا كَانُوا مَتَى غُلِبُوا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْجَارِيَ عَلَيْهِمْ دُونَ حُكْمِ الْكُفْرِ وَمَتَى حَضَرُوا رَضَخَ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْكَافِرُ بِحُضُورِ الْقِتَالِ هُوَ السَّهْمُ، أَوْ الرَّضْخُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ الْمُعْتَرَضَ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَعَبْدِي حَرٌّ" أَنَّهُ لَا يحنث حتى

يُكَلِّمَ ثُمَّ يَدْخُلَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "إنْ كَلَّمْت" شَرْطٌ مُعْتَرِضٌ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ جَوَابِهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} شَرْطٌ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} قَبْلَ اسْتِتْمَامِ الْجَوَابِ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ إنْ أَرَدْت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْفَرَّاءِ فِي مَسَائِلَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الكبير. وقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أَيْ يُخَيِّبَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ: غَوَى يَغْوِي غَيًّا، وَمِنْهُ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدْ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا وَحَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي غَيًّا إذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ آدَمَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] أَيْ فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يُؤَوَّلُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَيْبَةَ فِيهَا فَسَادُ العيش، فقوله: {يُغْوِيَكُمْ} يُفْسِدُ عَلَيْكُمْ عَيْشَكُمْ وَأَمْرَكُمْ بِأَنْ يُخَيِّبَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} يَعْنِي بِحَيْثُ نَرَاهَا فَكَأَنَّهَا تُرَى بِأَعْيُنٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَلَاغَةِ، وَالْمَعْنَى: بِحِفْظِنَا إيَّاكَ حِفْظَ مَنْ يَرَاك وَيَمْلِكُ دَفْعَ السُّوءِ عَنْك وَقِيلَ: بِأَعْيُنِ، أَوْلِيَائِنَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِك. وَقَوْلُهُ: {وَوَحْيِنَا} يَعْنِي: عَلَى مَا، أَوْحَيْنَا إلَيْك مِنْ صِفَتِهَا وَحَالِهَا، وَيَجُوزُ: بِوَحْيِنَا إلَيْك أَنْ اصْنَعْهَا. وقَوْله تعالى: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} مَجَازٌ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ; لِأَنَّ جَزَاءَ الذَّمِّ عَلَى السُّخْرِيَةِ بِالْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] وقَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ كَمَا تَسْتَجْهِلُونَ. قَوْله تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} سَمَّى ابْنَهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ، أَوْصَى لِأَهْلِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ أَنَّهُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ ابْنًا كَانَ، أَوْ زَوْجَةً، أَوْ أَخًا، أَوْ أَجْنَبِيًّا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ خَاصَّةً وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ فَجَعَلَهُ لِجَمِيعِ مَنْ تَضَمَّنَهُ مَنْزِلُهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] فَسَمَّى جَمِيعَ مَنْ ضَمَّهُ مَنْزِلُهُ وَسَفِينَتُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي يَعْنِي مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدْتَنِي أَنْ تنجيهم،

فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك الَّذِينَ وَعَدْتُك أَنْ أُنْجِيَهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قِيلَ فِيهِ: مَعْنَاهُ ذُو عَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَجَاءَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ كَمَا قَالَتْ الْخَنْسَاءِ: تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ تَعْنِي: ذَاتَ إقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ، أَوْ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَ: "سُؤَالُك هَذَا عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ" عَلَى الْفِعْلِ وَنَصْبِ غَيْرٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَانَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَ} وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} يَعْنِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِك وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ وَكَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ نُوحٌ يَدْعُوهُ إلَى الرُّكُوبِ مَعَ نَهْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُ أَنْ يَرْكَبَ فِيهَا كَافِرٌ; لِأَنَّهُ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: إنَّهُ دَعَاهُ عَلَى شَرِيطَةِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قَالَ آمِنْ وَارْكَبْ مَعَنَا. قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} نَسَبَهُمْ إلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَهُوَ آدَم خُلِقَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خلقكم في الأرض.

مطلب: تجب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية وقوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} يَعْنِي: أَمَرَكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا بِمَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسِ، وَالْأَبْنِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: "مَعْنَاهُ: أَعْمَرَكُمْ بِأَنْ جَعَلَهَا لَكُمْ طُولَ أَعْمَارِكُمْ"، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "أَعَمَرْتُك دَارِي هَذِهِ" يَعْنِي مَلَّكْتُك طُولَ عُمْرِك. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ"، وَالْعُمْرَى هِيَ الْعَطِيَّةُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا رَاجِعٌ إلَى تَمْلِيكِهِ طُولَ عُمْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَى، وَالْهِبَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي تَمْلِيكِهِ عُمْرَهُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ. قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} مَعْنَى الْأَوَّلِ: سَلَّمْت سَلَامًا وَلِذَلِكَ نَصَبَهُ، وَالثَّانِي جَوَابُهُ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، وَلِذَلِكَ رَفَعَهُ. وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إلَّا أَنَّهُ خُولِفَ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ الْحِكَايَةَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ قَدْ كَانَ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ.

وقَوْله تَعَالَى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} ، فَإِنَّهَا مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَقْدُورِ اللَّهِ تَعْجَبُ بِطَبْعِ الْبَشَرِيَّةِ قَبْلَ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ، كَمَا وَلَّى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُدْبِرًا حِينَ صَارَتْ عَصَاهُ حَيَّةً حَتَّى قِيلَ لَهُ: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص:31] ، وَإِنَّمَا تَعَجَّبَتْ; لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَلِسَارَةَ تِسْعُونَ سَنَةً. قَوْله تَعَالَى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَمَّتْ امْرَأَةَ إبْرَاهِيمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخَاطَبَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} [الأحزاب:31] إلَى قَوْلِهِ: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] قَدْ دَخَلَ فِيهِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ لَهُنَّ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} يَعْنِي: لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الْفَزَعُ جَادَلَ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى قَالُوا: إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمِ لُوطٍ لِنُهْلِكَهُمْ، فَقَالَ: إنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَقِيلَ: إنَّهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ: أَتُهْلِكُونَهُمْ إنْ كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالُوا: لَا، ثُمَّ نَزَّلَهُمْ إلَى عَشَرَةٍ، فَقَالُوا: لَا، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ. وَيُقَالُ: جَادَلَهُمْ لِيَعْلَمَ بِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَهَلْ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِخَافَةِ لِيُقْبِلُوا إلَى الطَّاعَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَخْبَرَتْ أَنَّهَا تُهْلِكُ قَوْمَ لُوطٍ وَلَمْ تُبَيِّنْ الْمُنْجَيْنَ مِنْهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَادَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: أَتُهْلِكُونَهُمْ وَفِيهِمْ كَذَا رَجُلًا فَيَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ; لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ سَأَلَهُمْ عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَهَلْ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ لِيَرْجِعُوا إلَى الطَّاعَةِ. قَوْله تَعَالَى: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} ، وَإِنَّمَا قِيلَ: أَصَلَاتُك تَأْمُرُك; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآمِرِ بِالْخَيْرِ وَالنَّاهِي عَنْ الشَّرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَصَلَاتُك تَأْمُرُك بِمَا ذَكَرْت؟ وَعَنْ الْحَسَنِ: أَدِينُك يَأْمُرُك؟ أَيْ فِيهِ الْأَمْرُ بِهَذَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} وَالرُّكُونُ إلَى الشَّيْءِ هُوَ السُّكُونُ إلَيْهِ بِالْأُنْسِ، وَالْمَحَبَّةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ ومؤانستهم،

وَالْإِنْصَاتِ إلَيْهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} قِيلَ فِيهِ: لَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمٍ صَغِيرٍ يَكُونُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: بِظُلْمٍ كَبِيرٍ يَكُونُ مِنْ قَلِيلٍ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ الْعَامَّةَ بِذُنُوبِ الْخَاصَّةِ" وَقِيلَ: لَا يُهْلِكُهُمْ وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44] فِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:58] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ إلَى غَايَةِ الْفَسَادِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَلِذَلِكَ يُهْلِكُهُمْ اللَّهُ، وَهُوَ مِصْدَاقُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ قَتَادَةُ: يَجْعَلُهُمْ مُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بِالْإِلْجَاءِ إلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِلْجَاءُ بِالْمَنْعِ; لِأَنَّهُمْ لَوْ رَامُوا خِلَافَهُ مُنِعُوا مِنْهُ مَعَ الِاضْطِرَارِ إلَى حُسْنِهِ وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْ مُخْتَلِفِينَ فِي الْأَدْيَانِ يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: "فِي الْأَرْزَاقِ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ". قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ بِالْبَاطِلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي الْإِيمَانِ الْمُؤَدِّي إلَى الثَّوَابِ، فَإِنَّهُ نَاجٍ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِالْبَاطِلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: "خَلَقَهُمْ لِلرَّحْمَةِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: "خَلَقَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِاخْتِلَافِهِمْ" وَهِيَ "لَامُ الْعَاقِبَةِ، قَالُوا: وَقَدْ تَكُونُ" اللَّامُ" بِمَعْنَى "عَلَى" كَقَوْلِك: أَكْرَمْتُك عَلَى بِرِّك وَلِبِرِّك بي. آخر سورة هود عليه السلام.

وَمِنْ سُورَةِ يُوسُفَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فِيهِ بَيَانُ صِحَّةِ الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ; لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانَ صَغِيرًا، وَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَوَاكِبِ إخْوَتَهُ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَبَوَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} عَلِمَ أَنَّهُ إنْ قَصَّهَا عَلَيْهِمْ حَسَدُوهُ وَطَلَبُوا كَيْدَهُ. وَهُوَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ تَرْكِ إظْهَارِ النِّعْمَةِ وَكِتْمَانِهِ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى حَسَدُهُ وَكَيْدُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِإِظْهَارِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] . قَوْله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْمَعْنَى وَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَتَأْوِيلُ الشَّيْءِ هُوَ مَرْجِعُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ عِبَارَةُ الرُّؤْيَا". وَقِيلَ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ". قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} الْآيَةَ. تَفَاوَضُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَأَظْهَرُوا الْحَسَدَ الَّذِي كَانُوا يُضْمِرُونَهُ لِقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ أَبِيهِمْ دُونَهُمْ، وقالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يَعْنُونَ عَنْ صَوَابِ الرَّأْيِ; لِأَنَّهُ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُمْ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَكْبَرَ، أَوْلَى بِتَقْدِيمِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأَصْغَرِ وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ الْبَنِينَ، أَوْلَى بِالْمَحَبَّةِ مِنْ الْوَاحِدِ، وَهُوَ معنى قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْفَعَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِأَمْوَالِهِ وَمَوَاشِيهِ، فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ اصْطِفَاءَهُ إيَّاهُ بِالْمَحَبَّةِ دُونَهُمْ وَتَقْدِيمَهُ عَلَيْهِمْ ذَهَابٌ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ. قَوْله تَعَالَى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} الْآيَةَ، فَإِنَّهُمْ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ تَبْعِيدٍ لَهُ عَنْ أَبِيهِ. وَكَانَ الَّذِي اسْتَجَازُوا ذَلِكَ

وَاسْتَجْرَءُوا مِنْ أَجْلِهِ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فَرَجَوْا التَّوْبَةَ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ يَعْزِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ رَجَاءً لِلتَّوْبَةِ بَعْدَهَا فَيَقُولُ: أَفْعَلُ ثُمَّ أَتُوبُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ مَقْبُولَةٌ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} وَحَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} لَمَّا تَآمَرُوا عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ إبْعَادٍ عَنْ أَبِيهِ أَشَارَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَائِلُ حِينَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ بِأَنْقَصِ الشَّرَّيْنِ وَهُوَ الطَّرْحُ فِي جُبٍّ قَلِيلِ الْمَاءِ لِيَأْخُذَهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ، وَهُمْ الْمُسَافِرُونَ، فَلَمَّا أَبْرَمُوا التَّدْبِيرَ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ ثَابُوا لِلتَّلَطُّفِ في الوصول إلى ما أرادوا فقالوا: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} قِيلَ فِي يَرْتَعْ: "يَرْعَى" وَقِيلَ: إنَّ الرَّتْعَ الِاتِّسَاعُ فِي الْبِلَادِ، وَيُقَالُ: يَرْتَعُ فِي الْمَالِ أَيْ هُوَ يَتَّسِعُ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَاللَّعِبُ هُوَ الْفِعْلُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّفَرُّجُ وَالرَّاحَةُ مِنْ غَيْرِ عَاقِبَةٍ لَهُ مَحْمُودَةٍ، وَلَا قَصْدَ فِيهِ لِفَاعِلِهِ إلَّا حُصُولُ اللَّهْوِ، وَالْفَرَحِ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُبَاحًا وَهُوَ مَا لَا إثْمَ فِيهِ كَنَحْوِ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَرُكُوبِهِ فَرَسَهُ لِلتَّطَرُّبِ وَالتَّفَرُّجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَانَ مُبَاحًا لَوْلَا ذَلِكَ لَأَنْكَرَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا سَأَلُوهُ إرْسَالَهُ مَعَهُمْ قال: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فَذَكَرَ لَهُمْ حُزْنَهُ لِذَهَابِهِمْ بِهِ لِبُعْدِهِ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَأَنَّهُ خَائِفٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْحُزْنُ، وَالْخَوْفُ، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَكَانُوا خَاسِرِينَ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُ يُوسُفُ فِي وَقْتٍ يُنَبِّئُهُمْ" وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: "أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الْجُبِّ فَأَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا". قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} رُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ جَالِسًا لِلْقَضَاءِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَبْكِي وَيَدَّعِي أَنَّ رَجُلًا ظَلَمَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ بِحَضْرَتِهِ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونُ هَذَا مَظْلُومًا، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إخْوَةُ يُوسُفَ خَانُوا وَظَلَمُوا وَكَذَبُوا وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ فَأَظْهَرُوا الْبُكَاءَ لِفَقْدِ يُوسُفَ لِيُبَرِّئُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْخِيَانَةِ وَأَوْهَمُوهُ أَنَّهُمْ مُشَارِكُونَ لَهُ فِي الْمُصِيبَةِ وَيُلَقِّنُوا مَا كَانَ أَظْهَرَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ مِنْ خَوْفِهِ عَلَى يُوسُفَ أَنْ يَأْكُلَهُ

الذئب، فقالوا: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} ، يُقَالُ: نَنْتَضِلُ مِنْ السِّبَاقِ فِي الرَّمْيِ، وَقِيلَ: نَسْتَبِقُ بِالْعَدْوِ عَلَى الرِّجْلِ {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} يَعْنِي: بِمُصَدِّقٍ وَجَاءُوا بِقَمِيصٍ عَلَيْهِ دَمٌ فَزَعَمُوا أَنَّهُ دَمُ يُوسُفَ. قَوْله تَعَالَى: {بِدَمٍ كَذِبٍ} يَعْنِي مَكْذُوبٌ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، قَالَ: "لَوْ كَانَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَقَهُ فَكَانَتْ عَلَامَةُ الْكَذِبِ ظَاهِرَةً فِيهِ وَهُوَ صِحَّةُ الْقَمِيصِ مِنْ غَيْرِ تَخْرِيقٍ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "كَانَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ ثَلَاثُ آيَاتٍ: الدَّمُ وَالشَّقُّ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا". وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَمَّا رَأَى الْقَمِيصَ صَحِيحًا قَالَ: يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا عَهِدْت الذِّئْبَ حَلِيمًا". قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} أَمْرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطَعَ بِخِيَانَتِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَأْكُلْهُ الذِّئْبُ لِمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْقَمِيصِ مِنْ غَيْرِ تَخْرِيقٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْعَلَامَةِ فِي مِثْلِهِ فِي التَّكْذِيبِ، أَوْ التَّصْدِيقِ جَائِزٌ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطَعَ بِأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ بِظُهُورِ علامة كذبهم. قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يُقَالُ: إنَّهُ صَبْرٌ لَا شَكْوَى فِيهِ وَفِيهِ الْبَيَانُ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُصِيبَةُ مِنْ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ عِنْدَ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْأُمُورِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُجْزِيَةِ، فَحَكَى لَنَا حَالَ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا اُبْتُلِيَ بِفَقْدِ وَلَدِهِ الْعَزِيزِ عِنْدَهُ وَحُسْنِ عَزَائِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157] الْآيَةَ، لِيُقْتَدَى بِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا أَرْسَلَ دَلْوَهُ تَعَلَّقَ بِهَا يُوسُفُ فَقَالَ الْمُدْلِي: يَا بُشْرَايَ هَذَا غُلَامٌ قَالَ قَتَادَةُ: بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُ وَجَدَ عَبْدًا وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي ناداه بشرى. وقوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: "أَسَرَّهُ الْمُدْلِي وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَاقِي التُّجَّارِ لِئَلَّا يَسْأَلُوهُمْ الشَّرِكَةَ فِيهِ بِرُخْصِ ثَمَنِهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَسَرَهُ إخْوَتُهُ وَكَتَمُوا أَنَّهُ أَخُوهُمْ وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْتُلُوهُ". وَالْبِضَاعَةُ الْقِطْعَةُ مِنْ الْمَالِ تُجْعَلُ لِلتِّجَارَةِ. وقيل في معنى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} إنَّهُمْ اعْتَقَدُوا فِيهِ التِّجَارَةَ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ قَضَى بِاللَّقِيطِ أَنَّهُ حَرٌّ، وَقَرَأَ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: وَجَدْت مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُتَّهَمُ، فَقَالَ: هُوَ حَرٌّ وَلَك وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا رَضَاعُهُ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: "عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا" الْغُوَيْرُ تَصِيرُ غَارٍ، وَهُوَ مَثَلٌ مَعْنَاهُ: عَسَى أَنْ

يَكُونَ جَاءَ الْبَأْسُ مِنْ قِبَلِ الْغَارِ فَاتَّهَمَ عُمَرُ الرَّجُلَ وَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِك فِي هَذَا الصَّبِيِّ اللَّقِيطِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مَائِك، فَلَمَّا شَهِدُوا لَهُ بِالسَّتْرِ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهِ وَقَالَ: وَلَاؤُهُ لَك. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِالْوَلَاءِ هَهُنَا إمْسَاكَهُ، وَالْوِلَايَةَ عَلَيْهِ وَإِثْبَاتَ هَذَا الْحَقِّ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدًا لَهُ فَأَعْتَقَهُ; لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَخْذِهِ وَإِحْيَائِهِ، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّهُ حُرٌّ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ حَرُّ الْأَصْلِ وَلَا رِقَّ عَلَيْهِ، أَوْ إيقَاعَ حُرِّيَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُمَلِّكْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَبْدًا لَهُ فَيُعْتِقُهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ حَرٌّ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ رِقٌّ، وَإِذَا كَانَ حَرَّ الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ وَلَاؤُهُ لِإِنْسَانٍ. فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لَك وَلَاؤُهُ" أَيْ لَك وِلَايَتُهُ فِي الْإِمْسَاكِ، وَالْحِفْظِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي، أَوْلَادِ الزِّنَا: "أَعْتِقُوهُمْ وَأَحْسِنُوا إلَيْهِمْ"، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: اُحْكُمُوا بِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ"، وَذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِوُقُوعِ الْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِهِ، وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي اللَّقِيطِ يَجِدُهُ الرَّجُلُ قَالَ: "إنْ نَوَى أَنْ يَسْتَرِقَّهُ كَانَ رَقِيقًا وَإِنْ نَوَى الْحِسْبَةَ عَلَيْهِ كَانَ عَتِيقًا"، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَصِرْ رَقِيقًا بِنِيَّةِ الْمُلْتَقِطِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يَصِرْ عَتِيقًا بِنِيَّتِهِ أَيْضًا. وَأَيْضًا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدْنَاهُ يَتَصَرَّفُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّا نَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَلَا نَجْعَلُهُ عَبْدًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ؟ وَأَيْضًا، فَإِنَّ اللَّقِيطَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ حُرَّةٍ، أَوْ أَمَةٍ، فَإِنْ كَانَ وَلَدَ حُرَّةٍ فَهُوَ حَرٌّ وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِرْقَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ وَلَدَ أَمَةٍ فَهُوَ عَبْدٌ لِغَيْرِ الْمُلْتَقِطِ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَمَلَّكَهُ فَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ عَبْدًا لِلْمُلْتَقِطِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الرِّقَّ طَارِئٌ، وَالْأَصْلُ الْحُرِّيَّةُ، كَشَيْءٍ عَلِمْنَاهُ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ وَادَّعَى غَيْرُهُ زَوَالَهُ إلَيْهِ فَلَا نُصَدِّقُهُ; لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَعْنًى طَارِئًا، كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُلْتَقِطِ فِيمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ رِقِّ اللَّقِيطِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ لُقَطَةُ الْمَالِ لَا تُوجِبُ لِلْمُلْتَقِطِ مِلْكًا فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِلْكٌ فِي الْأَصْلِ، كَانَ الْتِقَاطُ اللَّقِيطِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ رِقُّهُ أَحْرَى أَنْ يُوجِبَ لِلْمُلْتَقِطِ مِلْكًا. وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ "أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَهَا صَدَاقُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَوَلَدُهَا مَمْلُوكٌ لَهُ"، وَهُوَ حَدِيثٌ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهِ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا إذَا كَانَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حَرٌّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا وَاللَّقِيطِ حُرَّانِ. قَوْله تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قَالَ الْفَرَّاءُ: الثَّمَنُ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا مِنْ الْبِيَاعَاتِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ سمى الدراهم ثمنا بقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ} وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ مَقْبُولٌ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ، فَإِذَا

أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ثُمَّ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الدَّرَاهِمَ ثَمَنًا اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَهَا فِي الذِّمَّةِ مَتَى جُعِلَتْ بَدَلًا فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ سَوَاءٌ عَيَّنَهَا، أَوْ أَطْلَقَهَا وَلَمْ يُعَيِّنْهَا; لِأَنَّهَا لَوْ تَعَيَّنَتْ بِالتَّعْيِينِ لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا; إذْ كَانَتْ الْأَعْيَانُ لَا تَكُونُ أَثْمَانًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنْ يُجْرِيَهَا الْإِنْسَانُ مَجْرَى الْأَبْدَالِ فَيُسَمِّيهَا ثَمَنًا عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ تَشْبِيهًا بِالثَّمَنِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ; لِأَنَّ فِي تَعْيِينِهَا سَلْبُ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ بِهَا مِنْ كَوْنِهَا ثَمَنًا; إذْ الْأَعْيَانُ لَا تَكُونُ أَثْمَانًا. وَالْبَخْسُ النَّقْصُ، يُقَالُ: بَخَسَهُ حَقَّهُ إذَا نَقَصَهُ. وقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "كَانَتْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا" وَعَنْ مُجَاهِدٍ: "اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا". وَقِيلَ: إنَّمَا سَمَّاهَا مَعْدُودَةً لِقِلَّتِهَا. وَقِيلَ: عَدُّوهَا وَلَمْ يَزِنُوهَا. وَقِيلَ: كَانُوا لَا يَزِنُونَ الدَّرَاهِمَ حَتَّى تَبْلُغَ أُوقِيَّةً وَأُوقِيَّتُهُمْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَإِخْوَتُهُ كَانُوا حُضُورًا فَقَالُوا هَذَا عَبْدٌ لَنَا أَبَقَ فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ " وَقَالَ قَتَادَةُ: "بَاعَهُ السَّيَّارَةُ". قَوْله تَعَالَى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} قِيلَ إنَّ إخْوَتَهُ كَانُوا فِي الثَّمَنِ مِنْ الزَّاهِدِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ يُغَيِّبُوهُ عَنْ وَجْهِ أَبِيهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "أَحْسَنُ النَّاسِ فِرَاسَةً ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، وَابْنَةُ شُعَيْبٍ حِينَ قَالَتْ فِي مُوسَى يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ وَلَّى عُمَرَ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} قِيلَ فِي مَعْنَى الْأَشُدِّ إنَّهَا الْقُوَّةُ مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ إلَى سِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَشُدُّ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً " وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً". قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: "هَمَّتْ بِهِ بِالْعَزِيمَةِ وَهَمَّ بِهَا مِنْ جِهَةِ الشَّهْوَةِ وَلَمْ يَعْزِمْ". وَقِيلَ: هَمَّا جَمِيعًا بِالشَّهْوَةِ; لِأَنَّ الْهَمَّ بِالشَّيْءِ مُقَارَبَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُوَاقَعَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَمَّ يُوسُفَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْعَزِيمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ قَوْلُهُ: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَكَانَ ذَلِكَ إخْبَارًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ مِنْ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هَمَّ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ "لَوْلَا" لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ; لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ أَنْ نَقُولَ: "قَدْ أَتَيْتُك لَوْلَا زَيْدٌ" وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيمِ "لَوْلَا".

قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: "رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أَنَامِلِهِ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "نُودِيَ يَا يُوسُفُ أَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ" وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ رَأَى الْمَلَكَ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: "هُوَ مَا عَلِمَهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى عِقَابِ الزِّنَا". قَوْله تَعَالَى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهِلَالِ بْنِ يَسَارٍ: "أَنَّهُ صَبِيٌّ فِي الْمَهْدِ" وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعِكْرِمَةَ قَالُوا: "هُوَ رَجُلٌ" وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "إنَّ الْمَلِكَ لَمَّا رَأَى يُوسُفَ مَشْقُوقَ الْقَمِيصِ عَلَى الْبَابِ قَالَ ذَلِكَ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَقَالَ: إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ، فَإِنَّهُ طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دُبُرٍ، فَإِنَّهُ فَرَّ مِنْهَا وَطَلَبَتْهُ". وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ فِي اللُّقَطَةِ إذَا ادَّعَاهَا مُدَّعٍ وَوَصَفَهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّعِي اللُّقَطَةِ إذَا وَصَفَ عَلَامَاتٍ فِيهَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ بِالْعَلَامَةِ، وَيَسَعُهُ أَنْ يَدْفَعَهَا، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: "فِي قِيَاسِ قَوْلِ مَالِكٍ يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُلْتَقِطُ شَيْئًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "وَكَذَلِكَ اللُّصُوصُ إذَا وُجِدَ مَعَهُمْ أَمْتِعَةٌ فَجَاءَ قَوْمٌ فَادَّعَوْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ أَنَّ السُّلْطَانَ يَتَلَوَّمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْآبِقُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: "يَدْفَعُهَا إلَيْهِ بِالْعَلَامَةِ" وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي اللَّقِيطِ إذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ: "إنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ: "إنَّ مَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ وَمَا كَانَ لِلرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ" فَحَكَمُوا فِيهِ بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ. وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُؤَاجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ: "إنَّهُ إنْ كَانَ وَفْقًا لِمِصْرَاعٍ مُعَلَّقٍ فِي الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفْقًا لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ جِذْعٌ مَطْرُوحٌ فِي دَارٍ وَعَلَيْهِ نُقُوشٌ وَتَصَاوِيرُ مُوَافِقَةٌ لِنُقُوشِ جُذُوعِ السَّقْفِ وَوَفْقًا لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ". وَهَذِهِ مَسَائِلُ قَدْ حَكَمُوا فِي بَعْضِهَا بِالْعَلَامَةِ وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فِي بَعْضٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَنَازَعَا عَلَى قِرْبَةٍ وَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِهَا وَأَحَدُهُمَا سَقَّاءٌ، وَالْآخَرُ عَطَّارٌ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُقْضَى لِلسَّقَّاءِ بِذَلِكَ عَلَى الْعَطَّارِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي اللُّقَطَةِ، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، وَالْمُدَّعِي لَهَا يُرِيدُ إزَالَةَ يَدِهِ وَقَالَ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وكون الذي

فِي يَدِهِ مُلْتَقَطًا لَا يُخْرِجُ الْمُدَّعِيَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى دَعْوَاهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ; إذْ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ، وَالْعَلَامَةُ لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ ادَّعَى مَالًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَعْطَى عَلَامَتَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ غَيْرُ مُلْتَقِطٍ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْعَلَامَةِ بَيِّنَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا شَيْئًا. وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الرَّجُلَيْنِ يَدَّعِيَانِ لَقِيطًا كُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ، فَإِنَّمَا جَعَلُوهُ، أَوْلَى اسْتِحْسَانًا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مُدَّعِيَ اللَّقِيطِ يَسْتَحِقُّهُ بِدَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ عَلَامَةٍ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ وَتَزُولُ يَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا تَنَازَعَهُ اثْنَانِ صَارَ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا; لِأَنَّهُمَا قَدْ اسْتَحَقَّا أَنْ يُقْضَى بِالنَّسَبِ لَهُمَا لَوْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ، فَلَمَّا زَالَتْ يَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ صَارَ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ جَمِيعُهُ فِي يَدِ هَذَا وَجَمِيعُهُ فِي يَدِ هَذَا، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ الْعَلَامَةِ. وَنَظِيرُهُ الزَّوْجَانِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَدٌ فِي الْجَمِيعِ اُعْتُبِرَ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا وَآكَدُهُمَا يَدًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ لَهُ يَدٌ فِي الدَّارِ، وَالْمُؤَاجِرُ أَيْضًا لَهُ يَدٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ فِي الْجَمِيعِ كَانَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَلَامَةُ الْمُوَافِقَةُ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ أَوْلَى، وَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِحُكْمِ يَدِهِ لَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحُكْمَ لَهُ بِالْمِلْكِ كَمَا يَسْتَحِقُّ بِالْبَيِّنَاتِ. فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي اعْتَبَرُوا فِيهَا الْعَلَامَةَ إنَّمَا اعْتَبَرُوهَا مَعَ ثُبُوتِ الْيَدِ لَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، فَصَارَتْ الْعَلَامَةُ مِنْ حُجَّةِ الْيَدِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ بِالْعَلَامَةِ، وَأَمَّا الْمُدَّعِيَانِ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ الْمَتَاعِ وَأَحَدُهُمَا مِمَّنْ يُعَالِجُ مِثْلَهُ وَهُوَ مِنْ آلَتِهِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا فِي صِنَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَأَنَّ مَا فِي يَدِ هَذَا لَيْسَ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَوْ حَكَمْنَا لِأَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ صِنَاعَتِهِ، أَوْ بِعَلَامَةٍ مَعَهُ لَكُنَّا قَدْ اسْتَحْقَقْنَا عَلَيْهِ يَدًا هِيَ لَهُ دُونَهُ، فَهُمَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلِ إسْكَافٍ ادَّعَى قَالِبَ خُفٍّ فِي يَدِ صَيْرَفِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ يَدَ الصَّيْرَفِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَتِهِ، وَمَسْأَلَةُ اللُّقَطَةِ هِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا; لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَدَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ بِالْعَلَامَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِالدَّعْوَى إذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةٌ، فَكَذَلِكَ الْعَلَامَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهَا يَدَ الْغَيْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: "اعْرِفْ عِقَاصَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا"، فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّعِيَهَا يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعِقَاصِ، وَالْوِعَاءِ، وَالْوِكَاءِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِمَالِهِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّهَا لَقْطَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي فَيَسَعُهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِذِكْرِ الْعَلَامَةِ وَلِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْحَالِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَلْبِ يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ صِدْقُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَذِبِ إخْوَةِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لخرق

قَمِيصَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَشْيَاءُ نَحْوُ هَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "اخْتَصَمَ إلَى شُرَيْحٍ امْرَأَتَانِ فِي وَلَدِ هِرَّةٍ، فَقَالَتْ إحْدَاهُمَا: هَذِهِ وَلَدُ هِرَّتِي، وَقَالَتْ الْأُخْرَى: هَذِهِ وَلَدُ هِرَّتِي، فَقَالَ: أَلْقُوهَا مَعَ هَذِهِ، فَإِنْ دَرَّتْ وَقَرَّتْ وَاسْبَطَرَتْ فَهِيَ لَهَا، وَإِنْ هَرَّتْ وَفَرَّتْ وَازْبَأَرَّتْ فَلَيْسَ لَهَا". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ادَّعَتَا كُبَّةَ غَزْلٍ، فَخَلَا بِإِحْدَاهُمَا، وَقَالَ: عَلَامَ كَبَبْت غَزْلَك؟ فَقَالَتْ: عَلَى جَوْزَةٍ، وَخَلَا بِالْأُخْرَى فَقَالَتْ: عَلَى كِسْرَةِ خُبْزٍ، فَنَقَضُوا الْغَزْلَ فَدَفَعُوهُ إلَى الَّتِي أَصَابَتْ" وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ شُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ إيَّاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يَغْلِبُ فِي. الظَّنِّ مِنْهُ فَيُقَرِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُبْطِلَ مِنْهُمَا، وَقَدْ يَسْتَحْيِ الْإِنْسَانُ إذَا ظَهَرَ مِثْلُ هَذَا مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى الدَّعْوَى فَيُقِرُّ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} قِيلَ: فِيهِ إضْمَارُ عَصِيرِ الْعِنَبِ لِلْخَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَمْرَ الْمَائِعَةَ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْعَصْرُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَعْصِرُ مَا يَئُولُ إلَى الْخَمْرِ، فَسَمَّاهُ بِاسْمِ الْخَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَعْصِرَ مِنْ الْعِنَبِ خَمْرًا بِأَنْ يَطْرَحَ الْعِنَبَ فِي الْخَابِيَةِ وَيُتْرَكَ حَتَّى يَنُشَّ وَيَغْلِيَ فَيَكُونَ مَا فِي الْعِنَبِ خَمْرًا فَيَكُونَ الْعَصْرُ لِلْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي لُغَةٍ تُسَمِّي الْعِنَبَ خَمْرًا. قَوْله تَعَالَى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: "كَانَ يُدَاوِي مَرِيضَهُمْ وَيُعَزِّي حَزِينَهُمْ وَيَجْتَهِدُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ". وَقِيلَ: "كَانَ يُعِينُ الْمَظْلُومَ وَيَنْصُرُ الضَّعِيفَ وَيَعُولُ الْمَرِيضَ" وَقِيلَ: "مِنْ الْمُحْسِنِينَ فِي عِبَارَةِ الرُّؤْيَا; لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُرُ لِغَيْرِهِمَا". قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَدَلَ عَنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِخْبَارِ بِهَذَا لَمَّا رَأَى عَلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ، فَلَمْ يَدَعَاهُ حَتَّى أَخْبَرَهُمَا بِهِ". وَقِيلَ: "إنَّمَا قَدَّمَ هَذَا لَيَعْلَمَا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ النُّبُوَّةِ وَلِيُقْبِلَا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ" وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ زَمَانًا فَلَمْ يَحْكِ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ وَكَانُوا قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ فِي الِاسْتِمَاعِ، وَالْقَبُولِ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ إلَيْهِ عَارِفِينَ بِإِحْسَانِهِ أَمَلَ مِنْهُمْ الْقَبُولَ وَالِاسْتِمَاعَ فَقَالَ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} الْآيَةَ وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النمل:125]

وَتَرَقَّبْ وَقْتَ الِاسْتِمَاعِ، وَالْقَبُولِ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى سَبِيلِ اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ لَنَا لِنَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} الظَّنُّ هَهُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ; لِأَنَّهُ عَلِمَ يَقِينًا وُقُوعَ مَا عَبَّرَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ومعناه أيقنت وقوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} هَذِهِ الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ "عَلَى السَّاقِي" وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ لُبْثَهُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ إنَّمَا كَانَ; لِأَنَّهُ سَأَلَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْغَفْلَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذِكْرَ رَبِّهِ يَعْنِي ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْأَوْلَى كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ وَلَا يَشْتَغِلَ بِمَسْأَلَةِ النَّاجِي مِنْهُمَا أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ فَصَارَ اشْتِغَالُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَبَبًا لِبَقَائِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى السَّاقِيَ فَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمَّا سَأَلَ السَّاقِيَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّهِ تَوْفِيقٌ لِلسَّاقِي وَخَلَّاهُ وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ وَخَوَاطِرَهُ حَتَّى أَنْسَاهُ ذِكْرُ رَبِّهِ أَمْرَ يُوسُفَ، وَأَمَّا الْبِضْعُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "هُوَ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشْرِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ "إلَى التِّسْعِ" وَقَالَ وَهْبٌ لَبِثَ سَبْعَ سِنِينَ. قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} ، فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ صَحِيحَةً وَلَمْ تَكُنْ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ; لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبَّرَهَا عَلَى سِنِي الْخَصْبِ، وَالْجَدْبِ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الرُّؤْيَا عَلَى أَوَّلِ مَا تُعَبَّرُ; لِأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا هِيَ أَضْغَاثُ أَحْلَامِ وَلَمْ تَقَعْ كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الرُّؤْيَا بِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رَجُلٍ طَائِرٍ، فَإِذَا عَبَرَتْ وَقَعَتْ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} الْآيَةَ يُقَالُ: إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى الذَّهَابِ إلَى الْمَلِكِ حَتَّى رَدَّ الرَّسُولُ إلَيْهِ بِأَنْ يَسْأَلَ عَنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ سَاحَتِهِ فَيَكُونَ أَجَلَّ فِي صَدْرِهِ عِنْدَ حُضُورِهِ وَأَقْرَبَ إلَى قَبُولِ مَا يَدْعُوهُ إلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَقَبُولِ مَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ، يَقُولُ: إنِّي إنَّمَا رَدَدْت الرَّسُولَ إلَيْهِ فِي سُؤَالِ النِّسْوَةِ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ. وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْحِكَايَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ رَدَّ الْكَلَامَ إلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ لِظُهُورِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] وَقَبْلَهُ حِكَايَةٌ عَنْ الْمَرْأَةِ: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34] ،

وكقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:35] وَقَبْلَهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَلَإِ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء:35] . قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ كَثِيرَةُ النِّزَاعِ إلَى السُّوءِ، فَلَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاوِعُهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ" وَقَالَ آخَرُونَ:"هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ". الْأَمَّارَةُ: الْكَثِيرَةُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، وَالنَّفْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِكَثْرَةِ مَا تَشْتَهِيهِ وَتُنَازِعُ إلَيْهِ مِمَّا يَقَعُ الْفِعْلُ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ كَانَتْ إضَافَةُ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ إلَى النَّفْسِ مَجَازًا فِي أَوَّلِ اسْتِعْمَالِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الْمَجَازِ وَصَارَ حَقِيقَةً، فَيُقَالُ: نَفْسِي تَأْمُرُنِي بِكَذَا وَتَدْعُونِي إلَى كَذَا مِنْ جِهَةِ شَهْوَتِي لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي الْحَقِيقَةِ; لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ تَرْغِيبًا لِلْمَأْمُورِ بِتَمْلِيكِ مَا لَا يَمْلِكُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُمَلِّكَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ; لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مَالِكُهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} هَذَا الْمَلِكُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّرَايَةِ لَمْ يَرُعْهُ مِنْ يُوسُفَ مَنْظَرُهُ الرَّائِعُ الْبَهِجُ كَمَا رَاعَ النِّسَاءَ لِقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ وَضَعْفِ أَحْلَامِهِنَّ، وَأَنَّهُنَّ إنَّمَا نَظَرْنَ إلَى ظَاهِرِ حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ دُونَ عِلْمِهِ وَعَقْلِهِ وَأَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَلَّمَهُ وَوَقَفَ عَلَى كَمَالِهِ بِبَيَانِهِ وَعِلْمِهِ قَالَ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} فقال يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فوصف نفسه بالعلم، والحفظ.

مطلب: يجوز لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لا يعرفه وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [لنجم:32] . قَوْله تَعَالَى: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} يُقَالُ إنَّ الَّذِي اقْتَضَى طَلَبَهُ لِلْأَخِ مِنْ أَبِيهِمْ مُفَاوَضَتُهُ لَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا ذَكَرُوا إيثَارَ أَبِيهِمْ لَهُ عَلَيْهِمْ بِمَحَبَّتِهِ إيَّاهُ مَعَ حِكْمَتِهِ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ وَأَنَّ نَفْسَهُ مُتَطَلِّعَةٌ إلَى عِلْمِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ غَرَضُهُ فِي ذُلِّ التَّوَصُّلِ إلَى حُصُولِهِ عِنْدَهُ وَكَانَ قَدْ خَافَ أَنْ يَكْتُمُوا أَبَاهُ أَمْرَهُ إنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُوسُفُ وَأَنْ يَتَوَصَّلُوا إلَى أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِمَاعِ مَعَهُ وَمَعَ أَخِيهِ، فَأَجْرَى تَدْبِيرَهُ عَلَى تَدْرِيجٍ لِئَلَّا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ مَا يَشْتَدُّ اضْطِرَابُهُمْ معه.

مطلب: العين حق قوله تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "كَانُوا ذَوِي صُورَةٍ وَجَمَالٍ فَخَافَ عَلَيْهِمْ الْعَيْنَ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "خَافَ عَلَيْهِمْ حَسَدَ النَّاسِ لَهُمْ وَأَنْ يَبْلُغَ الْمَلِكَ قُوَّتُهُمْ وَبَطْشُهُمْ فَيَقْتُلهُمْ خَوْفًا عَلَى مُلْكِهِ". وَمَا قَالَتْهُ الْجَمَاعَةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ". قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قِيلَ: أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَجْعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُوَكَّلِينَ بِالصِّيعَانِ، وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا من أخذه: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يُوسُفُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ كَذِبًا; إذْ كَانَ مَرْجِعُهُ إلَى غَالِبِ ظَنِّهِ وما هو عنده.

مطلب: يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه بما يمكنه الوصول إليه وَفِيمَا تَوَصَّلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ إلَى أَخْذِ أَخِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} قَالَ: "كَفِيلٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ كَفَالَةٌ عَنْ إنْسَانٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَعَلَ حِمْلَ بَعِيرٍ أُجْرَةً لِمَنْ جَاءَ بِالصَّاعِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ يَعْنِي ضَامِنٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُسْلِمًا ... بِسَيْرٍ يُرَى مِنْهُ الْفَرَانِقُ أَزْوَرَا أَيْ ضَامِنٌ لِذَلِكَ. فَهَذَا الْقَائِلُ لَمْ يَضْمَنْ عَنْ إنْسَانٍ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ ضَمَانَ الْأُجْرَةِ لِرَدِّ الصَّاعِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ قَوْلِ الْقَائِلِ: "مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ" وَأَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشَارِطُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ: "مَنْ سَاقَ هَذِهِ الدَّوَابَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا" أَوْ قَالَ: "مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ كَذَا" أَنَّ هَذَا جَائِزٌ وَمَنْ حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا فِيمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ دَارٌ لِرَجُلٍ يَسْكُنْهَا فَقَالَ: "إنْ أَقَمْت فِيهَا بَعْدَ يَوْمِك هَذَا فَأُجْرَةُ كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَلَيْك" أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لَزِمَهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا سَمَّى،

فَجَعَلَ سُكْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِضًا، وَكَانَ ذَلِكَ إجَارَةً وَإِنْ لَمْ يُقَاوِلْهُ بِاللِّسَانِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ رَدَّ الصَّاعَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ إجَارَةٍ، بَلْ فِعْلُهُ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْإِجَارَةِ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ: "قَدْ اسْتَأْجَرْتُك عَلَى حَمْلِ هَذَا الْمَتَاعِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ " أَنَّهُ إنْ حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الدِّرْهَمَ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِقَبُولِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ إجَارَةً لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ عَلَى حِمْلِ بَعِيرٍ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ. قِيلَ لَهُ: هُوَ أَجْرٌ مَعْلُومٌ لِأَنَّ حِمْلَ بَعِيرٍ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَا مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، كَقَوْلِهِمْ كَارَّةٌ وَوِقْرٌ وَوَسْقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَشَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ حُكْمُهَا ثَابِتٌ عِنْدَنَا مَا لَمْ تُنْسَخْ. قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} قَالَ، الْحَسَنُ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَرِقُّوا السَّارِقَ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ رَقِيقًا فَهُوَ جَزَاؤُهُ عِنْدَنَا كَجَزَائِهِ عِنْدَكُمْ، فَلَمَّا وُجِدَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ أَخَذَهُ عَلَى مَا شَرَطَ أَنَّهُ جَزَاءُ سَرِقَتِهِ، فَقَالُوا: خُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ عَبْدًا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ بِالسَّرِقَةِ، وَكَانَ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُرِقَّ نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَذَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيَكُونَ عَبْدًا بَدَلَ أَخِي يُوسُفَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدٍ سَرَقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَهُ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ وَكَانَ حُرًّا"، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ ثَابِتًا إلَى أَنْ نُسِخَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عليه وسلم.

مطلب: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا خَافَ هَلَاكَ النَّاسِ مِنْ الْقَحْطِ. وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَحِفْظِهِ لِلْأَطْعِمَةِ فِي سِنِي الْجَدْبِ وَقِسْمَتِهِ عَلَى النَّاسِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ إذَا خَافُوا هَلَاكَ النَّاسِ مِنْ الْقَحْطِ. قَوْله تَعَالَى: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} إنَّمَا أَخْبَرُوا عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ لَا عَنْ بَاطِنِهَا; إذْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِبَاطِنِهَا وَلِذَلِكَ قالوا: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} فَكَانَ فِي الظَّاهِرِ لَمَّا وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ أَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ لَهُ فَقَالُوا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} يَعْنِي مِنْ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ اسْمِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَقِيقَةً، وهو

كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ بِضَمَائِرِهِنَّ عِلْمًا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ إيمَانِهِنَّ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "مَا كُنَّا نَشْعُرُ أَنَّ ابْنَك سَيَسْرِقُ"، وَالْآخَرُ: مَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ أَنَّا لَا نَدْرِي بَاطِنَ الْأَمْرِ فِي السَّرِقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَازَ لَهُ اسْتِخْرَاجُ الصَّاعِ مِنْ رَحْلِ أَخِيهِ عَلَى حَالٍ يُوجِبُ تُهْمَتَهُ عِنْدَ النَّاسِ مَعَ بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ وَعَمَّ أَبِيهِ وَإِخْوَتَهُ بِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الصَّلَاحِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَلَطُّفٍ فِي إعْلَامِ أَبِيهِ بِسَلَامَتِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَهُ بِالسَّرِقَةِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ فِي رَحْلِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْبَلْوَى بِفَقْدِهِ أَيْضًا لِيَصْبِرَ فَيَتَضَاعَفَ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ بصبره على فقدهما.

مطلب: يجوز الاحتيال في التوصل إلى المباح وَفِيمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَمَا عَامَلَ بِهِ إخْوَتَهُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} دَلَالَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَقَالَ في آخر القصة: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] وَكَانَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا عَدَدًا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَخْذِ الضِّغْثِ وَضَرْبِهَا بِهِ لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ إيصَالِ أَلَمٍ كَبِيرٍ إلَيْهَا. وَمِنْ نَحْوِهِ النَّهْيُ عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ وَإِبَاحَةُ التَّوَصُّلِ إلَى إعْلَامِهَا رَغْبَتَهُ بِالتَّعْرِيضِ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا"؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إنَّمَا نَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا"، كَذَا رَوَى ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَحَظَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّفَاضُلَ فِي التَّمْرِ وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَحْتَالُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ هَذَا التَّمْرِ" وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ: "خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ". فَأَمَرَهَا بِالتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَحَقِّ وَلَدِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا وَرَّى بِغَيْرِهِ. وَرَوَى يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنْ ائْتُونَا فَإِنَّا سَنُغِيرُ عَلَى بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عِنْدَ عُيَيْنَةَ حِينَ أَرْسَلَتْ بِذَلِكَ

بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى الْأَحْزَابِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ نُعَيْمُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا وَمَا أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى الْأَحْزَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّنَا أُمِرْنَا بِذَلِكَ" فَقَامَ نُعَيْمٌ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، فَلَمَّا وَلَّى مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاهِبًا إلَى غَطَفَانَ قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي قُلْت إنْ كَانَ أَمْرًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَأَمْضِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا رَأْيًا رَأَيْته مِنْ قِبَلِ نَفْسِك فَإِنَّ شَأْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا يُؤْثَرُ عَنْك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ هَذَا رَأْيٌ إنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ". وَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "إنَّ فِي مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَمَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ". وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمُرُ النَّعَمِ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه لِلْمَلِكِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ سَارَةَ فَقَالَ: مَنْ هِيَ مِنْك؟ قَالَ: هِيَ أُخْتِي لِئَلَّا يَأْخُذَهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أُخْتِي فِي الدِّينِ وَقَالَ لِلْكُفَّارِ: إنِّي سَقِيمٌ، حِينَ تَخَلَّفَ لِيُكَسِّرَ آلِهَتَهُمْ، وَكَانَ مَعْنَاهُ: إنِّي سَأَسْقَمُ يَعْنِي أَمُوتُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] فَعَارَضَ بِكَلَامِهِ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ الْكَذِبُ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِالِاحْتِيَالِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ، وَقَدْ كَانَ لَوْلَا وَجْهُ الْحِيلَةِ فِيهِ مَحْظُورًا وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْوَطْءَ بِالزِّنَا وَأَمَرَنَا بِالتَّوَصُّلِ إلَيْهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَحَظَرَ عَلَيْنَا أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَبَاحَهُ بِالشِّرَى وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، فَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَصُّلَ إلَى اسْتِبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ فَإِنَّمَا يَرُدُّ أُصُولَ الدِّينِ وَمَا قَدْ ثَبَتَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ. فَإِنْ قِيلَ: حَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ صَيْدَ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ حَبَسُوا السَّمَكَ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهُ يَوْمَ الْأَحَدِ فَعَاقَبَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَبْسُهَا فِي السَّبْتِ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَبْسُهُمْ لَهَا فِي السَّبْتِ مُحَرَّمًا لَمَا قَالَ: {اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة:65] .

مطلب: يجوز للإنسان إظهار ضر مسه عند الحاجة إليه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} إلى قوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} لَمَّا تَرَكَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ في قوله: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إظْهَارِ مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى الشَّكْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْكَيْلِ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ مُرَادَهُ الصَّاعُ الَّذِي اكْتَالَ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ بَائِعِهِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي هُوَ مَا اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ الْبَائِعِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ صَاعُ الْبَائِعِ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي اكْتَالَ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّاعَ الَّذِي كَالَ الْبَائِعُ بِهِ بَائِعَهُ وَصَاعَ الْمُشْتَرِي الَّذِي كَالَهُ لَهُ بَائِعُهُ، فَلَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى الِاكْتِيَالِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ الْكَيْلِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةَ وِزَانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِوَزْنِهِ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْوِزَانِ. وَأَمَّا أُجْرَةُ النَّاقِدِ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ: "أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إلَيْهِ صَحِيحًا، إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ الْبَائِعُ فَأُجْرَةُ النَّاقِدِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ وَمَلَكَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَعِيبٌ يَجِبُ رَدُّهُ". قوله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّمَا سَأَلُوا التَّفَضُّلَ بِالنُّقْصَانِ فِي السِّعْرِ وَلَمْ يَسْأَلُوا الصَّدَقَةَ". وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: "سَأَلُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ أَنْبِيَاءٌ وَكَانَتْ حَلَالًا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا هِيَ مِمَّنْ يَبْتَغِي الثَّوَابَ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} فِيهِ إخْبَارٌ أَنَّهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ تَوْبَةٌ لَكَانُوا جَاهِلِينَ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ جَهَالَةَ الصِّبَا لَا جَهَالَةَ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُ يُوسُفَ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ذَنْبًا مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَابُوا بِقَوْلِهِمْ: {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} وَلَا يَقُولُ مِثْلُهُ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا فِي حَالِ الصِّغَرِ قَبْلَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ. وقوله: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} إنَّمَا جَازَ لَهُمْ مَسْأَلَةُ الِاسْتِغْفَارِ مَعَ حُصُولِ التَّوْبَةِ لِأَجْلِ الْمَظْلِمَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِعَفْوِ الْمَظْلُومِ وَسُؤَالِ رَبِّهِ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ بِمَا عَامَلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَأَلَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِدُعَائِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي جِنَايَةٍ. قَوْله تعالى: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالتَّيْمِيّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ: "أَنَّهُ أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ إلَى السَّحَرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: إنَّمَا سَأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ دَائِمًا فِي دُعَائِهِ.

قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} يُقَالُ: إنَّ التَّحِيَّةَ لِلْمُلُوكِ كَانَتْ السُّجُودَ وَقِيلَ: إنَّهُمْ سَجَدُوا لِلَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ مَعَ يُوسُفَ عَلَى الْحَالِ السَّارَّةِ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ التَّعْظِيمَ لِيُوسُفَ، فَأَضَافَ السُّجُودَ إلَى يُوسُفَ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: "صَلَّى لِلْقِبْلَةِ " وَ "صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ " يَعْنِي إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ. وَقَوْلُ يُوسُفَ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي سُجُودَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ فَكَانَ السُّجُودُ فِي الرُّؤْيَا هُوَ السُّجُودُ فِي الْيَقَظَةِ، وَكَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ وَيُقَالُ فِي قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} إنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مَاتَتْ وَتَزَوَّجَ خَالَتَهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ: "كَانَتْ أُمُّهُ بَاقِيَةً" وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: كَانَتْ الْمُدَّةُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَبَيْنَ تَأْوِيلِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً"، وَعَنْ الْحَسَنِ: كَانَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً " فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ صَادِقَةً فَهَلَّا تَسَلَّى يَعْقُوبُ بِعِلْمِهِ بِوُقُوعِ تَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ رَآهَا وَهُوَ صَبِيٌّ، وَقِيلَ لِأَنَّ طُولَ الْغَيْبَةِ عَنْ الْحَبِيبِ يُوجِبُ الْحُزْنَ كَمَا يُوجِبُهُ مَعَ الثِّقَةِ بِالِالْتِقَاءِ فِي الْآخِرَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يَعْنِي: وَكَمْ مِنْ آيَةٍ فِيهِمَا لَا يُفَكِّرُونَ فِيهَا وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِآيَاتِهِ وَدَلَائِلِهِ وَالْفِكْرِ فِيمَا يَقْتَضِيه مِنْ تَدْبِيرِ مُدَبِّرِهَا الْعَالِمِ بِهَا الْقَادِرِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا، وَذَلِكَ فِي تَدْبِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ وَالنِّتَاجِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْحَوَاسِّ وَمُدْرَكٌ بِالْعِيَانِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ:"وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إلَّا وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ". وَقَالَ الْحَسَنُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ". وَقِيلَ: "مَا يُصَدِّقُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ إلَّا وَهُمْ يُشْرِكُونَ الْأَوْثَانَ فِي الْعِبَادَةِ". وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعَ الْيَهُودِيِّ إيمَانًا بِمُوسَى وَكُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ لَا يَتَنَافَيَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَيَكُونُ فِيهِ كُفْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى جِهَةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَاسْتِحْقَاقِ ثَوَابِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِيهِ الْكُفْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] قَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْكُفْرَ بِبَعْضٍ آخَرَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كُفْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ

صِفَةُ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ لِأَنَّ صِفَةَ مُؤْمِنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ صِفَةُ مَدْحٍ وَصِفَةَ كَافِرٍ صِفَةُ ذَمٍّ وَيَتَنَافَى اسْتِحْقَاقُ الصِّفَتَيْنِ مَعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، كَأَنَّهُ يُبْصِرُهُ بِعَيْنِهِ وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فَذَلِكَ سَبِيلُهُ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُعَاءَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} قِيلَ: مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَ الْبَوَادِي لِأَنَّ أَهْلَ لِأَمْصَارِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ وَأَحْرَى بِقَبُولِ النَّاسِ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَطُّ وَلَا مِنْ الْجِنِّ وَلَا مِنْ النِّسَاءِ". قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} الْيَأْسُ انْقِطَاعُ الطَّمَعِ وَقَوْلُهُ: {كُذِبُوا} قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّثْقِيلِ، فَإِذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: ظَنَّ الْأُمَمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِمْ". وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَبْحَابِ قَالَ: حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ الْجَزَرِيُّ قَالَ: صَنَعْت طَعَامًا فَدَعَوْت نَاسًا مِنْ أَصْحَابِنَا فِيهِمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَرْسَلْت إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فَأَبَى أَنْ يَجِيءَ، فَأَتَيْتُهُ فَلَمْ أَدَعْهُ حَتَّى جَاءَ، قَالَ: فَسَأَلَ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ فَإِنِّي إذَا أَتَيْت عَلَيْهِ تَمَنَّيْت أَنِّي لا أقرأ هذه السورة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطُّ رَجُلًا يُدْعَى إلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ، لَوْ رَحَلْت فِي هَذَا إلَى الْيَمَنِ كَانَ قَلِيلًا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ سَأَلَ سَعِيدًا عَنْهُ فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ، فَقَامَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَاعْتَنَقَهُ وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عَنْك كَمَا فَرَّجْت عَنِّي. وَمَنْ قَرَأَ: "كُذِّبُوا " بِالتَّشْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ: أَيْقَنُوا أَنَّ الْأُمَمَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ فَكَذِبُنَا عَمَّهُمْ حَتَّى لَا يُفْلِحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. آخِرُ سورة يوسف.

وَمِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: "الْأَرْضُ السَّبَخَةُ والأرض العذبة " {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "النَّخَلَاتُ أَصْلُهَا وَاحِدٌ". قَوْله تَعَالَى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} فِيهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُدُوثُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الثِّمَارِ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَهُ; إذْ كَانَتْ الطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ تُوجِبُ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقَ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجِبَ فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرَايِيحِ وَالْأَشْكَالِ مِنْ إيجَابِ الطَّبِيعَةِ لَاسْتَحَالَ اخْتِلَافُهَا وَتَضَادُّهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْمُوجِبِ لَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَهَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ قَدْ أَحْدَثَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: "الْهَادِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى " وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: "الْهَادِي نَبِيُّ كُلِّ أُمَّةٍ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْهَادِي الدَّاعِي إلَى الْحَقِّ". وَعَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الضُّحَى وَعِكْرِمَةَ: "الْهَادِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَهَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ، وَالْمُنْذِرُ هُوَ الْهَادِي وَالْهَادِي أَيْضًا هُوَ الْمُنْذِرُ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: "وَمَا تَنْقُصُ مِنْ الْأَشْهُرِ التِّسْعَةِ وَمَا تَزْدَادُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُولَدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَعِيشُ وَيُولَدُ لِسَنَتَيْنِ فَيَعِيشُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَمَا تَنْقُصُ بِالسَّقْطِ وَمَا تَزْدَادُ بِالتَّمَامِ". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "الْغَيْضُ النُّقْصَانُ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ غَاضَتْ الْمِيَاهُ إذَا نَقَصَتْ؟ ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "إذَا غَاضَتْ " وَقَالَ: "مَا غَاضَتْ الرَّحِمُ بِالدَّمِ يَوْمًا إلَّا زَادَ فِي الْحَمْلِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْغَيْضُ ما رأت

الْحَامِلُ مِنْ الدَّمِ فِي حَمْلِهَا وَهُوَ نُقْصَانٌ مِنْ الْوَلَدِ، وَالزِّيَادَةُ مَا زَادَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ تَمَامُ النُّقْصَانِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ". وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ التَّفْسِيرَ إنْ كَانَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ فَهُوَ حُجَّةٌ مِنْهُ فِي أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ، قَالَ: "لِأَنَّ كُلَّ دَمٍ تَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا أَوْ نِفَاسًا وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَهُوَ مِنْ عَرَضٍ". وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ مِنْ الرَّحِمِ قَدْ يَكُونُ حَيْضًا وَنِفَاسًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُمَا، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: "إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ" غَيْرُ مَانِعٍ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ مِنْ الدَّمِ قَدْ يَكُونُ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّمَا هُوَ عِرْقٌ انْقَطَعَ أَوْ دَاءٌ عَرَضَ" فَأَخْبَرَ أَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ قَدْ يَكُونُ مِنْ دَاءٍ عَرَضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِرْقٍ وَأَيْضًا فَمَا الَّذِي يُحِيلُ أَنْ يَكُونَ دَمُ الْعِرْقِ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ بِأَنْ يَنْقَطِعَ الْعِرْقُ فَيَسِيلُ الدَّمُ إلَيْهَا ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَلَا نِفَاسًا؟ ثُمَّ قَالَ: "فَلَا يُقَالُ إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ اللَّهِ أَوْ عَنْ رَسُولِهِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْبٍ". وَنَسِيَ أَنَّ قَضِيَّتَهُ تُوجِبُ أَنْ لَا يُقَالَ: إنَّهَا تَحِيضُ إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْبٍ عَلَى حَسَبِ مَوْضُوعِهِ وَقَاعِدَتِهِ، بَلْ قَدْ يَسُوغُ لِمَنْ نَفَى الْحَيْضَ عَنْ الْحَامِلِ مَا لَا يَسُوغُ لِمَنْ أَثْبَتَهُ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ حَائِضٍ فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ وَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ حَيْضٌ أَوْ غَيْرُ حَيْضٍ وَفِي إثْبَاتِ الْحَيْضِ إثْبَاتُ أَحْكَامٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ حَيْضًا إلَّا بِتَوْقِيفٍ. وَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحَيْضِ حَتَّى يَثْبُتَ الْحَيْضُ بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ; إذْ كَانَ فِي إثْبَاتِ الدَّمِ حَيْضًا إثْبَاتُ حُكْمٍ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَنَا حَيْضٌ " هُوَ حُكْمٌ لِدَمٍ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ، وَقَدْ يُوجَدُ الدَّمُ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُحْكَمُ لِمَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا بِحُكْمِ الْحَيْضِ وَلِمَا رَأَتْهُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا بِحُكْمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَكَذَلِكَ النِّفَاسُ. فَإِذَا كَانَ الْحَيْضُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ إثْبَاتِ أَحْكَامٍ لِدَمٍ يُوجَدُ فِي أَوْقَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ عِبَارَةً عَنْ الدَّمِ فَحَسَبُ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِخُرُوجِ دَمٍ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا لِدَمِ الْحَامِلِ; إذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ وَلَا حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقٌ. ثُمَّ قَالَ إسْمَاعِيلُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لَا يُقَالُ إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ اللَّهِ أَوْ عَنْ رَسُولِهِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْبٍ: "وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَحِيضُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] فَلَمَّا قِيلَ: "النِّسَاءَ" لَزِمَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ لِأَنَّ الدَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا فَالْحَيْضُ أَوْلَى بِهِ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ صِفَةِ الْحَيْضِ بِمَعْنَى يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] إنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحِيضِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَاجْتِنَابِ الرَّجُلِ جِمَاعَهَا وَإِخْبَارٌ عَنْ نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ وَلُزُومِ اجْتِنَابِهِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى

وُجُودِهِ فِي حَالِ الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ وَقَوْلُهُ: "لَمَّا قِيلَ النِّسَاءَ لَزِمَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ" لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] وقوله: {فِي الْمَحِيضِ} لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْحَيْضَ مَا هُوَ، وَمَتَى ثَبَتَ الْمَحِيضُ وَجَبَ الِاعْتِزَالُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي أَنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَمْ لَا، وَقَوْلُ الْخَصْمِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ: "إنَّ الدَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا فَالْحَيْضُ أَوْلَى بِهِ " دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ مِنْ الْبُرْهَانِ، وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الدَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا فَغَيْرُ الْحَيْضِ أَوْلَى بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَيْضٌ لِوُجُودِنَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ غَيْرَ حَيْضٍ، فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْكَلَامِ إلَّا دَعَاوَى مَبْنِيَّةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَجَمِيعُهَا مُفْتَقِرٌ إلَى دَلِيلٍ يُعَضِّدُهَا. وَقَدْ رَوَى مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ: "إنَّهَا لَا تَدَعُ الصَّلَاةَ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عِنْدَنَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا تُمْسِكُ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْهُرَ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ بِهِ الْحَامِلَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدَانِ فَوَلَدَتْ أَحَدَهُمَا أَنَّ النِّفَاسَ مِنْ الْأَوَّلِ وَأَنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى تَطْهُرَ، عَلَى مَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يُصَحِّحَ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا عَنْهَا. وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَأَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنْ دَمٍ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَحِيضُ. فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ"، وَالِاسْتِبْرَاءُ هُوَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَمَّا جَعَلَ الشَّارِعُ وُجُودَ الْحَيْضِ عَلَمًا لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ مَعَ الْحَبَلِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُهُ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْحَيْضِ عَلَمًا لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ: "فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا"، فَلَوْ كَانَتْ الْحَامِلُ تَحِيضُ لَفُصِلَ بَيْنَ جِمَاعِهَا وَطَلَاقِهَا بِحَيْضَةٍ كَغَيْرِ الْحَامِلِ، وَفِي إبَاحَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَامِلِ بَعْدَ الْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ بِحَيْضَةٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لا تحيض. آخر سورة الرعد.

وَمِنْ سُورَةِ إبْرَاهِيمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: "غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ تُطْعَمُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَامِرٍ وَعِكْرِمَةَ. وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "أَرَى الْحِينَ سَنَةً"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ مِنْ قَوْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْحِينُ شَهْرَانِ، مِنْ حِينِ تُصْرَمُ النَّخْلُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ النَّخْلَةَ لَا تَكُونُ فِيهَا أُكُلُهَا إلَّا شَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْحِينَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْحِينِ فَقَالَ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} : سِتَّةَ أَشْهُرٍ، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] : ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] : يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا إلَى حِينٍ فَغُلَامُهُ حَرٌّ، فَأَتَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسَأَلَهُ، فَسَأَلَنِي عَنْهَا فَقُلْت: إنَّ مِنْ الْحِينِ حِينٌ لَا يُدْرَكُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] فَأَرَى أَنْ يُمْسَكَ مَا بَيْنَ صِرَامِ النَّخْلِ إلَى حَمْلِهَا فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قَالَ: "مَا بَيْنَ سِتَّةِ الْأَشْهُرِ أَوْ السَّبْعَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحِينُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] ثُمَّ قَالَ: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] فَهَذَا عَلَى وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَوَقْتِ الظُّهْرِ وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَصَارَ "حِينَ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِأَوْقَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي الْحِينِ أَنَّهُ غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ذَهَبَ إلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَقْصَرُ الْأَوْقَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوْفَ

يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان:42] وَهَذَا عَلَى وَقْتُ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ وَقْتٌ قَصِيرٌ غَيْرُ مُمْتَدٍّ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] أَنَّهُ أَرَادَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ وَالسِّتَّةُ الْأَشْهُرُ وَالثَّلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالشَّهْرَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ السَّلَفِ لِلْآيَةِ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ وَعَلَى أَقْصَرِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ بِحَسَبِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ. ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا حِينًا أَنَّهُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَقْصَرَ الْأَوْقَاتِ، إذْ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَلِفَ عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً حَلَفَ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ. ثُمَّ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} لَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ أَقْصَرُ الْأَوْقَاتِ فِيهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّ مِنْ حِينِ الصِّرَامِ إلَى وَقْتِ أَوَانِ الطَّلْعِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ السَّنَةِ لِأَنَّ وَقْتَ الثَّمَرَةِ لَا يَمْتَدُّ سَنَةً بَلْ يَنْقَطِعُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَانَ مُوَافِقًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي أَنَّهَا تُطْعَمُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتَنْقَطِعُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَأَمَّا الشَّهْرَانِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ مَنْ اعْتَبَرَهُمَا لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ وَقْت الصِّرَامِ إلَى وَقْتِ خُرُوجِ الطَّلْعِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ بَقَاءُ الثَّمَرَةِ شَهْرَيْنِ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الطَّلْعِ إلَى وَقْتِ الصِّرَامِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ أَيْضًا، فَلَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ السَّنَةِ وَاعْتِبَارُ الشَّهْرَيْنِ بِمَا وَصَفْنَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ أَوْلَى آخِرُ سورة إبراهيم عليه السلام.

وَمِنْ سُورَةِ النَّحْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الدِّفْءُ اللِّبَاسُ " وَقَالَ الْحَسَنُ: الدِّفْءُ مَا اُسْتُدْفِئَ بِهِ مِنْ أَوْبَارِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا فِي سَائِرَ الْأَحْوَالِ مِنْ حَيَاةِ أَوْ مَوْتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} رَوَى هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وكان يقول في {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} : إنَّ هَذِهِ لِلْأَكْلِ وَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ لُحُومَ الْخَيْلِ وتأول: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى حَظْرِ لُحُومِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْعَامَ وَعَظَّمَ مَنَافِعَهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا الْأَكْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَذَكَرَ مَنَافِعَهَا الرُّكُوبَ وَالزِّينَةَ، فَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ مِنْ مَنَافِعِهَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَخْبَارٌ مُتَضَادَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، فَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَصَابَ النَّاسُ مَجَاعَةٌ، فَذَبَحُوهَا، "فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَلُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَحَرَّمَ الْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ" وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَلَمْ يَسْمَعْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَابِرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرٍ، وَجَابِرٌ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَى عَنْ سَلَامٍ بْنِ كَرْكَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ جَابِرٌ خَيْبَرَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ فَوَرَدَتْ أَخْبَارُ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةً، فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا حَاظِرٌ وَالْآخَرُ مُبِيحٌ فَالْحَظْرُ أَوْلَى، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ أَبَاحَهُ فِي وَقْتٍ ثُمَّ حَظَرَهُ وَذَلِكَ لأن الأصل كان الإباحة والحظر طارئ عليها لَا مَحَالَةَ، وَلَا نَعْلَمُ إبَاحَةً بَعْدَ الْحَظْرِ، فَحُكْمُ الْحَظْرِ ثَابِتٌ لَا مَحَالَةَ; إذْ لَمْ تَثْبُتْ إبَاحَةٌ بَعْدَ الْحَظْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ هَذَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: خُسِفَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَبِهَا يَوْمئِذٍ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ابْنُ شِهَابٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: فَقُمْنَا قِيَامًا بَعْدَ الْعَصْرِ نَدْعُو اللَّهَ، فَقُلْت لِأَيُّوبَ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيِّ: مَا لَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: النَّهْيُ قَدْ جَاءَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ أَنْ لَا تُصَلِّيَ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَلُّونَ، وَإِنَّ النَّهْيَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَتَعَارَضَ خَبَرَا جَابِرٍ فَيَسْقُطَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا، وَقَدْ رَوَى إسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ، قَالَ عَطَاءٌ: فَقُلْت لَهُ: فَالْبِغَالُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبِغَالُ فَلَا. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ". وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْحَظْرِ. وَقَدْ رَوَى بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا عَلِمْنَا الْخَيْلَ أُكِلَتْ إلَّا فِي حِصَارٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِلُحُومِ الْخَيْلِ " وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَشُرَيْحٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُطْلِقُ فِيهِ التَّحْرِيمَ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ كَلَحْمِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَإِنَّمَا يَكْرَهُهُ لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ الْحَاظِرَةِ وَالْمُبِيحَةِ فِيهِ، وَيَحْتَجُّ لَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ فَأَشْبَهَ الْحِمَارَ وَالْبَغْلَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لَحْمَ الْبَغْلِ لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُ حَلَالًا لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ أُمِّهِ; لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ الْأُمِّ; إذْ هُوَ كَبَعْضِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ حِمَارَةً أَهْلِيَّةً لَوْ وَلَدَتْ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ لَمْ يُؤْكَلْ وَلَدُهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ حِمَارَةٌ وَحْشِيَّةٌ مِنْ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ أُكِلَ وَلَدُهَا؟ فَكَانَ الْوَلَدُ تَابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، فَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الْبَغْلِ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فَرَسًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يَحْتَجُّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِتَسْمِيَةِ اللَّهِ إيَّاهُ حُلِيًّا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ:

لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّعَارُفِ، وَلَيْسَ فِي الْعُرْفِ تَسْمِيَةُ اللُّؤْلُؤِ وَحْدَهُ حُلِيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى بَائِعُ حُلِيٍّ؟ وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّ فِيهَا أَيْضًا {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ مَعَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ لَحْمًا طَرِيًّا.

بَابُ السَّكَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ السُّكْرِ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: "السُّكْرُ مَا حُرِّمَ مِنْهُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا حَلَّ مِنْهُ". وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي رَزِينٍ قَالُوا: "السَّكَرُ خَمْرٌ". وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "السَّكَرُ خَمْرٌ". وَرَوَى ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: "السَّكَرُ خَمْرٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ التَّمْرِ". وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هُوَ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا وَمَا أُحِلَّ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا نَحْوُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وعثمان بن عطاء الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} قَالَ: "السَّكَرُ النَّبِيذُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الزَّبِيبُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَى الْخَمْرِ وَعَلَى النَّبِيذِ وَعَلَى الْحَرَامِ مِنْهُ، ثَبَتَ أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ إبَاحَةَ السَّكَرِ وَهُوَ الْخَمْرُ وَالنَّبِيذُ، وَاَلَّذِي ثَبَتَ نَسْخُهُ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْخَمْرُ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ تَحْلِيلُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ; إذْ كَانَ اسْمُ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّبِيذَ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "السَّكَرُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا يَنْبِذُونَ وَيُخَلِّلُونَ وَيَأْكُلُونَ، أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمْ تُحَرِّمْ الْخَمْرَ وَإِنَّمَا جَاءَ تَحْرِيمُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ". وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ الْحَنَفِيُّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ السَّكَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا السَّكَرُ الْمُحَرَّمُ عِنْدنَا هُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ. قَوْله تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً

لِلشَّارِبِينَ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى طَهَارَةِ اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ مِنْ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: عُمُومُ اللَّفْظِ فِي إبَاحَةِ اللَّبَنِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا. وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَحُكْمُهُ بِطَهَارَتِهِ مَعَ ذَلِكَ; إذْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّبَنَ لَا يُنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ مَوْضِعِ الْخِلْقَةِ وَهُوَ ضَرْعُ الْمَيْتَةِ كَمَا لَمْ يُنَجَّسْ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلْفَرْثِ وَالدَّمِ. قَوْله تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فِيهِ بَيَانُ طَهَارَةِ الْعَسَلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ النَّحْلِ الْمَيِّتِ وَفِرَاخِهِ فِيهِ، وَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ بِطَهَارَتِهِ فَأَخْبَرَ عَمَّا فِيهِ مِنْ الشِّفَاءِ لِلنَّاسِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا لَا دَمَ لَهُ لَا يُفْسِدُ مَا يَمُوتُ فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "أَنَّهُمْ لَا يُشْرِكُونَ عَبِيدَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِيهِ سَوَاءً وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي". وَقِيلَ: "مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي أَنِّي رَزَقْت الْجَمِيعَ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ أَحَدٌ أَنْ يَرْزُقَ عَبْدَهُ إلَّا بِرِزْقِي إيَّاهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ انْتِفَاءَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ عَبْدِهِ فِي الْمِلْكِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى إيَّاهُ لَجَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَالَهُ فَيَمْلِكُهُ حَتَّى يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ وَيَكُونَ مِلْكُ الْعَبِيدِ مِثْلَ مِلْكِ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ فِي بَابِ الْمِلْكِ وَأَكْثَرَ مِلْكًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَّكَهُ الْمَوْلَى إيَّاهُ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ لَهُ فِي الْمِلْكِ. وَأَيْضًا لَمَّا جَعَلَهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْيِهِ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ كَمَا نَفَى الشَّرِكَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ. قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْحَفَدَةَ الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ " وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَطَاوُسٌ: "الْحَفَدَةُ الْخَدَمُ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الضُّحَى وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: "الْحَفَدَةُ الْأُخْتَانِ". وَيُقَالُ: إنَّ أَصْلَ الْحَفْدِ الْإِسْرَاعُ فِي الْعَمَلِ، وَمِنْهُ: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَالْحَفَدَةُ جَمْعُ حَافِدٍ كَقَوْلِك: كَامِلٌ وَكَمَلَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ الْخَدَمِ وَالْأَعْوَانِ وَمِنْ الْأُخْتَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَسْتَحِقُّ عَلَى ابْنِهِ الْخِدْمَةَ وَالْمَعُونَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْأَبَ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِخِدْمَتِهِ أَنَّهُ

لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ إنْ خَدَمَهُ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْإِجَارَةِ. قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: "أَنَّهُ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكَافِرِ الَّذِي لَا خَيْرَ عِنْدَهُ وَالْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكْتَسِبُ الْخَيْرَ " وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "هُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِعِبَادَتِهِمْ الْأَوْثَانَ الَّتِي لَا تَمْلِكُ شَيْئًا وَالْعُدُولِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّذِي يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ: أَحَدَهَا: قَوْلُهُ: {عَبْداً مَمْلُوكاً} نَكِرَةً، فَهُوَ شَائِعٌ فِي جِنْسِ الْعَبِيدِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا تُكَلِّمْ عَبْدًا وَأَعْطِ هَذَا عَبْدًا، أَنَّ ذَلِكَ يَنْتَظِمُ كُلَّ مَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الاسم، وكذلك قوله: {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] فَكُلُّ مَنْ لَحِقَهُ هَذَا الِاسْمُ قَدْ انْتَظَمَهُ الْحُكْمُ; إذْ كَانَ لَفْظًا مَنْكُورًا، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَبْداً مَمْلُوكاً} قَدْ انْتَظَمَ سَائِرَ الْعَبِيدِ. ثُمَّ قَالَ: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقُدْرَةِ أَوْ نَفْيَ الْمِلْكِ أَوْ نَفْيَهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ; إذْ كَانَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقُدْرَةِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ أَقْدَرَ مِنْ الْحُرِّ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْمِلْكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ فَشَبَّهَهَا بِالْعَبِيدِ الْمَمْلُوكِينَ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِلَّا زَالَتْ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِ، وَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِالْعَبْدِ وَالْحُرِّ سَوَاءً وَأَيْضًا لَوْ أَرَادَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَبِيدِ مَنْ يَمْلِكُ لَقَالَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا خَصَّ الْعَبْدَ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَمْلِكُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ يُعَلَّى بْنِ مُنْيَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رِجْلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَعَبْدِهِ ثُمَّ أَسْلَمَا، فَنَزَلَتْ الْأُخْرَى فِي رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء إلى قوله {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ: كَانَ مَوْلًى لِعُثْمَانَ كَانَ عُثْمَانُ يَكْفُلُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَعُثْمَانُ الَّذِي يُنْفِقُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَالْآخَرُ أَبْكَمُ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَبِيدِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا كَمَا يَكُونُ فِي الْأَحْرَارِ مَنْ لَا يَمْلِكُ. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَنْفِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ. وَأَيْضًا مَعْلُومٌ أَنَّ الْخِطَابَ فِي ذِكْرِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ثُمَّ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مَثَلَ مَا

يَعْبُدُونَ مَثَلُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمْلِكُوا تَأْكِيدًا لِنَفْيِ أَمْلَاكِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ، مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ فَرْقٌ وَكَانَ تَخْصِيصُهُ الْعَبْدَ بِالذِّكْرِ لَغْوًا فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ نَفْيُ مِلْكِ الْعَبِيدِ رَأْسًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأَبْكَمَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَبْدًا أَبْكَمَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} فَذِكْرُ الْمَوْلَى وَتَوْجِيهُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعَبْدُ، كَأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا عَبْدًا غَيْرَ أَبْكَمَ وَجَعَلَهُ مَثَلًا لِلصَّنَمِ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ، ثُمَّ زَادَهُ نَقْصًا بِقَوْلِهِ: {أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَبْدًا أَبْكَمَ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِالنَّقْصِ وَقِلَّةِ الْخَيْرِ وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُتَصَرَّفٌ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} ابْنَ عَمِّهِ لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ يُسَمَّى مَوْلًى. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ ابْنِ عَمِّهِ وَلَا أَنْ يَكُونَ كَلًّا عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ تَوْجِيهُهُ فِي أُمُورِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْأَبْكَمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحُرَّ الَّذِي لَهُ ابْنُ عَمٍّ وَأَنَّهُ أَرَادَ عَبْدًا مَمْلُوكًا أَبْكَمَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِذِكْرِ ابْنِ الْعَمِّ هَهُنَا لِأَنَّ الْأَبَ وَالْأَخَ وَالْعَمَّ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ وَأَوْلَى بِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ يُزِيلُ فَائِدَتَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أُطْلِقَ يَقْتَضِي مَوْلَى الرِّقِّ أَوْ مَوْلَى النِّعْمَةِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى ابْنِ الْعَمِّ إلَّا بِدَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ قَالَ: عَبْدًا مَمْلُوكًا وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلصَّنَمِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ أَغْفَلْت مَوْضِعَ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ عَبْدًا مَمْلُوكًا لَنَا وَجَعَلَهُ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَمَالِيكِنَا الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، فَكَمَا أَنَّ الصَّنَمَ لَا يَمْلِكُ بِحَالٍ كَذَلِكَ الْعَبْدُ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَصْنَامَ عِبَادًا بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: "الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَتَسَرَّى". وَقَالَ مَالِكٌ: "يَمْلِكُ وَيَتَسَرَّى". وَقَدْ رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَكِّيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ فَرْجُ الْمَمْلُوكِ إلَّا لِمَنْ إنْ بَاعَ أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ أَعْتَقَ جَازَ " يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَمْلُوكَ وَكَذَلِكَ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ: "أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَسَرَّى". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْعَبْدَ يَتَسَرَّى"، وَرَوَى يَعْمُرُ

عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان يَرَى بَعْضَ رَقِيقِهِ يَتَّخِذُ السُّرِّيَّةَ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ" وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: "يَتَسَرَّى الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ". وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَبْدُ لَا يَتَسَرَّى" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ لَجَازَ لَهُ التَّسَرِّي بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6-5] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ جَعَلَهُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْهُ صِفْرًا بِلَا شَيْءٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْمَوْلَى أَخْذَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يَمْلِكُ لَمَا كَانَ لَهُ أَخْذُ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ مَا بَانَ بِهِ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا مَلَكَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَوَطْءَ زَوْجَتِهِ فَهِيَ أَمَةٌ لِلْمَوْلَى لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى مِنْهُ، فَلَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ الْمَالَ لَمَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَخْذُهُ مِنْهُ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لَهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ. فَإِنْ قِيلَ جَوَازُ أَخْذِ الْمَوْلَى مَالَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِأَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِ الْمَدِينِ بِدَيْنِهِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ غَيْرُ مَالِكٍ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ لَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَدِينِ بَلْ لِأَجْلِ دَيْنِهِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَالْمَوْلَى يَسْتَحِقُّهُ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَالِكًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَأَدَّاهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى وَأَنَّهُ مُعْتَقٌ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ، فَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ لِمِلْكِ رَقَبَتِهِ بِالْمَالِ الَّذِي أَدَّاهُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ كَمَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ وَلَوْ مَلَكَ رَقَبَتَهُ لَعَتَقَ عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ لَا يَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى بَلْ كَانَ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ انْتِقَالُ مِلْكِ رَقَبَتِهِ إلَيْهِ بِالْمَالِ وَعَتَقَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ لَكَانَ بِمِلْكِ رَقَبَتِهِ أَوْلَى إذْ كَانَتْ رَقَبَتُهُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّمْلِيكُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِإِضَافَتِهِ الْمَالَ إلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ أَثْبَتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَالَ لِلْبَائِعِ فِي حَالِ الْبَيْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَمِلْكًا لِلْعَبْدِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَمْلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَمِيعُ الْمَالِ فَفِي هَذَا الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ إثْبَاتُ مَا أَضَافَ إلَى الْعَبْدِ مِلْكًا لِلْبَائِعِ، فَثَبَتَ أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ الْيَدِ كَمَا تَقُولُ: "هَذِهِ دَارُ فُلَانٍ" وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا وَلَيْسَ بِمَالِكٍ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" وَلَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ مِلْكِ الْأَبِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ فَيَكُونُ لَهُ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَهُ. قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِأَنَّ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الثِّيَابِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ الْعِتْقِ، جَعَلَهُ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ وَجَعَلَ تَرْكَ الْمَوْلَى لِأَخْذِهِ مِنْهُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْهُ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ تَضْعِيفُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ غَلِطَ فِي رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي مَتْنِهِ، وَإِنَّ أَصْلَهُ مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَمْ يَعْرِضْ لِمَالِهِ، فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْحَدِيثِ، فَأَخْطَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي رَفْعِهِ وَفِي لَفْظِهِ. وَقَدْ رُوِيَ خِلَافُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو مُسْلِمِ الْكَجِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ أَبِي الْمَسَاوِرِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَكَانَ مَمْلُوكًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: يَا عُمَيْرُ بَيِّنْ لِي مَالَك فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَك، إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي أَعْتَقَ" وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْعُودِيَّ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا. فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] وَذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْأَيَامَى وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ الْغِنَى وَالْفَقْرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ; إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ لَكَانَ أَبَدًا فَقِيرًا. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْغِنَى بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ عَنْ الْحَرَامِ أَوْ الْغِنَى بِالْمَالِ فَلَمَّا وَجَدْنَا كَثِيرًا مِنْ الْمُتَزَوِّجِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِالْمَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُخْبِرَ أَخْبَارِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ كَائِنٌ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى بِالْمَالِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْغِنَى بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ عَنْ الْحَرَامِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ الْغِنَى بِالْمَالِ فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَيَامَى وَالْأَحْرَارِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ دُونَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي بِالْمَالِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا لِأَنَّ الْمَوْلَى أَوْلَى بِجَمِيعِ مَالِهِ مِنْهُ، فَأَيُّ غِنًى فِي مَالٍ يَحْصُلُ لَهُ وَغَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، فَالْغِنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ غَنِيًّا بِالْمَالِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ"، وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَوَجَبَ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ; إذْ هُوَ مُسْلِمٌ غَنِيٌّ مِنْ أهل التكليف.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ كَالْحُرِّ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا مَلَكَ الْعَبْدُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ، فَلَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ الْمَالَ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى مِنْهُ وَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الرِّقِّ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِهِ لَزِمَهُ؟ وَكَذَلِكَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ; إذْ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ كَمَا لَا يَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ حِينَ كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ; إذْ لَمْ يفرق بين أخذها بعد الموت وقبله.

مطلب: ما مِنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الكتاب تبيانه قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ بِالنَّصِّ وَالدَّلَالَةِ، فَمَا مِنْ حَادِثَةٍ جَلِيلَةٍ وَلَا دَقِيقَةٍ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا أَوْ دَلِيلًا، فَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقوله تعالى: {وإنك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ فَهُوَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مِنْ تِبْيَانِ الْكِتَابِ لَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع فَمَصْدَرُهُ أَيْضًا عَنْ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ تِبْيَانِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ، فَمَا مِنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الْكِتَابِ تِبْيَانُهُ مِنْ الوجوه التي ذكرنا.

مطلب: هذه الآية دالة على صحة القول بالقياس وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ لِلْحَادِثَةِ حُكْمًا مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْكِتَابِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، ثَبَتَ أَنَّ طَرِيقَهُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُكْمِهِ; إذْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ وَجْهٌ يُوَصِّلُ إلَى حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَنْ قَالَ بِنَصٍّ خَفِيٍّ أَوْ

بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى وَلَا يَنْفَكُّ مِنْ اسْتِعْمَالِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ وَالْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} أَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ الْإِنْصَافُ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي نَظَرِ الْعُقُولِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ السَّمْعُ بِتَأْكِيدِ وُجُوبِهِ. وَالْإِحْسَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّفَضُّلُ، وَهُوَ نَدْبٌ وَالْأَوَّلُ فَرْضٌ وَإِيتَاءُ ذِي القربى فيه الأمر بصلة الرحم. له تعالى: {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قَدْ انْتَظَمَ الْعَدْلَ فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} فَإِنَّهُ قَدْ انْتَظَمَ سَائِرَ الْقَبَائِحِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالضَّمَائِرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَالْفَحْشَاءُ قَدْ تَكُونُ بِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَظْهَرُ أَمْرُهُ وَهُوَ مِمَّا يَعْظُمُ قُبْحُهُ، وَقَدْ تَكُونُ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَدْ تَكُونُ لِسُوءِ الْعَقِيدَةِ وَالنِّحَلِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبَخِيلَ فَاحِشًا. وَالْمُنْكَرُ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ، وَيَكُونُ أَيْضًا فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالضَّمَائِرِ وَهُوَ مَا تَسْتَنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَتَأْبَاهُ وَالْبَغْيُ مَا يَتَطَاوَل بِهِ مِنْ الظُّلْمِ لِغَيْرِهِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَعَانٍ خَاصَّةٌ تنفصل بها من غيره.

في الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْعَهْدُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: فَمِنْهَا الْأَمْرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه:115] وَقَالَ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس:60] وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ. وَقَدْ يَكُونُ الْعَهْدُ يَمِينًا، وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْيَمِينُ ظَاهِرَةٌ. لِأَنَّهُ قَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ قَالَ: "عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا" أَنَّهُ حَالِفٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ حِينَ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَبَاهُ فَأَخَذُوا مِنْهُ عَهْدَ اللَّهِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِينَةَ ذَكَرَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "تَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَتَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ: "إذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَمِينٌ". قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ قُرْبَةٌ ثُمَّ فَسَخَهُ وَلَمْ يُتِمَّهُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تَغْزِلُ شَعْرًا أَوْ ما

أَشْبَهَهُ ثُمَّ نَقَضَتْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَتَلَتْهُ فَتْلًا شَدِيدًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْفَتْلَ قُوَّةً، فَمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدًا أَوْ أَوْجَبَ قُرْبَةً أَوْ دَخَلَ فِيهَا أَنْ لَا يُتِمَّهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا بَعْدَ قُوَّةٍ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَوْمِ نَفْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا

بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} رَوَى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ: "الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ" وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: "إذَا تَعَوَّذْت مَرَّةً أَوْ قَرَأْت مَرَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَجْزَأَ عَنْك"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَكَانَ الْحَسَنُ يَسْتَعِيذُ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يَسْتَفْتِحُ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رِوَايَةٌ أُخْرَى قَالَ: "كُلَّمَا قَرَأْت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ حِينَ تَقُولُ آمِينَ فَاسْتَعِذْ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ" وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُتَعَوَّذُ فِي الْمَكْتُوبَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَيُتَعَوَّذُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إذَا قَرَأَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [النساء:103] وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْلَاقِ مِثْلِهِ. وَالْمُرَادُ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ تَسْأَلَهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بَعْدَ سُؤَالٍ مُتَقَدِّمٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} مَعْنَاهُ: إذَا قَرَأْت فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا قُلْت فَاصْدُقْ وَإِذَا أَحْرَمْت فَاغْتَسِلْ يَعْنِي قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءَتَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ

شَاذٌّ، وَإِنَّمَا الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِنَفْيِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52] فَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَالِاسْتِعَاذَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمْهَا الْأَعْرَابِيَّ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمْ يُخْلِهِ مِنْ تَعْلِيمِهَا. قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا وَجَمَاعَةً مَعَهُ فَعَذَّبُوهُمْ حَتَّى قَارَبُوهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَيْفَ كَانَ قَلْبُك؟ " قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، قَالَ: "فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِكْرَاهُ الْمُبِيحُ لِذَلِكَ هُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُظْهِرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيُعَارِضَ بِهَا غَيْرَهُ إذَا خَطَرَ ذَلِكَ بِبَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ خُطُورِهِ بِبَالِهِ كَانَ كَافِرًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: "إذَا أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى أَنْ يَشْتُمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَشْتُمَ مُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَسْجُدَنَّ لِهَذَا الصَّلِيبِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَجْعَلَ السُّجُودَ لِلَّهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَسَجَدَ لِلصَّلِيبِ كَانَ كَافِرًا، فَإِنْ أَعْجَلُوهُ عَنْ الرَّوِيَّةِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ، وَقَالَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ الشَّتِيمَةَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; إذْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا عَلَى الضَّمِيرِ وَإِنَّمَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْقَوْلِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ صَرْفُ الضَّمِيرِ إلَى غَيْرِهِ فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ اخْتَارَ إظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ: "إنْ عَادُوا فَعُدْ" إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ وَلَا عَلَى النَّدْبِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعْطِيَ التَّقِيَّةَ وَلَا يُظْهِرَ الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَبِيبَ بْنَ عَدِيٍّ لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَمْ يُعْطِهِمْ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارٍ فِي إعْطَائِهِ التَّقِيَّةَ وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ إعْطَاءِ التَّقِيَّةِ إعْزَازًا لِلدِّينِ وَغَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَاتَلَ الْعَدُوَّ حَتَّى قُتِلَ، فَحَظُّ الْإِكْرَاهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إسْقَاطُ الْمَأْثَمِ عَنْ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"، فَجَعَلَ الْمُكْرَهَ كَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فِي إسْقَاطِ الْمَأْثَمِ عَنْهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا مَأْثَمٌ وَلَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعَتَاقِهِ وَنِكَاحِهِ وَأَيْمَانِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "ذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمٌ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ". وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَهْدِ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى. يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:"أَقْبَلْت أَنَا وَأَبِي وَنَحْنُ نُرِيدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَوَجَّهَ إلَى بَدْرٍ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: إنَّكُمْ لَتُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: لَا نُرِيدُهُ إنَّمَا نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَأَعْطُونَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَنْصَرِفَنَّ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا تُقَاتِلُونَ مَعَهُ فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَهْدَ اللَّهِ، فَمَرَرْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ بَدْرًا فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنَّا وَقُلْنَا: مَا تَأْمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "تَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَتَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ"، فَانْصَرَفْنَا إلَى الْمَدِينَةِ فَذَلِكَ مَنَعَنَا مِنْ الْحُضُورِ مَعَهُمْ. فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْلَافَ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَجَعَلَهَا كَيَمِينِ الطَّوْعِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ مِثْلُهَا لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ". فَلَمَّا سَوَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِنَّ بَيْنَ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ وَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ أَنَّ الْجَادَّ قَاصِدٌ إلَى اللَّفْظِ وَإِلَى إيقَاعِ حُكْمِهِ وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ إلَى اللَّفْظِ غَيْرُ مَرِيدٍ لِإِيقَاعِ حُكْمِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْإِرَادَةِ فِي نَفْيِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ حَيْثُ كَانَا قَاصِدَيْنِ لِلْقَوْلِ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمَهُ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ غَيْرُ مَرِيدٍ لِإِيقَاعِ حُكْمِهِ فَهُوَ كَالْهَازِلِ سَوَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَاخْتَلَفَ حُكْمُ الطَّوْعِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهِ وَكَانَ الْكُفْرُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ كَالطَّلَاقِ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَفْظُ الْكُفْرِ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُرْقَةِ لَا كِنَايَةً وَلَا تَصْرِيحًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ إذَا حَصَلَ كَافِرًا، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَكُونُ كَافِرًا، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ كَافِرًا بِإِظْهَارِهِ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُرْقَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَقَدْ وُجِدَ إيقَاعُهُ فِي لَفْظٍ مُكَلَّفٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ تَسَاوِي حَالِ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ فِي الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ تَسَاوِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ فِيهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَسْتَوِي حُكْمُ جِدِّهِ وَهَزْلِهِ وَلَمْ يَسْتَوِ حَالُ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ فِيهِ. قِيلَ

لَهُ: نَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّ كُلَّ مَا يَسْتَوِي جِدُّهُ وَهَزْلُهُ يَسْتَوِي حَالُ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَمَّا سَوَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ فِي الطَّلَاقِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالْقَصْدِ لِلْإِيقَاعِ بَعْدَ وُجُودِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى الْقَوْلِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ لِلْقَصْدِ لِلْإِيقَاعِ بَعْدَ وُجُودِ لَفْظِ الْإِيقَاعِ مِنْ مُكَلَّفٍ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْقَصْدِ لَا بِالْقَوْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ إلَى الْجِدِّ بِالْكُفْرِ أَوْ الْهَزْلِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ وَأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ؟ وَيُبَيِّنُ لَك الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّاسِيَ إذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِيرُ كَافِرًا بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَلِطَ بِسَبْقِ لِسَانِهِ بِالْكُفْرِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ، فَهَذَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "طَلَاقُ الْمُكْرَهِ جَائِزٌ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالُوا: "طَلَاقُ الْمُكْرَهِ لَا يَجُوزُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ قَالَ: "إذَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ".وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ وَتَلَفِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ فَقَالَ: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ الْمَيْتَةَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَتَّى مَاتَ جُوعًا كَانَ آثِمًا بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ أَكْلِ الْخُبْزِ حَتَّى يَمُوتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فِي أَنَّ تَرْكَ إعْطَاءِ التَّقِيَّةِ فِيهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ تَحْرِيمُهُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ فَمَتَى أَبَاحَهُ السَّمْعُ فَقَدْ زَالَ الْحَظْرُ وَعَادَ إلَى حُكْمِ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَإِظْهَارُ الْكُفْرِ مَحْظُورٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ لِلضَّرُورَاتِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ إظْهَارُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى الْمَعَارِيضِ وَالتَّوْرِيَةِ بِاللَّفْظِ إلَى غَيْر مَعْنَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لِمَعْنَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ النَّاسِي وَاَلَّذِي يَسْبِقُهُ لِسَانُهُ بِالْكُفْرِ، فَكَانَ تَرْكُ إظْهَارِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ إظْهَارُهُ عِنْدَ الْخَوْفِ. وَقَالُوا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ رِجْلٍ أَوْ عَلَى الزِّنَا بِامْرَأَةٍ: لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُقُوقِ، فَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَتِهَا بِمَعْنَى لَا تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ وَإِلْحَاقُهَا بِالشَّيْنِ وَالْعَارِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَذْفِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَذْفَ الْوَاقِعَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْذُوفِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِهِ شَيْءٌ. فَأَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِيهِ إعْطَاءُ التَّقِيَّةِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا طَرِيقُ حَظْرِهِ السَّمْعُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ إعْطَاءُ التَّقِيَّةِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ

وَنَحْوِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَظْلَمَةٌ لِآدَمِيٍّ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِزٌ لَهُ فِعْلُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ وَشِبْهِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: "أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا مَثَّلُوا بِقَتْلَى أُحُدٍ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَئِنْ أَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا مَثَّلُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ "وَقَالَ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ: هُوَ فِي كُلِّ مَنْ ظُلِمَ بِغَضَبٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّمَا يُجَازَى بِمِثْلِ مَا عَمِلَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ لَا يَمْنَعُ عِنْدَنَا اعْتِبَارَ عُمُومِهَا فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي جَمِيعِ مَا انْطَوَى تَحْتَهَا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا قُتِلَ بِهِ وَمَنْ جَرَحَ جِرَاحَةً جُرِحَ بِهِ جِرَاحَةً مِثْلَهَا، وَإِنْ قَطَعَ يَدَ رِجْلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ قَطْعَ يَدِهِ ثُمَّ قَتْلَهُ وَاقْتَضَى أَيْضًا أَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا بِرَضْخِ رَأْسِهِ بِالْحَجَرِ أَوْ نَصْبِهِ غَرَضًا فَرَمَاهُ حَتَّى قَتَلَهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ; إذْ لَا يُمْكِنُ الْمُعَاقَبَةُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَهُ لِأَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمِقْدَارِ الضَّرْبِ وَعَدَدِهِ وَمِقْدَارِ أَلَمِهِ، وَقَدْ يُمْكِنُنَا الْمُعَاقَبَةُ بِمِثْلِهِ فِي بَابِ إتْلَافِ نَفْسِهِ قَتْلًا بِالسَّيْفِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْآيَةِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دُونَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ دَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِذَا غَصَبَهُ سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَوْ غَصَبَهُ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَنَّ عَلَيْهِ الْمِثْلَ فِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْمِثْلَ فِي الْحِنْطَةِ بِمِقْدَارِ كَيْلِهَا مِنْ جِنْسِهَا وَفِي السَّاجَةِ قِيمَتُهَا لِدَلَالَةٍ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَاتِلِ وَالْجَانِي أَفْضَلُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} آخر سورة النحل.

سُورَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَقَالَ: الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ نَفْسُهُ فَأُسْرِيَ بِهِ. قَوْلُهُ عز وجل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} قِيلَ: مَعْنَاهُ فَإِلَيْهَا، كَمَا يُقَالُ: أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ وَأَسَاءَ إلَى نَفْسِهِ وَحُرُوفُ الْإِضَافَةِ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ إذَا تَقَارَبَتْ، وَقَالَ تَعَالَى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] وَالْمَعْنَى: أَوْحَى إليها. قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} يَعْنِي جَعَلْنَاهَا لَا يُبْصَرُ بِهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ بِمَا يُمْحَى مِنْ الْكِتَابِ وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ". قَوْله تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الطَّائِرِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ ذَاتِ الْيَمِينِ فَيَتَبَرَّكُ بِهِ وَالطَّائِرُ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ ذَاتِ الشِّمَالِ فَيُتَشَاءَمُ بِهِ، فَجَعَلَ الطَّائِرَ اسْمًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ دُونَ ذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ وَيُلَازِمُهُ مُبَالَغَةً فِي الْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ وَاسْتِدْعَاءً إلَى الصَّلَاحِ وَزَجْرًا عَنْ الْفَسَادِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ السَّمْعَ دُونَ الْعَقْلِ إلَّا بِقِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَسْمَعْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا من

الشَّرَائِعِ السَّمْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا إذَا عَلِمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي قِصَّةِ أَهْلِ قَبَا حِينَ أَتَاهُمْ آتٍ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوا لِفَقْدِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَرَكَ، قَالُوا: وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ رَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَذَلِكَ دُعَاءٌ إلَيْهَا فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَمُخَاطَبَةِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ بِلُزُومِ فَرْضِهَا، فَلَا يُسْقِطُهَا عَنْهُ تَضْيِيعُهُ إيَّاهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ بِالرَّسُولِ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ لَا تُوجِبُ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قَالَ سَعِيدٌ: "أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ أُمِرَ بَنُو فُلَانٍ". وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ: {أَمَرْنَا} "أَكْثَرْنَا". وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا أَنَّا إذَا كَانَ فِي مَعْلُومِنَا إهْلَاكُ قَرْيَةٍ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى وُجُودَ الْإِرَادَةِ مِنْهُ لِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ عُقُوبَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] لَيْسَ الْمَعْنَى وُجُودَ الْإِرَادَةِ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ أَنَّهُ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سَيَنْقَضُّ. وَخَصَّ الْمُتْرَفِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الرُّؤَسَاءُ وَمَنْ عَدَاهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَكَمَا أَمَرَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ تَبَعٌ لَهُمْ، وَكَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَيْصَرَ "أَسْلِمْ وَإِلَّا فَعَلَيْك إثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ" وَكَتَبَ إلَى كَسْرَى: "فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَعَلَيْك إثْمُ الْأَكَّارِينَ". قوله تعالى: {مِنَ الْقُرُونِ} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْمَازِنِيُّ: مِائَةُ سَنَةٍ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} الْعَاجِلَةُ: الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة:21] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ عَجَّلَ لَهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ، فَعَلَّقَ مَا يُؤْتِيهِ مِنْهَا بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى فِي الْمُعْطَى، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ وَإِدَامَتَهُ أَوْ قَطْعَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ استثناء آخر فقال: {لِمَنْ نُرِيدُ} فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى فِي الْمُعْطِينَ وَأَنَّهُ لَا يُعْطَى الْجَمِيعُ مِمَّنْ يَسْعَى لِلدُّنْيَا بَلْ يُعْطِي مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَيَحْرِمُ مَنْ شَاءَ، فَأَدْخَلَ عَلَى إرادة العاجلة في إعطاء المريد منها

استثنائين لِئَلَّا يَثِقَ الطَّالِبُونَ لِلدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ سَيَنَالُونَ بِسَعْيِهِمْ مَا يُرِيدُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا بَعْدَ وُقُوعِ السَّعْيِ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَشَرَطَ فِي السَّعْيِ لِلْآخِرَةِ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَمُرِيدًا لِثَوَابِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ثَلَاثُ خِلَالٍ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ: نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ وَإِيمَان صَادِقٌ وَعَمَلٌ مُصِيبٌ، قَالَ: فَقُلْت: عَمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَعَلَّقَ سَعْيَ الْآخِرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لَهُ بِأَوْصَافٍ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْمَقْصُودِ شَيْئًا وَلَمْ يُخَصِّصْ إرَادَةَ الْعَاجِلَةِ بِوَصْفٍ بَلْ أَطْلَقَهَا وَاسْتَثْنَى فِي الْعَطِيَّةِ وَالْمُعْطَى مَا قَدَّمْنَا. قَوْله تَعَالَى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَرِيدِ الْعَاجِلَةِ وَالسَّاعِي لِلْآخِرَةِ وحكم مايناله كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أن نعمه جل وتعالى مبسوط عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهَا خَاصَّةٌ للمتقين في الآخرة، ألى تَرَى أَنَّ سَائِرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَصِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَافِيَةِ إلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ النِّعَمِ شَامِلَةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ؟ وَاَللَّهُ الموفق.

بَابُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} {وَقَضَى رَبُّكَ} مَعْنَاهُ: أَمَرَ رَبُّك، وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَأَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَمْرٌ. وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَقَالَ: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] وَقَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فَأَمَرَ بِمُصَاحِبَةِ الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِي الشِّرْكِ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ. قَوْله تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} قِيلَ فِيهِ: إنْ بَلَغْت حَالَ الْكِبَرِ وَهُوَ حَالُ التَّكْلِيفِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَك أَبَوَاك أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ. وَذَكَرَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ إذَا بَلَغَا مِنْ الْكِبَرِ مَا كَانَا يَلِيَانِ مِنْك فِي الصِّغَرِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ بُلُوغَ الْوَلَدِ شَرْطٌ فِي الْأَمْرِ; إذْ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ غَيْرِ الْبَالِغِ، فَإِذَا بَلَغَ حَالَ التَّكْلِيفِ وَقَدْ بَلَغَاهُمَا حال

الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ أَوْ لَمْ يَبْلُغَا فَعَلَيْهِ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمَا وَهُوَ مَزْجُورٌ أَنْ يَقُولَ لَهُمَا أُفٍّ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الضَّجَرِ وَالتَّبَرُّمِ بِمَنْ يخاطب بها. قوله تعالى: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} مَعْنَاهُ: لَا تَزْجُرْهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمَا وَالْإِغْلَاظِ لَهُمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} قَالَ: "لَيِّنًا سَهْلًا". وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قَالَ: "لَا تَمْنَعْهُمَا شَيْئًا يُرِيدَانِهِ". وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ: "أَنْ تَبْذُلَ لَهُمَا مَا مَلَكْت وَأَطِعْهُمَا فِي أَمْرِك مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ عَنْ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قَالَ: "لَا تَنْفُضْ يَدَك عَلَيْهِمَا" وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: "مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ أَحَدَّ النَّظَرَ إلَيْهِ وَعَنْ أَبِي الْهِيَاجِ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ قَوْلِهِ: {قَوْلاً كَرِيماً} قَالَ: "قَوْلُ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الرُّصَافِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ من الرحمة} قَالَ: "يَدَاك لَا تَرْفَعُهُمَا عَلَى أَبَوَيْك وَلَا تَحُدَّ بَصَرَك إلَيْهِمَا إجْلَالًا وَتَعْظِيمًا "قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ وَلَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقِيسِ فِي وَصْفِ اللَّيْلِ: فَقُلْت لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ وَلَيْسَ لِلَّيْلِ صُلْبٌ وَلَا أَعْجَازٌ وَلَا كَلْكَلٌ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَكَامُلَهُ وَاسْتِوَاءَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} فِيهِ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالدُّعَاءِ لَلْوَالِدَيْنِ خَاصٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْكِيدَ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ، فَقَرَنَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا إلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْمُخَاطَبَةِ الْجَمِيلَةِ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ وَنَهَى عَنْ التَّبَرُّمِ وَالتَّضَجُّرِ بِهِمَا بِقَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَنَهَى عَنْ الْإِغْلَاظِ وَالزَّجْرِ لَهُمَا بِقَوْلِهِ {وَلا تَنْهَرْهُمَا} فَأَمَرَ بِلِينِ الْقَوْلِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُمَا إلَى مَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَظَّمَ حَقَّ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحسن

صَحَابَتِي؟ قَالَ: "أُمُّك" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ "أُمُّك" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ "أُمُّك"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أَبُوك". قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} قَالَ سَعِيدُ بْنِ الْمُسَيِّبِ: "الْأَوَّابُ الَّذِي يَتُوبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كُلَّمَا أَذْنَبَ بَادَرَ بِالتَّوْبَةِ" وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: "هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ ذَنْبِهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ". وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْأَوَّابُ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَقَالَ: "إنَّ صَلَاةَ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمَضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى". قَوْله تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذريات:19] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا" فَهَذَا الْحَقُّ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْبَيَان، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَقُّ هُوَ حَقُّهُمْ مِنْ الْخُمُسِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ قَرَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا لَهُمْ مِنْ الْحَقِّ فِي صِلَةِ رَحِمِهِمْ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: هُوَ قَرَابَةُ الْإِنْسَانِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: "أَنَّهُ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْوَالِدَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، فَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ إيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الْآيَةُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الَّذِي يَلْزَمُهُ إعْطَاؤُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَمْزَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" وَتَلَا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] الْآيَةَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَةُ سَمِينِهَا". قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "التَّبْذِيرُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "لَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ يَرَى الْحَجْرَ لِلتَّبْذِيرِ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ; إذْ كَانَ التَّبْذِيرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ،

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْهُ بِالْحَجْرِ وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ إلَّا بِمِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّبْذِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، فَهُوَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ وَبِيَاعَاتِهِ كَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ، وَذَلِكَ مِمَّا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، فَإِقْرَارُهُ وَعُقُودُهُ بِالْجَوَازِ أَوْلَى إذْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة:282] . قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخِوَانُهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ آثَارَهُمْ وَجَرْيِهِمْ عَلَى سُنَنِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقْرَنُونَ بِالشَّيَاطِينِ فِي النَّارِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} الْآيَةُ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلِمْنَا مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ مَسْأَلَةِ السَّائِلِينَ لَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَذِي الْقُرْبَى مَعَ عَوَزِ مَا يُعْطِي وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِينَا، فَقَالَ: إنْ أَعْرَضْت عَنْهُمْ لِأَنَّك لَا تَجِدُ مَا تُعْطِيهِمْ وَكُنْت مُنْتَظِرَ الرِّزْقِ وَرَحْمَةً تَرْجُوهَا مِنْ اللَّهِ لِتُعْطِيَهُمْ مِنْهُ فَقُلْ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَوْلًا حَسَنًا لَيِّنًا سَهْلًا فَتَقُولُ لَهُمْ يَرْزُقُ اللَّهُ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا تَبْخَلْ بِالْمَنْعِ مِنْ حُقُوقِهِمْ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ. وَهَذَا مَجَازٌ، وَمُرَادُهُ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُهُ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقِهِ فَلَا يُعْطِي مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَصِفُ الْبَخِيلَ بِضِيقِ الْيَدِ فَتَقُولُ: فُلَانٌ جَعْدُ الْكَفَّيْنِ، إذَا كَانَ بَخِيلًا، وَقَصِيرُ الْبَاعِ وَيَقُولُونَ فِي ضِدِّهِ: فُلَانٌ رَحْبُ الذِّرَاعِ وَطَوِيلُ الْيَدَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِسَائِهِ: "أَسْرَعُكُنَّ بِي لَحَاقًا أَطْوَلُكُنَّ يَدًا". وَإِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ الصَّدَقَةِ، فَكَانَتْ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرَهُنَّ صَدَقَةً وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا إنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ سَوَامَا ... وَلَكِنْ كَانَ أَرْحَبَهُمْ ذِرَاعَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} يَعْنِي: وَلَا تُخْرِجْ جَمِيعَ مَا فِي يَدِك مَعَ حَاجَتِك وَحَاجَةِ عِيَالِك إلَيْهِ {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} يَعْنِي: ذَا حَسْرَةٍ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ يَدِك. وَهَذَا الْخِطَابُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَدَّخِرْ شَيْئًا لِغَدٍ وَكَانَ يَجُوعُ حَتَّى يَشُدَّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ أَمْلَاكِهِمْ فَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصِحَّةِ يَقِينِهِمْ وَشِدَّةِ بَصَائِرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْإِفْرَاطِ فِي الْإِنْفَاقِ وَإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ مِنْ الْمَالِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ عَلَى ما

خَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَأَمَّا مِنْ وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاَللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ ثَانِيًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ ثَالِثًا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَى بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَعَقَرَتْهُ، فَقَالَ: "يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ". وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ هَيْئَةٌ رَثَّةٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَمَرَ الرَّجُلُ بِأَنْ يَقُومَ فَقَامَ، فَطَرَحَ النَّاسُ ثِيَابًا لِلصَّدَقَةِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْظُرُوا إلَى هَذَا أَمَرْتُهُ أَنْ يَقُومَ لِيُفْطَنَ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ قَدْ طَرَحَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: خُذْ ثَوْبَك" فَإِنَّمَا مَنَعَ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ مِنْ إخْرَاجِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ. فَأَمَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ فَأَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى بَقِيَ فِي عَبَاءَةٍ فَلَمْ يُعَنِّفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخَاطَبَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِهِ غَيْرُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء: 29] وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَتَحَسَّرُ عَلَى إنْفَاقِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] لَمْ يُرِدْ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ قَطُّ. فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] الْأَمْرُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُمَا وَطَاعَتِهِمَا وَإِعْطَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حُقُوقَهُمْ وَالنَّهْيِ عَنْ تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِنْفَاقِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْإِنْفَاقِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ وَتَعْلِيمِ مَا يُجِيبُ بِهِ السَّائِلَ وَالْمِسْكِينَ عِنْدَ تَعَذُّرِ مَا يُعْطِي. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] هُوَ كَلَامٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ السَّبَبِ الْخَارِجِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يَقْتُلُ بَنَاتَه خَشْيَةَ الْفَقْرِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَلِيَتَوَفَّرَ مَا يُرِيدُ إنْفَاقَهُ عَلَيْهِنَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَيْتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا فِيهِمْ، وَهِيَ الْمَوْءُودَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] وَالْمَوْءُودَةُ هِيَ الْمَدْفُونَةُ حَيًّا، وَكَانُوا يَدْفِنُونَ بَنَاتَهمْ أَحْيَاءً. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: مَا أَعْظَمُ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَك وَأَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك".

قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} فِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ رِزْقَ الْجَمِيعِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ سَيُسَبِّبُ لَهُمْ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى الْأَوْلَادِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَرْزُقُ كُلَّ حَيَوَانٍ خَلَقَهُ مَا دَامَتْ حَيَاتُهُ بَاقِيَةً وَأَنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ رِزْقَهُ بِالْمَوْتِ، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ; إذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ سَبَّبَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ ما يغنيه عن مال غيره.

مطلب: الزِّنَا قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فِيهِ الْإِخْبَارُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَأَنَّهُ قَبِيحٌ لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الَّتِي قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ فَاحِشَةً وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ أَوْ بَعْدَهُ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الزِّنَا قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا نَسَبَ لِوَلَدِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ; إذْ لَيْسَ بَعْضُ الزُّنَاةِ أَوْلَى بِهِ لَحَاقُهُ بِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَفِيهِ قَطْعُ الْأَنْسَابِ وَمَنْعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُرُمَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَإِبْطَالِ حَقِّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَبْطُلُ مَعَ الزِّنَا، وَذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الْعُقُولِ مُسْتَنْكَرٌ فِي الْعَادَاتِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ النَّسَبُ مَقْصُورًا عَلَى الْفِرَاشِ وَمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ لَمَا كَانَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ بِأَوْلَى بِالنَّسَبِ مِنْ الزَّانِي وَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْأَنْسَابِ وَإِسْقَاطِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُرُمَاتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إنما قال تعالى: {إِلَّا بِالْحَقِّ} لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ قَدْ يَصِيرُ حَقًّا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا، وَذَلِكَ قَتْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ وَبِالرِّدَّةِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ وَالْمُحَارِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومجاهد في قوله: {سُلْطَاناً} قَالُوا: حُجَّةٌ، كَقَوْلِهِ: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السُّلْطَانُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَطْلُبَ الْقَاتِلَ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: السُّلْطَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ الْمُرَادِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهَا الْحُجَّةُ وَمِنْهَا السُّلْطَانُ الَّذِي يَلِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْجَمِيعَ مُجْمِعُونَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْقَوَدُ فَصَارَ الْقَوَدُ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَتَقْدِيرُهُ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا أَيْ قَوَدًا، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الدِّيَةَ مُرَادَةٌ فَلَمْ نُثْبِتْهَا وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوَدُ دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا أَنَّ لِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتَصُّوا قَبْلَ بُلُوغِ الصِّغَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلِيٌّ وَالصَّغِيرُ

لَيْسَ بِوَلِيٍّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَفْوُهُ؟ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقْتَصُّ الْكِبَارُ حَتَّى يَبْلُغَ الصِّغَارُ فَيُقْتَصُّوا مَعَهُمْ أَوْ يَعْفُوا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَوْله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَطَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ: "لَا يُقْتَلُ غَيْرُ قَاتِلِهِ وَلَا يُمَثَّلْ بِهِ" وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ مِنْ الْحَمِيمِ وَالْقَرِيبِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانًا نَهَاهُ أَنْ يَتَعَدَّى وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة:178] لِأَنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ الْقَبَائِلِ طَوْلٌ عَلَى الْأُخْرَى فَكَانَ إذَا قُتِلَ مِنْهُمْ الْعَبْدُ لَا يَرْضَوْنَ إلَّا أَنْ يَقْتُلُوا الْحُرَّ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ بِأَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، جَزَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّهْيِ وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَجَازِ الْخَبَرِ، يَقُولُ: لَيْسَ فِي قَتْلِهِ سَرَفٌ لِأَنَّ قَتْلَهُ مُسْتَحَقٌّ. قَوْله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} قَالَ قَتَادَةُ: "هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْوَلِيِّ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "عَلَى الْمَقْتُولِ". وَقِيلَ: "هُوَ مَنْصُورٌ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَنَصْرُهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ أَعْنِي لِلْوَلِيِّ". وَقِيلَ: "نَصْرُهُ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعِينُوهُ". وقَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} قَدْ اقْتَضَى إثْبَاتَ الْقِصَاصِ لِلنِّسَاءٍ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُنَا هُوَ الْوَارِثُ كَمَا قَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [لأنفال:72] فَنَفَى بِذَلِكَ إثْبَاتَ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ إلَّا بَعْدَ الهجرة، ثم قال: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ من المؤمنين والمهاجرين} فَأَثْبَتَ الْمِيرَاثَ بِأَنْ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] فَأَثْبَتَ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمْ بِذِكْرِ الْوِلَايَةِ. فَلَمَّا قَالَ {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] اقْتَضَى ذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَوَدِ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّمَ مَوْرُوثٌ عَنْ الْمَقْتُولِ أَنَّ الدِّيَةَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ الْقِصَاصِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ النِّسَاءُ قَدْ وَرِثْنَ الْقِصَاصَ لَمَا وَرِثْنَ بَدَلَهُ الَّذِي هُوَ الْمَالُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرِثَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مِنْ بَعْضِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ وَلَا يَرِثُ مِنْ الْبَعْضِ الْآخَرُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ: "إنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ إلَيْهِنَّ مِنْ الْقِصَاصِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ لِلرِّجَالِ فَإِذَا تَحَوَّلَ مَالًا وَرِثَتْ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ" وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ: "لَيْسَ إلَى

النِّسَاءِ شَيْءٌ مِنْ الْعَفْوِ وَالدَّمِ"، وَمِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا: "إنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ لِكُلِّ وَارِثٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِقَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ". قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ التِّجَارَةُ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَبْتَغِي بِهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ لِلَّذِي يَبْتَغِي فِيهِ شَيْءٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا خَصَّ الْيَتِيمَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي أَمْوَالِ سَائِرِ النَّاسِ لِأَنَّ الْيَتِيمَ إلَى ذَلِكَ أَحْوَجُ وَالطَّمَعُ فِي مِثْلِهِ أَكْثَرُ، وَقَدْ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْوَالِي عَلَيْهِ مِنْ جَدٍّ أَوْ وَصِيِّ أَبٍ لِسَائِرِ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَحْسَنَ مَا كَانَ فِيهِ حِفْظُ مَالِهِ وَتَثْمِيرُهُ، فَجَائِزٌ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ لِلْيَتِيمِ بِمَا لَا ضَرَرَ عَلَى الْيَتِيمِ فِيهِ وَبِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَأَقَلِّ مِنْهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَرَوْنَ ذَلِكَ حَطًّا لِمَا يَرْجُونَ فِيهِ مِنْ الرِّبْحِ وَالزِّيَادَةِ وَلِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ النُّقْصَانِ مِمَّا يَخْتَلِفُ الْمُقَوِّمُونَ فِيهِ، فَلَمْ تَثْبُتُ هُنَاكَ حَطِيطَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْيَتِيمِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مُتَيَقَّنٌ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ يُقْرَبَ مَالُ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْعَمَلِ بِهِ مُضَارَبَةً لِأَنَّ الرِّبْحَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْيَتِيمُ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ بِعَمَلِ الْمُضَارِبِ، فَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِهِ وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ابْتَغُوا بِأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ خَيْرًا لَا تَأْكُلْهَا الصَّدَقَةُ"، قِيلَ: مَعْنَاهُ النَّفَقَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُسَمَّى صَدَقَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "مَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَأَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالِ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُ مِنْهُ وَعَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالَ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "وَإِنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَكُونَ مَا يَأْخُذُهُ الْيَتِيمُ أَكْثَرَ قِيمَةً لقوله تعالى: {إلا بالتي هي أحسن} . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بحال". وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةُ: "الْحُلُمَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فَذَكَرَ الْكِبَرَ هَهُنَا وَذَكَرَ الْأَشُدَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فَذَكَرَ فِي إحْدَى الْآيَاتِ الْكِبَرَ مُطْلَقًا وَفِي الْأُخْرَى الْأَشُدَّ وَفِي الْأُخْرَى بُلُوغَ النِّكَاحِ مَعَ إينَاسِ الرُّشْدِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَثِيمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، {وَاسْتَوَى} [القصص: 14] : أَرْبَعُونَ سَنَةً، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} [فاطر: 37] قَالَ: الْعُمُرُ

الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف: 15] فَذَكَرَ فِي قِصَّةِ مُوسَى بُلُوغَ الْأَشُدِّ وَالِاسْتِوَاءِ. وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بُلُوغَ الْأَشُدِّ، وَفِي الْأُخْرَى بُلُوغَ الْأَشُدِّ وَبُلُوغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ قِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَقِيلَ الِاسْتِوَاءُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَشُدُّ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فَيَبْلُغُ بَعْضُهُمْ الْأَشُدَّ فِي مُدَّةٍ لَا يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِهَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بُلُوغُ الْأَشُدِّ هُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيِ وَاللُّبِّ بَعْدَ الْحُلُمِ فَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ اجْتِمَاعَ الْقُوَى وَكَمَالِ الْجِسْمِ فَهُوَ مُخْتَلِفٌ أَيْضًا، وَكُلُّ مَا كَانَ حُكْمُهُ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَادَاتِ فَغَيْرُ مُمْكِنِ الْقَطْعِ بِهِ عَلَى وَقْتٍ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ إجْمَاعٍ، فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةِ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} اقْتَضَى ذَلِكَ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ، وَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] شَرَطَ فِيهَا بَعْدَ بُلُوغِ النِّكَاحِ إينَاسَ الرُّشْدِ وَلَمْ يَشْرُطْ ذَلِكَ فِي بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَلَا بُلُوغِ حَدِّ الْكِبَرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَالَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَتَّى يُؤْنِسَ مِنْهُ رُشْدًا وَيَكْبُرَ وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ وَهُوَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِ مَالَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا" فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مُدَّةَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ عنده. قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إيجَابَ الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ النُّذُورِ وَالدُّخُولِ فِي الْقُرَبِ، فَأَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إتْمَامَهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 75, 77] وَقِيلَ: أَوْفُوا بِالْعَهْدِ فِي حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ بِوُجُوبِ حِفْظِهِ وَكُلُّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَزَوَاجِرِهِ فَهُوَ عهد. وقوله {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} معناه مسئولا عنه للجزاء فحذ1ف اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ وَقِيلَ إن العهد يسأل فيقال لم نقضضت؟ كَمَا تُسْأَلُ الْمَوْءُودَةُ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَوْقِيفٌ وَتَقْرِيرٌ لناقص الْعَهْدِ كَمَا أَنَّ سُؤَالَ الْمَوْءُودَةِ تَوْقِيفٌ وَتَقْرِيرٌ لقاتلها بِغَيْرِ ذَنْبٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلَاتِ مُكَايَلَةً أَوْ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ مُوَازَنَةً وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ الْمُشْتَرَى كَيْلًا إلَّا بِكَيْلٍ وَلَا الْمُشْتَرَى وَزْنًا إلَّا بِوَزْنٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مُجَازَفَةً،

وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ هُوَ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ إيجَابَ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ وَإِيجَابُ الْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ بِالْمَأْكُولِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إذَا اشْتَرَى بَعْضَهَا بِبَعْضٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَخْذُهُ مُجَازَفَةً إلَّا بِكَيْلٍ سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ نَحْوُ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَفِي الْمَوْزُونِ نَحْوُ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِأَنَّ إيفَاءَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَدَّعِيَ إذَا كَانَ لِغَيْرِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُزِيدُ حَبَّةً وَلَا يُنْقِصُ وَإِنَّمَا مَرْجِعُهُ فِي إيفَاءِ حَقِّهِ إلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ؟ وَلَمَّا كَانَ الْكَائِلُ وَالْوَازِنُ مُصِيبًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْمِقْدَارِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ فِي الْقِسْطَاسِ إنَّهُ الْمِيزَانُ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقَبَّانُ. وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ لَهُ عَلَى آخِرِ شَيْءٌ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ: إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ مُجَازَفَةً إنْ تَرَاضَيَا وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَرْكُهُمَا بِتَرَاضِيهِمَا، وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُمَا إذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ مُجَازَفَةٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَتْ ثِيَابًا أَوْ عُرُوضًا مِنْ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ جَازَ أَنْ يَقْبِضَهُ مُجَازَفَةً بِتَرَاضِيهِمَا وَجَازَ أَنْ يَقْتَسِمَا مُجَازَفَةً; إذْ لَمْ يُوجَدْ عَلَيْنَا فِيهِ إيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. قَوْله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالتَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي إلَيْهِ مَرْجِعُ الشَّيْءِ وَتَفْسِيرُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: آلَ يُؤَوِّلُ أَوَّلًا إذَا رَجَعَ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الْقَفْوُ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ بِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ، وَمِنْهُ الْقَافَةُ وَكَانَتْ الْعَرَبُ فِيهَا مَنْ يَقْتَافُ الْأَثَرَ وَفِيهَا مَنْ يَقْتَافُ النَّسَبَ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ مَوْضُوعًا عِنْدَهُمْ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ، يَقُولُونَ: تَقَوَّفَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ الْبَاطِلَ قَالَ جَرِيرٌ: وَطَالَ حِذَارِي خِيفَةَ الْبَيْنِ وَالنَّوَى ... وَأُحْدُوثَةٍ مِنْ كَاشِحٍ مُتَقَوِّفِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ الْبَاطِلَ. وَقَالَ آخَرُ: وَمِثْلُ الدُّمَى شَمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا أَيْ التَّقَاذُفَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّقَاذُفُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالشُّهُودِ بِقَوْلِهِ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ

وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : "لَا تَقُلْ سَمِعْت وَلَمْ تَسْمَعْ وَلَا رَأَيْت وَلَمْ تَرَهُ وَلَا عَلِمْت وَلَمْ تَعْلَمْ". وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ نَهْيَ الْإِنْسَانِ عَنْ أَنْ يَقُولَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ عَلَى جِهَةِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَأَنْ لَا يَقُولَ فِي النَّاسِ مِنْ السُّوءِ مَا لَا يَعْلَمْ صِحَّتَهُ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ آثِمٌ فِي خَبَرِهِ كَذِبًا كَانَ خَبَرُهُ أَوْ صِدْقًا لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْنَا حَقًّا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ وَالْمَرْءُ مَسْئُولٌ عَمَّا يَفْعَلُهُ بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ مِنْ الِاسْتِمَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ وَالنَّظَرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ وَالْإِرَادَةُ لِمَا يُقَبِّحُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُمَا لَا يُفْضِيَانِ بِنَا إلَى الْعِلْمِ وَالْقَائِلُ بِهِمَا قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ الْقَوْلِ بِهِ فَلَيْسَ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْقِيَاسُ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ قَدْ قَامَتْ دَلَائِلُ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِمَا وَإِنْ كُنَّا غَيْرَ عَالِمِينَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ قَبُولِهِ وَوُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ قَبُولُهَا إذَا كَانَ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِمَا، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} غَيْرُ مُوجِبٍ لِرَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ رَدَّ الشَّهَادَاتِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ خَبَرِ الِاجْتِهَادِ فَكُلُّ قَائِلٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَهُوَ قَائِلٌ بِعِلْمٍ; إذْ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ وَعِلْمٌ ظَاهِرٌ، وَاَلَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَإِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَا مَعْرِفَةَ مَغِيبِ ضَمَائِرِهِنَّ وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْعِلْمِ الظَّاهِرِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} قِيلَ: إنَّهُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ لَهُمْ بِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا عَنْ أَنْ يُدْرِكُوهُ فَيَنْتَفِعُوا بِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: "نَزَلَ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُؤْذُونَهُ بِاللَّيْلِ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ فَحَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حَتَّى لَا يُؤْذُوهُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْزِلَتُهُمْ فِيمَا أَعْرَضُوا عَنْهُ مَنْزِلَةٌ مِنْ بَيْنِك وَبَيْنَهُ حِجَابٌ".

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَيْلًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِئَلَّا يُؤْذُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: جَعَلْنَاهَا بِالْحُكْمِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، ذَمًّا لَهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَفَهُّمِ الْحَقِّ وَالِاسْتِمَاعِ إلَيْهِ مَعَ إعْرَاضِهِمْ وَنُفُورِهِمْ عَنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} قَالَ الْحَسَنُ: "إنَّ لَبِثْتُمْ إلَّا قَلِيلًا فِي الدُّنْيَا لِطُولِ لُبْثِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قِيلَ كَأَنَّك بِالدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ وَكَأَنَّك بِالْآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَرَادَ بِهِ احْتِقَارَ أَمْرِ الدُّنْيَا حِينَ عَايَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ قَالُوا: رُؤْيَا غَيْرِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ الْمُشْرِكِينَ بِمَا رَأَى كَذَّبُوا بِهِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ بِرُؤْيَاهُ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ مَكَّةَ. قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ أَرَادَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43, 44] فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "مَلْعُونَةَ" أَنَّهُ مَلْعُونٌ أَكْلُهَا. وَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ بِهَا قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَدُونَهُ النَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ تَنْبُتُ فِيهَا؟. قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} هَذَا تَهَدُّدٌ وَاسْتِهَانَةٌ بِفِعْلِ الْمَقُولِ لَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: اجْهَدْ جُهْدَكَ فَسَتَرَى مَا يَنْزِل بِك. وَمَعْنَى اسْتَفْزِزْ اسْتَزِلَّ يُقَالُ استفزه واستزله بمعنى. وقوله: {بِصَوْتِكَ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْغِنَاءُ وَاللَّهْوُ وَهُمَا مَحْظُورَانِ وَأَنَّهُمَا مِنْ صَوْتِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يَدْعُو بِهِ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ صَوْتٍ دُعِيَ بِهِ إلَى الْفَسَادِ فَهُوَ مِنْ صَوْتِ الشَّيْطَانِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} فَإِنَّ الْإِجْلَابَ هُوَ السَّوْقُ بِجَلَبَةٍ مِنْ السَّائِقِ، وَالْجَلَبَةُ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ. وقَوْله تَعَالَى: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "كُلُّ رَاجِلٍ أَوْ مَاشٍ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُوَ مِنْ رَجْلِ الشَّيْطَانِ وَخَيْلِهِ". وَالرَّجْلُ جَمْعُ رَاجِلٍ كَالتَّجْرِ جَمْعُ تَاجِرٍ وَالرَّكْبُ جَمْعُ رَاكِبٍ. قَوْله تَعَالَى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} قِيلَ: مَعْنَاهُ كُنْ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُ مَا يَطْلُبُونَهُ بِشَهْوَتِهِمْ وَمِنْهُ مَا يَطْلُبُونَهُ لِإِغْرَائِك بِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ:

"وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَوْلَادِ يَعْنِي الزِّنَا". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْمَوْءُودَةُ" وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "مِنْ هُوِّدُوا وَنُصِّرُوا". وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ: "تَسْمِيَتُهُمْ عَبْدَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ شَمْسٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا احْتَمَلَ هَذِهِ الْوُجُوهَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهَا وَكَانَ جَمِيعُهَا مُرَادًا; إذْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ فِي الْإِغْرَاءِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ. قَوْله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى الْجِنْسِ وَفِيهِمْ الْكَافِرُ الْمُهَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَرَّمَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُكَرَّمِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَجْرَى الصِّفَةَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ كَقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] لِمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَجْرَى الصِّفَةَ عَلَى الْجَمَاعَةِ. قَوْله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قِيلَ: إنَّهُ يُقَالُ هَاتُوا مُتَّبِعِي إبْرَاهِيمَ هَاتُوا مُتَّبِعِي مُوسَى هَاتُوا مُتَّبِعِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا وَاحِدًا فَيَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، ثُمَّ يَدْعُو بِمُتَّبِعِي أَئِمَّةِ الضَّلَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "إمَامُهُ نَبِيُّهُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: "إمَامُهُ كِتَابُ عَمَلِهِ". وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "بِمَنْ كَانُوا يَأْتَمُّونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا". وَقِيلَ: "بِإِمَامِهِمْ بِكِتَابِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفَرَائِضِ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "مَنْ كَانَ فِي أَمْرِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَهِيَ شَاهِدَةٌ لَهُ مِنْ تَدْبِيرهَا وَتَصْرِيفِهَا وَتَقْلِيبِ النِّعَمِ فِيهَا أَعْمَى عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ فِي الْآخِرَة الَّتِي هِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا". قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السِّلْمِيِّ قَالَا: "دُلُوكُهَا غُرُوبُهَا". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ: "دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا" وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ قَالُوا: إنَّ الدُّلُوكَ الْمَيْلُ، وَقَوْلُهُمْ مَقْبُولٌ فِيهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَيْلُ لِلزَّوَالِ وَالْمَيْلُ لِلْغُرُوبِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الزَّوَالَ فَقَدْ انْتَظَمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ; إذْ كَانَتْ هَذِهِ أَوْقَاتًا مُتَّصِلَةً بِهَذِهِ الْفُرُوضِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ غَايَةً لِفِعْلِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ انْتِصَافُهُ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى مَا بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيَانَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ، فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "غَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ". وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "دُلُوكُ الشَّمْسِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى غَسَقِ الليل حين تجب الشمس". قال: وقال ابن مَسْعُودٍ: "دُلُوكُ الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ إلَى غسق الليل حين يغيب الشفق". وعن عبد اللَّهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: "هَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "غَسَقُ اللَّيْلِ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ". وَعَنْ الْحَسَنِ: "غَسَقُ اللَّيْلِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ". وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: "غَسَقُ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: "غَسَقُ اللَّيْلِ انْتِصَافُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ تَأَوَّلَ دُلُوكَ الشَّمْسِ عَلَى غُرُوبِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ غَسَقِ اللَّيْلِ عِنْدَهُ غُرُوبَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الِابْتِدَاءَ الدُّلُوكَ وَغَسَقُ اللَّيْلِ غَايَةٌ لَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ غَايَةً لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هُوَ الِابْتِدَاءُ وَهُوَ الْغَايَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالدُّلُوكِ غُرُوبَهَا فَغَسَقُ اللَّيْلِ هُوَ إمَّا الشَّفَقُ الَّذِي هُوَ آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوْ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ وَهُوَ أَيْضًا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ إلَّا بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ الْمُسْتَحَبِّ وَهُوَ انْتِصَافُ اللَّيْلِ، فَيَنْتَظِمُ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ. قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَتَقْدِيرُهُ: أَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا قِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ إلَّا فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَجْعَلَ الْقِرَاءَةَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلا، و"الهاء" فِي قَوْلِهِ "بِهِ" كِنَايَةٌ عَنْ قُرْآنِ الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الْقِرَاءَةِ لَا مَكَانُ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاسْتِحَالَةُ التَّهَجُّدِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْت لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْقِرَاءَةَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا وَفُرُوضِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} رُوِيَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَحْسَبُ أَحَدُكُمْ إذَا قَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ، لَا، وَلَكِنَّ التَّهَجُّدَ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ،

وَكَذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَعَنْ الْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ قَالَا: "التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ". وَالتَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ السَّهَرُ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَالْهُجُودُ النَّوْمُ، وَقِيلَ: التَّهَجُّدُ التَّيَقُّظُ بِمَا يَنْفِي النَّوْمَ. وَقَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَإِنَّمَا كَانَتْ نَافِلَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَانَتْ طَاعَاتُهُ نَافِلَةً أَيْ زِيَادَةً فِي الثَّوَابِ وَلِغَيْرِهِ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "نَافِلَةٌ: تَطَوُّعًا وَفَضِيلَةً". وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: "إذَا وَضَعْت الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ قَعَدْت مَغْفُورًا، وَإِنْ قُمْت تُصَلِّي كَانَتْ لَك فَضِيلَةً وَأَجْرًا، فَقَالَ لَهُ رِجْلٌ: يَا أَبَا أُمَامَةَ أَرَأَيْت إنْ قَامَ يُصَلِّي يَكُونُ لَهُ نَافِلَةً؟ قَالَ: لَا إنَّمَا النَّافِلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ نَافِلَةً وَهُوَ يَسْعَى فِي الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا يَكُونُ لَك فَضِيلَةً وَأَجْرًا" فَمَنَعَ أَبُو أُمَامَةَ أَنْ تَكُونَ النَّافِلَةُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ عَبْدُ اللَّهِ بن الصامت عن أبي ذر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ قُلْت: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهُمْ فَصَلِّهَا مَعَهُمْ لَك نَافِلَةٌ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ ثُمَّ تَصِيرُ الصَّلَاةُ نَافِلَةً قِيلَ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ غَيْرُ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ وَلَا أَرْبَعٍ وَلَا خَمْسٍ". فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ النَّافِلَةَ لِغَيْرِهِ، النَّافِلَةُ هِيَ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْوَاجِبِ وَهِيَ التَّطَوُّعُ وَالْفَضِيلَةُ، وَمِنْهُ النَّفَلُ فِي الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا يَجْعَلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْجَيْشِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ سِهَامِهَا، بِأَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "عَلَى طَبِيعَتِهِ". وَقِيلَ: "عَلَى عَادَتِهِ الَّتِي أَلِفِهَا". وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ إلْفِ الْفَسَادِ وَالْمُسَاكَنَةِ إلَيْهِ فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: "عَلَى أَخْلَاقِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَاكِلَتُهُ مَا يُشَاكِلُهُ وَيَلِيقُ بِهِ وَيُشْبِهُهُ، فَاَلَّذِي يُشَاكِلُ الْخَيِّرَ مِنْ النَّاسِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ وَاَلَّذِي يُشَاكِلُ الشِّرِّيرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] يَعْنِي: الْخَبِيثَاتِ مِنْ الْكَلَامِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ النَّاسِ {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] يَعْنِي: الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْكَلَامِ لِلطَّيِّبِينَ مِنْ النَّاسِ. وَيُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ فَكَلَّمُوهُ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا حَسَنًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "إنَّمَا يُنْفِقُ كُلُّ إنْسَانٍ مَا عِنْدَهُ". قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} اُخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ الَّذِي سَأَلُوا عَنْهُ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ جِبْرِيلُ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: "أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفِ وَجْهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفِ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ". وَقِيلَ: "إنَّمَا أَرَادَ رُوحَ الْحَيَوَانِ" وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ. قَالَ قَتَادَةُ: "الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ

الْيَهُودِ". وَرُوحُ الْحَيَوَانِ جِسْمٌ رَقِيقٌ عَلَى بِنْيَةٍ حَيَوَانِيَّةٍ فِي كُلِّ جُزْءٍ. مِنْهُ حَيَاةٌ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكُلُّ حَيَوَانٍ فَهُوَ رُوحٌ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ الرُّوحُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ الْبَدَنُ. وَقِيلَ: أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُمْ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوكَلُوا إلَى مَا فِي عُقُولِهِمْ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا لِلِارْتِيَاضِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفَائِدَةِ. وَرُوِيَ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّهُ إنْ أَجَابَ عَنْ الرُّوحِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِصْدَاقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ. وَالرُّوحُ قَدْ يُسَمَّى بِهِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] سَمَّاهُ رُوحًا تَشْبِيهًا بِرُوحِ الْحَيَوَانِ الَّذِي بِهِ يَحْيَى. وَالرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ سُمِّيَ رُوحًا عَلَى نَحْوِ مَا سُمِّيَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ. وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَعْلَمُهُ رَبِّي. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} يَعْنِي: مَا أُعْطِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَّا قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ بِحَسَبِ حَاجَتِكُمْ إلَيْهِ، فَالرُّوحُ مِنْ الْمَتْرُوكِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ النَّصُّ عَلَيْهِ لِلْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ جَوَابِ السَّائِلِ عَنْ بَعْضِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالِاسْتِخْرَاجِ، وَهَذَا فِي السَّائِلِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَفْتِيًا قَدْ بُلِيَ بِحَادِثَةٍ احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فَعَلَى الْعَالِمِ بِحُكْمِهَا أَنْ يُجِيبَهُ عَنْهَا بِمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} الْآيَةُ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى إعْجَازِ الْقُرْآنِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: "إعْجَازُهُ فِي النَّظْمِ عَلَى حِيَالِهِ وَفِي الْمَعَانِي وَتَرْتِيبُهَا عَلَى حِيَالِهِ" وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِتَحَدِّيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَجَمَ لَا يُتَحَدَّوْنَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظْمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّحَدِّي لَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي وَتَرْتِيبِهَا عَلَى هَذَا النِّظَامِ دُونَ نَظْمِ الْأَلْفَاظِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ إعْجَازُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ نَظْمِ الْأَلْفَاظِ وَالْبَلَاغَةِ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ إعْجَازَ الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا حُسْنُ النَّظْمِ وَجَوْدَةُ الْبَلَاغَةِ فِي اللَّفْظِ وَالِاخْتِصَارُ وَجَمْعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ مَعَ تَعَرِّيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَفْظٌ مَسْخُوطٌ أَوْ مَعْنًى مَدْخُولٌ وَلَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ تَضَادٍّ، وَجَمِيعُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ جَارٍ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ، وَكَلَامُ الْعِبَادِ لَا يَخْلُو إذَا طَالَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْأَلْفَاظُ السَّاقِطَةُ وَالْمَعَانِي الْفَاسِدَةُ وَالتَّنَاقُضُ فِي الْمَعَانِي. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ عُيُوبِ الْكَلَامِ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ اللُّغَاتِ لَا يَخْتَصُّ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّحَدِّي

وَاقِعًا لِلْعَجَمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْإِتْيَانِ بِهَا عَارِيَّةً مِمَّا يَعِيبُهَا وَيُهَجِّنُهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْفَصَاحَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهَا لُغَةُ الْعَرَبِ دُونَ سَائِرِ اللُّغَاتِ وَإِنْ كَانَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ أَفْصَحَهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّحَدِّي لِلْعَجَمِ وَاقِعًا بِأَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ بِلُغَتِهِمْ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} قوله: {فَرَقْنَاهُ} يَعْنِي فَرَقْنَاهُ بِالْبَيَانِ عَنْ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ. وقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} يَعْنِي عَلَى تَثَبُّتٍ وَتَوَقُّفٍ لِيَفْهَمُوهُ بِالتَّأَمُّلِ وَيَعْلَمُوا مَا فِيهِ بِالتَّفَكُّرِ وَيَتَفَقَّهُوا بِاسْتِخْرَاجِ مَا تَضَمَّنَ مِنْ الْحِكَمِ وَالْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْكُثُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَنْزِلُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدٍ الْمَكْتَب قَالَ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ رَجُلَيْنِ قَرَأَ أَحَدُهُمَا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَرَجُلٌ قَرَأَ الْبَقَرَةَ جُلُوسُهُمَا وَسُجُودُهُمَا وَرُكُوعُهُمَا سَوَاءٌ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: الَّذِي قَرَأَ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءَةٌ بَيِّنَةٌ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي حَمْزَة الضُّبَعِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَأَنْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأُرَتِّلُهَا وَأَتَدَبَّرُهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ هَذَا". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "لَا تَقْرَءُوا الْقُرْآنَ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاث وَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأهُ فِي سَبْعٍ وَالْأَسْوَدُ فِي سِتٍّ وَعَلْقَمَةُ فِي خَمْسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ. رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَةَ عَنْ صَدَقَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقْفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَاعْتَكَفَ فِيهِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ فَرَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فَقَالَ: "إنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِيهِ"، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ التَّرْتِيلُ; لِأَنَّهُ بِهِ يَعْلَمُ مَا يُنَاجِي رَبَّهُ بِهِ وَيَفْهَمُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يقرأه.

بَابُ السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لِلْوُجُوهِ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} قَالَ: "لِلْوُجُوهِ". وَقَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الْحَسَنُ: "اللِّحَى". وَسُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ فقال: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ

ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَلَا أَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا"، قَالَ طَاوُسٌ: وَأَشَارَ إلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ هُمَا عَظْمٌ وَاحِدٌ. وَرَوَى عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَجَدْت فَمَكِّنْ جَبْهَتَك وَأَنْفَك مِنْ الْأَرْضِ". وَرَوَى وَائِلُ بْن حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهُ رَأَى الطِّينَ فِي أَنْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْنَبَتَهُ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وَكَانُوا مُطِرُوا مِنْ اللَّيْلِ. وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَاجِدًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ إلَّا بِمَسِّ الْأَنْفِ مِنْهَا مَا يَمَسُّ الْجَبِينُ". وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ السُّجُودِ هُوَ الْأَنْفُ وَالْجَبْهَةُ جَمِيعًا وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْت لِوَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ: يَا أَبَا نُعَيْمٍ مَا لَك لَا تُمَكِّنُ جَبْهَتَك وَأَنْفَك مِنْ الْأَرْضِ؟ قَالَ: ذَاكَ لِأَنِّي سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قِصَاصِ الشَّعَرِ. وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ سَجَدَ فَلَمْ يَضَعْ أَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "إنَّ أَنْفِي مِنْ حُرِّ وَجْهِي وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَشِينُ وَجْهِي". وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَسْجُدَانِ عَلَى جِبَاهِهِمَا وَلَا تَمَسُّ أُنُوفُهُمَا الْأَرْضَ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ عَلَى قِصَاصِ شَعَرِهِ لِعُذْرٍ كَانَ بِأَنْفِهِ تَعَذَّرَ مَعَهُ السُّجُودُ عَلَيْهِ، وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْوُجُوهِ عَلَى اللِّحَى يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِعْلُ السُّجُودِ عَلَيْهِمَا; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ السُّجُودَ عَلَى الذَّقَنِ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَنْفُ لِقُرْبِهِ مِنْ الذَّقَنِ، وَمَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا يُجْزِئُهُ" وَإِنْ سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَرَوَى الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "إذَا وَقَعَ أَنْفُك عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ سَجَدْت". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ طَاوُسٌ قَالَ: "الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي الصَّلَاةِ وَاحِدٌ". وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٌ قَالَ: "إنَّ الْأَنْفَ مِنْ الْجَبِينِ" وَقَالَ: هو خيره.

بَابٌ مَا يُقَالُ فِي السُّجُودِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} فَمَدَحَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ السُّجُودِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي السُّجُودِ مِنْ الذِّكْرِ هُوَ التَّسْبِيحُ. وَرَوَى مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَمِّهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}

[الواقعة:96] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ" فَلَمَّا نَزَلَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ مُطَرَّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَكَرَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ الدُّعَاءَ، فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت وَبِك آمَنْت" فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رَوَاهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ قَبْلَ نُزُولِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْعَلَ فِي السُّجُودِ، كَمَا رَوَاهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يَقُولُ فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَهَا خَمْسًا فِي الرُّكُوعِ وَفِي السُّجُودِ حَتَّى يُدْرِكَ الَّذِينَ خَلْفَهُ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُسَبِّحْ فَهُوَ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَكَانَ لَا يُوَقِّتُ تَسْبِيحًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ: "قَوْلُ النَّاسِ فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى لَا أَعْرِفُهُ" فَأَنْكَرَهُ وَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ دُعَاءً مُوَقَّتًا، قَالَ: "وَلَكِنْ يُمَكِّنُ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَيُمَكِّنُ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ" وَلَيْسَ فِيهِ عنده حد.

بَابُ الْبُكَاءِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَهُمْ بِالْبُكَاءِ فِي السُّجُودِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سُجُودِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسَجْدَةِ الشُّكْرِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْت نَشِيجَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنِّي لَفِي آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُورَةَ يوسف حتى إذا بلغ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] نَشَجَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ كَانُوا خَلْفَهُ،

فَصَارَ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} يَعْنِي بِهِ أَنَّ بُكَاءَهُمْ فِي حَالِ السُّجُودِ يَزِيدُهُمْ خُشُوعًا إلَى خُشُوعِهِمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَخَافَتَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى تُؤَدِّيَهُمْ إلَى الْبُكَاءِ دَاعِيَةٌ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ نِعَمِهِ. والله الموفق.

بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَعَائِشَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: "لَا تَجْهَرْ بِدُعَائِك وَلَا تُخَافِت بِهِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَهَرَ وَلَا يُسْمِعُ مَنْ خَلْفَهُ إذَا خَافَتَ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} وَأَرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَا تَجْهَرْ بِالصَّلَاةِ بِإِشَاعَتِهَا عِنْدَ مَنْ يُؤْذِيكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَلْتَمِسُهَا" فَكَانَ عِنْدَ الْحَسَنِ أَنَّهُ أُرِيدَ تَرْكُ الْجَهْرِ فِي حَالٍ وَتَرْكُ الْمُخَافَتَةِ فِي أُخْرَى. وَقِيلَ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا وَلَا تُخَافِتْ بِجَمِيعِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا بِأَنْ تَجْهَرَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَتُخَافِتَ بِصَلَاةِ النَّهَارِ عَلَى مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ". وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نَسِيٍّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَأَلْت عَائِشَةَ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ أَوْ يُخَافِتُ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا جَهَرَ وَرُبَّمَا خَافَتَ. وَرَوَى أَبُو خَالِدِ الْوَالِبِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَخْفِضُ طَوْرًا وَيَرْفَعُ طَوْرًا وَقَالَ: "هَكَذَا كَانَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَرُوِيَ عَنْ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ رَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: "إنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِيهِ وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا يُغَلِّطُ أَصْحَابَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَتْ أَخْبَارٌ فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، رَوَى كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ حُجَرِهِ فَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ مَنْ كَانَ خَارِجًا. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: "صَلَّيْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ لَيْلَةً فَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَيُسْمِعُ أَهْلَ الدَّارِ". وَرُوِيَ لِأَبِي بَكْرٍ: "كَانَ إذَا صَلَّى خَفَضَ صَوْتَهُ وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا صَلَّى رَفَعَ صَوْتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: لِمَ تَفْعَلُ هَذَا قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْسَنْت وَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ: أَحْسَنْت فلما نزل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} الْآيَةَ، قَالَ لِأَبِي بِكْرٍ: "ارْفَعْ شَيْئًا" وَقَالَ لِعُمَرَ: "اخْفِضْ شَيْئًا". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: "لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى

مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد"، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْسَجَةَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ". وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ طَاوُسٌ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً؟ قَالَ: "الَّذِي إذَا سَمِعْت قِرَاءَتَهُ رَأَيْت أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ". آخِرَ سُورَةِ بني إسرائيل.

وَمِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ مَا جَعَلَهُ زِينَةً لَهَا مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ سَيَجْعَلُهُ صَعِيدًا جُرُزًا، وَالصَّعِيدُ: الْأَرْضُ، وَالصَّعِيدُ: التُّرَابُ. وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إحَالَتِهِ مَا عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ زِينَةٌ لَهَا صَعِيدًا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ; إذْ كُلُّ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ نَبَاتٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَسْتَحِيلُ تُرَابًا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَا عَلَيْهَا يُصَيِّرُهُ صَعِيدًا جُرُزًا وَأَبَاحَ مَعَ ذَلِكَ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ وَجَبَ بِعُمُومِ ذَلِكَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الَّذِي كَانَ نَبَاتًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِإِطْلَاقِهِ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّة قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي النَّجَاسَاتِ إذَا اسْتَحَالَتْ أَرْضًا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ; لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَرْضٌ لَيْسَتْ بِنَجَاسَةٍ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي نَجَاسَةٍ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا أَنَّهَا طَاهِرٌ; لِأَنَّ الرَّمَادَ فِي نَفْسِهِ طَاهِرٌ وَلَيْسَ بِنَجَاسَةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَمَادِ النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ رَمَادِ الْخَشَبِ الطَّاهِرِ; إذْ النَّجَاسَةُ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ عَنْهَا بِالْإِحْرَاقِ وَصَارَتْ إلَى ضَرْبِ الِاسْتِحَالَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إذَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا فَهُوَ طَاهِرٌ; لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِخَمْرٍ لِزَوَالِ الِاسْتِحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِهَا خَمْرًا. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَهْرُبَ بِدِينِهِ إذَا خَافَ الْفِتْنَةَ فِيهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْهَرَبَ بِدِينِهِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ أَنْ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَضِيَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلهمْ وَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَحَكَاهُ لَنَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْسَانِ لما كان منهم. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} مَعْنَاهُ: لِيَظْهَرَ الْمَعْلُومُ فِي اخْتِلَافِ الْحِزْبَيْنِ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبْرَةِ.

قَوْله تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا أَلْبَسَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْهَيْبَةِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَيْهِمْ أَحَدٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فِيهِمْ وَيَنْتَبِهُوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَذَلِكَ وَصْفُهُمْ فِي حَالِ نَوْمِهِمْ لَا بَعْدَ الْيَقَظَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَكَان مُوحِشٍ مِنْ الْكَهْف أَعْيُنِهِمْ مَفْتُوحَةٌ يَتَنَفَّسُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَظْفَارَهُمْ وَشُعُورُهُمْ طَالَتْ فَلِذَلِكَ يَأْخُذُ الرُّعْبُ مِنْهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لَمَّا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ غَيْرَ مُنْكِرٍ لِقَوْلِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي إطْلَاقِ ذَلِكَ; لِأَنَّ مَصْدَرَهُ إلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ مِقْدَارِ اللَّبْثِ وَفِي اعْتِقَادِهِمْ لَا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّبْثِ فِي الْمَغِيبِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ} [البقرة: 259] وَلَمْ يُنْكِرْ اللَّهُ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ وَفِي اعْتِقَادِهِ لَا عَنْ مَغِيبِ أَمْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْخَضِرِ: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] وَ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] يَعْنِي: عِنْدِي كَذَلِكَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ" حِينَ قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصَرْتَ الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيتَ؟ قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} الْآيَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ خَلْطِ دَرَاهِمِ الْجَمَاعَةِ وَالشِّرَى بِهَا وَالْأَكْلِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي بَيْنَهُمْ بِالشَّرِكَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَأْكُلُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ غَيْرُهُ، وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْمُنَاهَدَةَ وَيَفْعَلُونَهُ فِي الْأَسْفَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَضَافَ الْوَرِقَ إلَى الْجَمَاعَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَأَبَاحَ لَهُمْ بِذَلِكَ خَلْطَ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ أَكْلًا مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَى; لِأَنَّ الَّذِي بَعَثُوا بِهِ كَانَ وَكِيلًا لَهُمْ.

بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى يَكُونَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَهُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا يَصِيرَ كَاذِبًا بِالْحَلِفِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ مَا وَصَفْنَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ حَاكِيًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: 69] فَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يَكُ كَاذِبًا لِوُجُودِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كَلَامِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ دُخُولِهِ فِي الْكَلَامِ لِرَفْعِ حُكْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي دُخُولِهِ عَلَى الْيَمِينِ أَوْ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى الْعَتَاقِ. وَقَدْ روى

أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلِفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ "فَقَدْ اسْتَثْنَى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْأَيْمَانِ، فَهُوَ عَلَى جَمِيعِهَا. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلُهُ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ فِي كُلِّ شَيْءٍ". وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَيْسَتْ بِطَالِقٍ". وَهَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ وَاهِي السَّنَدِ غَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: "إذَا اسْتَثْنَى بَعْدَ سَنَةٍ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ: "يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ: "لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ". وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ وَيَسْتَثْنِي فِي نَفْسِهِ قَالَ: "لَا حَتَّى يَجْهَرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا جَهَرَ بِيَمِينِهِ"، وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اسْتَثْنَى وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ الْيَمِينُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: "لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ" وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: "أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ" فَلَوْ قَالَ: "أَنْتِ طَالِقٌ" ثُمَّ قَالَ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ" بَعْدَ مَا سَكَتَ، لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَعَلُّقَ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولَ بَعْدَ سَنَةٍ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَبْطُلُ الطَّلَاقُ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى زَوْجٍ ثَانٍ فِي إبَاحَتِهَا لِلْأَوَّلِ، وَفِي تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ السُّكُوتِ، وَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْإِيقَاعِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْيَمِينِ. وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أَنَّهُ إنْ بَرَأَ ضَرَبَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا وَيَضْرِبَ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْيَمِينِ لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ ضَرْبِهَا بِالضِّغْثِ وَغَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"، وَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْيَمِينِ لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي"، وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قُلْتُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى قَيْسٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قريشاً!

وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا! " ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً فَقَالَ: "إنْ شَاءَ اللَّهُ" فَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْدَ السُّكُوتِ. قِيلَ لَهُ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا! " ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِنَّ: "إنْ شَاءَ اللَّهُ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي آخِرِهِنَّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اتِّصَالَهُ بِالْيَمِينِ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي آخِرِهِنَّ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْجَمِيعِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي إجَازَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فتأولوا قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ; لِأَنَّ قَوْله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قَالَ: "إذَا غَضِبْتَ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَفْزَعَ إلَيْهِ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : إنَّمَا نَزَلَ فِيمَا سَأَلَتْ قُرَيْشٌ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: "سَأُخْبِرُكُمْ" فَأَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَتَاهُ يُخْبِرُهُمْ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يُطْلِقَ الْقَوْلَ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد: وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ فَتَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إنْسَانٍ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْيَهُودِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "إنَّهُ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا كَانَتْ مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إنْ حَاجَّكَ أَهْلُ الْكِتَابِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا". وَقِيلَ فِيهِ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ بِهَذَا". وَقِيلَ: "قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا إلَى أَنْ مَاتُوا". فَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ أَخْبَارِ اللَّهِ إلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ مِنَّا الِاعْتِبَارَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى عَجِيبِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} قِيلَ فِي مَا شَاءَ اللَّهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: "مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ" فَحُذِفَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ

تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 35] فَحُذِفَ مِنْهُ "فَافْعَلْ". وَالثَّانِي: "هُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ". وَقَدْ أَفَادَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مِنَّا "مَا شَاءَ اللَّهُ" يَنْتَظِمُ رَدَّ الْعَيْنِ وَارْتِبَاطَ النِّعْمَةِ وَتَرْكَ الْكِبْرِ; لِأَنَّ فِيهِ إخْبَارًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَ. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ الْجِنِّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] فَهُوَ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْجِنِّ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَصْلُهُمْ مِنْ الرِّيحِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ بَنِي آدَمَ مِنْ الْأَرْضِ وَأَصْلُ الْجِنِّ من النار. قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَالنَّاسِي لَهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَأَضَافَ النِّسْيَانَ إلَيْهِمَا كَمَا يُقَالُ: نَسِيَ الْقَوْمُ زَادَهُمْ، وَإِنَّمَا نَسِيَهُ أَحَدُهُمْ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلِابْنِ عَمٍّ لَهُ: "إذَا سَافَرْتُمَا فَأْذَنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَحَدُكُمَا"، وَإِنَّمَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ الْإِنْسِ. قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ إظْهَارِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ نَصَبٌ أَوْ تَعَبٌ فِي سَعْيٍ فِي قُرْبَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ مكروهة.

مطلب فعل الحكيم للضرورة لا يجوز أن يستنكرر وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْخَضِرِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ فِعْلَ الْحَكِيمِ لِلضَّرَرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْكَرَ إذَا كَانَ فِيهِ تَجْوِيزُ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ الْحَكِيمِ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَقَعُ مِنْ السَّفِيهِ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي إذَا حُجِمَ أَوْ سُقِيَ الدَّوَاءَ اسْتَنْكَرَ ظَاهِرَهُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ مَعْنَى النَّفْعِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ مِنْ الضَّرَرِ أَوْ مَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ اسْتِنْكَارُهُ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْخَضِرُ لَمْ يَحْتَمِلْ مُوسَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْعَالِمِ احْتِمَالُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ بَعْدَ الثلاث ترك احتماله.

في الْكَنْزِ مَا هُوَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "عِلْمٌ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "مَالٌ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا كَانَ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَإِنَّمَا كَانَ عِلْمًا صُحُفًا".

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "صُحُفٌ مِنْ عِلْمٍ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ: "ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ" وَلَمَّا تَأَوَّلُوهُ عَلَى الصُّحُفِ وَعَلَى الْعِلْمِ وَعَلَى الذَّهَبِ وَعَلَى الْفِضَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْكَنْزِ يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ، لَوْلَاهُ لَمْ يَتَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] فَخَصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ إذَا كَثُرَتْ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إذَا كَانَتْ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ تَجِبُ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَا مَكْسُورَيْنِ غَيْرَ مُرْصَدَيْنِ لِلنَّمَاءِ. قَوْله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} الْآيَةَ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْأَوْلَادَ لِصَلَاحِ الْآبَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ لَيَحْفَظَ الْمُؤْمِنَ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَفِي الدُّوَيْرَاتِ حَوْلَهُ"، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] فَأَخْبَرَ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ الْكُفَّارِ لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [لأنفال: 33] آخر سورة الكهف.

وَمِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} فَمَدَحَهُ بِإِخْفَاءِ الدُّعَاءِ، وَفِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إخْفَاءَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي". وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ وَيُؤَمِّنَ مَنْ خَلْفَهُ، وَكَانَ لَا يُعْجِبُهُ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا قَدْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فَقَالَ: "إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَيْكُمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ". قَوْله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْمَوَالِيَ الْعُصْبَةُ وَهُمْ بَنُو أَعْمَامِهِ، خَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِرَارَ بَنِي إسْرَائِيلَ. قَوْله تَعَالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا ذَكَرًا يَلِي أُمُورَ الدِّينِ وَالْقِيَامَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِخَوْفِهِ مِنْ بَنِي أَعْمَامِهِ عَلَى تَبْدِيلِ دِينِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: "نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ". وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ فَسَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ فَقَالَ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ"، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ مِثْلُهُ. فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَرِثُ الْمَالَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ فَقَدْ أَجَازَ إطْلَاقَ اسْمِ الْمِيرَاثِ عَلَى النُّبُوَّةِ فكذلك يجوز أن يعني بقوله: {يَرِثُنِي} يَرِثُ عِلْمِي. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ"، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ" يَعْنِي بِعَرَفَاتٍ "فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَنْشُدُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرحمن بن

عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ " قَالُوا: نَعَمْ فَقَدْ ثَبَتَ بِرِوَايَةِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَالَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "يَرِثُنِي" الْمَالَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْسَفَ عَلَى مَصِيرِ مَالِهِ بَعْدِ مَوْتِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا خَافَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ بَنُو أَعْمَامِهِ عَلَى عُلُومِهِ وَكِتَابِهِ فَيُحَرِّفُونَهَا وَيَسْتَأْكِلُونَ بِهَا فَيُفْسِدُونَ دِينَهُ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ وَاسْتِعْمَالَ الصَّمْتِ قَدْ كَانَ قُرْبَةً، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ مَرْيَمُ وَلَمَا فَعَلَتْهُ بَعْدَ النَّذْرِ. وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} قَالَ: فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ: "صَمْتًا" وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهَا الصَّمْتُ. قَوْلُهَا: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ فَأَذِنَ لَهَا فِي هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الْكَلَامِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَبَسَ زَكَرِيَّا عَنْ الْكَلَامِ ثَلَاثًا وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لَهُ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْوَلَدُ، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ وَلَا خَرَسٍ. قَوْله تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمِحْرَابُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ، وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمِحْرَابَ الْغُرْفَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] وَقِيلَ: المحراب المصلى. وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِمْ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ، فَقَامَتْ الْإِشَارَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَقَامَ الْقَوْلِ; لِأَنَّهَا أَفَادَتْ مَا يُفِيدُهُ الْقَوْلُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ مُعَوَّلٌ عَلَيْهَا قَائِمَةٌ فِيمَا يَلْزَمُهُ مَقَامَ الْقَوْلِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّ إشَارَةَ الصَّحِيحِ لَا تَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْأَخْرَسِ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ بِالْعَادَةِ وَالْمِرَانِ وَالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهَا قَدْ عُلِمَ بِهَا مَا يُعْلَمُ بِالْقَوْلِ، وَلَيْسَ لِلصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَيُعْمَلُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ فَأَوْمَأَ وَأَشَارَ بِوَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَادَةٌ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ حَتَّى يَكُونُ فِي مَعْنَى الْأَخْرَسِ. قَوْله تَعَالَى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} قَالَ قَائِلُونَ: إنَّمَا تَمَنَّتْ الْمَوْتَ لِلْحَالِ الَّتِي دُفِعَتْ إلَيْهَا مِنْ الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. وَهَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ هَذِهِ حَالٌ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ ابْتَلَاهَا بِهَا وَصَيَّرَهَا إلَيْهَا وَقَدْ كَانَتْ هِيَ رَاضِيَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بِذَلِكَ مُطِيعَةً لِلَّهِ، وَتَسَخُّطُ فِعْلِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ مَعْصِيَةٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ صَوَابٌ

وَحِكْمَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَمْ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا تَمَنَّتْهُ لِعِلْمِهَا بِأَنَّ النَّاسَ سَيَرْمُونَهَا بِالْفَاحِشَةِ فَيَأْثَمُونَ بِسَبَبِهَا، فَتَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْصِيَ النَّاسُ اللَّهَ بِسَبَبِهَا. قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "جِبْرِيلُ" عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: "الَّذِي نَادَاهَا عِيسَى" عَلَيْهِ السَّلَامُ وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "جَعَلَنِي نَفَّاعًا". وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} قِيلَ: إنَّهُ عَنَى زَكَاةَ الْمَالِ، وَقِيلَ: أَرَادَ التَّطْهِيرَ مِنْ الذُّنُوبِ. قَوْله تَعَالَى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} إلَى قَوْلِهِ: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ الْحَمْدِ وَالْخَيْرِ إذَا أَرَادَ تَعْرِيفَهَا إلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الِافْتِخَارِ، وَهُوَ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ تَعْرِيفًا لِلْمَلِكِ بِحَالِهِ. قَوْله تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: "دَهْرًا طَوِيلًا". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: "مَلِيًّا: سَوِيًّا سَلِيمًا مِنْ عُقُوبَتِي". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ مَلِيٌّ بِهَذَا الْأَمْرِ إذَا كَانَ كَامِلَ الْأَمْرِ فِيهِ مُضْطَلِعًا بِهِ. قَوْله تَعَالَى: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "أَضَاعُوهَا بِتَأْخِيرِهَا عَنْ مَوَاقِيتِهَا" وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ إنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يَدَعَهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: "أَضَاعُوهَا بِتَرْكِهَا". قَوْله تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: "مَثَلًا وَشَبِيهًا" وقَوْله تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَمْ تَلِدْ مِثْلَهُ الْعَوَاقِرُ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ مِثْلًا". وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: "لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِاسْمِهِ". وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى إلَهًا غَيْرُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ سَامِعَ السَّجْدَةِ وَتَالِيهَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِهَا وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا يَسْجُدُونَ; لِأَنَّهُ مَدَحَ السَّامِعِينَ لَهَا إذَا سَجَدُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَر فَنَزَلَ وَسَجَدَهَا وَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ

الْمُسَيِّبِ قَالُوا: "السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ حَنْظَلَةَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَجْدَةً فَقَالَ: "إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا"، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُثْمَانَ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَوْجَبَا السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ لِلسَّجْدَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهَا; إذْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لَهَا هُوَ السَّمَاعُ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِي الْوُجُوبِ بِالنِّيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ لَا يُفْسِدُهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْوَالِدِ لَا يَبْقَى عَلَى وَلَدِهِ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ، فَنَفَى بِإِثْبَاتِهِ الْعُبُودِيَّةَ النُّبُوَّةَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بِالشِّرَى"، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النَّاسُ غَادِيَانِ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا"، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنْ يَبْتَدِئَ لِنَفْسِهِ عِتْقًا بَعْدَ الشِّرَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مُعْتِقُهَا بِالشِّرَى، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ"، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: "فَيَشْتَرِيَهُ فَيَمْلِكَهُ" وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِئْنَافَ مِلْكٍ آخَرَ بَعْدَ الشِّرَى بَلْ يَمْلِكُهُ بِالشِّرَى. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الشِّرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرِّ مِنْ أَمَتِهِ حُرُّ الْأَصْلِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لِابْنِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ احْتَاجَ الْمُشْتَرِي لِابْنِهِ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ لَاحْتَاجَ إلَيْهِ أَيْضًا الِابْنُ الْمَوْلُودُ مِنْ أَمَتِهِ; إذْ كَانَتْ الْأَمَةُ مَمْلُوكَةً. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ وَلَدَ أَمَتِهِ مِنْهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَحْتَجْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ، وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى مَمْلُوكٌ فَلَا يَعْتِقُ بِالشِّرَى حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهُ عِتْقًا. قِيلَ لَهُ: اخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَمْنَعُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ عَلَى وَلَدِهِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ أَنْ يَعْتِقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ عَلَى وَلَدِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ أَمَتِهِ رَقِيقًا إلَى أَنْ يُعْتِقَهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ مِنْ أَمَتِهِ وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فِي كَوْنِ الْأَوَّلِ حُرَّ الْأَصْلِ وَكَوْنِ الْآخَرِ مُعْتَقًا عَلَيْهِ ثَابِتَ الْوَلَاءِ مِنْهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَلَدَ الْمُشْتَرَى قَدْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْعَتَاقِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ إيقَاعُ الْعِتْقِ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْعَتَاقُ فِي مِلْكِهِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا وُقُوعُهُ فِي حَالِ الْبَيْعِ; لِأَنَّ حُصُولَ الْعِتْقِ يَنْفِي صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ فِي الثَّانِي مِنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا وُقُوعُ الْعَتَاقِ فِي حَالِ الْمِلْكِ; لِأَنَّهُ يَكُونُ إيقَاعُ عِتْقٍ لَا فِي مِلْكٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ فِي الثَّانِي مِنْ مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي مِلْكِهِ مِنْ جَارِيَتِهِ فَإِنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ مِلْكًا فِيهِ كَانَ هُوَ

الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِتْقِ فِي حَالِ الْمِلْكِ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْعَتَاقِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَكَانَ حُرَّ الْأَصْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ فِيهِ، وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُهُ ابْتِدَاءً فِيهِ لَكَانَ مُسْتَحَقَّا بِالْعِتْقِ فِي حَالِ مَا يُرِيدُ إثْبَاتَهُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ مِلْكُهُ لِلْأُمِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ مِلْكِ يَنْتَفِي فِي حَالِ وُجُودِهِ، وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ لِوَلَدِهِ فِي الْحَالَيْنِ مُوجِبًا لِعِتْقِهِ وَحُرِّيَّتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْآخِرَةِ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: "وُدًّا فِي الدُّنْيَا" آخِرَ سُورَةِ مريم.

وَمِنْ سُورَةِ طَه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ الْحَسَنُ: "اسْتَوَى بِلُطْفِهِ وَتَدْبِيرِهِ". وَقِيلَ: اسْتَوْلَى. وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "السِّرُّ مَا حَدَّثَ بِهِ الْعَبْدُ غَيْرَهُ فِي خَفَى، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَهُ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: "السِّرُّ مَا أَضْمَرَهُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا أَضْمَرَهُ أَحَدٌ". قَوْله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} فَتَقْدِيرُهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك; لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ. وَقَالَ كَعْبٌ وَعِكْرِمَةُ: "كَانَتْ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِخَلْعِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فِي النَّعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْمَعْنِيُّ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْوَادِي بِقَدَمِهِ تَبَرُّكًا بِهِ كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخَلْعِ النَّعْلِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِي فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا لُبْسُ جِلْدِ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ"، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ"؟ قَالُوا: خَلَعْت فَخَلَعْنَا، قَالَ: "فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهَا قَذَرًا"، فَلَمْ يَكْرَهْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَالِعِينَ خَلْعَهَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَعَهَا; لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ فِيهَا قَذَرًا وَهَذَا عِنْدَنَا. مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَجَاسَةً يَسِيرَةً; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ. قَوْله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ". وَقِيلَ فِيهِ: "لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ". وَرَوَى الزهري عن

سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ". وَرَوَى هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ وَتَلَا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَهَا عَلَيْهَا الْآخَرُونَ مُرَادَةً أَيْضًا; إذْ هِيَ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ الْمَنْسِيَّةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ. وَهَذَا الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ مِنْ إيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ الذِّكْرِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، فَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ سَعْدٍ قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا وَلْيُصَلِّ مِثْلَهَا مِنْ الْغَدِ" وَرَوَى الْجَرِيرِيُّ1 عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: إذَا فَاتَتْ الرَّجُلَ الصَّلَاةُ صَلَّاهَا مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: صَلِّهَا إذَا ذَكَرْتهَا. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ صَلَاةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا. وَتِلَاوَةُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} عَقِيبَ ذِكْرِ الْفَائِتَةِ وَبَعْدَ قَوْلِهِ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا" يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْآيَةِ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْفَوَائِتِ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ فَهُوَ مَنْهِيٌّ لَا مَحَالَةَ عَنْ فِعْلِ صَلَاةِ الْوَقْتِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَ صَلَاةِ الْوَقْتِ إنْ قَدَّمَهَا عَلَى الْفَائِتَةِ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْوَقْتِ وَاجِبٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَمَا دُونَهُمَا إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لِلْفَائِتَةِ وَلِصَلَاةِ الْوَقْتِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ" وَالنِّسْيَانُ يُسْقِطُ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ، أَعْنِي نِسْيَانَ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ نَسِيَ الْفَائِتَةَ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: "إنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ كَثِيرَةً بَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ ثُمَّ صَلَّى مَا كَانَ نَسِيَ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ خَمْسًا ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّاهُنَّ قَبْلَ الصُّبْحِ وَإِنْ فَاتَ وَقْتُ الصُّبْحِ، وَإِنْ صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ ذَكَرَ صَلَوَاتٍ صَلَّى مَا نَسِيَ، فَإِذَا فَرَغَ أعاد الصبح ما دام في الوقت

_ 1 قوله: "الجريري" بضم الجيم وبالمهمليتين هو سعيد بن إياس كذا في خلاصة تهذيب الكمال "لمصححه".

فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يُعِدْ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ; لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّهُ يَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ. وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا إسْقَاطُ التَّرْتِيبِ وَفِي الْأُخْرَى إيجَابُهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذَا ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي صَلَاةٍ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَإِنْ كَانَ مَعَ إمَامٍ فَلْيُصَلِّ مَعَهُ حَتَّى إذَا سَلَّمَ صَلَّى الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ أَعَادَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَهُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا صَلَّى صَلَوَاتٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ نَامَ عَنْهُنَّ قَضَى الْأُولَى فَالْأُولَى، فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ تَرَكَهَا وَصَلَّى مَا قَبْلَهَا وَإِنْ فَاتَهُ وَقْتُهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "الِاخْتِيَارُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَبَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا وَهُوَ خَلْفَ إمَامٍ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ يُصَلِّي الْأُخْرَى". وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قَالَ: "أَقْبَلْنَا حَتَّى دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَقَدْ غَابَتْ الشَّمْسُ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُؤَخِّرُونَ الْمَغْرِبَ، فَرَجَوْتُ أَنْ أُدْرِكَ مَعَهُمْ الصَّلَاةَ، فَأَتَيْتهمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَأَنَا أَحْسَبُهَا الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى الْإِمَامُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ سَأَلْتُ عَنْ الَّذِي فَعَلْتُ، فَكُلُّهُمْ أَخْبَرُونِي بِاَلَّذِي صَنَعْتُ، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا يَوْمئِذٍ مُتَوَافِرِينَ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ. فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ إيجَابُ التَّرْتِيبِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافٌ فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْفَوَائِتِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرِ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَنَا وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُ بَعْدُ فَنَزَلَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَمَا صَلَّى الْعَصْرَ". وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ حَتَّى كَانَ هُوِيٌّ مِنْ اللَّيْلِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعِشَاءَ. وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَلَمَّا صَلَّاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ اقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالتَّرْتِيبُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْفَرْضِ الْمُجْمَلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ فَرْضَانِ قَدْ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فِي الْيَوْمِ

وَاللَّيْلَةِ فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْفَوَائِتِ فِيمَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} يَعْنِي أَنِّي جَعَلْتُ مَنْ رَآك أَحَبَّكَ حَتَّى أَحَبَّكَ فِرْعَوْنُ فَسَلِمْت مِنْ شَرِّهِ وَأَحَبَّتْكَ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ فَتَبَنَّتْكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قَالَ قَتَادَةُ: "لِتُغَذَّى عَلَى مَحَبَّتِي وَإِرَادَتِي". وقَوْله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عن قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} فَقَالَ: "اسْتَأْنِفْ لَهَا نَهَارًا يَا ابْنَ جُبَيْرٍ" ثُمَّ ذَكَرَ فِي مَعْنَاهُ وُقُوعَهُ فِي مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنْهَا، أَوَّلُهَا أَنَّهَا حَمَلَتْهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَ فِرْعَوْنُ يَذْبَحُ الْأَطْفَالَ، ثُمَّ إلْقَاؤُهُ فِي الْيَمِّ، ثُمَّ مَنْعُهُ الرَّضَاعَ إلَّا مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ جَرُّهُ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، ثُمَّ تَنَاوُلُهُ الْجَمْرَةَ بَدَلَ الدُّرَّةِ فَدَرَأَ ذَلِكَ عَنْهُ قَتْلَ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ مَجِيءُ رِجْلٍ مِنْ شِيعَتِهِ يَسْعَى لِيُخْبِرَهُ عَمَّا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِهِ. وَقَالَ مجاهد في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} مَعْنَاهُ: خَلَّصْنَاكَ خَلَاصًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} فإن الاصطناع الإخلاص بالألطاف. ومعنى: {لِنَفْسِي} لِتُصْرَفَ عَلَى إرَادَتِي وَمَحَبَّتِي. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} قِيلَ فِي وَجْهِ سُؤَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لَهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ عَصًا لِيَقَعَ الْمُعْجِزُ لَهَا بَعْدَ التَّثَبُّتِ فِيهَا وَالتَّأَمُّلِ لَهَا، فَإِذًا أَجَابَ مُوسَى بِأَنَّهَا عَصًا يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْإِعْيَاءِ وَيَنْفُضُ بِهَا الْوَرَقَ لِغَنَمِهِ وَأَنَّ لَهُ فِيهَا مَنَافِعُ أُخْرَى فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إعْلَامَ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى السُّؤَالُ مِنْهُ جَوَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ الْإِجَابَةِ بِذِكْرِ مَنَافِعِ الْعَصَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا وَاعْتِدَادًا بِمَنَافِعِهَا وَالْتِزَامًا لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الشُّكْرِ لَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْمَسْأَلَةُ عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَلَمْ تَقَعْ عَنْ مَنَافِعِهَا وَمَا تَصْلُحُ لَهُ، فَلِمَ أَجَابَ عَمَّا لَمْ يُسْأَلْ مِنْهُ؟ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بَدِيًّا بِقَوْلِهِ: هِيَ عَصَايَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَى مَا مَنَحَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مِثْلِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ وَنَشْرِهَا وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] .

وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عن قتادة: {نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: "فِي حَرْثِ قَوْمٍ". وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: "النَّفْشُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّيْلِ وَالْهَمْلُ بِالنَّهَارِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "فَقَضَى أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَضَاءِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَا وَلَكِنْ خُذُوا الْغَنَمَ فَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رَسْلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى الْحَوْلِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُرَّةَ عن مسروق: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا فَاجْتَمَعُوا إلَى دَاوُد فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَوَّلًا تُدْفَعُ الْغَنَمُ إلَى هَؤُلَاءِ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ حَتَّى إذَا عَادَ كَمَا كان ردوا عليهم، فنزلت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إذَا نَفَشَتْ لَيْلًا فِي زَرْعِ رِجْلٍ فَأَفْسَدَتْهُ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ ضَمَانَ مَا أَفْسَدَتْ، وَإِنْ كَانَ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ فِي ذَلِكَ ضَمَانًا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْغَنَمِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهَا فِيهَا. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَضِيَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى إيجَابِ الضَّمَانِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رِجْلٍ فَأَفْسَدَتْهُ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ

حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ حَرَامُ بْنُ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ، وَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَرَامُ بْنُ مُحَيِّصَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ضَمَانَ مَا أَصَابَتْ الْمَاشِيَةُ لَيْلًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحِفْظَ فَقَطْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِ الْحَدِيثِ بِمَتْنِهِ وَسَنَدِهِ. وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ فَقَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ بِمَا حَكَمَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ بِدَفْعِ الْغَنَمِ إلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ لَهُ بِأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ نَفَشَتْ غَنَمُهُ فِي حَرْثِ رِجْلٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْغَنَمِ وَلَا تَسْلِيمُ أَوْلَادِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا مَنْسُوخَانِ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَضَمَّنَتْ الْقِصَّةُ مَعَانٍ، مِنْهَا: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَمِنْهَا كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا الْمَنْسُوخُ مِنْهُ كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الضَّمَانَ نَفْسَهُ مَنْسُوخٌ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ قَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ "جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ"، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْبَهِيمَةِ الْمُنْفَلِتَةِ إذَا أَصَابَتْ إنْسَانًا أَوْ مَالًا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا إذَا لَمْ يُرْسِلْهَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَكَانَ عُمُومُهُ يَنْفِي ضَمَانَ مَا تُصِيبُهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ثَبَتَ بِذَلِكَ نَسْخُ مَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَنُسِخَ مَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ الْبَرَاءِ أَنَّ فِيهَا إيجَابَ الضَّمَانِ لَيْلًا. وَأَيْضًا سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْحُكْمُ بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ أَوْ نَفْيِهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى نَفْيِ ضَمَانِ مَا أَصَابَتْ الْمَاشِيَةُ نَهَارًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهَا لَيْلًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ إذَا كَانَ صَاحِبُهَا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهَا فِيهِ وَيَكُونُ فَائِدَةُ الْخَبَرِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ السَّائِقَ لَهَا بِاللَّيْلِ بَيْنَ الزُّرُوعِ وَالْحَوَائِطِ لَا يَخْلُو مِنْ نَفْشِ بَعْضِ غَنَمِهِ فِي زُرُوعِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حُكْمِهَا إذَا أَصَابَتْ زَرْعًا، وَيَكُونُ فَائِدَةُ الْخَبَرِ إيجَابَ الضَّمَانِ بِسَوْقِهِ وَإِرْسَالِهِ فِي الزُّرُوعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَبَيِّنٌ تَسَاوِي حُكْمِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فِيهِ. وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ كَانَتْ

عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بِأَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا أَرْسَلَهَا لَيْلًا وَسَاقَهَا وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِنَفْشِهَا فِي حَرْثِ الْقَوْمِ، فَأَوْجَبَا عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفَرِيقَانِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْحَادِثَةِ الْقَائِلُونَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، فَاسْتَدَلَّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْمُصِيبُ لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ دَاوُد،; إذْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي قَوْلَيْهِمَا لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ دُونَ دَاوُد مَعْنًى. وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: لَمَّا لَمْ يُعَنَّفْ دَاوُد عَلَى مَقَالَتِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِتَخْطِئَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبَيْنِ، وَتَخْصِيصُهُ لِسُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد كَانَ مُخْطِئًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ وَلَمْ يُصِبْ دَاوُد عَيْنَ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا لِمَا كُلِّفَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ حُكْمَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ جَمِيعًا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّ دَاوُد لَمْ يَكُنْ قَدْ أَبْرَمَ الْحُكْمَ وَلَا أَمْضَى الْقَضِيَّةَ بِمَا قَالَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْفُتْيَا لَا عَلَى جِهَةِ إنْفَاذِ الْقَضَاءِ بِمَا أَفْتَى بِهِ، أَوْ كَانَتْ قَضِيَّةً مُعَلَّقَةً بِشَرِيطَةٍ لَمْ تُفَصَّلْ بَعْدُ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى سُلَيْمَانَ بِالْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَنُسِخَ بِهِ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ دَاوُد أَرَادَ أَنْ يُنْفِذَهُ، قَالُوا: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} يَعْنِي بِهِ تَفْهِيمَهُ الْحُكْمَ النَّاسِخَ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ. آخِرَ سورة الأنبياء.

وَمِنْ سُورَةِ الْحَجِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ أَنَّهَا مَوْضِعُ سُجُودٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا وَفِي الْمُفَصَّلِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ وَسُجُودُ الْمُفَصَّلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "أَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْجَدَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَسُجُودِ الْمُفَصَّلِ وَمَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْ حم: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ ص فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاعْتُدَّ بِآخِرِ الْحَجِّ سُجُودًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي ص وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَجْدَةِ حم: السَّجْدَةُ بِآخِرِ الْآيَتَيْنِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا. وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي النَّجْمِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ سَجَدَ; لِأَنَّهُ صَادَفَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ السُّجُودِ فِيهَا فَأَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ فِعْلُهُ فِيهِ، وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَأَخَّرَهُ لِيَسْجُدَ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمَّارٍ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا: "فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ" وَقَالُوا: "إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ بِسَجْدَتَيْنِ". وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "الْأُولَى عَزْمَةٌ وَالْآخِرَةُ تَعْلِيمٌ". وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ

وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: "أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً". وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ، وَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأُولَى عَزْمَةٌ وَالثَّانِيَةَ تَعْلِيمٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْأُولَى هِيَ السَّجْدَةُ الَّتِي يَجِبُ فِعْلُهَا عِنْدَ التِّلَاوَةِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ذِكْرُ السُّجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ الصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَهُوَ مِثْلُ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّجْدَةُ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَجِّ إنَّمَا هِيَ مَوْعِظَةٌ وَلَيْسَتْ بِسَجْدَةٍ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فَنَحْنُ نَرْكَعُ وَنَسْجُدُ. فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ إنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ السُّجُودِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ الْوَاجِبَةَ هِيَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ أَنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ الرُّكُوعَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَخْصُوصٌ بِهِ الصَّلَاةُ، فَهُوَ إذًا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ انْتِظَامِهَا لِلسُّجُودِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلسُّجُودِ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] وَلَيْسَ ذَلِكَ سَجْدَةً؟ وَقَالَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:98] وَلَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] . قوله تعالى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} قَالَ قَتَادَةُ: "تَامَّةِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ تَامَّةِ الْخَلْقِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "مُصَوَّرَةٍ وَغَيْرِ مُصَوَّرَةٍ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إذَا وَقَعَتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً كُتِبَ رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ". وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ السَّقَطُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْمُضْغَةُ إنْسَانًا كَمَا اقْتَضَى ذَلِكَ فِي الْعَلَقَةِ وَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَنَا بِذَلِكَ عَلَى تَمَامِ قُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ حِينَ خَلَقَ إنْسَانًا سَوِيًّا مُعَدَّلًا بِأَحْسَنِ التَّعْدِيلِ مِنْ غَيْرِ إنْسَانٍ، وَهِيَ الْمُضْغَةُ وَالْعَلَقَةُ وَالنُّطْفَةُ الَّتِي لَا تَخْطِيطَ فِيهَا وَلَا تَرْكِيبَ وَلَا تَعْدِيلَ الْأَعْضَاءِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَكُونَ الْمُضْغَةُ إنْسَانًا كَمَا أَنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ لَيْسَتَا بِإِنْسَانٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ إنْسَانًا لَمْ تَكُنْ حَمْلًا فَلَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ; إذْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهَا الصُّورَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ; إذْ هُمَا لَيْسَتَا بِحَمْلٍ وَلَا تَنْقَضِي بِهِمَا الْعِدَّةُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ الرَّحِمِ. وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي قَدَّمْنَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَالَ: "إذَا وَقَعَتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا"، فَأَخْبَرَ أَنَّ الدَّمَ

الَّذِي تَقْذِفُهُ الرَّحِمُ لَيْسَ بِحَمْلٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ مِنْهُ بَيْنَ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا عَلَقَةً أَوْ سَائِلًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِحَمْلٍ وَأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِهِ; إذْ لَيْسَ هُوَ بِوَلَدٍ، كَمَا أَنَّ الْعَلَقَةَ وَالنُّطْفَةَ لَمَّا لَمْ تَكُونَا وَلَدًا لَمْ تَنْقَضِ بِهِمَا الْعِدَّةُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَعَمَلُهُ ثُمَّ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ". فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَوْ أَلْقَتْهُ عَلَقَةً لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَإِنْ كَانَتْ الْعَلَقَةُ مُسْتَحِيلَةً مِنْ النُّطْفَةِ; إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صُورَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُضْغَةُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهَا صُورَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَقَةِ وَالنُّطْفَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَتَبَيَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْحِمَارِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وُجُودُهُ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْبِنْيَةِ وَالشَّكْلِ وَالتَّصْوِيرِ، فَمَتَى لَمْ يَكُنْ لِلسِّقْطِ شَيْءٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَقَةِ وَالنُّطْفَةِ سَوَاءٌ فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ وَلَدًا. وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا أَسْقَطَتْهُ مِمَّا لَا تَتَبَيَّنُ لَهُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ دَمًا مُجْتَمِعًا أَوْ دَاءً أَوْ مُدَّةً. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَجْعَلَهُ وَلَدًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ احْتِمَالُهُ لَأَنْ يَكُونَ مِمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ وَلَدًا. فَلَا نَجْعَلُهَا مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ بِهِ بِالشَّكِّ، وَعَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَدًا أَوْ لَا يَكُونُ مِنْهُ وَلَدًا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ; إذْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا بِنَفْسِهِ فِي الْحَالِ; لِأَنَّ الْعَلَقَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا وَلَدٌ وَكَذَلِكَ النُّطْفَةُ وَقَدْ تَشْتَمِلُ الرَّحِمُ عَلَيْهِمَا وَتَضُمُّهُمَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ: "النُّطْفَةُ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً"، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ الْعَلَقَةَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قَوْمًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ السِّقْطَ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا تَعْتِقُ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَنَا أَنَّ الْمُضْغَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ قَدْ دَخَلَتْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ كَمَا ذَكَرَ الْمُخَلَّقَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَهُوَ حَمْلٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ إغْفَالٌ مِنْهُ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ الْعَلَقَةَ

وَالْمُضْغَةَ وَلَدٌ وَلَا حَمْلٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ النُّطْفَةِ وَمِنْ التُّرَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ حِينَ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ نُطْفَةً وَلَا عَلَقَةً وَلَا مُضْغَةً; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ وَالنُّطْفَةُ وَلَدًا لَمَا كَانَ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا مِنْهَا; إذْ مَا قَدْ حَصَلَ وَلَدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَدْ خُلِقَ مِنْهُ وَلَدٌ وَهُوَ نَفْسُهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُضْغَةَ الَّتِي لَمْ يَسْتَبِنْ فِيهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِوَلَدٍ. وَقَوْلُهُ: "إنَّ اللَّهَ أَعْلَمَنَا أَنَّ الْمُضْغَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ قَدْ دَخَلَتْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرَ الْمُخَلَّقَةَ" فَإِنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي النُّطْفَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَهَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ كَمَا ذَكَرَ الْمُضْغَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النُّطْفَةُ حَمْلًا وَوَلَدًا لِذِكْرِ اللَّهِ لَهَا فِيمَا خَلَقَ النَّاسَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ وَالْمُخَلَّقَةُ هِيَ الْمُصَوَّرَةُ وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ غَيْرُ الْمُصَوَّرَةِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقُولَ خَلَقَكُمْ مِنْ مُضْغَةٍ مُصَوَّرَةٍ مَعَ كَوْنِ الْمُصَوَّرَةِ وَلَدًا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمُصَوَّرَةِ وَلَدًا مَعَ قَوْلِهِ: "خَلَقَكُمْ مِنْ مُضْغَةٍ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ". قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُخَلَّقَةِ مَا ظَهَرَ فِيهِ بَعْضُ صُورَةِ الْإِنْسَانِ فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "خَلَقَكُمْ مِنْهَا" تَمَامَ الْخَلْقِ وَتَكْمِيلِهِ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُخَلَّقَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّطْفَةِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ فِيهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: "خَلَقَكُمْ مِنْهَا" أَنَّهُ أَنْشَأَ الْوَلَدَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا قَبْلَ ذَلِكَ. هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُهُ. وَأَمَّا قَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ وَضْعُ الْوَلَدِ، فَمَا لَيْسَ بِوَلَدٍ فَلَيْسَ بِمُرَادٍ، وَهَذَا لَا يُشْكَلُ عَلَى أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ أَيْضًا: لَا تَخْلُو هَذِهِ الْمُضْغَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ الْعَلَقَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَلَدًا أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ، فَإِنْ كَانَتْ وَلَدًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ فَحُكْمُهَا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ بِوَلَدٍ إلَى أَنْ يُخْلَقَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ الْوَلَدُ أَبَاهُ إذَا مَاتَ حِينَ تَحْمِلُ بِهِ أُمُّهُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا إغْفَالٌ ثَانٍ وَكَلَامٌ مُنْتَقَضٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسَنَتَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَيْنِ أَوْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ نُطْفَةً وَقْتَ وَفَاةِ الْأَبِ وَقَدْ وَرِثَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ النُّطْفَةَ لَيْسَتْ بِحَمْلٍ وَلَا وَلَدٍ وَأَنَّهُ لَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ وَلَا تَعْتِقُ بِهَا أُمُّ الْوَلَدِ، فَبَانَ بِذَلِكَ فَسَادُ اعْتِلَالِ وَانْتِقَاضُ قَوْلِهِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةُ الْمِيرَاثِ كَوْنَهُ وَلَدًا; لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ هُوَ وَلَدٌ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ بِهِ

الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مِنْ مَائِهِ فَيَرِثُهُ إذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْفِرَاشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَا لَمْ يَلْحَقْ نَسَبُهُ بِالزَّانِي وَكَانَ ابْنًا لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ؟ فَالْمِيرَاثُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ لَا بِأَنَّهُ مِنْ مَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَرِثُ الزَّانِيَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَائِهِ؟ فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مِنْ مَائِهِ دُونَ حُصُولِ النِّسْبَةِ إلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. قَالَ إسْمَاعِيلُ: فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا وَرِثَ أَبَاهُ; لِأَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ حِينَ صَارَ حَيًّا يَرِثُ وَيُورَثُ. قِيلَ لَهُ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَإِنْ تَمَّ خَلْقُهُ حَتَّى يَخْرُجَ حَيًّا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَكَلَامٌ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَصْمَهُ لَمْ يَجْعَلْ وُجُوبَ الْمِيرَاثِ عِلَّةً لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِ الْأُمِّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا يَرِثُ، وَقَدْ يَرِثُ الْوَلَدُ وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ: إذَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدَانِ فَوَضَعَتْ أَحَدَهُمَا وَرِثَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ أَبِيهِ وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ الْآخَرَ. فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يَرِثْهُ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ قَدْ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ وَقَدْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا يَرِثُ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلْآخَرِ وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ إسْمَاعِيلُ: فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ حَمْلٌ وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ اللَّهُ بِحُكْمٍ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ، وَالنِّسَاءُ يَعْرِفْنَ ذَلِكَ وَيُفَرِّقْنَ بَيْنَ لَحْمٍ أَوْ دَمٍ سَقَطَ مِنْ بَدَنِهَا أَوْ رَحِمِهَا وَبَيْنَ الْعَلَقَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ لَحْمُ الْمَرْأَةِ وَدَمُهَا مِنْ الْعَلَقَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ مَنْ يَعْرِفُ، فَإِذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَنَّهَا عَلَقَةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إنَّهَا إذَا أَسْقَطَتْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ يُرَى النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ كَانَ يَجِيءُ مِنْهَا الْوَلَدُ لَوْ بَقِيَتْ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ بِهَا الِاسْتِيلَادُ، وَإِنْ قُلْنَ لَا يَجِيءُ مِنْ مِثْلِهَا وَلَدٌ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِيلَادُ. وَعَسَى أَنْ يَكُونَ إسْمَاعِيلُ إنَّمَا أَخَذَ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَلَامِ اسْتِحَالَةً وَفَسَادًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَلَقَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْوَلَدُ وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ مِنْهَا الْوَلَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَاهَدَ عَلَقًا كَانَ مِنْهُ الْوَلَدُ وَعَلَقًا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ الْوَلَدُ فَيُعْرَفُ بِالْعَادَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهُ وَلَدٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَلَدٌ بِعَلَامَةٍ تُوجَدُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ، كَمَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ السَّحَابَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْمَطَرُ وَالسَّحَابَةَ الَّتِي لَا يَكُونُ مِنْهَا الْمَطَرُ وَذَلِكَ بِمَا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ الْعَلَامَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُخْلِفُ فِي الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ، فَأَمَّا الْعَلَقَةُ الَّتِي كَانَ مِنْهَا الْوَلَدُ فَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُشَاهِدَهَا إنْسَانٌ قَبْلَ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهَا مُتَمَيِّزَةً مِنْ الْعَلَقَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنْهَا وَلَدٌ، وذلك

شَيْءٌ قَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ إلَّا مَنْ أَطْلَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ حِينَ يَأْمُرُهُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] . وَقَالَ: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ جَلَّ وَتَعَالَى، وَلَكِنَّهُ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِالْأَرْحَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّ أَحَدًا غَيْرَهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وَاَللَّهُ أعلم

بَابُ بَيْعِ أَرَاضِي مَكَّةَ وَإِجَارَةِ بُيُوتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَكَّةَ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "كَانُوا يَرَوْنَ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدًا سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي". وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَالَ: "مَنْ يَجِيءُ مِنْ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ سَوَاءٌ فِي الْمَنَازِلِ يَنْزِلُونَ حَيْثُ شَاءُوا غَيْرَ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ بَيْتِهِ سَاكِنَهُ" قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} : أهله، {وَالْبَادِ} : مَنْ يَأْتِيهِ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَأَهْلُهُ فِي الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْبَادِي إجَارَةَ الْمَنْزِلِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَكَّةُ حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا". وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَرَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: "كَانَتْ رِبَاعُ مَكَّةَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنْ اسْتَغْنَى سَكَنَ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ". وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ عُمَرَ نَهَى أَهْلَ مَكَّة أَنْ يُغْلِقُوا أَبْوَابَ دُورِهِمْ دُونَ الْحَاجِّ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا أَكَلَ نَارًا فِي بَطْنِهِ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "يُكْرَهُ بَيْعُ بُيُوتِ مَكَّةَ وَكِرَاؤُهَا". وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ: "كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ رِبَاعِ مَكَّةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ

وَالتَّابِعِينَ مَا وَصَفْنَا مِنْ كَرَاهَةِ بَيْعِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِلْحَرَمِ كُلِّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ إبَاحَةُ بَيْعِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَكِرَاؤُهَا، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِي بَيْتٌ بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أُكْرِيهِ، فَسَأَلْتُ طَاوُسًا فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وعطاء: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَالَا: "سَوَاءٌ فِي تَعْظِيمِ الْبَلَدِ وَتَحْرِيمِهِ" وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخَ قَالَ: "اشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ"زَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَعْمَرٍ: "فَأَخَذَهَا عُمَرُ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَأَكْرَهُ بَيْعَ أَرَاضِيهَا" وَرَوَى سُلَيْمَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "أَكْرَهُ إجَارَةَ بُيُوتِ مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ وَفِي الرَّجُلِ يُقِيمُ ثُمَّ يَرْجِعُ، فَأَمَّا الْمُقِيمُ وَالْمُجَاوِرُ فَلَا نَرَى بِأَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَأْسًا". وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَيْعَ دُورِ مَكَّةَ جَائِزٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَتَأَوَّلْ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى الْحَرَمِ كُلِّهِ إلَّا وَالِاسْمُ شَامِلٌ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى مَعْنًى لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا وُقُوعَ اسْمِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْحَرَمِ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:7] وَالْمُرَادُ فِيمَا رُوِيَ: الْحُدَيْبِيَةُ، وَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْحَرَمِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا عَلَى شَفِيرِ الْحَرَمِ. وَرَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَضْرِبُهُ فِي الْحِلِّ وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هَهُنَا الْحَرَمَ كُلَّهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] وَالْمُرَادُ إخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عِبَارَةً عَنْ الْحَرَمِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْحَرَمِ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالظُّلْمِ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ اقْتَضَى قَوْلُهُ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} تَسَاوِيَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي سُكْنَاهُ وَالْمُقَامِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ وَحُرْمَتِهِ. قِيلَ لَهُ: هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ وَحُرْمَتِهِ وَمِنْ تَسَاوِيهِمْ فِي سُكْنَاهُ وَالْمُقَامِ بِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ; لِأَنَّ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي سُكْنَاهُ كَمَا لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ لِلْمُشْتَرِي تَسَلُّمُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ حَسَبَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَمْلَاكِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غير

مَمْلُوكٍ، وَأَمَّا إجَارَةُ الْبُيُوتِ فَإِنَّمَا أَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ مِلْكًا لِلْمُؤَاجِرِ فَيَأْخُذُ أُجْرَةَ مِلْكِهِ، فَأَمَّا أُجْرَةُ الْأَرْضِ فَلَا تَجُوزُ، وَهُوَ مِثْلُ بِنَاءِ الرَّجُلِ فِي أَرْضٍ لِآخَرَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ إجَارَةُ الْبِنَاءِ. وَقَوْلُهُ: {الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْعَاكِفَ أَهْلُهُ وَالْبَادِيَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فَإِنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ; لِأَنَّهُ مَائِلٌ إلَى شِقِّ الْقَبْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] وَقَالَ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] أَيْ لِسَانُ الَّذِي يُومِئُونَ إلَيْهِ. وَ "الْبَاءُ" فِي قوله: {بِإِلْحَادٍ} زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وقَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ "ظُلْمُ الْخَادِمِ فَمَا فَوْقَهُ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ". وَقَالَ عُمَرُ "احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "الْإِلْحَادُ بِمَكَّةَ الذُّنُوبُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "أَرَادَ بِالْإِلْحَادِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْإِلْحَادُ مَذْمُومٌ; لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَيْلِ عَنْ الْحَقِّ وَلَا يُطْلَقُ فِي الْمَيْلِ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ، فَالْإِلْحَادُ اسْمٌ مَذْمُومٌ، وَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَمَ بِالْوَعِيدِ فِي الْمُلْحِدِ فِيهِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُتَأَوِّلُونَ لِلْآيَةِ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْإِلْحَادِ مُرَادٌ بِهِ مَنْ أَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ كُلِّهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِ الْمَسْجِدُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَمُ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} هَذِهِ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْحَرَمِ وَلَيْسَ لِلْحَرَمِ ذكر متقدم إلا قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ هَهُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَقَدْ رَوَى عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ "احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ، وَلَيْسَ الْجَالِبُ كَالْمُقِيمِ". وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الذنوب مرادا بقوله: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فَيَكُونُ الِاحْتِكَارُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالشِّرْكُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ فِي الْحَرَمِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَرِهَ الْجِوَارَ بِمَكَّة ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الذُّنُوبُ بِهَا تَتَضَاعَفُ عُقُوبَتُهَا آثَرُوا السَّلَامَةَ فِي تَرْكِ الْجِوَارِ بِهَا مَخَافَةَ مُوَاقَعَةِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَتَضَاعَفُ عُقُوبَتُهَا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يُلْحِدُ بِمَكَّةَ رِجْلٌ عَلَيْهِ مِثْلُ نِصْفِ عَذَابِ أَهْلِ الْأَرْضِ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ وَرَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ".

قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} رَوَى مُعْتَمِرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكَيْفَ أُؤْذِنُهُمْ؟ قَالَ: تَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا قَالَ: فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا فَصَارَتْ التَّلْبِيَةُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لَمَّا ابْتَنَى إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَيْتَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ رَبَّكُمْ قَدْ اتَّخَذَ بَيْتًا وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَحُجُّوهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْ صَخْرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ أَكَمَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ شَيْءٍ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ". وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْحَجِّ وَأَمْرُهُ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْحَجِّ بَاقِيًا إلَى أَنْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُسِخَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَجَّتَيْنِ وَحَجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحُجُّونَ عَلَى تَخَالِيطَ وَأَشْيَاءَ قَدْ أَدْخَلُوهَا فِي الْحَجِّ وَيُلَبُّونَ تَلْبِيَةَ الشِّرْكِ، فَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إبْرَاهِيمَ فِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاقِيًا حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَيْنِ بَعْدَمَا بَعَثَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْأُولَى فِيهِمَا هِيَ الْفَرْضُ، وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ مَنْسُوخًا عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَهُ فِي التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وَقِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ; لِأَنَّا لَا نَظُنُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْخِيرَ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَأْمُورِ فِيهِ; إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَأَسْبَقِهِمْ إلَى أَدَاءِ فُرُوضِهِ، وَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ السَّالِفِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِمُسَابِقَتِهِمْ إلَى الْخَيْرَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَخَلَّفَ عَنْ مَنْزِلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمُسَابَقَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ بَلْ كَانَ حَظُّهُ مِنْهَا أَوْفَى مِنْ حَظِّ كُلِّ أَحَدٍ لِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِ تَأْخِيرُ الْحَجِّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِتَعْجِيلِهِ فِيمَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ"، فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَ غَيْرَهُ بِتَعْجِيلِ الْحَجِّ وَيُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَخِّرْ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ. فَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ لَزِمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ تَارِيخُ نُزُولِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ سَنَةِ عَشْرٍ، فَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ اتَّفَقَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجُّهُ مِنْ

إدْخَالِ النَّسِيءِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي وَقْتِ الْحَجِّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ لِيَكُونَ حَجُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهِ الْحَجَّ لِيَحْضُرَ النَّاسُ فَيَقْتَدُوا بِهِ. وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ بَاقِيًا مُنْذُ زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْحَجَّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ هُوَ الْفَرْضُ وَمَا عَدَاهُ نَفْلٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْحَجَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَنْ أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ.

بَابُ الْحَجِّ مَاشِيًا رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ إلَّا أَنِّي وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ حَجَجْتُ مَاشِيًا; لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَجَّا مَاشِيَيْنِ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعُرَنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الرُّصَافِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي فِي شَيْبَتِي إلَّا أَنْ لَمْ أَحُجَّ رَاجِلًا، وَلَقَدْ حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِيًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ، وَلَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إنَّهُ لَيُعْطِي النَّعْلَ وَيُمْسِكُ النَّعْلَ وَيُعْطِي الْخُفَّ وَيُمْسِكُ الْخُفَّ". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ زِرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كَانُوا يَحُجُّونَ وَلَا يَرْكَبُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: "كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَتُقَادُ دَوَابُّهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْحَجِّ مَاشِيًا وَرَاكِبًا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ السَّلَفِ فِي اخْتِيَارِهِمْ الْحَجَّ مَاشِيًا وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ أُمَّ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ قُرْبَةٌ قَدْ لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا هَدْيًا عِنْدَ تَرْكِهَا الْمَشْيَ. قَوْله تَعَالَى: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} رَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} قَالَ: "بَلَدٌ بَعِيدٌ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "مَكَانٌ بَعِيدٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْفَجُّ الطَّرِيقُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ طَرِيقٍ بَعِيدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: "الْعُمْقُ الذَّاهِبُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْعُمْقُ الذَّاهِبُ فِي الْأَرْضِ". قَالَ رُؤْبَةُ: وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي المخترق

فَأَرَادَ بِالْعُمْقِ هَذَا الذَّاهِبَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَالْعَمِيقُ الْبَعِيدُ لِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَقْطَعْنَ نُورَ النَّازِحِ1 الْعَمِيقِ يَعْنِي الْبَعِيدَ. وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ أُمَيَّةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: "مَنْ أَهَلَّ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَحْرَمَ مِنْ الْكُوفَةِ بِعُمْرَةٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الشَّامِ فِي الشِّتَاءِ، وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَحْرَمَ مِنْ الْبَصْرَةِ. وَرَوَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ: "أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ". وَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ: "مَا أَرَى أَنْ يَعْتَمِرَ إلَّا مِنْ حَيْثُ ابْتَدَأَ" وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: الرَّجُلُ يُحْرِمُ مِنْ سَمَرْقَنْدَ أَوْ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ الْبَصْرَةِ أَوْ الْكُوفَةِ؟ فَقَالَ: "يَا لَيْتَنَا نَسْلَمُ مِنْ وَقْتِنَا الَّذِي وُقِّتَ لَنَا"، فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا يَخَافُ مِنْ مُوَاقَعَةِ مَا يحظره الإحرام لا لبعد المسافة.

_ 1 قوله: "نور النازح" هكذا في أكثر النسخ, وفي بعضها: "بعد النازح" فليحرر "لمصححه".

بَابُ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "التِّجَارَةَ وَمَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ". وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَسْوَاقٌ كَانَتْ، مَا ذَكَرَ الْمَنَافِعَ إلَّا لِلدُّنْيَا". وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: "الْمَغْفِرَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ مَنَافِعُ الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ التِّجَارَةُ جَائِزَةً أَنْ تُرَادَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ دُعُوا وَأُمِرُوا بِالْحَجِّ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنَافِعَ الدُّنْيَا خَاصَّةً; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الدُّعَاءُ إلَى الْحَجِّ وَاقِعًا لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا الْحَجُّ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَنَحْرُ الْهَدْيِ وَسَائِرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا مَنَافِعُ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ وَالرُّخْصَةِ فِيهَا دُونَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَجَعَلَ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

بَابُ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَاذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيِّ الْقَاضِي قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ إلَى أَبِي يُوسُفَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبُو يُوسُفَ جَوَابَ كِتَابِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَذْهَبُ; لِأَنَّهُ قَالَ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ الْقَارِيّ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْهُمْ أَصَحُّ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا قِيلَ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٌ; لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وَأَنَّهُ سَمَّاهَا مَعْدُودَةً لِقِلَّتِهَا. وَقِيلَ لِأَيَّامِ الْعَشْرِ مَعْلُومَاتٌ حَثًّا عَلَى عِلْمِهَا وَحِسَابِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا، فَكَأَنَّهُ أَمَرَنَا بِمَعْرِفَةِ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَطَلَبِ الْهِلَالِ فِيهِ حَتَّى نَعُدَّ عَشَرَةً وَيَكُونَ آخِرُهُنَّ يَوْمَ النَّحْرِ. وَيُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِذَلِكَ فِي أَنَّ تَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ مَقْصُورٌ عَلَى أَيَّامِ الْعَشْرِ مَفْعُولٌ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَهُمَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيَّامُ النَّحْرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا قال: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَمَعْنَاهُ: لِمَا هَدَاكُمْ، وَكَمَا تَقُولُ: اُشْكُرْ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ، وَمَعْنَاهُ: لِنِعَمِهِ. وَأَيْضًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} يُرِيدُ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَبِتَكْرَارِ السِّنِينَ عَلَيْهِ تَصِيرُ أَيَّامًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ سَائِرَ الْهَدَايَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تَطَوُّعٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ

بَعْدَهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ النَّحْرَ يَوْمَانِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "النَّحْرُ يَوْمٌ وَاحِدٌ". وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَا: "الْأَضْحَى إلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ خِلَافُهُمْ; إذْ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافُهُ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبِيلَ تَقْدِيرِ أَيَّامِ النَّحْرِ التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ; إذْ لَا سَبِيلَ إلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، فَلَمَّا قَالَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالثَّلَاثَةِ صَارَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا، كَمَا قُلْنَا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَتَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ فِي إكْمَالِ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ إذَا قَالَ بِهِ قَائِلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وَكَانَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَيَّامِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ يَنُوبُ عَنْ الْآخَرِ، فَلَمَّا وَجَدْنَا الرَّمْيَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَوَجَدْنَا النَّحْرَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: يَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَجَبَ أَنْ نُوجِبَ فَرْقًا بَيْنَهُمَا، لِإِثْبَاتِ فَائِدَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَا لَيْسَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَ النَّحْرَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عن جبير بن مطعم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ عَرَفَاتِ مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ عُرَنَةَ، وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ مُحَسِّرٍ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ"، وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ مِنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِ عَنْ سَهْوٍ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَصْلَهُ مَا رَوَاهُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حُسَيْنٍ يُخْبِرُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعَطَاءٍ يَسْمَعُ قَالَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ"، فَهَذَا أَصْلُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: "وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ"، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّحْرَ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ وَكَانَ أَقَلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةً وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الثَّلَاثَةُ، وَمَا زَادَ لَمْ تقم عليه الدلالة فلم يثبت.

في التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا الذِّكْرِ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ; لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلَى قَوْلِهِ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ هِيَ أَفْعَالُ الْمَنَاسِكِ الَّتِي يَقْتَضِي الْإِحْرَامُ إيجَابَهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ وَاجِبَةً; إذْ كَانَ الدُّعَاءُ إلَى الْحَجِّ وَقَعَ لَهَا كَوُقُوعِهَا لِسَائِرِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هِيَ الذِّكْرُ الْمَفْعُولُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ أَوْ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ هَذَا الذِّكْرِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ عَلَى الْهَدَايَا الْمُوجَبَةِ بِالْإِحْرَامِ لِلْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ وَمَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِالْإِحْرَامِ وَيُرَادُ بِهَا تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ وَالذِّكْرُ الْمَفْعُولُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ; إذْ لَمْ تَكُنْ إرَادَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ مُمْتَنِعَةً بِالْآيَةِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ حِينَ يَنْحَرُ: لَا إلَهَ إلَّا الله والله أكبر". وروى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قُلْتُ: كَيْفَ تَقُولُ إذَا نَحَرْتَ؟ قَالَ: أَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ شَرِيفٍ: "أَنَّ عَلِيًّا ضَحَّى يَوْمَ النَّحْرِ بِكَبْشٍ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ وَمِنْ عَلِيٍّ لَكَ.

باب في أَكْلُ لُحُومِ الْهَدَايَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ الْأَكْلِ، إلَّا أَنَّ السَّلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَضَاحِيّ وَهَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ أَوْ الْهَدَايَا الَّتِي تَجِبُ مِنْ جِنَايَاتٍ تَقَعُ مِنْ الْمُحْرِمِ فِي الْإِحْرَامِ نَحْوَ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَا يَجِبُ عَلَى اللَّابِسِ وَالْمُتَطَيِّبِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى وَهَدْيِ الْإِحْصَارِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا دِمَاءُ الْجِنَايَاتِ فَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ الْأَكْلُ مِنْهَا، وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ; لِأَنَّ النَّاسَ فِي دَمِ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُبِيحُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَلَا يُوجِبُهُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الفقهاء أن قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: "إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا

حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ البدن حتى نزلت: {فَكُلُوا مِنْهَا} فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ. وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْر عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا ذَبَحُوا لَطَّخُوا بِالدَّمِ وَجْهَ الْكَعْبَةِ وَشَرَّحُوا اللَّحْمَ وَوَضَعُوهُ عَلَى الْحِجَارَةِ وَقَالُوا لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ شَيْئًا جَعَلْنَاهُ لِلَّهِ حَتَّى تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ جَاءَ النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: شَيْئًا كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَلَا نَصْنَعُهُ الْآنَ فَإِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ؟ فأنزل الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلَّهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: فَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ الْأَكْلَ فَإِنْ شِئْتَ فَكُلْ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي أُمِرْنَا بِالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا هِيَ دَمُ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ شَامِلَةً لِدَمِ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ وَسَائِرِ الدِّمَاءِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلَا دَمَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَفْعَالُ إلَّا دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ; إذْ كَانَ سَائِرُ الدِّمَاءِ جَائِزًا لَهُ فِعْلُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَبَعْدَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا دَمُ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُمَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ قَوْلِهِ. وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَغَيْرهمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ". وَرَوَى جَابِرٌ أَيْضًا وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَهْدَى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ نَحَرَ بِيَدِهِ مِنْهَا سِتِّينَ وَأَمَرَ بِبَقِيَّتِهَا فَنُحِرَتْ وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِضْعَةً فَجُمِعَتْ فِي قِدْرٍ وَطُبِخَتْ وَأَكَلَ مِنْهَا وَتَحَسَّى مِنْ الْمَرَقَةِ فَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَمِ الْقِرَانِ". وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ وَأَنَّ الدَّمَ الْوَاجِبَ بِهِ إنَّمَا هُوَ نُسُكٌ وَلَيْسَ بِجُبْرَانٍ لِنَقْصٍ أَدْخَلَهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَمَّا كَانَ نُسُكًا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ كَمَا يَأْكُلُ مِنْ الْأَضَاحِيّ وَالتَّطَوُّعِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: "إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ فَلَا أَحِلُّ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْته مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً"، فَلَوْ كَانَ هَدْيُهُ تَطَوُّعًا لَمَا مَنَعَهُ الْإِحْلَالَ; لِأَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ لَا يَمْنَعُ الْإِحْلَالَ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا فَقَدْ كَانَ إحْرَامُ الْحَجِّ يَمْنَعُهُ الْإِحْلَالَ، فَلَا تَأْثِيرَ لِلْهَدْيِ فِي ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُنْ إحْرَامُ الْحَجِّ مَانِعًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ الْإِحْلَالِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ; لِأَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ كَانَ جَائِزًا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ أَنْ يَتَحَلَّلُوا بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مُفْرِدًا

بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ الْإِحْلَالُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ فَيَمْنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الْإِحْلَالِ، وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَانِهِ وَكَانَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ الْإِحْلَالِ سَوْقَ الْهَدْيِ دُونَ إحْرَامِ الْحَجِّ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَدْيَ الْقِرَانِ لَا التَّطَوُّعِ; إذْ لَا تَأْثِيرَ لِهَدْيِ التَّطَوُّعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْإِحْلَالِ بِحَالٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقَالَ قُلْ حَجَّةً وَعُمْرَةً"، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُخَالِفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ. وَرِوَايَةُ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ لَا يُعَارِضُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى الْقِرَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَاوِيَ الْقِرَانِ قَدْ عَلِمَ زِيَادَةَ إحْرَامٍ لَمْ يَعْلَمْهُ الْآخَرُ فَهُوَ أَوْلَى، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَاوِي الْإِفْرَادِ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ" وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْعُمْرَةَ، أَوْ سَمِعَهُ ذَكَرَ الْحَجَّ دُونَ الْعُمْرَةِ وَظَنَّ أَنَّهُ مُفْرِدٌ، إذْ جَائِزٌ لِلْقَارِنِ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ دُونَ الْعُمْرَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَجَائِزٌ أَنْ يُلَبِّيَ بِهِمَا مَعًا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا وَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَبَعْضُهُمْ سَمِعَهُ يُلَبِّي بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ كَانَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى الزِّيَادَةَ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ أَفْرَدَ الْحَجَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ، وَأَفَادَ أَنَّهُ أَفْرَدَ أَفْعَالَ الْحَجِّ وَأَفْرَدَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ لِلْإِحْرَامَيْنِ عَلَى فِعْلِ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَأَبْطَلَ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ يُجِيزُ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنْ كُلِّ الْهَدْيِ يُؤْكَلُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ فِدَاءٍ أَوْ جَزَاءٍ أَوْ نَذْرٍ". وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: "لَا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ". وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ قَالَا: "لَا يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ كُلِّهِ إلَّا الْجَزَاءُ". فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ قَدْ أَجَازُوا الْأَكْلَ مِنْ دَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ حَظَرَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} قَالَ: "مَنْ سَأَلَكَ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْبَائِسُ الَّذِي يَسْأَلُ بِيَدِهِ إذَا سَأَلَ". وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ بَائِسًا لِظُهُورِ أَثَرِ الْبُؤْسِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَمُدَّ يَدَهُ لِلْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالْفَقْرِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمِسْكِينِ; لِأَنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ هُوَ فِي نِهَايَةِ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ السُّكُونُ لِلْحَاجَةِ وَسُوءِ الْحَالِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ انْتَظَمَتْ سَائِرَ الْهَدَايَا وَالْأَضَاحِيّ وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لَإِبَاحَة الْأَكْلِ مِنْهَا وَالنَّدْبِ إلَى الصَّدَقَةِ بِبَعْضِهَا. وَقَدَّرَ أَصْحَابُنَا فِيهِ الصَّدَقَةَ بِالثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُحُومِ الْأَضَاحِيّ: "فَكُلُوا وَادَّخِرُوا" فَجَعَلُوا

الثُّلُثَ لِلْأَكْلِ وَالثُّلُثَ لِلِادِّخَارِ وَالثُّلُثَ لِلْبَائِسِ الْفَقِيرِ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ بَيْعِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكُلُوا وَادَّخِرُوا" وَفِي ذَلِكَ مَنْعُ الْبَيْعِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَقَالَ: "اقْسِمْ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا وَلَا تُعْطِ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا فَإِنَّا نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا"، فَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا أُجْرَةُ الْجَازِرِ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعٌ مِنْ الْبَيْعِ; لِأَنَّ إعْطَاءَ الْجَازِرِ ذَلِكَ مِنْ أُجْرَتِهِ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ. وَلَمَّا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا مِنْ. غَيْرِ جِهَةِ الْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: "يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ" وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ مَسْرُوقٌ يَتَّخِذُ مَسْكَ أُضْحِيَّتِهِ مُصَلًّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمَّا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطَى الْجَازِرُ مِنْ الْهَدْيِ شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا وَقَالَ: "إنَّا نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحْظُورَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْأُجْرَةِ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عَلِيٍّ: "وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا" وَفِي بَعْضِهَا: "أَنْ لَا أُعْطِيَهُ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْ غَيْرِ أُجْرَتِهِ كَمَا يُعْطِي سَائِرَ النَّاسِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى نَحْرِ الْبُدْنِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا" وَهُوَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مَعْلُومٍ. وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا الْإِجَارَةَ عَلَى ذَبْحِ شَاةٍ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِجَارَةَ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ بِقِصَاصٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الذَّبْحَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ وَالْقَتْلُ مُبْهَمٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا يَدْرِي أَيَقْتُلُهُ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرْبَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. قَوْله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "التَّفَثُ الذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جبير في قوله: {تَفَثَهُمْ} قَالَ: "الْمَنَاسِكُ". وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "نُسُكُهُمْ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَيْسٍ عن عطاء: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قَالَ: "الشَّعْرُ وَالْأَظْفَارُ". وَقِيلَ: "التَّفَثُ قَشَفُ الْإِحْرَامِ وَقَضَاؤُهُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ وَالِاغْتِسَالِ وَنَحْوِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا تَأَوَّلَ السَّلَفُ قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ قَضَائِهِ حَلْقَ الرَّأْسِ; لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لَهُ لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ; إذْ لَا يُسَوَّغُ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا لَيْسَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَلْقِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي الْإِحْرَامِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ

يَزْعُمُ أَنَّهُ إطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ; إذْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَحْظُورَةً قَبْلَ الْإِحْلَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِقَضَاءِ التَّفَثِ قَدْ انْتَظَمَ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ السَّلَفِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ، فَكَذَلِكَ الْحَلْقُ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ الْإِيجَابُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ، فَكَذَلِكَ الْحَلْقُ. وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْرُ مَا نَذَرُوا مِنْ الْبُدْنِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كُلُّ مَا نُذِرَ فِي الْحَجِّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ نَحْرَ الْبُدْنِ الْمَنْذُورَةِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا نُذِرَ نَحْرُهُ مِنْ الْبُدْنِ وَالْهَدَايَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ الذَّبْحَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَأَمْرِهِ إيَّانَا بِالْأَكْلِ مِنْهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} فِي غَيْرِ الْمَنْذُورِ بِهِ وَهُوَ دَمُ التَّطَوُّعِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْهَدْيَ الْمَنْذُورَ أَنَّ دَمَ النَّذْرِ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَكْلِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّذْرَ، وَاسْتَأْنَفَ ذِكْرَ النَّذْرِ وَأَفَادَ بِهِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَبْحَ النَّذْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَالثَّالِثُ إيجَابُ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْمَنْذُورِ دُونَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَائِرَ النُّذُورِ فِي الْحَجِّ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ طَوَافٍ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ كُلُّ نَذْرٍ إلَى أَجَلٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ نَذَرَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ نَحْوَهَا أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْمَنْذُورِ.

بَابُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فروي عن الحسن أنه قال: " {وَلْيَطَّوَّفُوا} طَوَافَ الزِّيَارَةِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الطَّوَافُ الْوَاجِبُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَالْأَوَامِرُ عَلَى الْوُجُوبِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ، وَلَا طَوَافَ مَفْعُولٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ الذَّبْحِ إلَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ قَدِمُوا مَكَّةَ وَحَلُّوا بِهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ وَجَعَلُوهُ عُمْرَةً إلَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ ساق

الْهَدْيَ فَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الْإِحْلَالِ وَمَضَى عَلَى حَجَّتِهِ. قِيل لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ عَقِيبَ الذَّبْحِ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ إنَّمَا يَكُونُ يَوْمَ النَّحْرِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَحَقِيقَةُ "ثُمَّ" لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي، وَطَوَافُ الْقُدُومِ مَفْعُولٌ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} هُوَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِي صَرْفِ الْمَعْنَى إلَيْهِ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الطَّوَافَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمُوا مَكَّةَ لَكَانَ مَنْسُوخًا; لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّوَافَ إنَّمَا أُمِرُوا بِهِ لِفَسْخِ الْحَجِّ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَبِمَا رَوَى رَبِيعَةُ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَرَأَيْتَ فَسْخَ حَجَّتِنَا لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا يَطُوفُ الْحَاجُّ لِلْقُدُومِ وَإِنَّهُ إنْ طَافَ قَبْلَ عَرَفَةَ صَارَتْ حَجَّتُهُ عُمْرَةً" وَكَانَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فذهب إلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ قَبْلَهُ قَبْلَ عَرَفَةَ أَوْ بَعْدَهُ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ وَأَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ قَبْلَ تَمَامِهِ جَائِزٌ بِأَنْ يَطُوفَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيَصِيرَ حَجُّهُ عُمْرَةً. وَقَدْ ثَبَتَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} نَسْخُهُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا أَرَادَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِقَوْلِهِ: "مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ"، وَذَهَبَ فِيهِ إلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ تَوْقِيفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَى أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ كَانَ لَهُمْ خَاصَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} عَلَيْهِ، فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ; إذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ، وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ تَأْخِيرِهِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّهُ حَجَّ مَعَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ لَمْ يَزُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْبَيْتَ إلَى يَوْمِ النَّفْرِ إلَّا رِجَالًا كَانَتْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ فَتَعَجَّلُوا"، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا النَّفْرَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَمَا جَازَ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى إبَاحَةِ تَأْخِيرِهِ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النحر

أَخَّرْنَاهُ وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "مَنْ أَخَّرَهُ إلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا شَيْءَ عَلَيْهِ". فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ "ثُمَّ" تَقْتَضِي التَّرَاخِي وَجَبَ جَوَازُ تَأْخِيرِهِ إلَى أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ الطَّائِفُ. قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي إيجَابَ تَأْخِيرِهِ إذَا حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ وَاجِبًا وَكَانَ فِعْلُهُ وَاجِبًا لَا مَحَالَةَ اقْتَضَى ذَلِكَ لُزُومَ فِعْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي أُمِرَ فِيهِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ، فَاسْتِدْلَالُكَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ أَبَدًا غَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ كَوْنِ "ثُمَّ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرَ مُرَادٍ بِهَا حَقِيقَةُ مَعْنَاهَا مِنْ وُجُوبِ فِعْلِهِ عَلَى التَّرَاخِي، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إنَّ عَلَيْهِ دَمًا; لِأَنَّ قَوْله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قَدْ اقْتَضَى فِعْلَ الْحَلْقِ عَلَى الْفَوْرِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَبَاحَ تَأْخِيرَهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يُبِحْهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ النَّفْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ النَّحْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وَيَمْتَنِعُ إبَاحَةُ النَّفْرِ قَبْلَ تَقْدِيمِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ قَبْلَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ النَّحْرِ، فَإِذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الطَّوَافُ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَأْخِيرِهِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ لَزِمَهُ جُبْرَانُهُ بِدَمٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} لَمَّا كَانَ لَفْظًا ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ اقْتَضَى جَوَازَ الطَّوَافِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَهُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ عُرْيَانَ أَوْ مَنْكُوسًا أَوْ زَحْفًا; إذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ وَمَا ذَكَرْنَا شَرْطًا فِيهِ، وَلَوْ شَرَطْنَا فِيهِ الطَّهَارَةَ وَمَا ذَكَرْنَا كُنَّا زَائِدِينَ فِي النَّصِّ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ غَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُقُوعِ الطَّوَافِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ وَإِنَّ فِعْلَهُ. عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يَقْتَضِي جَوَازَ أَيِّ ذَلِكَ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ; إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِنْ فَعَلَ الطَّوَافَ قَبْلَ قَضَاءِ التَّفَثِ أَوْ قَضَى التَّفَثَ ثُمَّ طَافَ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنْ يُجْزِئَ جَمِيعُ ذَلِكَ; إذْ "الْوَاوُ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي إبَاحَةِ الْحَلْقِ وَاللُّبْسِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَيْضًا فِي حَظْرِ الْجِمَاعِ قَبْلَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الطِّيبِ وَالصَّيْدِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: "هُمَا مُبَاحَانِ قَبْلَ الطَّوَافِ" وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ: "لَا تَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَالصَّيْدُ حَتَّى يَطُوفَ لِلزِّيَارَةِ". وَقَالَ قَوْمٌ: "لَا تَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَالصَّيْدُ حَتَّى يَطُوفَ" وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عيينة عن

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى إبَاحَةِ اللُّبْسِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَلَيْسَ لَهُمَا تَأْثِيرٌ فِي إفْسَادِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ وَالصَّيْدُ مِثْلَهُمَا. وقَوْله تَعَالَى: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: "إنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ; لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ الْجَبَابِرَةِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أُعْتِقَ مِنْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْجَبَابِرَةُ". وَقِيلَ: "إنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، بَنَاهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ وَلَدُهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ أَقْدَمُ بَيْتٍ، فَسُمِّيَ لِذَلِكَ عَتِيقًا". قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اجْتِنَابَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتِعْظَامًا لِمُوَاقَعَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي إحْرَامِهِ صِيَانَةً لِحَجِّهِ وَإِحْرَامِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ مِنْ تَرْكِ اسْتِعْظَامِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. وَالثَّانِي: وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي حَالِ إحْرَامِكُمْ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ. قَوْله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} يَعْنِي: اجْتَنِبُوا تَعْظِيمَ الْأَوْثَانِ فَلَا تُعَظِّمُوهَا وَاجْتَنِبُوا الذَّبَائِحَ لَهَا عَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَسَمَّاهَا رِجْسًا اسْتِقْذَارًا لَهَا وَاسْتِخْفَافًا بِهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِاسْتِقْذَارِهَا; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنْحَرُونَ عَلَيْهَا هَدَايَاهُمْ وَيَصُبُّونَ عَلَيْهَا الدِّمَاءَ وَكَانُوا مَعَ هَذِهِ النَّجَاسَاتِ يُعَظِّمُونَهَا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَعْظِيمِهَا وَعِبَادَتِهَا وَسَمَّاهَا رِجْسًا لِقَذَارَتِهَا وَنَجَاسَتِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهَا رِجْسًا لِلُزُومِ اجْتِنَابِهَا كَاجْتِنَابِ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ.

بَابُ شَهَادَةِ الزُّورِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَالزُّورُ الْكَذِبُ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْكَذِبِ، وَأَعْظَمُهَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد بن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَيَعْلَى ابْنَا عُبَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ الْعُصْفُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الصُّبْحِ ثُمَّ قَالَ:

"عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} " وَرَوَى وَائِلُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُرَاتِ التَّمِيمِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "شَاهِدُ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى تُوجِبَ لَهُ النَّارَ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ شَاهِدِ الزُّورِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَا يُعَزَّرُ" وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ تَائِبًا، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُصِرًّا فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدِي بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "يُضْرَبُ وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُشَهَّرُ وَيُحْبَسُ". وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِشَاهِدِ زُورٍ، فَجَرَّدَهُ وَأَوْقَفَهُ لِلنَّاسِ يَوْمًا وَقَالَ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَاعْرِفُوهُ ثُمَّ حَبَسَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ مَكْحُولٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي الشَّاهِدِ الزُّورِ: "يُضْرَبُ ظَهْرُهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ". قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي تُشْعِرُ بِمَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِشْعَارُ الْبُدْنِ هُوَ أَنْ نُعَلِّمَهَا بِمَا يُشْعِرُ أَنَّهَا هَدْيٌ، فَقِيلَ عَلَى هَذَا: إنَّ الشَّعَائِرَ عَلَامَاتُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كُلِّهَا، مِنْهَا رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ وَرَوَى حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَقَالَ: "حُرُمَاتُ اللَّهِ اتِّبَاعُ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابُ مَعْصِيَتِهِ فَذَلِكَ شَعَائِرُ اللَّهِ". وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عطاء: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قَالَ: "اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِعْظَامُهَا". وَرَوَى ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قَالَ: "فِي الِاسْتِحْسَانِ وَالِاسْتِسْمَانِ وَالِاسْتِعْظَامِ" وَعَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ "شَعَائِرُ اللَّهِ دِينُ اللَّهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُرَادَةً بِالْآيَةِ لاحتمالها لها.

بَابٌ فِي رُكُوبِ الْبَدَنَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ فِي أَلْبَانِهَا وَظُهُورِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى أَنْ تُسَمَّى بُدْنًا ثُمَّ

مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ"، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ مِثْلُهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: "إنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا إلَى أَنْ تُنْحَرَ" وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاتَّفَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أُرِيدَ بِهِ إلَى أَنْ تَصِيرَ بُدْنًا، فَذَلِكَ هُوَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى، وَكَرِهُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُرْكَبَ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَنْ وَافَقَهُ: "يَرْكَبُهَا بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ بَدَنَةً" وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: "وَيَرْكَبُهَا غَيْرَ فَادِحٍ لَهَا وَيَحْلُبُهَا عَنْ فَضْلِ وَلَدِهَا". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ أَبَاحَ رُكُوبَهَا، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ: "وَيْحَكَ ارْكَبْهَا فَقَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ: وَيْحَكَ ارْكَبْهَا". وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا أَبَاحَهُ لِضَرُورَةِ عِلْمِهِ مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ، مِنْهَا مَا رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وَهُوَ يَمْشِي وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُ فَقَالَ: "ارْكَبْهَا" قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: "ارْكَبْهَا". وَسُئِلَ جَابِرٌ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْتَ إلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا". وَقَدْ رَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ قَالَ: "ارْكَبْ بِالْمَعْرُوفِ إذَا احْتَجْتَ إلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا". فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ إبَاحَةَ رُكُوبِهَا مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِلرُّكُوبِ، فَلَوْ كَانَ مَالِكًا لِمَنَافِعِهَا لَمَلَكَ عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات.

مطلب: يجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقا

مطلب: يجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقا فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ الْجِهَادُ مَعَ الْفُسَّاقِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِفَرْضِ نَفْسِهِ، فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُ الْجَيْشِ وَجُنُودُهُ فَاسِقًا، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُونَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُسَّاقِ،, وَغَزَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ مَعَ يَزِيدَ اللَّعِينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَنِ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ؟ فَكَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ مَعَ الْفُسَّاقِ كَوُجُوبِهِ مَعَ الْعُدُولِ، وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَرْضِ الْجِهَادِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ وَمَعَ الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إذَا جَاهَدُوا فَهُمْ مُطِيعُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِهَادَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ رَأَيْنَا فَاسِقًا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ كَانَ عَلَيْنَا مُعَاوَنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْجِهَادُ، فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ الْعُدُولَ دُونَ الْفُسَّاقِ، فَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْجِهَادِ مَعَ الْعُدُولِ، وَمَعَ الْفُسَّاقِ

مطلب: في وجوب الاستعداد للجهاد

مطلب: في وجوب الاستعداد للجهاد قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} الْعُدَّةُ مَا يُعِدُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُهَيِّئُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأُهْبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ قَبْلَ وَقْتِ وُقُوعِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} يَعْنِي خُرُوجَهُمْ; لِأَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ وَتَخْذِيلِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ والتضريب بينهم، والخروج

مطلب: في بيان معنى الفقير والمسكين

مطلب: في بيان معنى الفقير والمسكين قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ مِثْلَ هَذَا; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْمِسْكِينَ أَضْعَفَ حَالًا وَأَبْلَغَ فِي جَهْدِ الْفَقْرِ وَالْعُدْمِ مِنْ الْفَقِيرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: الْفَقِيرُ: الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي يَسْأَلُ; فَكَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] فَسَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَوَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الفقير ذو الزمانة من أهل الحاجة

مطلب: في المؤلفة القلوب

مطلب: في المؤلفة القلوب قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا يُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَكَانُوا يُتَأَلَّفُونَ بِجِهَاتٍ ثَلَاثٍ: إحْدَاهَا لِلْكُفَّارِ لِدَفْعِ مَعَرَّتِهِمْ، وَكَفِّ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَالثَّانِيَةِ: لِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ إلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِئَلَّا يَمْنَعُوا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، وَالثَّالِثَةِ إعْطَاءُ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْكُفْرِ لِئَلَّا يَرْجِعُوا إلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عن أبي نعيم عن

باب الفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة

باب الفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة مطلب: في بيان حد الغنى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي إذَا مَلَكَهُ الرَّجُلُ دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْغَنِيِّ، وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حَدِّ الْفَقِيرِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَقَالَ قَوْمٌ: "إذَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ"، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ"، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ظَهْرُ غِنًى؟ قَالَ: "أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ" وَقَالَ آخَرُونَ: "حَتَّى يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا مِنْ الذَّهَبِ"، وَاحْتَجُّوا بِمَا

باب ذوي القربى الذين تحرم عليهم الصدقة

بَابُ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ مِنْهُمْ آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عَقِيلٍ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمِيعًا. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ: وَوَلَدُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ عَنْهُمْ رِوَايَةً. وَاَلَّذِي تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ أَنَّ فُقَرَاءَ بَنِي هَاشِمٍ يَدْخُلُونَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، ذَكَرَهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَدْخُلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ آلِ العباس وآل علي

باب من لا يجوز أن يعطى من الزكاة من الفقراء

بَابُ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهَا لِمَنْ شَمِلَهُ الِاسْمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ بَعْضِ الْأَقْرِبَاءِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "لا يعطى منها والدا وإن علا

فيما يعطى مسكين واحد من الزكاة

فِيمَا يُعْطَى مِسْكِينٌ وَاحِدٌ مِنْ الزَّكَاةِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْرَهُ أَنْ يُعْطَى إنْسَانٌ مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ أَعْطَيْته أَجْزَاك وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ:"وَأَنْ يُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ". وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ لَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدِرْهَمَيْنِ:"أَنَّهُ يَقْبَلُ وَاحِدًا وَيَرُدُّ وَاحِدًا" فَقَدْ أَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ تَمَامَ الْمِائَتَيْنِ، وَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَ مَا فَوْقَهَا، وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُعْطَى مِقْدَارُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ خَادِمًا إذَا كَانَ ذَا عِيَالٍ، وَالزَّكَاةُ كَثِيرَةٌ. وَلَمْ يَحُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا، وَاعْتَبَرَ مَا يَرْفَعُ الْحَاجَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ مَا يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ وَتَعَذُّرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ دَفْعُهَا إلَى بَعْضٍ أَيِّ بَعْضٍ كَانَ، وَأَقَلُّهُمْ وَاحِدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ صَدَقَتِهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ قَلَّ الْمَدْفُوعُ أَوْ كَثُرَ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّفْعَ وَالتَّمْلِيكَ يُصَادِفَانِهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِحُصُولِ التَّمْلِيكِ فِي الْحَالَتَيْنِ لِلْفَقِيرِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُعْطَى إنْسَانٌ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِأَنَّ المائتين هي

باب دفع الصدقات إلى صنف واحد

بَابُ دَفْعُ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ. فَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: إذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الصَّدَقَةَ صِنْفًا وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ أَجْزَأَهُ، وَرَوَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحُذَيْفَةَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ،, وَلَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، فَصَارَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الْعُرُوضَ فِي الزَّكَاةِ وَيَجْعَلُهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "تُقَسَّمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ إلَّا أَنْ يُفْقَدَ صِنْفٌ فَتُقَسَّمُ فِي الْبَاقِينَ لَا يَجْزِي غَيْرُهُ" وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ السَّلَفِ وَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ وَالسُّنَنِ وَظَاهِرِ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ دَفْعَ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ، وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَسْبَابِ الْفَقْرِ لَا قِسْمَتُهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:25] وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَاءِ الصَّدَقَةِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ قِسْمَتِهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا في كل زمان، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} إلَى آخِرِهِ عُمُومٌ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قِسْمَةَ كُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَوْجُودِينَ، وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ إمْكَانِ ذَلِكَ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيَ إعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ وَاحِدٍ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ ثَانٍ لِصِنْفٍ آخَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ صَدَقَةُ كُلِّ عَامٍ لِصِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ قِسْمَتَهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ عَامٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ. وَأَيْضًا لَا خلاف أن الفقراء لا يستحقونها

مطلب: في محاورة الحسن بن علي رضي الله عنهما مع حبيب بن مسلمة الفهري من أصحاب ومعاوية

مطلب: في محاورة الحسن بن علي رضي الله عنهما مع حبيب بن مسلمة الفهري من أصحاب ومعاوية روي أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ: رُبَّ مَسِيرٍ لَك فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ: أَمَّا مَسِيرِي إلَى أَبِيك فَلَا فَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَى، وَلَكِنَّك اتَّبَعْت مُعَاوِيَةَ عَلَى عَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرٍ وَاَللَّهِ لَئِنْ قَامَ بِك مُعَاوِيَةُ فِي دُنْيَاك قَدْ قَعَدَ بِك فِي دِينِك وَلَوْ كُنْت إذْ فَعَلْت شَرًّا قُلْت خَيْرًا كُنْت مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَلَكِنَّك أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسِوَارِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ. قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ظَاهِرُهُ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ; لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ، فَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونَ الْكِنَايَةَ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَوْلُهُ: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] وَهُوَ يَعْنِي الْأَرْضَ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] يَعْنِي الشَّمْسَ، فَكَنَّى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهَا مُظْهَرَةً فِي الْخِطَابِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخِطَابِ مِنْ الْمُعْتَرِفِينَ بِذُنُوبِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ ظَاهِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ المسلمين; لاستواء

فصل

فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً مَسَانَّ وَصِغَارٍ مُسِنَّةٌ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ الْمَسَانُّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ يُعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصِّغَارِ" وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ. وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي، فَقَالَ فِيهِ: "وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النِّصَابِ وَمَا زَادَ وَأَيْضًا الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ"، وَمَتَى اجْتَمَعَ الصِّغَارُ، وَالْكِبَارُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ الِاسْمُ فَيُقَالُ: عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَهَا فِي الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الِاعْتِدَادِ بِالصِّغَارِ بَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ الْكِبَارِ مَعَهَا، فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّصَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ، فَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ إنَاثًا، أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا صَدَقَةَ فِيهَا". وَرَوَى عُرْوَةُ السَّعْدِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ"، وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَقَالَ: "هِيَ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِآخَرَ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا، وَلَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا" فَأَثْبَتَ فِي الْخَيْلِ حَقًّا، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى سُقُوطِ سَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى صَدَقَةِ السَّوَائِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةَ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَمِيرِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْخَيْلَ فَقَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إلَّا الْآيَةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} " [الزلزلة:7] فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا شَيْئًا، وَلَوْ أَرَادَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لَأَوْجَبَهَا فِي الْحَمِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ حَقًّا غَيْرَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَةُ سَمِينِهَا"، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْخَيْلِ مِثْلَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لما اختلف حكم الحمير، والخيل;

سورة يونس

سورة يونس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا; لِأَنَّ الرَّجَاءَ يُقَامُ مَقَامَ الْخَوْفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: لَا تَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِنَا كَقَوْلِهِمْ: تَابَ رَجَاءً لِثَوَابِ اللَّهِ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ وَبَيْنَ تَبْدِيلِهِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي رَفْعَهُ بَلْ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ مَعَهُ، وَتَبْدِيلُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرَفْعِهِ وَوَضْعِ آخَرَ مَكَانَهُ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَكَانَ سُؤَالُهُمْ لِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالتَّحَكُّمِ; إذْ لَمْ يَجِدُوا سَبَبًا آخَرَ يَتَعَلَّقُونَ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَتَحَكُّمِهِمْ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِالْمَصَالِحِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِهِ، أَوْ يُبَدِّلَهُ بِقَوْلِهِمْ لَقَالُوا فِي الثَّانِي مِثْلَهُ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الثَّالِثِ مِثْلَهُ فِي الثَّانِي فَكَانَ يَصِيرُ دَلَائِلُ اللَّهِ تَعَالَى تَابِعَةً لِمَقَاصِد السُّفَهَاءِ، وَقَدْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُقْنِعُهُمْ ذَلِكَ مَعَ عَجْزِهِمْ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِثْلُهُ. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ مَنْ يَأْبَى جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وَمُجِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ مُجِيزٌ لِتَبْدِيلِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْدِيلُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ وَلَا الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَسْأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ، وَالْمُسْتَدِلُّ بِمِثْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مُغَفَّلٌ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا بِسُنَّةٍ هِيَ وَحْيٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [لنجم:4] فَنَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ نَسْخٌ بِوَحْيِ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ

ومن سورة هود

ومن سورة هود مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ هُودٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} فِيهِ إخْبَارٌ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "بَشِّرْ أُمَّتِي بِالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلًا لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سَبِيلُهُ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، فَمَتَى أَخَذَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقِيلَ في قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِلَ الْكَافِرُ رَحِمًا، أَوْ يُعْطِيَ سَائِلًا، أَوْ يَرْحَمَ مُضْطَرًّا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ جَزَاءَ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا بِتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ فِيمَا خُوِّلَ وَدَفْعِ مَكَارِهِ الدُّنْيَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْغَزْوِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَنِيمَةِ دُونَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ وَسَهْمَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. فَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِيَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا شَهِدَ الْقِتَالَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَحَقَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ نَصِيبًا. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ الِاسْتِعَانَةُ بِالْكُفَّارِ فِي قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا. إذَا كَانُوا مَتَى غُلِبُوا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْجَارِيَ عَلَيْهِمْ دُونَ حُكْمِ الْكُفْرِ وَمَتَى حَضَرُوا رَضَخَ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْكَافِرُ بِحُضُورِ الْقِتَالِ هُوَ السَّهْمُ، أَوْ الرَّضْخُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ الْمُعْتَرَضَ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَعَبْدِي حَرٌّ" أَنَّهُ لَا يحنث حتى

مطلب: تجب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية

مطلب: تجب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية وقوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} يَعْنِي: أَمَرَكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا بِمَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسِ، وَالْأَبْنِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: "مَعْنَاهُ: أَعْمَرَكُمْ بِأَنْ جَعَلَهَا لَكُمْ طُولَ أَعْمَارِكُمْ"، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "أَعَمَرْتُك دَارِي هَذِهِ" يَعْنِي مَلَّكْتُك طُولَ عُمْرِك. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ"، وَالْعُمْرَى هِيَ الْعَطِيَّةُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا رَاجِعٌ إلَى تَمْلِيكِهِ طُولَ عُمْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَى، وَالْهِبَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي تَمْلِيكِهِ عُمْرَهُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ. قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} مَعْنَى الْأَوَّلِ: سَلَّمْت سَلَامًا وَلِذَلِكَ نَصَبَهُ، وَالثَّانِي جَوَابُهُ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، وَلِذَلِكَ رَفَعَهُ. وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إلَّا أَنَّهُ خُولِفَ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ الْحِكَايَةَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ قَدْ كَانَ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ.

ومن سورة يوسف

ومن سورة يوسف مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ يُوسُفَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فِيهِ بَيَانُ صِحَّةِ الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ; لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانَ صَغِيرًا، وَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَوَاكِبِ إخْوَتَهُ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَبَوَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} عَلِمَ أَنَّهُ إنْ قَصَّهَا عَلَيْهِمْ حَسَدُوهُ وَطَلَبُوا كَيْدَهُ. وَهُوَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ تَرْكِ إظْهَارِ النِّعْمَةِ وَكِتْمَانِهِ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى حَسَدُهُ وَكَيْدُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِإِظْهَارِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] . قَوْله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْمَعْنَى وَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَتَأْوِيلُ الشَّيْءِ هُوَ مَرْجِعُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ عِبَارَةُ الرُّؤْيَا". وَقِيلَ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ". قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} الْآيَةَ. تَفَاوَضُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَأَظْهَرُوا الْحَسَدَ الَّذِي كَانُوا يُضْمِرُونَهُ لِقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ أَبِيهِمْ دُونَهُمْ، وقالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يَعْنُونَ عَنْ صَوَابِ الرَّأْيِ; لِأَنَّهُ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُمْ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَكْبَرَ، أَوْلَى بِتَقْدِيمِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأَصْغَرِ وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ الْبَنِينَ، أَوْلَى بِالْمَحَبَّةِ مِنْ الْوَاحِدِ، وَهُوَ معنى قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْفَعَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِأَمْوَالِهِ وَمَوَاشِيهِ، فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ اصْطِفَاءَهُ إيَّاهُ بِالْمَحَبَّةِ دُونَهُمْ وَتَقْدِيمَهُ عَلَيْهِمْ ذَهَابٌ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ. قَوْله تَعَالَى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} الْآيَةَ، فَإِنَّهُمْ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ تَبْعِيدٍ لَهُ عَنْ أبيه. وكان الذي استجازوا ذلك

مطلب: يجوز للأنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه

مطلب: يجوز لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لا يعرفه وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [لنجم:32] . قَوْله تَعَالَى: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} يُقَالُ إنَّ الَّذِي اقْتَضَى طَلَبَهُ لِلْأَخِ مِنْ أَبِيهِمْ مُفَاوَضَتُهُ لَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا ذَكَرُوا إيثَارَ أَبِيهِمْ لَهُ عَلَيْهِمْ بِمَحَبَّتِهِ إيَّاهُ مَعَ حِكْمَتِهِ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ وَأَنَّ نَفْسَهُ مُتَطَلِّعَةٌ إلَى عِلْمِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ غَرَضُهُ فِي ذُلِّ التَّوَصُّلِ إلَى حُصُولِهِ عِنْدَهُ وَكَانَ قَدْ خَافَ أَنْ يَكْتُمُوا أَبَاهُ أَمْرَهُ إنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُوسُفُ وَأَنْ يَتَوَصَّلُوا إلَى أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِمَاعِ مَعَهُ وَمَعَ أَخِيهِ، فَأَجْرَى تَدْبِيرَهُ عَلَى تَدْرِيجٍ لِئَلَّا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ مَا يَشْتَدُّ اضْطِرَابُهُمْ معه.

مطلب: العين حق

مطلب: العين حق قوله تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "كَانُوا ذَوِي صُورَةٍ وَجَمَالٍ فَخَافَ عَلَيْهِمْ الْعَيْنَ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "خَافَ عَلَيْهِمْ حَسَدَ النَّاسِ لَهُمْ وَأَنْ يَبْلُغَ الْمَلِكَ قُوَّتُهُمْ وَبَطْشُهُمْ فَيَقْتُلهُمْ خَوْفًا عَلَى مُلْكِهِ". وَمَا قَالَتْهُ الْجَمَاعَةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ". قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قِيلَ: أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَجْعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُوَكَّلِينَ بِالصِّيعَانِ، وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا من أخذه: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يُوسُفُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ كَذِبًا; إذْ كَانَ مَرْجِعُهُ إلَى غَالِبِ ظَنِّهِ وما هو عنده.

مطلب: يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه بما يمكنه الوصول إليه

مطلب: يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه بما يمكنه الوصول إليه وَفِيمَا تَوَصَّلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ إلَى أَخْذِ أَخِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} قَالَ: "كَفِيلٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ كَفَالَةٌ عَنْ إنْسَانٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَعَلَ حِمْلَ بَعِيرٍ أُجْرَةً لِمَنْ جَاءَ بِالصَّاعِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ يَعْنِي ضَامِنٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُسْلِمًا ... بِسَيْرٍ يُرَى مِنْهُ الْفَرَانِقُ أَزْوَرَا أَيْ ضَامِنٌ لِذَلِكَ. فَهَذَا الْقَائِلُ لَمْ يَضْمَنْ عَنْ إنْسَانٍ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ ضَمَانَ الْأُجْرَةِ لِرَدِّ الصَّاعِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ قَوْلِ الْقَائِلِ: "مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ" وَأَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشَارِطُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ: "مَنْ سَاقَ هَذِهِ الدَّوَابَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا" أَوْ قَالَ: "مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ كَذَا" أَنَّ هَذَا جَائِزٌ وَمَنْ حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا فِيمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ دَارٌ لِرَجُلٍ يَسْكُنْهَا فَقَالَ: "إنْ أَقَمْت فِيهَا بَعْدَ يَوْمِك هَذَا فَأُجْرَةُ كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَلَيْك" أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لَزِمَهُ لكل يوم ما سمى،

مطلب: يجب على الإمام أن يفعل مثل ما فعله يوسف عليه السلام إذا خاف هلاك الناس من القحط.

مطلب: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا خَافَ هَلَاكَ النَّاسِ مِنْ الْقَحْطِ. وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَحِفْظِهِ لِلْأَطْعِمَةِ فِي سِنِي الْجَدْبِ وَقِسْمَتِهِ عَلَى النَّاسِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ إذَا خَافُوا هَلَاكَ النَّاسِ مِنْ الْقَحْطِ. قَوْله تَعَالَى: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} إنَّمَا أَخْبَرُوا عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ لَا عَنْ بَاطِنِهَا; إذْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِبَاطِنِهَا وَلِذَلِكَ قالوا: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} فَكَانَ فِي الظَّاهِرِ لَمَّا وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ أَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ لَهُ فَقَالُوا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} يَعْنِي مِنْ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ اسْمِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَقِيقَةً، وهو

مطلب: يجوز الاحتيال في التوصل إلى المباح

مطلب: يجوز الاحتيال في التوصل إلى المباح وَفِيمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَمَا عَامَلَ بِهِ إخْوَتَهُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} دَلَالَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَقَالَ في آخر القصة: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] وَكَانَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا عَدَدًا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَخْذِ الضِّغْثِ وَضَرْبِهَا بِهِ لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ إيصَالِ أَلَمٍ كَبِيرٍ إلَيْهَا. وَمِنْ نَحْوِهِ النَّهْيُ عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ وَإِبَاحَةُ التَّوَصُّلِ إلَى إعْلَامِهَا رَغْبَتَهُ بِالتَّعْرِيضِ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا"؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إنَّمَا نَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا"، كَذَا رَوَى ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَحَظَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّفَاضُلَ فِي التَّمْرِ وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَحْتَالُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ هَذَا التَّمْرِ" وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ: "خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ". فَأَمَرَهَا بِالتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَحَقِّ وَلَدِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا وَرَّى بِغَيْرِهِ. وَرَوَى يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنْ ائْتُونَا فَإِنَّا سَنُغِيرُ عَلَى بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عِنْدَ عُيَيْنَةَ حِينَ أَرْسَلَتْ بِذَلِكَ

مطلب: يجوز للإنسان إظهار ضر مسه عند الحاجة إليه

مطلب: يجوز للإنسان إظهار ضر مسه عند الحاجة إليه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} إلى قوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} لَمَّا تَرَكَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ في قوله: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إظْهَارِ مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى الشَّكْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْكَيْلِ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ.

ومن سورة الرعد

وَمِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: "الْأَرْضُ السَّبَخَةُ والأرض العذبة " {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "النَّخَلَاتُ أَصْلُهَا وَاحِدٌ". قَوْله تَعَالَى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} فِيهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُدُوثُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الثِّمَارِ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَهُ; إذْ كَانَتْ الطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ تُوجِبُ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقَ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجِبَ فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرَايِيحِ وَالْأَشْكَالِ مِنْ إيجَابِ الطَّبِيعَةِ لَاسْتَحَالَ اخْتِلَافُهَا وَتَضَادُّهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْمُوجِبِ لَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَهَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ قَدْ أَحْدَثَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: "الْهَادِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى " وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: "الْهَادِي نَبِيُّ كُلِّ أُمَّةٍ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْهَادِي الدَّاعِي إلَى الْحَقِّ". وَعَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الضُّحَى وَعِكْرِمَةَ: "الْهَادِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَهَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ، وَالْمُنْذِرُ هُوَ الْهَادِي وَالْهَادِي أَيْضًا هُوَ الْمُنْذِرُ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: "وَمَا تَنْقُصُ مِنْ الْأَشْهُرِ التِّسْعَةِ وَمَا تَزْدَادُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُولَدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَعِيشُ وَيُولَدُ لِسَنَتَيْنِ فَيَعِيشُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَمَا تَنْقُصُ بِالسَّقْطِ وَمَا تَزْدَادُ بِالتَّمَامِ". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "الْغَيْضُ النُّقْصَانُ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ غَاضَتْ الْمِيَاهُ إذَا نَقَصَتْ؟ ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "إذَا غَاضَتْ " وَقَالَ: "مَا غَاضَتْ الرَّحِمُ بِالدَّمِ يَوْمًا إلَّا زَادَ فِي الْحَمْلِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْغَيْضُ ما رأت

ومن سورة إبراهيم

وَمِنْ سُورَةِ إبْرَاهِيمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: "غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ تُطْعَمُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَامِرٍ وَعِكْرِمَةَ. وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "أَرَى الْحِينَ سَنَةً"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ مِنْ قَوْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْحِينُ شَهْرَانِ، مِنْ حِينِ تُصْرَمُ النَّخْلُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ النَّخْلَةَ لَا تَكُونُ فِيهَا أُكُلُهَا إلَّا شَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْحِينَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْحِينِ فَقَالَ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} : سِتَّةَ أَشْهُرٍ، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] : ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] : يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا إلَى حِينٍ فَغُلَامُهُ حَرٌّ، فَأَتَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسَأَلَهُ، فَسَأَلَنِي عَنْهَا فَقُلْت: إنَّ مِنْ الْحِينِ حِينٌ لَا يُدْرَكُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] فَأَرَى أَنْ يُمْسَكَ مَا بَيْنَ صِرَامِ النَّخْلِ إلَى حَمْلِهَا فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قَالَ: "مَا بَيْنَ سِتَّةِ الْأَشْهُرِ أَوْ السَّبْعَةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحِينُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] ثُمَّ قَالَ: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] فَهَذَا عَلَى وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَوَقْتِ الظُّهْرِ وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَصَارَ "حِينَ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِأَوْقَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي الْحِينِ أَنَّهُ غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ذَهَبَ إلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَقْصَرُ الْأَوْقَاتِ، كقوله تعالى: {وَسَوْفَ

ومن سورة النحل

ومن سورة النحل مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ النَّحْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الدِّفْءُ اللِّبَاسُ " وَقَالَ الْحَسَنُ: الدِّفْءُ مَا اُسْتُدْفِئَ بِهِ مِنْ أَوْبَارِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا فِي سَائِرَ الْأَحْوَالِ مِنْ حَيَاةِ أَوْ مَوْتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} رَوَى هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وكان يقول في {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} : إنَّ هَذِهِ لِلْأَكْلِ وَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ لُحُومَ الْخَيْلِ وتأول: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى حَظْرِ لُحُومِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْعَامَ وَعَظَّمَ مَنَافِعَهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا الْأَكْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَذَكَرَ مَنَافِعَهَا الرُّكُوبَ وَالزِّينَةَ، فَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ مِنْ مَنَافِعِهَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَخْبَارٌ مُتَضَادَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، فَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَصَابَ النَّاسُ مَجَاعَةٌ، فَذَبَحُوهَا، "فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَلُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَحَرَّمَ الْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ" وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَلَمْ يَسْمَعْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَابِرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرٍ، وَجَابِرٌ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَى عَنْ سَلَامٍ بْنِ كَرْكَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ جَابِرٌ خَيْبَرَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

باب السكر

بَابُ السَّكَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ السُّكْرِ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: "السُّكْرُ مَا حُرِّمَ مِنْهُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا حَلَّ مِنْهُ". وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي رَزِينٍ قَالُوا: "السَّكَرُ خَمْرٌ". وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "السَّكَرُ خَمْرٌ". وَرَوَى ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: "السَّكَرُ خَمْرٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ التَّمْرِ". وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هُوَ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا وَمَا أُحِلَّ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا نَحْوُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وعثمان بن عطاء الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} قَالَ: "السَّكَرُ النَّبِيذُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الزَّبِيبُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَى الْخَمْرِ وَعَلَى النَّبِيذِ وَعَلَى الْحَرَامِ مِنْهُ، ثَبَتَ أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ إبَاحَةَ السَّكَرِ وَهُوَ الْخَمْرُ وَالنَّبِيذُ، وَاَلَّذِي ثَبَتَ نَسْخُهُ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْخَمْرُ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ تَحْلِيلُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ; إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ; إذْ كَانَ اسْمُ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّبِيذَ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "السَّكَرُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا يَنْبِذُونَ وَيُخَلِّلُونَ وَيَأْكُلُونَ، أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمْ تُحَرِّمْ الْخَمْرَ وَإِنَّمَا جَاءَ تَحْرِيمُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ". وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ الْحَنَفِيُّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ السَّكَرِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا السَّكَرُ الْمُحَرَّمُ عِنْدنَا هُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ. قَوْله تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً

مطلب: ما من حكم من أحكام الدين إلا وفي الكتاب تبيانه

مطلب: ما مِنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الكتاب تبيانه قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ بِالنَّصِّ وَالدَّلَالَةِ، فَمَا مِنْ حَادِثَةٍ جَلِيلَةٍ وَلَا دَقِيقَةٍ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا أَوْ دَلِيلًا، فَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقوله تعالى: {وإنك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ فَهُوَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مِنْ تِبْيَانِ الْكِتَابِ لَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع فَمَصْدَرُهُ أَيْضًا عَنْ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ تِبْيَانِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ، فَمَا مِنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الْكِتَابِ تِبْيَانُهُ مِنْ الوجوه التي ذكرنا.

مطلب: هذه الآية دالة على صحة القول بالقياس

مطلب: هذه الآية دالة على صحة القول بالقياس وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ لِلْحَادِثَةِ حُكْمًا مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْكِتَابِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، ثَبَتَ أَنَّ طَرِيقَهُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُكْمِهِ; إذْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ وَجْهٌ يُوَصِّلُ إلَى حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ ومن قال بنص خفي أو

في الوفاء بالعهد

في الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْعَهْدُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: فَمِنْهَا الْأَمْرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه:115] وَقَالَ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس:60] وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ. وَقَدْ يَكُونُ الْعَهْدُ يَمِينًا، وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْيَمِينُ ظَاهِرَةٌ. لِأَنَّهُ قَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ قَالَ: "عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا" أَنَّهُ حَالِفٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ حِينَ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَبَاهُ فَأَخَذُوا مِنْهُ عَهْدَ اللَّهِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِينَةَ ذَكَرَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "تَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَتَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ: "إذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَمِينٌ". قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ قُرْبَةٌ ثُمَّ فَسَخَهُ وَلَمْ يُتِمَّهُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تَغْزِلُ شَعْرًا أَوْ ما

باب الاستعاذة

بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} رَوَى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ: "الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ" وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: "إذَا تَعَوَّذْت مَرَّةً أَوْ قَرَأْت مَرَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَجْزَأَ عَنْك"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَكَانَ الْحَسَنُ يَسْتَعِيذُ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يَسْتَفْتِحُ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رِوَايَةٌ أُخْرَى قَالَ: "كُلَّمَا قَرَأْت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ حِينَ تَقُولُ آمِينَ فَاسْتَعِذْ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ" وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُتَعَوَّذُ فِي الْمَكْتُوبَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَيُتَعَوَّذُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إذَا قَرَأَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [النساء:103] وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْلَاقِ مِثْلِهِ. وَالْمُرَادُ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ تَسْأَلَهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بَعْدَ سُؤَالٍ مُتَقَدِّمٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} مَعْنَاهُ: إذَا قَرَأْت فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا قُلْت فَاصْدُقْ وَإِذَا أَحْرَمْت فَاغْتَسِلْ يَعْنِي قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءَتَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة

سورة بني إسرائيل

سورة بني إسرائيل مدخل ... سُورَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَقَالَ: الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ نَفْسُهُ فَأُسْرِيَ بِهِ. قَوْلُهُ عز وجل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} قِيلَ: مَعْنَاهُ فَإِلَيْهَا، كَمَا يُقَالُ: أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ وَأَسَاءَ إلَى نَفْسِهِ وَحُرُوفُ الْإِضَافَةِ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ إذَا تَقَارَبَتْ، وَقَالَ تَعَالَى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] وَالْمَعْنَى: أَوْحَى إليها. قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} يَعْنِي جَعَلْنَاهَا لَا يُبْصَرُ بِهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ بِمَا يُمْحَى مِنْ الْكِتَابِ وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ". قَوْله تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الطَّائِرِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ ذَاتِ الْيَمِينِ فَيَتَبَرَّكُ بِهِ وَالطَّائِرُ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ ذَاتِ الشِّمَالِ فَيُتَشَاءَمُ بِهِ، فَجَعَلَ الطَّائِرَ اسْمًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ دُونَ ذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ وَيُلَازِمُهُ مُبَالَغَةً فِي الْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ وَاسْتِدْعَاءً إلَى الصَّلَاحِ وَزَجْرًا عَنْ الْفَسَادِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ السَّمْعَ دُونَ الْعَقْلِ إلَّا بِقِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَسْمَعْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا من

باب بر الوالدين

بَابُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} {وَقَضَى رَبُّكَ} مَعْنَاهُ: أَمَرَ رَبُّك، وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَأَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَمْرٌ. وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَقَالَ: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] وَقَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فَأَمَرَ بِمُصَاحِبَةِ الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِي الشِّرْكِ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ. قَوْله تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} قِيلَ فِيهِ: إنْ بَلَغْت حَالَ الْكِبَرِ وَهُوَ حَالُ التَّكْلِيفِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَك أَبَوَاك أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ. وَذَكَرَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ إذَا بَلَغَا مِنْ الْكِبَرِ مَا كَانَا يَلِيَانِ مِنْك فِي الصِّغَرِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ بُلُوغَ الْوَلَدِ شَرْطٌ فِي الْأَمْرِ; إذْ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ غَيْرِ الْبَالِغِ، فَإِذَا بَلَغَ حَالَ التَّكْلِيفِ وَقَدْ بَلَغَاهُمَا حال

مطلب: الزنا قبيح في العقل قبل ورود السمع

مطلب: الزِّنَا قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فِيهِ الْإِخْبَارُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَأَنَّهُ قَبِيحٌ لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الَّتِي قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ فَاحِشَةً وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ أَوْ بَعْدَهُ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الزِّنَا قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا نَسَبَ لِوَلَدِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ; إذْ لَيْسَ بَعْضُ الزُّنَاةِ أَوْلَى بِهِ لَحَاقُهُ بِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَفِيهِ قَطْعُ الْأَنْسَابِ وَمَنْعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُرُمَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَإِبْطَالِ حَقِّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَبْطُلُ مَعَ الزِّنَا، وَذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الْعُقُولِ مُسْتَنْكَرٌ فِي الْعَادَاتِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ النَّسَبُ مَقْصُورًا عَلَى الْفِرَاشِ وَمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ لَمَا كَانَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ بِأَوْلَى بِالنَّسَبِ مِنْ الزَّانِي وَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْأَنْسَابِ وَإِسْقَاطِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُرُمَاتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إنما قال تعالى: {إِلَّا بِالْحَقِّ} لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ قَدْ يَصِيرُ حَقًّا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا، وَذَلِكَ قَتْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ وَبِالرِّدَّةِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ وَالْمُحَارِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومجاهد في قوله: {سُلْطَاناً} قَالُوا: حُجَّةٌ، كَقَوْلِهِ: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السُّلْطَانُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَطْلُبَ الْقَاتِلَ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: السُّلْطَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ الْمُرَادِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهَا الْحُجَّةُ وَمِنْهَا السُّلْطَانُ الَّذِي يَلِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْجَمِيعَ مُجْمِعُونَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْقَوَدُ فَصَارَ الْقَوَدُ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَتَقْدِيرُهُ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا أَيْ قَوَدًا، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الدِّيَةَ مُرَادَةٌ فَلَمْ نُثْبِتْهَا وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوَدُ دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا أَنَّ لِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتَصُّوا قَبْلَ بُلُوغِ الصِّغَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلِيٌّ وَالصَّغِيرُ

باب السجود على الوجه

بَابُ السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لِلْوُجُوهِ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} قَالَ: "لِلْوُجُوهِ". وَقَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الْحَسَنُ: "اللِّحَى". وَسُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ فقال: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} وروى طاوس عن

باب ما يقال في السجود

بَابٌ مَا يُقَالُ فِي السُّجُودِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} فَمَدَحَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ السُّجُودِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي السُّجُودِ مِنْ الذِّكْرِ هُوَ التَّسْبِيحُ. وَرَوَى مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَمِّهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}

باب البكاء في الصلاة

بَابُ الْبُكَاءِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَهُمْ بِالْبُكَاءِ فِي السُّجُودِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سُجُودِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسَجْدَةِ الشُّكْرِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْت نَشِيجَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنِّي لَفِي آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُورَةَ يوسف حتى إذا بلغ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] نَشَجَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وقد كانوا خلفه،

باب الجهر بالقراءة في الصلاة والدعاء

بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَعَائِشَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: "لَا تَجْهَرْ بِدُعَائِك وَلَا تُخَافِت بِهِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَهَرَ وَلَا يُسْمِعُ مَنْ خَلْفَهُ إذَا خَافَتَ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} وَأَرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَا تَجْهَرْ بِالصَّلَاةِ بِإِشَاعَتِهَا عِنْدَ مَنْ يُؤْذِيكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَلْتَمِسُهَا" فَكَانَ عِنْدَ الْحَسَنِ أَنَّهُ أُرِيدَ تَرْكُ الْجَهْرِ فِي حَالٍ وَتَرْكُ الْمُخَافَتَةِ فِي أُخْرَى. وَقِيلَ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا وَلَا تُخَافِتْ بِجَمِيعِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا بِأَنْ تَجْهَرَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَتُخَافِتَ بِصَلَاةِ النَّهَارِ عَلَى مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ". وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نَسِيٍّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَأَلْت عَائِشَةَ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ أَوْ يُخَافِتُ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا جَهَرَ وَرُبَّمَا خَافَتَ. وَرَوَى أَبُو خَالِدِ الْوَالِبِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَخْفِضُ طَوْرًا وَيَرْفَعُ طَوْرًا وَقَالَ: "هَكَذَا كَانَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَرُوِيَ عَنْ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ رَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: "إنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِيهِ وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا يُغَلِّطُ أَصْحَابَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَتْ أَخْبَارٌ فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، رَوَى كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ حُجَرِهِ فَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ مَنْ كَانَ خَارِجًا. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: "صَلَّيْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ لَيْلَةً فَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَيُسْمِعُ أَهْلَ الدَّارِ". وَرُوِيَ لِأَبِي بَكْرٍ: "كَانَ إذَا صَلَّى خَفَضَ صَوْتَهُ وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا صَلَّى رَفَعَ صَوْتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: لِمَ تَفْعَلُ هَذَا قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْسَنْت وَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ: أَحْسَنْت فلما نزل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} الْآيَةَ، قَالَ لِأَبِي بِكْرٍ: "ارْفَعْ شَيْئًا" وَقَالَ لِعُمَرَ: "اخْفِضْ شَيْئًا". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: "لَقَدْ أوتي أبو موسى

ومن سورة الكهف

وَمِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ مَا جَعَلَهُ زِينَةً لَهَا مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ سَيَجْعَلُهُ صَعِيدًا جُرُزًا، وَالصَّعِيدُ: الْأَرْضُ، وَالصَّعِيدُ: التُّرَابُ. وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إحَالَتِهِ مَا عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ زِينَةٌ لَهَا صَعِيدًا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ; إذْ كُلُّ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ نَبَاتٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَسْتَحِيلُ تُرَابًا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَا عَلَيْهَا يُصَيِّرُهُ صَعِيدًا جُرُزًا وَأَبَاحَ مَعَ ذَلِكَ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ وَجَبَ بِعُمُومِ ذَلِكَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الَّذِي كَانَ نَبَاتًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِإِطْلَاقِهِ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّة قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي النَّجَاسَاتِ إذَا اسْتَحَالَتْ أَرْضًا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ; لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَرْضٌ لَيْسَتْ بِنَجَاسَةٍ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي نَجَاسَةٍ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا أَنَّهَا طَاهِرٌ; لِأَنَّ الرَّمَادَ فِي نَفْسِهِ طَاهِرٌ وَلَيْسَ بِنَجَاسَةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَمَادِ النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ رَمَادِ الْخَشَبِ الطَّاهِرِ; إذْ النَّجَاسَةُ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ عَنْهَا بِالْإِحْرَاقِ وَصَارَتْ إلَى ضَرْبِ الِاسْتِحَالَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إذَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا فَهُوَ طَاهِرٌ; لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِخَمْرٍ لِزَوَالِ الِاسْتِحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِهَا خَمْرًا. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَهْرُبَ بِدِينِهِ إذَا خَافَ الْفِتْنَةَ فِيهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْهَرَبَ بِدِينِهِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ أَنْ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَضِيَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلهمْ وَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَحَكَاهُ لَنَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْسَانِ لما كان منهم. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} مَعْنَاهُ: لِيَظْهَرَ الْمَعْلُومُ فِي اخْتِلَافِ الْحِزْبَيْنِ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبْرَةِ.

باب الاستثناء في اليمين

بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى يَكُونَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَهُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا يَصِيرَ كَاذِبًا بِالْحَلِفِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ مَا وَصَفْنَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ حَاكِيًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: 69] فَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يَكُ كَاذِبًا لِوُجُودِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كَلَامِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ دُخُولِهِ فِي الْكَلَامِ لِرَفْعِ حُكْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي دُخُولِهِ عَلَى الْيَمِينِ أَوْ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى الْعَتَاقِ. وَقَدْ روى

مطلب فعل الحكيم للضرورة لا يجوز أن يستنكرر

مطلب فعل الحكيم للضرورة لا يجوز أن يستنكرر وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْخَضِرِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ فِعْلَ الْحَكِيمِ لِلضَّرَرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْكَرَ إذَا كَانَ فِيهِ تَجْوِيزُ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ الْحَكِيمِ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَقَعُ مِنْ السَّفِيهِ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي إذَا حُجِمَ أَوْ سُقِيَ الدَّوَاءَ اسْتَنْكَرَ ظَاهِرَهُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ مَعْنَى النَّفْعِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ مِنْ الضَّرَرِ أَوْ مَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ اسْتِنْكَارُهُ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْخَضِرُ لَمْ يَحْتَمِلْ مُوسَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْعَالِمِ احْتِمَالُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ بَعْدَ الثلاث ترك احتماله.

في الكنز ما هو

في الْكَنْزِ مَا هُوَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "عِلْمٌ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "مَالٌ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا كَانَ بِذَهَبٍ ولا فضة وإنما كان علما صحفا".

ومن سورة مريم

وَمِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} فَمَدَحَهُ بِإِخْفَاءِ الدُّعَاءِ، وَفِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إخْفَاءَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي". وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ وَيُؤَمِّنَ مَنْ خَلْفَهُ، وَكَانَ لَا يُعْجِبُهُ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا قَدْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فَقَالَ: "إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَيْكُمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ". قَوْله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْمَوَالِيَ الْعُصْبَةُ وَهُمْ بَنُو أَعْمَامِهِ، خَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِرَارَ بَنِي إسْرَائِيلَ. قَوْله تَعَالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا ذَكَرًا يَلِي أُمُورَ الدِّينِ وَالْقِيَامَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِخَوْفِهِ مِنْ بَنِي أَعْمَامِهِ عَلَى تَبْدِيلِ دِينِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: "نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ". وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ فَسَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ فَقَالَ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ"، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ مِثْلُهُ. فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَرِثُ الْمَالَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ فَقَدْ أَجَازَ إطْلَاقَ اسْمِ الْمِيرَاثِ عَلَى النُّبُوَّةِ فكذلك يجوز أن يعني بقوله: {يَرِثُنِي} يَرِثُ عِلْمِي. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ"، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ" يَعْنِي بِعَرَفَاتٍ "فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَنْشُدُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرحمن بن

ومن سورة طه

وَمِنْ سُورَةِ طَه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ الْحَسَنُ: "اسْتَوَى بِلُطْفِهِ وَتَدْبِيرِهِ". وَقِيلَ: اسْتَوْلَى. وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "السِّرُّ مَا حَدَّثَ بِهِ الْعَبْدُ غَيْرَهُ فِي خَفَى، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَهُ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: "السِّرُّ مَا أَضْمَرَهُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا أَضْمَرَهُ أَحَدٌ". قَوْله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} فَتَقْدِيرُهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك; لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ. وَقَالَ كَعْبٌ وَعِكْرِمَةُ: "كَانَتْ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِخَلْعِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فِي النَّعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْمَعْنِيُّ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْوَادِي بِقَدَمِهِ تَبَرُّكًا بِهِ كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخَلْعِ النَّعْلِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِي فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا لُبْسُ جِلْدِ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ"، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ"؟ قَالُوا: خَلَعْت فَخَلَعْنَا، قَالَ: "فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهَا قَذَرًا"، فَلَمْ يَكْرَهْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَالِعِينَ خَلْعَهَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَعَهَا; لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ فِيهَا قَذَرًا وَهَذَا عِنْدَنَا. مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَجَاسَةً يَسِيرَةً; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ. قَوْله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ". وَقِيلَ فِيهِ: "لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ". وَرَوَى الزهري عن

ومن سورة الأنبياء

وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عن قتادة: {نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: "فِي حَرْثِ قَوْمٍ". وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: "النَّفْشُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّيْلِ وَالْهَمْلُ بِالنَّهَارِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "فَقَضَى أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَضَاءِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَا وَلَكِنْ خُذُوا الْغَنَمَ فَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رَسْلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى الْحَوْلِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُرَّةَ عن مسروق: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا فَاجْتَمَعُوا إلَى دَاوُد فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَوَّلًا تُدْفَعُ الْغَنَمُ إلَى هَؤُلَاءِ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ حَتَّى إذَا عَادَ كَمَا كان ردوا عليهم، فنزلت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إذَا نَفَشَتْ لَيْلًا فِي زَرْعِ رِجْلٍ فَأَفْسَدَتْهُ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ ضَمَانَ مَا أَفْسَدَتْ، وَإِنْ كَانَ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ فِي ذَلِكَ ضَمَانًا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْغَنَمِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهَا فِيهَا. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَضِيَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى إيجَابِ الضَّمَانِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رِجْلٍ فَأَفْسَدَتْهُ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن

ومن سورة الحج

ومن سورة الحج مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْحَجِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ أَنَّهَا مَوْضِعُ سُجُودٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا وَفِي الْمُفَصَّلِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ وَسُجُودُ الْمُفَصَّلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "أَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْجَدَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَسُجُودِ الْمُفَصَّلِ وَمَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْ حم: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ ص فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاعْتُدَّ بِآخِرِ الْحَجِّ سُجُودًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي ص وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَجْدَةِ حم: السَّجْدَةُ بِآخِرِ الْآيَتَيْنِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا. وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي النَّجْمِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ سَجَدَ; لِأَنَّهُ صَادَفَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ السُّجُودِ فِيهَا فَأَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ فِعْلُهُ فِيهِ، وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَأَخَّرَهُ لِيَسْجُدَ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمَّارٍ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا: "فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ" وَقَالُوا: "إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ بِسَجْدَتَيْنِ". وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "الْأُولَى عَزْمَةٌ وَالْآخِرَةُ تَعْلِيمٌ". وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وسعيد بن جبير

باب بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها

بَابُ بَيْعِ أَرَاضِي مَكَّةَ وَإِجَارَةِ بُيُوتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَكَّةَ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "كَانُوا يَرَوْنَ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدًا سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي". وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَالَ: "مَنْ يَجِيءُ مِنْ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ سَوَاءٌ فِي الْمَنَازِلِ يَنْزِلُونَ حَيْثُ شَاءُوا غَيْرَ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ بَيْتِهِ سَاكِنَهُ" قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} : أهله، {وَالْبَادِ} : مَنْ يَأْتِيهِ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَأَهْلُهُ فِي الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْبَادِي إجَارَةَ الْمَنْزِلِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَكَّةُ حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا". وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَرَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: "كَانَتْ رِبَاعُ مَكَّةَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنْ اسْتَغْنَى سَكَنَ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ". وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ عُمَرَ نَهَى أَهْلَ مَكَّة أَنْ يُغْلِقُوا أَبْوَابَ دُورِهِمْ دُونَ الْحَاجِّ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا أَكَلَ نَارًا فِي بَطْنِهِ". وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "يُكْرَهُ بَيْعُ بُيُوتِ مَكَّةَ وَكِرَاؤُهَا". وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ: "كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ رِبَاعِ مَكَّةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا ذكرنا، وروي عن الصحابة

باب الحج ماشيا

بَابُ الْحَجِّ مَاشِيًا رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ إلَّا أَنِّي وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ حَجَجْتُ مَاشِيًا; لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَجَّا مَاشِيَيْنِ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعُرَنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الرُّصَافِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي فِي شَيْبَتِي إلَّا أَنْ لَمْ أَحُجَّ رَاجِلًا، وَلَقَدْ حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِيًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ، وَلَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إنَّهُ لَيُعْطِي النَّعْلَ وَيُمْسِكُ النَّعْلَ وَيُعْطِي الْخُفَّ وَيُمْسِكُ الْخُفَّ". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ زِرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كَانُوا يَحُجُّونَ وَلَا يَرْكَبُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: "كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَتُقَادُ دَوَابُّهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْحَجِّ مَاشِيًا وَرَاكِبًا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ السَّلَفِ فِي اخْتِيَارِهِمْ الْحَجَّ مَاشِيًا وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ أُمَّ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ قُرْبَةٌ قَدْ لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا هَدْيًا عِنْدَ تَرْكِهَا الْمَشْيَ. قَوْله تَعَالَى: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} رَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} قَالَ: "بَلَدٌ بَعِيدٌ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "مَكَانٌ بَعِيدٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْفَجُّ الطَّرِيقُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ طَرِيقٍ بَعِيدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: "الْعُمْقُ الذَّاهِبُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْعُمْقُ الذَّاهِبُ فِي الْأَرْضِ". قَالَ رُؤْبَةُ: وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي المخترق

باب التجارة في الحج

بَابُ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "التِّجَارَةَ وَمَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ". وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَسْوَاقٌ كَانَتْ، مَا ذَكَرَ الْمَنَافِعَ إلَّا لِلدُّنْيَا". وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: "الْمَغْفِرَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ مَنَافِعُ الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ التِّجَارَةُ جَائِزَةً أَنْ تُرَادَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ دُعُوا وَأُمِرُوا بِالْحَجِّ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنَافِعَ الدُّنْيَا خَاصَّةً; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الدُّعَاءُ إلَى الْحَجِّ وَاقِعًا لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا الْحَجُّ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَنَحْرُ الْهَدْيِ وَسَائِرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا مَنَافِعُ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ وَالرُّخْصَةِ فِيهَا دُونَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَجَعَلَ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

باب الأيام المعلومات

بَابُ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَاذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيِّ الْقَاضِي قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ إلَى أَبِي يُوسُفَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبُو يُوسُفَ جَوَابَ كِتَابِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَذْهَبُ; لِأَنَّهُ قَالَ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ الْقَارِيّ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرُ وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْهُمْ أَصَحُّ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا قِيلَ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٌ; لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وَأَنَّهُ سَمَّاهَا مَعْدُودَةً لِقِلَّتِهَا. وَقِيلَ لِأَيَّامِ الْعَشْرِ مَعْلُومَاتٌ حَثًّا عَلَى عِلْمِهَا وَحِسَابِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا، فَكَأَنَّهُ أَمَرَنَا بِمَعْرِفَةِ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَطَلَبِ الْهِلَالِ فِيهِ حَتَّى نَعُدَّ عَشَرَةً وَيَكُونَ آخِرُهُنَّ يَوْمَ النَّحْرِ. وَيُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِذَلِكَ فِي أَنَّ تَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ مَقْصُورٌ عَلَى أَيَّامِ الْعَشْرِ مَفْعُولٌ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَهُمَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيَّامُ النَّحْرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا قال: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَمَعْنَاهُ: لِمَا هَدَاكُمْ، وَكَمَا تَقُولُ: اُشْكُرْ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ، وَمَعْنَاهُ: لِنِعَمِهِ. وَأَيْضًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} يُرِيدُ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَبِتَكْرَارِ السِّنِينَ عَلَيْهِ تَصِيرُ أَيَّامًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ سَائِرَ الْهَدَايَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تَطَوُّعٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "هو يوم النحر ويومان

في التسمية على الذبيحة

في التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا الذِّكْرِ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ الذَّكَاةِ; لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلَى قَوْلِهِ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ هِيَ أَفْعَالُ الْمَنَاسِكِ الَّتِي يَقْتَضِي الْإِحْرَامُ إيجَابَهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ وَاجِبَةً; إذْ كَانَ الدُّعَاءُ إلَى الْحَجِّ وَقَعَ لَهَا كَوُقُوعِهَا لِسَائِرِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هِيَ الذِّكْرُ الْمَفْعُولُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ أَوْ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ هَذَا الذِّكْرِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ عَلَى الْهَدَايَا الْمُوجَبَةِ بِالْإِحْرَامِ لِلْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ وَمَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِالْإِحْرَامِ وَيُرَادُ بِهَا تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ وَالذِّكْرُ الْمَفْعُولُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ; إذْ لَمْ تَكُنْ إرَادَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ مُمْتَنِعَةً بِالْآيَةِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ حِينَ يَنْحَرُ: لَا إلَهَ إلَّا الله والله أكبر". وروى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قُلْتُ: كَيْفَ تَقُولُ إذَا نَحَرْتَ؟ قَالَ: أَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ شَرِيفٍ: "أَنَّ عَلِيًّا ضَحَّى يَوْمَ النَّحْرِ بِكَبْشٍ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ ومن علي لك.

باب في أكل الهدايا

باب في أكل الهدايا ... باب في أَكْلُ لُحُومِ الْهَدَايَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ الْأَكْلِ، إلَّا أَنَّ السَّلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَضَاحِيّ وَهَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ أَوْ الْهَدَايَا الَّتِي تَجِبُ مِنْ جِنَايَاتٍ تَقَعُ مِنْ الْمُحْرِمِ فِي الْإِحْرَامِ نَحْوَ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَا يَجِبُ عَلَى اللَّابِسِ وَالْمُتَطَيِّبِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى وَهَدْيِ الْإِحْصَارِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا دِمَاءُ الْجِنَايَاتِ فَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ الْأَكْلُ مِنْهَا، وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ; لِأَنَّ النَّاسَ فِي دَمِ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُبِيحُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَلَا يُوجِبُهُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الفقهاء أن قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: "إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّمَا هو بمنزلة قوله تعالى: {وَإِذَا

باب طواف الزيارة

بَابُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فروي عن الحسن أنه قال: " {وَلْيَطَّوَّفُوا} طَوَافَ الزِّيَارَةِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الطَّوَافُ الْوَاجِبُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَالْأَوَامِرُ عَلَى الْوُجُوبِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ، وَلَا طَوَافَ مَفْعُولٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ الذَّبْحِ إلَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ قَدِمُوا مَكَّةَ وَحَلُّوا بِهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ وَجَعَلُوهُ عُمْرَةً إلَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ ساق

باب شهادة الزور

بَابُ شَهَادَةِ الزُّورِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَالزُّورُ الْكَذِبُ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْكَذِبِ، وَأَعْظَمُهَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد بن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَيَعْلَى ابْنَا عُبَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ الْعُصْفُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الصبح ثم قال:

باب في ركوب البدنة

بَابٌ فِي رُكُوبِ الْبَدَنَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ فِي أَلْبَانِهَا وَظُهُورِهَا وَأَصْوَافِهَا إلى أن تسمى بدنا ثم

باب محل الهدي

بَابُ مَحِلِّ الْهَدْيِ مَحِلُّ الْهَدْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ تَعَالَى فِيمَا جُعِلَ هَدْيًا أَوْ بَدَنَةً أَوْ فِيمَا وَجَبَ أَنْ تُجْعَلَ هَدْيًا مِنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَحِلَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هَهُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ; إذْ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تُذْبَحُ عِنْدَ الْبَيْتِ وَلَا فِي الْمَسْجِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِذِكْرِ الْبَيْتِ; إذْ كَانَتْ حُرْمَةُ الْحَرَمِ كُلِّهِ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَقَدْ رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ"، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ سَائِرِ الْهَدَايَا الْحَرَمَ وَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهِ; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "مَحِلُّهُ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ" وَذَلِكَ

لأنه قال: {ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَكَانَ الْمَحِلُّ مُجْمَلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بَيَّنَ فِيهِ مَا أَجْمَلَ ذِكْرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ هَدْيِ الْإِحْصَارِ الْحَرَمَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سَائِرِ الْهَدَايَا الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْإِحْرَامِ مِثْلُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى وَدَمِ التَّمَتُّعِ أَنَّ مَحِلَّهَا الْحَرَمُ، فَكَذَلِكَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ لَمَّا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرَمِ. قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قِيلَ: إنَّ الْبُدْنَ الْإِبِلُ الْمُبَدَّنَةُ بِالسَّمْنِ، يُقَالُ بَدَّنْتَ النَّاقَةَ إذَا سَمَّنْتهَا، وَيُقَالُ بَدُنَ الرَّجُلُ إذَا سَمِنَ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا بَدَنَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ سُمِّيت الْإِبِلُ بُدْنًا مَهْزُولَةً كَانَتْ أَوْ سَمِينَةً، فَالْبَدَنَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالْبَعِيرِ فِي اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّ الْبَقَرَةَ لَمَّا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْبَدَنَةِ قَامَتْ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ فَصَارَ الْبَقَرُ فِي حُكْمِ الْبُدْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْلِيدُ الْبَقَرَةِ كَتَقْلِيدِ الْبَدَنَةِ فِي بَابِ وُقُوعِ الْإِحْرَامِ بِهَا لِسَائِقِهَا وَلَا يُقَلَّدُ غَيْرُهُمَا، فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ يَخْتَصُّ بِهِمَا الْبُدْنُ دُونَ سَائِرِ الْهَدَايَا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "الْبَقَرَةُ مِنْ الْبُدْنِ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ "لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ" هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَحْرُهَا بِغَيْرِ مَكَّةَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا يَجُوزُ لَهُ نَحْرُهُ إلَّا بِمَكَّةَ". وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَنْ نَذَرَ هَدْيًا أَنَّ عَلَيْهِ ذَبْحَهُ بِمَكَّةَ وَأَنَّ مَنْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ" أَنَّهُ يَذْبَحُهُ حَيْثُ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ جَزُورًا نَحَرَهَا حَيْثُ شَاءَ، وَإِذَا نَذَرَ بَدَنَةً نَحَرَهَا بِمَكَّةَ"، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَالِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَا: "إذَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا فَبِمَكَّةَ وَإِذَا قَالَ بَدَنَةٌ فَحَيْثُ نَوَى". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "لَيْسَتْ الْبُدْنُ إلَّا بِمَكَّةَ". وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزُورِ وَلَا يَقْتَضِي إهْدَاءَهَا إلَى مَوْضِعٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ نَاذِرِ الْجَزُورِ وَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إهْدَاءَهُ إلَى مَوْضِعٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فَجَعَلَ بُلُوغَ الْكَعْبَةِ مِنْ صِفَةِ الْهَدْيِ. وَيُحْتَجُّ لِأَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فَكَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ مُفِيدًا لِكَوْنِهَا قُرْبَةً كَالْهَدْيِ; إذْ كَانَ اسْمُ الْهَدْيِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ قُرْبَةً مَجْعُولًا لِلَّهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْهَدْيُ إلَّا بِمَكَّةَ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْبَدَنَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ ذَبْحُهُ قُرْبَةً فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ; لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ قُرْبَةٌ، وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَوَصْفُهُ لِلْبُدْنِ بِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِالْحَرَمِ. قَوْله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} رَوَى يُونُسُ عَنْ زِيَادٍ قَالَ: رَأَيْت

ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَنَحَرَهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ، فَقَالَ: "انْحَرْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَرَوَى أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} "قِيَامًا". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ: "صَوَافَّ" فَهِيَ قَائِمَةٌ مَضْمُومَةٌ يَدَاهَا، وَمَنْ قَرَأَ: "صَوَافِنَ" قِيَامٌ مَعْقُولَةٌ. وَرَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَأَهَا "صَوَافِنَ". قَالَ" "مَعْقُولَةٌ، يَقُولُ: بِسْمِ الله والله أكبر". وروى الأعمش عن أبي الضُّحَى قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ صَوَافَّ قَالَ: "قِيَامًا مَعْقُولَةً". وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا: "صَوَافِنَ" وَصَوَافِنَ أَنْ يُعْقَلَ إحْدَى يَدَيْهَا فَتَقُومَ عَلَى ثَلَاثٍ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "صَوَافِي" قَالَ: "خَالِصَةٌ مِنْ الشِّرْكِ". وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: "أَنَّهَا تُنْحَرُ مُسْتَقْبِلَةً الْقِبْلَةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَلَصَتْ قِرَاءَةُ السَّلَفِ لِذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: أَحَدُهَا: "صَوَافَّ" بِمَعْنَى مُصْطَفَّةً قِيَامًا، وَ "صَوَافِي" بِمَعْنَى خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَ "صَوَافِنَ" بِمَعْنَى مُعَقَّلَةً فِي قِيَامِهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ: "إذَا سَقَطَتْ" وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْوُجُوبُ هُوَ السُّقُوطُ، وَمِنْهُ: وَجَبَتْ الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ لِلْمَغِيبِ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: أَطَاعَتْ بَنُو عَوْفٍ أَمِيرًا نَهَاهُمْ ... عَنْ السِّلْمِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ وَاجِبِ يَعْنِي: أَوَّلَ مَقْتُولٍ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ الْبُدْنُ إذَا نُحِرَتْ قِيَامًا سَقَطَتْ لِجُنُوبِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "صَوَافَّ" قِيَامًا; لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بَارِكَةً لَا يُقَالُ إنَّهَا تَسْقُطُ إلَّا بِالْإِضَافَةِ فَيُقَالُ سَقَطَتْ لِجُنُوبِهَا، وَإِذَا كَانَتْ قَائِمَةً ثُمَّ نُحِرَتْ فَلَا مَحَالَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ السُّقُوطِ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْبَارِكَةِ إذَا مَاتَتْ فَانْقَلَبَتْ عَلَى الْجَنْبِ إنَّهَا سَقَطَتْ لِجَنْبِهَا، فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ أَظْهَرَهُمَا أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً فَتَسْقُطَ لِجَنْبِهَا عِنْدَ النَّحْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِوُجُوبِهَا لِجُنُوبِهَا مَوْتُهَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ سُقُوطَهَا فَحَسْبُ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ سُقُوطَهَا لِلْمَوْتِ فَجَعَلَ وُجُوبَهَا عِبَارَةً عَنْ الْمَوْتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ". وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} يَقْتَضِي إيجَابَ الْأَكْلِ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ الْبُدْنِ الَّتِي سَاقَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ يَوْمَ الأضحى حتى

يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ ثُمَّ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا". وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: بَعَثَ مَعِي عَبْدُ اللَّهِ بِهَدْيِهِ فَقُلْت لَهُ: مَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ؟ قَالَ: "إذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَرِّفْ بِهِ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَانْحَرْهُ صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَ لِجَنْبِهِ فَكُلْ ثُلُثًا وَتَصَدَّقْ بِثُلُثٍ وَابْعَثْ إلَى أَهْلِ أَخِي ثُلُثًا". وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، كَانَ يُفْتِي فِي النُّسُكِ وَالْأُضْحِيَّةِ ثُلُثٌ لَك وَلِأَهْلِك وَثُلُثٌ فِي جِيرَانِك وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ". وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ، قَالَ: "وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْبُدْنِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ فِدْيَةٍ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ نَذْرٍ مُسَمًّى لِلْمَسَاكِينِ". وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا وَنَأْكُلَ ثُلُثَهَا وَنُعْطِيَ الْجَازِرَ ثُلُثَهَا، وَالْجَازِرُ غَلَطٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: "لَا تُعْطِ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا"، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجَازِرُ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةِ الْجِزَارَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يُعْطَى الْجَازِرُ مِنْهَا مِنْ أُجْرَتِهِ. وَلَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إعْطَائِهِ الْأَغْنِيَاءَ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ الْغَنِيَّ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَإِنَّمَا قَدَّرُوا الثُّلُثَ لِلصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، وَيُهْدِيَ بَعْضَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الصَّدَقَةِ كَانَ الَّذِي حَصَلَ لِلصَّدَقَةِ الثُّلُثُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُحُومِ الْأَضَاحِيّ: "فَكُلُوا وَادَّخِرُوا" وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} حَصَلَ الثُّلُثُ لِلصَّدَقَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} عَطْفًا عَلَى الْبُدْنِ يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ بُدْنِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ لِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهَا. قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَانِعُ قَدْ يَكُونُ الرَّاضِي بِمَا رُزِقَ، وَالْقَانِعُ السَّائِلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَعْلَبٌ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الْقَنَاعَةُ الرِّضَا بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُقَالُ مِنْ الْقَنَاعَةِ رَجُلٌ قَانِعٌ وَقَنِعٌ "وَمِنْ الْقُنُوعِ رَجُلٌ قَانِعٌ" لَا غَيْرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَالَ الشَّمَّاخُ فِي الْقُنُوعِ: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنْ الْقُنُوعِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "الْقَانِعُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَسْأَلُ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَا: "الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "الْمُعْتَرُّ يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْقَانِعُ جَارُك وَالْغَنِيُّ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيك مِنْ النَّاسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ كَانَ الْقَانِعُ هُوَ الْغَنِيُّ فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةَ بِالثُّلُثِ; لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ وَإِعْطَاءِ الْغَنِيِّ وَإِعْطَاءِ الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْأَلُ.

قَوْله تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: لَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ اللُّحُومَ وَلَا الدِّمَاءَ وَلَكِنْ يَتَقَبَّلُ التَّقْوَى مِنْهَا. وَقِيلَ: لَنْ يَبْلُغَ رِضَا اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَبْلُغُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ بِأَعْمَالِهِمْ; إذْ كَانَتْ اللُّحُومُ وَالدِّمَاءُ فِعْلَ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقُّوا بِهَا الثَّوَابَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِفِعْلِهِمْ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى وَمَجْرَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَبْحِهَا. قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} يَعْنِي: ذَلَّلَهَا لِتَصْرِيفِ الْعِبَادِ فِيمَا يُرِيدُونَ مِنْهَا خِلَافُ السِّبَاعِ الْمُمْتَنِعَةِ بِمَا أُعْطِيت مِنْ الْقُوَّةِ وَالْآلَةِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ، وَالْبِيَعُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "صَلَوَاتٌ كَنَائِسُ الْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلُوتَا". وَقِيلَ: "إنَّ الصَّلَوَاتِ مَوَاضِعُ صَلَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا فِي مَنَازِلِهِمْ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ فِي أَيَّامِ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِيَعٌ فِي أَيَّامِ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَسَاجِدُ فِي أَيَّامِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "يُدْفَعُ عَنْ هَدْمِ مُصَلَّيَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الْمَذْكُورَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَمَ عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ ذِمَّةٌ أَوْ عَهْدٌ مِنْ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَائِزٌ لَهُمْ أَنْ يَهْدِمُوهَا كَمَا يَهْدِمُونَ سَائِرَ دُورِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ إذَا صَارَتْ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ: "لَمْ يُهْدَمْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ، وَأَمَّا مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِالْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ مَا صَارَ مِنْهَا مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَلَا تُهْدَمُ عَلَيْهِمْ وَيُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَجْعَلُوهَا إنْ شَاءُوا بُيُوتًا مسكونة".

مطلب: في صحة إمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ صِفَةُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ; لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ مَكَّنَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ صِفَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ مَكَّنَهُمْ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ الله

عَنْهُمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِمْ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إذَا مُكِّنُوا فِي الْأَرْضِ قَامُوا بِفُرُوضِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مُكِّنُوا فِي الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَئِمَّةً قَائِمِينَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ مُنْتَهِينَ عَنْ زَوَاجِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ مُعَاوِيَةُ فِي هَؤُلَاءِ; لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا وَصَفَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَلَيْسَ مُعَاوِيَةُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَلْ هُوَ مِنْ الطُّلَقَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية.

مطلب: في [تلك الغرانيق العلى] إلى آخره رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19, 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: لَمَّا تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ وَذَكَرَ فِيهَا الْأَصْنَامَ عَلِمَ الْكُفَّارُ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا بِالذَّمِّ وَالْعَيْبِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ حِينَ بَلَغَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} : "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى" وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ سَائِرُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُ: إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَدَحَ آلِهَتَنَا، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تِلَاوَتِهِ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْلُهُ وَإِنَّمَا تَلَاهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَسَمَّى الَّذِي أَلْقَى ذَلِكَ فِي حَالِ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْطَانًا; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وَالشَّيْطَانُ اسْمٌ لِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَقَالَ ذَلِكَ عِنْدَ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إبْلِيسُ حِينَ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ لِقُرَيْشٍ وَهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ، وَكَمَا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ حِينَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ جَائِزًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَرْبٍ مِنْ التَّدْبِيرِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ شَيْطَانًا فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ الَّذِي لَا يَعْرَى مِنْهُ

بَشَرٌ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُنَبِّهَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يُلْقِي وَسَاوِسَهُ فِي صَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُشْغِلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا يَقُولُ، فَيَقْرَأُ غَلَطًا فِي الْقَصَصِ الْمُتَشَابِهَةِ نَحْوَ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْفَاظِ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ رُبَّمَا قَالُوا قَدْ رَجَعَ عَنْ بَعْضِ مَا قَرَأَ وَكَانَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ السَّهْوِ فَنَبَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْغَلَطُ فِي قِرَاءَةِ "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ" فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْغَلَطِ عَلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ بِإِنْشَادِ شِعْرٍ فِي أَضْعَافِ التِّلَاوَةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمَّا تَلَا مَا فِيهِ ذِكْرُ الْأَصْنَامِ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا هِيَ عِنْدَكُمْ كَالْغَرَانِيقِ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى فِي قَوْلِكُمْ" عَلَى جِهَةِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ. قَوْله تَعَالَى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} قِيلَ: إنَّ الْمَنْسَكَ الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ لِعَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ الْمَأْلَفُ لِذَلِكَ، وَمَنَاسِكُ الْحَجِّ مَوَاضِعُ الْعِبَادَاتِ فِيهِ، فَهِيَ مُتَعَبَّدَاتُ الْحَجِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنْسَكًا عِيدًا" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "مُتَعَبَّدًا فِي إرَاقَةِ الدَّمِ بِمِنًى وَغَيْرِهِ". وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ ذَبَائِحُ هُمْ ذَابِحُوهُ. وَقِيلَ إنَّ الْمَنْسَكَ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ" فَجَعَلَ الصَّلَاةَ وَالذَّبْحَ جَمِيعًا نُسُكًا"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ النُّسُكِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ الْأَغْلَبَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الذَّبْحُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ وَيَكُونَ الذَّبْحُ أَحَدَ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالذَّبْحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} وَإِذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالذَّبْحِ سَاغَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ الْأُضْحِيَّةِ لِوُقُوعِهَا عَامَّةً فِي الْمُوسِرِينَ كَالزَّكَاةِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ عَلَى الذَّبْحِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ كَانَ خَاصًّا فِي دَمِ الْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ; إذْ كَانَا نُسُكَيْنِ فِي الْحَجِّ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ الدِّمَاءِ; إذْ كَانَتْ سَائِرُ الدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى جِهَةِ جُبْرَانُ نَقْصٍ وَجِنَايَةٍ فَلَا يَكُونُ إيجَابُهُ عَلَى وَجْهِ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ بِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} يقتضي ظاهره ابتداء إيجاب العبادة به.

مطلب: في الأضحية وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قَالَ: "رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَا يُضَحِّيَانِ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُنِي يَوْمَ الْأَضْحَى بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي لَهُ لَحْمًا وَيَقُولُ: مَنْ لَقِيت فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ".

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَيْسَتْ بِحَتْمٍ وَلَكِنْ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ". وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: "إنِّي لَأَدَعُ الْأَضْحَى وَأَنَا مُوسِرٌ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى جِيرَانِي أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيَّ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى مُسَافِرٍ" وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "كَانُوا إذَا شَهِدُوا ضَحَّوْا وَإِذَا سَافَرُوا لَمْ يُضَحُّوا". وَرَوَى يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: "الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْيَسَارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى الْمُقِيمِينَ دُونَ الْمُسَافِرِينَ، وَلَا أُضْحِيَّةَ عَلَى الْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَحَدُّ الْيَسَارِ فِي ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ" وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهِيَ سُنَّةٌ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ أُضْحِيَّةٌ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِئْسَ مَا صَنَعَ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا بَأْسَ بِتَرْكِهَا". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: "يُؤْثِرُ بِهَا أَبَاهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُضَحِّيَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ يُوجِبُهَا يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 162, 163] قَدْ اقْتَضَى الْأَمْرُ بِالْأُضْحِيَّةِ; لِأَنَّ النُّسُكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُرَادِ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا فَاطِمَةُ اشْهَدِي أُضْحِيَّتَك فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ من دمها كل ذنب عملتيه وقولي: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقول عند ذبح الأضحية: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ يَوْمَ الْأَضْحَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي عَجَّلْت بِنُسُكِي. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا النُّسُكَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِقَوْلِهِ: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 163] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَيُحْتَجُّ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَبِالنَّحْرِ الْأُضْحِيَّةَ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ وَاجِبٌ علينا لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وَيُحْتَجُّ لِلْقَائِلِينَ بِإِيجَابِهَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ بِمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ مَرْفُوعًا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا

الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَدَرَ عَلَى سَعَةٍ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَعْلَى أَيْضًا مَرْفُوعًا، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النُّعْمَانِ الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ أَوْ عَبَّاسٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا". وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". وَيُقَالُ إنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ فَوْقَ ابْنِ عَيَّاشٍ فِي الضَّبْطِ وَالْجَلَالَةِ، فَوَقَفَهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَيُقَالُ إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ. وَيُحْتَجُّ لِإِيجَابِهَا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي رَمْلَةَ الْحَنَفِيِّ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ رَجَبَ ثُمَّ يَعْتَرُونَ، وَهِيَ الرَّجَبِيَّةُ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ عَوْنٍ يَفْعَلَانِهِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِ الْأُضْحِيَّةِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ، إلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ لَا يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيجَابَ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ لِمُوجِبِهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ الْبَزْوَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَا: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ فَلْيَذْبَحْ بَعْدَ الصَّلَاةِ" فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ذَبَحْت لِيَأْكُلَ مَعَنَا أَصْحَابُنَا إذَا رَجَعْنَا، قَالَ: لَيْسَ بِنُسُكٍ قَالَ: عِنْدِي جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ، قَالَ: "تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ غَيْرِك"، فَيُسْتَدَلُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بِوُجُوهٍ عَلَى الْوُجُوبِ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَشَهِدَ مَعَنَا فَلْيَذْبَحْ بَعْدَ الصَّلَاةِ" وَهُوَ أَمْرٌ بِالذَّبْحِ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الْوُجُوبَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ غَيْرِك". وَمَعْنَاهُ: تَقْضِي عَنْك; لِأَنَّهُ يُقَالُ جَزَى عَنِّي كَذَا بِمَعْنَى قَضَى عَنِّي، وَالْقَضَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وَاجِبٍ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ الْوُجُوبَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: "فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ" وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ: "أَعِدْ أُضْحِيَّتَك"، وَمَنْ يَأْبَى ذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَشَهِدَ مَعَنَا فَلْيَذْبَحْ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيجَابَ; لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَمَّا عَمَّ الْجَمِيعَ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الندب،

وَأَمَّا قَوْلُهُ: "تُجْزِي عَنْك" فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ جَوَازَ قُرْبَةٍ، وَالْجَوَازُ وَالْقَضَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ قُرْبَةٍ، وَالْآخَرُ جَوَازُ فَرْضٍ، فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوَازِ وَالْقَضَاءِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بُرْدَةَ قَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّةَ نَذْرًا، فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، فَإِذًا لَيْسَ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ أَبَا بُرْدَةَ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فِي إيجَابِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ الْقَضَاءَ عَنْ وَاجِبٍ لَسَأَلَهُ عَنْ قِيمَتِهِ لِيُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: قَدْ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: "إنَّ عِنْدِي جَذَعَةً خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ" فَكَانَتْ الْجَذَعَةُ خَيْرًا مِنْ الْأُولَى. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى لُزُومِهَا بِالنَّذْرِ، فَلَوْلَا أَنَّ لَهَا أَصْلًا فِي الْوُجُوبِ لَمَا لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْوُجُوبِ مَا رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ زَكَاةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا، وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ كَانَ قَبْلَهُ"، قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَضْحَى; لِأَنَّهُ نُسِخَ بِهِ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِهِ إلَّا وَاجِبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا عِنْدِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ; لِأَنَّ نَسْخَ الْوَاجِبِ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِالنَّسْخِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيجَابِ كَانَتْ إلَى هَذَا الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إيجَابَ شَيْءٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَدْ نُسِخَتْ عَنْكُمْ الْعَتِيرَةُ وَالْعَقِيقَةُ وَسَائِرُ الذَّبَائِحِ الَّتِي كَانَتْ تُفْعَلُ لَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ ذَبِيحَةٍ أُخْرَى؟ فَلَيْسَ إذًا فِي قَوْلِهِ: "نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبِيحَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا" دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ النَّسْخِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ بَعْدَمَا نَدَبَنَا إلَى الْأُضْحِيَّةِ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ذَبِيحَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ. وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى وُجُوبَهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي حُبَابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَضْحَى عَلَيَّ فَرِيضَةٌ وَهُوَ عَلَيْكُمْ سُنَّةٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عُثْمَانَ الْأَنْجَذَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت بِالْأَضْحَى وَالْوِتْرِ وَلَمْ تُعْزَمْ عَلَيَّ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الْفَقِيهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هُنَّ عَلَيَّ فَرِيضَةٌ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْأَضْحَى وَالْوِتْرُ وَالضُّحَى" فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ

أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْنَا، إلَّا أَنَّ الْأَخْبَارَ لَوْ تَعَارَضَتْ لَكَانَتْ الْأَخْبَارُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِيجَابِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيجَابَ طَارِئٌ عَلَى إبَاحَةِ التَّرْكِ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ حَظْرَ التَّرْكِ وَفِي نَفْيِهِ إبَاحَةُ التَّرْكِ، وَالْحَظْرُ أَوْلَى مِنْ الْإِبَاحَةِ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَيَّاشُ الْقِتْبَانِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْت بِيَوْمِ الْأَضْحَى عِيدًا جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا مَنِيحَةً أُنْثَى أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِك وَأَظْفَارِك وَتَقُصُّ شَارِبَك وَتَحْلِقُ عَانَتَك فَتِلْكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِك عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" فَلَمَّا جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ; إذْ كَانَ فِعْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن إسحاق عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذَبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ كَبْشَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجِئَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: "إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ". ثُمَّ ذَبَحَ. قَالُوا: فَفِي ذَبْحِهِ عَنْ الْأُمَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَجُزْ شَاةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ; لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ بِذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَمَّنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا يَتَطَوَّعُ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُ وُجُوبَ مَا يَلْزَمُهُ. وَمِمَّا يَحْتَجُّ مَنْ نَفَى الْوُجُوبَ مَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ نَفْيِ إيجَابِهِ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى ذَلِكَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُهُ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ نَفْيَ إيجَابِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفٌ لِأَصْحَابِهِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا وَكَانَ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ فِي وَزْنِ وُرُودِ إيجَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَفِي عَدَمِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ. وَيُحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ حَقٌّ فِي مَالٍ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِيهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَيُحْتَجُّ فِيهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ حَقٌّ فِي مَالٍ لَمَا أَسْقَطَهُ مُضِيُّ الوقت،

فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ; إذْ كَانَتْ سَائِرُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْأَمْوَالِ نَحْوُ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَنَحْوُهَا لَا يُسْقِطُهَا مُضِيُّ الْأَوْقَاتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} إلى قوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَاتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ، وَلِذَلِكَ نُصِبَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: نُصِبَ; لِأَنَّهُ أَرَادَ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ اتَّصَلَ الِاسْمُ بِالْفِعْلِ فَنُصِبَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَا ثَبَتَ نَسْخُهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قَالَ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ; لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مِلَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ; لِأَنَّهُ جَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} : "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "لَا تَخَافُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "يَعْنِي اعْمَلُوا بِالْحَقِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مِنْ ضِيقٍ". وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ أَنَّ مَا أَدَّى إلَى الضِّيقِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ وَمَا أَوْجَبَ التَّوْسِعَةَ فَهُوَ أَوْلَى، وَقَدْ قِيلَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَنَّهُ مِنْ ضِيقٍ لَا مَخْرَجَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يُتَخَلَّصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ وَمِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ الْمَظْلِمَةُ، فَلَيْسَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ عقوبته. وقوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ رَاجِعًا بِنَسَبِهِ إلَى أَوْلَادِ إبْرَاهِيمَ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ حُرْمَةَ إبْرَاهِيمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: "وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ". قَوْله تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: "يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ". وَقِيلَ: إنَّ إبْرَاهِيمَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] . وقَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: "مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ وَفِي الْقُرْآنِ". وقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ، وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ طَعْنِ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ; إذْ كَانَ اللَّهُ لَا يَجْتَبِي إلَّا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَدْحٌ لِلصَّحَابَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ وَدَلِيلٌ على طهارتهم.

قَوْله تَعَالَى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ فِي تَبْلِيغِهِ وَعِصْيَانِ مَنْ عَصَى وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ فِيمَا بَلَّغْتُمُوهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] فَبَدَأَ بِمَدْحِهِمْ وَوَصْفِهِمْ بِالْعَدَالَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَا قَالَ هنا: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} إلى قوله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} رُبَّمَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُحْتَجُّ فِي إيجَابِ قُرْبَةٍ مُخْتَلَفٍ فِي وُجُوبِهَا، وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ شَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ اعتقاد العموم فيه. آخر سورة الحج.

وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} رَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا نزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} نَكَّسَ رَأْسَهُ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} خَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ فَكَانَ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ". وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ: "الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ". وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ: "الْخُشُوعُ السُّكُونُ". وَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: "الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ تَلِينَ كَنَفَك لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ وَلَا تَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِك "وَقَالَ الْحَسَنُ: "خَاشِعُونَ خَائِفُونَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْخُشُوعُ يَنْتَظِمُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا مِنْ السُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّذَلُّلِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْحَرَكَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ" وَقَالَ: "أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا"، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ مَسِّ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ: "إذَا قَامَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَتْ عَنْهُ". وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَلْتَفِتُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي السَّلُولِيُّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَارْكَبْ! " فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا يُغِرْنَ مِنْ قِبَلِك اللَّيْلَةَ" فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَحْسَسْتُمْ

فَارِسَكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَسْنَاهُ، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ حَتَّى إذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ". فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا كَانَ عُذْرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ مَجِيءِ الْعَدُوِّ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَالثَّانِي: اشْتِغَالُ قَلْبِهِ بِالْفَارِسِ إلَى أَنْ طَلَعَ. رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَلْحَظُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إذَا صَلَّى لَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا قَالَ: لَكِنَّا نَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَنَكُونُ مِثْلَ النَّاسِ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِالْتِفَاتَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَأَمَّا أَنْ يَلْحَظَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. رَوَى سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: "كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ مُلْقًى". وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: "كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ خَفَضَ فِيهَا صَوْتَهُ وَبَدَنَهُ وَبَصَرَهُ". وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ زُبَيْرِ الْيَامِيِّ قَالَ: "كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ". قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} وَاللَّغْوُ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ مَحْظُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اللَّغْوُ الْبَاطِلُ"، وَالْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وَإِنْ كَانَ الْبَاطِلُ قَدْ يُبْتَغَى بِهِ فَوَائِدُ عَاجِلَةٌ. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامًّا فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ; لِأَنَّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ المذكر كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} خَاصٌّ فِي الرِّجَالِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ أُرِيدَ بِهِ الرِّجَالُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ وَالِاسْتِثْنَاءُ خَاصٌّ فِي الرِّجَالِ، كَقَوْلِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8] فَالْأَوَّلُ عُمُومٌ فِي الْجَمِيعِ وَالْعَطْفُ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} عَامٌّ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حِفْظُهَا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} يَقْتَضِي تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ; إذْ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مَمْلُوكَةِ يَمِينٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سورة النساء. في قوله: {وَرَاءَ ذَلِكَ} معناه: غير ذلك. قوله: {الْعَادُونَ} يَعْنِي مَنْ يَتَعَدَّى الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} استثناء من

الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِحِفْظِ الْفُرُوجِ وَإِخْبَارٌ عَنْ إبَاحَةِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ حَظْرَ مَا عَدَا هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ فِي الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْأَيْمَانِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ وَطْءِ الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِنَّ. إنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي إبَاحَةِ وَطْئِهِنَّ لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ وَطْؤُهُنَّ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَوَطْءُ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اقْتَضَى عُمُومُ اللَّفْظِ إبَاحَةَ وَطْئِهِنَّ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى تَخْصِيصِ مَنْ ذَكَرْت كَسَائِرِ الْعُمُومِ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ مَتَى أُطْلِقَ عُقِلَ بِهِ الْأَمَةُ وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكَانِ، وَلَا يَكَادُ يُطْلَقُ مِلْكُ الْيَمِينِ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ، لَا يُقَالُ لِلدَّارِّ وَالدَّابَّةِ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ; لِأَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَخَصُّ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الدَّارِ بِالنَّقْضِ وَالْبِنَاءِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي بَنِي آدَمَ وَيَجُوزُ عَارِيَّةُ الدَّارِ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعُرُوضِ وَلَا يَجُوزُ عَارِيَّةُ الْفُرُوجِ؟. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تعالى: {يُحَافِظُونَ} قَالُوا: "فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ إنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى". وَقَالَ مَسْرُوقٌ: "الْحِفَاظُ عَلَى الصَّلَاةِ فِعْلُهَا لِوَقْتِهَا". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ "يُحَافِظُونَ دَائِمُونَ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "يُحَافِظُونَ عَلَى وُضُوئِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا مُرَاعَاتُهَا لِلتَّأْدِيَةِ فِي وَقْتِهَا عَلَى اسْتِكْمَالِ شَرَائِطِهَا، وَجَمِيعُ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَ عَلَيْهَا السَّلَفُ الْمُحَافَظَةَ هِيَ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ، وَأَعَادَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُشُوعِ فِيهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} الْآيَةَ. رَوَى وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهُوَ الرَّجُلُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: "لَا يَا عَائِشَةُ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ". وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ ابن عمر: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} قَالَ: "الزَّكَاةُ". وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت أَقْوَامًا كَانُوا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ أَشْفَقَ مِنْكُمْ عَلَى سَيِّئَاتِكُمْ أَنْ تُعَذَّبُوا عَلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} الْخَيْرَاتُ هُنَا الطَّاعَاتُ يُسَارِعُ إلَيْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَيَجْتَهِدُونَ فِي السَّبْقِ إلَيْهَا رَغْبَةً فِيهَا وَعِلْمًا بِمَا لَهُمْ بِهَا مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ، وقوله {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "سَبَقَتْ لَهُمْ

السَّعَادَةُ". وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرَاتِ سَابِقُونَ إلَى الْجَنَّةِ". وَقَالَ آخَرُونَ وَهُمْ إلَى الْخَيْرَاتِ سَابِقُونَ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: "خَطَايَا مِنْ دُونِ الْحَقِّ". وَعَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: "أَعْمَالٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا". وقَوْله تَعَالَى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} قُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ، وَقُرِئَ بِضَمِّ التاء وكسر الجيم، فقيل في "تهجرون" قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ "تَهْجُرُونَ الْحَقَّ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "تَقُولُونَ الْهَجْرَ وَهُوَ السَّيِّئُ مِنْ الْقَوْلِ". وَمَنْ قَرَأَ: "تُهْجِرُونَ" فَلَيْسَ إلَّا مِنْ الْهَجْرِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: "يُقَالُ أَهْجَرَ الْمَرِيضُ إذَا هَذَى". وَوَحَّدَ "سَامِرًا" وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ السُّمَّارَ; لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: قُومُوا قِيَامًا، وَقِيلَ: إنَّمَا وَحَّدَ; لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْوَقْتِ بِتَقْدِيرِ: لَيْلًا تَهْجُرُونَ، وَكَانُوا يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ حول الكعبة.

مطلب: في السمر وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّمَرِ، فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كان يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا سَمَرَ إلَّا لِرَجُلَيْنِ: مُصَلٍّ أَوْ مُسَافِرٍ". وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِيهِ فَمَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْمُرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. آخر سورة المؤمنين.

وَمِنْ سُورَةِ النُّورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فَكَانَ حَدُّ الْمَرْأَةِ الْحَبْسُ وَالْأَذَى بِالتَّعْيِيرِ، وَكَانَ حَدُّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَنُسِخَ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ"، فَكَانَ ذَلِكَ عَقِيبَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وَذَلِكَ لِتَنْبِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّانَا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ السَّبِيلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ حُكْمٍ آخَرَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ السَّبِيلُ الْمَجْعُولُ لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسُ مَنْسُوخَيْنِ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِالْآيَةِ وَعَنْ الْمُحْصَنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حَدِّ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي الزِّنَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَلَا يُجْلَدُ وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَلَيْسَ نَفْيُهُ بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ رَأَى نَفْيَهُ لِلدَّعَارَةِ فَعَلَ كَمَا يَجُوزُ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يَجْتَمِعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ الْجَلْدِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُنْفَى الْبِكْرُ بَعْدَ الْجَلْدِ" وَقَالَ مَالِكٌ: "يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَلَا الْعَبْدُ، وَمَنْ نُفِيَ حُبِسَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ

وَالشَّافِعِيُّ: "يُنْفَى الزَّانِي" وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُنْفَى الْعَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْبِكْرِ الزَّانِي لَيْسَ بِحَدٍّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْحَدُّ الْمُسْتَحَقُّ بِالزِّنَا وَأَنَّهُ كَمَالُ الْحَدِّ، فَلَوْ جَعَلْنَا النَّفْيَ حَدًّا مَعَهُ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ وَفِي ذَلِكَ إيجَابُ نَسْخِ الْآيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّفْيَ إنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ بِحَدٍّ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ غَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا مَعَ الْجَلْدِ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ تَوْقِيفٌ لِلصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ التِّلَاوَةِ أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ جَمِيعُ حَدِّهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ وُرُودُهُ فِي وَزْنِ وُرُودِ نَقْلِ الْآيَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ النَّفْيِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَلْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفَ فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: "لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهَا أَحَدًا" وَلَمْ يَسْتَثْنِ الزِّنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبِكْرَيْنِ إذَا زَنَيَا: "يُجْلَدَانِ وَلَا يُنْفَيَانِ وَإِنَّ نَفْيَهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ" وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ، فَجَلَدَهَا وَلَمْ يَنْفِهَا". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً". فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا مَعَ الْجَلْدِ عَلَى أَنَّهُمَا حَدُّ الزَّانِي لَمَا خَفِيَ عَلَى كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَشِبْلٌ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَةِ: "إذَا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ". وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْجَلْدِ، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَإِذَا كَانَ جَلْدُ الْأَمَةِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِّهَا بِالْجَلْدِ دُونَ النَّفْيِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْحُرَّةِ هُوَ الْجَلْدُ وَلَا نَفْيَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ التَّأْدِيبَ دُونَ الْحَدِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ تُحْصَنَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: ثُمَّ لِيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُنْفَى; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ نَفْيُهَا لَمَا جَازَ بَيْعُهَا; إذْ لَا يُمْكِنُ الْمُشْتَرِيَ تَسَلُّمُهَا; لِأَنَّ حُكْمَهَا أَنْ تُنْفَى. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ

الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُنْفَى وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ". وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْته مِنْهُ بِوَلِيدَةٍ وَمِائَةِ شَاةٍ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَن بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْك وَأَمَّا ابْنُك فَإِنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَزِيدَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ النَّسْخَ، لَا سِيَّمَا مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ النَّسْخَ، فَالْوَاجِبُ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ لَا أَنَّهُ حَدٌّ مَعَ الْجَلْدِ، فَرَأَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَفْيَ الْبِكْرِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَرَأَى رَدْعَهُمْ بِالنَّفْيِ بَعْدَ الْجَلْدِ كَمَا أَمَرَ بِشَقِّ رَوَايَا الْخَمْرِ وَكَسْرِ الْأَوَانِي; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَأَحْرَى بِقَطْعِ الْعَادَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ وَارِدٌ لَا مَحَالَةَ قَبْلَ آيَةِ الْجَلْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" فَلَوْ كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ السَّبِيلُ مَجْعُولًا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمَا كَانَ الْحُكْمُ مَأْخُوذًا عَنْهُ بَلْ عَنْ الْآيَةِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ النَّفْيِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ مِنْ النَّفْيِ إنْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ وَلَيْسَ بِحَدٍّ أَنَّ الْحُدُودَ مَعْلُومَةُ الْمَقَادِيرِ وَالنِّهَايَاتِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ حُدُودًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّفْيِ مَكَانًا مَعْلُومًا وَلَا مِقْدَارًا مِنْ الْمَسَافَةِ وَالْبُعْدِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، كَالتَّعْزِيرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ كَانَ تَقْدِيرُهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَافَةَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ تَوْقِيتَ السَّنَةِ لِمُدَّةِ النَّفْيِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ فَإِنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ وَأَنَّ أَبَا الزَّانِي قَالَ: سَأَلْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ، فَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَلَيْهَا الرَّجْمُ وَالْجَلْدُ، وَقَالَ لِأُنَيْسٍ: "اُغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" وَلَمْ يَذْكُرْ جَلْدًا، وَلَوْ وَجَبَ الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ لَهُ كَمَا ذَكَرَ الرَّجْمَ. وَقَدْ وَرَدَتْ قِصَّةُ مَاعِزٍ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ الرَّجْمِ

جَلْدٌ، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ حَدًّا مَعَ الرَّجْمِ لَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ جَلَدَهُ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ الرَّجْمُ; إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِالنَّقْلِ مِنْ الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَرَجَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد أَنْ وَضَعَتْ وَلَمْ يَذْكُرْ جَلْدًا، وَلَوْ كَانَتْ جُلِدَتْ لَنُقِلَ. وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "قَدْ خَشِيت أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَقَدْ قَرَأْنَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ"، فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ هُوَ الرَّجْمُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ وَاجِبًا مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَقَوْلُهُ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ"، وَبِمَا رَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أُحْصِنَ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَبِمَا رُوِيَ: "أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". فَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ وَارِدٌ عَقِيبَ كَوْنِ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى نَاسِخًا لَهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا". ثُمَّ كَانَ رَجْمُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَقَوْلُهُ: "وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ، فَلَوْ كَانَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ثَابِتًا لَاسْتَعْمَلَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَدَهُ بَعْضَ الْحَدِّ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ إحْصَانُهُ رَجَمَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَيَحْتَمِلُ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي جَلْدِهِ شُرَاحَةَ ثُمَّ رَجْمِهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الذِّمِّيِّينَ هَلْ يُحَدَّانِ إذَا زَنَيَا؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: "يُحَدَّانِ" إلَّا أَنَّهُمَا لَا يُرْجَمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُرْجَمَانِ إذَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ، وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُحَدُّ الذِّمِّيَّانِ إذَا زَنَيَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا" وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ أَوْ حُكْمًا مُبْتَدَأً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ فَقَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُبْقًى إلَى وَقْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يُنْسَخْ، وَإِنْ كَانَ رَجَمَهُمَا عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ثَابِتٌ; إذْ لَمْ يَرِدْ مَا

يُوجِبُ نَسْخَهُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدُنَا أَنَّهُ رَجَمَهُمَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَلَى تَبْقِيَةِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمُحْصَنُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ فِيهِ سَوَاءٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ كَانَ مَنْسُوخًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَأَنْتَ لَا تَرْجُمُهُمَا فَقَدْ خَالَفْت الْخَبَرَ الَّذِي احْتَجَجْت بِهِ فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الذِّمِّيِّينَ قِيلَ لَهُ: اسْتِدْلَالُنَا مِنْ خَبَرِ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صَحِيحٌ، وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ رَجَمَهُمَا صَحَّ أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْلِمَيْنِ فِي إيجَابِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ الرَّجْمِ الْإِحْصَانُ، فَلَمَّا شُرِطَ الْإِحْصَانُ فِيهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ" صَارَ حَدُّهُمَا الْجَلْدَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لِلْيَهُودِيَّيْنِ ذِمَّةٌ وَتَحَاكَمُوا إلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لَمَا أَقَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَنْ لَا ذِمَّةَ لَهُ قَدْ حَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الزِّنَا فَمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَى بِذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا; إذْ كَانَ فِعْلًا لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُزْجَرَ عَنْهُ بِالْحَدِّ كَمَا وَجَبَ زَجْرُ الْمُسْلِمِ بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ; لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ عَلَى التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شُرْبِهَا، وَلَيْسُوا مُقِرِّينَ عَلَى السَّرِقَةِ وَلَا عَلَى الزِّنَا. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ سُلْطَانٍ حُدَّ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ لَمْ يُحَدَّ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا يُحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ زُفَرُ: "إنْ أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ حُدَّ أَيْضًا". وَأَمَّا الْمُكْرَهَةُ فَلَا تُحَدُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. فَأَمَّا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ الْقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّ سَوَاءٌ أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسُ فِي إكْرَاهِ السُّلْطَانِ". وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: "فِي إكْرَاهِ السُّلْطَانِ" مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْخَلِيفَةَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ هَذَا فَإِنَّمَا أُسْقِطَ الْحَدُّ; لِأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ وَانْعَزَلَ عَنْ الْخِلَافَةِ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهُ عَلَى الزِّنَا فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ، وَالْحَدُّ إنَّمَا يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سُلْطَانٌ لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ، كَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ دُونِ الْخَلِيفَةِ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَوَجْهُهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مَأْمُورٌ بِالتَّوَصُّلِ إلَى دَرْءِ الْحَدِّ، فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ التَّوَصُّلَ إلَى إيجَابِهِ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ إقَامَتُهُ إذًا; لِأَنَّهُ بِإِكْرَاهِهِ أَرَادَ التَّوَصُّلَ إلَى إيجَابِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ الْحَدَّ. وَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ سُلْطَانٍ فَإِنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ،

وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي الرِّضَا، وَمَا وَقَعَ عَنْ طَوْعٍ وَرِضًا فَغَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْحَالُ شَاهِدَةً بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْفِعْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مُكْرَهًا وَدَلَالَةُ الْحَالِ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ الْإِكْرَاهِ هِيَ حَالُ خَوْفٍ وَتَلَفِ النَّفْسِ وَالِانْتِشَارُ وَالشَّهْوَةُ يُنَافِيهِمَا الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ، فَلَمَّا وُجِدَ مِنْهُ الِانْتِشَارُ وَالشَّهْوَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عُلِمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكْرَهًا خَائِفًا لَمَا كَانَ مِنْهُ انْتِشَارٌ وَلَا غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ فَوَجَبَ الْحَدُّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ وُجُودَ الِانْتِشَارِ لَا يُنَافِي تَرْكَ الْفِعْلِ، فَعَلِمْنَا حِينَ فَعَلَ مَعَ ظُهُورِ الْإِكْرَاهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مُكْرَهًا كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَعَمْرِي هَكَذَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى النَّفْسِ يُنَافِي الِانْتِشَارَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ طَائِعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ طَائِعًا كَانَ كَافِرًا مَعَ وُجُودِ الْإِكْرَاهِ فِي الظَّاهِرِ؟ كَذَلِكَ الْحَالُ الشَّاهِدَةُ بِالطَّوْعِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِذَلِكَ فَيُحَدُّ.

بَابُ صِفَةِ الضَّرْبِ فِي الزِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ قَالُوا: "فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ لَا فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَظَهْرَهَا، قَالَ: فَقُلْت لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ؟ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا وَلَا أَنْ أَجْعَلَ جَلْدَهَا فِي رَأْسِهَا وَقَدْ أَوْجَعْت حَيْثُ ضَرَبْت. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالُوا: "فِي الضَّرْبِ". وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "التَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ، وَضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ، وَيُضْرَبُ الشَّارِبُ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "الضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ غَيْرُ مُبَرِّحٍ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ، وَضَرْبُ الْقَذْفِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "حَدُّ الزِّنْيَةِ أَشَدُّ مِنْ حَدِّ الْفِرْيَةِ وَحَدُّ الْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ وَاحِدٌ". وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ الْقَذْفِ وَالْقَذْفُ أَشَدُّ مِنْ الشُّرْبِ وَضَرْبُ الشُّرْبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا قَاعِدًا وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ قَسْطَلَّانِيٌّ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَدِّ وَمِنْ تَخْفِيفِ الضَّرْبِ، اقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فِي أَنْ لَا يُعَطَّلَ الْحَدُّ وَفِي تَشْدِيدِ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ وَالشَّارِبِ، وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّ التَّعْزِيرَ أَشَدُّ الضَّرْبِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ لِلْإِيلَامِ عَلَى جِهَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ; إذْ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ بُلُوغُ الْحَدِّ، وَلَمْ يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ أَشَدُّ الضَّرْبِ; لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَبْسِ إذَا كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ زَلَّةً جَازَ لَهُ أَنْ يَتَجَافَى عَنْهُ وَلَا يُعَزِّرُهُ، فَعَلِمْت أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: "التَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ" إنَّمَا هُوَ إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ فَعَلَ، وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى ابْنِ أَخٍ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَيْنٌ فَمَاتَ فَقَضَتْ عَنْهُ، فَكَتَبَ إلَيْهَا يُحَرِّجُ عَلَيْهَا فِيهِ، فَرَفَعَتْ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى عَامِلِهِ: اضْرِبْهُ ثَلَاثِينَ ضَرْبَةً كُلُّهَا تُبْضِعُ اللَّحْمَ وَتَحْدُرُ الدَّمَ". فَهَذَا مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد قَالَ: "أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِامْرَأَةٍ زَنَتْ فَقَالَ: أَفْسَدَتْ حَسَبَهَا، اضْرِبُوهَا وَلَا تُحْرِقُوا عَلَيْهَا جِلْدَهَا" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى ضَرْبَ الزَّانِي أَخَفَّ مِنْ التَّعْزِيرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} عَلَى شِدَّةِ ضَرْبِ الزَّانِي عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ، لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى شِدَّةِ الضَّرْبِ فِيهِ; وَلِأَنَّ ضَرْبَ الشَّارِبِ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَضَرْبُ الزَّانِي إنَّمَا يَكُونُ بِالسَّوْطِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الزَّانِي أَشَدَّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا ضَرْبَ الْقَاذِفِ أَخَفَّ الضَّرْبِ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ، وَأَنَّ لَهُ شُهُودًا عَلَى ذَلِكَ وَالشُّهُودُ مَنْدُوبُونَ إلَى السَّتْرِ عَلَى الزَّانِي، فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقُعُودِ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَخْفِيفَ الضَّرْبِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْقَاذِفَ قَدْ غُلِّظَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ فِي إبْطَالِ شَهَادَتِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ شِدَّةِ الضَّرْبِ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يَقُولُ لِلزُّهْرِيِّ: إنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ إنَّ الْقَاذِفَ لَا يُضْرَبُ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَلَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ أَمَرَتْ بِشَاةٍ فَسُلِخَتْ حِينَ جُلِدَ أَبُو بَكْرَةَ فَأَلْبَسَتْهُ مَسْكَهَا، فَهَلْ كَانَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الضَّرْبِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْبَدَنِ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ عَلَى حَسَبِ مَا يُصَادِفُ مِنْ رِقَّةِ الْبَشَرَةِ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ إشْفَاقًا عليه.

بَابُ مَا يُضْرَبُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَحْدُودِ مَا يُضْرَبُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَحْدُودِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُضْرَبُ مِنْهُ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ ضَرْبِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيهِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ، فَقَالَ: "اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ مُهَاجِرِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "اجْتَنِبْ رَأْسَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ"، فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرَّأْسَ وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَثْنَاهُمَا جَمِيعًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالضَّرْبِ فِي حَدٍّ فَقَالَ: "أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ" وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا. وَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: أُتِيَ أَبُو بَكْرٍ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ ابْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عُسَيْلٍ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ سَأَلَ عَنْ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ الرَّأْسَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "يُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا إلَّا الْفَرْجَ وَالرَّأْسَ وَالْوَجْهَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يُضْرَبُ الرَّأْسُ أَيْضًا". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ الْحَدِّ سَوْطٌ وَاحِدٌ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُضْرَبُ إلَّا فِي الظَّهْرِ". وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي التَّعْزِيرِ: أَنَّهُ يُضْرَبُ الظَّهْرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَفِي الْحُدُودِ يُضْرَبُ الْأَعْضَاءُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يُضْرَبُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا وَلَا يُضْرَبُ الْوَجْهُ وَلَا الْمَذَاكِيرُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ اسْتِثْنَاءُ الرَّأْسِ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ". وَإِذَا لَمْ يَضْرِبْ الْوَجْهَ فَالرَّأْسُ مِثْلُهُ; لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الرَّأْسَ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ كَاَلَّذِي يَلْحَقُ الْوَجْهَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْوَجْهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلِئَلَّا يَلْحَقَهُ أَثَرٌ يَشِينُهُ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا يَلْحَقُ الرَّأْسَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَمَا يَلْحَقُ الْوَجْهَ أَنَّ الْمُوضِحَةَ وَسَائِرَ الشِّجَاجِ حُكْمُهَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ وَفَارَقَا سَائِرَ الْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ وَلَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِي اجْتِنَابِ ضَرْبِهِمَا. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ لِمَا يُخَافُ فِيهِ

مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَصَرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الرَّأْسِ; لِأَنَّ ضَرْبَ الرَّأْسِ يَظْلِمُ مِنْهُ الْبَصَرُ وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِلَاطٌ فِي الْعَقْلِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَمْنَعُ ضَرْبَ الرَّأْسِ. وَأَمَّا اجْتِنَابُ الْفَرْجِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَقْتَلٌ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْدُثَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "الضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا وَفِي التَّعْزِيرِ مُجَرَّدًا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ، إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ" وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "يُضْرَبُ التَّعْزِيرَ فِي إزَارٍ وَلَا يُفَرَّقُ فِي التَّعْزِيرِ خَاصَّةً فِي الْأَعْضَاءِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ضَرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَرْأَةَ الْقَاذِفَةَ قَائِمَةً فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا يُجَرَّدُ الرَّجُلُ وَلَا يُمَدُّ، وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَالرَّجُلُ قَائِمًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي حَدِيثِ رَجْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ قَالَ: "رَأَيْت الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَائِمًا، وَالْمَرْأَةَ قَاعِدَةٌ. وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِسَوْطٍ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ: أُرِيدُ أَلْيَنَ مِنْ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ فِيهِ لِينٌ فَقَالَ: أُرِيدُ أَشَدَّ مِنْ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ فَقَالَ: اضْرِبْ وَلَا يُرَى إبِطُك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا حَدًّا، فَدَعَا بِسَوْطٍ فَأَمَرَ فَدُقَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى لَانَ ثُمَّ قَالَ: اضْرِبْ وَلَا تُخْرِجْ إبِطَك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ: أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَرَوَى حَنْظَلَةُ السَّدُوسِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ جَلَدَ رَجُلًا قَائِمًا فِي الْقَذْفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْحُدُودِ بِالسَّوْطِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُضْرَبُ قَائِمًا; إذْ لَا يُمْكِنُ إعْطَاءُ كُلِّ عُضْوٍ حَقَّهُ إلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُضْرَبُ بِسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: "إنَّهُ يُضْرَبُ مُجَرَّدًا" لِيَصِلَ الْأَلَمُ إلَيْهِ، وَيُضْرَبُ الْقَاذِفُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ; لِأَنَّ ضَرْبَهُ أَخَفُّ. وَإِنَّمَا قَالُوا: "لَا يُمَدُّ"; لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً فِي الْإِيلَامِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ بِالْفِعْلِ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَدِّ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ: "أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ أُتِيَ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ وَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِجَسَدِي هَذَا الْمُذْنِبِ أَنْ يُضْرَبَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا تَدَعُوهُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ فَضَرَبَهُ عَلَيْهِ". وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَا: "يُجْلَدُ الْقَاذِفُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ". وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ فِي الشِّتَاءِ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابَ الصَّيْفِ وَلَكِنْ يُضْرَبُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قَذَفَ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَرْوٌ وَحَشْوٌ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَجِدَ وَجَعَ الضَّرْبِ فَيُنْزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ" وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بن

ثَابِتٍ عَمَّنْ شَهِدَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّهُ أَقَامَ عَلَى رَجُلٍ الْحَدَّ فَضَرَبَهُ عَلَى قَبَاءٍ أَوْ قُرْطُقٍ". وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَشْوٌ أَوْ فَرْوٌ فَلَمْ يَصِلْ الْأَلَمُ أَنَّ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ فُلَانًا فَضَرَبَهُ وَعَلَيْهِ حَشْوٌ أَوْ فَرْوٌ فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْأَلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَارِبًا وَلَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ وَلَوْ وَصَلَ إلَيْهِ الْأَلَمُ كَانَ ضَارِبًا؟

في إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدًّا فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ وَنَحْوَهَا، وَأَمَّا الضَّرْبُ الْمُوجِعُ وَالْحَدُّ فَلَا يُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ". وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَحْدُودِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ما سبيله أن ينزه المسجد عنه.

في الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يُرْجَمَانِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نفس بغير نَفْسٍ"، فَحَصَرَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ إلَّا بِإِحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى زِنًا. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ وَارْجُمُوهُمَا جَمِيعًا"، وَبِمَا رَوَى الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عَمْرِو بن أبي عمرو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ

بِهِ" قِيلَ لَهُ: عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو ضَعِيفَانِ لَا تَقُومُ بِرِوَايَتِهِمَا حُجَّةٌ وَلَا يَجُوزُ بِهِمَا إثْبَاتُ حَدٍّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَوْ ثَبَتَ إذَا فَعَلَاهُ مُسْتَحِلَّيْنِ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ فِيمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، وَقَوْلُهُ: "فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" ; لِأَنَّ حَدَّ فَاعِلِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ قَتْلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ الرَّجْمُ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ كَالزِّنَا إذَا كَانَ مُحْصَنًا وَعِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا مِمَّنْ يُوجِبُ قَتْلَهُ فَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ رَجْمًا، فَقَتْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ هُوَ قَوْلًا لِأَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا لَفَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ على وجه الحد.

في الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "عَلَيْهِ الْحَدُّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" يَنْفِي قَتْلَ فَاعِلِ ذَلِكَ; إذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِزِنًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ. وَقَدْ رَوَى عمرو بن أبي عمرو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ"، وَعَمْرٌو هَذَا ضَعِيفٌ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ أَتَى بَهِيمَةً: "أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ"، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إسْرَائِيلُ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَشَرِيكٌ كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ثَابِتًا لَمَا خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاوِيهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ صَحَّ الْخَبَرُ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ اسْتَحَلَّهُ.

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ لَا تُعَدُّ خِلَافًا الرَّجْمَ وَهُمْ الْخَوَارِجُ، وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنَقْلِ الْكَافَّةِ وَالْخَبَرِ الشَّائِعِ الْمُسْتَفِيضِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لِلشَّكِّ فِيهِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، فَرَوَى الرَّجْمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَخَطَبَ عُمَرُ فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَثْبَتُّهُ فِي الْمُصْحَفِ". وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ يَرْوِي خَبَرَ رَجْمِ مَاعِزٍ وَبَعْضُهُمْ خَبَرَ الْجُهَيْنِيَّةِ وَالْغَامِدِيَّةِ. وَخَبَرُ مَاعِزٍ

يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ: مِنْهَا أَنَّهُ رَدَّدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ لَمَّا أَقَرَّ عِنْدَهُ الرَّابِعَةَ سَأَلَ عَنْ صِحَّةِ عَقْلِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ بِهِ جُنَّةٌ؟ " فَقَالُوا: لَا، وَأَنَّهُ اسْتَنْكَهَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت؟ " فَلَمَّا أَبَى إلَّا التَّصْمِيمَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِصَرِيحِ الزِّنَا سَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ، ثُمَّ لَمَّا هَرَبَ حِينَ أَدْرَكَتْهُ الْحِجَارَةُ قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ" وَفِي تَرْدِيدِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَنْ عَقْلِهِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ إقْرَارِهِ أَرْبَعًا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ"، فَلَوْ كَانَ الْحَدُّ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَسَأَلَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ إقْرَارِهِ، وَمَسْأَلَتُهُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَهُ عَنْ عَقْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ الِاسْتِثْبَاتَ وَالِاحْتِيَاطَ فِي الْحَدِّ وَمَسْأَلَتُهُ عَنْ الزِّنَا كَيْفَ هُوَ وَمَا هُوَ. وَقَوْلُهُ: "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت" يُفِيدُ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا دُونَ اسْتِثْبَاتِهِ فِي مَعْنَى الزِّنَا حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِصِفَةٍ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَنَّهُ زِنًا، وَقَوْلُهُ: "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت" تَلْقِينٌ لَهُ الرُّجُوعَ عَنْ الزِّنَا وَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ اللَّمْسَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّارِقِ: "مَا إخَالُهُ سَرَقَ"، وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ حُبْلَى بِالْمَوْسِمِ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالُوا: زَنَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يُبْكِيك؟ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رُبَّمَا اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا يُلَقِّنُهَا ذَلِكَ، فَأَخْبَرَتْ أَنَّ رَجُلًا رَكِبَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قُتِلَتْ هَذِهِ لَخَشِيت أَنْ تَدْخُلَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَخْشَبَيْنِ النَّارُ، فَخَلَّى سَبِيلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِشُرَاحَةَ حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا: لَعَلَّك عَصِيَتْ نَفْسُك؟ قَالَتْ: أَتَيْت طَائِعَةً غَيْرَ مُكْرَهَةٍ، فَرَجَمَهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ" يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ; لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِمَّا بَذَلَ نَفْسَهُ لَهُ بَدِيًّا قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ"، وَلَمَّا لَمْ يَجْلِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ وَالْجَلْدَ لَا يَجْتَمِعَانِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الطَّائِفَةُ الرَّجُلُ إلَى الْأَلْفِ" وَقَرَأَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَقَالَ عَطَاءٌ: "رَجُلَانِ فَصَاعِدًا". وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو بُرْدَةَ: "الطَّائِفَةُ عَشَرَةٌ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} [التوبة: 66] قَالَ: كَانَ رَجُلًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} "ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا". وَقَالَ قَتَادَةُ: "لِيَكُونَ عِظَةً وَعِبْرَةً لَهُمْ". وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ: "أَرْبَعَةٌ; لِأَنَّ الشُّهُودَ أَرْبَعَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُشْبِهُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي حُضُورِ الطَّائِفَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ أَنَّهُ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لَهُمْ، فَيَكُونُ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِهِ وَرَدْعًا لِغَيْرِهِ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ جَمَاعَةً يَسْتَفِيضُ الْخَبَرُ بِهَا وَيَشِيعُ فَيَرْتَدِعُ النَّاسُ عَنْ مِثْلِهِ; لِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَبِاَللَّهِ التوفيق.

باب تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَكَانَ يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقٌ وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَكَانَ وَعَدَ رَجُلًا أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ أَسْرَى مَكَّةَ، وَإِنَّ عَنَاقَ رَأَتْهُ فَقَالَتْ لَهُ: أَقِمْ اللَّيْلَةَ عِنْدِي قَالَ: يَا عَنَاقُ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِبَاءِ هَذَا الَّذِي يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَزَوَّجُ عَنَاقَ؟ فَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَنْكِحْهَا! ". فَبَيَّنَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزَّانِيَةِ الْمُشْرِكَةِ أَنَّهَا لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَإِنَّ تَزَوُّجَ الْمُسْلِمِ الْمُشْرِكَةَ زِنًا; إذْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَحُكْمِهَا، فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} : قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} قَالَ: كَانَ يُقَالُ هِيَ مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} قَالَ: "كَانَ رِجَالٌ يُرِيدُونَ الزِّنَا بِنِسَاءٍ زَوَانِي بَغَايَا مُعْلِنَاتٍ كُنَّ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقِيلَ لَهُمْ هَذَا حَرَامٌ، فَأَرَادُوا نِكَاحَهُنَّ" فَذَكَرَ مُجَاهِدٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نِسَاءٍ مَخْصُوصَاتٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلَيْهِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَغِيَّةً عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ "فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّهْيَ خَرَجَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يُزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهَا وَالزِّنَا. وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "يَعْنِي بِالنِّكَاحِ جِمَاعَهَا". وَرَوَى ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قَالَ: "لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ". وَقَالَ شُعْبَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "بَغَايَا كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ كَرَايَاتِ الْبَيَاطِرَةِ يَأْتِيهِنَّ نَاسٌ، يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ". وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} : "يَعْنِي بِهِ الْجِمَاعَ حِينَ يَزْنِي" وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْإِخْبَارُ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزِّنَا وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ زَانِيًا فَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُ إذَا طَاوَعَتْهُ، وَإِذَا زَنَتْ الْمَرْأَةُ فَالرَّجُلُ مِثْلُهَا، فَحَكَمَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِمُسَاوَاتِهِمَا فِي الزِّنَا، وَيُفِيدُ ذَلِكَ مُسَاوَاتَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ وَعِقَابِ الْآخِرَةِ وَقَطْعِ الْمُوَالَاةِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "الْمَحْدُودُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا مَحْدُودَةً". وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَزْوِيجِ الزَّانِيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ: "أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَوْ زَنَى بِهَا غَيْرُهُ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَالْبَرَاءِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَنَّهُمَا لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ مَا اجْتَمَعَا". وَعَنْ عَلِيٍّ: "إذَا زَنَى الرَّجُلُ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ هِيَ إذَا زَنَتْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ حَظَرَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ تَأَوَّلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا. وَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَذَلِكَ حَقِيقَتُهُ أَوْ نَهْيًا وَتَحْرِيمًا، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ هُنَا الْوَطْءَ أَوْ الْعَقْدَ، وَمُمْتَنِعٌ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ; لِأَنَّا وَجَدْنَا زَانِيًا يَتَزَوَّجُ غَيْرَ زَانِيَةٍ وَزَانِيَةٌ تَتَزَوَّجُ غَيْرَ الزَّانِي، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْخَبَرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحُكْمَ وَالنَّهْيَ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَطْءَ أَوْ الْعَقْدَ، وَحَقِيقَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَطْءُ فِي اللُّغَةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْجِمَاعُ، وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْعَقْدِ إلَّا بِدَلَالَةٍ; لِأَنَّهُ مَجَازٌ; وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَقِيقَةَ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ زِنَا الْمَرْأَةِ أَوْ الرَّجُلِ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ; إذْ كَانَا جَمِيعًا مَوْصُوفَيْنِ بِأَنَّهُمَا زَانِيَانِ; لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ إبَاحَةَ نِكَاحِ الزَّانِي لِلزَّانِيَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ الَّذِي زَنَى بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتُوبَا وَأَنْ لَا يَكُونَ زِنَاهُمَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ مُشْرِكَةً وَلِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ مُشْرِكًا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ وَتَزْوِيجَ الْمُشْرِكِينَ مُحَرَّمٌ مَنْسُوخٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجِمَاعَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْآيَةِ مَنْسُوخًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ الزِّنَا لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بِمَا رَوَى هَارُونُ بْنُ رِئَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ وَيَرْوِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَكِلَاهُمَا يُرْسِلُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ امْرَأَتِي لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَحَدًا مِمَّنْ يُرِيدُهَا عَلَى الزِّنَا. وَقَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ، قَالُوا: لَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ وَصَفَ امْرَأَتَهُ بِالْخَرَقِ وَضَعْفِ الرَّأْيِ وَتَضْيِيعِ مَالِهِ فَهِيَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ طَالِبٍ وَلَا تَحْفَظُهُ مِنْ سَارِقٍ، قَالُوا: وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ كِنَايَةٌ وَمَجَازٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى وَأَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: إذَا جَاءَكُمْ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى وَاَلَّذِي هُوَ أَهْنَأُ وَاَلَّذِي هُوَ أَتْقَى. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ1 النِّسَاءَ} [النساء: 43] فَجَعَلَ الْجِمَاعَ لَمْسًا. قِيلَ لَهُ: إنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَقُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا لَا تَمْنَعُ لَامِسًا، وَإِنَّمَا قَالَ يَدَ لَامِسٍ، وَلَمْ يَقُلْ فَرْجَ لَامِسٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ اللَّمْسِ بِالْيَدِ، وَقَالَ جَرِيرٌ الْخَطْفِيُّ يُعَاتِبُ قَوْمًا: أَلَسْتُمْ لِئَامًا إذْ تَرُومُونَ جَارَهُمْ ... وَلَوْلَا هُمُو لَمْ تَمْنَعُوا2 كَفَّ لَامِسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْوَطْءَ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّكُمْ لَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الضَّيْمَ وَمَنَعَ أَمْوَالَكُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، فَكَيْفَ تَرُومُونَ جَارَهُمْ بِالظُّلْمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ تَزْوِيجَ الزَّانِيَةِ وَإِمْسَاكَهَا عَلَى النِّكَاحِ مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَا دَامَتْ مُقِيمَةً عَلَى الزِّنَا وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] يَعْنِي الْعَفَائِفَ مِنْهُنَّ; وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَا فَتُلْحِقَهُ بِهِ وَتُوَرِّثَهُ مَالَهُ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا تَائِبَةٌ غَيْرُ مُقِيمَةٍ عَلَى الزِّنَا، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ زِنَاهَا لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ بِاللِّعَانِ ثُمَّ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ كَانَ وُجُودُ الزِّنَا مِنْهَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ لَوَجَبَ إيقَافُ الْفُرْقَةِ بِقَذْفِهِ إيَّاهَا لَاعْتِرَافِهِ بِمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ كَانَ وَطِئَهَا لَوَقَعَتْ الفرقة بهذا القول.

_ 1 قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هكذا في النسخ التي بأيدينا, وهي قراءة حمزة والكسائي كما صرح به البيضاوي في سورة النساء. "لمصححه". 2 قوله: "لم تمنعوا" هكذا في النسخ, والذي في ديوانه المطبوع: "لم تدفعوا" "لمصححه".

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْت لَوَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ دُونَ اللِّعَانِ، فَلَمَّا لَمْ تَقَعْ بِالْقَذْفِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرْت. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ; لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا، فَلَمَّا حُكِمَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ حُكِمَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ لِأَجْلِ الزِّنَا. قِيلَ لَهُ: وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا; لِأَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَا تُوجِبُ كَوْنَهَا زَانِيَةً كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهَا عَلَيْهِ بِالْإِكْذَابِ لَا تُوجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا; إذْ لَيْسَتْ إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَحْكُومًا لَهُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَوَجَبَ أَنْ تُحَدَّ حَدَّ الزِّنَا، فَلَمَّا لَمْ تُحَدَّ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا بِالزِّنَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْإِحْصَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا كَذَلِكَ، وَالْآخَرُ: الْإِحْصَانُ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَفِيفًا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْصَنَاتِ بِالذِّكْرِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُحْصَنِينَ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ، وَأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى قَاذِفِ الرَّجُلِ الْمُحْصَنِ كَوُجُوبِهِ عَلَى قَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ فِي فَحْوَى اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْعَفَائِفُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ رَمْيُهَا بِضِدِّ الْعَفَافِ وَهُوَ الزِّنَا. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ فَحْوَى اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يَعْنِي: عَلَى صِحَّةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مِنْ الشُّهُودِ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} مَعْنَاهُ: يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَا. وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إنَّمَا هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَهُوَ الَّذِي إذَا جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَيْهِ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا مَا فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الرَّمْيِ مَخْصُوصًا بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ الرَّمْيُ بِهَا; إذْ قَدْ يَرْمِيهَا بِسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ وَكُفْرٍ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ، إلَّا أَنَّهُ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ

الْحَالُ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ بِالزِّنَا مُرَادٌ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا; إذْ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الزِّنَا مُرَادٌ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي اللَّفْظِ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ مَقْصُورًا عَلَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ". وَقَالَ مَالِكٌ: "عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ". وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ". وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ: "أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ. أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ النَّاسَ، فَقَالَ قَائِلٌ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُشَاوِرْ فِي ذَلِكَ إلَّا الصَّحَابَةَ الَّذِينَ إذَا خَالَفُوا قُبِلَ خِلَافُهُمْ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ حُصُولُ الْخِلَافِ بَيْنَ السَّلَفِ. ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى غَيْرِهِ; إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا الِاتِّفَاقُ أَوْ التَّوْقِيفُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي التَّعْرِيضِ، وَفِي مُشَاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَأَنَّهُ قَالَهُ اجْتِهَادًا وَرَأْيًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّعْرِيضَ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي، وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْحَدِّ بِالِاحْتِمَالِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَائِلَ بَرِيءُ الظَّهْرِ مِنْ الْجَلْدِ فَلَا نَجْلِدُهُ بِالشَّكِّ وَالْمُحْتَمَلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ اسْتَحْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً فَلَمْ يُلْزِمْهُ الثَّلَاثَ بِالِاحْتِمَالِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إنَّهَا لَا تُجْعَلُ طَلَاقًا إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ التَّعْرِيضِ حِينَ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِهِ. وَأَيْضًا قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ فَقَالَ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] يَعْنِي نِكَاحًا، فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ بِمَنْزِلَةِ الْإِضْمَارِ فِي النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمَ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْرِيضَ لَمَّا كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ كَانَ فِي حُكْمِ الضَّمِيرِ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا قَذَفَ الْعَبْدُ حُرًّا فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ

جَلْدَةً". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يُجْلَدُ ثَمَانِينَ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: "يُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الْفِرْيَةِ أَرْبَعِينَ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة قَالَ: "أَدْرَكْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إلَّا أَرْبَعِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَالِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ. وَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي عَبْدٍ قَذَفَ حُرًّا: "إنَّهُ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ". وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ". وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الزِّنَا خَمْسُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ لِأَجْلِ الرِّقِّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَنَصَّ عَلَى حَدِّ الْأَمَةِ وَأَنَّهُ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَتِهَا لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ فِي الْقَذْفِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُجَامِعُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ، وَيُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ إذَا كَانَ مِثْلُهَا تُجَامَعُ وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ، وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ". وَقَالَ اللَّيْثُ "يُحَدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ لَا يَقَعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زِنًا; لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ زِنًا; إذْ كَانَ الزِّنَا فِعْلًا مَذْمُومًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، فَقَاذِفُهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَاذِفِ الْمَجْنُونِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ; وَلِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمْ شَيْنٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَشِينُهُمْ قَذْفُ الْقَاذِفِ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ إلَى الْمَقْذُوفِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكَالَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيهِ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدٍ وَقْتَ الْقَذْفِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ; لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ لَا غَيْرَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّ أَبِيهِ إذَا قُذِفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَدْ جَازَ أَنْ يُطَالِبَ عَنْ الْغَيْرِ بِحَدِّ الْقَذْفِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُطَالِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا حَصَلَ بِهِ مِنْ الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِ وَلَا يُطَالِبُ عَنْ الْأَبِ. وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الصَّبِيِّ لَا يُحَدُّ كَانَ كَذَلِكَ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الزِّنَا مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ: "إذَا قَذَفَهُمْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا قَالَ

لَهُمْ يَا زُنَاةُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَالَ لِكُلِّ إنْسَانٍ يَا زَانِي فَلِكُلِّ إنْسَانٍ حَدٌّ" وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْت بِفُلَانَةَ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ; لِأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ حَدًّا وَاحِدًا وَلَمْ يَحُدَّهُمْ لِلْمَرْأَةِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا قَالَ يَا زَانِيَ ابْنَ زَانٍ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ، وَإِنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ إنَّكُمْ زُنَاةٌ فَحَدٌّ وَاحِدٌ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قَالَ مَنْ كَانَ دَاخِلَ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ زَانٍ ضُرِبَ لِمَنْ كَانَ دَاخِلَهَا إذَا عُرِفُوا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْهُ: "إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ" وَقَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: "إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ لَاعَنَ وَلَمْ يُحَدَّ لِلرَّجُلِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاذِفِينَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ رَمَى مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَاذِفَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ، وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى قَاذِفِ جَمَاعَةِ الْمُحْصَنَاتِ أَكْثَرَ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ: أنبأنا هشام بن حسان قال: حدثني عكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِك! " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا رَأَى أَحَدُنَا رَجُلًا عَلَى امْرَأَتِهِ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك" فَقَالَ هِلَالٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنِّي لَصَادِقٌ وَلِيُنْزِلَن اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبْرِئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك! ". قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، كَانَ حُكْمًا عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ كَهُوَ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهلال بن أمية: "ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك" وَلِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِلَالٍ إلَّا حَدًّا مَعَ قَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ وَلِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، إلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَأُقِيمَ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَلَمْ يُنْسَخْ مُوجِبُ الْخَبَرِ مِنْ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِ الْجَمَاعَةِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ سَائِرَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا وُجِدَ مِنْهُ مِرَارًا لَا يُوجِبُ إلا حدا

وَاحِدًا، كَمَنْ زَنَى مِرَارًا أَوْ سَرَقَ مِرَارًا أَوْ شَرِبَ مِرَارًا لَمْ يُحَدَّ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا، فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُوجِبًا لِسُقُوطِ بَعْضِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا حَدٌّ، وَإِنْ شِئْت قُلْت إنَّهُ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. فَإِنْ قِيلَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَإِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتِيفَاءُ حَدِّهِ عَلَى حِيَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، قِيلَ لَهُ: الْحَدُّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَا الْحَدُّ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ نَفْسُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ؟ فَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلِذَلِكَ لَا يُجِيزُ أَصْحَابُنَا الْعَفْوَ عَنْهُ، وَلَا يُورَثُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهِ; إذْ كَانَ الْجَلْدُ مِمَّا يَتَنَصَّفُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ يَسْتَوِيَانِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ فَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ ثَبَتَ الدَّمُ فِي عُنُقِهِ فَإِذَا كَانَ عَمْدًا قُتِلَ وَإِنْ كَانَ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ حَرٌّ وَجَبَتْ الدِّيَةُ؟ فَلَوْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَمَا اخْتَلَفَ مَعَ إمْكَانِ تَنْصِيفِهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ; إذْ مَا يَثْبُتُ عَلَى الْحُرِّ فَمِثْلُهُ يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُحَدُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "يَحُدُّهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ الْمَقْذُوفُ" وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَحُدُّهُ الْإِمَامُ حَتَّى يُطَالِبَ الْمَقْذُوفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُ فَيَحُدُّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ شُهُودٌ عُدُولٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ"، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدٍّ لَمْ يَكُنْ يُهْمِلُهُ وَلَا يُقِيمُهُ، فَلَمَّا قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: "ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك" وَلَمْ يُحْضِرْ شُهُودًا وَلَمْ يَحُدَّهُ حِينَ لَمْ يُطَالِبْ الْمَقْذُوفَ بِالْحَدِّ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ، وَأَنَّ أَبَا الزَّانِي قَالَ: إنَّ ابْنِي زَنَى بِامْرَأَةِ هَذَا، فَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَذْفِهَا وَقَالَ: "اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا

فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". وَلَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا لِمَا اُنْتُهِكَ مِنْ عِرْضِهِ بِقَذْفِهِ مَعَ إحْصَانِهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَقًّا لَهُ دُونَ الْإِمَامِ، كَمَا أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِمَا اُنْتُهِكَ مِنْ حِرْزِ الْمَسْرُوقِ وَأَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَمَّا فَرْقُ مَالِكٍ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَهُ الْإِمَامُ أَوْ يَشْهَدَ بِهِ الشُّهُودُ فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ هَذَا إنْ كَانَ مِمَّا لِلْإِمَامِ إقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ سَمَاعِ الْإِمَامِ وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِهِ.

بَابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَاذِفِ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى مَا قَذَفَهُ بِهِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا جَلْدُ ثَمَانِينَ، وَالثَّانِي بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ، وَالثَّالِثُ: الْحُكْمُ بِتَفْسِيقِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لُزُومِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَهُ وَثُبُوتِهَا عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: "قَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ: "شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُحَدَّ" وَهَذَا يَقْتَضِي مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَدُّ; لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ; إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهَادَةِ مَنْ وُسِمَ بِهَا إذَا كَانَ فِسْقُهُ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ وَالِاعْتِقَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرْبَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ وَبَقَاءِ حُكْمِ عَدَالَتِهِ مَا لَمْ يَقَعْ الْحَدُّ بِهِ: أَحَدُهُمَا قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف ان يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الْآيَةَ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ فَإِنَّمَا حُكِمَ بِفِسْقِهِمْ مُتَرَاخِيًا عَنْ حَالِ الْقَذْفِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الشُّهُودِ فَمَنْ حَكَمَ بِفِسْقِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَرْدُودَةٍ لِأَجْلِ الْقَذْفِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ تَبْطُلُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَمَا كَانَ تَرْكُهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ مُبْطِلًا لِشَهَادَتِهِ وَهِيَ قَدْ بَطَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمَعْقُولَ من هذا

اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ مَا دَامَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهُ مُمْكِنَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ "أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ثُمَّ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ" أَنَّهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَتْرُكَ دُخُولَ الدَّارِ إلَى أَنْ تَمُوتَ فَتَطْلُقَ حِينَئِذٍ قَبْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: "أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا وَلَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ" كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَكَانَ الْكَلَامُ وَتَرْكُ الدُّخُولِ إلَى أَنْ تَمُوتَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ "وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ثُمَّ دَخَلْت الدَّارَ" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ثُمَّ لَمْ تَدْخُلِيهَا" وَإِنْ افْتَرَقَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَرْطَ الْيَمِينِ فِي أَحَدِهِمَا وُجُودُ الدُّخُولِ وَفِي الْآخَرِ نَفْيُهُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} مُقْتَضِيًا لِشَرْطَيْنِ فِي بُطْلَانِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَحَدُهُمَا: الرَّمْيُ وَالْآخَرُ عَدَمُ الشُّهُودِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْقَذْفِ وَفَوَاتِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِهِ، فَمَا دَامَتْ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مُمْكِنَةً بِخُصُومَةِ الْقَاذِفِ فَقَدْ اقْتَضَى لَفْظُ الْآيَةِ بَقَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ وَأَيْضًا لَا يَخْلُو الْقَاذِفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وَبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ وَلِذَلِكَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تُقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَتُهُ عَلَى الزِّنَا; إذْ قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ فِي قَذْفِهِ حُكْمٌ بِبُطْلَانِ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِصِدْقِهِ فِي كَوْنِ الْمَقْذُوفِ زَانِيًا فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي حُكْمِ قَبُولِ بَيِّنَتِهِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ ثَبَتَ أَنَّ قَذْفَهُ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُ; إذْ لَمْ يُحْكَمْ بِكَذِبِهِ; لِأَنَّ مَنْ سَمِعْنَاهُ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ لَا نَعْلَمُ فِيهِ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ شَهَادَتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَاذِفَ امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ وَلَا يَكُونُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ قَذْفِهِ؟ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ إيجَابُ اللِّعَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَلَمَا أُمِرَ أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا مَعَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ وَلَمَا وُعِظَ فِي تَرْكِ اللِّعَانِ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا، وَلَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: "اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ " فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ هُوَ الْكَاذِبُ وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ دُونَ الزَّوْجَةِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُ وَلَا الْحُكْمَ بِتَكْذِيبِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَطْ بَلْ إذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ إذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فِي الْقَذْفِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إبْطَالُ شَهَادَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَ الْإِمَامِ; إذْ كَانَ الشُّهَدَاءُ إنَّمَا يُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْإِمَامِ فَمَنْ حَكَمَ بِتَفْسِيقِهِ وَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَدْ خَالَفَ الْآيَةَ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَى النَّاسِ إذَا سَمِعُوا مَنْ يَقْذِفُ آخَرَ أَنْ يَحْكُمُوا بِكَذِبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالشُّهَدَاءِ. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَذَفَتِهَا; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلى قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وَقَدْ كَانَتْ بَرِيئَةَ السَّاحَةِ غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ بِذَلِكَ، وَقَاذِفُوهَا أَيْضًا لَمْ يَقْذِفُوهَا بِرُؤْيَةٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَذَفُوهَا ظَنًّا مِنْهُمْ وَحُسْبَانًا حِينَ تَخَلَّفَتْ. وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُمْ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ ظَنٍّ فِي مِثْلِهِ فَعَلَيْنَا إكْذَابُهُ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} إيجَابُ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ; إذْ سَمِعُوهُ وَلَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِالشُّهُودِ. وَالشَّافِعِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ شُهُودَ الْقَذْفِ إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ قَدْ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ; لِأَنَّهُ قَدْ فُسِّقَ بِقَذْفِهِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِهِ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ" قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ"، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَاءِ عَدَالَةِ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُحَدَّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ" فَأَخْبَرَ أَنَّ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ مُعَلَّقٌ بِوُقُوعِ الْجَلْدِ بِهِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم استثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فَتَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفِسْقِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تجوز. حدثنا

جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال: ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قَالَ: "فَمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَقْبُولَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، بِأَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إذَا لَمْ يُجْلَدْ وَتَابَ، وَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ جُلِدَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: "لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ إنَّمَا تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "رُفِعَ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ اسْمُ الْفِسْقِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تَجُوزُ أَبَدًا". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٍ وَالزُّهْرِيِّ: "أَنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وَجْهٍ مَطْعُونٍ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: "إنْ تُبْت قُبِلَتْ شَهَادَتُك"، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، ثُمَّ شَكَّ وَقَالَ: هُوَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: "إنْ تُبْت قُبِلَتْ شَهَادَتُك فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ"، فَشَكَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرَ بْنِ قَيْسٍ وَيُقَالُ إنَّ عُمَرَ بْنَ قَيْسٍ مَطْعُونٌ فِيهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ هَذَا الْقَوْلُ. وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا بَلَاغٌ لَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ فَلَمْ يُخَالِفْهُ إلَّا إلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرَةَ بَعْدَمَا جَلَدَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَ قَبْلَ الْجَلْدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِ الْقَاذِفِ إذَا تَابَ فَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْفِسْقِ أَوْ إلَى إبْطَالِ الشَّهَادَةِ وَسِمَةِ الْفِسْقِ جَمِيعًا فَيَرْفَعُهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى مَا يَلِيهِ مِنْ زَوَالِ سِمَةِ الْفِسْقِ بِهِ دُونَ جَوَازِ الشَّهَادَةِ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر:59] فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْمُنَجَّيْنَ; لِأَنَّهَا تَلِيهِمْ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِفُلَانٍ: "عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمٌ" كَانَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَكَانَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنْ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَلِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فِي مَعْنَى

الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ; لِأَنَّهُ يَلِيهِنَّ، فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاقْتِصَارِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ وَكَانَتْ الْجُمْلَةُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ عُمُومًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعُمُومِ ثَابِتًا وَأَنْ لَا نَرْفَعَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِيمَا يَلِيهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى رُجُوعِهِ إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33] إلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فَكَانَ التَّيَمُّمُ لِمَنْ لَزِمَهُ الِاغْتِسَالُ كَلُزُومِهِ لِمَنْ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ بِالْحَدَثِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلُ عَلَى كَلَامٍ مَعْطُوفٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ يَجِبُ أَنْ يَنْتَظِمَ الْجَمِيعُ وَيَرْجِعَ إلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ الْمَذْكُورِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا الِاسْتِثْنَاءَ تَارَةً يَرْجِعُ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ وَتَارَةً إلَى جَمِيعِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَالِمًا مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَلِيهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ جَوَازِ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ لَكَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يَقِفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَا يَلِيهِ أَوْ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ، وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فِي الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مَعَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَلْ يَصِيرُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ؟ إذْ لَيْسَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، وَإِذَا بَطَلَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَقَفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ صِيغَةُ الْعُمُومِ لَا تَدَافُعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَلَيْسَ لِلِاسْتِثْنَاءِ صِيغَةُ عُمُومٍ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَمِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُمُومِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَأَنْ لَا نُزِيلَهَا

عَنْهُ إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي صِيغَتُهُ رَفْعَ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ: عَبْدُهُ حَرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْأَيْمَانِ،; إذْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِي شَيْءٍ; لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّتِي هِيَ "إلَّا" وَ "غَيْرَ" وَ "سِوَى" وَنَحْوِ ذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "إنْ شَاءَ اللَّهُ" يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ إلَّا لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا طَالِقٌ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ؟ وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ "إنْ شَاءَ اللَّهُ" رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِيمَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ قَالَ: "أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حَرٌّ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ" كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْجَمِيعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ حَتَّى مَاتَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَعَتَقَ عَبْدُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْت، مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ: "إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ" وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: "إنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ"، وَحُكْمُ الشَّرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ إذَا كَانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ كَانَ وُجُودُهُ عَامِلًا فِي رَفْعِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؟ وَجَائِزٌ أَنْ لَا يُوجَدَ الشَّرْطُ أَبَدًا فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْكَلَامِ رَأْسًا وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْجَزَاءِ شَيْءٌ، فَلِذَلِكَ جَازَ رُجُوعُ الشَّرْطِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ كَمَا جَازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: "إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ" هُوَ شَرْطٌ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمَحْضُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] وَ {إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي وَقْتٍ مَا وَأَنَّ مَنْ رَدَّ الِاسْتِثْنَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَرْفَعُ حُكْمَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ فِي بَعْضِهَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّجَاةِ عَنْ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا عَمِلَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ. وَيُسْتَدَلُّ بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ دون

مَا تَقَدَّمَهُ وَأَنْ لَا يُرَدَّ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ دُخُولُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي عُمِلَ فِيهِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ دُونَ غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ دُونَ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْعُمُومِ، كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَلَمَّا جَازَ دُخُولُ شَرْطِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَائِرِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ لِرَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ، أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ، وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} خَبَرٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلَى الْأَمْرِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ "الْوَاوَ" فِي قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لِلِاسْتِقْبَالِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ وَاحِدٌ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ جَمْعُهُمَا فِي كِنَايَةٍ وَلَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ إذَا كَانَ أَمْرًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: "أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، وَلَا تَدْخُلْ الدَّارَ وَفُلَانٌ خَارِجٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ" إنَّ مَفْهُومَ هَذَا الْكَلَامِ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْخُرُوجِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَمْرِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْآيَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَمْرٌ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] خَبَرٌ، فَرَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وَإِنْ كَانَ أَمْرًا فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ الْخَبَرِ، فَلَمَّا كَانَ الْجَمِيعُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ جَازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ، وَلَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الْجَمِيعِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَقُولُ مَتَى اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا إلَى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مِمَّا لَيْسَ فِي مِثْلِ صِيغَتِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَإِنْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ جَازَ رَدُّهُ إلَيْهِ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَهُوَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ "الْوَاوُ" لِلْجَمْعِ، ثُمَّ قَالَ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} صَارَ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ مَعًا لَا تَقَدُّمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْكُورِ بِأَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى الْآخَرِ; إذْ لَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حُكْمٌ فِي التَّرْتِيبِ، فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَعًا، فَلَيْسَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى سِمَةِ الْفِسْقِ بِأَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ وَالْحَدِّ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ لَاقْتَضَى ذَلِكَ رُجُوعَهُ أَيْضًا وَزَوَالَهُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ "الْوَاوَ" قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلَى مَا ذَكَرْت وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لِلِاسْتِئْنَافِ; لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَيَنْتَظِمُهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَالْمَذْكُورِ مَعًا، وَذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلَى آخِرِ الْآيَةِ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَمْرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ فَصَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِهَذِهِ الْأَوَامِرِ. وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا أَمْرٌ وَآخِرَهَا خَبَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ; فَلِذَلِكَ كَانَتْ "الْوَاوُ" لِلِاسْتِئْنَافِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ دُخُولُ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ عَائِدٌ إلَى الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ وَغَيْرُ عَائِدٍ إلَى الْخَبَرِ الَّذِي يَلِيهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ عَذَابَ الْآخِرَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَشْرُوطَةٌ لِلْحَدِّ دُونَ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْفِسْقِ أَوْ يَكُونَ حُكْمًا عَلَى حِيَالِهِ تَقْتَضِي الْآيَةُ تَأْبِيدَهُ، فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى بُطْلَانِهَا بِلُزُومِ سِمَةِ الْفِسْقِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ ذِكْرِهِ; إذْ كَانَ ذِكْرُ التَّفْسِيقِ مُقْتَضِيًا لِبُطْلَانِهَا إلَّا بِزَوَالِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ وَلَا بِتَرْكِ التَّوْبَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ وَإِبْطَالُ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفِسْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عِلَّةً لِمَا ذُكِرَ مِنْ إبْطَالِ الشَّهَادَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا; لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ; وَفِي ذَلِكَ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصَرْفُهُ إلَى مَجَازٍ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ; لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ وَأَنْ لَا يُجْعَلَ عِلَّةً لِغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ مَعَهُ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ

بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْجَلْدِ حُكْمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى التَّوْبَةِ. فَإِنْ قِيلَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْفِسْقِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ إلَى الْفِسْقِ مُفِيدًا وَرَدُّهُ إلَى الشَّهَادَةِ يُفِيدُ جَوَازَهَا بِالتَّوْبَةِ; إذْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةً مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا بَقَاءُ سِمَةِ الْفِسْقِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي عَقْلٍ وَلَا سَمْعٍ; إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ ذَمًّا وَعُقُوبَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّائِبُ الذَّمَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَعْمَى غَيْرُ جَائِزِي الشَّهَادَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّعْنِيفِ لَكِنْ عِبَادَةً؟ فَكَانَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ فَائِدَةِ الْآيَةِ مِنْهُ إلَى الْفِسْقِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّوْبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا هِيَ التَّوْبَةُ مِنْ الْقَذْفِ وَإِكْذَابُ نَفْسِهِ فِيهِ; لِأَنَّهُ بِهِ اسْتَحَقَّ سِمَةَ الْفِسْقِ، وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَبْقَى سِمَةُ الْفِسْقِ عَلَيْهِ إذَا تَابَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِزَوَالِ سِمَةِ الْفِسْقِ عَنْهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ سِمَةَ الْفِسْقِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِوُقُوعِ الْجَلْدِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ عِنْدَ إظْهَارِ التَّوْبَةِ أَنْ لَا تَكُونَ مَقْبُولَةً فِي ظَاهِرِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ; لِأَنَّا لَا نَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِأَنْ لَا نُصَدِّقَهُ عَلَى تَوْبَتِهِ وَأَنْ نَتْرُكَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا نَتَوَلَّاهُ عَلَى حَسَبِ مَا نَتَوَلَّى سَائِرَ أَهْلِ التَّوْبَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ أَفَادَتْنَا الْآيَةُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَوُجُوبَ مُوَالَاتِهِ وَتَصْدِيقِهِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ تَوْبَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا أَسْلَمَ وَتَابَ، دَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ; إذْ كَانَ الذِّمِّيُّ مُرَادًا بِالْآيَةِ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَتْ التَّوْبَةُ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ كَانَ الْمُسْلِمُ فِي حُكْمِهِ لِوُجُودِ التَّوْبَةِ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت وَذَلِكَ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا اقْتَضَتْ بُطْلَانَ شَهَادَةِ مَنْ جُلِدَ وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَذْفِ، وَالذِّمِّيُّ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ سِمَةُ الْفِسْقِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ السِّمَةَ بِالْجَلْدِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ وَإِنَّمَا جَلَدْنَاهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِالْجَلْدِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَأَجَزْنَاهَا كَمَا نُجِيزُ شَهَادَةَ سَائِرِ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ; إذْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ سِمَةَ الْفِسْقِ بِوُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ. قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي حُكْمِهَا بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، وَإِنَّمَا أَجَازَ أَصْحَابُنَا شَهَادَةَ الذِّمِّيِّ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ إسلامه

وَتَوْبَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَدَالَةُ الْإِسْلَامِ، وَالْآخَرُ عَدَالَةُ الْفِعْلِ; وَالذِّمِّيُّ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حِينَ حُدَّ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْحَدِّ بِهِ مُبْطِلًا لِعَدَالَةِ إسْلَامِهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَأَحْدَثَ تَوْبَةً فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ عَدَالَةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أَيْضًا بِالتَّوْبَةِ; فَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَإِنَّ الْحَدَّ قَدْ أَسْقَطَ عَدَالَتَهُ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ وَلَمْ يَسْتَحْدِثْ بِالتَّوْبَةِ عَدَالَةً أُخْرَى مِنْ جِهَةِ الدِّينِ; إذْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ دِينًا بِتَوْبَتِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْدَثَ عَدَالَةً مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ; فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ; إذْ كَانَ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وُجُودَ الْعَدَالَةِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ إذَا تَابَ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِهِ إلَى التَّفْسِيقِ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِقَبُولِهَا بَعْدَ الْحَدِّ كَهُوَ قَبْلَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ شَهَادَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِالْقَذْفِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ وَلَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِتَفْسِيقِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَوْ لَمْ يَتُبْ وَأَقَامَ عَلَى قَذْفِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً، وَإِنَّمَا بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَلُزُومُهُ سِمَةَ الْفِسْقِ مُرَتَّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا رَفَعَ عَنْهُ سِمَةَ الْفِسْقِ الَّتِي لَزِمَتْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَدِّ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الْحُكْمِ بِالتَّفْسِيقِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، وَهُوَ أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ، وَلَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا أَمْرَانِ قَدْ تَعَلَّقَا بِالْقَذْفِ، فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْحَدِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا التَّفْسِيقُ فَهُوَ خَبَرٌ لَيْسَ بِأَمْرٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ; أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَبِمُطَالَبَتِهِ يَصِحُّ أَدَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا كَمَا تَصِحُّ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً فِي أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُهُمَا، وَأَمَّا لُزُومُ سِمَةِ الْفِسْقِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَيْهِ وَمَقْصُورًا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فَالتَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ أَحْرَى قِيلَ لَهُ: التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ يَزُولُ عَنْهُ الْقَتْلُ وَلَا يَزُولُ عَنْ التَّائِبِ مِنْ الْقَذْفِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ تُزِيلَ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ الْقَتْلَ عَنْ الْكَافِرِ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُزِيلُ الْجَلْدَ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْكُفْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقَاذِفُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ فَغُلِّظَ أَمْرُ الْقَذْفِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَا لَمْ يُغَلَّظْ بِهِ أَمْرُ الْقَذْفِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ فَهُوَ عَدْلٌ وَلِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَدِيًّا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّوْبَةُ تُزِيلُ الْعُقُوبَةَ وَتُوجِبُ الْعَدَالَةَ وَالْوِلَايَةَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَكُونُ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ، كَمَا لَا تَكُونُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ؟ فَلَيْسَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ فِي الْأُصُولِ مَوْقُوفًا عَلَى الْفِسْقِ وَعَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى يُعَارَضَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْت. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ لَا تُوجِبُ جَوَازَ شَهَادَتِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ إنَّمَا بَطَلَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِالْجَلْدِ وَجَلْدِهِ إيَّاهُ وَلَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَمْ يَجْرِ إجَازَتُهَا إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِجَوَازِهَا; لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ ثُبُوتُهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَنْهُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ كَالْإِمْلَاكِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَصِحُّ الْخُصُومَةُ فِيهِ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ لَنَا إبْطَالُ مَا قَدْ ثَبَتَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ قِيلَ: فُرْقَةُ اللِّعَانِ وَالْعِنِّينِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيَعُودَ النِّكَاحُ، فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ شَهَادَتِهِ عِنْدَ تَوْبَتِهِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بَدِيًّا بِبُطْلَانِهَا مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِيهَا تَوْبَةٌ، كَمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ إنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا فِيهَا عَقْدٌ مُسْتَقْبَلٌ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ مِمَّا يَجُوزُ وُقُوعُ الْحُكْمِ بِهِ فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِهِ الْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ الْخُصُومَاتُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْقَاذِفُ بِشَهَادَةٍ عِنْدَ حَاكِمٍ يَرَى قَبُولَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَحَكَمَ بِجَوَازِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ حُكْمِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا زَنَى فَحَدَّهُ الْحَاكِمُ ثُمَّ تَابَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ قِيلَ لَهُ: الزَّانِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ بِزِنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ الْحَاكِمُ لِظُهُورِ فِسْقِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَلْ بِفِعْلِهِ جَازَتْ عِنْدَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ وَشَهَادَةُ الْقَاذِفِ لَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ وَفِسْقِهِ عِنْدَ جَلْدِ الْحَاكِمِ إيَّاهُ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَقْذِفْ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ

عباد بن منصور عن عكرمة عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَخْبَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وُقُوعَ الْجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولِهَا. وَقَدْ رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ شَهَادَةُ مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورِ وَلَا خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَجْلُودٍ حَدًّا وَلَا ذِي غَمْرٍ لِأَخِيهِ وَلَا الصَّانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا قَرَابَةٍ" ; فَأَبْطَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ شَهَادَةِ سَائِرِ الْمَحْدُودِينَ فِي حَدِّ قَذْفٍ أَوْ غَيْرِهِ; إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مِمَّا حُدَّ فِيهِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، فَهُوَ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ; وَإِنَّمَا قَبِلْنَا شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ لِأَنَّ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِسْقِ فَمَتَى زَالَتْ عَنْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْحَدَّ مِنْ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ قَدْ أَوْجَبَ تَفْسِيقَهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِالْحَدِّ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْفُسَّاقِ إذَا تَابُوا فَتُقْبَلُ شَهَادَاتُهُمْ، وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلَمْ يُوجِبْ الْقَذْفُ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ بِوُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ فَلَمْ تُزِلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِتَوْبَتِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً، كَمَا أَوْجَبَ قَوْلُهُ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] قَبُولَ شَهَادَةِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ ذِكْرِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَجَعَلَ عَدَدَ الشُّهُودِ الْمُبَرِّئِ لِلْقَاذِفِ مِنْ الْحَدِّ أَرْبَعَةً وَحَكَمَ بِكَذِبِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى عَدَدَ شُهُودِ الزِّنَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الْآيَةَ، وَأَعَادَ ذِكْرَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْقَذْف إعْلَامًا لَنَا أَنَّ الْقَاذِفَ لَا تُبْرِئُهُ مِنْ الْجَلْدِ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَاذِفِ إذَا جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فُسَّاقٍ فَشَهِدُوا عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَإِنْ كَانُوا فُسَّاقًا". وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا ثُمَّ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ فُسَّاقٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ زَانٍ: "إنَّهُ يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَيُدْرَأُ عَنْ الشُّهُودِ". وَقَالَ زُفَرُ: "يُدْرَأُ عَنْ الْقَاذِفِ وَعَنْ الشُّهُودِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: "يُحَدُّ الشُّهُودُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا لَوْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ كُفَّارٍ أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ أَوْ عَبِيدٍ أَوْ عُمْيَانٍ أَنَّ الْقَاذِفَ وَالشُّهُودَ جَمِيعًا يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا فُسَّاقًا فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} قَدْ تَنَاوَلَهُمْ; إذْ لَمْ يُشْرَطْ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ الْعُدُولُ دُونَ الْفُسَّاقِ، فَوَجَبَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ زَوَالُ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ; إذْ جُعِلَ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَهُوَ قَدْ أَتَى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ; إذْ كَانَ الشُّهَدَاءُ اسْمًا لِمَنْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْكُفَّارِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَنَحْوِهِمْ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اقْتَضَى، الظَّاهِرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُ بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلتُّهْمَةِ وَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رَدِّهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِالشُّبْهَةِ الَّتِي رُدَّتْ مِنْ أَجْلِهَا شَهَادَتُهُمْ، وَوَجَبَ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ أَيْضًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ كَمَا أَسْقَطْنَاهَا عَنْهُمْ; إذْ كَانَ سَبِيلُ الشُّبْهَةِ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا الْحَدُّ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ، وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْكَافِرُ وَالْعَبْدُ وَالْأَعْمَى فَلَمْ نَرُدَّ شَهَادَتَهُمْ لِلتُّهْمَةِ وَلَا لِشُبْهَةٍ فِيهَا وَإِنَّمَا رَدَدْنَاهَا لَمَعَانٍ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِمْ تَبْطُلُ الشَّهَادَةُ، وَهِيَ الْحَدُّ وَالْكُفْرُ وَالرِّقُّ وَالْعَمَى فَلِذَلِكَ حَدَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِشَهَادَتِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ وَعَنْ الْقَاذِفِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا رَدَدْنَاهَا اجْتِهَادًا، وَقَدْ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ لِغَيْرِنَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إذَا كَانَ مَا نَحْكُمُ نَحْنُ بِأَنَّهُ فِسْقٌ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُنَا غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَنَا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْقَاذِفِ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ وَالْكُفْرِ وَنَظَائِرِهِمَا فَلَيْسَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الِاجْتِهَادَ بَلْ الْحَقِيقَةُ; فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُحَدُّوا وَلَمْ يَكُنْ لِشَهَادَتِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ إذْ الْفِسْقُ لَيْسَ بِمَعْنًى يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ وَلَا يَسْمَعُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ وَلَا كَانَ الْفِسْقُ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَاتُ وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْكُفْرُ وَالرِّقُّ وَالْعَمَى مِمَّا يَقَعُ الْحُكْمُ بِهِ وَتَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتُ كَانَ مَحْكُومًا بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ وَخَرَجُوا بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَدُّوا لِوُقُوعِ

الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِسْقَ مِنْ الشَّاهِدِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فِي حَالِ الشَّهَادَةِ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا بِتَوْبَتِهِ فِي الْحَالِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالْحَدُّ وَالْعَمَى وَالرِّقُّ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ زَائِلٍ وَهُوَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ شَاهِدًا، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. فَإِنْ قِيلَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ قَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاعْتِقَادِهِ الْإِسْلَامَ دُونَ إظْهَارِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُمْكِنُهُ إظْهَارُهُ، فَإِذَا لَمْ يُظْهِرْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَوْلُ زُفَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ إنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُ الشُّهُودِ غَيْرَ مُخْرِجٍ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي بَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ فِي سُقُوطِهِ عَنْ الْقَاذِفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُهُودِ الزِّنَا إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يُحَدُّونَ" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُحَدُّونَ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ"، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا شَهِدَ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ كَانَ قَاذِفًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْبَعَةُ غَيْرَهُ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُولُ مِنْهُ دُخُولَهُ فِي الْأَرْبَعَةِ; لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ ائْتِ بِنَفْسِك بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْقَذْفِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ سِوَاك; وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ زَانِيَةٌ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ لَأَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنَّك زَانِيَةٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ إيجَابَ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ قَاذِفٍ سَوَاءٌ كَانَ قَذْفُهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الْأَوَّلِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ; إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاذِفَ مُحْصَنَةٍ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ إذَا كَانَ قَاذِفًا وَلَمْ يَجِئْ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَقُولَ: "أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا زَنَى" فَلَيْسَ هَذَا بِقَاذِفٍ قِيلَ لَهُ: قَذْفُهُ إيَّاهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْقَاذِفِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ قَاذِفًا وَكَانَ الْحَدُّ لَهُ لَازِمًا؟ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ إيرَادَهُ الْقَذْفَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاذِفًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ وَأَيْضًا فَقَدْ تناوله عموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إذْ كَانَ رَامِيًا، وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ حُكْمُ الرَّامِي مِنْ حُكْمِ الشَّاهِدِ إذَا جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُجْتَمَعِينَ وَهُمْ الْعَدَدُ الْمَشْرُوطُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ لَأَنْ يَأْتُوا بِغَيْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ دُونَ الْأَرْبَعَةِ إذَا جَاءُوا قَاذِفِينَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِهَا فَإِنَّهُمْ قَذَفَةٌ; إذْ هُمْ

مُكَلَّفُونَ لِلْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِمْ فِي صِحَّةِ قَذْفِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَرْبَعَةً جَاءُوا يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا، فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَلَمْ يَشْهَدْ الرَّابِعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنْ شَهِدَ الرَّابِعُ عَلَى مِثْلِ مَا شَهِدَ عَلَيْهِ الثَّلَاثَةُ فَاجْلِدْهُمَا وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ فَارْجُمْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا بِمَا كَتَبْت بِهِ إلَيَّ فَاجْلِدْ الثَّلَاثَةَ وَخَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَ الثَّلَاثَةِ آخَرُ أَنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ مَعَ كَوْنِ الثَّلَاثَةِ بَدِيًّا مُنْفَرِدِينَ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت; وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُونَ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بَلْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ شَهِدُوا بِالزِّنَا فَلَمَّا اسْتَثْبَتُوا بِالرَّجُلِ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ الثَّلَاثَةُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُوقَفَ الرَّجُلُ، فَإِنْ أَتَى بِالتَّفْسِيرِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ الْقَوْمُ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْتِ بِالتَّفْسِيرِ أُبْطِلَ شَهَادَتُهُ وَجُعِلَ الثَّلَاثَةُ مُنْفَرِدِينَ فَحَدَّهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إنْ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ مَعَهُمْ فَاقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ فَيَكُونُ قَابِلًا لِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ الْمُنْفَرِدِينَ مَعَ وَاحِدٍ جَاءَ بَعْدَهُمْ; وَقَدْ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا نَكَلَ زِيَادٌ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ ائْتُوا بِشَاهِدٍ آخَرَ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ قَبُولُ شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ شَهِدَ مَعَهُمْ جَائِزًا لَوَقَفَ الْأَمْرَ وَاسْتَثْبَتَهُمْ وَقَالَ هَلْ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ شَاهِدٌ آخَرُ؟ وَإِذْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوقِفْ أَمْرَهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِّهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً قَدْ لَزِمَهُمْ الْحَدُّ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَرِّئُهُمْ مِنْ الْحَدِّ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ آخَرِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ هَلْ مَعَكُمْ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ وَلَمْ يُوقِفْ أَمْرَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ لِجَوَازِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَوْ شَهِدَ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً وَكَانَ الْحَدُّ عَنْهُمْ زَائِلًا، فَلَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ هُنَاكَ شُهُودًا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ لَسَأَلُوهُ التَّوْقِيفَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ ذَلِكَ; وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَوْ شَهِدَ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ مَعَهُمْ أَوْ بُطْلَانِهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا لَوَقَفَهُمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَمْهُمْ إيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ إنْ كَانَ.

فِيمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "يُقِيمُهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "يَحُدُّهُ الْمَوْلَى فِي الزِّنَا وَشُرْبِ

الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ، وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ"، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَحُدُّهُ الْمَوْلَى وَيَقْطَعُهُ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يَحُدّهُ الْمَوْلَى فِي الزِّنَا" رِوَايَةَ الْأَشْجَعِي، وَذَكَرَ عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ: "أَنَّ الْمَوْلَى إذَا حَدَّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يَحُدُّهُ الْمَوْلَى". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "ضَمِنَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعًا: الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْحُدُودَ وَالْحُكْمَ" رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَوْنٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ بَدَلُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ: "الْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ وَالزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ". وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ عُمَر يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ وَهُوَ عَالِمٌ فَخُذُوا عَنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "الزَّكَاةُ وَالْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ إلَى السُّلْطَانِ"; وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ أَخُو أَبِي بَكْرَةَ وَاسْمُهُ نَافِعٌ. فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ ذَكَرَ إقَامَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدًّا بِالشَّامِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ هُمْ أُمَرَاءُ حَيْثُ كَانُوا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ وَلِيَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمَحْدُودَ كَانَ عَبْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَضْرِبُونَ الْوَلِيدَةَ مِنْ وَلَائِدِهِمْ إذَا زَنَتْ فِي مَجَالِسِهِمْ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ لَا عَلَى وَجْهِ إقَامَةِ الْحَدِّ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِرَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ بَلْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا وَتَرْكِ رَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَوْلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وَقَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَقَدْ عَلِمَ مَنْ قَرَعَ سَمْعَهُ هَذَا الْخِطَابُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمْ الْأَئِمَّةُ دُونَ عَامَّةِ النَّاسِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَقْطَعْ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ أَيْدِيَهُمَا وَلْيَجْلِدْهُمَا الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَلَمْ تُفَرِّقْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَيْنَ الْمَحْدُودِينَ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ جَمِيعًا وَأَنْ يَكُونَ الْأَئِمَّةُ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمَوَالِي. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَضْمِينُ الشُّهُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالشَّهَادَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا، فَكَانَ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْلُومٌ أن أحدا من الناس

لا يجوز له أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَلَا قَطْعَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيَّ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ مَقْبُولٌ وَإِنْ جَحَدَهُ الْمَوْلَى، فَلَمَّا كَانَا فِي ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيُقِيمَ الْحَدَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي ثُبُوتِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَحَكَمَ بِالْحَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يَمْلِكُ مَعَ ذَلِكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ مَنْ يَجُوزُ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى نَفْسِهِ فَمَنْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى عَبْدِهِ أَحْرَى بِأَنْ لَا يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَا نَجْعَلُ قَوْلَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ عِلَّةَ جَوَازِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ: "قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي" لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ; وَكَذَلِكَ الْبَيِّنَةُ إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحَدَّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَلَا إقَامَةَ الْحَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ لَا يَقْبَلَانِ قَوْلَ الْحَاكِمِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: "لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ". قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إذَا قَالَ: "ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدِي بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ" لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا: "إنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ" أَنَّهُ لَوْ شَاهَدَ رَجُلًا عَلَى زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: "قَدْ شَهِدَ عِنْدِي شُهُودٌ بِذَلِكَ" أَوْ قَالَ: "أُقِرَّ عِنْدِي بِذَلِكَ" فَإِنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَيَسَعُ مَنْ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالرَّجْمِ وَالْقَطْعِ أَنْ يَرْجُمَ وَيَقْطَعَ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"، وَقَوْلُهُ: "إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا وَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: "فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ رَفْعُهُ إلَى الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، فَالْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَسَائِرُ النَّاسِ مُخَاطَبُونَ بِرَفْعِهِمْ إلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمْ الحدود; فكذلك

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا" فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا; لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ فَإِذَا عَزَّرْنَاهَا فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْخَبَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ نَجْلِدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْزِيرَ قَوْلُهُ: "لَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا" يَعْنِي: وَلَا يُعَيِّرْهَا. وَمِنْ شَأْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ وَالتَّنْكِيلِ، فَلَمَّا قَالَ: "وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّابِعَةِ: "فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" وَلَمْ يَأْمُرْ بِجَلْدِهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَذَكَرَهُ وَأَمَرَ بِهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَ مَنْ يُقِيمُهَا، وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُ التَّعْزِيرِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ التَّعْزِيرَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ عَزَّرَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ بَعْدَ التَّعْزِيرِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ; لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، فَيَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَنْبَغِي لِمَوْلَاهَا أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهُزَالٍ حِينَ أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا: "لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك"، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَتَى شَيْئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ". وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَقَدْ يَجِبُ النَّفْيُ عِنْدَنَا مَعَ الْجَلْدِ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ الشَّاعِرَ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ثَمَانِينَ وَقَالَ: "هَذَا لِشُرْبِك الْخَمْرَ" ثُمَّ جَلَدَهُ عِشْرِينَ وَقَالَ: "هَذَا لِإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ" فَجَمَعَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ; فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَمْ يَمْتَنِعْ لَوْ رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ بَعْدَ تَعْزِيرِ الْمَوْلَى إلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحُدَّهَا حد الزنا.

بَابُ اللِّعَانِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ الْجَلْدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: "ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك"، وَقَالَ الْأَنْصَارُ: أَيُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَأَنَّهُ نُسِخَ عَنْ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ: "ائْتِنِي بِصَاحِبَتِك فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِيهَا قُرْآنًا" وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رجلا فإن

تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَهُ بِاللِّعَانِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَلَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، كَمَا أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَسَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ قِبَلِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَحْدُودَةُ فِي الْقَذْفِ أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ; لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ قِبَلِهَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَصْدِيقِهَا الزَّوْجَ بِالْقَذْفِ لَمَّا سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ جِهَتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "يَسْقُطُ اللِّعَانُ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَيُّهُمَا وُجِدَ لَمْ يَجِبْ مَعَهُ اللِّعَانُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدُّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا نَحْوُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ قَدْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْمَى أَوْ فَاسِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ اللِّعَانُ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: "يُلَاعِنُ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ الْيَهُودِيَّةَ إذَا قَذَفَهَا". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ وَالْحُرَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة وَالْيَهُودِيَّةُ تُلَاعِنُ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْيَهُودِيَّةَ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَانٌ إذَا قَذَفَهَا إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتهَا تَزْنِي فَتُلَاعِنُ سَوَاءٌ ظَهَرَ الْحَمْلُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَلْحَقُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِي، وَإِنَّمَا يُلَاعِنُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فِي دَفْعِ الْحَمْلِ وَلَا يُلَاعِنُهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ إلَّا فِي نَفْيِ الْحَمْلِ" قَالَ: "وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ يُلَاعِنُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا، وَالْمَمْلُوكَانِ الْمُسْلِمَانِ بَيْنَهُمَا لِعَانٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يَجِبُ اللِّعَانُ إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا وَيَجِبُ إذَا كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا بَيْنَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَامْرَأَتِهِ". وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْعَبْدِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ وَادَّعَى أَنَّهُ رَأَى عَلَيْهَا رَجُلًا: "يُلَاعِنُهَا; لِأَنَّهُ يُحَدُّ لَهَا إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا; فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً لَاعَنَهَا فِي نَفْيِ الْوَلَدِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَا يُلَاعِنُهَا فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهَا، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "كُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ يُلَاعِنُ إذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَلْزَمُهَا الْفَرْضُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ يُسْقِطَانِ اللِّعَانَ فَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللِّعَانَ فِي الْأَزْوَاجِ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ

عَلَى قَاذِفِ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ جَمِيعًا الْجَلْدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ الْأَزْوَاجِ وَأُقِيمَ اللِّعَانُ مَقَامَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: "ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ" وَقَوْلُ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَنْ غَيْظٍ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي صَاحِبَتِك قُرْآنًا فَأْتِنِي بِهَا"، فَلَمَّا كَانَ اللِّعَانُ فِي الْأَزْوَاجِ قَائِمًا مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ عَلَى قَاذِفِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ. وَأَيْضًا فَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّعَانَ حَدًّا; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ دَرَّاجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ أَرَحَّ الْقَدَمَيْنِ يُشْبِهُ فُلَانًا فَهُوَ مِنْهُ" قَالَ: فَجَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْحَدِّ لَرَجَمْتهَا"، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ، وَلَمَّا كَانَ حَدًّا لَمْ يَجُزْ إيجَابُهُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً; إذْ كَانَ حَدًّا مِثْلَ حَدِّ الْجَلْدِ، وَلَمَّا كَانَ حَدًّا لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حَدًّا لَمَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ الْجَلْدُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْتَمِعَ حَدَّانِ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ، وَفِي إيجَابِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ عِنْدَ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِحَدٍّ. قِيلَ لَهُ: قَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدًّا، وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي دَفْعِ الْأَثَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَدَّيْنِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ جَلْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا جَلْدًا وَالْآخَرُ لِعَانًا فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ فِي الْأُصُولِ خِلَافَهُ; وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا هُوَ حَدٌّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَجُلِدَ الْحَدَّ خَرَجَ اللِّعَانُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَدًّا; إذْ كَانَ مَا يَصِيرُ حَدًّا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَارَةً حَدًّا وَتَارَةً لَيْسَ بِحَدٍّ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَارَةً عَلَى وَصْفٍ وَأُخْرَى عَلَى وَصْفٍ آخَرَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ; فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ لِعَانَهُمَا شَهَادَةً ثُمَّ قَالَ فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} وَجَبَ بِمَضْمُونِ الْآيَتَيْنِ انْتِفَاءُ اللِّعَانِ عَنْ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَحْدُودِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِثْلُ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَنَحْوِهِمَا، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أن

الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يُلَاعِنُ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ مَنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَى الْمَحْدُودِ لَا يُوجِبُهُ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فَلَا يَخْلُو الْمُرَادُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْأَيْمَانُ فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِيهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ أَيْمَانًا لَيُعْتَبَرَ فِيهَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَا نَقُولُهُ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُلَاعِنُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ; إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَحْلِفُ إلَّا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ إحْلَافُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ لَاسْتَحَالَ وَزَالَتْ فَائِدَتُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فَلَمْ يَخْلُ الْمُرَادُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَوْ الْحَلِفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَلِفًا، فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ بِجَوَازِ قَبُولِ الْيَمِينِ مِنْهُمَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ وَلِلسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَالَ: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْبَارِ دُونَ إيرَادِهِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَمَرَهُمَا بِاللِّعَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ دُونَهَا، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ بِهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَيُلَاعِنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: الْفَاسِقُ وَالْأَعْمَى لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَيُلَاعِنَانِ قِيلَ لَهُ: الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفِسْقَ الْمُوجِبَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ قَدْ يَكُونُ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ; إذْ الْفِسْقُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِسْقَهُ فِي حَالِ لِعَانِهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونَ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَسْتَحِقُّ بِهَا عَلَى الْغَيْرِ فَتُرَدُّ مِنْ أَجْلِ مَا عُلِمَ مِنْ ظُهُورِ فِسْقِهِ بَدِيًّا، فَلَمْ يَمْنَعْ فِسْقُهُ مِنْ قَبُولِ لِعَانِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكُفْرُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَوْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا إلَّا بِإِظْهَارِهِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَكَانَ حُكْمُ كُفْرِهِ بَاقِيًا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يُظْهِرْ الْإِسْلَامَ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُحْكَمُ بِهَا لِلتُّهْمَةِ. وَالْفَاسِقُ إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي الْحُقُوقِ لِلتُّهْمَةِ، وَاللِّعَانُ لَا تُبْطِلُهُ التُّهْمَةُ، فَلَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ

الْفِسْقِ فِي سُقُوطِهِ; وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْبَصِيرِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي الْحُقُوقِ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَائِلًا، وَلَيْسَ شَرْطُ شَهَادَةِ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ: "رَأَيْتهَا تَزْنِي"; إذْ لَوْ قَالَ: "هِيَ زَانِيَةٌ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ" لَاعَنَ، فَلَمَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ مُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ لِعَانُهُ لِأَجْلِ عَمَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ، مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد السَّرَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ مِنْ النِّسَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ مُلَاعَنَةٌ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ"، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمَوَيْهِ بْنِ سَيَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَيَّارٍ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُجَالِدِ الْمِصِّيصِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ صَدَقَةَ أَبِي تَوْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مُلَاعَنَةٌ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ". فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ إنَّمَا يَجِبُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ نَسَبٌ لَيْسَ مِنْهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْأَمَةِ وَفِي الْحُرَّةِ قِيلَ لَهُ: لَمَّا دَخَلَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، وَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ لَا يَنْتَفِيَ مِنْهُ نَسَبُ وَلَدِهَا كَمَا لَزِمَهُ حُكْمُهُ فِي رِقِّ ولده

بَابُ الْقَذْفِ الَّذِي يُوجِبُ اللِّعَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا سَوَاءٌ قَالَ: "زَنَيْت" أَوْ قَالَ: "رَأَيْتُك تَزْنِينَ"، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ رَمْيُهَا بِالزِّنَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ الْقَذْفِ الْمُوجِبِ لِلِّعَانِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ وَجَبَ اللِّعَانُ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا يُلَاعِنُ إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ يَنْفِيَ حَمْلًا بِهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا، وَالْأَعْمَى يُلَاعِنُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا تَكُونُ مُلَاعَنَةً إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْت عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَقُولَ قَدْ كُنْت اسْتَبْرَأْت رَحِمَهَا وَلَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَلَى مَا قَالَ" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "إذَا قَالَ رَأَيْتهَا تَزْنِي لَاعَنَهَا وَإِنْ قَذَفَهَا وَهِيَ بِخُرَاسَانَ وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ لَمْ يُلَاعِنْ وَلَا كَرَامَةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي إيجَابَ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ سَوَاءٌ قَالَ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ

لَمْ يَقُلْ; لِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَهُوَ رَامٍ لَهَا سَوَاءٌ ادَّعَى مُعَايَنَةَ ذَلِكَ أَوْ أَطْلَقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِيَانَ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ قَاذِفَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعَايَنَةَ أَوْ يُطْلِقَهُ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الزَّوْجِ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا، إذْ كَانَ اللِّعَانُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَذْفِ كَالْجَلْدِ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ أُقِيمَ مَقَامَ الْجَلْدِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا يَتَعَلَّقَانِ بِهِ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: "إنَّ الْأَعْمَى يُلَاعِنُ" وَهُوَ لَا يَقُولُ رَأَيْت، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ اللِّعَانِ رَمْيَهَا بِرُؤْيَا الزِّنَا مِنْهَا وَأَيْضًا قَدْ أَوْجَبَ مَالِكٌ اللِّعَانَ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ رُؤْيَةٍ، فَكَذَلِكَ نَفْيُ غَيْرِ الْحَمْلِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُشْرَطَ فيه الرؤية.

بَابُ كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يَشْهَدُ الزَّوْجُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لِمَنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ نَفَاهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ نَفْيِ هَذَا الْوَلَدِ". وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الزَّوْجَ أَنْ يقول: "أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِك هَذَا" فَيَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: "لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِك هَذَا" ثُمَّ يَأْمُرُهَا الْقَاضِي فَتَقُولُ: "أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّك لِمَنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي هَذَا" فَتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: "وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي هَذَا". وَرَوَى حَيَّانُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "إذَا كَانَ اللِّعَانُ بِوَلَدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ قَدْ أَلْزَمْته أُمَّهُ وَأَخْرَجْته مِنْ نَسَبِ الْأَبِ". قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَلَمْ أَجِدْ ذِكْرَ نَفْيِ الْحَاكِمِ الْوَلَدَ بِالْقَوْلِ فِيمَا قَرَأْتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَهُوَ الْوَجْهُ عِنْدِي. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي سِيَاقِ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا قَائِمَانِ أَوْ جَالِسَانِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا، يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَيْهَا فَيُوَاجِهُهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَتُوَاجِهُهُ أَيْضًا هِيَ". وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُوَاجِهَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: "أَنَّهُ يَحْلِفُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ

يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي رَأَيْتُهَا تَزْنِي، وَالْخَامِسَةُ: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين; وَتَقُولُ هِيَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا رَآنِي أَزْنِي، فَتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "يَشْهَدُ الرَّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، وَتَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ"، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَقُولُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، وَيُشِيرُ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُقْعِدُهُ الْإِمَامُ يُذَكِّرُهُ اللَّهَ وَيَقُولُ إنِّي أَخَافُ إنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْت أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ، فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يُمْضِيَ أَمْرَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ: إنَّ قَوْلَك عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ مُوجِبَةٌ إنْ كُنْت كَاذِبًا، فَإِنْ أَبَى تَرَكَهُ فَيَقُولُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ مِنْ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَهَا بِأَحَدٍ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ اثْنَيْنِ، وَقَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ: إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ; وَإِنْ نَفَى وَلَدَهَا قَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي، فَإِذَا قَالَ هَذَا فَقَدْ فَرَغَ مِنْ الِالْتِعَانِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ مِنْ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ; إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّ التَّلَاعُنَ وَاقِعٌ عَلَى قَذْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمَا بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ وَاقِعَةٌ فِي نَفْيِ مَا رَمَاهَا بِهِ، وَكَذَلِكَ اللَّعْنُ وَالْغَضَبُ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ رَاجِعٌ إلَى إخْبَارِ الزَّوْجِ عَنْهَا بِالزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ وُقُوعُ الِالْتِعَانِ وَالشَّهَادَاتِ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ رَمْيُ الزَّوْجِ، فَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى الْمُرَادِ عَنْ قَوْلِهِ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: "إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ" وَهَذَا نَحْوُ قوله تعالى: {وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَالْمُرَادُ: وَالْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ; وَلَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَشَهِدَ الرَّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: "إنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي" فَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ; لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وَكَذَلِكَ لَاعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: "إنَّهُ يَذْكُرُهَا بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا وَيُشِيرُ إلَيْهَا بِعَيْنِهَا" فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ

وَالنَّسَبِ، فَذِكْرُ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ لَغْوٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَهُوَ حَاضِرٌ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى اسْمِهِ ونسبه؟

في نَفْيِ الْوَلَدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ فَنَفَى وَلَدَهَا حِينَ يُولَدُ أَوْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَاعَنَ وَانْتَفَى الْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ حِين يُولَدُ حَتَّى مَضَتْ سَنَةٌ أَوْ سَنَتَانِ ثُمَّ نَفَاهُ لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدُ"، وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَقْتًا، وَوَقَّتَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِقْدَارَ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً; وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إنْ كَانَ غَائِبًا فَقَدِمَ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِقْدَارِ النِّفَاسِ مُنْذُ قَدِمَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يَنْتَفِ أَبَدًا". وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَالْمَوْلَى شَاهِدٌ فَلَمْ يَدَّعِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَقَالَ: "إذَا مَضَى أَرْبَعُونَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ وَلَدَتْهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ"، قَالَ: قُلْت: فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا فَقَدِمَ وَقَدْ أَتَتْ لَهُ سُنُونَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: "إنْ كَانَ الِابْنُ نُسِبَ إلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ" وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ وَقَالَ هَذَا لَمْ أَعْلَمْ بِوِلَادَتِهِ فَإِنْ سَكَتَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ قَدِمَ لَزِمَهُ الْوَلَدُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا رَأَى الْحَمْلَ فَلَمْ يَنْفِهِ حِينَ وَضَعَتْهُ لَمْ يَنْتَفِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ نَفَاهُ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، فَإِنْ انْتَفَى مِنْهُ حِينَ وَلَدَتْهُ وَقَدْ رَآهَا حَامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ فَصَارَ قَاذِفًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْحَمْلِ وَقَدِمَ ثُمَّ وَلَدَتْهُ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتهَا تَزْنِي: "لَاعَنَ فِي الرُّؤْيَةِ وَيَلْزَمُهُ الْحَمْلُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ إمْكَانًا بَيِّنًا فَتَرَك اللِّعَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ كَالشُّفْعَةِ"، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: "إنْ لَمْ يَنْفِهِ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُ نَفْيِ الْوَلَدِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ إذَا قَذَفَهَا بِنَفْيِ الْوَلَدِ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيًّا، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِ ذِكْرِ اللِّعَانِ، قَالَ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ:

وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَفَى وَلَدَهَا أَنَّهُ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُ الْوَلَدُ أُمَّهُ وَيَنْتَفِي نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ، إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَوْا فِي وَقْتِ نَفْيِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ رَجُلًا انْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَلَاعَنِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْيَ وَلَدِ زَوْجَتِهِ مِنْ قَذْفٍ لَهَا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا; إذْ كَانَ اللِّعَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَذْفِ، وَأَمَّا تَوْقِيتُ نَفْيِ الْوَلَدِ فَإِنَّ طَرِيقَهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ فِيهَا نَفْيُ الْوَلَدِ وَكَانَ مِنْهُ قَبُولٌ لِلتَّهْنِئَةِ أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَافٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْفِيَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَحْدِيدُ الْوَقْتِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ فَلَمْ يَثْبُتْ، وَاعْتُبِرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ظُهُورِ الرِّضَا بِالْوَلَدِ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ رِضًا بِإِسْقَاطِهَا كَانَ كَذَلِكَ نَفْيُ الْوَلَدِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ فِي ذَلِكَ إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا بِالْقَوْلِ، إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَأَكْثَرُ مَنْ وَقَّتَ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ هِيَ مُدَّةُ أَكْثَرِ النِّفَاسِ، وَحَالُ النِّفَاسِ هِيَ حَالُ الْوِلَادَةِ، فَمَا دَامَتْ عَلَى حَالِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ نَفْيِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ; لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنِّفَاسِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: "إنَّهُ إذَا رَآهَا حَامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنْهُ ثُمَّ نَفَاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ" فَإِنَّهُ قَوْلٌ وَاهٍ لَا وَجْهَ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فَيُعْتَبَرُ نَفْيُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِآكَدَ مِمَّنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْحَمْلِ فَعَلِمَ بِهِ وَسَكَتَ زَمَانًا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ، وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَاعَنَ وَلَمْ يَنْتَفِ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ; إذْ لَمْ تَكُنْ صِحَّةُ اللِّعَانِ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إكْذَابٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ النَّفْيِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْلَدَ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةُ، فَأَوْجَبَ اللِّعَانَ بِعُمُومِ الْآيَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَزْوَاجِ فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ وَسُقُوطِ اللِّعَانِ.

بَابُ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ يَقْذِفُهَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَذَفَهَا: "فَعَلَيْهِ الْحَدُّ" وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَنَفَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا بَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَنْكَرَ حَمْلَهَا لَاعَنَهَا إنْ كَانَ حَمْلُهَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهِيَ حَامِلٌ مُقِرٌّ بِحَمْلِهَا ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي قَبْلَ أَنْ يُقَاذِفَهَا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لَاعَنَهَا". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذَا أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ البينونة

لَاعَنَ، وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ أَنْ بَانَتْ مِنْهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى عَلَيْهَا رَجُلًا قَبْلَ فِرَاقِهِ إيَّاهَا جُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: "إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ حَمْلًا فِي عِدَّتِهَا وَأَنْكَرَ الَّذِي يُعْتَدُّ مِنْهُ لَاعَنَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ عِدَّةٍ جُلِدَ وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ". وَقَالَ الشَّافِعِيّ: "وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مَغْلُوبَةٌ عَلَى عَقْلِهَا فَنَفَى زَوْجُهَا وَلَدَهَا الْتَعَنَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَانْتَفَى الْوَلَدُ، وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ اللِّعَانِ فَطَالَبَ أَبُوهَا وَأُمُّهَا زَوْجَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ، وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ قَذَفَهَا حُدَّ وَلَا لِعَانَ إلَّا أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا أَوْ حَمْلًا فَيَلْتَعِنَ". وَرَوَى قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ يَقْذِفُهَا قَالَ: "يُحَدُّ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "يُلَاعِنُ". وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "إنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا فَادَّعَتْ حَمْلًا فَانْتَفَى مِنْهُ يُلَاعِنُهَا، إنَّمَا فَرَّ مِنْ اللِّعَانِ". وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفِرَارَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا جُلِدَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ: "إذَا قَذَفَهَا بَعْدَمَا بَانَتْ مِنْهُ جُلِدَ الْحَدَّ" قَالَ عَطَاءٌ: "وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا فِي قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ قَاذِفُ الزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَالْبَائِنَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، فَعَلَى الَّذِي كَانَ زَوْجُهَا الْحَدُّ إذَا قَذَفَهَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَمَنْ أَوْجَبَ اللِّعَانَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ نَسَخَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَمْ يَرِدْ تَوْقِيفٌ بِنَسْخِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ اللِّعَانِ; إذْ كَانَ اللِّعَان حَدًّا عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ. وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَا لِعَانَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وَلَا مُرَادٍ،; إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيُ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُ الْقَذْفِ، وَنَفْيُ الْوَلَدِ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُلَاعَن بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ قِيَاسًا عَلَى حَالِ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْآيَةِ بِالْقِيَاسِ; وَأَيْضًا لَوْ جَازَ إيجَابُ اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ لَجَازَ إيجَابُهُ لِزَوَالِ الْحَدِّ عَنْ الزَّوْجِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَذَفَهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ حُدَّ وَلَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ لِيَزُولَ الْحَدُّ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] وَقَالَ:

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] فَحَكَمَ تَعَالَى بِطَلَاقِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عِنْدَك مِنْ طَلَاقِهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَمَا أَنْكَرْت مِثْلَهُ فِي اللِّعَانِ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ حَكَمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى نِسَاءِ الْمُطَلِّقِ لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ وُقُوعَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ بَلْ مَا عَدَا نِسَائِهِ، فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ أَوْ نَفْيِهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْعِدَّةِ، وَأَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجَاتِ وَلِأَنَّ مَنْ عَدَا الزَّوْجَاتِ فَالْوَاجِبُ فيهن الحد بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فَكَانَ مُوجِبُ هَذِهِ الْآيَةِ نَافِيًا لِلِّعَانِ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ وَأَسْقَطَ حُكْمَ الْآيَةِ فَقَدْ نَسَخَهَا بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ; وَلِذَلِكَ نَفَيْنَاهُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ حَكَمَ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ فَقَدْ حَكَمَ بِطَلَاقِهِنَّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِقَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ "الْفَاءَ" لِلتَّعْقِيبِ، وَلَيْسَ مَعَك آيَةٌ وَلَا سُنَّةٌ فِي إيجَابِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَأَيْضًا فَجَائِزٌ إثْبَاتُ الطَّلَاقِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ; لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ لِعَانٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَيْنُونَةٌ; إذْ كَانَ مَوْضُوعُ اللِّعَانِ لِقَطْعِ الْفِرَاشِ وَإِيجَابِ الْبَيْنُونَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ذَلِكَ فَلَا حُكْمَ لَهُ فَجَرَى اللِّعَانُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مَجْرَى الْكِنَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَيْنُونَةِ فَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ بَعْد ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَبَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَنَحْوُهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحِقَهَا حُكْمَ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِي انْتِفَاءِ حُكْمِهِ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ صَرِيحِ الطَّلَاقِ; إذْ لَيْسَ شَرْطُهُ ارْتِفَاعُ الْبَيْنُونَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ وَلَوْ طَلَّقَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ الْأُولَى فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ فِي الثَّانِيَةِ تَأْثِيرٌ فِي بَيْنُونَةٍ وَلَا تَحْرِيمٍ؟ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ لَا لِإِيجَابِ تَحْرِيمٍ وَلَا لِبَيْنُونَةٍ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَصْلًا لِوُجُوبِ اللِّعَانِ; لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْمَجْنُونَةَ يَلْحَقُهُمَا الطَّلَاقُ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا بَانَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْقَذْفِ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ"، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "يُلَاعِنُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قَذَفَهَا وَهِيَ حَامِلٌ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَهَا فَمَاتَتْ لَزِمَهُ الْوَلَدُ وَضُرِبَ الْحَدَّ، وَإِنْ

لَاعَنَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَلْتَعِنْ الْمَرْأَةَ حَتَّى تَمُوتَ ضُرِبَ الْحَدَّ وَتَوَارَثَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَقَدْ قَذَفَهَا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَهَا لَمْ يُلَاعِنْ وَضُرِبَ الْحَدَّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ وُجُوبِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إذَا لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ مِنْ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مَا قَالَ أَصْحَابُنَا أَوْ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْحَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الزَّوْجِ إكْذَابٌ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَصَارَ بِمَنْزِلَتِهَا لَوْ صَدَّقَتْهُ عَلَى الْقَذْفِ لَمَا سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ لَا بِإِكْذَابٍ مِنْ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى اللِّعَانِ، كَذَلِكَ إذَا قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ ثُمَّ بَانَتْ لَمْ يَبْطُلْ اللِّعَانُ قِيلَ لَهُ: حَالُ النِّكَاحِ قَدْ يَجِبُ فِيهَا اللِّعَانُ وَقَدْ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَجَبَ الْحَدُّ فِي حَالِ النِّكَاحِ وَغَيْرُ حَالِ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ فِيهِ اللِّعَانُ بِحَالٍ؟. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَنْفِي حَمْلَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إذَا قَالَ لَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ"، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَاعَنَ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُلَاعِنُ بِالْحَمْلِ"، وَذَكَرَ عَنْهُ الرَّبِيعُ: "أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ حَتَّى تَلِدَ". وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَبُو حَنِيفَةَ اللِّعَانَ بِنَفْيِ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُ رِيحًا أَوْ دَاءً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَهُ قَذْفًا لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُحْتَمِلَ لِلْقَذْفِ وَلِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ اللِّعَانِ وَلَا الْحَدِّ بِهِ؟ فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مَا نَفَاهُ وَلَدًا وَاحْتَمَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجِبَ اللِّعَانَ بِهِ قَبْلَ الْوَضْعِ، ثُمَّ إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقُّنًا أَنَّهُ كَانَ حَمْلًا فِي وَقْتِ النَّفْيِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ وَالْقَذْفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ" لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا بِالْوِلَادَةِ؟. وَاحْتَجَّ مَنْ لَاعَنَ بِالْحَمْلِ بِمَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بِالْحَمْلِ; وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَجَرِيرُ جَمِيعًا عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إنْ وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ هُوَ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَابْتُلِيَ بِهِ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَاعَنَ امْرَأَتَهُ; فَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَمْلَ وَلَا أَنَّهُ لَاعَنَ بِالْحَمْلِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عن

الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ وَقَالَ: وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا، ثُمَّ لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بن حسان قال: حدثني عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِك" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: "أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ"، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ. فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَذَفَهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ اللِّعَانَ بِالْقَذْفِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، وَإِنَّمَا لَا يُوجِبُهُ إذَا نَفَى الْحَمْلَ مِنْ غَيْرِ قَذْفٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَدْ تُرَدُّ الْجَارِيَةُ بِعَيْبِ الْحَمْلِ إذَا قَالَ النِّسَاءُ هِيَ حُبْلَى; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ: "مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا" قِيلَ لَهُ: أَمَّا نَفَقَةُ الْحَامِلِ فَلَا تَجِبُ لِأَجْلِ الْحَمْلِ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْعِدَّةِ، فَمَا لَمْ تُنْقَضْ عِدَّتُهَا فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ نَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ؟ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَمْلَ لِأَنَّ وَضْعَهُ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ بِهِ النَّفَقَةُ، وَأَمَّا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ كَوْنُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ وَالْحَدُّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالشُّبْهَةِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. وَكَذَلِكَ مَنْ يُوجِبُ فِي الدِّيَةِ أَرْبَعِينَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا فَإِنَّهُ يُوجِبُهَا عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ بِهِ، وَهَذَا كَمَا يُحْكَمُ بِظَاهِرِ وُجُودِ الدَّمِ أَنَّهُ حَيْضَةٌ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ حَتَّى يَتِمَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهَا الْحَبَلَ لَا تَكُونُ رُؤْيَتُهَا الدَّمَ حَيْضًا، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا كَانَ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا; وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ" فَإِنَّهُ فِيمَا أَضَافَهُ إلَى هِلَالٍ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ مِنْهُ بِلِعَانِهِ إيَّاهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا، وَقَوْلُهُ: "فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ" لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إلْحَاقُ النَّسَبِ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ مَائِهِ فِي غَالِبِ الرَّأْيِ; لِأَنَّ الزَّانِي لَا يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ". فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ. قِيلَ لَهُ: هَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَاهٍ لَا يَشُكُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ هَذَا أَشْيَاءُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْرَجَةٌ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ غَيْرُ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ نَفْيُ النَّسَبِ وَلَا إثْبَاتُ الْقَذْفِ بِالشُّبْهَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إنَّ

أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْته، فَقَالَ لَهُ: "هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "مَا أَلْوَانُهَا"؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا"؟ قَالَ عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ: "فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ"، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيَهُ عَنْهُ لِبُعْدِ شَبَهِهِ مِنْهُ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ النسب بالشبهة.

فَصْلٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ زَوْجَتِهِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَجِبُ اللِّعَانُ حَتَّى يَقُولَ إنَّهَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نافع عن ابن عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِهِ الْوَلَدَ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهَا قَذْفٌ يُوجِبُ اللِّعَانَ.

أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا أَحَدُهُمْ زَوْجُهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: "شَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ"، وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِهِمَا عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الزَّوْجَ يُلَاعِنُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ فِيهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا أَجْنَبِيِّينَ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَإِذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيُّ امْرَأَةً وَجَاءَ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمْ الزَّوْجُ اقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ وَسُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وَإِيجَابَهُ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ جَائِزَةٌ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَفِي الْقِصَاصِ وَفِي سَائِرِ الْحُدُودِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الزِّنَا. فَإِنْ قِيلَ: الزَّوْجُ يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا. قِيلَ لَهُ: إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشُّهُودِ مَعَ ثَلَاثَةٍ غَيْرَهُ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ وَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اللِّعَانُ عَلَيْهِ إذَا قَذَفَهَا ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا قَذَفَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَأْتِي بِأَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا، وَلَوْ جَاءَ مَعَ ثَلَاثَةٍ فَشَهِدُوا بِالزِّنَا لَمْ يَكُنْ قاذفا وكان شاهدا، فكذلك الزوج.

مطلب: في صحة إمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

مطلب: في صحة إمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ صِفَةُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ; لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ مَكَّنَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ صِفَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ مَكَّنَهُمْ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ الله

مطلب: في [تلك الغرانيق العلى] إلى آخره

مطلب: في [تلك الغرانيق العلى] إلى آخره رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19, 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: لَمَّا تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ وَذَكَرَ فِيهَا الْأَصْنَامَ عَلِمَ الْكُفَّارُ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا بِالذَّمِّ وَالْعَيْبِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ حِينَ بَلَغَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} : "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى" وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ سَائِرُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُ: إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَدَحَ آلِهَتَنَا، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تِلَاوَتِهِ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْلُهُ وَإِنَّمَا تَلَاهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَسَمَّى الَّذِي أَلْقَى ذَلِكَ فِي حَالِ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْطَانًا; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وَالشَّيْطَانُ اسْمٌ لِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَقَالَ ذَلِكَ عِنْدَ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إبْلِيسُ حِينَ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ لِقُرَيْشٍ وَهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ، وَكَمَا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ حِينَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ جَائِزًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَرْبٍ مِنْ التَّدْبِيرِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ شَيْطَانًا فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى سبيل السهو الذي لا يعرى منه

مطلب: في الأضحية

مطلب: في الأضحية وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قَالَ: "رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَا يُضَحِّيَانِ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُنِي يَوْمَ الْأَضْحَى بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي لَهُ لَحْمًا وَيَقُولُ: مَنْ لَقِيت فَقُلْ هذه أضحية ابن عباس".

ومن سورة المؤمنين

وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} رَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا نزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} نَكَّسَ رَأْسَهُ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} خَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ فَكَانَ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ". وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ: "الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ". وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ: "الْخُشُوعُ السُّكُونُ". وَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: "الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ تَلِينَ كَنَفَك لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ وَلَا تَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِك "وَقَالَ الْحَسَنُ: "خَاشِعُونَ خَائِفُونَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْخُشُوعُ يَنْتَظِمُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا مِنْ السُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّذَلُّلِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْحَرَكَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ" وَقَالَ: "أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا"، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ مَسِّ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ: "إذَا قَامَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَتْ عَنْهُ". وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَلْتَفِتُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي السَّلُولِيُّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَارْكَبْ! " فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا يُغِرْنَ مِنْ قِبَلِك اللَّيْلَةَ" فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُصَلَّاهُ فركع ركعتين ثم قال: "هل أحسستم

مطلب: في السمر

مطلب: في السمر وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّمَرِ، فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كان يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا سَمَرَ إلَّا لِرَجُلَيْنِ: مُصَلٍّ أَوْ مُسَافِرٍ". وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِيهِ فَمَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْمُرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. آخر سورة المؤمنين.

ومن سورة النور

ومن سورة النور مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ النُّورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فَكَانَ حَدُّ الْمَرْأَةِ الْحَبْسُ وَالْأَذَى بِالتَّعْيِيرِ، وَكَانَ حَدُّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَنُسِخَ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ"، فَكَانَ ذَلِكَ عَقِيبَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وَذَلِكَ لِتَنْبِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّانَا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ السَّبِيلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ حُكْمٍ آخَرَ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ السَّبِيلُ الْمَجْعُولُ لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسُ مَنْسُوخَيْنِ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِالْآيَةِ وَعَنْ الْمُحْصَنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حَدِّ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي الزِّنَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَلَا يُجْلَدُ وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَلَيْسَ نَفْيُهُ بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ رَأَى نَفْيَهُ لِلدَّعَارَةِ فَعَلَ كَمَا يَجُوزُ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا يَجْتَمِعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ الْجَلْدِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُنْفَى الْبِكْرُ بَعْدَ الْجَلْدِ" وَقَالَ مَالِكٌ: "يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَلَا الْعَبْدُ، وَمَنْ نُفِيَ حُبِسَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ والحسن بن صالح

باب صفة الضرب في الزنا

بَابُ صِفَةِ الضَّرْبِ فِي الزِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ قَالُوا: "فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ لَا فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَظَهْرَهَا، قَالَ: فَقُلْت لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ؟ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا وَلَا أَنْ أَجْعَلَ جَلْدَهَا فِي رَأْسِهَا وَقَدْ أَوْجَعْت حَيْثُ ضَرَبْت. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالُوا: "فِي الضَّرْبِ". وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: "التَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ، وَضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ، وَيُضْرَبُ الشَّارِبُ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "الضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ غَيْرُ مُبَرِّحٍ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ، وَضَرْبُ الْقَذْفِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "حَدُّ الزِّنْيَةِ أَشَدُّ مِنْ حَدِّ الْفِرْيَةِ وَحَدُّ الْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ وَاحِدٌ". وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ الْقَذْفِ وَالْقَذْفُ أَشَدُّ مِنْ الشُّرْبِ وَضَرْبُ الشُّرْبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا قَاعِدًا وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ قَسْطَلَّانِيٌّ.

باب ما يضرب من أعضاء المحدود

بَابُ مَا يُضْرَبُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَحْدُودِ مَا يُضْرَبُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَحْدُودِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُضْرَبُ مِنْهُ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ ضَرْبِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيهِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ، فَقَالَ: "اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ مُهَاجِرِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "اجْتَنِبْ رَأْسَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ"، فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرَّأْسَ وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَثْنَاهُمَا جَمِيعًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالضَّرْبِ فِي حَدٍّ فَقَالَ: "أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ" وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا. وَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: أُتِيَ أَبُو بَكْرٍ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ ابْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عُسَيْلٍ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ سَأَلَ عَنْ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ الرَّأْسَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "يُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا إلَّا الْفَرْجَ وَالرَّأْسَ وَالْوَجْهَ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يُضْرَبُ الرَّأْسُ أَيْضًا". وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي يُوسُفَ: "أَنَّ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ الْحَدِّ سَوْطٌ وَاحِدٌ". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُضْرَبُ إلَّا فِي الظَّهْرِ". وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي التَّعْزِيرِ: أَنَّهُ يُضْرَبُ الظَّهْرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَفِي الْحُدُودِ يُضْرَبُ الْأَعْضَاءُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "يُضْرَبُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا وَلَا يُضْرَبُ الْوَجْهُ وَلَا الْمَذَاكِيرُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ اسْتِثْنَاءُ الرَّأْسِ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ". وَإِذَا لَمْ يَضْرِبْ الْوَجْهَ فَالرَّأْسُ مِثْلُهُ; لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الرَّأْسَ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ كَاَلَّذِي يَلْحَقُ الْوَجْهَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْوَجْهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلِئَلَّا يَلْحَقَهُ أَثَرٌ يَشِينُهُ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا يَلْحَقُ الرَّأْسَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَمَا يَلْحَقُ الْوَجْهَ أَنَّ الْمُوضِحَةَ وَسَائِرَ الشِّجَاجِ حُكْمُهَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ وَفَارَقَا سَائِرَ الْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ وَلَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِي اجْتِنَابِ ضَرْبِهِمَا. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ضَرْبِ الوجه لما يخاف فيه

في إقامة الحدود في المسجد

في إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدًّا فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ وَنَحْوَهَا، وَأَمَّا الضَّرْبُ الْمُوجِعُ وَالْحَدُّ فَلَا يُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ". وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَحْدُودِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ما سبيله أن ينزه المسجد عنه.

في الذي يعمل عمل قوم لوط

في الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يُرْجَمَانِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا" وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نفس بغير نَفْسٍ"، فَحَصَرَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ إلَّا بِإِحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى زِنًا. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ وَارْجُمُوهُمَا جَمِيعًا"، وَبِمَا رَوَى الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عَمْرِو بن أبي عمرو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول

في الذي يأتي البهيمة

في الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "عَلَيْهِ الْحَدُّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" يَنْفِي قَتْلَ فَاعِلِ ذَلِكَ; إذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِزِنًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ. وَقَدْ رَوَى عمرو بن أبي عمرو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ"، وَعَمْرٌو هَذَا ضَعِيفٌ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ أَتَى بَهِيمَةً: "أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ"، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إسْرَائِيلُ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَشَرِيكٌ كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ثَابِتًا لَمَا خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاوِيهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ صَحَّ الْخَبَرُ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ اسْتَحَلَّهُ.

فصل

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ لَا تُعَدُّ خِلَافًا الرَّجْمَ وَهُمْ الْخَوَارِجُ، وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنَقْلِ الْكَافَّةِ وَالْخَبَرِ الشَّائِعِ الْمُسْتَفِيضِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لِلشَّكِّ فِيهِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، فَرَوَى الرَّجْمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَخَطَبَ عُمَرُ فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَثْبَتُّهُ فِي الْمُصْحَفِ". وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ يَرْوِي خَبَرَ رَجْمِ مَاعِزٍ وَبَعْضُهُمْ خَبَرَ الْجُهَيْنِيَّةِ والغامدية. وخبر ماعز

باب تزويج الزانية

باب تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَكَانَ يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقٌ وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَكَانَ وَعَدَ رَجُلًا أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ أَسْرَى مَكَّةَ، وَإِنَّ عَنَاقَ رَأَتْهُ فَقَالَتْ لَهُ: أَقِمْ اللَّيْلَةَ عِنْدِي قَالَ: يَا عَنَاقُ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِبَاءِ هَذَا الَّذِي يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَزَوَّجُ عَنَاقَ؟ فَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَنْكِحْهَا! ". فَبَيَّنَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزَّانِيَةِ الْمُشْرِكَةِ أَنَّهَا لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَإِنَّ تَزَوُّجَ الْمُسْلِمِ الْمُشْرِكَةَ زِنًا; إذْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَحُكْمِهَا، فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} : قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} قَالَ: كَانَ يُقَالُ هِيَ مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} قَالَ: "كَانَ رِجَالٌ يُرِيدُونَ الزِّنَا بِنِسَاءٍ زَوَانِي بَغَايَا مُعْلِنَاتٍ كُنَّ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقِيلَ لَهُمْ هَذَا حَرَامٌ، فَأَرَادُوا نِكَاحَهُنَّ" فَذَكَرَ مُجَاهِدٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نِسَاءٍ مَخْصُوصَاتٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلَيْهِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَغِيَّةً عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ "فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّهْيَ خَرَجَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يُزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهَا وَالزِّنَا. وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "يَعْنِي بِالنِّكَاحِ جِمَاعَهَا". وَرَوَى ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قَالَ: "لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ". وَقَالَ شُعْبَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "بَغَايَا كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ كَرَايَاتِ الْبَيَاطِرَةِ يَأْتِيهِنَّ نَاسٌ، يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ". وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} : "يَعْنِي بِهِ الْجِمَاعَ حِينَ يَزْنِي" وَعَنْ عُرْوَةَ بن الزبير مثله.

باب حد القذف

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْإِحْصَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا كَذَلِكَ، وَالْآخَرُ: الْإِحْصَانُ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَفِيفًا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْصَنَاتِ بِالذِّكْرِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُحْصَنِينَ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ، وَأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى قَاذِفِ الرَّجُلِ الْمُحْصَنِ كَوُجُوبِهِ عَلَى قَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ فِي فَحْوَى اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْعَفَائِفُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ رَمْيُهَا بِضِدِّ الْعَفَافِ وَهُوَ الزِّنَا. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ فَحْوَى اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يَعْنِي: عَلَى صِحَّةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مِنْ الشُّهُودِ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} مَعْنَاهُ: يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَا. وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إنَّمَا هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَهُوَ الَّذِي إذَا جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَيْهِ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا مَا فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الرَّمْيِ مَخْصُوصًا بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ الرَّمْيُ بِهَا; إذْ قَدْ يَرْمِيهَا بِسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ وَكُفْرٍ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى البيان، إلا أنه كيفما تصرفت

باب شهادة القاذف

بَابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَاذِفِ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى مَا قَذَفَهُ بِهِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا جَلْدُ ثَمَانِينَ، وَالثَّانِي بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ، وَالثَّالِثُ: الْحُكْمُ بِتَفْسِيقِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لُزُومِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَهُ وَثُبُوتِهَا عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: "قَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ: "شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُحَدَّ" وَهَذَا يَقْتَضِي مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَدُّ; لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ; إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهَادَةِ مَنْ وُسِمَ بِهَا إذَا كَانَ فِسْقُهُ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ وَالِاعْتِقَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرْبَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ وَبَقَاءِ حُكْمِ عَدَالَتِهِ مَا لَمْ يَقَعْ الْحَدُّ بِهِ: أَحَدُهُمَا قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف ان يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الْآيَةَ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ فَإِنَّمَا حُكِمَ بِفِسْقِهِمْ مُتَرَاخِيًا عَنْ حَالِ الْقَذْفِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الشُّهُودِ فَمَنْ حَكَمَ بِفِسْقِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَرْدُودَةٍ لِأَجْلِ الْقَذْفِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ تَبْطُلُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَمَا كَانَ تَرْكُهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ مُبْطِلًا لِشَهَادَتِهِ وَهِيَ قَدْ بَطَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمَعْقُولَ من هذا

فيمن يقيم الحد على المملوك

فِيمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "يُقِيمُهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "يَحُدُّهُ المولى في الزنا وشرب

باب اللعان

بَابُ اللِّعَانِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ الْجَلْدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: "ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك"، وَقَالَ الْأَنْصَارُ: أَيُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَأَنَّهُ نُسِخَ عَنْ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ: "ائْتِنِي بِصَاحِبَتِك فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِيهَا قُرْآنًا" وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رجلا فإن

باب القذف الذي يوجب اللعان

بَابُ الْقَذْفِ الَّذِي يُوجِبُ اللِّعَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا سَوَاءٌ قَالَ: "زَنَيْت" أَوْ قَالَ: "رَأَيْتُك تَزْنِينَ"، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ رَمْيُهَا بِالزِّنَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ الْقَذْفِ الْمُوجِبِ لِلِّعَانِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ وَجَبَ اللِّعَانُ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا يُلَاعِنُ إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ يَنْفِيَ حَمْلًا بِهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا، وَالْأَعْمَى يُلَاعِنُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "لَا تَكُونُ مُلَاعَنَةً إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْت عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَقُولَ قَدْ كُنْت اسْتَبْرَأْت رَحِمَهَا وَلَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَلَى مَا قَالَ" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "إذَا قَالَ رَأَيْتهَا تَزْنِي لَاعَنَهَا وَإِنْ قَذَفَهَا وَهِيَ بِخُرَاسَانَ وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ لَمْ يُلَاعِنْ وَلَا كَرَامَةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي إيجَابَ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ سَوَاءٌ قال رأيتك تزنين أو

باب كيفية اللعان

بَابُ كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يَشْهَدُ الزَّوْجُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لِمَنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ نَفَاهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ نَفْيِ هَذَا الْوَلَدِ". وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الزَّوْجَ أَنْ يقول: "أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِك هَذَا" فَيَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: "لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِك هَذَا" ثُمَّ يَأْمُرُهَا الْقَاضِي فَتَقُولُ: "أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّك لِمَنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي هَذَا" فَتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: "وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي هَذَا". وَرَوَى حَيَّانُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "إذَا كَانَ اللِّعَانُ بِوَلَدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ قَدْ أَلْزَمْته أُمَّهُ وَأَخْرَجْته مِنْ نَسَبِ الْأَبِ". قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَلَمْ أَجِدْ ذِكْرَ نَفْيِ الْحَاكِمِ الْوَلَدَ بِالْقَوْلِ فِيمَا قَرَأْتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَهُوَ الْوَجْهُ عِنْدِي. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي سِيَاقِ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا قَائِمَانِ أَوْ جَالِسَانِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا، يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَيْهَا فَيُوَاجِهُهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَتُوَاجِهُهُ أَيْضًا هِيَ". وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُوَاجِهَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: "أنه يحلف أربع شهادات بالله

في نفي الولد

في نَفْيِ الْوَلَدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ فَنَفَى وَلَدَهَا حِينَ يُولَدُ أَوْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَاعَنَ وَانْتَفَى الْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ حِين يُولَدُ حَتَّى مَضَتْ سَنَةٌ أَوْ سَنَتَانِ ثُمَّ نَفَاهُ لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدُ"، وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَقْتًا، وَوَقَّتَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِقْدَارَ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً; وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إنْ كَانَ غَائِبًا فَقَدِمَ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِقْدَارِ النِّفَاسِ مُنْذُ قَدِمَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يَنْتَفِ أَبَدًا". وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَالْمَوْلَى شَاهِدٌ فَلَمْ يَدَّعِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَقَالَ: "إذَا مَضَى أَرْبَعُونَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ وَلَدَتْهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ"، قَالَ: قُلْت: فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا فَقَدِمَ وَقَدْ أَتَتْ لَهُ سُنُونَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: "إنْ كَانَ الِابْنُ نُسِبَ إلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ" وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ وَقَالَ هَذَا لَمْ أَعْلَمْ بِوِلَادَتِهِ فَإِنْ سَكَتَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ قَدِمَ لَزِمَهُ الْوَلَدُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "إذَا رَأَى الْحَمْلَ فَلَمْ يَنْفِهِ حِينَ وَضَعَتْهُ لَمْ يَنْتَفِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ نَفَاهُ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، فَإِنْ انْتَفَى مِنْهُ حِينَ وَلَدَتْهُ وَقَدْ رَآهَا حَامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ فَصَارَ قَاذِفًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْحَمْلِ وَقَدِمَ ثُمَّ وَلَدَتْهُ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ". وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتهَا تَزْنِي: "لَاعَنَ فِي الرُّؤْيَةِ وَيَلْزَمُهُ الْحَمْلُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ إمْكَانًا بَيِّنًا فَتَرَك اللِّعَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ كَالشُّفْعَةِ"، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: "إنْ لَمْ يَنْفِهِ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُ نَفْيِ الْوَلَدِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ إذَا قَذَفَهَا بِنَفْيِ الْوَلَدِ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيًّا، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِ ذِكْرِ اللِّعَانِ، قَالَ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ:

باب الرجل يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يقذفها

بَابُ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ يَقْذِفُهَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَذَفَهَا: "فَعَلَيْهِ الْحَدُّ" وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَنَفَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا بَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَنْكَرَ حَمْلَهَا لَاعَنَهَا إنْ كَانَ حَمْلُهَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهِيَ حَامِلٌ مُقِرٌّ بِحَمْلِهَا ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي قَبْلَ أَنْ يُقَاذِفَهَا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لَاعَنَهَا". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إذَا أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ البينونة

فصل

فَصْلٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ زَوْجَتِهِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَجِبُ اللِّعَانُ حَتَّى يَقُولَ إنَّهَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نافع عن ابن عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِهِ الْوَلَدَ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهَا قَذْفٌ يُوجِبُ اللِّعَانَ.

أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها

أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا أَحَدُهُمْ زَوْجُهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: "شَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: "يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ"، وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِهِمَا عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الزَّوْجَ يُلَاعِنُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ فِيهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا أَجْنَبِيِّينَ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَإِذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيُّ امْرَأَةً وَجَاءَ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمْ الزَّوْجُ اقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ وَسُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وَإِيجَابَهُ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ جَائِزَةٌ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَفِي الْقِصَاصِ وَفِي سَائِرِ الْحُدُودِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الزِّنَا. فَإِنْ قِيلَ: الزَّوْجُ يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا. قِيلَ لَهُ: إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشُّهُودِ مَعَ ثَلَاثَةٍ غَيْرَهُ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ وَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اللِّعَانُ عَلَيْهِ إذَا قَذَفَهَا ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا قَذَفَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَأْتِي بِأَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا، وَلَوْ جَاءَ مَعَ ثَلَاثَةٍ فَشَهِدُوا بِالزِّنَا لَمْ يَكُنْ قاذفا وكان شاهدا، فكذلك الزوج.

في إباء أحد الزوجين اللعان

فِي إبَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ اللِّعَانَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "أَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ اللِّعَانِ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "أَيُّهُمَا نَكَلَ حُدَّ، إنْ نَكَلَ الرَّجُلُ حُدَّ لِلْقَذْفِ وَإِنْ نَكَلَتْ هِيَ حُدَّتْ لِلزِّنَا". وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُلَاعِنُ وَتَأْبَى الْمَرْأَةُ قَالَ: "تُحْبَسُ". وَعَنْ مَكْحُولٍ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ: "إذَا لَاعَنَ وَأَبَتْ أَنْ تُلَاعِنَ رُجِمَتْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَقَالَ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: "ائْتِنِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك" وَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَمَهُمَا; فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِتَرْكِ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نفس بغير نَفْسِ"، فَنَفَى وُجُوبَ الْقَتْلَ إلَّا بِمَا ذُكِرَ، وَالنُّكُولُ عَنْ اللِّعَانِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ رَجْمُهَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الرَّجْمُ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً لَمْ يَجِبْ الْجَلْدُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّق بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: "امْرِئٍ مُسْلِمٍ" إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مُرَادَةٌ بِذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34] . وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الدَّمَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالنُّكُولِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ، فَكَانَ فِي اللِّعَانِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَهُوَ يَعْنِي حَدَّ الزِّنَا، ثُمَّ قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ هَذِهِ قِصَّةً وَاحِدَةً وَلَا حُكْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَلْزَمَ فِيهِ مَا قُلْت; لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ إنَّمَا هِيَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الزَّانِيَيْنِ ثُمَّ حُكْمِ الْقَاذِفِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ جَارِيًا عَلَى عُمُومِهِ إلَى أَنْ نُسِخَ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ بِاللِّعَانِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الْعَذَابَ وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ حَدَّ الزِّنَا فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَذَابَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي غَيْرِهِ مَا يُوجِبُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ فِي لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الزَّانِيَيْنِ; إذْ لَيْسَ يختص

الْعَذَابُ بِالْحَدِّ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَّ، وَقَالَ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] وَلَمْ يُرِدْ الْحَدَّ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَّ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ فِي تَكْذِيبٍ ... طُولُ الْحَيَاةِ لَهُ تَعْذِيبُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ". فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعَذَابِ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْإِيلَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ سَائِرِ ضُرُوبِ الْعَذَابِ عَلَيْهِ، لَمْ يَخْلِ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِنْسَ فَيَكُونَ عَلَى أَدْنَى مَا يُسَمَّى عَذَابًا، أَيْ ضَرْبٌ مِنْهُ كَانَ، أَوْ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعْهُودًا لِأَنَّ الْمَعْهُودَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَيْهِ; إذْ كَانَ مَعْنَاهُ مُتَقَرِّرًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَنَّ الْمُرَادَ عَوْدُهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ قَذْفِ الزَّوْجِ وَإِيجَابِ اللِّعَانِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ الْأَيْمَانُ قَدْ تَكُونُ حَقًّا لِلْمُدَّعِي حَتَّى يُحْبَسَ مِنْ أَجْلِ النُّكُولِ عَنْهَا وَهِيَ الْقَسَامَةُ مَتَى نَكَلُوا عَنْ الْأَيْمَانِ فِيهَا حُبِسُوا، كَذَلِكَ حَبْسُ النَّاكِلِ عَنْ اللِّعَانِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ إيجَابُ الْحَدِّ بِالنُّكُولِ وَفِيهَا إيجَابُ الْحَبْسِ بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّكُولَ يَنْقَسِمُ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا بَدَلٌ لِمَا اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ; وَبَدَلُ الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ بِهِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّكُولَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَرِيحَ الْإِقْرَارِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْحَدِّ بِهِ، كَالتَّعْرِيضِ وَكَاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلزِّنَا وَلِغَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا عَلَى الْقَاذِفِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَعَظَ الْمَرْأَةَ وَذَكَّرَهَا وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا حَدَّ الزِّنَا أَوْ الْقَذْفِ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا الْحَبْسَ أَوْ الْحَدَّ إذَا أَقَرَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَبْسَ فَهُوَ عِنْدَ النُّكُولِ، وَإِنْ أَرَادَ الْحَدَّ فَهُوَ عِنْدَ إقْرَارِهَا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِكْذَابِ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَنَّ النُّكُولَ يُوجِبُ الْحَدَّ دُونَ الْحَبْسِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِالنُّكُولِ وَأَيْمَانِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَأَيْمَانِ الْمَرْأَةِ. قِيلَ لَهُ: النُّكُولُ وَالْأَيْمَانُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ الْحَدُّ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ قَذْفًا أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي الْحَدَّ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عليه

وَلَا بِيَمِينِهِ؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا وَلَا يُحْكَمُ فِيهَا بِالنُّكُولِ وَلَا بِرَدِّ اليمين.

بَابُ تَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُنْفَى الْوَلَدُ مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "تَصْدِيقُهَا إيَّاهُ بِأَنَّ وَلَدَهَا مِنْ الزِّنَا يُبْطِلُ اللِّعَانَ فَلَا يَنْتَفِي النَّسَبُ مِنْهُ أَبَدًا" وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ" وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ حَامِلٌ وَقَدْ غَابَ زَوْجُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأَخَّرَهَا الْإِمَامُ حَتَّى وَضَعَتْ ثُمَّ رَجَمَهَا فَقَدِمَ زَوْجُهَا بَعْدَمَا رُجِمَتْ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ وَقَالَ قَدْ كُنْت اسْتَبْرَأْتهَا فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ وَيَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْفِيهِ هَهُنَا إلَّا اللِّعَانُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْتَفِيَ أَبَدًا عَنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ بِاللِّعَانِ وَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ فَهُوَ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَبَاحٍ قَالَ: زَوَّجَنِي أَهْلِي أَمَةً لَهُمْ رُومِيَّةً، فَوَقَعْت عَلَيْهَا فَوَلَدَتْ لِي غُلَامًا أَسْوَدَ مِثْلِي فَسَمَّيْته عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ طَبِنَ لَهَا غُلَامٌ مِنْ أَهْلِي رُومِيٌّ يُقَالُ لَهُ يُوحَنَّا، فَرَاطَنَهَا بِلِسَانِهِ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا كَانَ وَزَغَةً مِنْ الْوَزَغَاتِ فَقُلْت لَهَا: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: هَذَا لِيُوحُنَّهُ، فَرَفَعْنَا إلَى عُثْمَانَ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا فَاعْتَرَفَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، فَجَلَدَهَا وَجَلَدَهُ وَكَانَا مَمْلُوكَيْنِ.

بَابُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَاللَّيْثُ: "إذَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ". وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ: "لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَا أَرَى مُلَاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ تَنْقُصُ شَيْئًا، وَأَحَبُّ إلي أن

يُطَلِّقَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي إيقَاعِهِ الْفُرْقَةَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ سَلَفٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَيَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي صَاحِبَتِك قُرْآنًا فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا! " قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغْنَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا; فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ; قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَمْ يُوجِبْ الْفُرْقَةَ لِقَوْلِهِ: "كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتُهَا" وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ إخْبَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ; إذْ لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ قَدْ وَقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَ قَوْلُهُ: "كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا" وَهُوَ غَيْرُ مُمْسِكٍ لَهَا، فَلَمَّا أُخْبِرَ بَعْدَ اللِّعَانِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَارَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا عَلَى الْكَذِبِ وَلَا عَلَى اسْتِبَاحَةِ نِكَاحٍ قَدْ بَطَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنُ مِلْحَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِكِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ يَذْكُرُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ وَجَدْت عِنْدَ أَهْلِي رَجُلًا أَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ: "ائْتِ بِامْرَأَتِك فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيكُمَا فَجَاءَ بِهَا فَلَاعَنَهَا، ثُمَّ قَالَ: إنِّي قَدْ افْتَرَيْت عَلَيْهَا إنْ لَمْ أُفَارِقْهَا". فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَارَقَهَا بِاللِّعَانِ وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَهُ; وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَقَدْ خَالَفَ الْخَبَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَعْنِي قِصَّةَ عُوَيْمِرٍ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا} . فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ طَلَاقَ الْعَجْلَانِيِّ بَعْدَ اللِّعَانِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: "فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا" وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِاللِّعَانِ لَاسْتَحَالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَوَهْبُ بْنُ بَيَانٍ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مُسَدَّدٌ قَالَ: شَهِدْت الْمُتَلَاعِنَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا حِين تَلَاعَنَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ: "وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ " يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَنَصَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ كَانَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا وَقَعَ بِهَا مِنْ التَّحْرِيمِ وَتَعَلَّقَ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلَمَّا لَمْ يُخْبِرْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ. وَأَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُ الْآيَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ثم قال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} وَهُوَ يَعْنِي الزَّوْجَةَ، فَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَلَاعَنَتْ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، وَذَلِكَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ وَلَدٍ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ; لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الْفِرَاشِ وَلَا فَرْشَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، فَامْتَنَعَ لِعَانُهَا وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ تَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاللِّعَانِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ: "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا" قِيلَ لَهُ: هَذَا صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَعْنَاهُ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "لَا تَحِلُّ لَك لَا سَبِيلَ لَك عليها" إن

لَمْ تَقَعْ بِهِ فُرْقَةٌ فَلَيْسَ بِتَفْرِيقٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِالْحُكْمِ، وَالْمُخْبِرُ بِالْحُكْمِ لَا يَكُونُ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا"، وَذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ; لِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ بَاقِيًا إلَى أَنْ يُفَرَّقَ لَكَانَا مُجْتَمِعَيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ قَالَ: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ" فَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُمَا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا عَلَى حَالِ التَّلَاعُنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ الْفُرْقَةُ حَتَّى يَحْكُمَ بِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْنَاهُ مَا وَصْفنَا. وَأَيْضًا يُضَمُّ إلَيْهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا تَقَعُ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ تَضَمَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ الَّتِي لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَقَعَ مُوجِبَةً لِلْفُرْقَةِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَيْمَانُ عَلَى الدَّعَاوَى لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمَتَى اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ رَجُلًا بَرِئَ مِنْ الْخُصُومَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ آخَرَ فِي بَرَاءَتِهِ مِنْهَا، وَهَذَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ اعْتِلَالِك بِمَا ذَكَرْت قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهَا بِالْحَاكِمِ كَالشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَلَيْسَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْحُقُوقِ شَهَادَاتٍ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الدَّعَاوَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُدَّعِي مَا ادَّعَاهُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَبَ حُكْمُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِاللِّعَانِ. وَأَمَّا الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْحُقُوقِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا تُقْطَعُ الْخُصُومَةُ فِي الْحَالِ وَيَبْقَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَكَانَتْ فُرْقَةُ اللِّعَانِ بِالشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِالِاسْتِحْلَافِ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ اللِّعَانُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَشْبَهَ تَأْجِيلَ الْعِنِّينِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي تَعَلُّقِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَلَمَّا لَمْ تَقَع الْفُرْقَةُ بَعْدَ التَّأْجِيلِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ دُونَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ لِمَا وَصَفْنَا. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ اللِّعَانُ كِنَايَةً عَنْ الْفُرْقَةِ وَلَا تَصْرِيحًا بِهَا وَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ، كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَيْسَتْ كِنَايَةً عَنْ الْفُرْقَةِ وَلَا تَصْرِيحًا بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْإِيلَاءُ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا صَرِيحٍ، وَقَدْ أُوقِعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قِيلَ لَهُ: إنَّ الْإِيلَاءَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ، إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ

سَائِرِ الْكِنَايَاتِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْإِيلَاءِ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ تَرْكُ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: "وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك" قَدْ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ; إذْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَمْنَعُ الْقُرْبَ؟ وَأَمَّا اللِّعَانُ فَلَيْسَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَالًا عَلَى التَّحْرِيمِ بِحَالٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَحْرِيمًا; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا وَالْمَرْأَةُ صَادِقَةً فَذَلِكَ أَبْعَدُ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ; قَالَ: فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ دُونَ إحْدَاثِ تَفْرِيقٍ إمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءُ اللِّعَانِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَانَ كَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْفُرْقَةِ، وَلَمَّا صَحَّ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ لَمْ يُحْتَجْ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلِّيَا وَذَلِكَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ أَوْجَبَ الْفُرْقَةَ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ اللَّعَّانِ دُونَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ; لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ارْتِدَادَ الْمَرْأَةِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَلَوْ تَرَاضِيًا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلَّيَا وَذَلِكَ وَلَمْ تُوجِبْ الرِّدَّةُ بِنَفْسِهَا الْفُرْقَةَ دُونَ حُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ، وَعِنْدَنَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ زَوْجًا غَيْرَ كُفْءٍ وَطَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يُعْمَلْ تَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فِي تَبْقِيَةِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِخُصُومَةِ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ; فَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسِدٌ عَلَى أَصْلِ الْجَمِيعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّك لَمْ تَرُدَّهُ إلَى أَصْلٍ، وَإِنَّمَا حَصَلْت عَلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ. وَأَيْضًا جَائِزٌ عِنْدَنَا الْبَقَاءُ عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ اللِّعَانِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَجُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مِثْلُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالرَّضَاعِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْفُرْقَةِ بِأَنْفُسِهَا لَا يُحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاللِّعَانُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إذَا تَلَاعَنَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ، وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسْخٌ يُوجِبُهُ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يُوجِبُهُ إلَّا بِحُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ نَصِيبٍ مِنْ الدَّارِ يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ دُونَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ؟ وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَخِيَارُ الصَّغِيرِ إذَا بَلَغَ وَنَحْوُ ذَلِكَ هَذِهِ كُلُّهَا أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا فَسْخُ الْعُقُودِ ثُمَّ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ بِوُجُودِهَا حَسْبَ دُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ، فَهُوَ عَلَى مَنْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ دُونَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي قَوْلِهِ إنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ

بِحَالٍ; لِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْ الْفُرْقَةِ، وَلَوْ تَلَاعَنَا فِي بَيْتِهِمَا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ; وَلِأَنَّ اللِّعَانَ فِي الْأَزْوَاجِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَلَوْ حُدَّ الزَّوْجُ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا بِأَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً، وَكَذَلِكَ إذَا لَاعَنَ. وَذَهَبَ فِي تَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ وَكَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ، فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: "فَطَلَّقَهَا الْعَجْلَانِيِّ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا إنَّمَا هُوَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ إنَّهُ قَالَ: "فَحَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي قِصَّةَ الْعَجْلَانِيِّ فَمَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا"، فَأَخْبَرَ سَهْلٌ وَهُوَ رَاوِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِالتَّفْرِيقِ وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ الزَّوْجُ; وَفِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أمية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهِلَالٌ لَمْ يُطَلِّقْ امْرَأَتَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ وَاجِبٌ. وَأَيْضًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ طَلَّقَهَا هُوَ ثَلَاثًا فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا".

بَابُ نِكَاحِ الْمُلَاعِنِ لِلْمُلَاعَنَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ وَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَصَارَتْ الْمَرْأَةُ بِحَالٍ لَا يَجِبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا قَذَفَهَا لِعَانٌ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا"; وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا"; وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا عَلَى حَالِ التَّلَاعُنِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ لَا تُبِينُهَا مِنْهُ، وَأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِدَّةِ رُدَّتْ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ"; وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ بِبُطْلَانِهِ حِين فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَالْفُرْقَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ. وَيُحْتَجُّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِعُمُومِ الْآيِ الْمُبِيحَةِ لِعُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ، نَحْوُ قَوْلَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَقَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْفُرَقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا مِثْلَ فُرْقَةِ الْعِنِّينِ وَخِيَارِ الصَّغِيرَيْنِ

وَفُرْقَةِ الْإِيلَاءِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرَقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْأُصُولِ هَذِهِ سَبِيلُهَا. فَإِنْ قِيلَ: سَائِرُ الْفُرَقِ الَّتِي ذَكَرْت لَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ فِي الْحَالِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تَحْظُرُ تَزْوِيجَهَا فِي الْحَالِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يُفَارِقَ سَائِرَ الْفُرَقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُخَالِفَهَا فِي إيجَابِهَا التَّحْرِيمَ مُؤَبَّدًا. قِيلَ لَهُ: مِنْ الْفُرَقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ مَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ فِي الْحَالِ وَلَا تُوجِبُ مَعَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، مِثْلُ فُرْقَةِ الْعِنِّينِ إذَا لَمْ تَكُنْ نَفْيٌ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ قَدْ أَوْجَبَتْ تَحْرِيمًا حَاظِرًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ، وَلَمْ تُوجِبْ. مَعَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا; وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الذِّمِّيُّ إذَا أَبَى الْإِسْلَامَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ نِكَاحِهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَلَا تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَمْ يَجِبُ مِنْ حَيْثُ حَظَرْنَا تَزْوِيجَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنْ تُوجِبَ بِهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ اللِّعَانُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَهُ إذَا تَلَاعَنَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ; لِأَنَّا وَجَدْنَا سَائِرَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ فَإِنَّهَا تُوجِبُهُ بِوُجُودِهَا غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ فِيهِ إلَى حَاكِمٍ، مِثْلُ عَقْدِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِتَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْوَطْءِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَالرِّضَاعِ وَالنَّسَبِ، كُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى كَوْنِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَهُوَ أَنْ يَتَلَاعَنَا بِأَمْرِهِ بِحَضْرَتِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا. وَأَيْضًا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ لَجُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ لِزَوَالِ حَالِ التَّلَاعُنِ وَبُطْلَانِ حُكْمِهِ بِالْحَدِّ الْوَاقِعِ بِهِ وَجَبَ مِثْلُهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ وَهُوَ حُكْمُ اللِّعَانِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَجُلِدَ الْحَدَّ أَنْ يَعُودَ النِّكَاحُ وَتَبْطُلُ الْفُرْقَةُ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهَا، كَمَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا زَوَالَ حُكْمِ اللِّعَانِ عِلَّةً لِارْتِفَاعِ التَّحْرِيمِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ لَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَلَا لِعَوْدِ النِّكَاحِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ بَطَلَ لَمْ يَعُدْ إلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَقْبَلٍ; إلَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمٌ غَيْرُ الْبَيْنُونَةِ، وَذَلِكَ التَّحْرِيمُ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ حُكْمِ اللِّعَانِ، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَتُوجِبُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا لَا يَزُولُ إلَّا بِزَوْجٍ ثَانٍ يَدْخُلُ بِهَا، فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَعُدْ نِكَاحُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِيقَاعِ عَقْدٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَدَلِيلٌ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْوَاقِعَ بِالْفُرْقَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِزَوَالِ حُكْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ اللِّعَانِ إذَا أَكْذَبَ نفسه

وَجُلِدَ الْحَدَّ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ وَبِمَنْزِلَةِ الْجَلْدِ فِي قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَمُمْتَنِعٌ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ فِي قَذْفٍ وَاحِدٍ، فَإِيقَاعُ الْجَلْدِ لِذَلِكَ الْقَذْفِ مُخْرِجٌ لِلِّعَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَدًّا وَمُزِيلٌ لِحُكْمِهِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْت يُبْطِلُ حُكْمَ اللِّعَانِ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْحَدَّيْنِ عَلَيْهِ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ، فَوَاجِبٌ إذَا جُلِدَ الزَّوْجُ حَدًّا فِي قَذْفِهِ لِغَيْرِهَا أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَزَوَّجُ بِهَا قِيلَ لَهُ: إذَا صَارَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى لَمْ يُلَاعِنْ وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا؟ فَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فِيمَا لَاعَنَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي هَذِهِ فَجَائِزٌ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَمَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّهُمَا إذَا تَلَاعَنَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا"، وَبِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: "فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سَهْلٌ: "حَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" وَبِحَدِيثِ ابْنِ عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا"، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ لَبَيَّنَ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا فِي إبَاحَتِهَا بَعْدَ زَوْجٍ غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَوْلُهُ: "مَضَتْ السُّنَّةُ" لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّهَا وَلَا أَنَّهُ حَكَمَ بِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: "فَمَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" لَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَتْ بِذَلِكَ; وَالسُّنَّةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَهَذَا يَصِفُهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهُوَ بَقَاؤُهُمَا عَلَى حُكْمِ التَّلَاعُنِ وَكَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، فَمَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ زَالَ الْحُكْمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وَقَوْلُهُ {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالصِّفَاتِ، وَمَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ زَالَ الْحُكْمُ. فَإِنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" قِيلَ لَهُ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى ذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا رُوِيَ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ أَصْلُ

الْحَدِيثِ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ الرَّاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ وَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مُبَيِّنَةٌ عَمَّا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ النِّكَاحِ بَعْدَ زَوَالِ حُكْمِ اللِّعَانِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا" فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ وَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا" يَنْفِي جَوَازَ الْعَقْدِ; إذْ كَانَ جَوَازُهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ نَقُولُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَا نُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا فَيَصِيرُ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ بِالتَّزْوِيجِ. وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَهَا فِي الْحَالِ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فَإِنَّمَا صَارَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ بِرِضَاهَا وَعَقْدِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَصِيرَ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ فِي الْعُقُودِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَالسَّبِيلُ عَلَيْهِ بِرِضَاهُ؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا" إنَّمَا أَفَادَ أَنَّهُ "لَا سبيل لك عليها" إلا برضاها.

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يُنْفَى مِنْ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ بِاللِّعَانِ نَصَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ شَذَّ أَنَّهُ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" وَاَلَّذِي قَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِقَطْعِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ، وَلَيْسَتْ الْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِدُونِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِ بِاللِّعَانِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا بَطَلَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ بِالزِّنَا، كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ فَيُصَدِّقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا; وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لَامْرَأَتِهِ: "إذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ" وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يُسْتَبْضَعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلَهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إنْ أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ; وَنِكَاحٌ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ

يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، فَتَقُولُ لَهُمْ: "قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ وَهُوَ ابْنُك يَا فُلَانُ" فَتُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ مِنْهُمْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا وَنِكَاحٌ رَابِعٌ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ رَايَاتٍ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ يَكُنَّ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِاَلَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَهُ وَدَعَا ابْنَهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَمَ نِكَاحَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إلَّا نِكَاحَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" أَنَّ الْأَنْسَابَ قَدْ كَانَتْ تُلْحَقُ بِالنُّطَفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِغَيْرِ فِرَاشٍ، فَأَلْحَقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِرَاشِ; وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ زَمَعَةَ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" فَلَمْ يُلْحِقُهُ بِالزَّانِي، وَقَالَ: هُوَ لِلْفِرَاشِ، إخْبَارًا مِنْهُ أَنَّهُ لَا وَلَدَ لِلزَّانِي وَرَدَّهُ إلَى عَبْدٍ; إذْ كَانَ ابْنُ أَمَةِ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَسَوْدَةَ: "احْتَجِبِي مِنْهُ" إذْ كَانَ سَبَبَهَا بِالْمُدَّعَى لَهُ; لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ مَاءِ أَخِي سَعْدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي نَسَبِهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ قَضَى بِالنَّسَبِ لَمَا أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ بَلْ كَانَ أَمَرَهَا بِصِلَتِهِ وَنَهَاهَا عَنْ الِاحْتِجَابِ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَائِشَةَ عَنْ الِاحْتِجَابِ عَنْ عَمِّهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ وَهُوَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي نَسَبِهِ بِشَيْءٍ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ وَجَرِيرُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَتْ لِزَمْعَةَ جَارِيَةٌ تُبْطِنُهَا وَكَانَتْ تَظُنُّ بِرَجُلٍ آخَرَ، فَمَاتَ زَمَعَةٌ وَهِيَ حُبْلَى، فَوَلَدَتْ غُلَامًا كَانَ يُشْبِهُ الرَّجُلَ الَّذِي يُظَنُّ بِهَا، فَذَكَرَتْهُ سَوْدَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَمَّا الْمِيرَاثُ لَهُ وَأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك بِأَخٍ" فَصَرَّحَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِنَفْيِ نَسَبِهِ مِنْ زَمْعَةَ وَأَعْطَاهُ الْمِيرَاثَ بِإِقْرَارِ عَبْدٍ أَنَّهُ أَخُوهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو داود قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَنْصُورٍ وَمُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضُهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زُمْعَةَ: أَخِي ابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي; فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ" زَادَ مُسَدَّدٌ: فَقَالَ: "هُوَ أَخُوك يَا عَبْدُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي زَادَهَا مُسَدَّدٌ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ لَك يَا عَبْدُ"، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَثْبَتَ النَّسَبَ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ الْيَدِ لَهُ; إذْ كَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ يَدًا فِي شَيْءٍ جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ فَيُقَالُ هُوَ لَهُ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلْيَهُودِ حِين خَرَصَ عَلَيْهِمْ تَمْرَ خَيْبَرَ: "إنْ شِئْتُمْ فلكم وإن

شِئْتُمْ فَلِي" وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْمِلْكَ; وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "هُوَ لَك يَا عَبْدُ" إثْبَاتَ الْمِلْكِ. فَادَّعَى خَصْمُنَا أَنَّهُ أَرَادَ إثْبَاتَ النَّسَبِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ إضَافَتَهُ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "هُوَ لَك" إضَافَةُ الْمِلْكِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمِلْكٍ، فَإِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَقِيقَةَ فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَيُحْتَمَلُ لَوْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ أَخُوك" يُرِيدُ بِهِ أُخُوَّةَ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبْدٍ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ حَرٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ لَك" وَظَنَّ الرَّاوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخُوهُ فِي النَّسَبِ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ فِي خَبَرِ سُفْيَانَ وَجَرِيرٍ الَّذِي يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ لَك بِأَخٍ" وَهَذَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ خَبَرِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي رَوَيْنَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" قَدْ اقْتَضَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ النَّسَبِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ فَلَا نَسَبَ لَهُ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "الْوَلَدُ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "الْفِرَاشُ" لِلْجِنْسِ، لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ وَلَدٌ إلَّا وَهُوَ مُرَادٌ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا وَلَدَ إلَّا لِلْفِرَاشِ. وَفِيمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ آيَةِ اللِّعَانِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ مِنْ فَاعِلِهِمَا; لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كُفْرًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُرْتَدًّا; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً بِزِنَاهَا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَيْنُونَتِهَا مِنْهُ قَبْلَ اللِّعَانِ ثَبَتَ أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ وَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. وَتَدُلُّ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ مُسْتَحِقٌّ لِلَّعْنِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ فِي قَذْفِهِ كَاذِبًا، وَأَنَّ الزِّنَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْغَضَبَ مِنْ اللَّهِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُمَا اللَّهُ بِذَلِكَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُؤْمَرَا بِأَنْ يَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِمَا لَا يَسْتَحِقَّانِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَظْلِمَهُ اللَّهُ وَيُعَاقِبَهُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ؟. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَالْإِفْكُ هُوَ الْكَذِبُ وَنَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَجَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَمٌّ شَدِيدٌ وَأَذًى وَحُزْنٌ، فَصَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ صَبْرُهُمْ وَاغْتِمَامُهُمْ بِذَلِكَ شَرًّا لَهُمْ بَلْ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ لِمَا نَالُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَلِمَا لَحِقَهُمْ أَيْضًا مِنْ السُّرُورِ بِبَيَانِ اللَّهِ بَرَاءَةَ عَائِشَةَ وَطَهَارَتَهَا وَلِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحُكْمِ فِي الْقَاذِفِ.

وقَوْله تَعَالَى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِقَابَ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ عَلَى قَدْرِ مَا اكْتَسَبَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} ، رُوِيَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ السَّلُولِ وَكَانَ مُنَافِقًا، وَكِبَرُهُ هُوَ عِظَمَهُ وَإِنَّ عِظَم مَا كَانَ فِيهِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ وَبِرَأْيِهِ وَأَمْرِهِ كَانُوا يُشِيعُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَهُ، وَكَانَ هُوَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى أَبِي بَكْرٍ وَالطَّعْنَ عَلَيْهِمَا. قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} هُوَ أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَظُنُّوا خَيْرًا بِمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَبَرَاءَةَ السَّاحَةِ وَأَنْ لَا يَقْضُوا عَلَيْهِمْ بِالظَّنِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ لَمْ يُخْبِرُوا عَنْ مُعَايَنَةٍ وَإِنَّمَا قَذَفُوهَا. تَظَنُّنًا وَحُسْبَانًا لِمَا رَأَوْهَا مُتَخَلِّفَةً عَنْ الْجَيْشِ قَدْ رَكِبَتْ جَمَلَ صَفْوَانِ بْنِ الْمُعَطِّلِ يَقُودُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لِمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ أَنْ يُظَنَّ بِهِ خَيْرًا وَلَا يُظَنَّ بِهِ شَرًّا، وَهُوَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ فِي عُقُودِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَسَائِرِ تَصَرُّفِهِمْ مَحْمُولَةً عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهَا عَلَى الْفَسَادِ وَعَلَى مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ رَجُلًا فَاعْتَرَفَا بِالتَّزْوِيجِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُمَا بَلْ يَجِبُ تَصْدِيقُهُمَا; وَزَعَمَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ يَحُدَّهُمَا إنْ لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّكَاحِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ: إنَّا نُخَالِفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ وَحَمْلِ أُمُورِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَنَّا نَجْعَلُ الْمِائَةَ بِالْمِائَةِ وَالْفَضْلَ بِالسَّيْفِ، فَنَحْمِلُ أَمْرَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا تَعَاقَدَا عَقْدًا جَائِزًا وَلَا نَحْمِلُهُ عَلَى الْفَسَادِ وَمَا لَا يَجُوزُ. وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ; لِأَنَّا إذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَكْذِيبِ مَنْ قَذَفَهُمْ عَلَى جِهَةِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ بِمَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَقَدْ أُمِرْنَا بِمُوَالَاتِهِمْ وَالْحُكْمِ لَهُمْ بِالْعَدَالَةِ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرَّوِيَّةَ وَقَبُولَ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَنْهَا أَوْ رَدَّهَا; وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ". وقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَظُنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] وَالْمَعْنَى: فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يَعْنِي: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا

يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الْأُمُورِ، فَإِذَا جَرَى عَلَى أَحَدِهِمْ مَكْرُوهٌ فَكَأَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ، كما حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ دَوَّسَتْ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَاصُلِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَاَلَّذِي جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا وَجِعَ بَعْضُهُ وَجِعَ كُلُّهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ نَاجِيَةٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجُوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاصِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِك بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . قَدْ أَبَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَنْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاذِفِ مَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. قَوْلُهُ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَتَى لَمْ يُقِيمُوا أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ فَهُمْ مَحْكُومُونَ بِكَذِبِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فَأُولَئِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ; فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْحُكْمِ بِكَذِبِهِمْ، فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ سَائِغٌ، كَمَا قَدْ تَعَبَّدَنَا بِأَنْ نَحْكُمَ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ عَمَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ بِالْعَدَالَةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فِي الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَفِي قَذَفَتِهَا، فَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} بِمُغَيَّبِ خَبَرِهِمْ وَأَنَّهُ كَذِبٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَرْجِعُوا فِيهِ إلَى صِحَّةٍ، فَمَنْ جَوَّزَ صِدْقَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ رَادٌّ لِخَبَرِ اللَّهِ. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} . قُرِئَ: "تَلَقَّوْنَهُ" بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لِيُشِيعَهُ". وَعَنْ عَائِشَةَ: "تَلِقُونَهُ" مِنْ وَلِقْ الْكَذِبِ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ; وَمِنْهُ: وَلَقَ فُلَانٌ فِي السَّيْرِ إذَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ. فَذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَقِينًا فِي ظَنِّهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ فَهُوَ عَظِيمُ الْإِثْمِ عِنْدَهُ لِيَرْتَدِعُوا عَنْ مِثْلِهِ عِنْدَ عِلْمِهِمْ بِمَوْقِعِ الْمَأْثَمِ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا

بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تَعْلِيمًا لَنَا بِمَا نَقُولُهُ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِهِ فِيمَنْ كَانَ ظَاهِرُ حَالِهِ الْعَدَالَةَ وَبَرَاءَةَ السَّاحَةِ. قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أَيْ: تَنْزِيهًا لَك مِنْ أَنْ نُغْضِبَكَ بِسَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَصْدِيقِ قَائِلِهِ، وَهُوَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} ; فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعِظُنَا وَيَزْجُرُنَا بِهَذِهِ الزَّوَاجِرِ وَعِقَابِ الدُّنْيَا بِالْحَدِّ مَعَ مَا نَسْتَحِقُّ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ لِئَلَّا نَعُودَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ أبدا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بِاَللَّهِ مُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} . أَبَانَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبَ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لَهُمْ، فَأَخْبَرَ فِيهَا بِوَعِيدِ مَنْ أَحَبَّ إظْهَارَ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَوْلِ الْقَبِيحِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَوُجُوبِ كَفِّ الْجَوَارِحِ وَالْقَوْلِ عَمَّا يَضُرُّ بِهِمْ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"، وَقَالَ: "لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ إلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إلَيْهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ". قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا، أَحَدُهُمَا مِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ، وَكَانَا مِمَّنْ خَاضَا فِي أَمْرِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَنْفَعَهُمَا بِنَفْعٍ أَبَدًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَادَ لَهُ وَقَالَ: بَلَى وَاَللَّهِ إنِّي لِأُحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُمَا أَبَدًا وَكَانَ مِسْطَحُ بْنُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ مِسْكِينًا وَمُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْبَدْرِيِّينَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ". وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أيضاً في

حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَحْتَجُّ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِالْحِنْثِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوا دَلَالَةٌ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِيمَنْ حَنِثَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَفِي غَيْرِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا كَفَّارَتهَا لَمَا أُمِرَ بِضَرْبِهَا بَلْ كَانَ يَحْنَثُ بِلَا كَفَّارَةٍ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خيرا منها فليأت الذي هو خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ". فَإِنَّ مَعْنَاهُ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ لَا الْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِنْثِ وَالتَّوْبَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ الَّذِي اقْتَرَفَهُ بِالْحَلِفِ. قَوْله تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: "الْخَبِيثَاتُ مِنْ الْكَلَامِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "الْخَبِيثَاتُ مِنْ السَّيِّئَاتِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ"، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] . وَقِيلَ: الْخَبِيثَاتُ مِنْ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِمَا ثَبَتَ فِي مَوْضِعِهِ.

بَابُ الِاسْتِئْذَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ" فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِالْإِذْنِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وَقَالَ "غَلِطَ الْكَاتِبُ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ نَافِعٍ عن مجاهد: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قَالَ: "هُوَ التَّنَحْنُحُ وَالتَّنَخُّعُ". وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِئْذَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . وَالِاسْتِئْنَاسُ قَدْ يَكُونُ لِلْحَدِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وَكَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْفَرَدَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ حِينَ هَجَرَ نِسَاءَهُ، فَاسْتَأْذَنْت عَلَيْهِ

فَقَالَ الْآذِنُ: قَدْ سَمِعَ كَلَامَك، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ; فَذَكَرَ أَشْيَاءَ وَفِيهِ قَالَ: فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الِاسْتِئْنَاسَ لِلْحَدِيثِ، وَذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ. والاستئناس المذكور في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَدِيثَ; لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْحَدِيثِ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الِاسْتِئْذَانُ لِلدُّخُولِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاسْتِئْذَانُ اسْتِئْنَاسًا لِأَنَّهُمْ إذَا اسْتَأْذَنُوا أَوْ سَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبُيُوتِ بِذَلِكَ، وَلَوْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنٍ لَاسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ. وَأَمَرَ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ بِالسَّلَامِ; إذْ هُوَ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَلِأَنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ مِنْهُ لَهُمْ وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ وَنَافٍ لِلْحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ; حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي رِئَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ فَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: رَحِمَكَ رَبُّك آدَم اذْهَبْ إلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ; ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَبِّهِ فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك بَيْنَهُمْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ رَائِطَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ نَصْرِ بْنِ حَاجِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ وَيَنْصَحُ لَهُ بِالْغَيْبِ وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ وَيَشْهَدُ جِنَازَتَهُ إذَا مَاتَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَلَّى قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنْ سَرَّكُمْ أَنْ يَخْرُجَ الْغِلُّ مِنْ صُدُورِكُمْ فأفشوا السلام بينكم".

فِي عَدَدِ الِاسْتِئْذَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ رَوَى دُهَيْمُ بْنُ قِرَانٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ: فَالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ". وَرَوَى يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ:

سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْت جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَفْزَعَك؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْته فَاسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْت، فَقَالَ: مَا مَنَعَك أَنْ تَأْتِيَنِي؟ قُلْت: قَدْ جِئْت فَاسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" قَالَ: لَتَأْتِيَنَّ عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ قَالَ: فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَا يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ فَشَهِدَ لَهُ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى: "إنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ"، وَفِي بَعْضِهَا: "وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ خَبَرَهُ حَتَّى اسْتَفَاضَ عِنْدَهُ لِأَنَّ أَمْرَ الِاسْتِئْذَانِ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ، فَاسْتَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ثُمَّ لَا يَنْقُلُهَا إلَّا الْأَفْرَادُ; وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ مَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا خَبَرُ الِاسْتِفَاضَةِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الْحَفْرِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَكَذَا عَنْك أَوْ هَكَذَا فَإِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ النَّظَرِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أُخْبَرَهُ عَنْ كَلْدَةَ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَبَنٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَدَخَلْت وَلَمْ أُسَلِّمْ، فَقَالَ: "ارْجِعْ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" وَذَاكَ بَعْدَمَا أَسْلَمَ صَفْوَانُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: "اُخْرُجْ إلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ فَقُلْ لَهُ: قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ"؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ فَضْلٍ الْحَرَّانِيِّ فِي آخَرَيْنِ قَالُوا: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَا يَسْتَقْبِلُ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ

الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ فَيَقُولُ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا سُتُورٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} يَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ إذْنٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: "الِاسْتِئْنَاسُ التَّنَحْنُحُ وَالتَّنَخُّعُ" فَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِدُخُولِهِ; وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ، إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ فَحَذَفَهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمُرَادِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حَبِيبٍ وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إذْنٌ". فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِذْنَ محذوف من قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الدُّعَاءَ إذْنٌ إذَا جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانٍ ثَانٍ. وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ لَهُ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الِاسْتِئْذَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ زِرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ إنِّي كُنْت لِأَعْتَمِد بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ، إنِّي كُنْت لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْت يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْته إلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَمَرَّ بِي عُمَرُ فَفَعَلْت مِثْلَ ذَلِكَ فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الْحَقْ! " وَمَضَى وَاتَّبَعْته، فَدَخَلَ وَاسْتَأْذَنْت فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْت فَوَجَدْت لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: "مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ " قَالُوا: أَهْدَى لَك فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ، قَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي" قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، إذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا; فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْت: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْت أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا جَاءُوا فَأَمَرَنِي فَكُنْت أَنَا أُعْطِيهِمْ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ؟ فَأَتَيْتهمْ فَدَعَوْتهمْ فَأَقْبَلُوا حَتَّى اسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "خُذْ فَأَعْطِهِمْ! " فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْت أُعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى ثُمَّ

يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ آخَرَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ وَنَظَرَ إلَيَّ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ! " قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "بِقِيتِ أَنَا وَأَنْتَ" قُلْت: صَدَقْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَاقْعُدْ وَاشْرَبْ! " فَشَرِبْت، فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ فَأَشْرَبُ حَتَّى قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ: "فَأَرِنِي! " فَأَعْطَيْته الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَشَرِبَ الْفَضْلَ. فَقَالَ فَقَدْ اسْتَأْذَنَ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَقَدْ جَاءُوا مَعَ الرَّسُولِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ "رَسُولَ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ". قِيلَ لَهُ: لَيْسَا مُخْتَلِفَيْنِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ إبَاحَةٌ لِلدُّخُولِ مَعَ الرَّسُولِ وَلَيْسَ فِيهِ كَرَاهِيَةُ الِاسْتِئْذَانِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ حِينَئِذٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّسُولِ وَجَبَ حِينَئِذٍ الِاسْتِئْذَانُ; وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ فِي قَوْلِهِ: "حتى تستأنسوا" قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} فَحَظَرَ الدُّخُولَ إلَّا بِالْإِذْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ فِي إبَاحَةِ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا: "إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ"، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي دَارِ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ التَّغْلِيظِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ يَخْتَلِهِ لِيَطْعَنَهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ كَثِيرٍ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا دَخَلَ الْبَصَرُ فَلَا إذْنَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَقَدْ هُدِرَتْ عَيْنُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ ضَامِنٌ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي تُرَدُّ لِمُخَالَفَتِهَا الْأُصُولَ، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ; هَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارٌ شَاذَّةٌ قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ ظَوَاهِرِهَا. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ اطَّلَعَ فِي دَارِ غَيْرِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ كَانَ ضَامِنًا وَكَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَامِدًا وَالْأَرْشُ إنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّاخِلَ قَدْ اطَّلَعَ وَزَادَ عَلَى الاطلاع

الدُّخُولَ; وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا فَيَمَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ نَاظِرًا إلَى حُرَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَمُونِعَ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْمُمَانَعَةِ، فَهَذَا هَدَرٌ; وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ دَارَ قَوْمٍ أَوْ أَرَادَ دُخُولَهَا فَمَانَعُوهُ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهُوَ هَدَرٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الدَّاخِلِ وَالْمُطَّلِعِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا النَّظَرُ وَلَمْ تَقَعْ فِيهِ مُمَانَعَةٌ وَلَا نَهْيٌ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَهَذَا جَانٍ يَلْزَمُهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا نَدْخُلُ بُيُوتَ غَيْرِنَا إلَّا بِإِذْنِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لَنَا جَازَ لَنَا الدُّخُولُ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازُ قَبُولِ الْإِذْنِ مِمَّنْ أَذِنَ صَبِيًّا كَانَ أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ; وَهَذَا أَصْلٌ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ وَلَا تُسْتَوْفَى فِيهَا صِفَاتُ الشَّهَادَةِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوا أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا.

باب فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "سَأَلَ رِجْلٌ حُذَيْفَةَ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْت مَا يَسُوءُك". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ قُلْت: إنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مخارق عَنْ طَارِقٍ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ ". وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ: "سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ". فَلَمْ يُؤْمَرْ هَؤُلَاءِ بِالِاسْتِئْذَانِ إلَّا فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إلَّا أَنَّ أَمْرَ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَيْسَرُ لِجَوَازِ النَّظَرِ إلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْهَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ دَارِهِ عَنْ

الْوُقُوفِ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ الْقُعُودِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ حَظْرَ الدُّخُولِ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ; لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْآيَةِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} فَائِدَةٌ مُجَدِّدَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ بَابِ دَارِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ التَّنَحِّي عَنْهُ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ فِي دُخُولِ حَرَمِهِ وَخُرُوجِهِمْ وَفِيمَا يَنْصَرِفُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ فِي دَارِهِ مِمَّا لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} . قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: "هِيَ بُيُوتُ الْخَانَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الطُّرُقِ وَبُيُوتُ الْأَسْوَاقِ"، وَعَنْ الضَّحَّاكِ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: "كَانُوا يَأْتُونَ حَوَانِيتَ السُّوقِ لَا يَسْتَأْذِنُونَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانَتْ بُيُوتًا يَضَعُونَ فِيهَا أَمْتِعَتَهُمْ فَأُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إذْنٍ"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْبُيُوتُ الَّتِي تَنْزِلُهَا السَّفْرُ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: "رَأَيْت عَلِيًّا أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ وَهُوَ فِي السُّوقِ، فَاسْتَظَلَّ بِخَيْمَةِ فَارِسِيٍّ فَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ يَدْفَعُهُ عَنْ خَيْمَتِهِ وَعَلِيٌّ يَقُولُ: إنَّمَا أَسْتَظِلُّ مِنْ الْمَطَرِ، فَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ يَدْفَعُهُ، ثُمَّ أُخْبِرَ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَ بصدره". وقال عكرمة: {بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} "هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ لَكُمْ فِيهَا حَاجَةٌ" وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} "الْخَلَاءُ وَالْبَوْلُ". وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ ذَلِكَ; إذْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي الْبُيُوتِ الْمَسْكُونَةِ لِئَلَّا يُهْجَمَ عَلَى مَا لَا يُحَبُّ مِنْ الْعَوْرَةِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ فِي مِثْلِهِ بِإِطْلَاقِ الدُّخُولِ، فَصَارَ الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى إطْلَاقِ ذَلِكَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ فِي الْإِذْنِ أَنَّ أَصْحَابَنَا لَوْ مَنَعُوا النَّاسَ مِنْ دُخُولِ هَذِهِ الْبُيُوتِ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إذْنٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِبَاحَتِهِ وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْإِذْنِ فِيهِ مَا يَطْرَحُهُ النَّاسُ مِنْ النَّوَى وَقُمَامَاتِ الْبُيُوتِ وَالْخِرَقِ فِي الطُّرُقِ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ وَيَنْتَفِعَ بِهِ. وَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ أَصْحَابِنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَتَعَارَفُوا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ، كَنَحْوِ قَوْلِهِمْ فِيمَا يُلْحِقُونَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ طَعَامِ الرَّقِيقِ وَكُسْوَتِهِمْ وَفِي حُمُولَةِ الْمَتَاعِ أَنَّهُ يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً، فَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا; وَمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ لَا يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَقَامَتْ الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النُّطْقِ; وَفِي نَحْوِهِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَسْلَمَ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ أَوْ يُقَصِّرَهُ وَلَمْ يَشْرِطْ لَهُ أَجْرًا: "إنَّ الْأَجْرَ قَدْ وَجَبَ لَهُ إذَا كَانَ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ وَقَامَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِهِ مَقَامَ النُّطْقِ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ". وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَأْذِنُ فِي حَوَانِيتِ السُّوقِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ

فَقَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُطِيقُ؟ " وَلَيْسَ فِي; فِعْلِهِ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى دُخُولَهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مَحْظُورًا، وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.

بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعْقُولٌ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا حَرُمَ عَلَيْنَا النَّظَرُ إلَيْهِ، فَحُذِفَ ذِكْرُ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمُرَادِ; وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو وَفْرٍ مِنْهَا فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةَ". وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "ابن آدَمَ لَك أَوَّلُ نَظْرَةٍ وَإِيَّاكَ وَالثَّانِيَةَ". وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَك النَّظْرَةُ الْأُولَى" إذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ قَصْدٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ فَهِيَ وَالثَّانِيَةُ سَوَاءٌ، وَهُوَ عَلَى مَا سَأَلَ عَنْهُ جَرِيرٌ مِنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] . وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} هُوَ عَلَى مَعْنَى مَا نُهِيَ الرَّجُلُ عَنْهُ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَا حَرُمَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إليه. وقوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقوله: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: "يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" مِنْ الزِّنَا، إلَّا الَّتِي فِي النُّورِ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهَا أَحَدٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حِفْظَهَا عَنْ سَائِرِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّنَا وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حِفْظِ الْفُرُوجِ هِيَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ; وَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَهَبَ فِي إيجَابِ التَّخْصِيصِ فِي النَّظَرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ مِنْ النَّظَرِ وَمِنْ الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ; وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ حَظْرَ النَّظَرِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ اللَّمْسَ وَالْوَطْءَ مُرَادَانِ بِالْآيَةِ; إذْ هُمَا أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ، فَلَوْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّظَرِ لَكَانَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ حَظْرَ الْوَطْءِ وَاللَّمْسِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] قَدْ اقْتَضَى حَظْرَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ السَّبِّ وَالضَّرْبِ.

قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ فِي قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قَالَ: "مَا كَانَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفِّ، الْخِضَابُ وَالْكُحْلُ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "أَنَّهَا الْكَفُّ وَالْوَجْهُ وَالْخَاتَمُ" وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: الْقُلْبُ وَالْفَتْخَةُ" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الْفَتْخَةُ، الْخَاتَمُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَجْهُهَا وَمَا ظَهَرَ مِنْ ثِيَابِهَا". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "وَجْهُهَا مِمَّا ظَهَرَ مِنْهَا". وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "الزِّينَةُ زِينَتَانِ: زِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إلَّا الزَّوْجُ الْإِكْلِيلُ وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالثِّيَابُ" وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الثِّيَابُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَجْنَبِيِّينَ دُونَ الزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ; لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ حُكْمَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ; لِأَنَّ الْكُحْلَ زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخِضَابَ وَالْخَاتَمَ زِينَةُ الْكَفِّ، فَإِذْ قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ إلَى زِينَةِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ الْمَرْأَةِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ أَيْضًا أَنَّهَا تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَلَوْ كَانَا عَوْرَةً لَكَانَ عَلَيْهَا سَتْرُهُمَا كَمَا عَلَيْهَا سَتْرُ مَا هُوَ عَوْرَةٌ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَهِيهَا إذَا نَظَرَ إلَيْهَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ لِعُذْرٍ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ تَزْوِيجَهَا أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا أَوْ حَاكِمٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ إقْرَارَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ لِشَهْوَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَ لَك الْآخِرَةَ"، وَسَأَلَ جَرِيرٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَقَالَ: "اصْرِفْ بَصَرَك" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النَّظْرَةَ بِشَهْوَةٍ; وَإِنَّمَا قَالَ: "لَك الْأُولَى "; لِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ: "وَلَيْسَ لَك الْآخِرَةُ" ; لِأَنَّهَا اخْتِيَارٌ. وَإِنَّمَا أَبَاحُوا النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَعْذَارِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا" يَعْنِي الصِّغَرَ. وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ فَقَدِرَ عَلَى أَنْ يَرَى مِنْهَا مَا يُعْجِبُهُ وَيَدْعُوهُ إلَيْهَا فَلْيَفْعَلْ". وَرَوَى مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَقَدْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إذَا كَانَ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَيْهَا لِلْخِطْبَةِ". وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: خَطَبْنَا امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَظَرْت إلَيْهَا؟ " فَقُلْت: لَا، فَقَالَ: "اُنْظُرْ فَإِنَّهُ لَأَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا". فَهَذَا

كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا بِشَهْوَةٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] وَلَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهُنَّ إلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ وُجُوهِهِنَّ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِهَا بِشَهْوَةٍ مَحْظُورٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ". وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا هُوَ الثِّيَابُ لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ ذَكَرَ الزِّينَةَ وَالْمُرَادُ الْعُضْوُ الَّذِي عَلَيْهِ الزِّينَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ الْحُلِيِّ وَالْقُلْبِ وَالْخَلْخَالِ وَالْقِلَادَةِ يَجُوزُ أَنْ تُظْهِرَهَا لِلرِّجَالِ إذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ لَابِسَتُهَا؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ كَمَا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ بَعْدَ هَذَا: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} وَالْمُرَادُ مَوْضِعُ الزِّينَةِ، فَتَأْوِيلُهَا عَلَى الثِّيَابِ لَا مَعْنَى لَهُ; إذْ كَانَ مَا يَرَى الثِّيَابَ عَلَيْهَا دُونَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا كَمَا يَرَاهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَابِسَتَهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ وَأَنْ يَسْأَلْنَ عَنْهُ; لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النُّورِ عَمَدْنَ إلَى حجوز مَنَاطِقِهِنَّ فَشَقَقْنَهُ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ جَيْبَ الدُّرُوعِ; لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَلْبَسْنَ الدُّرُوعَ وَلَهَا جَيْبٌ مِثْلُ جَيْبِ الدُّرَّاعَةِ فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ مَكْشُوفَةَ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ إذَا لَبِسَتْهَا، فَأَمَرَهُنَّ اللَّهُ بِسَتْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِقَوْلِهِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَدْرَ الْمَرْأَةِ وَنَحْرَهَا عَوْرَةٌ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهَا مِنْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ إبْدَاءِ الزِّينَةِ لِلزَّوْجِ وَلِمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ الْآبَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالذِّرَاعُ; لِأَنَّ فِيهَا السِّوَارَ وَالْقُلْبَ، وَالْعَضُدُ وَهُوَ مَوْضِعُ الدُّمْلُجِ، وَالنَّحْرُ وَالصَّدْرُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ، وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ النَّظَرِ لِلْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَهِيَ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ; لِأَنَّهُ خَصَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إبَاحَةَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْأَجْنَبِيَّيْنِ وَأَبَاحَ لِلزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ النَّظَرَ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرِ: "الْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ وَالسِّوَارُ وَالْخَلْخَالُ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عن إبراهيم {أَوْ آبَناءِ بُعُولَتِهِنَّ} قَالَ: "يَنْظُرُ إلَى مَا فَوْقِ الذِّرَاعِ مِنْ الْأُذُنِ وَالرَّأْسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْأُذُنِ وَالرَّأْسِ بِذَلِكَ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ دُونَ شَيْءٍ، وَقَدْ سَوَّى فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَاقْتَضَى عُمُومُهُ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَمَا اقْتَضَى إبَاحَتَهَا لِلزَّوْجِ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْآبَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ نِكَاحُهُنَّ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا دَلَّ ذَلِكَ

عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي التَّحْرِيمِ بِمَثَابَتِهِمْ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ، مِثْلُ زَوْجِ الِابْنَةِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الرَّضَاعِ وَنَحْوِهِنَّ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ أَجْنَبِيَّةٍ، فَكَرِهَهُ وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا مَا خُصَّ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَاءَ لِسَائِرِ الْأَجْنَبِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرَائِرِ لِذَوِي مَحَارِمِهِنَّ فِيمَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ وَذِرَاعِهَا وَسَاقِهَا وَصَدْرِهَا وَثَدْيِهَا كَمَا يَجُوزُ لِذَوِي الْمَحْرَمِ النَّظَرُ إلَى ذَاتِ مَحْرَمِهِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ وَيَقُولُ: "اكْشِفْنَ رُءُوسَكُنَّ وَلَا تَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَمَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَانَ سَائِرُ النَّاسِ لَهَا كَذَوِي الْمَحَارِمِ لِلْحَرَائِرِ حِينَ جَازَ لَهُمْ السَّفَرُ بِهِنَّ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ" فَلَمَّا جَازَ لِلْأَمَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ عَلِمْنَا أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ لِذَوِي مَحْرَمِهَا فِيمَا يُسْتَبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ" دَالٌّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذِي الْمَحْرَمِ بِاسْتِبَاحَةِ النَّظَرِ مِنْهَا إلَى كُلِّ مَا لَا يَحِلُّ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ مَا وَصَفْنَا بَدِيًّا وَرَوَى مُنْذَرٌ الثَّوْرِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ كَانَ يُمَشِّطُ أُمَّهُ، وَرَوَى أَبُو البختري أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ، وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ فِي ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى شَعْرِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ، وَكَرِهَ السَّاقَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْمَرْأَةِ تَضَعُ خِمَارَهَا عِنْدَ أَخِيهَا قَالَ: "وَاَللَّهِ مَا لَهَا ذَلِكَ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِ ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسَدِّدَ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَخَافُ فِيهَا أَنْ تُشْتَهَى; لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا الشَّهْوَةُ لَكَانَ خِلَافَ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ وَلَكَانَ ذُو مَحْرَمِهَا والأجنبيون سَوَاءً. وَالْآيَةُ أَيْضًا مَخْصُوصَةٌ فِي نَظَرِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَجُزْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ وَهُوَ السُّرَّةُ فَمَا فَوْقَهَا وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَالْمَحْظُورُ عَلَيْهِنَّ مِنْ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضٍ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} . رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُمُّ سَلَمَةِ وَعَائِشَةُ أَنَّ للعبد أن

يَنْظُرَ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِلَى شَعْرِ غَيْرِ مَوْلَاتِهِ; رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَمْتَشِطُ وَالْعَبْدُ يَنْظُرُ إلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: "إنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ"، وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا مَحْرَمٍ، وَتَأَوَّلُوا قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} عَلَى الْإِمَاءِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَهُ وَهُوَ عَبْدُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ كَمَنْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ أُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ أُخْتِهَا، وَكَمَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ سَائِرُ النِّسَاءِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَى شُعُورِهِنَّ; فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهَا عَلَى عَبْدِهَا فِي الْحَالِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا كَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجْنَبِيِّينَ وَأَيْضًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إلَى شَعْرِهَا كَالْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ ذِكْرِ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وَأَرَادَ بِهِنَّ الْحَرَائِرَ الْمُسْلِمَاتِ، فَجَازَ أَنْ يُظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْإِمَاءَ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ النَّظَرُ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِنَّ وَإِلَى مَا يَجُوزُ لِلْحُرَّةِ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا، فَأَبَانَ تَعَالَى أَنَّ الْأَمَةَ وَالْحُرَّةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ نِسَاءَهُنَّ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَهُنَّ هُمْ الرِّجَالُ بِقَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّجَالَ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ إذَا كَانُوا ذَوِي مَحَارِمَ، فَأَبَانَ تَعَالَى إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ نِسَائِهِنَّ سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتَ مَحَارِمَ أَوْ غَيْرَ ذَوَاتِ مَحَارِمَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَاءَ بِقَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْ النِّسَاءِ; إذْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يَقْتَضِي الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} عَلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْمَمَالِيكِ، وَقَوْلُهُ: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الْأَحْرَارُ لِإِضَافَتِهِمْ إلَيْنَا; كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} عَلَى الْحَرَائِرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِنَّ الْإِمَاءَ فَأَبَاحَ لَهُنَّ مِثْلَ مَا أَبَاحَ فِي الْحَرَائِرِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: "الَّذِي يَتْبَعُك لِيُصِيبَ مِنْ طَعَامِك وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "هُوَ الْعِنِّينُ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ: "هُوَ الْأَبْلَهُ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "هُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يُعِدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ،

قَالَتْ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ: "لَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَهُنَا، لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ"، فَحَجَبُوهُ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ لَوْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُك عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ"، فَقَالَ: "لَا أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ". فَأَبَاحَ النَّبِيُّ دُخُولَ الْمُخَنَّثِ عَلَيْهِنَّ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَأَوْصَافَهُنَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَحَجَبَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قَالَ "مُجَاهِدٌ هُمْ الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ مَا هُنَّ مِنْ الصِّغَرِ". وَقَالَ قَتَادَةَ: "الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَظْهَرُ; لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ لِصِغَرِهِمْ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطِّفْلَ الَّذِي قَدْ عَرَفَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمٌ يَبٌلٌغوَا الحُلَم مِنٌكُمَ} وَأَرَادَ بِهِ الَّذِي عَرَفَ ذَلِكَ وَاطَّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَاَلَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِئْذَانِ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"، فَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفْرِقَةِ قَبْلَ الْعَشْرِ وَأَمَرَ بِهَا فِي الْعَشْرِ; لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ الْأَعَمِّ وَلَا يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} رَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "هُوَ الْخَلْخَالُ"، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: "إنَّمَا نُهِيت أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلَيْهَا لِيُسْمَعَ صَوْتُ الْخَلْخَالِ" وَذَلِكَ قوله: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ عُقِلَ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ النَّهْيُ عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِهَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِي النَّهْيِ عَنْ إسْمَاعِ صَوْتِهَا; إذْ كَانَ إظْهَارُ الزِّينَةِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ الزِّينَةُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ بِأَخْفَى الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَجُزْ بِأَظْهَرِهِمَا; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي قَدْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِهَا، وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَعَانِي تَارَةً جَلِيَّةً بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَيْهَا وَتَارَةً خَفِيَّةً يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِأُصُولٍ أُخَرَ سِوَاهَا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ رَفْعِ صَوْتِهَا بِالْكَلَامِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَجَانِبُ; إذْ كَانَ صَوْتُهَا أَقْرَبَ إلَى الْفِتْنَةِ مِنْ صَوْتِ خَلْخَالِهَا; وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَصْحَابُنَا أَذَانَ النِّسَاءِ; لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى حَظْرِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا لِلشَّهْوَةِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى الرِّيبَةِ وَأَوْلَى بِالْفِتْنَةِ.

بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لِوُرُودِ النَّقْلِ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَلَمَّا وَجَدْنَا عَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرَ الْأَعْصَارِ بَعْدَهُ قَدْ كَانَ النَّاسُ أَيَامَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَمْ يُنْكَرْ وَاتُّرِكَ تَزْوِيجُهُمْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الْإِيجَابُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الْإِيجَابُ أَنَّ الْأَيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أَبَتْ التَّزْوِيجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ وَلَا تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا. وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَيَامَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي الْجَمِيعِ; وَلَكِنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ وَاضِحَةٌ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مَنْدُوبٌ إلَى تَزْوِيجِ الْأَيَامَى الْمُحْتَاجِينَ إلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ فَهُوَ نَافِذٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ عَقْدُهُمْ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ فَهُوَ نَافِذٌ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ وَلَا أَمْرٌ فَعَقْدُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْعَقْدَ فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ النِّكَاحِ عَلَى إجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَلِيهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ النِّسَاءِ وَأَنَّ عُقُودَهُنَّ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ غَيْرُ جَائِزَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَخُصَّ الْأَوْلِيَاءَ بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي تَرْغِيبَ سَائِرِ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْأَيَامَى، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْأَيَامَى يَنْتَظِمُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ؟ وَهُوَ فِي الرِّجَالِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ". وَرَوَى إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ". وَقَالَ: "إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ". وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: زَوِّجُونِي فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَلْقَى اللَّهَ أَعْزَبَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا خلاد عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرحمن بن

زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ". قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُيَسَّرَةَ: وَلَا أَقُولُ لَك إلَّا مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الزَّوَائِدِ: مَا يَمْنَعُك مِنْ النِّكَاحِ إلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ. فَإِنْ قِيلَ: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} عُمُومُهُ يَقْتَضِي تَزْوِيجَ الْأَبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الْكَبِيرَةَ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ الْبِنْتَ الْكَبِيرَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَكَانَ جَائِزًا لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا بِعُمُومِ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ: معلوم أن قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} لَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ; لِأَنَّ الرَّجُلَ يُقَالُ لَهُ أَيِّمٌ وَالْمَرْأَةُ يُقَالُ لَهَا أَيِّمَةٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَالرَّجُلِ الَّذِي لَا امْرَأَةَ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ وَقَالَ آخَرُ: ذَرِينِي عَلَى أَيِّمٍ مِنْكُمْ وَنَاكِحٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَا رَأَيْت مِثْلَ مَنْ يَجْلِسُ أَيِّمًا بَعْدَ هذه الآية: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الْتَمِسُوا الْغِنَى فِي الْبَاهِ". فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْمُ شَامِلًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ أُضْمِرَ فِي الرِّجَالِ تَزْوِيجُهُمْ بِإِذْنِهِمْ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ فِي النِّسَاءِ أَيْضًا، وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِئْمَارِ الْبِكْرِ بِقَوْلِهِ: "الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا"، وَذَلِكَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ إلَّا بِإِذْنِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا"، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبِكْرَ; لِأَنَّ الْبِكْرَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَتَاةٍ بِكْرٍ زَوَّجَهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجِيزِي مَا صَنَعَ أَبُوك" ; وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا سَلَفَ. قَوْله تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ وَأَمَتَةَ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا; وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا بِغَيْرِ إذْنٍ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ" فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ لَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْمَوْلَى مِنْهُمَا ذَلِكَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا يَمْلِكَانِهَا وَيَمْلِكُهَا الْمَوْلَى عَلَيْهِمَا.

وقَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} خَبَرٌ، وَمُخْبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ; إذْ قَدْ وَجَدْنَا مَنْ يَتَزَوَّجُ وَلَا يَسْتَغْنِي بِالْمَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْغِنَى بِالْعَفَافِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَاصًّا فَهُوَ فِي الْأَيَامَى الْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا يَمْلِكُونَ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا فَيَكُونُ الْمَعْنَى وُقُوعَ الْغِنَى بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهِ عَنْ تَعَدِّيهِ إلَى الْمَحْظُورِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ; وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ مِلْكِ الْعَبْدِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.

بَابُ الْمُكَاتَبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} . رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "مَا أَرَاهُ إلَّا وَاجِبًا"، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ أَمَرَ أَنَسًا بِأَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا، وَحَلَفَ عَلَيْهِ لِيُكَاتِبَنَّهُ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "إنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ فَعَزِيمَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ". وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "إنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشُّعَبِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَرْغِيبٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ"، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ سِيرِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَحَكَمَ بِهَا عُمَرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَسٍ لِمُكَاتَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَنَسٌ أَيْضًا يَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهَا وَاجِبَةً لَمَا رَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَلَمْ يَضْرِبْهُ. قِيلَ: لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَالْوَالِدِ الْمُشْفِقِ لِلرَّعِيَّةِ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ فِي الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى غَالِبِ ظَنِّ الْمَوْلَى أَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} "إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً وَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ". وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ: "مَا نَرَاهُ إلَّا الْمَالَ" ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] قَالَ: "الْخَيْرُ الْمَالُ فِيمَا نَرَى"، قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْمَالَ. وَرَوَى

ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ: "إذَا صَلَّى". وَعَنْ إبْرَاهِيمَ "وَفَاءً وَصِدْقًا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ "مَالًا". وَقَالَ الْحَسَنُ: "صَلَاحًا فِي الدِّينِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّلَاحَ، فَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ الْوَفَاءَ وَالصِّدْقَ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ; لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إذَا قَالُوا: فُلَانٌ فِيهِ خَيْرٌ، إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الصَّلَاحَ فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَالَ لَقَالَ: إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا; لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ وَلَا يُقَالُ فِيهِ مَالٌ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ "إذَا صَلَّى" فَلَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ مُكَاتَبَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِالْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ صَلَاةٌ. وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُكَاتَبِ هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "إنْ وَضَعَ عَنْهُ شَيْئًا فَهُوَ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: "كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَدَعُوا لَهُ طَائِفَةً مِنْ مُكَاتَبَتِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: "كَانَ يُعْجِبُهُمْ" أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ: "كَانُوا يَكْرَهُونَ"، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ التَّابِعِيِّ إذَا قَالَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ; فَقَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِيجَابِ: "كَانَ يُعْجِبُهُمْ". وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: "حَثَّ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَغَيْرَهُ". وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ غُلَامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: "كَاتَبَنِي عُثْمَانُ وَلَمْ يَحُطَّ عَنِّي شَيْئًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} مَا ذَكَرَهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: "أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ" قَالَ: أَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: "عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَفِي الرِّقَابِ} قَدْ اقْتَضَى إعْطَاءَ الْمُكَاتَبِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} دَفْعَ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ جَوَازَ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إلَى الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَنِيًّا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ، وَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فَهُوَ مَا كَانَ سَبِيلُهُ الصَّدَقَةَ وَصَرْفَهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَالًا هُوَ مِلْكٌ لِمَنْ أَمَرَ بِإِيتَائِهِ وَأَنَّ سَبِيلَهُ الصَّدَقَةُ وَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَمْوَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَهُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّ مِلْكُهُ لِلْمَالِكِ وَأُمِرَ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ; لِأَنَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَالْمَوْلَى

لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ صَحِيحٌ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ حَطَّ بَعْضِ الْكِتَابَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُوجِبِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إذَا سَقَطَ لَمْ يُحَصِّلْ مَالًا لِلَّهِ قَدْ آتَاهُ الْمَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا آتَاهُ فَهُوَ الَّذِي يُحَصَّلُ فِي يَدِهِ وَيُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَمَا سَقَطَ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَلَمْ يُحَصَّلْ لَهُ عَلَيْهِ بَلْ لَا يَسْتَحِقَّ الصِّفَةَ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُ إيَّاهُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ وَاجِبًا لَكَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ الْمُسْقِطُ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ يُوجِبُهُ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مُسْقِطٌ اسْتَحَالَ وُجُوبُهُ لِتَنَافِي الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ; لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ ثُمَّ يَسْقُطُ فِي الثَّانِي. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُوجِبُ لَهُ هُوَ الْمُسْقِطُ لَهُ; إذْ كَانَ الَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ الْعَقْدُ وَاَلَّذِي يُسْقِطُهُ هُوَ حُصُولُ مِلْكِهِ لِلْمَوْلَى فِي الثَّانِي فَالْمُوجِبُ لَهُ غَيْرُ الْمُسْقِطِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى أَبَاهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ فَالْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ هُوَ الشِّرَى وَالْمُوجِبُ لِلْعَتَاقِ حُصُولُ الْمِلْكِ مَعَ النَّسَبِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُوجِبُ لَهُ هُوَ الْمُسْقِطُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَأَنْ يَضَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْكِتَابِ وَاجِبٌ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ وَضَعَ الْحَاكِمُ عَنْهُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ بَلْ يَسْقُطُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ، كَمَنْ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنٌ ثُمَّ صَارَ لِلْمَدِينِ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَصَلَتْ الْكِتَابَةُ مَجْهُولَةً; لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ مَجْهُولٌ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا شَيْءٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيتَاءَ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَسَقَطَ; ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِمَا بَقِيَ فَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَالْكِتَابَةُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ; وَذَلِكَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى الْكِتَابَةِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ شَيْءٍ لَا يَثْبُتُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِأَقَلَّ مِمَّا شُرِطَ، وَهَذَا فَاسِدٌ; لِأَنَّ أَدَاءَ جَمِيعِهَا مَشْرُوطٌ، فَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ بَعْضِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ" فَالْوَاجِبُ إذًا أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ مُسْتَحَقًّا لَسَقَطَ، وَإِنْ كَانَ الْإِيتَاءُ مَجْهُولًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ عَلَى مَالٍ مَجْهُولٍ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَاتَبَ غُلَامًا لَهُ فَتَرَكَ لَهُ رُبُعَ مُكَاتَبَتِهِ وَقَالَ: إنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُنَا بِذَلِكَ، وَيَقُولُ: هُوَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: "تُعْطِيهِ رُبُعًا مِنْ جَمِيعِ مُكَاتَبَتِهِ تُعَجِّلُهُ مِنْ

مَالِكَ". قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ وَاجِبًا وَأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ لَسَقَطَ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ هَذَا الْقَدْرُ; إذْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مَالُ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا وَيَسْتَحِقُّ هُوَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ الرُّبُعِ فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا بَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى تَعْجِيلَهُ فَيَكُونُ مَالُ الْكِتَابَةِ إلَى أَجَلِهِ، كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَيَصِيرُ لِلْمَدِينِ عَلَى الطَّالِبِ دَيْنٌ حَالٌّ فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا لَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ الْحَطُّ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحَالَّةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَحِلَّ مَالُ الْكِتَابَةِ الْمُؤَجَّلُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحِلَّ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ الْحَطِّ وَالْإِيتَاءِ; فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْإِيجَابُ; إذْ لَمْ يَجْعَلْهُ قِصَاصًا إذَا كَانَتْ حَالَّةً وَكَانَتْ مُؤَجَّلَةً فَحَلَّتْ، وَأَوْجَبَ الْإِيتَاءَ فِي الْحَالِّينَ، وَالْإِيتَاءُ هُوَ الْإِعْطَاءُ، وَمَا يَصِيرُ قِصَاصًا لَا يُطْلَقُ فِيهِ الْإِعْطَاءُ. وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مَا رَوَى يُونُسُ وَاللَّيْثُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: يَا عَائِشَةُ إنِّي قَدْ كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إلَى أَهْلِك فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ جَمِيعًا وَيَكُونُ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت. فَأَبَوْا وَقَالُوا: إنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْك فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونُ وَلَاؤُك لَنَا; فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَا يَمْنَعُك مِنْهَا ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ; فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا وَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُؤَدِّيَ عَنْهَا كِتَابَتَهَا كُلَّهَا وَذَكَرَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّكِيرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهَا يُسْتَحَقُّ أَنْ يُحَطَّ عَنْهَا بَعْضُ كِتَابَتِهَا أَوْ أَنْ يُعْطِيَهَا الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، ثَبَتَ أَنَّ الْحَطَّ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَالَ لَهَا: وَلِمَ تَدْفَعِي إلَيْهِمْ مَا لَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَيْهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ جُوَيْرِيَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إنِّي وَقَعْت فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَكَاتَبْته فَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى كِتَابَتِي، فَقَالَ: "فَهَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ " فَقَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "أَقْضِي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوَّجُك" قَالَتْ: نَعَمْ; قَالَ: "قَدْ فَعَلْت". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ بَذَلَ لِجُوَيْرِيَةَ أَدَاءَ جَمِيعِ كِتَابَتِهَا عَنْهَا إلَى مَوْلَاهَا، وَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَدَاءِ عَنْهَا بَاقِيَ كِتَابَتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ وَمَنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ لَمْ

يَكُونُوا يَرَوْنَ الْحَطَّ وَاجِبًا، وَلَا يُرْوَى عَنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافُهُ; وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ نَدْبًا لَا إيجَابًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ"، فَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَأُسْقِطَ عَنْهُ بِقَدْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ; وَاَللَّهُ أعلم.

بَابُ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهَا حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً لِإِطْلَاقِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْأَجَلِ، وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا فِي حَالِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَوَاجِبٌ جَوَازُهَا حَالَّةً لِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "تَجُوزُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَإِنْ أَدَّاهَا حِينَ طَلَبَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: كَاتِبُوا عَبْدِي عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَضْرِبْ لَهَا أَجَلًا: "إنَّهَا تُنَجَّمُ عَلَى الْمُكَاتَبِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنْ كِتَابَةِ مِثْلِهِ وَقَدْرِ قُوَّتِهِ" قَالَ: "فَالْكِتَابَةُ عِنْدَ النَّاسِ مُنَجَّمَةٌ وَلَا تَكُونُ حَالَّةً إنْ أَبَى ذَلِكَ السَّيِّدُ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إنَّمَا جُعِلَ التَّنْجِيمُ عَلَى الْمُكَاتَبِ رِفْقًا بِالْمُكَاتَبِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ رِفْقًا بِالسَّيِّدِ". وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهَا حَالَّةً، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا عَنْ الرَّقَبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَثْمَانِ الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ فَتَجُوزُ عَاجِلَةً وَآجِلَةً. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ حَالٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ مِثْلَهُ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْعِتْقِ فِي الْحَالِّينَ، إلَّا أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ الْأَدَاءِ وَفِي الْآخَرِ مُعَجَّلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا فِي جَوَازِهِمَا عَلَى بَدَلٍ عَاجِلٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا مُؤَجَّلَةً; إذْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْأَدَاءَ وَمَتَى امْتَنَعَ الْأَدَاءُ لَمْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمَوْلَى وَيَصِيرُ بِهَا الْمُكَاتَبُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَيَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَتَصَرُّفَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ الَّتِي يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ عِلَّةً صَحِيحَةً لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ حَالٍّ; لِأَنَّهُ لَمْ

يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ; وَلَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يَجُوزَ شِرَى الْفَقِيرِ لِابْنِهِ بِثَمَنٍ حَالٍّ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَأَنْ يُعْتَقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ. فَإِنْ قُلْت إنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ، قُلْنَا فِي الْمُكَاتَبِ مِثْلُهُ.

بَابُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُرِّيَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ ومالك بْنُ أَنَسٍ: "إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: إنْ أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَهُوَ جَائِزٌ وَمُعْتَقٌ بِالْأَدَاءِ" وَقَالَ الْمَزْنِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إلَى عَشْرِ سِنِينَ كَذَا كَذَا نَجْمًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يُعْتَقُ حَتَّى يَقُولَ فِي الْكِتَابَةِ إذَا أَدَّيْت هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ قَوْلِي قَدْ كَاتَبْتُك كَانَ مَعْقُودًا عَلَى أَنَّك إذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} يَقْتَضِي جَوَازَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَيَتَضَمَّنُ الْحُرِّيَّةَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فَكَاتِبُوهُمْ عَلَى شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُهَا كَلَفْظِ الْخُلْعِ فِي تَضَمُّنِهِ لِلطَّلَاقِ وَلَفْظِ الْبَيْعِ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ التَّمْلِيكِ وَالْإِجَارَةِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ وَالنِّكَاحِ فِي اقْتِضَائِهِ تَمْلِيكَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ"، فَأَجَازَ الْكِتَابَةَ مُطْلَقَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُرِّيَّةٍ فِيهَا، وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُرِّيَّةٍ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْعِتْقِ بالأداء.

باب الْمُكَاتَبُ مَتَى يُعْتَقُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْتَقُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَتَكُونُ الْكِتَابَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ"; قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ إسْنَادًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِيَةُ عَبْدٍ"، وَرَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ: "إنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَهُوَ غَرِيمٌ وَلَا رِقَّ عَلَيْهِ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إذَا أَدَّى ثُلُثًا أَوْ رُبُعًا فَهُوَ غَرِيمٌ" وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّهُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ رَقَبَتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ". وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعِتْقِ وَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَقَ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، كَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِ كَمَالِ الشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: "إذَا كَلَّمْت فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ" أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِكَلَامِهِمَا؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا مِنْ الْعِتْقِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، أَوْ أَنْ يُوقِعَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي لَا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ; فَثَبَتَ حِينَ لَمْ يَقَعْ بِالْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: "تُؤَدَّى كِتَابَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيُعْتِقُ"، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ; وَقَالُوا: "إنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ سَعَوْا فِيمَا عَلَى أَبِيهِمْ مِنْ النُّجُومِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "إنْ تَرَكَ وَلَدًا قَدْ دَخَلُوا فِي كِتَابَتِهِ سَعَوْا فِيهَا عَلَى النُّجُومِ وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ وَوَلَدُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا لَا تُؤَدَّى كِتَابَتُهُ مِنْ مَالِهِ وَجَمِيعُ مَالِهِ لِلْمَوْلَى". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا مَاتَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا لَا يَلْحَقُهُ عِتْقٌ بَعْدَ ذَلِكَ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ لِسَيِّدِهِ وَلَا تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَخْلُو الْكِتَابَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى شُرُوطٍ يُبْطِلُهَا مَوْتُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدِ أَيُّهُمَا كَانَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ" ثُمَّ يَمُوتُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدُ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ وَلَا يُعْتَقُ بِالشَّرْطِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ; فَلَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمَوْلَى لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ وَيُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ مَوْتُ الْعَبْدِ أَيْضًا مَا دَامَ الْأَدَاءُ مُمْكِنًا، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً فَتُؤَدَّى كِتَابَتُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُحْكَمَ بِعِتْقِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ عِتْقُ الْمَيِّتِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا; لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، قِيلَ لَهُ: إذَا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ، كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إيقَاعُ عِتْقٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ الْكِتَابَةَ حَكَمْنَا بِعِتْقٍ مُوقَعٍ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ نَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُرَاعًى عَلَى مَعْنَى

مَتَى وُجِدَ حُكِمَ بِوُقُوعِهِ بِحَالٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِثْلُ مَنْ جَرَحَ رَجُلًا فَيَكُونُ حُكْمُ جِرَاحَتِهِ مُرَاعًى، فَلَوْ مَاتَ الْجَارِحُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ الْجِرَاحَةِ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ كَانَ قَاتِلًا يَوْمَ الْجِرَاحَةِ مَعَ اسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَمَا أَأَنَّ رَجُلًا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ مَاتَ فَوَقَعَتْ فِيهَا دَابَّةٌ لِإِنْسَانٍ لَحِقَهُ ضَمَانُهَا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ; فَلَوْ كَانَ تَرَكَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْوَارِثُ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهَا دَابَّةٌ ضَمِنَ الْوَارِثُ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَحَكَمْنَا فِي بَابِ الضَّمَانِ بِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً يَوْمَ الْمَوْتِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ حَمْلًا فَوَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ وَرِثَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً وَقْتَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَلَدًا ثُمَّ قَدْ حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ الْوَلَدِ حِينَ وَضَعَتْهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنْ ابْنٍ ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ الدَّيْنِ أَخَذَ ابْنُ الْمَيِّتِ مِنْهَا حِصَّتَهُ مِيرَاثًا عَنْ أَبِيهِ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِابْنَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّهُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَالِكِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ، كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَقْتُولَ خَطَأً لَا تَجِبُ دِيَتُهُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا؟ فَجُعِلَتْ الدِّيَةُ فِي حُكْمِ مَا هُوَ مَالِكُهُ فِي بَابِ كَوْنِهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَأَنَّهُ يُقْضَى مِنْهَا دِيَتُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} . رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ: اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الْآيَةَ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} الْآيَةَ، قَالَ: "لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا مَغْفُورٌ لَهَا مَا فَعَلَتْهُ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ يُزِيلُ حُكْمَهُ إذَا أَظْهَرَهُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ; وَإِنَّمَا قَالَ: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لِأَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ الزِّنَا وَلَمْ تُرِدْ التَّحَصُّنَ ثُمَّ فَعَلَتْهُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَهِيَ مُرِيدَةٌ لَهُ، كَانَتْ آثِمَةً بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ وَكَانَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ زَائِلًا عَنْهَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الظَّاهِرِ; وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَأْبَاهُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنَّهُ فَعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ كَانَ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ" أَوْ عَلَى أَنْ يَشْتُمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ عَنْ الْكُفَّارِ أَوْ أَنْ يَعْتَقِدَ شَتْمَ مُحَمَّدٍ آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصْرِفْ قَصْدَهُ وَنِيَّتَهُ إلَى ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، كَانَ كَافِرًا. قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعَنْ أَنَسٍ: "هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ"، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ

وَالْحَسَنِ: "مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِنُجُومِهَا وَشَمْسِهَا وَقَمَرِهَا". وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكُ: "الضَّمِيرُ عَائِدٌ على المؤمن في قوله: {نُورِهِ} بِمَعْنَى: مَثَلُ النُّورِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، بِمَعْنَى: مَثَلُ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هَدَى بِهِ الْمُؤْمِنَ"; وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "مَثَلُ نُورِهِ وَهُوَ طَاعَتُهُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: "الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا"، وَقِيلَ: إنَّ الْمِشْكَاةَ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ وَهُوَ مِثْلُ الْكُوَّةِ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ، فَالْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ وَالْمِصْبَاحُ الْقُرْآنُ وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ" قَالَ: "فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعِ خِلَالٍ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِنْ اُبْتُلِيَ صَبَرَ وَإِنْ حَكَمَ عَدَلَ وَإِنْ قَالَ صَدَقَ". وَقَالَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} "فَهُوَ يَنْقَلِبُ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَارٍ: فَكَلَامُهُ نُورٌ وَعَمَلُهُ نُورٌ وَمَدْخَلُهُ نُورٌ وَمَخْرَجُهُ نُورٌ وَمَصِيرُهُ إلَى النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ". وَقِيلَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أَيْ نُورُ الْهُدَى إلَى تَوْحِيدِهِ عَلَى نُورِ الْهُدَى بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} "يُضِيءُ بَعْضُهُ بَعْضًا". قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} الْآيَةَ. قِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَصَابِيحَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ. وَقِيلَ: "تُوقَدُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هَذِهِ الْبُيُوتُ هِيَ الْمَسَاجِدُ"، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أَنْ تُرْفَعَ مَعْنَاهُ تُرْفَعُ بِالْبِنَاءِ، كَمَا قَالَ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] " وَقَالَ: "أَنْ تُرْفَعَ أَنْ تَعْظُمَ بِذِكْرِهِ; لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ وَالذِّكْرِ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ: "إنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إلَّا غَوَّاصٌ" ثُمَّ قَرَأَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ رَفْعِهَا بِالْبِنَاءِ وَمِنْ تَعْظِيمِهَا جَمِيعًا; لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُهَا مِنْ الْقُعُودِ فِيهَا لِأُمُورِ الدُّنْيَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَمَلِ الصِّنَاعَاتِ وَلَغْوِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالسَّفَهِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ". وقَوْله تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: "يُصَلَّى لَهُ فِيهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ صَلَاةٌ". وقَوْله تَعَالَى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي

هَذِهِ الْآيَةِ: "وَاَللَّهِ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، فَإِذَا حَضَرَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ بَدَءُوا بِحَقِّ اللَّهِ حَتَّى يَقْضُوهُ ثُمَّ عَادُوا إلَى تِجَارَتِهِمْ". وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "شُهُودُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ". وقال مجاهد: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: "عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ". وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَقْوَامًا يَتَّجِرُونَ، فَلَمَّا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامُوا إلَيْهَا، قَالَ: "هَذَا مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . وقَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَإِنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ، فَجَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مُنَزَّهٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالْعُقَلَاءُ الْمُطِيعُونَ يُنَزِّهُونَهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوَصْفِ لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} يَعْنِي: صَلَاةَ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَاَللَّهُ يَعْلَمُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ لِكُلِّ شَيْءٍ". وقَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} . قِيلَ: إنَّ "مِنْ" الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ; لِأَنَّ الْبَرَدَ بَعْضُ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، وَالثَّالِثَةِ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ; إذْ كَانَ جِنْسُ تِلْكَ الْجِبَالِ جِنْسَ الْبَرَدِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} قِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْخَلْقِ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ قُلِبَ إلَى النَّارِ فَخُلِقَ مِنْهُ الْجِنُّ، ثُمَّ إلَى الرِّيحِ فَخُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْهَا، ثُمَّ إلَى الطِّينِ فَخُلِقَ آدَم مِنْهُ، وَذَكَرَ الَّذِي يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَاَلَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ; لِأَنَّهُ كَاَلَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ تَكْفِي بِذِكْرِ الأربع.

بَابُ لُزُومِ الْإِجَابَةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَى الْحَاكِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا وَدَعَاهُ إلَى الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ إجَابَتُهُ وَالْمَصِيرُ مَعَهُ إلَيْهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} مَعْنَاهُ: إلَى حُكْمِ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى الْحَاكِمَ فَادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُعَدِّيهِ وَيُحْضِرُهُ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِ وَأَشْغَالِهِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ

جَعْفَرِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْأَغَرَّ الْجُهَنِيَّ قَالَ: جِئْت أَسْتَعْدِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ لِي عَلَيْهِ شَطْرُ تَمْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر: "اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ لَهُ حَقَّهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَجَاءُ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا شَاهِينُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الحسن عن سمرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دُعِيَ إلَى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ بْنُ كَامِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ أَخُو خَطَّابٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِجِلٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حدرد قَالَ: كَانَ لَيَهُودِيٍّ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَاسْتَعْدَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ: "أَعْطِهِ حَقَّهُ" قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا أَصْبَحْت أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَالَ: "أَعْطِهِ حَقَّهُ" فَأَعَدْت عَلَيْهِ، فَقَالَ: "أَعْطِهِ حَقَّهُ" فَخَرَجْت مَعَهُ إلَى السُّوقِ فَكَانَتْ عَلَى رَأْسِي عِمَامَةٌ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ مُتَّزِرٌ بِهَا، فَاتَّزَرْت بِالْعِمَامَةِ وَقُلْت: اشْتَرِ الْبُرْدَ فَاشْتَرَاهُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مُوَاطِئَةٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إلَى الْحَكَمِ إذَا دُعُوا إلَيْهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ بِالْقَوْلِ بَدِيًّا بِأَنْ يَقُولَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ثُمَّ يَصِيرُ مَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} . رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "هَذِهِ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْكُمْ بِالْقَوْلِ لَا بِالِاعْتِقَادِ، يُخْبِرُ عَنْ كَذِبِهِمْ فِيمَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ". وَقِيلَ: "إنَّ الْمَعْنَى طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَمْثَلُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ". وقَوْله تَعَالَى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} ، فَوُجِدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ فِيهِمْ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا; لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَمَكَّنَ لَهُمْ كَمَا جَاءَ الْوَعْدُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مُعَاوِيَةُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فِي ذَلِكَ الوقت.

بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ اسْتِئْذَانُ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} الْآيَةَ. رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَا: "هُوَ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً وَالرِّجَالُ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ، قَالَ: لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُطْلَقُ فِيهِنَّ "الَّذِينَ" إذَا انْفَرَدْنَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: "اللَّائِي" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَجُوزُ إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ، كَمَا أَنَّ النِّسَاءَ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِالْأَشْخَاصِ; وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تُذْكَرَ الْإِنَاثُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ دُونَ النِّسَاءِ وَدُونَ الْإِمَاءِ; لِأَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ يَتْبَعَانِ اللَّفْظِ كَمَا تَقُولُ: "ثَلَاثُ مَلَاحِفَ" فَإِذَا عَبَّرْت بِالْأُزُرِ ذَكَّرْت فَقُلْت: "ثَلَاثَةُ أُزُرٍ" فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْمَمَالِيكِ وَلَيْسَ الْعَبِيدُ; لِأَنَّ الْعَبِيدَ مَأْمُورُونَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْأَمْرِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِمَاءِ دُونَهُمْ; إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ وَالصَّبَّاحُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ عَبْدَةَ وَهَذَا حَدِيثُهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْته يَقُولُ: "لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ آيَةَ الْإِذْنِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} الآية، إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: "إنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو: "فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَابَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ" فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ، فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ زَالَ الْحُكْمُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْآيَةَ

مَنْسُوخَةً، وَأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ وَقَالَ الشُّعَبِيُّ أَيْضًا إنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَهَذَا نَحْوُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَوْجَبَ التَّوَارُثَ بِالنَّسَبِ جَعَلَ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَمَتَى فُقِدَ النَّسَبُ عَادَ مِيرَاثُ الْمُعَاقَدَةِ وَالْوَلَاءِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} : "أَبْنَاؤُهُمْ الَّذِينَ عَقَلُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى آبَائِهِمْ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ يَقِيلُونَ وَيَخْلُونَ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهِيَ الْعَتَمَةُ فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ اسْتَأْذَنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إخْوَانُهُمْ إذَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً لَا يَدْخُلُونَ عَلَى آبَائِهِمْ إلَّا بِإِذْنٍ سَاعَةَ يَدْخُلُونَ أَيُّ سَاعَةٍ كَانَتْ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: "عَبِيدُكُمْ" {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قَالَ: "مِنْ أَحْرَارِكُمْ"; وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ; لِأَنَّ الْعَبْدَ الْبَالِغَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْبَالِغِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى مَوْلَاتِهِ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ إلَى الصِّبْيَانِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ قَالَ: فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَبِيدَ الصِّغَارَ وَالْإِمَاءَ وَصِغَارَنَا الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشُّعَبِيُّ: "هَذَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهِ النَّاسُ وَمَا نُسِخَتْ". وَقَالَ أَبُو قلابة" "لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ". وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ كُلِّ عَوْرَةٍ، ثُمَّ هُوَ طَوَّافٌ بَعْدَهَا"; يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ أَوْقَاتِ الْخَلْوَةِ وَالتَّفَضُّلِ فِي الثِّيَابِ وَطَرْحِهَا وَهُوَ طَوَّافٌ بَعْدَهَا; لِأَنَّهَا أَوْقَاتُ السَّتْرِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْخَادِمُ وَالْغُلَامُ وَالصَّبِيُّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الدُّخُولِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ: "إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ" يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ; وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ.

فَصْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّ الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً; إذْ لَمْ يَحْتَلِمْ قَبْلَ ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَهَا وَبَيْنَ مَنْ قَصُرَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ". وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجَزْ وَعُرِضَ عَلَيْهِ

يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ، فَإِنَّهُ مُضْطَرِبٌ; لِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، وَأُحُدٌ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْقِتَالِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبُلُوغِ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرَدُّ الْبَالِغُ لِضَعْفِهِ وَيُجَازُ غَيْرُ الْبَالِغِ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْقِتَالِ وَطَاقَتِهِ لِحَمْلِ السِّلَاحِ، كَمَا أَجَازَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ يَصْرَعُهُ أَمْرُهُمَا فَتَصَارَعَا، فَصَرَعَهُ سَمُرَةَ فَأَجَازَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ سِنِّهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ عَنْ مَبْلَغِ سِنِّهِ فِي الْأَوَّلِ وَلَا فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ; فَاعْتِبَارُ السِّنِّ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَهُ فِي وَقْتٍ وَرَدَّهُ فِي وَقْتٍ سَاقِطٌ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بُلُوغٌ، وَاخْتَلَفُوا إذَا بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ "لَا يَكُونُ الْغُلَامُ بَالِغًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَسْتَكْمِلَهَا، وَفِي الْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً" وَذَهَبُوا فِيهَا إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا حَدُّ الْبُلُوغِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الِاحْتِلَامِ وَلَا عَنْ السِّنِّ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْخَمْسَ عَشَرَةَ لَيْسَتْ بِبُلُوغٍ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَنْفِي أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْخَمْسَ عَشَرَةَ بُلُوغًا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا، صَارَ طَرِيقُ إثْبَاتِ حَدِّ الْبُلُوغِ بَعْدَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ; لِأَنَّهُ حَدٌّ بَيْنَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ الَّذِينَ قَدْ عَرَفْنَا طَرِيقَهُمَا وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ. وَلَيْسَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَائِلِ بِمَا وَصَفْنَا سُؤَالٌ، كَالْمُجْتَهِدِ فِي تَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِي مَقَادِيرِهَا وَمُهُورِ الْأَمْثَالِ وَنَحْوِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُهُ لِهَذَا الْمِقْدَارِ دُونَ غَيْرِهِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ عَلَى غَيْرِهِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ ذَلِكَ فِي رَأْيِهِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكُلُّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الْعَادَاتِ فَقَدْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ، وَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ بَلَغَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْخَمْسَ عَشْرَةَ جَائِزَةٌ كَالنُّقْصَانِ عَنْهُ فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُعْتَادِ كَالنُّقْصَانِ عَنْهُ وَهِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ; كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ الْمُعْتَادَ مِنْ حَيْضِ النِّسَاءِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا بِقَوْلِهِ لحمنة بِنْتَ جَحْشٍ: "تَحِيضِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ" اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَادَةُ سِتًّا وَنِصْفًا; لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّابِعَ مَشْكُوكًا فِيهِ بِقَوْلِهِ: "سِتًّا أَوْ سَبْعًا". ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ النُّقْصَانَ عَنْ الْمُعْتَادِ ثَلَاثٌ وَنِصْفٌ; لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَنَا ثَلَاثٌ وَأَكْثَرَهُ عَشْرَةٌ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ بِإِزَاءِ النُّقْصَانِ مِنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِيمَا وَصَفْنَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْغُلَامِ; وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَالدُّخُولِ فِي التَّاسِعِ عَشْرَةَ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْإِثْبَاتِ هَلْ يَكُونُ بُلُوغًا، فَلَمْ يَجْعَلْهُ أَصْحَابُنَا بُلُوغًا، وَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُهُ بُلُوغًا، وَظَاهِرُ قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْإِثْبَاتُ بُلُوغًا إذَا لَمْ يَحْتَلِمْ، كَمَا نَفَى كَوْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ بُلُوغًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ" وَهَذَا خَبَرٌ مَنْقُولٌ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي رَفْعِ حُكْمِ الْقَلَمِ عَنْ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ بُلُوغًا بِحَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أَنْبَتَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَاسْتَحْيَا مَنْ لَمْ يُنْبِتْ، قَالَ: "فَنَظَرُوا إلَيَّ فَلَمْ أَكُنْ أَنْبَتُّ فَاسْتَبْقَانِي". وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِمِثْلِهِ; إذْ كَانَ عَطِيَّةُ هَذَا مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِرَاضِهِ عَلَى الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فِي نَفْيِ الْبُلُوغِ إلَّا بِالِاحْتِلَامِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُخْتَلِفُ الْأَلْفَاظِ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِيُ، وَفِي بَعْضِهَا مَنْ اخْضَرَّ إزَارُهُ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْحَالَ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بُلُوغِهِ، وَلَا يَكُونُ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِيُ إلَّا وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ; فَجَعَلَ الْإِثْبَاتَ وَجَرْيَ الْمَوَاسِيِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِ الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السِّنِّ وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَكْثَرُ. وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُمَا قَسَمَا فِي الْغَنِيمَةِ لِمَنْ أَنْبَتَ. وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا الْإِنْبَاتَ بُلُوغًا; لِأَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ لِلصِّبْيَانِ عَلَى وَجْهِ الرَّضْخِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السَّلَفِ شَيْءٌ فِي اعْتِبَارِ طُولِ الْإِنْسَانِ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِغُلَامٍ قَدْ سَرَقَ، فَأَمَرَهُ فَشُبِرَ فَنَقَصَ أُنْمُلَةً فَخَلَّى عَنْهُ". وَرَوَى قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِذَا اسْتَعَانَهُ رِجْلٌ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَهُوَ ضَامِنٌ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَتَى بِوَصِيفٍ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ حَدَثَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِ فِي غُلَامٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اشْبِرْهُ فَشَبَرَهُ فَنَقَصَ أُنْمُلَةً فَسُمِّيَ نُمَيْلَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذِهِ أَقَاوِيلُ شَاذَّةٌ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ تَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ،; إذْ الطُّولُ وَالْقِصَرُ لَا يَدُلَّانِ عَلَى بُلُوغٍ وَلَا نَفْيِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصِيرًا وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ يَكُونُ طَوِيلًا وَلَا يَبْلُغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ; وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَقَدْ عَقَلَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ الشَّرَائِعِ وَيُنْهَى عَنْ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيمِ; كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرًا فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ". وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "حَافِظُوا عَلَى أَبْنَائِكُمْ فِي الصَّلَاةِ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ الصَّلَاةَ إذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ". وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَأْمُرُ الصِّبْيَانَ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فَيُقَالُ لَهُ: يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا فَيَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَنَاهَوْا عَنْهَا". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: "أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بَنِيهِ بِالصَّلَاةِ إذَا عَقَلُوهَا وَبِالصَّوْمِ إذَا أَطَاقُوهُ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ حَتَّى يَحْتَلِمَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَلِيَعْتَادَهُ وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَقَلَّ نُفُورًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يُجَنَّبُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَيُنْهَى عَنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ فِي الصِّغَرِ وَخُلِّيَ وَسَائِرُ شَهَوَاتِهِ وَمَا يُؤْثِرُهُ وَيَخْتَارُهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ. وَكَمَا يُنْهَى عَنْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَإِظْهَارِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا، كَذَلِكَ حُكْمُ الشَّرَائِعِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} الْآيَةَ. يَعْنِي أَنَّ الْأَطْفَالَ إذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ فَعَلَيْهِمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي سَائِرَ الْأَوْقَاتِ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بُلُوغٌ. وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ جَائِزٌ لِلْإِمَاءِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أَنْ يَدْخُلُوا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ; إذْ كَانَتْ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثُ هُوَ حَالُ التَّكَشُّفِ وَالْخَلْوَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالُ السِّتْرِ وَالتَّأَهُّبِ لِدُخُولِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ وَهُوَ مَعْنَى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .

فِي اسْمِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وَإِنَّ الْأَعْرَابَ يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ، وَإِنَّمَا الْعَتَمَةُ عَتَمَةُ الْإِبِلِ لِلْحِلَابِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ

مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ: "وَالْقَوَاعِدُ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا هُنَّ اللَّاتِي لَا يُرِدْنَهُ، وَثِيَابُهُنَّ جَلَابِيبُهُنَّ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: "الرِّدَاءُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْجِلْبَابُ وَالْمِنْطَقُ". وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: "يَضَعْنَ الْخِمَارَ وَالرِّدَاءَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَعْرَ الْعَجُوزِ عَوْرَةٌ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهِ كَشَعْرِ الشَّابَّةِ، وَأَنَّهَا إنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ كَانَتْ كَالشَّابَّةِ فِي فَسَادِ صَلَاتِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَضْعَ الْخِمَارِ بِحَضْرَةِ الْأَجْنَبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا فِي الْخَلْوَةِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِذًا لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْقَوَاعِدِ بِذَلِكَ; إذْ كَانَ لِلشَّابَّةِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِي خَلْوَةٍ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لِلْعَجُوزِ وَضْعَ رِدَائِهَا بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مُغَطَّاةَ الرَّأْسِ، وَأَبَاحَ لَهَا بِذَلِكَ كَشْفَ وَجْهِهَا وَيَدِهَا; لِأَنَّهَا لَا تُشْتَهَى; وقال تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} فَأَبَاحَ لَهَا وَضْعَ الْجِلْبَابِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِعْفَافَ بِأَنْ لَا تَضَعَ ثِيَابَهَا أَيْضًا بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ خَيْرٌ لَهَا. وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ، فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن صالح عن معاوية بن صالح عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَإِنَّ الطَّعَامَ مِنْ أَفْضَلِ أَمْوَالِنَا وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ; فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ". فَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد "بن الحكم" قال: حدثنا جعفر بن محمد "بن اليمان" قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "كَانَ رِجَالٌ زَمْنَى وَعُمْيَانٌ وَعُرْجَانٌ وَأُولُو حَاجَةٍ يَسْتَتْبِعُهُمْ رِجَالٌ إلَى بُيُوتِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ طَعَامًا ذَهَبُوا بِهِمْ إلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ، فكره المستتبعون ذلك، فنزلت: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] الْآيَةَ، وَأُحِلَّ لَهُمْ الطَّعَامُ حَيْثُ وَجَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ". فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَانِي. وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد "بن الحكم" قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: مَا بَالُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ ذُكِرُوا هَهُنَا؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: "أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ

فِي بُيُوتِهِمْ وَسَلَّمُوا إلَيْهِمْ الْمَفَاتِيحَ وَقَالُوا: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْهَا، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ". فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ. وَرُوِيَ فِيهِ تَأْوِيلٌ رَابِعٌ، وَهُوَ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: "كَانُوا يَمْتَنِعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ الْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْرَجِ; لِأَنَّهُ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ الصَّحِيحُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْأَعْمَى وَإِنَّمَا أَزَالَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فِي الْأَكْلِ، فَهَذَا فِي الْأَعْمَى إذَا أَكَلَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ مِقْسَمٍ مُحْتَمَلًا عَلَى بُعْدٍ فِي الْكَلَامِ، وَتَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَاهِرٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَلَمْ يَكُنْ هَذَا تِجَارَةً وَامْتَنَعُوا مِنْ الْأَكْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إبَاحَةَ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ فَهُوَ سَائِغٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ الْعَادَةُ عِنْدَهُمْ بَذْلَ الطَّعَامِ لِأَقْرِبَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ، فَكَانَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِهِ كَالنُّطْقِ بِهِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ إذَا اسْتَتْبَعُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ اتَّبَعُوهُمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى الطَّعَامِ، وَقَدْ كَانَتْ الضِّيَافَةُ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَمْثَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَحَقًّا مِنْ مَالِهِمْ لِهَؤُلَاءِ; فَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: "إنْ أَكَلْت مِنْ بَيْتِ صَدِيقِك بِغَيْرِ إذْنِهِ فلا بأس"، لقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} . وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ، فَرَأَى سُفْرَةً مُعَلَّقَةً فَأَخَذَهَا وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَبَكَى الْحَسَنُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: ذَكَرْت بِمَا صَنَعَ هَذَا إخْوَانًا لِي مَضَوْا; يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبَسِطُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَأْذِنُونَ. وَهَذَا أَيْضًا عَلَى مَا كَانَتْ الْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِهِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُمْ سُكَّانُهَا وَهُمْ عِيَالُ غَيْرِهِمْ فِيهَا، مِثْلُ أَهْلِ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ وَمَنْ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ فَيَأْكُلُ مِنْ بَيْتِهِ; وَنَسَبَهَا إلَيْهِمْ; لِأَنَّهُمْ سُكَّانُهَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِ غَيْرِهِمْ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِبَاحَةَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ; إذْ كَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَابْتِدَاؤُهُ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ; وَقَالَ اللَّهُ: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} فَأَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ الطَّعَامِ لِأَمْثَالِهِمْ وَفَقْدِ التَّمَانُعِ فِي أَمْثَالِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَكْلَ فِي بُيُوتِ الْأَوْلَادِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} قَدْ أَفَادَهُ; لِأَنَّ مَالَ الرَّجُلِ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" وَقَالَ: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ

أَوْلَادِكُمْ"، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ ذِكْرِ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ; إذْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إلَى الْآبَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَالَ: "هُوَ الرَّجُلُ يُؤَاكِلُ الرَّجُلَ بِصَنْعَتِهِ، يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالثَّمَرِ وَيَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ". وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَالَ: "إذَا مَلَكَ الْمِفْتَاحَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْعَمَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ". وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يُضَيِّفُ أَحَدًا وَلَا يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ تَأَثُّمًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لِلنَّاسِ عَامَّةً، فَقَالَ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} مِمَّا عِنْدَك يَا ابْنَ آدَمَ، أَوْ صَدِيقِكُمْ، وَلَوْ دَخَلْت عَلَى صَدِيقٍ فَأَكَلْت مِنْ طَعَامِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْإِذْنِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا تَتَصَدَّقُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِالْكِسْرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا إيَّاهُ; لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مِثْلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ يَدْعُوَانِ إلَى طَعَامِهِمَا وَيَتَصَدَّقَانِ بِالْيَسِيرِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى. وَقَوْلُهُ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بِأَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ الرصافي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ" "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ" وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الرصافي قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كُمِّ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مَالَهُ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِإِخْوَانٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَدُخُولِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَا يَكُونُ مَالُهُ مُحَرَّزًا مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا سَرَقَ مِنْ صَدِيقِهِ; لِأَنَّ فَفِي الْآيَةِ إبَاحَةَ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِهِ قِيلَ لَهُ: مَنْ أَرَادَ سَرِقَةَ مَالِهِ لَا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ ذُكِرَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً

غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} فِي سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ". وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} . رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كِنَانَةَ بَنِي خُزَيْمَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ، وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَسُوقُ الذَّوْدَ الْحُفَّلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} . وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَحْشِيٍّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ، قَالَ: "فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ"؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} "الْمَعْنَى: يَأْكُلُ مَعَ الْفَقِيرِ فِي بَيْتِهِ". وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: "كَانَ إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا إلَّا مَعَهُ". وَقِيلَ: "إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَخَافُ إنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَزِيدَ أَكْلُهُ عَلَى أَكْلِ صَاحِبِهِ، فَامْتَنَعُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَأْوِيلٌ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَأَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَخْلِطُوا طَعَامَ الْيَتِيمِ بِطَعَامِهِمْ فَيَأْكُلُوهُ جَمِيعًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] ، فَكَانَ الْوَرِقُ لَهُمْ جَمِيعًا وَالطَّعَامُ بَيْنَهُمْ فاستجازوا أَكْلَهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا طَعَامًا بَيْنَهُمْ وَهِيَ الْمُنَاهَدَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ فِي الْأَسْفَارِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ: "فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "هُوَ الْمَسْجِدُ إذَا دَخَلْته فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ". وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} "إذَا دَخَلْت بَيْتَك فَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِك فَهُمْ أَحَقُّ مَنْ سَلَّمْت عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلْت بَيْتًا لَا أَحَدَ فِيهِ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِسَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ.

وقَوْله تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} يَعْنِي أَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَهِيَ مُبَارَكَةٌ طَيِّبَةٌ; لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] قَدْ أُرِيدَ بِهِ السَّلَامُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "فِي الْجِهَادِ". وَقَالَ عَطَاءٌ: "فِي كُلِّ أَمْرٍ جَامِعٍ". وَقَالَ مَكْحُولٌ: "فِي الْجُمُعَةِ وَالْقِتَالِ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "الْجُمُعَةُ"، وَقَالَ قَتَادَةُ: "كُلُّ أَمْرٍ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} الْآيَةَ، قَالَ: "كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فَرَخَّصَ لَهُ فِي هَذِهِ السورة: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ". وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاسْتِئْذَانِ لِلْمُحْدِثِ فِي الْجُمُعَةِ; لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمُقَامِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ، فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِئْذَانِ فِيهِ; وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِيهِ إلَى مَعُونَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ أَوْ الرَّأْيِ. وقَوْله تَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "يَعْنِي احْذَرُوا إذَا أَسْخَطْتُمُوهُ دُعَاءَهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُجَابٌ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "اُدْعُوهُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ نَحْوِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ كَمَا يَقُولُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا. وقَوْله تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} يَعْنِي بِهِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْصَرِفُونَ عَنْ أَمْرٍ جَامِعٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَسْتَتِرُ بِهِ لِئَلَّا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرِفًا. قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مَعْنَاهُ: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ لِجَوَازِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، كَقَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] مَعْنَاهُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ. وَ "الْهَاءُ" فِي "أَمْرِهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى; وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلَّهِ; لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ عَلَى الْوُجُوبِ; لِأَنَّهُ أَلْزَمَ اللَّوْمَ وَالْعِقَابَ لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْبَلَهُ فَيُخَالِفَهُ بِالرَّدِّ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَفْعَلَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَمُعْتَقِدًا لِلُزُومِهِ; فَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَمَنْ

قَصَرَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ خَصَّهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي "أَمْرِهِ" لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ يُسَمَّى أَمْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] يَعْنِي أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا; لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} وَهُوَ الَّذِي تَلِيهِ الْكِنَايَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. آخِرُ سُورَةِ النُّورِ.

ومن سورة الفرقان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} الطَّهُورُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ وَتَطْهِيرِ غَيْرِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ ضَرُوبٌ وَقَتُولٌ أَيْ يَضْرِبُ وَيَقْتُلُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ. وَالْوَضُوءُ يُسَمَّى طَهُورًا; لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ مِنْ الْحَدَثِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يقبل الله صلاة بغير طهور" أَيْ بِمَا يُطَهِّرُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" فَسَمَّاهُ طَهُورًا مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ وَقَامَ مَقَامَ الْمَاءِ فِيهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: أَحَدُهَا: إذَا خَالَطَ الْمَاءَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ، الطَّاهِرَةِ. وَالثَّانِي: إذَا خَالَطَهُ نَجَاسَةٌ. وَالثَّالِثُ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ; فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ لِطَهَارَةِ الْبَدَنِ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ مِثْلُ الْمَرَقِ وَمَاءِ الْبَاقِلَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَا طُبِخَ بِالْمَاءِ لِيَكُونَ أَنْقَى لَهُ نَحْوُ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ السَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ فَلَا يُجْزِي، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ فِيهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُصْبَغُ بِصَبْغِهِ وَغَيَّرَ لَوْنَهُ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْمَاءِ". وَقَالَ مَالِكٌ، "لَا يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي يُبَلُّ فِيهِ الْخُبْزُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا تَوَضَّأَ بزردج أَوْ نشاسبتج أَوْ بِخَلٍّ أَجْزَأْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّرَ لَوْنَهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا بَلَّ فِيهِ خُبْزًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ مُطْلَقٍ حَتَّى يُضَافَ إلَى مَا خَالَطَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الْأُشْنَانُ"; وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَشْرُطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْغُسْلِ بِغَيْرِ الْمَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] فِيهِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ على قولنا: أحدهما: أن قوله: {فَاغْسِلُوا} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِجَوَازِ إطْلَاقِ اسْمِ

الْغُسْلِ فِيهَا. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا فِيهِ مَاءٌ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ مَاءٍ; لِأَنَّ قَوْلَهُ "مَاءٌ" اسْمٌ مَنْكُورٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ لِإِطْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَبَاحَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَسُؤْرِ الْحَائِضِ وَإِنْ خَالَطَهُمَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِمَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْمُدِّ وَالسَّيْلِ مَعَ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِمُخَالَطَةِ الطِّينِ لَهُ وَمَا يَكُونُ فِي الصَّحَارَى مِنْ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ ذَلِكَ لَهُ يُرَى مُتَغَيِّرًا إلَى السَّوَادِ تَارَةً وَإِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ أُخْرَى، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ مَا خَالَطَهُ الْمَاءُ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ فَيَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكْفِهِ ثُمَّ اخْتَلَطَ بِهِ غَيْرُهُ فَكَفَاهُ بِاَلَّذِي خَالَطَهُ نَحْوِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ حَصَلَ بَعْضُ وُضُوئِهِ بِمَا لَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ مِمَّا لَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَطْهُرْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ إفْرَادِهِ بِالْغُسْلِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا خَالَطَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ إذَا كَانَ قَلِيلًا سَقَطَ حُكْمُهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لِمَا غَلَبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي خَالَطَهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ اللَّبَنِ وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ جُبٍّ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ لَا يُقَالُ لَهُ: شَارِبُ خَمْرٍ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ؟ كَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا كَانَ هُوَ الْغَالِبُ وَالْجُزْءُ الَّذِي خَالَطَهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا سَقَطَ حُكْمُهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْت فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إذَا كَانَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا خَالَطَهُ كَانَ كَافِيًا لِطَهَارَتِهِ; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ انْفِرَادِ الْمَاءِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَبَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ، فَإِذَا كَانَ لَوْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ مُنْفَرِدًا عَمَّا خَالَطَهُ مِنْ اللَّبَنِ وَمَاءِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ وَكَانَ طَهُورًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ; لِأَنَّ مُخَالَطَةَ غَيْرِهِ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ; فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِك وَهَدْمِ أَصْلِك. وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ تُجِيزَهُ; إذْ أَكْثَرُ غَسْلِ أَعْضَائِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ; لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مِنْ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَا لَوْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ كَانَ كَافِيًا. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} فَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ طَهُورًا. فَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ طَهُورًا، قِيلَ لَهُ: مُخَالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ السَّمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الطِّينِ بِمَاءِ السَّيْلِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ

يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ مُخَالِطًا لِلطِّينِ؟ وَكَذَلِكَ مَاءُ الْبَحْرِ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ; لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَاءُ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ، فَهُوَ إذًا مَعَ اخْتِلَاطِ غَيْرِهِ بِهِ مُتَطَهِّرٌ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ وَسَمَّاهُ طَهُورًا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا جَوَازُ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ; لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ بِمُخَالَطَتِهِ النَّجَاسَةَ إيَّاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَاءُ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ. قِيلَ لَهُ: الْمَاءُ الْمُخَالِطُ لِلنَّجَاسَةِ هُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَمْ يَصِرْ نَجِسَ الْعَيْنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُخَالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَمَا مَنَعْنَا الْوُضُوءَ بِهِ وَلَكِنَّا مَنَعْنَا الطَّهَارَةَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَاءً مُنْزَلًا مِنْ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا نَصِلُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَحْظُورٌ، فَإِنَّمَا مَنَعْنَا اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَإِنْ خَالَطَتْ الْمَاءَ، فَإِذَا حَصَلَ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ جَازَ، كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءِ الْقَرَاحِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ أَوْ بِمَاءِ الزَّعْفَرَانِ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ طَهَارَتَهُ. وَقَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ بِمَا أُلْقِيَ فِيهِ كَافُورٌ أَوْ عَنْبَرٌ وَهُوَ يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُهُ وَبِمَا خَالَطَهُ وَرْدٌ يَسِيرٌ، وَإِنْ وَقَعَ مِثْلُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فَلَيْسَ قِيَاسُ النَّجَاسَةِ قِيَاسَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إذَا خَالَطَتْ الْمَاءَ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك أَنْ تُجِيزَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الَّذِي يُخَالِطُهُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ لَوْ انْفَرَدَ كِفَاءً لِوُضُوئِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ جَازَ وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ فِي حَالِ الْمُخَالَطَةِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى سَلَبَهُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ غَلَبَةَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ يَنْقُلُهُ إلَى حُكْمِهِ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْقَلِيلِ مَعَهُ، بِدَلَالَةِ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ خَمْرٍ لَوْ وَقَعَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهُ إنْسَانٌ لَمْ يُقَلْ: إنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ أَنَّ خَمْرًا صُبَّ فِيهِ مَاءٌ فَمُزِجَتْ بِهِ فَكَانَ الْخَمْرُ هُوَ الْغَالِبُ لَأَطْلَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَكَانَ حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ حُكْمَ شَارِبِهَا صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ. وَأَمَّا مَاءُ الْوَرْدِ وَمَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَعُصَارَةُ الرَّيْحَانِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُمْنَعْ الْوُضُوءُ بِهِ مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ إلَّا بِتَقْيِيدٍ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَنِيَّ مَاءً بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20] وَقَالَ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي إجَازَتِهِ الْوُضُوءَ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إجَازَتُهُ بِالْمَرَقِ وَبِعَصِيرِ الْعِنَبِ لَوْ خَالَطَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّيَمُّمُ بِالدَّقِيقِ والأشنان قياسا على التراب.

فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا تَيَقَّنَّا فِيهِ جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ أَوْ غَلَبَ فِي الظَّنِّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْبِئْرِ وَالْغَدِيرِ وَالْمَاءُ الرَّاكِدُ وَالْجَارِي; لِأَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْجَارِي. وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَصْحَابِنَا لِلْغَدِيرِ الَّذِي إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي جِهَةِ تَغْلِيبِ الظَّنِّ فِي بُلُوغِ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ هَذَا كَلَامًا فِي أَنَّ بَعْضَ الْمِيَاهِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَبَعْضَهَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمَاءِ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ، فَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَدِيرٍ يُطْرَحُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَالْحَيْضُ فَقَالَ: "تَوَضَّئُوا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَخْبُثُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْجُنُبِ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ: "إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً فِي الْمَاءِ تَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ فَقَالَ: "الْمَاءُ لَا يَتَنَجَّسُ". وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: "أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ: "لَا يُنَجَّسُ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ بِرِيحٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ". وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً: "لَا يُخْبِثُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا شَيْءٌ"، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْحَوْضُ لَا يَغْتَسِلُ فِيهِ جُنُبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَرْبَعُونَ غَرْبًا"، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ كَرًّا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذَا كَانَ قَدْرَ ثَلَاثِ قِلَالٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ". وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ مُسْكِرٍ قُطِرَتْ فِي قِرْبَةٍ مِنْ الْمَاءِ لَحُرِّمَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَى أَهْلِهِ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيِّ: "لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ بِالنَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ" وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ مَسَائِلُ فِي مَوْتِ الدَّجَاجَةِ فِي الْبِئْرِ: "أَنَّهَا تُنْزَفُ إلَّا أَنْ تَغْلِبَهُمْ، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَنْ تَوَضَّأَ بِهِ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ" وَهَذَا عِنْدَهُ اسْتِحْبَابٌ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُهُ: إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ مَالِكٌ: إنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ هُوَ اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ. وَقَالَ فِي الْحَوْضِ إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ جُنُبٌ: "أَفْسَدَهُ"، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَهُ اسْتِحْبَابٌ لِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ. وَكَرِهَ اللَّيْثُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْبِئْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الْجُنُبُ فِي الماء

الرَّاكِدِ الْكَثِيرِ الْقَائِمِ فِي النَّهْرِ وَالسَّبْخَةِ" وَكَرِهَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ بِالْفَلَاةِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الْكُرِّ; وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ; وَالْكُرُّ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رِطْلٍ وَمِائَتَا رِطْلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ الْيَسِيرَةِ". وَاَلَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالنَّجَاسَاتُ لَا مَحَالَةَ مِنْ الْخَبَائِثِ، وَقَالَ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] وَقَالَ فِي الْخَمْرِ {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْآخَرُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ انْفِرَادِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالْمَاءِ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا تَيَقَّنَّا فِيهِ جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ، وَيَكُونُ جِهَةَ الْحَظْرِ مِنْ طَرِيقِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فِي الْأَصْلِ; لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِبَاحَةِ فَجِهَةُ الْحَظْرِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا مِائَةُ جُزْءٍ وَلِلْآخَرِ جُزْءٌ وَاحِدٌ أَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْؤُهَا؟. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ غُلِّبَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ إذَا لَمْ تَجِدْ مَاءً غَيْرَهُ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ إذَا لَزِمَهُ فَرْضُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ هَهُنَا جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِيجَابِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُك: إنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِيجَابِ خَطَأٌ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي لَا نَجَاسَةَ فِيهِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ إذَا كَانَتْ مُتَجَرِّدَةً بِنَفْسِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُخَالِطَةً لِلْمَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهَا. قِيلَ لَهُ: عُمُومُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيِ وَالسُّنَنِ قَاضٍ بِلُزُومِ اجْتِنَابِهَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ وَاجِدًا لِمَاءٍ غَيْرِهِ لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ يُوجِبُ الْحَظْرَ، وَالْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ مَتَى اجْتَمَعَا فَالْحُكْمُ لِلْحَظْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَ وَاجِدًا لِمَاءٍ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الْآيِ الْحَاظِرَةِ لِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَظْرَ قَدْ تَنَاوَلَهَا فِي حَالِ اخْتِلَاطِهَا بِهِ كَهُوَ فِي حَالِ انْفِرَادِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ وَبَيْنَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غيره، فإذا صح لنا ذَلِكَ فِي حَالِ

وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ كَانَتْ الْحَالُ الْأُخْرَى مِثْلَهُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَوَجْهٌ آخَرُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي هِيَ فِيهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً غَيْرَهُ; وَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا مِنْ نَجَاسَةٍ إلَّا وَعَلَيْنَا اجْتِنَابُهَا وَتَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا إذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَالْمَاءُ الَّذِي لَا نَجِدُ غَيْرَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ لُزُومُ الِاسْتِعْمَالِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ إنْسَانٌ مَاءً غَيْرَهُ أَوْ غَصَبَهُ فَتَوَضَّأَ بِهِ كَانَتْ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةً؟ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُ طَهَارَتِهِ بِذَلِكَ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَظْرُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَارَ لِلُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَزِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجِدُ غَيْرَهُ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ الْمُوجِبُ لَاجْتِنَابِهَا أَوْلَى. وَأَيْضًا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَهُ الْيَسِيرُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، كَاللَّبَنِ وَالْأَدْهَانِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّ حُكْمَ الْيَسِيرِ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الْكَثِيرِ وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ، وَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ بِالْعُمُومِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي حَالِيِّ الْمُخَالَطَةِ وَالِانْفِرَادِ. وَالْآخَرُ: أَنَّ حُكْمَ الْحَظْرِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ كَانَ أَغْلَبَ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الَّذِي خَالَطَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي خَالَطَهُ مِنْ ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ غَيْرُهُ،; إذْ كَانَ عُمُومُ الْآيِ وَالسُّنَنِ شَامِلَةً لَهُ، وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى وُجُودَ النَّجَاسَةِ فِيهِ حُظِرَ اسْتِعْمَالُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ". وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَوْلَ الْقَلِيلَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ لَا يُغَيِّرُ طَعْمَهُ وَلَا لَوْنَهُ وَلَا رَائِحَتَهُ، وَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا مَنَعَ الْبَوْلَ الْقَلِيلَ; لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لِكُلِّ أَحَدٍ لَكَثُرَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ فَيَفْسُدُ. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ نَهْيِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ إنَّمَا مُنِعَ لِئَلَّا يُفْسِدَ لِغَيْرِهِ إثْبَاتُ مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَإِسْقَاطُ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ. وَعَلَى أَنَّهُ مَتَى حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ زَالَتْ فَائِدَتُهُ وَسَقَطَ حُكْمُهُ لَعَلِمْنَا بِأَنَّ مَا غَيَّرَ مِنْ النَّجَاسَاتِ طَعْمَ الْمَاءِ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ مَحْظُورٌ اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ حُكْمِهِ رَأْسًا; وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ" فَمُنِعَ الْبَائِلُ الِاغْتِسَالَ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالِ التَّغَيُّرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْإِنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ احْتِيَاطًا مِنْ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهَا إذَا حَلَّتْ الْمَاءَ لَمْ يُغَيِّرْهُ، وَلَوْلَا أَنَّهَا تُفْسِدُهُ لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهَا

مَعْنًى، وَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَجَاسَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ بِقَوْلِهِ: "طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَ سَبْعًا"، وَهُوَ لَا يُغَيِّرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِمَاءٍ حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ وَبِمَا لَمْ تَحِلَّهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ; وَهَذَا يُعَارِضُ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ فِي حَظْرِ اسْتِعْمَالِهِ مَاءً خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ قِيلَ لَهُ: لَوْ تَعَارَضَ العمومان لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ تَضَمُّنِهِ مِنْ الْحَظْرِ، وَالْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ مَتَى اجْتَمَعَا كَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ. وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَظْرِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ قَاضٍ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ الْعُمُومِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ مَأْمُورًا بِمَاءٍ لَا نَجَاسَةَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا غَيَّرَتْهُ كَانَ مَحْظُورًا وَعُمُومُ إيجَابِ الْحَظْرِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ دُونَ عُمُومِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ؟ وَكَمَا قَضَى حَظْرَهُ لِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِهِ: {لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] فَإِنْ كَانَ مَا حَلَّهُ مِنْهَا يَسِيرًا كَذَلِكَ وَاجِبٌ أَنْ يُقْضَى عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَقَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] . وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وَقَوْلِهِ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ" وَصْفُهُ إيَّاهُ بِالتَّطْهِيرِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ مَا لَاقَاهُ. فَيُقَالُ لَهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "طَهُورًا" يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: رَفْعُ الْحَدَثِ وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ. وَالْآخَرُ إزَالَةُ الْإِنْجَاسِ. فَأَمَّا نَجَاسَةٌ مَوْجُودَةٌ فِيهِ لَمْ تُزِلْهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُطَهِّرًا لَهَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "طَهُورًا" أَنَّهُ يَجْعَلُ النَّجَاسَةَ غَيْرَ نَجَاسَةٍ، وَهَذَا مُحَالٌ; لِأَنَّ مَا حَلَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْخَبَائِثِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إنْجَاسًا، كَمَا أَنَّهَا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَعْيَانُهَا نَجِسَةً وَلَمْ يَكُنْ لِمُجَاوَرَةِ الْمَاءِ إيَّاهَا حُكْمٌ فِي تَطْهِيرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا فَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ فَالْحُكْمُ لِلْمَاءِ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ لَبَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ حُكْمُ الْمَاءِ لِوُجُودِ الْغَلَبَةِ، وَلِأَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ مَغْمُورَةٌ مُسْتَهْلَكَةٌ، فَحُكْمُ النَّجَاسَةِ إذَا حَلَّتْ الْمَاءَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَتْهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ الْمَائِعَاتِ كُلَّهَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِيمَا تُخَالِطُهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ

وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ مِنْهَا دُونَ الْمُسْتَهْلَكَاتِ الْمَغْمُورَةِ مِمَّا خَالَطَهَا، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ النَّجَاسَةِ الْيَسِيرَةِ لِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ تُفْسِدُهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَلَبَةِ مَعَهَا حُكْمٌ بَلْ كَانَ الْحُكْمُ لَهَا دُونَ الْغَالِبِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِلنَّجَاسَةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يُطَهِّرَهَا بِالْمُجَاوَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَامِرًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا لَهَا مِنْ أَجْلِ غُمُورِهِ لَهَا وَغَلَبَتِهِ عَلَيْهَا فَقَدْ يَكُونُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَتْهَا نَجَاسَةٌ غَامِرَةٌ لَهَا وَغَالِبَةٌ عَلَيْهَا وَكَانَ الْحُكْمُ مَعَ ذَلِكَ لِلنَّجَاسَةِ دُونَ مَا غَمَرَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا نَصِلُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَيْضًا الْعِلْمُ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا، كَمَا أَنَّ عِلْمَنَا بِوُجُودِهَا فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا بِظُهُورِهَا وَكَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا كَمُشَاهَدَتِهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُطْرَحُ فِيهِ عُذْرَةُ النَّاسِ ومحائض النِّسَاءِ وَلُحُومُ الْكِلَابِ، فَقَالَ: "إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ"، وَبِحَدِيثِ أَبِي بُصْرَةَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَا: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ، فَانْتَهَيْنَا إلَى غَدِيرٍ فِيهِ جِيفَةٌ، فَكَفَفْنَا وَكَفَّ النَّاسُ حَتَّى أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: "اسْتَقُوا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" فَاسْتَقَيْنَا وَارْتَوَيْنَا; وَبِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَانَتْ طَرِيقًا لِلْمَاءِ إلَى الْبَسَاتِينِ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا حَامِلًا لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَيَنْقُلُهُ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سُئِلَ عَنْهَا بَعْدَمَا نُظِّفَتْ مِنْ الْأَخْبَاثِ، فَأَخْبَرَ بِطَهَارَتِهَا بَعْدَ النَّزْحِ. وَأَمَّا قِصَّةُ الْغَدِيرِ فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْجِيفَةُ كَانَتْ فِي جَانِبٍ مِنْهُ، فَأَبَاحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ الْغَدِيرِ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ أَصْلَهُ مَا رَوَاهُ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلَ، فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي كُنْت جُنُبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ" وَالْمُرَادُ أَنَّ إدْخَالَ الْجُنُبِ يَدَهُ فِيهِ لَا يُنَجِّسُهُ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي سَمِعَ ذَلِكَ فَنَقَلَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ دُونَ اللَّفْظِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحُكْمَ بِتَنْجِيسِ الْمَاءِ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ. وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا مَاتَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، فَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِنَزْحِهَا. وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إنَّمَا يُنَجِّسُ الْحَوْضَ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَتَغْتَسِلُ وَأَنْتَ جُنُبٌ، فَأَمَّا إذَا أَخَذْت بِيَدِك تَغْتَسِلُ فَلَا بَأْسَ". وَلَوْ صَحَّ أَيْضًا هَذَا اللَّفْظُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي قِصَّةِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَحُذِفَ ذِكْرُ السَّبَبِ وَنُقِلَ لفظ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَلَيْسَ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ; لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الْمَاءَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَاسْتَعْمَلُوهُ حَتَّى تَحْتَجَّ بِهِ لِقَوْلِك. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْت يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَتِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلَالُك بِالظَّاهِرِ إذًا وَصِرْت إلَى أَنْ تَسْتَدِلَّ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِك تَخْلِيَةٌ مِنْ الْفَائِدَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنْ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا ادَّعَيْت مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ أَفَادَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ وَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ، وَاسْتَفَدْنَا بِهِ أَنَّ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ إذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ فَأُزِيلَتْ بِمُوَالَاةِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي فِي الثَّوْبِ لَيْسَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الَّذِي جَاوَرَهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَيَلْحَقُهُ حُكْمُهَا; لِأَنَّهُ إنَّمَا جَاوَرَ مَا لَيْسَ يُنَجِّسُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ بِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا; وَلَوْلَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ لِلنَّجَاسَةِ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ، فَلَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْمَاءِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى الْعَاشِرِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَوْنِ جَمِيعِهِ نَجِسًا، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الظَّنَّ وَأَفَادَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي لَحِقَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ، وَأَفَادَنَا أَيْضًا أَنَّ الْبِئْرَ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَأُخْرِجَتْ أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ إنَّمَا لَحِقَ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ دُونَ مَا جَاوَرَ هَذَا الْمَاءَ وَأَنَّ الْفَأْرَةَ لَمْ تَجْعَلْهُ بِمَنْزِلَةِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ; فَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِتَطْهِيرِ بَعْضِ مَا بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ" مَعْنًى; لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ لِلنَّجَاسَةِ لَيْسَ بِنَجِسٍ فِي نَفْسِهِ مَعَ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا أَيْضًا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ مَا ادَّعَيْت وَاسْتَفَدْنَا بِهِ فَائِدَةً أُخْرَى غَيْرَ مَا اسْتَفَدْنَاهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالِ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ وَسُقُوطِ حُكْمِ الْمَاءِ مَعَهَا فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، كَمَا تَقُولُ فِي الْمَاءِ إذَا مَازَجَهُ اللَّبَنُ أَوْ الْخَلُّ: إنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ; وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُلَّتَيْنِ فِي مَوَاضِعَ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ههنا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُونَ الْوُضُوءَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ

مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ مَا هُوَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ" عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ مَالِكٍ لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ وَتَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الرَّجُلِ وَلْيَفْتَرِقَا. وَفَضْلُ الطَّهُورِ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ: مَا يَسِيلُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُغْتَسِلِ، وَالْآخَرُ مَا يَبْقَى فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ الْغُسْلِ; وَعُمُومُهُ يَنْتَظِمُهَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ; لِأَنَّهُ فَضْلُ طَهُورٍ; وَأَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ". وَرَوَى بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ". وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَسْلَمَ حِينَ أَكَلَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ "أَرَأَيْت لَوْ تَوَضَّأَ إنْسَانٌ بِمَاءٍ أَكُنْت شَارِبَهُ؟ " فَدَلَّ تَشْبِيهُ الصَّدَقَةِ حِينَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِغُسَالَةِ أَيْدِي النَّاسِ أَنَّ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا أُزِيلَ بِهِ الْحَدَثُ مُشْبِهٌ لِلْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ النَّجَاسَةُ مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ الصَّلَاةَ بِهِمَا فَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ النَّجَاسَةُ كَذَلِكَ مَا أُزِيلَ بِهِ الْحَدَثُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ قَدْ أَكْسَبَهُ إضَافَةً سَلَبَهُ بِهَا إطْلَاقَ الِاسْمِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي امْتَنَعَ فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَاءِ بِمُخَالَطَةِ غَيْرِهِ لَهُ، وَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ فِي زَوَالِ الْحَدَثِ أَوْ حُصُولِ قُرْبَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ اسْتَعْمَلَهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ لِلطَّهَارَةِ، كَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهَارَةِ. قِيلَ لَهُ: اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَمْنَعْ إطْلَاقَ الِاسْمِ فِيهِ; إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، فَهُوَ كَاسْتِعْمَالِهِ فِي غَسْلِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وَقَوْلِهِ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [لأنفال: 11] قَالَ: فَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا وَلَمْ تُجَاوِرْهُ نَجَاسَةٌ وَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْحَالِ الأولى. والثاني: أن قوله: {طَهُوراً} يَقْتَضِي جَوَازَ التَّطْهِيرِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ بَقَاءَهُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بَعْدَ الطَّهَارَةِ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَمَا ذَكَرْت مِنْ الْعُمُومِ فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فَيَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مُقَيَّدًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعُمُومُ. وَأَمَّا قَوْلُك: "إنَّ كَوْنَهُ طَهُورًا يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى" فَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ أَوْ التَّطْهِيرِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّكْرَارِ، كَمَا يُقَالُ: "رَجُلٌ ضَرُوبٌ بِالسَّيْفِ" وَيُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ

بِالضَّرْبِ وَلَيْسَ الْمُقْتَضَى فِيهِ تَكْرَارَ الْفِعْلِ، وَيُقَالُ: "رَجُلٌ أَكُولٌ" إذَا كَانَ يَأْكُلُ كَثِيرًا وَإِنْ كَانَ كُلَّهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَا يُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ الْأَكْلِ; وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ أَصْلَ الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النُّطْفَةَ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا ولد آدم. وقوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} قَالَ طَاوُسٌ: "الرَّضَاعَةُ مِنْ الصِّهْرِ" وَقَالَ الضَّحَّاكُ رِوَايَةً: "النَّسَبُ الرَّضَاعُ وَالصِّهْرُ الْخُتُونَةُ" وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "النَّسَبُ الَّذِي لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَالصِّهْرُ النَّسَبُ الَّذِي يَحِلُّ نِكَاحُهُ كَبَنَاتِ الْعَمِّ". وَقِيلَ: "إنَّ النَّسَبَ مَا رَجَعَ إلَى وِلَادَةٍ قَرِيبَةٍ وَالصِّهْرَ خَلْطَةٌ تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "النَّسَبُ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ" ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى قَوْلِهِ: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] وَالصِّهْرُ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] إلَى قَوْلِهِ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْأَصْهَارِ أَنَّهُمْ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ نِسَاءِ مَنْ أُضِيفَ إلَيْهِ ذَلِكَ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِ فُلَانٍ أَنَّهُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِنِسَاءِ فُلَانٍ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ النَّاسِ، قَالَ: وَالْأَخْتَانُ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ وَكُلُّ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْخَتْنِ، وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ أَيْضًا; وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الصِّهْرُ فِي مَوْضِعِ الْخَتْنِ فَيُسَمُّونَ الْخَتْنَ صِهْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ: سَمَّيْتهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ ... وَالْقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زَمِيتُ فَأَقَامَ الصِّهْرَ مَقَامَ الْخَتْنِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْ ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} الْآيَةَ. رَوَى شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: "أَبْدِلْ مَا فَاتَك مِنْ لَيْلِك فِي نَهَارِك فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا". وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُمَا أَخْبَرَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِي قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من نَامَ عَنْ جُزْئِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ". وقال الحسن: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} "جَعَلَ أَحَدَهُمَا خِلْفَةً لِلْآخَرِ إنْ فَاتَ مِنْ النَّهَارِ شَيْءٌ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَ من الليل".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَامَ عَلَى صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا لِيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {خِلْفَةً} أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ. وَقِيلَ: يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا وَيَجِيءُ الْآخَرُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {هَوْناً} قَالَ: "بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ" {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قَالَ: "سِدَادًا". وَعَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} "حُلَمَاءُ لَا يَجْهَلُونَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ، حَلَمُوا قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ كَأَنَّهُمْ الْقِدَاحُ، هَذَا نَهَارُهُمْ يَنْتَشِرُونَ بِهِ فِي النَّاسِ" {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} قَالَ: "هَذَا لَيْلُهُمْ إذَا دَخَلَ يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَطْرَافِهِمْ فَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ". وَعَنْ ابْنِ عباس: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} قَالَ: "بِالتَّوَاضُعِ لَا يَتَكَبَّرُونَ". وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فهو مسرف" {وَلَمْ يَقْتُرُوا} "البخل، منع حق الله" {زوَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} قَالَ: "الْقَصْدُ وَالْإِنْفَاقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "السَّرَفُ إنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ". وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الْآيَةَ. رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك" قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ"; قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله: {أَثَاماً} . قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} . عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: "الزُّورُ الْغِنَاءُ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قَالَ: "يَشْتَرِي الْمُغَنِّيَةَ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قَالَ: "الْغِنَاءُ وَكُلُّ لَعِبٍ وَلَهْوٍ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُهِيت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ. وَصَوْتٍ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ" وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ الْخَمْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغِنَاءَ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} "أَنْ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْغِنَاءَ عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا الْقَوْلَ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَائِلِ بِهِ; وَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: "إذَا أُوذُوا مَرُّوا كِرَامًا صَفَحُوا". وَرَوَى أَبُو مَخْزُومٍ عَنْ سنان: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} قَالَ: "إذَا مَرُّوا بِالرَّفَثِ كَنَوْا". وَقَالَ الْحَسَنُ: "اللَّغْوُ كُلُّ الْمَعَاصِي". قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّهُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} قِيلَ: "لَازِمًا مُلِحًّا دَائِمًا"، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ وَإِلْحَاحِهِ، وَإِنَّهُ لَمُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ أَيْ مُلَازِمٌ لَهُنَّ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ; وَقَالَ الْأَعْشَى: إنْ يُعَاقِبْ يكن غراما وإن يعـ ... ـط جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ: يَوْمَ النِّسَارِ وَيَوْمَ الْجِفَا ... رِ كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَامَا قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ: أَصْلُ الْغُرْمِ اللُّزُومُ فِي اللُّغَةِ; وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا قَدَّمْنَا. وَيُسَمَّى الدَّيْنُ غُرْمًا وَمَغْرَمًا; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ، فَيُقَالُ لِلطَّالِبِ الْغَرِيمُ; لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَلِلْمَطْلُوبِ غَرِيمٌ; لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ اللُّزُومُ; وَعَلَى هَذَا قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ غُنْمَهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" يَعْنِي دَيْنَهُ الَّذِي هُوَ مَرْهُونٌ بِهِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْغُرْمَ الْهَلَاكُ; قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ غَرِيمٌ إلَّا مُفَارِقًا غَرِيمَهُ غَيْرَ جَهَنَّمَ فَإِنَّهَا لَا تُفَارِقُ غَرِيمَهَا". قَوْله تَعَالَى: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قَالَ الْحَسَنُ: "قُرَّةُ الْأَعْيُنِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَنْ يَرَى الْعَبْدُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَمِنْ أَخِيهِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى" وَقَالَ: "وَاَللَّهِ مَا شَيْءٌ أَقَرُّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَ وَلَدِهِ أَوْ أَخَاهُ أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى". وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: "أَقَرُّ بِهِمْ عَيْنًا أَنْ يُطِيعُوك". وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي الزاهرية عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ رُزِقَ إيمَانًا وَحُسْنَ خُلُقٍ فَذَاكَ إمَامُ الْمُتَّقِينَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} "نَأْتَمُّ بِمَنْ قَبْلَنَا حَتَّى يَأْتَمَّ بِنَا مَنْ بَعْدَنَا". وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا يَصْنَعُ بِكُمْ رَبِّي وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ إلَى طَاعَتِهِ لِتَنْتَفِعُوا أَنْتُمْ بِذَلِكَ. آخِرُ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.

ومن سورة الشعراء بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ: "الثَّنَاءُ الْحَسَنُ" فَالْيَهُودُ تُقِرُّ بِنُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ النَّصَارَى وَأَكْثَرُ الْأُمَمِ. وَقِيلَ: اجْعَلْ مِنْ وَلَدِي مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إلَيْهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قِيلَ: إنَّمَا سَأَلَ سَلَامَةَ الْقَلْبِ; لِأَنَّهُ إذَا سَلِمَ الْقَلْبُ سَلِمَ سَائِرُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْفَسَادِ، إذْ الْفَسَادُ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ فَاسِدٍ بِالْقَلْبِ فَإِنْ اجْتَمَعَ مَعَ ذَاكَ جَهْلٌ فَقَدْ عَدِمَ السَّلَامَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَرَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنِّي لَأَعْلَمُ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَّا وَهِيَ الْقَلْبُ". وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} أَخْبَرَ عَنْ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ بِهَذِهِ اللُّغَةِ فَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ نَقْلَهُ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا لِإِطْلَاقِ اللَّهِ اللَّفْظَ بِأَنَّهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مَعَ كَوْنِهِ فِيهَا بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْن كُهَيْلٍ عَنْ مجاهد في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قَالَ: "عُصَاةُ الْجِنِّ". وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قَالَ: "الشَّاعِرَانِ يَتَهَاجَيَانِ فَيَكُونُ لِهَذَا أَتْبَاعٌ وَلِهَذَا أَتْبَاعٌ مِنْ الْغُوَاةِ، فَذَمَّ اللَّهُ الشُّعَرَاءَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ مَا ذُكِرَ وَهُمْ الَّذِينَ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَشَبَّهَهُ بِالْهَائِمِ عَلَى وَجْهِهِ فِي كُلِّ وَادٍ يَعِنُّ لَهُ لَمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْهَوَى غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُ وَلَا فَسَادِهِ وَلَا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} "فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، يَمْدَحُونَ وَيَذُمُّونَ، يَعْنُونَ الْأَبَاطِيلَ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحَا. حَتَّى يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" وَمَعْنَاهُ الشِّعْرُ الْمَذْمُومُ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ قَائِلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ قَدْ

اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِحَسَّانٍ: "اُهْجُهُمْ وَمَعَك رُوحُ الْقُدُسِ"، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] وَقَوْلِهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] وَرَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لحكمة" آخر سورة الشعراء.

ومن سورة القصص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ; وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنَافِعَهُ لَشُعَيْبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَشْرُطْ لَهَا مَهْرًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى وَشَرَطَ لِوَلِيِّهَا مَنَافِعَ الزَّوْجِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَشَرْطُهُ لِلْمَوْلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الَّتِي لَا يُوجِبُهَا الْعَقْدُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَشْرُطَ لِلْوَلِيِّ مَنْفَعَةً. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْعُقُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "قَضَى مُوسَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَوْفَاهُمَا". قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَسْلَمُوا، فَآذَاهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَصَفَحُوا عَنْهُمْ، يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا سَلَامُ مُتَارَكَةٍ وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] وَقَوْلِهِ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم: 46] وَقَالَ: إبْرَاهِيمُ {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَجُوزُ عَلَى جَوَازِ ابْتِدَاءِ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ السَّلَامَ يَنْصَرِفُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا: الْمُسَالَمَةُ الَّتِي هِيَ الْمُتَارَكَةُ، وَالثَّانِي: التَّحِيَّةُ الَّتِي هِيَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ، نَحْوَ تَسْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ أَحَدُهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ"، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَقَوْلِهِ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُفَّارِ: "لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإنَّهُ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وعليكم".

قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} وقال تعالى: {قَتَلْتَ نَفْساً} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِوَكْزِهِ; ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِاللَّطْمَةِ عَمْدٌ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: ظَلَمْت نَفْسِي بِإِقْدَامِي عَلَى الْوَكْزِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ; إذْ الظُّلْمُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَتْلِ دُونَ الظُّلْمِ، وَكَانَ صَغِيرَةً. وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} يَسْتَدِلُّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بِامْرَأَتِهِ وَيَنْقُلَهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبَوَيْهَا; وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عِنْدِي عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ برضاها. آخر سورة القصص.

وَمِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَوَاتُ لِوَقْتِهِنَّ". قُلْت: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قُلْت: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ". وَالْآيَةُ وَالْخَبَرُ يَدُلَّانِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَكَانَ مُشْرِكًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ لِلْوَلَدِ مِنْ الْوَالِدِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الصَّلَاةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَنْ أَطَاعَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي الْقِيَامَ بِمُوجِبَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا قِيلَ: تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ; لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ وَأَذْكَارٍ لَا يَتَخَلَّلُهَا غَيْرُهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْفُرُوضِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَدْعُو إلَى الْمَعْرُوفِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبُهَا لِمَنْ قَامَ بِحَقِّهَا. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا وَقِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: إنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَسْرِقُ بِالنَّهَارِ; فَقَالَ: "لَعَلَّ صَلَاتَهُ تَنْهَاهُ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ الثَّلَاثُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: لَمْ تَكُنْ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الصَّلَاةَ يَرَى فِيهَا مَا تَقَرُّ عَيْنُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ وَمُجَاهِدٌ: ذِكْرُ اللَّهِ إيَّاكُمْ بِرَحْمَتِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إيَّاهُ بِطَاعَتِهِ وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ أَيْضًا وَأُمِّ الدَّرْدَاءِ وَقَتَادَةَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ الصَّلَاةِ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَلَا مُجَادَلَةَ أَشَدُّ مِنْ السَّيْفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوكُمْ فِي جِدَالِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَقْتَضِي الْإِغْلَاظَ لَهُمْ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلُهُ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وَقَالَ مُجَاهِدٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بِمَنْعِ الْجِزْيَةِ وَقِيلَ: إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بِالْإِقَامَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. آخر سورة العنكبوت.

ومن سورة الروم بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} هُوَ الرَّجُلُ يَهَبُ الشَّيْءَ يُرِيدُ أَنْ يُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُؤْجَرُ صَاحِبُهُ فِيهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي لِيُثَابَ عَلَيْهِ وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ: الرِّبَا ربوان فَرِبَا حَلَالٌ وَرِبًا حَرَامٌ فَأَمَّا الرِّبَا الْحَلَالُ فَهُوَ الَّذِي يُهْدَى يُلْتَمَسُ بِهِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَرَوَى زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُسَافِرُ مَعَ الرَّجُلِ فَيَخِفُّ لَهُ وَيَخْدُمُهُ فَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ لِيَجْزِيَهُ بِذَلِكَ. وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ الضَّحَّاكِ {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ هُوَ الرِّبَا الْحَلَالُ الرَّجُلُ يُهْدِي لِيُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَذَلِكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ أَجْرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ إثْمٌ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] قَالَ لَا تُعْطِ لِتَزْدَادَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لَا تَسْتَكْثِرْ عَمَلَك فَتَمُنَّ بِهِ عَلَى رَبِّك. وقَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} يَعْنِي أَنَّهُ خَلَقَكُمْ ضُعَفَاءَ حَمْلًا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ ثُمَّ أَطْفَالًا لَا تَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَقْوِيَاءَ ثُمَّ أَعْطَاكُمْ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَالْعَقْلِ وَالدِّرَايَةِ لِلتَّصَرُّفِ فِي اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ جَعَلَكُمْ ضُعَفَاءَ فِي حَالِ الشَّيْخُوخَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] وَقَوْلِهِ: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70] فَيَبْقَى مَسْلُوبُ الْقُوَى

وَالْفَهْمِ كَالصَّبِيِّ بَلْ حَالُهُ دُونَ حَالِ الصَّبِيِّ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي زِيَادَةٍ مِنْ الْقُوَى وَالْفَهْمِ مِنْ حِينِ الْبُلُوغِ وَكَمَالِ حَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَهَذَا يَزْدَادُ عَلَى الْبَقَاءِ ضَعْفًا وَجَهْلًا وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَرْذَلَ الْعُمُرِ وَجَعَلَ الشَّيْبَ قَرِينًا لِلضَّعْفِ بِقَوْلِهِ {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} . وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] . آخِرُ سُورَةِ الرُّومِ.

وَمِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} قَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، يَعْنِي ضَعْفَ الْوَلَدِ عَلَى ضَعْفِ الْأُمِّ وَقِيلَ: بَلْ الْمَعْنَى فيه شدة الجهد {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} يَعْنِي فِي انْقِضَاءِ عَامَيْنِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَبِهِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك مِنْ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّبْرِ وَإِنْ خَافَ عَلَى النَّفْسِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ إعْطَاءَ التَّقِيَّةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ فِي آيٍ غَيْرِهَا قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِك عَنْ النَّاسِ تَكَبُّرًا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ هُوَ التَّشَدُّقُ وَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ; لِأَنَّ الْمُتَشَادِقَ فِي الْكَلَامِ مُتَكَبِّرٌ، وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَ الصَّعَرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا وَرُءُوسِهَا حَتَّى يَلْوِيَ وُجُوهَهَا وَأَعْنَاقَهَا فَيُشَبِّهُ بِهَا الرَّجُلَ الَّذِي يَلْوِي عُنُقَهُ عَنْ النَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أَبَانَ تَعَالَى بِذَلِكَ أَنَّ أَمْرَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ عَامٌّ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وأكده بقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ عَلَى أَبِيهِ وَأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا قَذَفَهُ وَلَا يُحْبَسُ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ وَأَنَّ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُمَا إذَا احْتَاجَا إلَيْهِ; إذْ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ الصُّحْبَةِ

بِالْمَعْرُوفِ، وَفِعْلُ ضِدِّهِ يُنَافِي مُصَاحَبَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْأَبَ لَا يُحْبَسُ بِدَيْنِ ابْنِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إذَا كَانَ مُتَمَرِّدًا. وقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} الْمَرَحُ الْبَطَرُ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَازْدِرَاءُ النَّاسِ وَالِاسْتِهَانَةُ بِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْهُ; إذْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ بِنَفْسِهِ وَأَحْوَالِهِ وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَمُنْتَهَاهُ; قَالَ الْحَسَنُ: أَنَّى لِابْنِ آدَمَ الْكِبْرَ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ سَبِيلِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ وَالْفَخُورُ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ اسْتِصْغَارًا لَهُمْ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الشُّكْرَ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ لَا التَّوَصُّلَ بِهَا إلَى مَعَاصِيهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ نِعَمَ اللَّهِ "أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ"، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهَا شُكْرًا لَا افْتِخَارًا، عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] . قَوْله تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: "هُوَ السُّرْعَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمُخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَا يُسْرِعُ فِيهَا فَسُرْعَةُ الْمَشْيِ تُنَافِي الْخُيَلَاءَ وَالتَّكَبُّرَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} فِيهِ أَمْرٌ بِخَفْضِ الصَّوْتِ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] وَرَفْعُ الصَّوْتِ عَلَى وَجْهِ ابْتِهَارِ النَّاسِ وَإِظْهَارِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ مَذْمُومٌ، فَأَبَانَ عَنْ قُبْحِ هَذَا الْفِعْلِ وَأَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ; لِأَنَّ الْحَمِيرَ تَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا وَهُوَ أَنْكَرُ الْأَصْوَاتِ; قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} : أَقْبَحُهَا، كَمَا يُقَالُ: هَذَا وَجْهٌ مُنْكَرٌ; فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَدَّبَ الْعِبَادَ تَزْهِيدًا لَهُمْ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} مَفْهُومُ هَذَا الْخِطَابِ الْإِخْبَارُ بِمَا يَعْلَمُهُ هُوَ دُونَ خَلْقِهِ وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا بِإِعْلَامِهِ إيَّاهُ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ وُجُودِ الْحَمْلِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَتْ قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُجُودَهُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَافِي حَمْلَ امْرَأَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ قَاذِفٍ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. قَوْله تَعَالَى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَ اللَّهِ فَضِيلَةً بِشَرَفِ أَبِيهِ وَلَا بِنَسَبِهِ; لِأَنَّهُ لم يخصص

أَحَدًا بِذَلِكَ دُونَ أَحَدٍ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" وَقَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَأْتُونِي بِأَنْسَابِكُمْ فَأَقُولُ إنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا". وَقَوْلُهُ: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} مَعْنَاهُ لَا يُغْنِي، يُقَالُ: جَزَيْت عَنْك إذَا أغنيت عنك. آخر سورة لقمان.

وَمِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْت يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابٍ مِنْ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ"؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: رَأْسُهُ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: "اُكْفُفْ عَلَيْك هَذَا" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: "ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكَبُّ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدَ أَلْسِنَتِهِمْ؟ ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "لِلَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، ثُمَّ تَلَا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَا: "الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} "كَانُوا يَنْتَفِلُونَ بَيْنَ

الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} : "إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَطَمَعًا فِي رَحْمَةِ الله" {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} "في طاعة الله". آخر سورة السجدة.

وَمِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ: "أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهَائِهِ"; وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْبَانِ، فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى". وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: لِي نَفْسٌ تَأْمُرُنِي وَنَفْسٌ تَنْهَانِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذَا". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ: فِي جَوْفِي قَلْبَانِ أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ، فَكَذَّبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ أَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِمَا ذُكِرَ; لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَبِ لَا مَجَازًا وَلَا حَقِيقَةً، وَلَا ذَلِكَ اسْمٌ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً مُجِحًّا فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ؟ فَقَالُوا: لِفُلَانٍ، فَقَالَ: "أَيَطَؤُهَا"؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَمْ كَيْفَ يَسْتَرِقُّهُ وَقَدْ غَذَاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ" فَقَوْلُهُ: "قَدْ غَذَّاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ إثْبَاتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانُوا يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي التَّحْرِيمِ، وَجَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] وَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ وَأَبْطَلَ مَا أَوْجَبَهُ الْمُظَاهِرُ مِنْ جَعْلِهِ إيَّاهَا كَالْأُمِّ; لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ.

وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} قِيلَ: إنَّهُ نَزَلَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يُوجِبُ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ كَانَ ثَابِتًا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَنَسَخَهُ بِالْقُرْآنِ. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} يَعْنِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا حَقِيقَةَ. وقَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فِيهِ إبَاحَةُ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُخُوَّةِ وَحَظْرُ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ النَّسَبِ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: هُوَ أَخِي: لَمْ يُعْتَقْ إذَا قَالَ: لَمْ أُرِدْ بِهِ الْأُخُوَّةَ مِنْ النَّسَبِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ فِي الدِّينِ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ ابْنِي عَتَقَ; لِأَنَّ إطْلَاقَهُ مَمْنُوعٌ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ". وقَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قَالَ: "قِيلَ: هَذَا النَّهْيُ فِي هَذَا أَوْ في غيره" {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} "وَالْعَمْدُ مَا آثَرْته بَعْدَ الْبَيَانِ فِي النَّهْيِ فِي هَذَا أَوْ فِي غَيْرِهِ" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قَالَ قَتَادَةُ: "لَوْ دَعَوْت رَجُلًا لِغَيْرِ أَبِيهِ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ" وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ، فَقَالَ: "اسْتَغْفِرْ اللَّهَ فِي الْعَمْدِ فَأَمَّا الْخَطَأُ فَقَدْ تَجَوَّزَ عَنْك"; قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: "مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْخَطَأَ وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْعَمْدَ، وَمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْمُقَاتَلَةَ وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ التَّكَاثُرَ، وَمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَزْدَرُوا أَعْمَالَكُمْ وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَكْثِرُوهَا" وقَوْله تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَإِنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ". وَقِيلَ فِي معنى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} إنَّهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَخْتَارَ مَا دَعَا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ وَمِمَّا تَدْعُوهُ إلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ. وَقِيلَ: إن

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ فِي نَفْسِهِ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ; لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْخَبَرُ الَّذِي قَدَّمْنَا لَا يُنَافِي مَا عَقَّبْنَاهُ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَلَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِمَعْنَاهُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي أَنْ يَخْتَارُوا مَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ دُونَ مَا تَدْعُوهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلَيْهِ وَأَوْلَى بِهِمْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَلُزُومِهِمْ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ كَأُمَّهَاتِهِمْ فِي وُجُوبِ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ كَالْأُمَّهَاتِ فِي كُلِّ شَيْءٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَنَاتِهِنَّ; لِأَنَّهُنَّ يَكُنَّ أَخَوَاتٍ لِلنَّاسِ، وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَاتِهِ، وَلَوْ كُنَّ أُمَّهَاتٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَرِثْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ" وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْأَبِ لَهُمْ فِي الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَتَحَرِّي مَصَالِحِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} . رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ. وَعَنْ الْحَسَنِ: "أَنْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ". وَقَالَ عَطَاءٌ: "هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ إعْطَاؤُهُ لَهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَوَصِيَّتُهُ لَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} قَالَ: "إلَّا أَنْ يَكُونَ لَك ذُو قَرَابَةٍ لَيْسَ عَلَى دِينِك فَتُوصِي لَهُ بِشَيْءٍ هُوَ وَلِيُّك فِي النَّسَبِ وَلَيْسَ وَلِيَّك فِي الدِّينِ". وقَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي وُجُوبِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُزُومِ التَّأَسِّي بِهِ فِيهَا، وَمُخَالِفُو هَذِهِ الْفِرْقَةِ يَحْتَجُّونَ بِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ إيجَابِ أَفْعَالِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ التَّأَسِّي بِهِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ; إذْ جَعَلَهُ شَرْطًا لِلْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَقْرُونَةِ إلَى الْإِيمَانِ، فَيَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ النَّدْبَ دُونَ الْإِيجَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكُمْ} مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: "لَك أَنْ تُصَلِّيَ وَلَك أَنْ تَتَصَدَّقَ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى

الْإِيجَابِ لَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى النَّدْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى الْإِيجَابِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لَمَا دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ التَّأَسِّي بِهِ هُوَ أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ، وَمَتَى خَالَفْنَاهُ فِي اعْتِقَادِ الْفِعْلِ أَوْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَهُ عَلَى النَّدْبِ وَفَعَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ كُنَّا غَيْرَ مُتَأَسِّينَ بِهِ، وَإِذَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ فِيهِ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ لَزَمَنَا فِعْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إذْ لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قِيلَ إنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا لَقُوا الْمُشْرِكِينَ ظَفِرُوا بِهِمْ وَاسْتَعْلَوْا عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] . وَقَالَ قَتَادَةُ: الَّذِي وَعَدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] الْآيَةَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} إخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ فِي حَالِ الْمِحْنَةِ وَأَنَّهُمْ ازْدَادُوا عِنْدَهَا يَقِينًا وَبَصِيرَةً، وَذَلِكَ صِفَةُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قِيلَ: إنَّ النَّحْبَ النَّذْرُ، أَيْ قَضَى نَذْرَهُ الَّذِي نَذَرَهُ فِيمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "قَضَى نَحْبَهُ: مَاتَ عَلَى مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ". وَيُقَالُ: إنَّ النَّحْبَ الْمَوْتُ، وَالنَّحْبَ الْمَدُّ فِي السَّيْرِ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "قَضَى نَحْبَهُ: عَهْدَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ النَّحْبُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَهْدَ وَالنَّذْرَ وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بِعَيْنِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِعَيْنِهِ دُونَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} قِيلَ فِي الصَّيَاصِي: إنَّهَا الْحُصُونُ الَّتِي كَانُوا يَمْتَنِعُونَ بِهَا. وَأَصْلُ الصِّيصَةِ قَرْنُ الْبَقَرَةِ وَبِهَا تَمْتَنِعُ، وَتُسَمَّى بِهَا شَوْكَةُ الدِّيكِ; لِأَنَّهُ بِهَا يَمْتَنِعُ; فَسُمِّيَتْ الْحُصُونُ صَيَاصِيَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَنُو قُرَيْظَةَ، كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَعَاوَنُوا الْأَحْزَابَ; وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَسَائِرُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ قَالَ تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وَلَمْ يَقْتُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ وَلَا أَسَرَهُمْ وَإِنَّمَا أَجَلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} يَعْنِي بِهِ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَعَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ فَالْمُرَادُ أَرْضُ بني النضير.

وقوله تعالى: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} قَالَ الْحَسَنُ: "أَرْضُ فَارِسٍ وَالرُّومِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "مَكَّةُ". وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانٍ: "خَيْبَرُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ الْأَرَضِينَ العنوية الَّتِي يَظْهَرُ عَلَيْهَا الْإِمَامُ يَمْلِكُهَا الْغَانِمُونَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ، لِقَوْلِهِ: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ الْمِلْكِ لَهُمْ. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {وَأَوْرَثَكُمْ} لَا يَخْتَصُّ بِإِيجَابِ الْمِلْكِ دُونَ الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ وَثُبُوتِ الْيَدِ وَمَتَى وَجَدَ أَحَدٌ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَقَدْ صَحَّ مَعْنَى اللَّفْظِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْمُلْكَ. وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُلْكُ كَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} وأما قوله: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَرْضًا وَاحِدَةً لَا جَمِيعَ الْأَرْضِينَ; فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَيْبَرَ فَقَدْ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَرْضَ فَارِسٍ وَالرُّومِ لَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَرْضِ فَارِسٍ وَالرُّومِ فَقَدْ وُجِدَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ سَبِيلَهُمْ أَنْ يَمْلِكُوا جَمِيعَهَا; إذْ كَانَ قوله: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا أَرْضًا وَاحِدَةً، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَأَ بِي فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك قَالَتْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِنِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الْآيَةَ، فَقُلْت: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. وَرَوَى غَيْرُ الجرجاني عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي أَخْتَارُك قَالَ: "إنَّمَا بُعِثْت مُعَلِّمًا وَلَمْ أُبْعَثْ مُتَعَنِّتًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى تَخْيِيرِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: "إنَّمَا خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} ". وَقَالَ آخَرُونَ: "بَلْ كَانَ تَخْيِيرًا لِلطَّلَاقِ عَلَى شَرِيطَةِ أَنَّهُنَّ إذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا كُنَّ مختارات للطلاق; لأنه تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} فَجَعَلَ اخْتِيَارَهُنَّ لِلدُّنْيَا اخْتِيَارًا لِلطَّلَاقِ". وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا رَوَى مَسْرُوقٌ

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا؟ وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا. قَالُوا: وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُنَّ إلَّا الْخِيَارَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك" قَالَتْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِنِي بِفِرَاقِهِ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ، قَالَتْ: إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. فَقَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ أَيْضًا قَدْ حَوَى الدَّلَالَةَ مِنْ وُجُوهٍ عَلَى أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِنَّ الطَّلَاقَ أَوْ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ; لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا: "لَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ لَا يَقَعُ فِي اخْتِيَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ فِي الْفُرْقَةِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ النِّكَاحِ. وَقَوْلُهَا: "إنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِنِي بِفِرَاقِهِ" وَقَوْلُهَا: "إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرَ طَلَاقٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} فَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ إذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وُقُوعَ طَلَاقٍ بِاخْتِيَارِهِنَّ، كَمَا يَقُول الْقَائِلُ لِامْرَأَتِهِ: "إنْ اخْتَرْت كَذَا طَلَّقْتُك" يُرِيدُ بِهِ اسْتِئْنَافَ إيقَاعٍ بَعْدَ اخْتِيَارِهَا لِمَا ذَكَرَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ تَخْيِيرَهُنَّ بَيْنَ الْفِرَاقِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} قَدْ دَلَّ عَلَى إضْمَارِ اخْتِيَارِهِنَّ فِرَاقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إذْ كَانَ النَّسَقُ الْآخَرُ مِنْ الِاخْتِيَارِ هُوَ اخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ; فَثَبَتَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الْآخَرَ إنَّمَا هُوَ اخْتِيَارُ فِرَاقِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلطَّلَاقِ. وَقَوْلُهُ: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} إنَّمَا الْمُرَادُ إخْرَاجُهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {سَرَاحاً جَمِيلاً} فَذَكَرَ الْمُتْعَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَأَرَادَ بِالتَّسْرِيحِ إخْرَاجَهَا مِنْ بَيْتِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ" وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ زَاذَانَ عَنْهُ، وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيٍّ: "أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ". وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْخِيَارِ وَأَمْرُك بِيَدِك: "إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الخيار: "إن

اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ"، وَقَالَ فِي أَمْرُكِ بِيَدِك: "إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ". وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ، وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى" وَقَالُوا فِي أَمْرُكِ بِيَدِك مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا فَيَكُونُ ثَلَاثًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي الْخِيَارِ: "إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ". وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْخِيَارِ: "إنَّهُ ثَلَاثٌ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ"، وَقَالَ فِي أَمْرُكِ بِيَدِك: "إذَا قَالَتْ: أَرَدْت وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْخِيَارِ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ". وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْخِيَارِ: "إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ بَائِنَةٌ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك: "لَيْسَ بِطَلَاقٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الزَّوْجُ، وَلَوْ أَرَادَ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَإِنْ أَرَادَتْ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: التَّخْيِيرُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ لَا صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ أَرَادَهُنَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا وَلِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَخْتَصُّ بِالطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَكُمْ كَقَوْلِهِ: "اعْتَدِّي" أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا إذَا نَوَى; لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ مُوجِبِ الطَّلَاقِ، فَالطَّلَاقُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ; وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْخِيَارَ طَلَاقًا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالِاتِّفَاقِ وَبِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ تَخْيِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ أَنَّهُنَّ لَوْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخَيُّرِ مَعْنًى، وَتَشْبِيهًا لَهُ أَيْضًا بِسَائِرِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي النِّكَاحِ كَخِيَارِ امْرَأَةٍ الْعِنِّينَ وَالْمَجْبُوبَ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ ثَلَاثًا; لِأَنَّ الْخِيَارَاتِ الْحَادِثَةَ فِي الْأُصُولِ لا تقع بها ثلاث.

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْخِيَارِ وَفِي التَّفْرِيقِ لِامْرَأَةِ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْآخِرَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} . الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرُوا وَذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ اخْتِيَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِرَاقِهِنَّ بِإِرَادَتِهِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِنَا الْحَيَاةَ

الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَفْرِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَوْجَبَ اللَّهُ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلتَّخْيِيرِ فِي نِسَاءِ غَيْرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ امْرَأَةِ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ وَبَيْنَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اخْتِيَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا وَإِيثَارَهُ لِلْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نِسَائِهِ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ نِسَائِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَقِيرًا، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَلَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نِسَائِهِ بَلْ كَانَ يَدَّخِرُ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ، فَالْمُسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ مُغْفِلٌ لِحُكْمِهَا. قَوْله تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} . قِيلَ فِي تَضْعِيفِ عَذَابِهِنَّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِنَّ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِنَّ بِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْوَحْيِ فِي بُيُوتِهِنَّ وَتَشْرِيفِهِنَّ بِذَلِكَ، كَانَ كُفْرَانُهَا مِنْهُنَّ أَعْظَمَ وَأَجْدَرَ بِعِظَمِ الْعِقَابِ; لِأَنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ; إذْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ عَلَى حَسَبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَطَمَ أَبَاهُ اسْتَحَقَّ مِنْ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَطَمَ أَجْنَبِيًّا لِعِظَمِ نِعْمَةِ أَبِيهِ عَلَيْهِ وَكُفْرَانِهِ لَهَا بِلَطْمَتِهِ؟ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَضْعِيفَ الْعَذَابِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَجْلِ عِظَمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِنَّ بِتِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَظُمَتْ طَاعَاتُهُنَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهَا بِإِزَاءِ الْمَعْصِيَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ فِي إتْيَانِهِنَّ الْمَعَاصِيَ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعَارِ وَالْغَمِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ آذَى غَيْرَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . وَلَمَّا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ بِهَا الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ الْعَالِمِ أَفْضَلُ وَثَوَابُهُ أَعْظَمُ مِنْ الْعَامِلِ غَيْرِ الْعَالِمِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ. قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . قِيلَ فِيهِ أَنْ لَا تُلِينَ الْقَوْلَ لِلرِّجَالِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الطَّمَعَ فِيهِنَّ مِنْ أَهْلِ الرِّيبَةِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ النِّسَاءِ فِي نَهْيِهِنَّ عَنْ إلَانَةِ الْقَوْلِ لِلرِّجَالِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الطَّمَعَ فِيهِنَّ وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى رَغْبَتِهِنَّ فِيهِمْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ بِالْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا بِحَيْثُ

يَسْمَعُهَا الرِّجَالُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْأَذَانِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فَإِذَا كَانَتْ مَنْهِيَّةً عَنْ إسْمَاعِ صَوْتِ خَلْخَالِهَا فَكَلَامُهَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُخْشَى مِنْ قِبَلِهَا الْفِتْنَةُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قِيلَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ: أَلَا تَخْرُجِينَ كَمَا تَخْرُجُ أَخَوَاتُك؟ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ حَجَجْت وَاعْتَمَرْت ثُمَّ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقَرَّ فِي بَيْتِي، فَوَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ فَمَا خَرَجَتْ حَتَّى أَخْرَجُوا جِنَازَتَهَا وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} كُنَّ أَهْلَ وَقَارٍ وَهُدُوءٍ وَسَكِينَةٍ، يُقَالُ: وَقَرَ فُلَانٌ فِي مَنْزِلِهِ يَقِرُ وُقُورًا إذَا هَدَأَ فِيهِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٌ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ مَنْهِيَّاتٌ عَنْ الْخُرُوجِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قَالَ: "كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَتَمَشَّى بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ" وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} "يَعْنِي إذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ" قَالَ: "كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ وَتَغَنُّجٌ فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ" وَقِيلَ: "هُوَ إظْهَارُ الْمَحَاسِنِ لِلرِّجَالِ" وَقِيلَ: "فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْجَاهِلِيَّةِ الثَّانِيَةِ حَالُ مَنْ عَمِلَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ أُولَئِكَ" فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَانَةً لَهُنَّ، وَسَائِرُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مُرَادَاتٌ بِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً" وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ وَنَسَقَهَا فِي ذِكْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَزْوَاجِهِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْجَمِيعِ" وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرَ رَسُولِهِ عَلَى الْوُجُوبِ; لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى بِالْآيَةِ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْخِيَرَةُ فِي تَرْكِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوُجُوبِ لَكُنَّا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ نَفَتْ الْآيَةُ التَّخْيِيرَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْأَوَامِرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَأَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَقَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَفَتْ التَّخْيِيرَ مَعَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الْآيَةَ. رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَا كَانَ الْحُسَيْنُ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ؟ قَالَ: قُلْت: كَانَ يَقُولُ: إنَّهَا كَانَتْ تُعْجِبُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِزَيْدٍ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ زَيْدٌ يَشْكُو مِنْهَا قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك قَالَ اللَّهُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} . وَقِيلَ: إنَّ زَيْدًا قَدْ كَانَ يُخَاصِمُ امْرَأَتَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَامَ الشَّرُّ بَيْنَهُمَا حَتَّى ظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ وَأَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا، فَأَضْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ تَزَوَّجَهَا، وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ صِلَةً لِرَحِمِهَا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى إضْمَارِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ وَقَوْلِهِ لِزَيْدٍ: "اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ عِنْدَ النَّاسِ سَوَاءً" كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ حِينَ قِيلَ لَهُ: هَلَّا أَوْمَأْت إلَيْنَا بِقَتْلِهِ فَقَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ". وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ إخْفَاؤُهُ; لِأَنَّهُ مُبَاحٌ جَائِزٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُخْشَى مِنْ النَّاسِ، وَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالنَّاسُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَخْشَوْا فِي إظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَلِذَلِكَ قِيلِ لِلْمُعْتَقِ مَوْلَى نِعْمَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الْآيَةَ. قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا: أَحَدُهَا: الْإِبَانَةُ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى إبَاحَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَاعْتِبَارِ الْمَعَانِي فِي إيجَابِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي لَا تَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُسَاوِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مُسَاوِينَ لَهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ هِيَ الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْعِبَادِ الدُّعَاءُ، قَالَ الْأَعْشَى: عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْت فَاغْتَمِضِي1 ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا

_ 1 فقوله: "عليك" إلى آخره هكذا في أكثر النسخ وفي بعضها "صلى عليك الذي صليت فاغتمضي" "لمصححه".

وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} قَالَ: "إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يُصَلِّي رَبُّك؟ فَكَأَنَّ ذَلِكَ كَبُرَ فِي صَدْرِهِ، فَسَأَلَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنِّي أُصَلِّي وَأَنَّ صَلَاتِي: رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي". فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ اشْتِمَالُ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ جَمِيعًا. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَالصَّلَاةُ اسْمٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، فَلَا يَمْتَنِعُ إرَادَةُ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} صَلَاةُ الضُّحَى وَصَلَاةُ الْعَصْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} سُمِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَاجًا مُنِيرًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالسِّرَاجِ الَّذِي بِهِ يُسْتَنَارُ الْأَشْيَاءُ فِي الظُّلْمَةِ; لِأَنَّهُ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَبَّقَتْ الْأَرْضَ ظُلْمَةُ الشِّرْكِ. فَكَانَ كَالسِّرَاجِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الظُّلْمَةِ، وَكَمَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ نُورًا وَهُدًى وَرُوحًا وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُوحًا; لِأَنَّ الرُّوحَ بِهَا يَحْيَى الْحَيَوَانُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ. وقَوْله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} قَالَ قَتَادَةُ "تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] .

بَابُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِحَّةِ إيقَاعِ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ"، فَقَالَ قَائِلُونَ: "قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إلْغَاءَ هَذَا الْقَوْلِ وَإِسْقَاطَ حُكْمِهِ; إذْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَهَذَا الْقَائِلُ مُطَلِّقٌ قَبْلَ النِّكَاحِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "دَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَائِلِهِ وَلُزُومِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُجُودِ النِّكَاحِ; لِأَنَّهَا حَكَمَتْ بِصِحَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ; فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ إيقَاعُ طَلَاقِهِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ لَفْظِهِ". وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَاقِدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَلِّقًا فِي حَالِ الْعَقْدِ أَوْ حَالِ الْإِضَافَةِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: "إذَا بِنْتِ مِنِّي وَصِرْت أَجْنَبِيَّةً فَأَنْتِ طَالِقٌ" أَنَّهُ مَوْقِعٌ لِلطَّلَاقِ فِي حَالِ

الْإِضَافَةِ لَا فِي حَالِ الْقَوْلِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا: "أَنْتِ طَالِقٌ" فَسَقَطَ حُكْمُ لَفْظِهِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ حَالُ الْعَقْدِ مَعَ وُجُودِ النِّكَاحِ فِيهَا، صَحَّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْإِضَافَةِ دُونَ حَالِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْقَائِلَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ "إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ" مَوْقِعٌ لِلطَّلَاقِ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لِمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْمِلْكِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الْأَقَاوِيلِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ، أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ تَطْلُقُ وَمَنْ مَلَكَ مِنْ الْمَمَالِيكِ يُعْتَقُ"، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ عَمَّ أَوْ خَصَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "إذَا عَمَّ لَمْ يَقَعْ وَإِنْ سَمَّى شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَوْ جَمَاعَةً إلَى أَجَلٍ وَقَعَ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: "أَنَّهُ إذَا ضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ فَقَالَ: إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً إلَى كَذَا وَكَذَا سَنَةً، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ". ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: "وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ لَزِمَهُ مَا قَالَ"، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلُّ جَارِيَةٍ أَتَسَرَّى بِهَا عَلَيْك فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى عَلَيْهَا جَارِيَةً فَإِنَّهَا تُعْتَقُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ قَالَ أَشْتَرِيهِ أَوْ أَرِثُهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَتَقَ إذَا مَلَكَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ; لِأَنَّهُ خَصَّ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ آلِ كَذَا لَزِمَهُ". قَالَ الْحَسَنُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مُنْذُ وُضِعَتْ الْكُوفَةُ أَفْتَى بِغَيْرِ هَذَا. وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَا خَصَّ: "إنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا إذَا خَصَّ وَلَا إذَا عَمَّ". وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ عَنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، قَالَ: "هُوَ كَمَا قَالَ". وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ: "إنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ تَزَوَّجْتهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ". وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ: "عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَتَزَوَّجَهَا نَاسِيًا، فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَلْزَمَهُ الطَّلَاقَ"، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ; وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "إذَا سَمَّى امْرَأَةً بِعَيْنِهَا أَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ". وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "هُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ". وَرُوِيَ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ قَالُوا: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ". وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا; لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ قَالَ: "إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ" أَنَّهُ مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِ وَتَصْحِيحِ الْمَقَالَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] اقْتَضَى ظَاهِرُهُ إلْزَامَ كُلِّ عَاقِدٍ مُوجَبَ عَقْدِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ عَاقِدًا عَلَى نَفْسِهِ إيقَاعَ طَلَاقٍ بَعْدَ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ حُكْمُهُ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ"، أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شَرْطًا أُلْزِمَ حُكْمَهُ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مِلْكٍ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: "إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مِنْهَا". أَنَّهُ نَاذِرٌ فِي مِلْكِهِ مِنْ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فِي الْحَالِ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ إذَا أَضَافَهُمَا إلَى الْمِلْكِ كَانَ مُطَلِّقًا وَمُعْتِقًا فِي الْمِلْكِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ: "إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ" فَحَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَلَدَتْ أَنَّهُ يُعْتَقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فِي حَالِ الْقَوْلِ; لِأَنَّ الْوَلَدَ مُضَافٌ إلَى الْأُمِّ الَّتِي هُوَ مَالِكُهَا، كَذَلِكَ إذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ فَهُوَ مُعْتَقٌ فِي الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فَدَخَلَتْهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ أَنَّهَا تَطْلُقُ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ: "أَنْتِ طَالِقٌ"، وَلَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ: "أَنْتِ طَالِقٌ" فَلَا تَطْلُقُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ يَصِيرُ كَالْمُتَكَلِّمِ بِالْجَوَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ: "كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ" فَتَزَوَّجَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: "أَنْتِ طَالِقٌ". فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ ثُمَّ جُنَّ فَوُجِدَ شَرْطُ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْنَثَ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْجَوَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا قَوْلَ لَهُ وَقَوْلُهُ وَسُكُوتُهُ بِمَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ إيقَاعُهُ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ قَبْلَ الْجُنُونِ صَحِيحًا لَزِمَهُ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْجُنُونِ; وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ قَدْ يَصِحُّ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ وَعِتْقُ عَبْدِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ عِنِّينًا لَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَكَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ وَرِثَ أَبَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، كَالنَّائِمِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ ابْتِدَاءً الْإِيقَاعُ وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ بِسَبَبٍ يُوجِبُهُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَكَّلَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَ وَهُوَ نَائِمٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ". قِيلَ لَهُ: أَسَانِيدُهَا مُضْطَرِبَةٌ لَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَوْ صَحَّ مِنْ

جِهَةِ النَّقْلِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ; لِأَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ نَفَى بِذَلِكَ إيقَاعَ طَلَاقٍ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَمْ يَنْفِ الْعَقْدَ، فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ" حَقِيقَتُهُ نَفْيُ الْإِيقَاعِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الطَّلَاقِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، لَمْ يَتَنَاوَلْ اللَّفْظَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ; لِأَنَّ مَنْ عَقَدَ يَمِينًا عَلَى طَلَاقٍ لَا يُقَالُ: إنَّهُ قَدْ طَلَّقَ مَا لَمْ يَقَعْ، وَحُكْمُ اللَّفْظِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ; لِأَنَّ لَفْظًا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ" إنَّمَا هُوَ أَنْ يُذْكَرَ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَةُ فَيُقَالُ لَهُ: تُزَوَّجْهَا، فَيَقُولُ: هِيَ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ; فَأَمَّا مَنْ قَالَ: "إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ" فَإِنَّمَا طَلَّقَهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّيَّةِ. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ إنْ أَرَادَ الْعَقْدَ فَهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِأَجْنَبِيَّةٍ: "إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ" ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَتَدْخُلُ الدَّارَ فَلَا تَطْلُقُ وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ فِي حَالِ النِّكَاحِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ خَصَّ أَوْ عَمَّ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ إذَا خَصَّ فَهُوَ مُطَلِّقٌ فِي الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا عَمَّ، وَإِنْ كَانَ إذَا عَمَّ غَيْرَ مُطَلِّقٍ فِي مِلْكٍ فَكَذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُوصِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا عَمَّ فَقَدْ حَرَّمَ جَمِيعَ النِّسَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، كَالْمُظَاهِرِ لَمَّا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا قَصَدَ تَحْرِيمَ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، وَمِنْ أَصْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ وَخَصَّ وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَإِنَّمَا لَا يُوقِعُهُ إذَا عَمَّ فَوَاجِبٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ وَإِنْ خَصَّ كَمَا لَمْ تُحَرَّمْ الْمُظَاهِرَ مِنْهَا تَحْرِيمًا مُبْهَمًا وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْطِلْ حُكْمَ ظِهَارِهِ وَتَحْرِيمِهِ بَلْ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَثْبَتَ حُكْمَ ظِهَارِهِ. وَأَيْضًا إنَّ الْحَالِفَ بِطَلَاقِ مَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ لِلنِّسَاءِ عَلَى نَفْسِهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ بِذَلِكَ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ طَلَاقًا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: "كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ" مَتَى أَلْزَمْنَاهُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ مُبْهَمًا بَلْ إنَّمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ إغْفَالِ هَذَا السَّائِلِ فِي سُؤَالِهِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إذَا قَالَ: "إنْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَإِنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ" أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: "إذَا صَحَّ نِكَاحِي لَك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا مَلَكْتُك بِالشِّرَى فَأَنْتَ حُرٌّ"; وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إذَا جَعَلَ النِّكَاحَ وَالشِّرَى شَرْطًا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَسَبِيلُ ذَلِكَ الْبُضْعِ وَمَلْكِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَقَعَا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهَذِهِ هِيَ حَالُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فيرد

الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مَعًا فَلَا يَقَعَانِ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَا يَقَعَانِ إلَّا فِي مِلْكٍ مُسْتَقِرٍّ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ; لِأَنَّ الْقَائِلَ: "إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ" مَعْلُومٌ مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِيقَاعِ الْعَتَاقِ بَعْدَ صِحَّةِ الْمِلْكِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِلِ: "إذَا مَلَكْتُك بِالنِّكَاحِ أَوْ مَلَكْتُك بِالشِّرَى" فَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَى فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ صَارَ ذَلِكَ كَالنُّطْقِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ: "إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ" فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ أَنْ لَا تَطْلُقَ امْرَأَتُهُ; لِأَنَّ فِي مَضْمُونِ لَفْظِهِ الْمِلْكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: "إنْ مَلَكْت بِالشِّرَى". قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْمِلْكَ فِيمَا يُوقِعُ طَلَاقَهُ أَوْ عِتْقَهُ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهِمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِوُقُوعِ مِلْكٍ وَلَا غَيْرِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْخَلْوَةَ مُرَادَةٌ بِالْمَسِيسِ وَأَنَّ نَفْيَ الْعِدَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْيِ الْخَلْوَةِ وَالْجِمَاعِ جَمِيعًا، وَفِيمَا قَدَّمْنَا مَا يُغْنِي عن الإعادة. وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} إنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَدْخُولَ بِهَا فَهُوَ نَدْبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الْآيَةَ، قَالَ: "الَّتِي نُكِحَتْ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهَا وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ". وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدٍ: "هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ". وقوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ} بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إخْرَاجَهَا مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنْ حِبَالِهِ; لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّسْرِيحَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَكِنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا وَأَنَّ عَلَيْهِ تَخْلِيَتَهَا مِنْ يَدِهِ وَحِبَالِهِ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

بَابُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} . الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ ضُرُوبَ النِّكَاحِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي: مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ مُسَمًّى وَأَعْطَاهُنَّ. وَمِنْهَا: مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} . مِثْلَ رَيْحَانَةَ وَصَفِيَّةَ

وَجُوَيْرِيَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا، وَذَلِكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَقَالَ: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَقَالَ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ وَأَنَّهُ وَأُمَّتَهُ سَوَاءٌ فِيمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ. وقَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ. وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ زِيَادٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْت لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ هَلَكَ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ؟ قَالَ: "وَمَا يَمْنَعُهُ؟ أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضُرُوبًا مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ" ثُمَّ تَلَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَذْكُورَاتِ بِالْإِبَاحَةِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَظْرَ مَنْ سِوَاهُنَّ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُنَّ لَوْ هَلَكْنَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ خِلَافُ ذَلِكَ، رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرْت إلَيْهِ بِعُذْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ; لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ، كُنْت مَعَ الطُّلَقَاءِ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّ مَذْهَبَ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ تَخْصِيصَهُ لِلْمُهَاجِرَاتِ مِنْهُنَّ قَدْ أَوْجَبَ حَظْرَ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ عَلِمَتْ حَظْرَهُنَّ بِغَيْرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا فِيهَا إبَاحَةُ مَنْ هَاجَرَتْ مِنْهُنَّ وَلَمْ تَعْرِضْ لِمَنْ لَمْ تُهَاجِرْ بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ إلَّا أَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى حَظْرَهُنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الْآيَةَ; فِيهَا نَصٌّ عَلَى إبَاحَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: "يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَلَهَا مَا سَمَّى لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا". وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "الْهِبَةُ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ هِبَتُهُ إيَّاهَا لَيْسَتْ عَلَى نِكَاحٍ، وَإِنَّمَا وَهَبَهَا لَهُ لِيُحْصِنَهَا أَوْ لَيَكْفِيَهَا، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ". وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: "كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَخْصُوصًا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَسَقِ التلاوة: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} "وَقَالَ آخَرُونَ: "بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ سَوَاءً، وَإِنَّمَا خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ"; وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مجاهد

وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَالْأُصُولِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فَلَمَّا أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَالِصًا لَهُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ إضَافَةِ لَفْظِ الْهِبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ اللَّفْظَ لَمَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ; لِأَنَّ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ وَخَالِصًا لَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فِيهِ; إذْ كَانَتْ مُسَاوَاتُهُمَا فِي الشَّرِكَةِ تُزِيلُ مَعْنَى الْخُلُوصِ وَالتَّخْصِيصِ، فَلَمَّا أَضَافَ لَفْظَ الْهِبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فَأَجَازَ الْعَقْدَ مِنْهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ عَلِمْنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَقَعْ فِي اللَّفْظِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْمَهْرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ شَارَكَهُ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ خُلُوصَهَا لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْعَقْدِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا خَالِصَةٌ لَهُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخُلُوصُ فِيمَا هُوَ لَهُ، وَإِسْقَاطُ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ فِي الْعَقْدِ لَيْسَ هُوَ لَهَا وَلَكِنَّهُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا جُعِلَ لَهُ خَالِصًا لَمْ تُشْرِكْهُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَلَا غَيْرَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} فَسَمَّى الْعَقْدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ نِكَاحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِكُلِّ أَحَدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا فِعْلُ مِثْلِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِاللَّفْظِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَعْنَى الْخُلُوصِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ الْمَهْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَمَا عَدَاهُ فَغَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى حُكْمِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي الصَّدَاقِ مَا حَدَّثَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّرُ النِّسَاءَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أَلَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} إلى قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} ; قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أَرَى رَبَّك يُسَارِعُ فِي هَوَاك. " وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَا حُدِّثْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْت لِأَهَبَ نَفْسِي لَك فَنَظَرَ إلَيْهَا فَصَعَّدَ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ

رَأْسَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إلَى قَوْلِهِ: فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَدَ لَهُ النِّكَاحَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَالْهِبَةُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ; وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِالسُّنَّةِ ثَبَتَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "قَدْ زَوَّجْتُك بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ". قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ مَرَّةً التَّزْوِيجَ ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَ التَّمْلِيكِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا. وَأَيْضًا لَمَّا أَشْبَهَ عَقْدُ النِّكَاحِ عُقُودَ التَّمْلِيكَاتِ فِي إطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَقْتِ وَكَانَ التَّوْقِيتُ يُفْسِدُهُ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْهِبَةِ كَجَوَازِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَمْلُوكَةِ; وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ سَائِرِ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ. وَلَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ; لِأَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا آخَرَ يَمْنَعُ جَوَازَهُ وَهُوَ الْمُتْعَةُ الَّتِي حَرَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى الْمُتْعَةِ إبَاحَةُ التَّمَتُّعِ بِهَا، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتْعَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ لِشَبَهِهِ بِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَعِكْرِمَةَ: "أَنَّهَا مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ: "هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ الدوسية". وَعَنْ الشَّعْبِيِّ: "أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ". وَقِيلَ: "إنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ". قَوْله تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} قَالَ قَتَادَةُ: "فَرَضَ أَنْ لَا يَنْكِحَ امْرَأَةً إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَصَدَاقٍ، وَلَا يَنْكِحُ الرَّجُلُ إلَّا أَرْبَعًا. " وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "أَرْبَعٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يَعْنِي مَا أَبَاحَ لَهُمْ بِمَلْكِ الْيَمِينِ كَمَا أَبَاحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} يَرْجِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ فِيمَا أَبَاحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ; لِأَنَّ الْحَرَجَ الضِّيقُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِتَوْسِعَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَبَاحَهُ لَهُ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَطْلَقَهُ لَهُمْ. قَوْله تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} . حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الْمُرْجَاتُ مَيْمُونَةُ وَسَوْدَةُ وَصَفِيَّةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ سَوَاءً فِي الْقَسْمِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَاوِي بَيْنَهُنَّ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قال: حدثنا

الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قَالَ: "كَانَ ذَلِكَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ"، قَالَ الزُّهْرِيُّ: "وَمَا عَلِمْنَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجَى مِنْهُنَّ أَحَدًا، وَلَقَدْ آوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ حَتَّى مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ قَتَادَةُ: "جَعَلَهُ اللَّهُ فِي حِلٍّ أَنْ يَدَعَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَيُؤْوِي إلَيْهِ مَنْ شَاءَ، يَعْنِي قَسْمًا; وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ"، قَالَ مَعْمَرُ: وَأَخْبَرَنَا مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَدَعَهَا، فَفِي ذلك نزلت: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرَوَى زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قَالَ "نِسَاءٌ كُنَّ وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْجَى بَعْضَهُنَّ وَدَخَلَ بِبَعْضٍ مِنْهُنَّ أُمُّ شَرِيكٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ بَعْدَهُ". وقال مجاهد: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قَالَ: "تُرْجِيهِنَّ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا تَأْتِيهِنَّ". وَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ مُعَاذَةَ العدوية عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُنَا فِي يَوْمِ إحْدَانَا بَعْدَمَا أنزل: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} فَقَالَتْ لَهَا مُعَاذَةُ: فَمَا كُنْت تَقُولِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَأْذَنَ؟ قَالَتْ: كُنْت أَقُولُ: إنْ كَانَ ذَلِكَ إلَيَّ لَمْ أُوثِرْ عَلَى نَفْسِي أَحَدًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَخْصِيصَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ الْقَسْمِ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ" ; قَالَ أَبُو دَاوُد: يَعْنِي الْقَلْبَ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَهَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا; وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا} قَالَتْ: نَقُولُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا، أَرَاهُ قَالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} [النساء: 128] . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْسِمُ لِجَمِيعِهِنَّ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ أَرْجَى جَمَاعَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَقْسِمْ لَهُنَّ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَخْيِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إرْجَاءِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَإِيوَاءِ مَنْ شَاءَ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْتَارَ إيوَاءَ الْجَمِيعِ إلَّا سَوْدَةَ فَإِنَّهَا رَضِيَتْ بِأَنْ تَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ.

قَوْله تَعَالَى: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فِي إيوَاءِ مَنْ أَرْجَى مِنْهُنَّ، أَبَاحَ لَهُ بِذَلِكَ أَنْ يَعْتَزِلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَيُؤْوِيَ مَنْ شَاءَ، وَأَنْ يُؤْوِيَ مِنْهُنَّ مَنْ شَاءَ بَعْدَ الِاعْتِزَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا عَلِمْنَ بَعْدَ الْإِرْجَاءِ أَنَّ لَك أَنْ تُؤْوِيَ وَتَرُدَّ إلَى الْقَسْمِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْقَسْمِ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَتَرْكِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ. قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا سُمِّيَ لَك مِنْ مُسْلِمَةٍ وَلَا يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ وَلَا كَافِرَةٍ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} قَالَ: "لَا بَأْسَ أَنْ تَتَسَرَّى الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة". وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} قَالَ: "لَمَّا خَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ، وَهُنَّ التِّسْعُ اللَّاتِي اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ"; وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} قَالَ: "ذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهُنَّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ" قَالَ: "وَكَانَ يَنْكِحُ مَا شَاءَ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ". قَالَ: "فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَجُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يُفِيدُ تَحْرِيمَ سَائِرِ النِّسَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَنْ كُنَّ تَحْتَهُ وَقْتَ نُزُولِهَا; وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهَا، فَهِيَ إذًا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ; وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي مُخْبِرِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ فَهُوَ نَهْيٌ يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لَا تَتَزَوَّجْ بَعْدَهُنَّ النِّسَاءَ، فَيَجُوزُ نَسْخُهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، إذْ لَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهَا إلَّا وَقَدْ نظر إليها.

بَابُ ذِكْرُ حِجَابِ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ

غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَاسْمُهُ الْجَعْدُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ أَهْدَتْ إلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَادْعُ مَنْ لَقِيت مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَدَعَوْت لَهُ مَنْ لَقِيت، فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَدَعَا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَلَمْ أَدْعُ أَحَدًا لَقِيته إلَّا دَعَوْته، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَخَرَجُوا، وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَطَالُوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله: {وَقُلُوبِهِنَّ} . وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ، ذَكَرَ حَدِيثَ بِنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبِ وَوَلِيمَتَهُ: فَلَمَّا طَعِمَهُ الْقَوْمُ، وَكَانَ مِمَّا يَفْعَلُ إذَا أَصْبَحَ لَيْلَةَ بِنَائِهِ دَنَا مِنْ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ وَسَلَّمْنَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُنَّ وَدَعَوْنَ لَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ بَصُرَ بِرَجُلَيْنِ قَدْ جَرَى بَيْنَهُمَا الْحَدِيثُ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَانْصَرَفَ عَنْ بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ انْصِرَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا خَارِجَيْنِ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا، فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ بَيْنَهُ فَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَسْلَمَ الْعَلَوِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ جِئْت لِأَدْخُلَ كَمَا كُنْت أَدْخُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَرَاءَك يَا أَنَسُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ أَحْكَامًا، مِنْهَا النَّهْيُ عَنْ دُخُولِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِإِذْنٍ وَأَنَّهُمْ إذَا أُذِنَ لَهُمْ لَا يَقْعُدُونَ انْتِظَارًا لِبُلُوغِ الطَّعَامِ وَنُضْجِهِ، وَإِذَا أَكَلُوا لَا يَقْعُدُونَ لِلْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنْ مجاهد: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} قَالَ: "مُتَحَيِّنِينَ حِينَ نُضْجِهِ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ يَأْكُلُوا". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} قَالَ: "نُضْجَهُ". قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} قَدْ تَضَمَّنَ حَظْرَ رُؤْيَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِهِنَّ; لِأَنَّ نَظَرَ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ رُبَّمَا حَدَثَ عَنْهُ الْمَيْلُ وَالشَّهْوَةُ، فَقَطَعَ اللَّهُ بِالْحِجَابِ الَّذِي أَوْجَبَهُ هَذَا السَّبَبُ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} يَعْنِي بِمَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ وَتَرْكِ الْإِطَالَةِ لِلْحَدِيثِ عِنْدَهُ وَالْحِجَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِ. وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ نَزَلَ خَاصًّا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَالْمَعْنَى عَامٌّ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ; إذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ. وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لَوْ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْت عَائِشَةَ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ هُوَ أَحَدُ مَا انْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ; وَرَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِي

إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ سَرَّك أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الْجَنَّةِ إنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَنَا فِيهَا فَلَا تَزَوَّجِي بَعْدِي فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا; وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ. وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلَتْ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْأَةُ مِنَّا يَكُونُ لَهَا زَوْجَانِ فَتَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ هِيَ وَزَوْجُهَا لِأَيِّهِمَا تَكُونُ؟ قَالَ: "يَا أُمَّ حَبِيبَةَ لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا كَانَ مَعَهَا فِي الدُّنْيَا فَتَكُونُ زَوْجَتَهُ فِي الْجَنَّةِ. يَا أُمَّ حَبِيبَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ". قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ} الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ "رَخَّصَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَجْتَنِبْنَ مِنْهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْهُنَّ وَذَكَرَ نِسَاءَهُنَّ، وَالْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الحرائر، {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يَعْنِي الْإِمَاءَ; لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيمَا يُبَاحُ لَهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَى النِّسَاءِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدُّعَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قَالَ: "صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إخْبَارَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِرَحْمَتِهِ لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ، إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: هَلْ يُصَلِّي رَبُّك؟ فَكَأَنَّ ذَلِكَ كَبُرَ فِي صَدْرِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنِّي أُصَلِّي وَأَنَّ صَلَاتِي أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَهُوَ فَرْضٌ عِنْدَنَا فَمَتَى فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَهُوَ مِثْلُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ; وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا نَعْلَمُهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرْضِهَا فِي الصَّلَاةِ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فَقَالَ: "إذَا فَعَلْت هَذَا أَوْ قُلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك فَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ" وَقَوْلُهُ: "ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت" وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدَ فَأَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ" ; وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ

فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ. وقوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِ فَرْضِ السَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ، فَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَيَحْتَجُّونَ بِهِ أَيْضًا فِي فَرْضِ التَّشَهُّدِ; لِأَنَّ فِيهِ السَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ،; إذْ لَمْ يَذْكُرْ السَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَأْكِيدَ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِهَا كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ اسْمَهُ وَذَكَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَجْمَعْ الِاسْمَيْنِ تَحْتَ كِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وَلَمْ يَقُلْ يُرْضُوهُمَا; لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ وَاسْمَ غَيْرِهِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كِنَايَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُمْ فَبِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ" لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] . فَجَمَعَ اسْمَهُ وَاسْمَ مَلَائِكَتِهِ فِي الضَّمِيرِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَنْكَرْنَا جَمْعَهُمَا فِي كِنَايَةٍ يَكُونُ اسْمًا لَهُمَا نَحْوَ الْهَاءِ الَّتِي هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الِاسْمِ، فَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْهُ وَإِنَّمَا فِيهِ الضَّمِيرُ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِيهِ; وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّ قَوْلَهُ: {يُصَلُّونَ} [الأحزاب: 56] ضَمِيرُ الْمَلَائِكَةِ دُونَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصَلَاةُ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ مَفْهُومَةٌ مِنْ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] رَدَّ الْكِنَايَةَ إلَى التِّجَارَةِ دُونَ اللَّهْوِ; لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الْمَذْكُورُ فِي ضَمِيرِ النَّفَقَةِ هُوَ الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ مَفْهُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يَعْنِي: يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ الْأَذَى، فَأَطْلَقَ ذَلِكَ مَجَازًا; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَالْمَعْنَى: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} قَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَضْمَرَ ذِكْرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَأَظْهَرَ ذِكْرَهُمْ بَعْدَ الضَّمِيرِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِالضَّمِيرِ وَأَخْبَرَ عَنْ احْتِمَالِهِمْ الْبُهْتَانَ وَالْإِثْمَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَسْتَحِقُّونَ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ اللَّعْنِ وَالْعَذَابِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ

جَلابِيبِهِنَّ} . رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "الْجِلْبَابُ الرِّدَاءُ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ "يَتَجَلْبَبْنَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ وَلَا يَعْرِضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} قَالَ: تَقَنَّعَ عُبَيْدَةَ وَأَخْرَجَ إحْدَى عَيْنَيْهِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كُنَّ إمَاءٌ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُنَّ: كَذَا وَكَذَا يَخْرُجْنَ فَيَتَعَرَّضُ لَهُنَّ السُّفَهَاءُ فَيُؤْذُوهُنَّ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْرُجُ فَيَحْسِبُونَ أَنَّهَا أَمَةٌ فَيَتَعَرَّضُونَ لَهَا فَيُؤْذُونَهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يُؤْذَيْنَ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: "تُغَطِّي الْحُرَّةُ إذَا خَرَجَتْ جَبِينَهَا وَرَأْسَهَا خِلَافَ حَالِ الْإِمَاءِ" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي خيثم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنْ أَكْسِيَةٍ سُودٍ يَلْبَسْنَهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ مَأْمُورَةٌ بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنْ الْأَجْنَبِيِّينَ وَإِظْهَارِ السِّتْرِ وَالْعَفَافِ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِئَلَّا يَطْمَعَ أَهْلُ الرِّيَبِ فِيهِنَّ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا وَشَعْرِهَا; لِأَنَّ قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَرَائِرَ، وَكَذَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ، لِئَلَّا يَكُنَّ مِثْلَ الْإِمَاءِ اللَّاتِي هُنَّ غَيْرُ مَأْمُورَاتٍ بِسَتْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَجَعَلَ السِّتْرَ فَرْقًا يُعْرَفُ بِهِ الْحَرَائِرُ مِنْ الْإِمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ وَيَقُولُ: اكْشِفْنَ رُءُوسَكُنَّ وَلَا تَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ. قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: "أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ، فَنَزَلَتْ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أَيْ لنحرشنك" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَا يُجَاوِرْنَك فِيهَا إلَّا قَلِيلًا، بِالنَّفْيِ عَنْهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِرْجَافَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْإِشَاعَةَ بِمَا يَغُمُّهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ وَالنَّفْيَ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ، وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَآخَرُونَ مِمَّنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي الدِّينِ وَهُمْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُوَ ضَعْفُ الْيَقِينِ يُرْجِفُونَ بِاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَتَعَاضُدِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَيُخَوِّفُونَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِاسْتِحْقَاقِهِمْ

النَّفْيَ وَالْقَتْلَ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ وَهُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْمُورُ بِلُزُومِهَا وَاتِّبَاعِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ سُنَّةِ اللَّهِ وَإِبْطَالِهَا. آخِرُ سُورَةِ الأحزاب.

وَمِنْ سُورَةِ سَبَأٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} . رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ثُمَّ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد: الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. قَوْله تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ التَّصَاوِيرِ كَانَ مُبَاحًا، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ" وَقَالَ: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُحْيِيَهَا وَإِلَّا فَالنَّارُ" وَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُصَوِّرِينَ". وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّ الْمُرَادَ مَنْ شَبَّهَ الله تعالى بخلقه. آخر سورة سبأ.

وَمِنْ سُورَةِ فَاطِرٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَوَى عِكْرِمَةُ قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ، فَقَرَأَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ هَذَا. "وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ". قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} الْحِلْيَةُ هَهُنَا اللُّؤْلُؤُ وَمَا يُتَحَلَّى بِهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ تَحْلِفُ أَنْ لَا تَلْبَسَ حُلِيًّا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "اللُّؤْلُؤُ وَحْدَهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ذَهَبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17] وَهَذَا فِي الذَّهَبِ دُونَ اللُّؤْلُؤِ; إذْ لا توقد عليه". وقوله {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إنَّمَا سَمَّاهُ حِلْيَةً فِي حَالِ اللُّبْسِ، وَهُوَ لَا يُلْبَسُ وَحْدَهُ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يُلْبَسُ مَعَ الذَّهَبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْحِلْيَةِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ لَا يُوجِبُ حَمْلَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وَأَرَادَ بِهِ السَّمَكَ; وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16] وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ وَقَعَدَ فِي الشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فِيهِ الْإِبَانَةُ عَنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَنَّ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَعَدْلَهُ بِدَلَائِلِهِ أَوْصَلَهُ ذَلِكَ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ; إذْ كَانَ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُ عَدْلَهُ وَمَا قَصَدَ لَهُ بِخَلْقِهِ لَا يَخْشَى عِقَابَهُ وَلَا يَتَّقِيهِ; وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] فَأَخْبَرَ أَنَّ خَيْرَ الْبَرِّيَّةِ مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، وَأَخْبَرَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ بِاَللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهُ، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى طَبَقَاتٍ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنْهُ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا

رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} فَكَانَ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الْخَاشِعِينَ لِلَّهِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ; وَقَدْ ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى الْمُعْرِضَ عَنْ مُوجِبِ عِلْمِهِ فَقَالَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175, 176] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ; فَهَذِهِ صِفَةُ الْعَالِمِ غَيْرِ الْعَامِلِ، وَالْأَوَّلُ صِفَةُ الْعَالِمِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ. وَأَخْبَرَ عَنْ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} . قَوْله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . رَوَى بَعْضُ السَّلَفِ قَالَ: مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْحُزْنُ فِي الدُّنْيَا أَلَّا تَرَاهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ؟ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ" ; قِيلَ لِبَعْضِ النُّسَّاكِ: مَا بَالُ أَكْثَرِ النُّسَّاكِ مُحْتَاجِينَ إلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِمْ؟ قَالَ: لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَهَلْ يَأْكُلُ الْمَسْجُونُ إلَّا مِنْ يَدِ الْمُطْلَقِ. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: "مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخر". وقال الشعبي: "لا ينقص من عمره" لَا يَنْقَضِي مَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَسَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ"، وَالْعُمُرُ هُوَ مُدَّةُ الْأَجَلِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لِخَلْقِهِ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَنْقُصُ مِنْهَا بِمُضِيِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَزْمَانِ. قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ أَنَّ الْعُمُرَ الَّذِي ذَكَّرَ اللَّهُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَعَنْ عَلِيٍّ: "سِتُّونَ سَنَةً". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ غِفَارٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ عَبْدًا أَحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَيْهِ لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَيْهِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي خيثم عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً". وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ مِنْ قوله. قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ النَّذِيرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ أَنَّهُ الشَّيْبُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ مَا أَقَامَ اللَّهُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمَا يَحْدُثُ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ مِنْ التَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ لَهُ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ لَهُ، فَيَكُونُ حَدَثًا شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا، وَمَا يَنْقَلِبُ فِيهِ فِيمَا بَيْنَ ذلك من

مَرَضٍ وَصِحَّةٍ وَفَقْرٍ وَغِنَاءٍ وَفَرَحٍ وَحُزْنٍ، ثُمَّ مَا يَرَاهُ فِي غَيْرِهِ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ الَّتِي لَا صُنْعَ لِلْمَخْلُوقِينَ فِيهَا; وَكُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لَهُ إلَى اللَّهِ وَنَذِيرٌ لَهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [لأعراف: 185] فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَرَادًّا لِلْعِبَادِ إلَيْهِ. آخِرُ سُورَةِ فَاطِرٍ.

ومن سورة يس بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: "الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَيَرَاهَا بَنُو آدَمَ حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمَ غَرَبَتْ فَتُحْبَسُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: اُطْلُعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، فَهُوَ يَوْمُ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا. الْآيَةَ". قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَطْلُعُ فِيهَا الشَّمْسُ مِنْ حَيْثُ تَغْرُبُ قَامَ الْمُتَهَجِّدُونَ لِصَلَاتِهِمْ فَصَلَّوْا حَتَّى يَمَلُّوا ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى مَضَاجِعِهِمْ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّيْلُ كَمَا هُوَ وَالنُّجُومُ وَاقِفَةٌ لَا تَسْرِي حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ إلَى أَخِيهِ وَيَخْرُجُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وُقُوفَهَا عَنْ السَّيْرِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ بَيْنَ أَوَّلِ الْآيَاتِ وَآخِرِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، قِيلَ لَهُ: وَمَا الْآيَاتُ؟ قَالَ: زَعَمَ قَتَادَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالَ وَالدُّخَانَ وَدَابَّةَ الْأَرْضِ وخويصة أَحَدِكُمْ وَأَمْرَ الْعَامَّةِ" ; قِيلَ لَهُ: هَلْ بَلَغَك أَيُّ الْآيَاتِ أَوَّلُ؟ قَالَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا يَقُولُونَ: الدَّجَّالُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ". وَرَوَى قَتَادَةُ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: "لِوَقْتٍ وَاحِدٍ لَهَا لَا تَعْدُوهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ عَلَى سَيْرٍ وَاحِدٍ وَعَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ لَا تَخْتَلِفُ. وَقِيلَ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} لِأَبْعَدِ مَنَازِلِهَا فِي الْغُرُوبِ. قَوْله تَعَالَى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قَالَ: "ذَاكَ لَيْلَةُ الْهِلَالِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُدْرِكُهُ فَتَسْتُرُهُ بِشُعَاعِهَا حَتَّى تَمْنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهِ; لِأَنَّهُمَا مُسَخَّرَانِ

مَقْسُورَانِ عَلَى مَا رَتَّبَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ وَاحِدًا مِنْهُمَا أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: "لَا يُدْرِكُ أَحَدُهُمَا ضَوْءَ الْآخَرِ" وَقِيلَ: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} حَتَّى يَكُونَ نُقْصَانُ ضَوْئِهَا كَنُقْصَانِهِ وَقِيلَ: "لَا تُدْرِكُهُ فِي سُرْعَةِ السَّيْرِ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: "لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُلْطَانٌ، لِلْقَمَرِ سُلْطَانُ اللَّيْلِ وَلِلشَّمْسِ النَّهَارُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ تَطْلُعَ بالليل" {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يَقُولُ: "لَا يَنْبَغِي إذَا كَانَ اللَّيْلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ نَهَارًا". فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّهْرِ نَهَارٌ لَا لَيْلٌ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ اللَّيْلُ النَّهَارَ وَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا مَعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّهَارُ سَابِقًا لِلَّيْلِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءً الشُّهُورِ مِنْ النَّهَارِ لَا مِنْ اللَّيْلِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَنْ السَّلَفِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنْ النَّهَارِ; فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَتْ الشُّهُورُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ الشَّرْعِ هِيَ شُهُورُ الْأَهِلَّةِ وَالْهِلَالُ أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ لَيْلًا وَلَا يَظْهَرُ ابْتِدَاءَ النَّهَارِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ اللَّيْلِ; وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هِيَ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَوَّالٍ هِيَ مِنْ شَوَّالٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنْ اللَّيْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَبْتَدِءُونَ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ"، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِهِ مِنْ اللَّيْلِ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنْ اللَّيْلِ. قَوْله تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ أَرَادَ سَفِينَةَ نُوحٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَنَسَبَ الذُّرِّيَّةَ إلَى الْمُخَاطَبِينَ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُرِّيَّةَ النَّاسِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "السُّفُنُ بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ" وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَعَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّ الْإِبِلَ سُفُنُ الْبَرِّ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} . قَالَ قَتَادَةُ: "نُصَيِّرُهُ إلَى حَالِ الْهَرَمِ الَّتِي تُشْبِهُ حَالَ الصَّبِيِّ فِي غُرُوبِ الْعِلْمِ وَضَعْفِ الْقُوَى". وَقَالَ غَيْرُهُ: "نُصَيِّرُهُ بَعْدَ الْقُوَّةِ إلَى الضَّعْفِ وَبَعْدَ زِيَادَةِ الْجِسْمِ إلَى النُّقْصَانِ وَبَعْدَ الْحِدَةِ وَالطَّرَاوَةِ إلَى الْبِلَى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] وَسَمَّاهُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ; لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ بَعْدَهُ عَوْدٌ مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الزِّيَادَةِ وَمِنْ الْجَهْلِ إلَى الْعِلْمِ كَمَا يُرْجَى

مَصِيرُ الصَّبِيِّ مِنْ الضَّعْفِ إلَى الْقُوَّةِ وَمِنْ الْجَهْلِ إلَى الْعِلْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] . قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنْ الشِّعْرِ؟ فَقَالَتْ: لَا، إلَّا بِبَيْتِ أَخِي بَنِي قَيْسِ بْنِ طَرَفَةَ: سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلًا ... وَيَأْتِيك بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَأْتِيك مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالْأَخْبَارِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إنِّي لَسْت بِشَاعِرٍ وَلَا يَنْبَغِي لِي". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يُعْطِ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمَ بِإِنْشَاءِ الشِّعْرِ، لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلَّمَهُ الشِّعْرَ; لِأَنَّهُ الَّذِي يُعْطِي فِطْنَةَ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَ ذَلِكَ لِئَلَّا تَدْخُلَ بِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْمٍ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا فِي طَبْعِهِ مِنْ الْفِطْنَةِ لِلشَّعْرِ; وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ الْفِطْنَةَ لِقَوْلِ الشِّعْرِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا لِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ تَمَثَّلَ بِشَعْرٍ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَنْتَ إلَّا أُصْبُعٌ دَمَيْتَ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقَيْتَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ أَنْشَدَ شِعْرًا لِغَيْرِهِ أَوْ قَالَ بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ لَمْ يُسَمَّ شَاعِرًا وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الشِّعْرَ أَوْ قَدْ تَعَلَّمَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الرَّمْيَ قَدْ يُصِيبُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِرَمْيَتِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ أَنْ يُسَمَّى رَامِيًا وَلَا أَنَّهُ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ أَنْشَدَ شَعْرًا لِغَيْرِهِ وَأَنْشَأَ بَيْتًا وَنَحْوِهِ لَمْ يُسَمَّ شَاعِرًا. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِيهِ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ; إذْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَنَّ إعَادَةَ الشَّيْءِ أَيْسَرُ مِنْ ابْتِدَائِهِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِنْشَاءِ ابْتِدَاءً فَهُوَ عَلَى الْإِعَادَةِ أَقْدَرُ فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ; لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ قِيَاسَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} عَلَى أَنَّ الْعَظْمَ فِيهِ حَيَاةٌ فَيَجْعَلُهُ حَكَمَ الْمَوْتَ بِمَوْتِ الْأَصْلِ وَيَكُونُ مَيْتَةً. وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ إنَّمَا سَمَّاهُ حَيًّا مَجَازًا; إذْ كَانَ عُضْوًا يَحْيَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فيها. آخر سورة يس.

وَمِنْ سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِذَبْحِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ إنَّمَا تَضَمَّنَ مُعَالَجَةَ الذَّبْحِ لَا ذَبْحًا يُوجِبُ الْمَوْتَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ حَصَلَ عَلَى شَرِيطَةِ التَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ وَعَلَى أَنْ لَا يَفْدِيَهُ بِشَيْءٍ وَأَنَّهُ إنْ فَدَى مِنْهُ بِشَيْءٍ قَائِمًا مَقَامَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ قَدْ اقتضى الأمر قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرُهُ قَدْ اقْتَضَى الْأَمْرَ بالذبح لما قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَلَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ فِدَاءً عَنْ ذَبْحٍ مُتَوَقَّعٍ. وَرُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَذَرَ إنْ رَزَقَهُ اللَّهُ وَلَدًا ذَكَرًا أَنْ يَجْعَلَهُ ذَبِيحًا لِلَّهِ، فَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالذَّبْحِ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَرَدَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَذَبَحَهُ فَوَصَلَ اللَّهُ أَوْدَاجَهُ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ وَكَانَتْ الْفِدْيَةُ لِبَقَاءِ حَيَاتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَصْرِفُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إيجَابَ شَاةٍ فِي الْعَاقِبَةِ، فَلَمَّا صَارَ مُوجِبُ هَذَا اللَّفْظِ إيجَابَ شَاةٍ فِي الْمُتَعَقِّبِ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وَجَبَ عَلَى مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ شَاةٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ نَحَرَ ابْنَهُ، قَالَ: "كَبْشٌ كَمَا فَدَى إبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ قَالَ: "يُهْدِي بَدَنَةً أَوْ دِيَتَهُ شَكَّ الرَّاوِي. وَعَنْ مَسْرُوقٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "يَحُجُّ وَيُهْدِي بَدَنَةَ". وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ قَالَ: "قَالَ بَعْضُهُمْ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَبْشٌ كَمَا فُدِيَ إسحاق".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "عَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "لَا شَيْءَ عَلَيْهِ" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ عَبْدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ" وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "عَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ". وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَبْحِ الْوَلَدِ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ عِبَارَةً عَنْ إيجَابِ شَاةٍ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَجَبَ بَقَاءُ حُكْمِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إلَى حَدِيثِ أَبِي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ". وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "عَلَيَّ ذَبْحُ وَلَدِي" لَمَّا صَارَ عِبَارَةً عَنْ إيجَابِ ذَبْحِ شَاةٍ صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: "عَلَيَّ ذَبْحُ شَاةٍ" وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى النَّاذِرِ ذَبْحَ عَبْدِهِ شَيْئًا; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ ظَاهِرُهُ مَعْصِيَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ شَاةٍ فَكَانَ نَذْرَ مَعْصِيَةٍ. وَقَدْ قَالُوا جَمِيعًا فِيمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي: إنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ ظَاهِرُهُ مَعْصِيَةٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ شَاةٍ وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ ابْنِي قَالَ: لَا تَنْحَرِي ابْنَك وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك" فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَهْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الظِّهَارِ مَا سَمِعْت وَأَوْجَبَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخَالِفٍ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إيجَابِهِ كَبْشًا; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَذْهَبِهِ إيجَابُهُمَا جَمِيعًا إذَا أَرَادَ بِالنَّذْرِ الْيَمِينَ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ" "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا" فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَرَادَ الْيَمِينَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَالْقَضَاءَ جَمِيعًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الذَّبِيحِ مِنْ وَلَدَيْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَكَعْبٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَمَنْ قَالَ: هُوَ إسْمَاعِيلُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ عَقِيبَ ذِكْرِ الذَّبْحِ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً} فَلَمَّا كَانَتْ الْبِشَارَةُ بَعْدَ الذَّبْحِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِبِشَارَةٍ بِوِلَادَتِهِ وَإِنَّمَا هِيَ بِشَارَةٌ بِنُبُوَّتِهِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً} . قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْأَغْمَارِ فِي إيجَابِ الْقُرْعَةِ فِي الْعَبِيدِ يُعْتِقُهُمْ الْمَرِيضُ. وَذَلِكَ إغْفَالٌ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاهَمَ فِي طَرْحِهِ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِي قتل من

خَرَجَتْ عَلَيْهِ وَفِي أَخْذِ مَالِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ غَيْرِهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ يَزِيدُونَ. قِيلَ: إنَّ مَعْنَى "أَوْ" هَهُنَا الْإِبْهَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَرْسَلْنَاهُ إلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى شَكِّ الْمُخَاطَبِينَ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجَوِّزُ عليك الشك. آخر سورة الصافات.

وَمِنْ سُورَة ص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى حَتَّى قَرَأْت: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قَبَا وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: "إنَّ صَلَاةَ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمَضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى". وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ أَوْصَانِي بِصَلَاةِ الضُّحَى وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَنَهَانِي عَنْ نَقْرٍ كَنَقْرِ الدِّيكِ وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ: لَا يَدْعُهَا، وَيَدْعُهَا حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ هَانِئٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى. وَعَنْ ابْنِ عُمَر: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "هِيَ مِنْ أَحَبِّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ إلَيَّ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ: "إنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إلَّا غَوَّاصٌ" ثُمَّ قَرَأَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] . قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} قِيلَ: إنَّهُ سَخَّرَهَا مَعَهُ فَكَانَتْ تَسِيرُ مَعَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ تَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ سَيْرُهَا دَلَالَةً عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ جَعَلَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْهَا لَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قَالَ: "جَزَّأَ دَاوُد الدَّهْرَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمًا لِنِسَائِهِ، وَيَوْمًا لِقَضَائِهِ، وَيَوْمًا يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ

عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلْزَمُهُ الْجُلُوسُ لِلْقَضَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى يَوْمٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْكَوْنُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمِحْرَابُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ، وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: إنَّ الْمِحْرَابَ الْغُرْفَةُ وقَوْله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَالْخَصْمُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا فَزِعَ مِنْهُمْ دَاوُد; لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَقَالُوا: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وَمَعْنَاهُ: أَرَأَيْت إنْ جَاءَك خَصْمَانِ فَقَالَا: بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ؟ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ هَذَا الضَّمِيرُ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَعْضِهِمْ بَغْيٌ عَلَى بَعْضٍ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ، فَعَلَمِنَا أَنَّهُمَا كَلَّمَاهُ بِالْمَعَارِيضِ الَّتِي تُخْرِجُهُمَا مِنْ الْكَذِبِ مَعَ تَقْرِيبِ الْمَعْنَى بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَاهُ. وَقَوْلُهُمَا: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} هُوَ عَلَى مَعْنَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ ضَمِيرِ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً؟ وَأَرَادَ بِالنِّعَاجِ النِّسَاءَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ دَاوُد كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَأَنَّ أُورِيَا بْنَ حَنَانٍ لَمْ تَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ، وَقَدْ خَطَبَ امْرَأَةً، فَخَطَبَهَا دَاوُد مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ أُورِيَا خَطَبَهَا، وَتَزَوَّجَهَا. وَكَانَ فِيهِ شَيْئَانِ مِمَّا سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ التَّنَزُّهُ عَنْهُ: أَحَدُهُمَا: خِطْبَتُهُ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: إظْهَارُ الْحِرْصِ عَلَى التَّزْوِيجِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَكَانَتْ صَغِيرَةً، وَفَطِنَ حِينَ خَاطَبَهُ الْمَلَكَانِ بِأَنَّ الْأَوْلَى كَانَ بِهِ أَنْ لَا يَخْطُبَ الْمَرْأَةَ الَّتِي خَطَبَهَا غَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} يَعْنِي: خَطَبْت امْرَأَةً وَاحِدَةً قَدْ كَانَ التَّرَاضِي مِنَّا وَقَعَ بِتَزْوِيجِهَا. وَمَا رُوِيَ فِي أَخْبَارِ الْقُصَّاصِ مِنْ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَرَآهَا مُتَجَرِّدَةً فَهَوِيَهَا وَقَدَّمَ زَوْجَهَا لِلْقَتْلِ، فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَأْتُونَ الْمَعَاصِيَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مَعَاصٍ; إذْ لَا يَدْرُونَ لَعَلَّهَا كَبِيرَةٌ تَقْطَعُهُمْ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُ أنه قال: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْخِطْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ تَزْوِيجُ الْآخَرِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يُخَاطِبَ الْحَاكِمَ بِمِثْلِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَ الْخَصْمَ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ وَالْمَثَلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّ دَاوُد قَدْ كان

عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَكَمَ بِظُلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقَرُّ عِنْدَهُ أَوْ تَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وَهُوَ يَعْنِي الشُّرَكَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ فِي أَكْثَرِ الشُّرَكَاءِ الظُّلْمُ وَالْبَغْيُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْصِيَةَ بَدِيًّا وَأَنَّ كَلَامَ الْمَلَكَيْنِ أُوقَعَ لَهُ الظَّنَّ بِأَنَّهُ قَدْ أَتَى مَعْصِيَةً وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِحْنَةَ بِهَا; لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَشْدِيدُ التَّعَبُّدِ وَالْمِحْنَةِ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ كَانَ مَعْصِيَةً وَاسْتَغْفَرَ مِنْهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قالرأيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص وَلَيْسَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَجْدَةِ ص: "سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ سَجَدَ فِي "ص". وَرَوَى عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْت سَجْدَةَ "ص "؟ قَالَ: فَتَلَا عَلَيَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فَكَانَ دَاوُد سَجَدَ فِيهَا فَلِذَلِكَ سَجَدَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْجُدُ فِيهَا وَيَقُولُ: "هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ". وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا اقْتِدَاءً بداود لِقَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى فِعْلَهَا وَاجِبًا; لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ خِلَافُ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَمَا سَجَدَ فِي غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ مَوَاضِعِ السُّجُودِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ "إنَّهَا لَيْسَتْ بِسَجْدَةٍ; لِأَنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ" فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ إنَّمَا هُوَ حِكَايَاتٌ عَنْ قَوْمٍ مُدِحُوا بِالسُّجُودِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] وَهُوَ مَوْضِعُ السُّجُودِ لِلنَّاسِ بِالِاتِّفَاقِ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} [لاسراء: 107] وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيِ الَّتِي فِيهَا حِكَايَةُ سُجُودِ قَوْمٍ فَكَانَتْ مَوَاضِعُ السُّجُودِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] يَقْتَضِي لُزُومَ فِعْلِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرَ أَوْجَبْنَاهُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا الرُّكُوعَ عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} أَنَّ مَعْنَاهُ خَرَّ سَاجِدًا فَعَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنْ

السُّجُودِ فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ; إذْ صَارَ عِبَارَةً عَنْهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} رَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ "الْعِلْمُ بِالْقَضَاءِ" وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ "الشُّهُودُ وَالْإِيمَانُ" وَعَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَيَّ قَالَ: "فَصْلُ الْخِطَابِ" قَالَ الْخُصُومُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ بِالْحَقِّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا خُوصِمَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إهْمَالُ الْحُكْمِ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّاكِلَ عَنْ الْيَمِينِ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ; لِأَنَّ فِيهِ إهْمَالَ الْحُكْمِ وَتَرْكَ الْفَصْلِ، وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ زِيَادٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ" أَمَّا بَعْدُ" وَلَيْسَ زِيَادٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْأَقَاوِيلِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رُوِيَ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ الدُّعَاءِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ بِهِ الْكِتَابُ. قَوْله تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عبيد القاسم بن سلام قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ "إنَّ اللَّهَ أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الْهَوَى وَأَنْ يَخْشَوْهُ وَلَا يَخْشَوْا النَّاسَ، وَأَنْ لَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" ثُمَّ قَرَأَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} الْآيَةَ، وَقَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] . وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: لَمَّا اُسْتُقْضِيَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَتَاهُ الْحَسَنُ، فَبَكَى إيَاسُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا يَبْكِيك يَا أَبَا وَائِلَةَ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقُضَاةَ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ مَالَ بِهِ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: إنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ نَبَأِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] إلَى قَوْلِهِ: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] فَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُد ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا، وَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بُيِّنَ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرَيْدَةَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد السجستاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ السمني قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ

عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ" فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي فِي النَّارِ مِنْ الْمُخْطِئِينَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَلَى الْقَضَاءِ بِجَهْلٍ. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} إلى قوله: {بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: صُفُونُ الْفَرَسِ رَفْعُ إحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ وَذَاكَ مِنْ عَادَةِ الْخَيْلِ وَالْجِيَادُ السِّرَاعُ مِنْ الْخَيْلِ، يُقَالُ فَرَسٌ جَوَادٌ، إذَا جَادَ بِالرَّكْضِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ الَّذِي يُنَالُ بِهَذَا الْخَيْلِ فَشُغِلْت بِهِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَحْتَمِلُ: إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الْخَيْلَ نَفْسَهَا فَسَمَاهَا خَيْرًا لِمَا يُنَالُ بِهَا مِنْ الْخَيْرِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِي لِرَبِّي وَقِيَامِي بِحَقِّهِ فِي اتِّخَاذِ هَذَا الْخَيْلِ. قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ "حَتَّى تَوَارَتْ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ كَقَوْلِ لَبِيدٍ: حَتَّى إذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا وَكَقَوْلِ حَاتِمٍ: أَمَاوِيُ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الْفَتَى ... إذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ فَأَضْمَرَ النَّفْسَ فِي قَوْلِهِ: "حَشْرَجَتْ" وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ مَسْعُودٌ: "حَتَّى تَوَارَثَ الْخَيْلُ بِالْحِجَابِ". وقَوْله تَعَالَى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَعَلَ يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا حُبًّا لَهَا وَهَذَا كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ الطالقاني قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ قَالَ حَدَّثَنِي عَقِيلُ بْنُ شَبِيبٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَعْجَازِهَا" أَوْ قَالَ "أَكْفَالِهَا وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ". فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ إنَّمَا مَسَحَ أَعْرَافَهَا وَعَرَاقِيبَهَا عَلَى نَحْوِ مَا نَدَبَ إلَيْهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَشَفَ عَرَاقِيبَهَا وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا وَقَالَ "لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي مَرَّةً أُخْرَى". وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَالثَّانِي جَائِزٌ وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ; إذْ لَمْ يَكُنْ لِيُتْلِفَهَا بِلَا نَفْعٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ وَتَعَبَّدَ اللَّهَ بِإِتْلَافِهِ، وَيَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي تَنْفِيذِ الْأَمْرِ دُونَ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يُمِيتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَمْنَعَ النَّاسَ

مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَكْلِهِ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُتَعَبَّدَ بِإِتْلَافِهِ وَيُحْظَرَ الِانْتِفَاعُ بِأَكْلِهِ بَعْدَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ أَيُّوبَ قَالَ لَهَا إبْلِيسُ إنْ شَفَيْتُهُ تَقُولِينَ لِي أَنْتَ شَفَيْتُهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ فَقَالَ "إنْ شَفَانِي اللَّهُ ضَرَبْتُكِ مِائَةَ سَوْطٍ فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. قَالَ عَطَاءٌ وَهِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فَأَخَذَ عُودًا فِيهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عُودًا وَالْأَصْلُ تَمَامُ الْمِائَةِ فَضَرَبَ بِهِ امْرَأَتَهُ وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَرَادَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرِ فَقَالَ لَهَا: قَوْلِي لِزَوْجِك يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَتْ لَهُ قُلْ كَذَا وَكَذَا فَحَلَفَ حِينَئِذٍ أَنْ يَضْرِبَهَا فَضَرَبَهَا تَحِلَّةً لَيَمِينِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَى امْرَأَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ فَجَمَعَهَا كُلَّهَا وَضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ إذَا أَصَابَ جَمِيعُهَا; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} وَالضِّغْثُ هُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنْ الْخَشَبِ أَوْ السِّيَاطِ أَوْ الشَّمَارِيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَرَّ في يمينه; لقوله {وَلا تَحْنَثْ} . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ "إذَا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ أَنْ يُصِيبَهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ" وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ لَا يَبَرُّ وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الْكِتَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ هِيَ لِأَيُّوبَ خَاصَّةً وَقَالَ عَطَاءٌ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ دَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُسَمَّى ضَارِبًا لِمَا شَرَطَ مِنْ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ; لِقَوْلِهِ: {وَلا تَحْنَثْ} وَزَعَمَ بَعْضُ مِنْ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ خَاصَّةً; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فَلَمَّا أَسْقَطَ عَنْهُ الْحِنْثَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَأَدَّاهَا أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى شَيْءٍ وَهَذَا حِجَاجٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ لَا يَحْتَجُّ بِمِثْلِهِ مَنْ يَعْقِلُ ذَلِكَ; لِتَنَاقُضِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ وَمُخَالِفَتِهِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْيَمِينُ تَتَضَمَّنْ شَيْئَيْنِ حِنْثًا أَوْ بِرًّا فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فَقَدْ أَخْبَرَ بِوُجُودِ الْبِرِّ; إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ فَتَنَاقُضُهُ وَاسْتِحَالَتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَنْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَضِيَّتِهِ لِسُقُوطِ الْحِنْثِ، وَلَوْ كَانَ لِأَيُّوبَ خَاصَّةً وَكَانَ عِبَادَةً تَعَبَّدَ بِهَا دُونَ

غَيْرِهِ كَانَ لِلَّهِ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْحِنْثَ وَلَا يُلْزِمَهُ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهَا بِالضِّغْثِ فَلَا مَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ لَضَرْبِهَا بِالضِّغْثِ; إذْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ بِرٌّ فِي الْيَمِينِ. وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَعَبَّدَ بِمَا شَاءَ فِي الْأَوْقَاتِ وَفِيمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ ضَرْبُ الزَّانِي قَالَ: وَلَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بِشَمَارِيخَ لَمْ يَكُنْ حَدًّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا ضَرْبُ الزَّانِي بِشَمَارِيخَ فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ صَحِيحًا سَلِيمًا، وَقَدْ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلِيلًا يُخَافُ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ كُلَّ ضَرْبَةٍ لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَلَوْ جَمَعَ أَسْوَاطًا فَضَرَبَهُ بِهَا وَأَصَابَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أُعِيدَ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْوَاطِ، وَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمَعَةً فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ. وَأَمَّا فِي الْمَرَضِ فَجَائِزٌ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى شَمَارِيخَ أَوْ دِرَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ أَيْضًا فَيَضْرِبَهُ بِهِ ضَرْبَةً. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الهمداني قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَّهُ اشْتَكَى رِجْلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى فَعَادَ جِلْدَةً عَلَى عَظْمٍ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالُ قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ: اسْتَفْتُوا لِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي قَدْ وَقَعْت عَلَى جَارِيَةٍ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا بِهِ مِنْ الضُّرِّ مِثْلَ الَّذِي هُوَ بِهِ لَوْ حَمَلْنَاهُ إلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ مَا هُوَ إلَّا جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ شَمَارِيخَ مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَرَوَاهُ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ فِيهِ: "فَخُذُوا عثكالا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً"، فَفَعَلُوا وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عِبَادَةَ، وَقَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ هَذَا وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ تَأْدِيبًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَيُّوبُ لِيَحْلِفَ عَلَيْهِ وَيَضْرِبَهَا، وَلَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِضَرْبِهَا بَعْدَ حَلِفِهِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَبَاحَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ إذَا كَانَتْ نَاشِزًا بِقَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوَزهُنً} إلَى قَوْلِهِ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وَقَدْ دَلَّتْ قِصَّةُ أَيُّوبَ عَلَى أَنَّ لَهُ ضَرْبَهَا تَأْدِيبًا لِغَيْرِ نُشُوزٍ. وقَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فَمَا رُوِيَ مِنْ الْقِصَّةِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ دَلَالَةِ قِصَّةِ أَيُّوبَ; لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا لَطَمَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَهْلُهَا الْقِصَاصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ

اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] . وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْلِفَ وَلَا يَسْتَثْنِيَ; لِأَنَّ أَيُّوبَ حَلَفَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ. وَنَظِيرُهُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْأَشْعَرِيِّينَ حِينَ اسْتَحْمَلُوهُ فَقَالَ: "وَاَللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ" وَلَمْ يَسْتَثْنِ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ وَقَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ". وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ كَفَّارَةٌ لَتَرَكَ أَيُّوبَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يَضْرِبَهَا بِالضِّغْثِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: "لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ مَا هُوَ خَيْرٌ". وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها فليأت الذي هو خير وذلك كَفَّارَتُهُ". وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يُجَاوَزُ بِهِ الْحَدُّ; لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا مِائَةً فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهِ. إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ". وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَهِيَ عَلَى الْمُهْلَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَضْرِبْ امْرَأَتَهُ فِي فَوْرِ صِحَّتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا أَنْ يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ، لِقَوْلِهِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا فِيمَنْ لَا يَتَوَلَّى الضَّرْبَ بِيَدِهِ: "إنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ لَا يَحْنَثُ لِلْعُرْفِ". وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَرَاخِيًا عَنْهَا لَأُمِرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِضَرْبِهَا بِالضِّغْثِ; لِيَخْرُجَ بِهِ مِنْ الْيَمِينِ وَلَا يَصِلَ إلَيْهَا كثير ضرر. آخر سورة ص.

وَمِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "ثُمَّ" رَاجِعَةٌ إلَى صِلَةِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهَا إلَى الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْأَوْلَادِ عَلَى مَعْنَى التَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ قَبْلَ الْوَلَدِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً} [الأنعام: 154] ونحو ذلك آخر سورة الزمر.

وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} قَالَ: بُنِيَ بِالْآجُرِّ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْنُوا بِالْآجُرِّ وَيَجْعَلُونَهُ فِي قُبُورِهِمْ". وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ عَنْ سَبِيعٍ الْكِنْدِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أن الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية". وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قَبْلَ الْقِيَامَةِ. آخِرُ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ.

وَمِنْ سُورَةِ حم السَّجْدَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} . فِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ قَوْلٍ وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى لُزُومِ فَرْضِ الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ; إذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ أَحْسَنَ مِنْ الْفَرْضِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدُّعَاءُ إلَى اللَّهِ فَرْضًا، وَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ أَحْسَنِ قَوْلٍ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ أَحْسَنَ مِنْ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الْآيَةَ. قِيلَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقُولُونَ لَا تَخَفْ مِمَّا أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْهِ فَيُذْهِبُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا عَلَى أَهْلِهَا فَيُذْهِبُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّمَا يَقُولُونَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْقَبْرِ فَيَرَى تِلْكَ الْأَهْوَالَ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا غَيْرُك، وَيَقُولُونَ لَهُ: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُك فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَا يُفَارِقُونَهُ تَأْنِيسًا لَهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثم استقاموا} قَالَ: "أَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ وَالْعَمَلَ وَالدَّعْوَةَ". قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ذَكَرَ اللَّهُ الْعَدُوَّ فَأَخْبَرَ بِالْحِيلَةِ فِيهِ حَتَّى تَزُولَ عَدَاوَتُهُ وَيَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ، فَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الْآيَةَ. قَالَ: وَأَنْتَ رُبَّمَا لَقِيتَ بَعْضَ مَنْ يَنْطَوِي لَك عَلَى عَدَاوَةٍ وَضِغْنٍ فَتَبْدَأُهُ بِالسَّلَامِ أَوْ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِهِ فَيَلِينُ لَك قَلْبُهُ وَيُسْلِمُ لَك صَدْرَهُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الْحَاسِدَ فَعَلِمَ أَنْ لَا حِيلَةَ عِنْدَنَا فِيهِ وَلَا فِي اسْتِمْلَاكِ سَخِيمَتِهِ وَاسْتِخْرَاجِ ضَغِينَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] إلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] فَأَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ حِينَ عَلِمَ أَنْ لَا حِيلَةَ عِنْدَنَا فِي رِضَاهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ

لا يَسْأَمُونَ} وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَوْلَى أَنَّهَا عِنْدَ آخِرِ الْآيَتَيْنِ; لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ السَّلَفَ لَمَّا اخْتَلَفُوا كَانَ فِعْلُهُ بِالْآخِرِ مِنْهُمَا أَوْلَى; لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا بِأُخْرَاهُمَا وَاخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِهَا بِأُولَاهُمَا. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} الْآيَةَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ أَعْجَمِيًّا كَانَ أَعْجَمِيًّا فَكَانَ يَكُونُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ عَرَبِيَّا; لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهُ إلَى لُغَةِ الْعَجَمِ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يكون قرآنا. آخر سورة حم السجدة.

ومن سورة حم عسق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى مَا سَبِيلُهُ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ; لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِرْبَةً، فَلَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْجَوَازِ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ" قَالُوا: "كُلُّ قُرَيْشٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "إلَّا أَنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي". وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ إلَّا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَالتَّوَدُّدَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ مَوْقِعِ الْمَشُورَةِ لِذِكْرِهِ لَهَا مَعَ الْإِيمَانِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّا مَأْمُورُونَ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَالَ: "كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ". وَقَالَ السُّدِّيّ {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مَعْنَاهُ: مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ نَدَبَنَا اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ إلَى الْعَفْوِ عَنْ حُقُوقِنَا قِبَلَ النَّاسِ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وقَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ الْقِصَاصِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وَقَوْلُهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] . وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْآيِ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَفْضَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى ذِكْرِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ؟ وَهُوَ

مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْتَرِئُ الْفُسَّاقُ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَبَغَى وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَوْضِعُ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِالْعَفْوِ إذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا. وَقَدْ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} وَمُقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةُ الِانْتِصَارِ لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُفْرَانِ عَنْ غَيْرِ الْمُصِرِّ. فَأَمَّا الْمُصِرُّ عَلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ فَالْأَفْضَلُ الِانْتِصَارُ مِنْهُ، بِدَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} قَالَ: هَذَا فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْقِصَاصِ، فَأَمَّا لَوْ ظَلَمَك رِجْلٌ لَمْ يَحِلَّ لَك أَنْ تَظْلِمَهُ. آخِرُ سُورَةِ حم عسق.

ومن سورة الزخرف بسم الله الرحمن الرحيم فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الرُّكُوبِ قَوْله تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّهُ شَهِدَ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - حِينَ رَكِبَ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، قَالَ: ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: "رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتُ وَقَالَ مِثْلَ الَّذِي قُلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعَبْدُ، أَوْ قَالَ "عَجَبٌ لِلْعَبْدِ إذَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا هُوَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَكِبَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَنُّك وَفَضْلُك عَلَيْنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ. وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى ذِرْوَةِ سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَقُولُوا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ". وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: "إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ رَدَفَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ: تَغَنَّ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ قَالَ له: تمن".

فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءٍ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ "رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الذَّهَبِ"، ثم قرأ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي

الْحِلْيَةِ} وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا". وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ رزيح عَنْ الْبَهِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ يَمُصُّ الدَّمَ عَنْ شَجَّةٍ بِوَجْهِ أُسَامَةَ وَيَمُجُّهُ: "لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْنَاهُ، لَوْ كَانَ أُسَامَةَ جَارِيَةً لَكَسَوْنَاهُ لِتُنْفِقَهُ". وَفِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَتَيْنِ عَلَيْهِمَا أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: "أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِأَسْوِرَةٍ مِنْ نَارٍ؟ " قَالَتَا: لَا قَالَ: "فَأَدِّيَا حَقَّ هَذَا! ". وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ إذَا أَعْطَى زَكَاتَهُ". وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصَّدَّقْنَ مِنْ الْحُلِيِّ. وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَائِشَةَ حَلَّتْ أَخَوَاتِهَا الذَّهَبَ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَلَّى بَنَاتَه الذَّهَبَ.، وَقَدْ رَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ نَرْبِطُ الْمِسْكَ بِشَيْءٍ مِنْ الذَّهَبِ؟ قَالَ: "أَفَلَا تَرْبِطُونَهُ بِالْفِضَّةِ ثُمَّ تُلَطِّخُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَيَكُونُ مِثْلَ الذَّهَبِ". وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سِوَارَانِ مِنْ نَارٍ" فَقَالَتْ: قُرْطَانِ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "قُرْطَانِ مِنْ نَارٍ"، قَالَتْ: طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "طَوْقٌ مِنْ نَارٍ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ تَتَزَيَّنْ لِزَوْجِهَا صَلِفَتْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: "مَا يَمْنَعُكُنَّ أَنْ تَجْعَلْنَ قُرْطَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ تُصَفِّرِينَهُ بِعَنْبَرٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ فَإِذَا هُوَ كَالذَّهَبِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي إبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ أَظْهَرُ وَأَشْهُرُ مِنْ أَخْبَارِ الْحَظْرِ، وَدَلَالَةُ الْآيَةِ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ فِي إبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ لُبْسُ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ مُنْذُ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ عَلَيْهِنَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِإِخْبَارِ الْآحَادِ. قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ وَلَا الْمَلَائِكَةَ، وَإِنَّا إنَّمَا عَبَدْنَاهُمْ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ مِنَّا ذَلِكَ فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قِيلِهِمْ هَذَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَخْرُصُونَ وَيَكْذِبُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَشَأْ كُفْرَهُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِمْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا، وَأَبَانَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ لَا يُشْرِكُوا. وَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ مَذْهَبَ الْجَبْرِ والجهمية. قَوْله تَعَالَى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} إلَى قَوْلِهِ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ

بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى إبْطَالِ التَّقْلِيدِ لِذَمِّهِ إيَّاهُمْ عَلَى تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ وَتَرْكِهِمْ النَّظَرَ فِيمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ غَيْرُ نَافِعَةٍ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ لَا يُغْنِي مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَقَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ فِي الْحُقُوقِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَالِمًا بِهَا. وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ". وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: "نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ"، وَنَاسٌ يَقُولُونَ: "الْقُرْآنُ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ". آخر سورة الزخرف.

وَمِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قَالَ: "لَا يَهْوَى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ، لَا يَخَافُ اللَّهَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} يَعْنِي يُطِيعُهُ كَطَاعَةِ الْإِلَهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "كَانُوا يَعْبُدُونَ الْعُزَّى وَهُوَ حَجَرٌ أَبْيَضُ حِينًا مِنْ الدَّهْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ طَرَحُوا الْأَوَّلَ وَعَبَدُوا الْآخَرَ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ يَعْنِي لَا يَعْرِفُ إلَهَهُ بِحُجَّةِ عَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِهَوَاهُ". قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: نَحْيَا وَنَمُوتُ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ، وَقِيلَ: نَمُوتُ وَيَحْيَا أَوْلَادُنَا، كَمَا يُقَالُ: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ ابْنًا مِثْلَ فُلَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قَالَ: "قَالَ ذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ، يَقُولُونَ: إلَّا الْعُمُرُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلُ زَنَادِقَةِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ الْحَكِيمَ، وَأَنَّ الزَّمَانَ وَمُضِيَّ الْأَوْقَاتِ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ هَذِهِ الْحَوَادِثَ. وَالدَّهْرُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى زَمَانِ الْعُمُرِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَصُومُ الدَّهْرَ، يَعْنُونَ عُمْرَهُ كُلَّهُ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا الدَّهْرَ أَنَّهُ عَلَى عُمُرِهِ كُلِّهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك الْأَبَدَ" وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا أُكَلِّمُك دَهْرًا" فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ،

وَلَمْ يَعْرِفْ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَى دَهْرًا فَلَمْ يُجِبْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ"، فَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَنْسِبُونَ الْحَوَادِثَ الْمُجْحِفَةَ وَالْبَلَايَا النَّازِلَةَ وَالْمَصَائِبَ الْمُتْلِفَةَ إلَى الدَّهْرِ، فَيَقُولُونَ فَعَلَ الدَّهْرُ بِنَا وَصَنَعَ بِنَا، وَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ كَمَا قَدْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِأَنْ يَقُولُوا: أَسَاءَ بِنَا الدَّهْرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا فَاعِلَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُهَا وَمُحْدِثُهَا. وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرَ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" قَالَ ابْنُ السَّرْحِ: عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مَكَانَ سَعِيدٍ فَقَوْلُهُ: "وَأَنَا الدَّهْرَ" مَنْصُوبٌ بِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَنَا أَبَدًا بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا الْيَوْمَ بِيَدِي الْأَمْرُ أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا كَانَ الدَّهْرُ اسْمًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُسَمِّي اللَّهَ بِهَذَا الِاسْمِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرَ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا" فَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَنَقَلَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَقَالَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرَ" وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ" فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَا الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ مَعْنَاهُ: يُؤْذِي أَوْلِيَائِي; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْسُبُهَا الْجُهَّالُ إلَى الدَّهْرِ، فَيَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ كَمَا يَتَأَذَّوْنَ بِسَمَاعِ سَائِرِ ضُرُوبِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَمَعْنَاهُ: يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ. آخِرُ سُورَةِ حم الجاثية.

وَمِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالَ الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وَقَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ فِي الْحَمْلِ نَقَصَ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَالرَّضَاعُ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّضَاعَ حَوْلَانِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ زَادَ حَمْلُهُ أَوْ نَقَصَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] : مَا نَقَصَ عَنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: "أَشُدُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً" وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "أَشُدُّهُ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ". وقَوْله تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِك فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: "أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} . قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَوْ شِئْت أَنْ أُذْهِبَ طَيِّبَاتِي فِي حَيَاتِي لَأَمَرْت بِجَدْيٍ سَمِينٍ يُطْبَخُ بِاللَّبَنِ" وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ عُمَرُ: "لَوْ شِئْت أَنْ أَكُونَ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا وَأَلْيَنَكُمْ ثِيَابًا لَفَعَلْت، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي" وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَرَّبَ إلَيْهِمْ طَعَامَهُ،

فَرَآهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَعَذَّرُونَ فِي الْأَكْلِ، فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ لَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقَ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ لَفَعَلْت، وَلَكِنْ نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا لَآخِرَتِنَا، أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ أَفْضَلَ لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ آكِلُهُ فَاعِلًا مَحْظُورًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [لأعراف: 32] . آخر سورة الأحقاف.

وَمِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ إلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن صالح عن معاوية بن صالح عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ شَكَّ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ". وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْت السُّدِّيَّ يَقُولُ فِي قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِثْخَانِ بِالْقَتْلِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ الْأَسْرَ إلَّا بَعْدَ إذْلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَقَمْعِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَمَتَى أُثْخِنْ الْمُشْرِكُونَ وَأُذِلُّوا بِالْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ جَازَ الِاسْتِبْقَاءُ. فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا إذَا وُجِدَ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ مَنٍّ أَوْ فِدَاءٍ، وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْقَتْلِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ قَتَلَ الْأَسِيرِ وَقَالَ: "مُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَادِهِ". وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً عَنْ قَتْلِ الْأَسِيرِ، فَقَالَ: "مُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَادِهِ" قَالَ: وَسَأَلْت الْحَسَنَ، قَالَ: "يُصْنَعُ بِهِ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُسَارَى بَدْرٍ، يُمَنُّ عَلَيْهِ أَوْ يُفَادَى بِهِ" وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ إصْطَخْرَ لِيَقْتُلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَرَاهَةَ قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: "هِيَ مَنْسُوخَةٌ" وَقَالَ: قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِيهِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِ الْأَسِيرَ، مِنْهَا قَتْلُهُ عَقَبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنُّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بَعْدَ الْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَبَا عَزَّة الشَّاعِرَ بَعْدَمَا أُسِرَ، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ نُزُولِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. فَحَكَمَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَمَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ بْن بَاطَا مِنْ بَيْنِهِمْ، وَفَتَحَ خَيْبَرَ بَعْضَهَا صُلْحًا وَبَعْضَهَا عَنْوَةً، وَشَرَطَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ أَنْ لَا يَكْتُمَ شَيْئًا فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى خِيَانَتِهِ وَكِتْمَانِهِ قَتَلَهُ، وَفَتَحَ مَكَّةَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صَبَابَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْح وَآخَرِينَ وَقَالَ: "اُقْتُلُوهُمْ، وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ" وَمَنَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ: "وَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالْفُجَاءَةِ لَمْ أَكُنْ أَحْرَقْتُهُ وَكُنْتُ قَتَلْتُهُ صَرِيحًا أَوْ أَطْلَقْتُهُ نَجِيحًا" وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَتَلَ دِهْقَانَ السُّوسِ بَعْدَمَا أَعْطَاهُ الْأَمَانَ عَلَى قَوْمٍ سَمَّاهُمْ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْأَمَانِ فَقَتَلَهُ فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ وَفِي اسْتِبْقَائِهِ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فِدَائِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: "يُفَادَى الْأَسِيرُ بِالْمَالِ وَلَا يُبَاعُ السَّبْيُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَرُدُّوا حَرْبًا" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفَادُونَ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَلَا يُرَدُّونَ حَرْبًا أَبَدًا" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا بَأْسَ أَنْ يُفَادَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الْمُشْرِكِينَ"، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ

وَلَا يُبَاعُ الرِّجَالُ إلَّا أَنْ يُفَادَى بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ" وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُفَادِي بِهِمْ". فَأَمَّا الْمُجِيزُونَ لِلْفِدَاءِ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمَالِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْمَالِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى أُسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ, وَيَحْتَجُّونَ لِلْفِدَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ بِمَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ قَالَ: أَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَمُرَّ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُوثَقٌ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَامَ أُحْبَسُ؟ " قَالَ: "بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك" فَقَالَ الْأَسِيرُ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك لَأَفْلَحَتْ كُلَّ الْفَلَاحِ" ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ أَيْضًا، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ حَاجَتُك"، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَاهُ بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَسَرَتْهُمَا. وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ أبي المهلب عن عمران بن حصين: أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ إسْلَامَ الْأَسِيرِ، وَذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُفَادَى الْآنَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُرَدُّ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِقُرَيْشٍ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ" وَقَالَ: "مَنْ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". وَأَمَّا مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَنِّ أَوْ الْفِدَاءِ وَمَا رُوِيَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَتَضَمَّنَتْ الْآيَتَانِ وُجُوبَ الْقِتَالِ لِلْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَالْفِدَاءُ بِالْمَالِ أَوْ بِغَيْرِهِ يُنَافِي ذَلِكَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَنَقَلَةُ الْآثَارِ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٍ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهَا نَاسِخًا لِلْفِدَاءِ الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِهَا. قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قَالَ الْحَسَنُ" "حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ" وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَلْقَى الذِّئْبُ الشَّاةَ فَلَا يَعْرِضُ لَهَا وَلَا تَكُونُ عَدَاوَةٌ بَيْن اثْنَيْنِ" وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "آثَامُهَا وَشِرْكُهَا حَتَّى لَا يَكُونَ إلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَأَنَّ

مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إيجَابُ الْقِتَالِ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مَنْ يُقَاتِلُ. وقَوْله تَعَالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: "لَا تَضْعُفُوا عَنْ الْقِتَالِ وَتَدْعُوا إلَى الصُّلْحِ" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} قَالَ: "لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إلَى صاحبتها" {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} قَالَ: "أَنْتُمْ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْهُمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ طَلَبِ الصُّلْحِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا أَكَّدَ فَرْضَهُ مِنْ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَتَّى يُسْلِمُوا وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَالصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِمَا وَصَفْنَا، فَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ الصُّلْحِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ صُلْحًا، وَإِنَّمَا فَتَحَهَا عَنْوَةً; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ عَنْ الصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الْأَعْلَوْنَ الْغَالِبُونَ، وَمَتَى دخلها صُلْحًا بِرِضَاهُمْ فَهُمْ مُتَسَاوُونَ; إذْ كَانَ حُكْمُ مَا يَقَعُ بِتَرَاضِي الْفَرِيقَيْنِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأُولَى بِأَنْ يَكُونَ غَالِبًا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ الْآخَرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي قُرْبَةٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ عَمَلِهِ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ. آخِرُ سُورَةِ محمد صلى الله عليه وسلم.

وَمِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا" وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ فَتْحَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً; إذْ كَانَ الصُّلْحُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ مُقَيَّدًا; لِأَنَّ مَنْ قَالَ: "فَتَحَ بَلَدَ كَذَا عُقِلَ بِهِ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ دُونَ الصُّلْحِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التلاوة: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} . وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ مَكَّةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} وقَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وَذِكْرُهُ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمَعْنَى: سُكُونُ النَّفْسِ إلَى الْإِيمَانِ بِالْبَصَائِرِ الَّتِي بِهَا قَاتَلُوا عَنْ دَيْنِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحُوا مَكَّةَ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَعَاهُمْ إلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ وَدَعَاهُمْ عُمَرُ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ اتِّبَاعَ طَاعَةِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ عَلَى التَّخَلُّفِ عَمَّنْ دَعَاهُمْ إلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِمَا، إذْ كَانَ الْمُتَوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِمَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى قَتَادَةُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. رَضِيَ الله عنهما.

وقَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إيمَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَصِدْقِ بَصَائِرِهِمْ، فَهُمْ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانُوا أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ"، وَقَالَ جَابِرٌ: "أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ"، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخْبِرَ اللَّهُ بِرِضَاهُ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ إلَّا وَبَاطِنُهُمْ كَظَاهِرِهِمْ فِي صِحَّةِ الْبَصِيرَةِ وَصِدْقِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ قُلُوبِهِمْ صِحَّةَ الْبَصِيرَةِ وَصِدْقَ النِّيَّةِ، وَأَنَّ مَا أَبْطَنُوهُ مِثْلُ مَا أظهروه. وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي الصَّبْرَ بِصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْفِيقَ يَصْحَبُ صِدْقَ النِّيَّةِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] . وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا لِيُصِيبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَدَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} ، وَمُصَالَحَتُهُمْ لَا ظَفَرَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَتْحُهَا عَنْوَةً. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ ذَبْحَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، لِإِخْبَارِهِ بِكَوْنِهِ مَحْبُوسًا عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ بَلَغَ الْحَرَمَ وَذَبَحَ فِيهِ لَمَا كَانَ مَحْبُوسًا عَنْ بُلُوغِ الْمَحِلِّ. وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوا; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَمْنُوعًا بَدِيًّا عَنْ بُلُوغِ الْمَحِلِّ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ زَالَ الْمَنْعُ فَبَلَغَ مَحِلَّهُ وَذُبِحَ فِي الْحَرَمِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَنْعُ فِي أَدْنَى وَقْتٍ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ قَدْ مُنِعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى -: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف: 63] وَإِنَّمَا مُنِعَ فِي وَقْتٍ وَأُطْلِقَ فِي وَقْتٍ آخِرَ وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَحِلَّ هُوَ الْحَرَمُ; لِأَنَّهُ قَالَ: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فَلَوْ كَانَ مَحِلُّهُ غَيْرَ الْحَرَمِ لَمَا كَانَ مَعْكُوفًا عَنْ بُلُوغِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحِلُّ في قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] هُوَ الْحَرَمُ.

بَابُ رَمْيِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهِمْ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسَرَاهُمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: "لَا بَأْسَ بِرَمْيِ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا أُسَارَى وَأَطْفَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحَرِّقُوا الْحُصُونَ

وَيَقْصِدُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ رُمِيَ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنْ أَصَابُوا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ فِيهِ" وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا تُحَرَّقُ سَفِينَةُ الْكُفَّارِ إذَا كَانَ فِيهَا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إنَّمَا صُرِفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ تَزَيَّلَ الْكُفَّارُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَعَذَّبَ الْكُفَّارَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يرموا; لقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ" قَالَ: "وَلَا يُحَرَّقُ الْمَرْكَبُ فِيهِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُرْمَى الْحِصْنُ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أُسَارَى مُسْلِمُونَ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ جَاءُوا يَتَتَرَّسُونَ بِهِمْ رُمِيَ وَقُصِدَ الْعَدُوُّ"، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يُرْمَى الْحِصْنُ، وَفِيهِ أُسَارَى أَوْ أَطْفَالٌ، وَمَنْ أُصِيبَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُرْمَوْنَ. وَالْآخِرُ: لَا يُرْمَوْنَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مُلْتَحِمِينَ، فَيُضْرَبُ الْمُشْرِكُ وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمُ جَهْدَهُ، فَإِنَّ أَصَابَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُسْلِمًا فَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَالدِّيَةُ مَعَ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ مُسْلِمًا فَالرَّقَبَةُ وَحْدَهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ مَعَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَقَدْ عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُهُمْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُهُمْ بِالْقَتْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَمْنَعُ رَمْيَهُمْ; إذْ كَانَ الْقَصْدُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ دُونَهُمْ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ عَنْ الصَّعْبِ بْن جَثَّامَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَقَالَ "هُمْ مِنْهُمْ". وَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: "أَغِرْ عَلَى أُبْنَى1 صَبَاحًا وَحَرِّقْ"، وَكَانَ يَأْمُرُ السَّرَايَا بِأَنْ يَنْتَظِرُوا بِمَنْ يَغْزُو بِهِمْ، فَإِنْ أَذَّنُوا لِلصَّلَاةِ أَمْسَكُوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا أَذَانًا أَغَارُوا" وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَغَارَ عَلَى هَؤُلَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُصِيبَ مِنْ ذَرَارِيّهِمْ وَنِسَائِهِمْ الْمَحْظُورِ قَتْلُهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ شَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِالنَّشَّابِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْمُسْلِمِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ; لِأَنَّ ذَرَارِيَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَرَارِيّهِمْ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي

_ 1 قوله: "أبنى" بضم الهمزة وإسكان الباء الموحدة ثم نون ثم ألف مقصورة أرض بالسراة في ناجية البلقاء التي قتل فيها أبو أسامة. كذا في شرح سنن أبي داود لابن رسلان. "لمصححه".

الْكُفْرِ; لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْقَتْلَ وَلَا الْعُقُوبَةَ لِفِعْلِ آبَائِهِمْ فِي بَابِ سُقُوطِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ مِنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} الْآيَةَ، فِي مَنْعِ رَمْيِ الْكُفَّارِ; لِأَجْلِ مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّ اللَّهَ كَفَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ; لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ لَمْ يَأْمَنْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ دَخَلُوا مَكَّةَ بِالسَّيْفِ أَنْ يُصِيبُوهُمْ وَذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ تَرْكِ رَمْيِهِمْ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى حَظْرِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمِينَ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُبِيحَ الْكَفَّ عَنْهُمْ; لِأَجْلِ الْمُسْلِمِينَ وَجَائِزٌ أَيْضًا إبَاحَةُ الْإِقْدَامِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَظْرِ الْإِقْدَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي فَحَوَى الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَظْرِ، وهو قوله: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فَلَوْلَا الْحَظْرُ مَا أَصَابَتْهُمْ مَعَرَّةٌ مِنْ قَتْلِهِمْ بِإِصَابَتِهِمْ إيَّاهُمْ قِيلَ لَهُ: قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْمَعَرَّةِ هَهُنَا. فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ غُرْمُ الدِّيَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكَفَّارَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْغَمُّ بِاتِّفَاقِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى يَدِهِ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْتَمُّ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَيْبُ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَعَرَّةُ الْإِثْمُ"، وَهَذَا بَاطِلٌ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَّا; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، وَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَمْ يَضَعْ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمَأْثَمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا فِي أَهْلِ مَكَّةَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقَتْلِ إذَا لَجَأَ إلَيْهَا لَمْ يُقْتَلْ عِنْدَنَا؟ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ إذَا لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُقْتَلْ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالْجِنَايَةِ فِيهِ فَمَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ خُصُوصِيَّةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ مِنْ أَوْلَادِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إذَا لَمْ يُقْتَلُوا فَمَنَعَنَا قَتْلَهُمْ لِمَا فِي مَعْلُومِهِ مِنْ حُدُوثِ أَوْلَادِهِمْ مُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا أَبْقَاهُمْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ مُسْلِمُونَ أَبْقَاهُمْ وَلَمْ يأمر بقتلهم وقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ فِي أَصْلَابِهِمْ قَدْ وَلَدُوهُمْ وَزَايَلُوهُمْ لَقَدْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفَّارِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَجَبَ جَوَازُ مِثْلِهِ إذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْحَالَيْنِ رَمْيُ الْمُشْرِكِينَ دُونَهُمْ وَمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أُصِيبَ بِرَمْيِ حُصُونِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي الْحِصْنِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ دِيَةٌ

وَلَا كَفَّارَةٌ وَلِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَنَا الرَّمْي مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، فَصَارُوا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَتْ الْمَعَرَّةُ الْمَذْكُورَةُ دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً; إذْ لَا دَلَالَةً عَلَيْهِ مِنْ لَفْظِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَالْأَظْهَرُ مِنْهُ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْغَمِّ وَالْحَرَجِ بِاتِّفَاقِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَلَى يَدِهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِمَّنْ يَتَّفِقُ عَلَى يَدِهِ ذَلِكَ وَقَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعَيْبِ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُعَابُ فِي الْعَادَةِ بِاتِّفَاقِ قَتْلِ الْخَطَإِ عَلَى يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} قِيلَ إنَّهُ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ أَمَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَهُ، وَأَمْلَى عَلَيْهِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو"، فَأَبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالُوا: نَكْتُبُ بِاسْمِك اللَّهُمَّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَنَعُوهُ دُخُولَهُ مَكَّةَ فَكَانَتْ أَنَفَتُهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ"، وَعَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". قَوْله تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَقْصِدُ إخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمَنِينَ مُتَقَرِّبِينَ بِالْإِحْرَامِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَعَهُ الْحَلْقَ وَالتَّقْصِيرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا قُرْبَةٌ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَنَّ الْإِحْلَالَ بِهِمَا يَقَعُ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِلذِّكْرِ هَهُنَا وَجْهٌ. وَرَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قُرْبَةٌ وَنُسُكٌ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنْ الْإِحْرَامِ. آخِرُ سُورَةِ الْفَتْحِ.

وَمِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ-: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ فِي كَذَا قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ هُمْ قَوْمٌ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَأَمَرَتْ الْجَارِيَةَ أَنْ تُسْقِيَهُ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَالَتْ: "قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا" وَتَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فِي صِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اعْتَبَرَتْ عُمُومَ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: "لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْدِيمِ الْفُرُوضِ عَلَى أَوْقَاتِهَا وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا وَفِي تَرْكِهَا، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُوجِبُ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ فِي تَرْكِ مَا فَعَلَهُ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنُّوا; لِأَنَّ التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ فَفَعَلْنَا غَيْرَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ تَقْدِيمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَحْتَجُّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَيْضًا وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَهْلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ; لِأَنَّ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسٍ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ، فَلَيْسَ فِيهِ إذًا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فِيهِ أَمْرٌ بِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] . وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا إذَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَالُوا فِيهِ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي كَلَامِهِ ضَرْبٌ مِنْ تَرْكِ

الْمَهَابَةِ وَالْجُرْأَةِ، نَهَى اللَّهُ عَنْهُ; إذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَتَهْيِيبِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} زِيَادَةٌ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ تَكُونَ مُخَاطَبَتُنَا لَهُ كَمُخَاطَبَةِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، بَلْ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّعْظِيمِ تُخَالِفُ بِهِ مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَوْهُ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ وَقَالُوا: اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيجَابِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لَنَا فِيمَنْ يَلْزَمُنَا تَعْظِيمُهُ مِنْ وَالِدٍ وَعَالِمٍ وَنَاسِكٍ وَقَائِمٍ بِأَمْرِ الدِّينِ وَذِي سِنٍّ وَصَلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ; إذْ تَعْظِيمُهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعْظِيمِ فِي تَرْكِ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الْجَهْرِ عَلَيْهِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مِثْلِ حَالِهِ. وَفِي النَّهْيِ عَنْ نِدَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ وَالْمُخَاطَبَةِ لَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِنِدَائِهِمْ إيَّاهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجْرَةِ وَبِمُخَاطَبَتِهِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِمْ اُخْرُجْ إلَيْنَا. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْت، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِك، وَأَنَا امْرُؤٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، وَنَهَى اللَّهُ الْمَرْءَ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ وَنَهَانَا اللَّهُ عَنْ الْخُيَلَاءِ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا ثَابِتُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ " فَعَاشَ حَمِيدًا وَقُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.

بَابُ حُكْمِ خَبَرِ الْفَاسِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَتَاهُمْ الْوَلِيدُ فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ فَفَرِقَ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ارْتَدُّوا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ بَعَثَ عُيُونًا لَيْلًا فَإِذَا هُمْ يُؤَذِّنُونَ وَيُصَلُّونَ، فَأَتَاهُمْ خَالِدٌ فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إلَّا طَاعَةً وَخَيْرًا فَرَجَعَ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: وَقَالَ مَعْمَرٌ: فَتَلَا قَتَادَةُ: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ

مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قَالَ: فَأَنْتُمْ أَسْخَفُ رَأْيًا وَأَطِيشُ أَحْلَامًا، فَاتَّهَمَ رِجْلٌ رَأْيَهُ وَانْتَصَحَ كِتَابَ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي رِجْلٍ يَعْنِي قَوْلَهُ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} إنَّهَا لَمُرْسَلَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُقْتَضَى الْآيَةِ إيجَابُ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ إلَّا بَعْدَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: "فَتَثَبَّتُوا" مِنْ التَّثَبُّتِ وَ، {فَتَبَيَّنُوا} ، كِلْتَاهُمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "فَتَثَبَّتُوا" فِيهِ أَمْرٌ بِالتَّثَبُّتِ لِئَلَّا يُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْإِقْدَامِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ لِئَلَّا يُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَتَبَيَّنُوا} فَإِنَّ التَّبَيُّنَ هُوَ الْعِلْمُ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَقْدُمَ بِخَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا; إذْ كَانَ كُلُّ شَهَادَةٍ خَبَرًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَخْبَارِهِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا شَهَادَةُ الْفَاسِقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ، وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إثْبَاتِ شَرْعٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إثْبَاتِ حَقٍّ عَلَى إنْسَانٍ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي أَشْيَاءَ. فَمِنْهَا: أُمُورُ الْمُعَامَلَاتِ يُقْبَلْ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْهَدِيَّةِ إذَا قَالَ: "إنَّ فُلَانًا أَهْدَى إلَيْك هَذَا" يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ وَقَبْضُهُ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: "وَكَّلَنِي فُلَانٌ بِبَيْعِ عَبْدِهِ هَذَا" فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ، وَنَحْوُ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ إذَا قَالَ لَهُ قَائِلٌ: "اُدْخُلْ" لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَيُقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ خَبَرُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، وَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ بَرِيرَةَ فِيمَا أَهْدَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ" , فَقَبِلَ قَوْلَهَا فِي أَنَّهُ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا وَأَنَّ مِلْكَ الْمُتَصَدِّقِ قَدْ زَالَ إلَيْهَا. وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخِرَ، وَهُوَ مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ بِاعْتِقَادِ مَذْهَبٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فُسَّاقٌ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَمْرُ السَّلَفِ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ وَشَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِسْقُهُمْ مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَتُقْبَلُ أَيْضًا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ،, وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لِدَلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَإِلْزَامِ الْحُقُوقِ أَوْ إثْبَاتِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْفِسْقِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ; إذْ لَوْ كَانَ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ لَمَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّثَبُّتِ، وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَيَجْعَلُ تَخْصِيصَهُ الْفَاسِقَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ غَيْرُ

جَائِزٍ وَهَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بخلافه.

بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ حَتَّى اضْطَرَبُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا حَقٌّ تَدَارَآ فِيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً; لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: بَيْنِي وَبَيْنَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعَا حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: كَانَ قِتَالُهُمْ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْعِصِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِتَالِ، فَإِنْ فَاءَتْ إلَى الْحَقِّ بِالْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ لَمْ يُتَجَاوَزْ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَفِئْ بِذَلِكَ قُوتِلَتْ بِالسَّيْفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ; لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ دُونَ السِّلَاحِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْبَغْيِ وَتَرْكِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ أَحَدُ ضُرُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"، فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السِّلَاحِ وَمَا دُونَهُ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ إزَالَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ إلَى أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَمَا دُونَ السِّلَاحِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ بِالسَّيْفِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقِتَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ، وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ الْقَوْمَ تَقَاتَلُوا بِمَا دُونَ السِّلَاحِ، فَأَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقِتَالِ الْبَاغِي مِنْهُمَا وَلَمْ يُخَصِّصْ قِتَالَنَا إيَّاهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ مَتَى ظَهَرَ لَنَا قِتَالٌ مِنْ فِئَةٍ عَلَى وَجْهِ الْبَغْيِ قَابَلْنَاهُ بِالسِّلَاحِ وَبِمَا دُونَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَالِ قِتَالِ الْبَاغِي لَنَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقِتَالِنَا إيَّاهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا دُونَ السِّلَاحِ مَعَ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لِلْقِتَالِ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "مِنْ قَاتَلَكُمْ بِالْعِصِيِّ فَقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ" لَمْ يَتَنَاقَضْ الْقَوْلُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ إيَّانَا بِقِتَالِهِمْ; إذْ كَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي الْقِتَالَ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ وَأَيْضًا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ بِالسَّيْفِ

وَمَعَهُ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ بَدْرٍ مَنْ قَدْ عُلِمَ مَكَانُهُمْ، وَكَانَ مُحِقًّا فِي قِتَالِهِ لَهُمْ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ إلَّا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ الَّتِي قَابَلَتْهُ وَأَتْبَاعُهَا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ: "تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" وَهَذَا خَبَرٌ مَقْبُولٌ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ. حَتَّى إنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَحْدِهِ" لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: إنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَطَرَحَهُ بَيْنَ أَسِنَّتِنَا رَوَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ، وَهُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ غَيْبٍ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِهِمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقَوْلَ وَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوْقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ يَدْعُونَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ مَنْ قَتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ التَّحْلِيقُ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خيثمة عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: سَمِعْت عَلِيًّا يَقُولُ: إذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُنِي الطَّيْرُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وَلَمْ يَخْتَلِفْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِالسَّيْفِ إذَا لَمْ يَرْدَعْهَا غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَأَوْا قِتَالَ الْخَوَارِجِ وَلَوْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَ الْخَوَارِجِ وَقَعَدُوا عَنْهُمْ لَقَتَلُوهُمْ وَسَبَوْا ذَرَارِيَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَاصْطَلَمُوهُمْ؟. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَلَسَ عَنْ عَلِيٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ سَعْدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عُمَرَ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقْعُدُوا عَنْهُ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قُعُودُهُمْ عَنْهُ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِمَامَ مُكْتَفِيًا بِمَنْ مَعَهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُمْ بِأَصْحَابِهِ، فاستجازوا الْقُعُودَ عَنْهُ لِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَهُمْ وَاجِبًا لَكِنَّهُ لَمَّا وَجَدُوا مَنْ كَفَاهُمْ قَتْلَ الْخَوَارِجِ اسْتَغْنَوْا عَنْ مُبَاشَرَةِ قِتَالِهِمْ؟. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ". قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفِتْنَةَ الَّتِي يَقْتَتِلُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَعَلَى جِهَةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ مَعَ إمَامٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ إحْدَى الْفِئَتَيْنِ بَاغِيَةٌ وَالْأُخْرَى عَادِلَةٌ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّ قِتَالَ الْبَاغِيَةِ وَاجِبٌ مَعَ الْإِمَامِ وَمَعَ مَنْ قَاتَلَهُمْ مُحْتَسِبًا فِي قِتَالِهِمْ.

فَإِنْ قَالُوا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "قَتَلْته وَهُوَ قَدْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" إنَّمَا يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَاتَلَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُقْتَلَ قِيلَ لَهُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتَلُونَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا". فَكَانُوا إذَا أَعْطَوْا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ أَجَابُوا إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ خَلْعِ الْأَصْنَامِ وَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ الْبُغَاةُ إلَى الْحَقِّ فَيَزُولَ عَنْهُمْ الْقِتَالُ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَمَتَى كَفُّوا عَنْ الْقِتَالِ تُرِكَ قِتَالُهُمْ، كَمَا يُقَاتَلُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَمَتَى أَظْهَرُوهُ زَالَ عَنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ يُقَاتَلُونَ وَيُقْتَلُونَ مَعَ قَوْلِهِمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.

بَابُ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ اللَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْقِتَالِ مِنْهُمْ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يُدْعَوْا إلَى الصَّلَاحِ وَالْحَقِّ وَمَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْبَغْيِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: إنْ رَجَعَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْحَقِّ وَأَرَادَتْ الصَّلَاحَ وَأَقَامَتْ الْأُخْرَى عَلَى بَغْيِهَا وَامْتَنَعَتْ مِنْ الرُّجُوعِ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ إلَى الْحَقِّ قَبْلَ الْقِتَالِ، ثُمَّ إنْ أَبَتْ الرُّجُوعَ قُوتِلَتْ. وَكَذَا فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَدَأَ بِدُعَاءِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ إلَى الْحَقِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَبَوْا الْقَبُولَ قَاتَلَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ قِتَالَهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إذَا بَغَوْا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ الْخَوَارِجِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا أَبَوْا الرُّجُوعَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ فَرَجَعَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ عَلَى أَمْرِهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكُوفَةَ خَطَبَ فَحَكَمَتْ الْخَوَارِجُ مَنْ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ وَقَالَتْ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، أَمَا إنَّ لَهُمْ ثَلَاثًا: أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ، وَأَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا دَامَتْ أَيْدِيهمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَأَنْ لَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا.

بَابُ الْأَمْرِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ الْبُغَاةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: "لَا يَكُونُ غَنِيمَةً وَيُسْتَعَانُ بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِمْ وَيُرَدُّ الْكُرَاعُ أَيْضًا عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْبُغَاةِ أَحَدٌ، وَمَا اُسْتُهْلِكَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ" وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "مَا وُجِدَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ فَيْءٌ يُقْسَمُ وَيُخَمَّسُ، وَإِذَا تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِدَمٍ وَلَا مَالٍ اسْتَهْلَكُوهُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "مَا اسْتَهْلَكَهُ الْخَوَارِجُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رُدَّ"، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قُوتِلَ اللُّصُوصُ الْمُحَارِبُونَ فَقُتِلُوا وَأُخِذَ مَا مَعَهُمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ النَّاسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي ذَلِكَ، فَرَوَى فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةَ قَالَ قَسَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَيْأَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا قُوتِلَ بِهِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ" فَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ غَنِيمَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَنِيمَةٌ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَسَمَ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ لِيُقَاتِلُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَلَمْ يُمَلِّكْهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن الدُّوَلِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَوَارِجَ نَقَمُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَحَاجَّهُمْ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: "أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ. " وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ بهرام عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: سَأَلْته أَخَمَّسَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمْوَالَ أَهْلِ الْجَمَلِ؟ قَالَ: لَا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ أَوْ مَالٍ اُسْتُهْلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ". وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَنَّمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَيْسَتْ مَعَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ فِي دِيَارِهِمْ لَا تُغَنَّمْ، وَإِنْ قُتِلُوا، كَذَلِكَ مَا مَعَهُمْ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يُخْتَلَفُ فِيمَا يُغْنَمُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا مَعَهُمْ، وَمَا تَرَكُوهُ مِنْهَا فِي دِيَارِهِمْ أَنَّ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِينَا مِنْهَا مَغْنُومٌ؟ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَلَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ؟ فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا أُسِرُوا، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، فَلِذَلِكَ غُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَالْخَوَارِجُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَا يُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ بِحَالٍ، فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أموالهم.

بَابٌ الْحُكْمُ فِي أَسْرَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَجَرْحَاهُمْ رَوَى كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا". وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي البختري وَعَامِرٍ قَالَا: لَمَّا ظَهَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الْجَمَلِ قَالَ: "لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تذففوا عَلَى جَرِيحٍ"، وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ: "لَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا حُكْمُ عَلِيٍّ فِي الْبُغَاةِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ تَبْقَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ فِئَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْأَسِيرُ إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ وَيُجْهَزُ عَلَى الْجَرِيحِ وَيُتْبَعُ الْمُدْبِرُ" وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسَرَ ابْنَ بِثَرِي وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَقَتَلَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِي الْأَخْبَارِ الْأَوَّلُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فئة.

بَابٌ فِي قَضَايَا الْبُغَاةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْبَرْمَكِيِّ: "لَا يَنْبَغِي لِقَاضِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يُجِيزَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَا شَهَادَتَهُ وَلَا حُكْمَهُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَقَالَ: "لَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ فَحَكَمَ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُمْضِهِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَأْيَهُ فَيَسْتَأْنِفَ الْقَضَاءَ فِيهِ" قَالَ: "وَلَوْ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى بِقَضِيَّةٍ أَنْفَذَهَا مَنْ رُفِعَتْ إلَيْهِ كَمَا يُمْضِي قَضَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ". وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ: "تُكْشَفُ أَحْكَامُهُمْ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُسْتَقِيمًا أُمْضِيَ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى مَدِينَةٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ أَهْلِهَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ لَمْ تُعَدْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ إلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِي غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ أَوْ مَالِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا قَاتَلُوا وَظَهَرَ بَغْيُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ; لِأَنَّ إظْهَارَ الْبَغْيِ وَقِتَالَهُمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَظُهُورُ الْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالزَّانِي

وَالسَّارِقِ فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ فَهَلَّا أَمْضَيْتَ أَحْكَامَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إنَّهُمْ إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَمَّا إذَا قَاتَلُوا فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا سَدِيدٌ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالُوا إنَّ الْخَوَارِجَ إذَا ظَهَرُوا وَأَخَذُوا صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ أَنَّهُ لَا يُعَادُ عَلَى أَرْبَابِهَا، فَجَعَلُوا أَخْذَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ أَهْلِ الْعَدْلِ قِيلَ لَهُ: إنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِ هَؤُلَاءِ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إعَادَتَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنَّمَا أَسْقَطُوا بِهِ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ; لِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْأَخْذِ; لِأَجْلِ حِمَايَتِهِ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْمِهِمْ مِنْ الْبُغَاةِ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ فِي الْأَخْذِ، وَكَانَ مَا أَخَذَهُ الْبُغَاةُ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ فِي بَابِ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا لَوْ مَرَّ رِجْلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْبَغْيِ بِمَالٍ فَعَشَرَهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ إذَا مَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ؟ فَعَلِمْت أَنَّ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَهُمْ كَأَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَإِنَّمَا أَجَازُوا قَضَاءَ قَاضِي الْبُغَاةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي صِحَّةِ نَفَاذِ الْقَضَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَدْلًا فِي نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ تَنْفِيذُ قَضَائِهِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَلِّي لَهُ عَدْلًا أَوْ بَاغِيًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ سُلْطَانٍ فَاتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْهُمْ الْقَضَاءَ كَانَ جَائِزًا وَكَانَتْ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً عَلَيْهِمْ؟ فَكَذَلِكَ الَّذِي وَلَّاهُ الْبُغَاةُ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ عَدْلًا نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ". وَيَحْتَجُّ مَنْ يُجِيزُ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ بِالتَّعْزِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الْحَقِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَجِبُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ إقْلَاعُهُ عَنْهُ وَتَوْبَتُهُ; إذْ كَانَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَلَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ. كَمَا أَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ لَمَّا كَانَ لِلرَّدْعِ وَجَبَ فِعْلُهُ أَنْ يَرْتَدِعُوا وَيَنْزَجِرُوا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا اقْتَصَرَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُتَعَدِّينَ". وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَعْنِي أَنَّهُمْ إخْوَةٌ فِي الدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جِهَةِ الدين. وقوله

تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَجَا صَلَاحَ مَا بَيْنَ مُتَعَادِيَيْنِ مِنْ الْمُومِنِينَ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} نَهَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عَيْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَابَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِقَارِ لَهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ حَالًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ مِنْهُ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: "لَا يَطْعَنُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ بِقَتْلِهِ أَخَاهُ قَاتَلٌ نَفْسَهُ. وَكَقَوْلِهِ {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] يَعْنِي يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَاللَّمْزُ الْعَيْبُ يُقَالُ: لَمَزَهُ إذَا عَابَهُ وَطَعَنَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] قَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ: إذَا لَقِيتُك تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً ... وَإِنْ تَغَيَّبْت كُنْت الْهَامِزَ اللمزه مَا كُنْتُ أَخْشَى وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بِهِ ... حَيْفٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَغْتَابَنِي عَنَزَهْ وَإِنَّمَا نَهَى بِذَلِكَ عَنْ عَيْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، وَلَيْسَ بِمَعِيبٍ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعِيبًا فَاجِرًا فَعَيْبُهُ بِمَا فِيهِ جَائِزٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْحُجَّاجُ قَالَ الْحَسَنُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشُ أُعَيْمِشُ يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ وَاَللَّهِ مَا عَرَقِ فِيهَا عِنَانٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرَجِّلُ جَمَّتَهُ وَيَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْذِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ لَا مِنْ اللَّهِ يَتَّقِي، وَلَا مِنْ النَّاسِ يَسْتَحِيُ فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لَا يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الرَّجُلُ "ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ" هَيْهَاتَ وَاَللَّهُ حَالٌ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفِ وَالسَّوْطُ". وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلِمَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِجْلٍ مُنَازَعَةٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا تَرَى مَا هَهُنَا مِنْ شَيْءٍ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ وَمَا أَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُ إلَّا بِالتَّقْوَى" قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} قَالَ "لَا تَقُلْ; لِأَخِيك الْمُسْلِمِ يَا فَاسِقٌ يَا مُنَافِقٌ" حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسْلِمُ فَيُقَالُ لَهُ يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ دَاوُد عَنْ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَبِيرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ في بني

سَلِمَةَ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مِنَّا رِجْلٌ إلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"يَا فُلَانٌ" فَيَقُولُونَ: مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّقَبَ الْمَكْرُوهَ هُوَ مَا يَكْرَهُهُ صَاحِبُهُ وَيُفِيدُ ذَمًّا لِلْمَوْصُوفِ بِهِ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السِّبَابِ وَالشَّتِيمَةِ فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَوْصَافُ الْجَارِيَةُ غَيْرَ هَذَا الْمَجْرَى فَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ أَفْعَالٍ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خُثَيْمٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنْت أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا وَصَالَحَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَوَادَعَهُمْ، فَقَالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ لَك أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عِيرٍ لَهُمْ نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إلَيْهِمْ سَاعَةً ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ، فَعَمَدْنَا إلَى صُورٍ مِنْ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ مِنْ الْأَرْضِ فَنِمْنَا، فَمَا أَنْبَهَنَا إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا، وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءَ، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "يَا أَبَا تُرَابٍ" لِمَا عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ، فَأَخْبَرَنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى رَجُلَيْنِ؟ " قُلْنَا: مَنْ هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَاَلَّذِي يَضْرِبُك يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا" وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ "حَتَّى تُبَلَّ مِنْهُ هَذِهِ" وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: "مَا كَانَ اسْمٌ أَحَبَّ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُدْعَى بِهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ" فَمِثْلُ هَذَا لَا يُكْرَهُ،; إذْ لَيْسَ فِيهِ ذَمٌّ وَلَا يَكْرَهُهُ صَاحِبُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ"، وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ قَوْمٍ، فَسَمَّى الْعَاصِ عَبْدَ اللَّهِ وَسَمَّى شِهَابًا هِشَامًا وَسَمَّى حَرْبًا سِلْمًا وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ مِنْ الْأَلْقَابِ مَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا" يَعْنِي الصِّغَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذم المذكور ولا غيبته.

مطلب: الظن على أربعة أضرب وقَوْله تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} اقْتَضَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَعْضِ الظَّنِّ لَا عَنْ جَمِيعِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} يَقْتَضِي الْبَعْضَ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ جَمْعَيْهِ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ

لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] وَقَالَ: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] فَالظَّنُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ: مَحْظُورٍ وَمَأْمُورٍ بِهِ وَمَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَمُبَاحٍ فَأَمَّا الظَّنُّ الْمَحْظُورُ فَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ التَّمَّارُ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورٍ الهروي قَالَ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِي عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي النَّصْرِ قَالَ: سَمِعْت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ شُتَيْرٍ يَعْنِي ابْنِ نَهَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ الْعِبَادَةِ"، وَهُوَ مَرْفُوعٌ فِي حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ مَرْفُوعٍ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ. فَحُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ فَرْضٌ وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ وَكَذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ مَحْظُورٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْته وَقُمْت فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَار أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَوْ قَالَ سُوءًا". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ". فَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ، وَهُوَ ظَنُّهُ بِالْمُسْلِمِ سُوءًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُهُ، وَكُلُّ ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَّبِعْ الدَّلِيلَ وَحَصَلَ عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ; وَأَمَّا مَا لَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوَصِّلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ. وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا

قَدْ تَعَبَّدَنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ فَالشَّكَّاكُ فِي الصَّلَاةِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَلَوْ غَلَبَ ظَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا، وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: إنِّي كُنْت نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا بِالْعَالِيَةِ، وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ وَلَا قَبَضْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك، قَالَ: فَقُلْت: إنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَقَالَ: أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّ ذَا بَطْنِ خَارِجَةَ جَارِيَةٌ فَاسْتَجَازَ هَذَا الظَّنَّ لِمَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا" فَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ بِقَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ مِمَّا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ، وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ، هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الظَّنِّ وَاجِبًا قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَهُوَ أَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ شَيْئًا فَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا} حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "إنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ: "لَا تَجَسَّسُوا خُذُوا بِمَا ظَهَرَ لَكُمْ وَدَعُوا مَا سَتَرَ اللَّهُ". فَنَهَى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسِّتْرُ، وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَكْذِيبُ مَنْ قَذَفَهُ بِالظَّنِّ; وَقَالَ تَعَالَى -: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] ; فَإِذَا وَجَبَ تَكْذِيبُ الْقَاذِفِ وَالْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَظْنُونِ، وَعَنْ إظْهَارِهِ. وَنَهَى عَنْ التَّجَسُّسَ بَلْ أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إصْرَارٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الفريابي عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ الْوَلِيدِ: قَالَ أَبُو دَاوُد: وَنَسَبَهُ لَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ إسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ زَائِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُبْلِغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ لَكُمْ" وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ رَأْي عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً" وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَجَمِيعُ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ صَلَاحُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ". وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ; حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: "ذِكْرُك أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: غَيْرُ مُسَدَّدٍ تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ" قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إنْسَانًا آخَرَ فَقَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْت إنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ الصَّامِتِ ابْنِ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا; وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: "فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ " قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ; فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لَصَاحِبِهِ: اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَرْدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ فَسَكَتَ عَنْهُمَا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: "أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ " فَقَالَا: نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ" فَقَالَا:

يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: "فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا! ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُرَّةَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ نَاسًا أَتَوْا ابْنَ سِيرِينَ فَقَالُوا: إنَّا نَنَالُ مِنْك فَاجْعَلْنَا فِي حِلٍّ فَقَالَ: لَا أُحِلُّ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إنِّي أَرَى أَمْرًا أَكْرَهُهُ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أَرَى أَقْوَامًا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَك يَحْفَظُونَ عَلَيْك سَقَطَ كَلَامِك ثُمَّ يَحْكُونَك وَيَعِيبُونَك، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَا يَكْبُرَنَّ هَذَا عَلَيْك، أُخْبِرُك بِمَا هُوَ أَعْجَبُ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: "أَطْمَعْت نَفْسِي فِي جِوَارِ الرَّحْمَنِ وَحُلُولِ الْجِنَانِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النِّيرَانِ وَمُرَافَقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ أُطْمِعْ نَفْسِي فِي السَّلَامَةِ مِنْ النَّاسِ، إنَّهُ لَوْ سَلِمَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ لَسَلِمَ مِنْهُمْ خَالِقُهُمْ الَّذِي خَلَقَهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ خَالِقُهُمْ فَالْمَخْلُوقُ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَسْلَمَ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ الْمُجْبِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عنبسة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ اليمامي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَفَّارَةُ الِاغْتِيَابِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته". وقَوْله تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} تَأْكِيدٌ لِتَقْبِيحِ الْغِيبَةِ. وَالزَّجْرُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ لَحْمَ الْإِنْسَانِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ، فَكَذَلِكَ الْغِيبَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُ أَكْلَ لَحْمِ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ، فَلْتَكُنْ الْغِيبَةُ عَنْكُمْ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْكَرَاهَةِ وَلُزُومِ اجْتِنَابِهِ مِنْ جِهَةِ مُوجِبِ الْعَقْلِ; إذْ كَانَتْ دَوَاعِي الْعَقْلِ أَحَقَّ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ دَوَاعِي الطَّبْعِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ حَتَّى جَعَلَهُ أَخَاهُ، وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّقْبِيحِ وَالزَّجْرِ، فَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَكْذِيبُ قَاذِفِهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِذَلِكَ مَهْتُوكًا فَاسِقًا فَإِنَّ ذِكْرَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ النَّكِيرُ عَلَى قَائِلِهِ. وَوَصْفُهُ بِمَا يَكْرَهُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ. وَالْآخَرُ: وَصْفُ خِلْقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشِينًا عَلَى جِهَةِ الِاحْتِقَارِ لَهُ وَتَصْغِيرِهِ لَا عَلَى جِهَةِ ذَمِّهِ بِهَا وَلَا عَيْبِ صَانِعِهَا عَلَى نَحْوِ مَا رَوَيْنَا عَنْ الْحَسَنِ فِي وَصْفِهِ الْحَجَّاجَ بِقُبْحِ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ وَصْفُ قَوْمٍ فِي الْجُمْلَةِ بِبَعْضِ مَا إذَا وُصِفَ بِهِ إنْسَانٌ بِعَيْنِهِ كَانَ غِيبَةً مَحْظُورَةً، ثُمَّ لَا يَكُونُ غِيبَةً إذَا وُصِفَ بِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ. كَمَا رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً قَالَ: "هَلْ نَظَرْت إلَيْهَا؟ فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا"، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غِيبَةً; وَجَعَلَ وَصْفَ عَائِشَةَ الرَّجُلَ بِالْقِصَرِ

فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا غِيبَةً; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ لَا عَلَى جِهَةِ الْعَيْبِ، وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ صِغَارَ الْعُيُونِ فُطْسَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمِجَانُّ الْمُطْرَقَةُ" فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً، وَإِنَّمَا كَانَ تَعْرِيفًا لَهُمْ صِفَةَ الْقَوْمِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: "الشُّعُوبُ: النَّسَبُ الْأَبْعَدُ، وَالْقَبَائِلُ الْأَقْرَبُ، فَيُقَالُ بَنُو فُلَانٍ وَفُلَانٍ". وقَوْله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} بَدَأَ بِذِكْرِ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَهُمَا آدَم وَحَوَّاءُ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ شُعُوبًا يَعْنِي مُتَشَعِّبِينَ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْأَنْسَابِ كَالْأُمَمِ الْمُتَفَرِّقَةِ نَحْوِ الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَنَحْوِهِمْ. ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ وَهُمْ أَخَصُّ مِنْ الشُّعُوبِ نَحْوُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَبُيُوتَاتِ الْعَجَمِ لِيَتَعَارَفُوا بِالنِّسْبَةِ، كَمَا خَالَفَ بَيْنَ خَلْقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ; لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ; إذْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ; وَلِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يُسْتَحَقُّ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَنَا لِئَلَّا يَفْخَرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِالنَّسَبِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، فَأَبَانَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ وَالرِّفْعَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إلَّا بِالتَّقْوَى". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ "إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ لَا أَعْظَمُكُمْ بيتا". آخر سورة الحجرات.

ومن سورة ق بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قَالَ: "مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ. " وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . رَوَى جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا" ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "صَلَاةُ اللَّيْلِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ. وقَوْله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، قَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ركعتان بعد المغرب {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : "إذَا وَضَعْت جَبْهَتَك عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تُسَبِّحَ ثَلَاثًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ مَنْ ذَكَرْنَا قوله بديا أن قوله: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} أَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} هُوَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَهِيَ الْعَتَمَةُ وَالْمَغْرِبُ، فَوَجَبَ أن يكون قوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} هُوَ الصَّلَاةَ; لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ "فَسَبِّحْهُ"، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّسْبِيحُ فِي دُبُرٍ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَرَوَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُسَبِّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَأَتَى رِجْلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَبِّحُوا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثلاثا

وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَلَوْ جَعَلْتُمُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَاجْعَلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: افْعَلُوا. وَرَوَى سُمَيٌّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ قَالَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، فَقَالَ: "أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إلَّا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ، تُسَبِّحُونَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا وَتَحْمَدُونَ اللَّهَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا". وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أَنَّهُ قَالَ: "تُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ". وَرَوَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُهُ، وَقَالَ: "وَتُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ" وَرَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ: "سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ حُمِلَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوبِ كَانَ قَوْلُهُ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} على صلاة الفجر، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الحسن: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} "صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالْمَغْرِبِ". فَتَكُونُ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةً لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَعَبَّرَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَذْكَارٍ هِيَ تَنْزِيهٌ لله تعالى. آخر سورة ق.

ومن سورة الذاريات بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ: "الْهُجُوعُ النَّوْمُ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا أَقَلَّ لَيْلَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ إلَّا صَلَّوْا فِيهَا". وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ: "لَا يَنَامُونَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا" وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "قَلَّ لَيْلَةٌ تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَا يُصَلُّونَ فِيهَا إمَّا مِنْ أَوَّلِهَا، وَإِمَّا مِنْ أَوْسَطِهَا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانُوا لَا يَنَامُونَ كُلَّ اللَّيْلِ"، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ" وَالْعِشَاءِ " وَرَوَى أَبُو حَيْوَة عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا سَجَدُوا اسْتَغْفِرُوا". وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "كَانُوا لَا يَنَامُونَ عَنْ الْعَتَمَةِ يَنْتَظِرُونَهَا لِوَقْتِهَا"، كَأَنَّهُ جَعَلَ هُجُوعَهُمْ قَلِيلًا فِي جَنْبِ يَقَظَتِهِمْ لِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرْضًا فَنَسَخَ فَرْضَهَا بِمَا نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَرَغَّبَ فِيهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي فَضْلِهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ فِي اللَّيْلِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ". وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قُلْت; لِأَبِي ذَرٍّ: أَيُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "نِصْفُ اللَّيْلِ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيُصَلِّي ثُلُثَ اللَّيْلِ وَيَنَامُ سُدُسَ اللَّيْلِ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال: "ما يرقدون" {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ: "مَدُّوا الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ ثُمَّ جَلَسُوا فِي الدُّعَاءِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: "هُوَ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ". وَقَالَ ابْنُ سيرين: {وفِي

أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} قَالَ: "الصَّدَقَةُ حَقٌّ مَعْلُومٌ". وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ". وَالْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، فَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا عَلَيْهِ، فَذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْر هَذَا؟ قَالَ: لَا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْك فِيهِ". وَرَوَى دَرَّاجٌ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْت الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْك". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ تَأَوَّلَ "حَقًّا مَعْلُومًا" عَلَى الزَّكَاةِ، وَأَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ غَيْرُهَا. وَاحْتَجَّ ابْنُ سِيرِينَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ مَعْلُومٌ وَسَائِرُ الْحُقُوقِ الَّتِي يُوجِبُهَا مُخَالِفُوهُ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ بِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ؟ فَتَلَا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الْآيَةَ. فَذَكَرَ الزَّكَاةَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وآتى المال على حبه} وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا إلَّا بَرَزَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَأُهُ بِأَخْفَافِهَا"، وَذَكَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: "تَمْنَحُ الْغَزِيرَةَ وَتُعْطِي الْكَرِيمَةَ وَتَحْمِلُ عَلَى الظَّهْرِ وَتَسْقِي اللَّبَنَ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمِنْحَتِهَا وَحَلْبُهَا عَلَى الْمَاءِ وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلًا قَالَ "هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمْ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا حَثَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَا مِنْ رِجْلٍ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ إبِلًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا إلَّا جَاءَتْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَأُهُ بِأَخْفَافِهَا كُلَّمَا بَعُدَتْ أُخْرَاهَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ، وَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُ مَا يَلْزَمُ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَى وَالِدَيْهِ إذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ وَعَلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ طَعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَحَمْلُ الْمُنْقَطِعِ بِهِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ عِنْدَمَا يَعْرِضُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَعَائِشَةُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ

وَمُجَاهِدٌ رِوَايَةً وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالنَّخَعِيُّ وَعِكْرِمَةُ "الْمَحْرُومُ الْمُحَارَفُ". وَقَالَ الْحَسَنُ "الْمَحْرُومُ الَّذِي يَطْلُبُ فَلَا يُرْزَقُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَمُجَاهِدٌ: "الْمَحْرُومُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَام سَهْمٌ"، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ "الَّذِي لَا يَنْمُو لَهُ مَالٌ"، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: "الْمَحْرُومُ الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ"، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "الْمَحْرُومُ الْكَلْبُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْكَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عِنْدَهُ بِحَقٍّ مَعْلُومٍ الزَّكَاةَ; لِأَنَّ إطْعَامَ الْكَلْبِ لَا يُجْزِي مِنْ الزَّكَاةِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عِنْدَهُ حَقًّا غَيْرَ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ فِي إطْعَامِ الْكَلْبِ قُرْبَةٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ حَرَّى أَجْرًا، وَإِنَّ رَجُلًا سَقَى كَلْبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ". وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} أَنَّهُ الزَّكَاةُ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَهِيَ حَقٌّ مَعْلُومٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَنْطَوِيَ تَحْتَهَا وَيَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهَا; ثُمَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَأَوَّلَ السَّلَفُ عَلَيْهِ الْمَحْرُومَ مُرَادًا بِالْآيَةِ فِي جَوَازِ إعْطَائِهِ الزَّكَاةَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إذَا وُضِعَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ; لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ دُونَ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ. وَفَرَّقَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَحْرِمُ نَفْسَهُ بِتَرْكِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَقَدْ يَحْرِمُهُ النَّاسُ بِتَرْكِ إعْطَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ فَقَدْ حَرَمَ نَفْسَهُ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، فَسُمِّيَ مَحْرُومًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْرُومًا مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَمِنْ قِبَلِ النَّاسِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا الْمَحْرُومُ. آخِرُ سُورَةِ الذاريات.

وَمِنْ سُورَةِ الطُّورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَمُجَاهِدٌ: "حِينَ تَقُومُ مِنْ كُلِّ مَكَان سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك". وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سُئِلَ الْأَعْمَشُ أَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَسْتَحِبُّ إذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك؟ قَالَ: "مَا كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً". وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ عُمَرَ: "يَعْنِي بِهِ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك، إلَى آخِرِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: "حِينَ تَقُومُ مِنْ مَنَامِك" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، مِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" وَرَوَى عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَ إلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ إسْرَاعَهُ إلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلَا إلَى غَنِيمَةٍ. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاجِبَتَانِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَدَعُوهُمَا فَإِنَّ فِيهِمَا الرَّغَائِبَ" وَقَالَ: "لَا تَدَعُوهُمَا وَإِنْ طَرَقَتْكُمْ الْخَيْلُ". آخِرُ سورة الطور.

ومن سورة النجم بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَا يُجِيزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَوَادِثِ مِنْ جِهَةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، بِقَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا; لِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ إذَا صَدَرَ عَنْ الْوَحْيِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ مُوجِبَهُ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ أَنَّهُ عَنْ وَحْيٍ. وقَوْله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ قَالُوا: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ"; وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْعِلْمِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ: "سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ" وَقِيلَ: "سَمَّيْتُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى; لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ "وَقَالَ الْحَسَنُ: "جَنَّةُ الْمَأْوَى هِيَ الَّتِي يَصِيرُ إلَيْهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ". وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ وَإِلَى الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَآهُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِنَّ عِنْدَهَا جَنَّةَ الْمَأْوَى. وقوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً: لَمْ أَرَ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ، فَإِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَهُوَ الزِّنَا وَوَجَبَ الْغُسْلُ"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: "إنَّ اللَّمَمَ النِّكَاحُ"، وَعَنْهُ أَيْضًا: "إنَّ اللَّمَّةَ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً: "اللَّمَمُ مَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا رِوَايَةً "هُوَ الَّذِي يُلِمُّ بِالْمَرْأَةِ" وَقَالَ عَطَاءٌ: "اللَّمَمُ مَا دُونَ الْجِمَاعِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أَنْ تُصِيبَ الذَّنْبَ ثُمَّ تَتُوبَ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنْ تَغْفِرْ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا" وَيُقَالُ: إنَّ اللَّمَمَ هُوَ الْهَمُّ بِالْخَطِيئَةِ مِنْ جِهَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ بِهَا

مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَيْهَا وَقِيلَ: إنَّ اللَّمَمَ مُقَارِبَةُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِيهِ، يُقَالُ: أَلَمَّ بِالشَّيْءِ إلْمَامًا إذَا قَارَبَهُ وَقِيلَ: إنَّ اللَّمَمَ الصَّغِيرُ مِنْ الذُّنُوب; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] . وقَوْله تَعَالَى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فِي إبْطَالِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} اسْمًا لِلْجِنْسَيْنِ اسْتَوْعَبَ الْجَمِيعَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَأَنَّ الْخُنْثَى وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِهِمَا; وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَ إنَّمَا يَكُونُ مَا دَامَ صَغِيرًا فَإِذَا بَلَغَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ عَلَامَةُ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قوله. آخر سورة النجم.

ومن سورة القمر بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْلِبُ الْعَادَاتِ بِمِثْلِهِ إلَّا لِيَجْعَلَهُ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى انْشِقَاقَ الْقَمَرِ عَشَرَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فِي آخَرِينَ كَرِهْت ذِكْرَ أَسَانِيدِهَا لِلْإِطَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ سَيَنْشَقُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ انْشَقَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا خَفِيَ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ قِيلَ لَهُ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتِهِ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ لَمَا خَفِيَ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ" فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِغَيْمٍ أَوْ يَشْغَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّدْبِيرِ وَلِئَلَّا يَدَّعِيَهُ بَعْضُ الْمُتَنَبِّئِينَ فِي الْآفَاقِ لِنَفْسِهِ، فَأَظْهَرَهُ لِلْحَاضِرَيْنِ عِنْدَ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ وَاحْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْمَاءِ; لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا شِرْبَ الْمَاءِ يَوْمًا لِلنَّاقَةِ وَيَوْمًا لَهُمْ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ سَمَّى ذَلِكَ قِسْمَةً وَإِنَّمَا هِيَ مُهَايَأَةٌ عَلَى الْمَاءِ لَا قِسْمَةُ الْأَصْلِ. وَاحْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةً مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا. آخِرُ سورة القمر.

وَمِنْ سُورَةِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْعَصْفَ التِّبْنُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: "الرَّيْحَانُ الْوَرَقُ"، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ الرَّيْحَانَ الْحَبُّ وَقَالَ الْحَسَنُ: "هُوَ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَادًا; لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الرَّيْحَانِ أَنَّهُ الْمَشْمُومُ، وَلَمَّا عَطَفَ الرَّيْحَانَ عَلَى الْحَبِّ ذِي الْعَصْفِ وَالْعَصْفُ هُوَ سَاقُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّيْحَانَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ وَلَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ سَاقٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ الضَّيْمَرَانِ وَالنَّمَّامِ وَالْآسِ الَّذِي يُخْرِجُ وَرَقُهُ رَيْحَانًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ذَا سَاقٍ; لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} مُرَادُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، وَإِنَّمَا أُرْسِلَ مِنْ الْإِنْسِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "الْمَرْجَانُ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ" وَقِيلَ: "الْمَرْجَانُ الْمُخْتَلِطُ مِنْ الْجَوَاهِرِ، مِنْ مَرَجْت أَيْ خَلَطْت" وَقِيلَ: "إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ كَالْقُضْبَانِ يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ". وَقِيلَ: إنَّمَا قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} لِأَنَّ الْعَذْبَ وَالْمِلْحَ يَلْتَقِيَانِ فَيَكُونُ الْعَذْبُ لِقَاحًا لِلْمِلْحِ، كَمَا يُقَالُ يَخْرُجُ الْوَلَدُ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَإِنَّمَا تَلِدُهُ الْأُنْثَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا جَاءَ الْقَطْرُ مِنْ السَّمَاءِ تَفَتَّحَتْ الْأَصْدَافُ فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ". وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، رُوِيَ أَنَّهَا تَحْمَرُّ وَتَذُوبُ كَالدُّهْنِ، رُوِيَ أَنَّ سَمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حَدِيدٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صَارَتْ مِنْ الْخُضْرَةِ إلَى الِاحْمِرَارِ مِنْ حَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ كَالْحَدِيدِ إذَا أُحْمِيَ بِالنَّارِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} ; قِيلَ فِيهِ: لَا يُسْأَلُ سُؤَالَ اسْتِفْهَامٍ لَكِنْ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ وَتَوْقِيفٍ وَقِيلَ فِيهِ: لَا يُسْأَلُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالٍ حُضُورِهِمْ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الدَّهَشِ وَالذُّهُولِ ثُمَّ يُسْأَلُونَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وقَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الرُّطَبَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا مِنْ الْفَاكِهَةِ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى غَيْرِهِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ. وَمَفْهُومُهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ انْفَرَدَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّعْظِيمِ وَغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . آخِرُ سُورَةِ الرَّحْمَنِ.

وَمِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . رُوِيَ عَنْ سَلْمَانُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ" فَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ قَالَ: فَقَالَ لِأُخْتِهِ: أَعْطَوْنِي الْكِتَابَ الَّذِي كُنْتُمْ تَقْرَءُونَ فَقَالَتْ: إنَّك رِجْسٌ، وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقُمْ فَاغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ; وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ بِالْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ مَسَّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْقُرْآنُ الَّذِي فِي اللَّوْحِ المحفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ: "هُوَ فِي كِتَابِ مَكْنُونٍ لَيْسَ أَنْتُمْ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ"، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ "الْمُطَهَّرُونَ الْمَلَائِكَةُ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "لَا يَمَسُّهُ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَمَسُّهُ الْمَجُوسِيُّ وَالنَّجِسُ وَالْمُنَافِقُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَبَرِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقُرْآنَ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ وَالْمُطَهَّرُونَ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى النَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ كَانَ عُمُومًا فِينَا; وَهَذَا أَوْلَى; لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارٍ مُتَظَاهِرَةٍ أَنَّهُ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْن حَزْمٍ: "وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ" فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ ذَلِكَ بِالْآيَةِ; إذْ فِيهَا احتمال له. آخر سورة الواقعة.

ومن سورة الحديد بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فَصْلُ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِيهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ عَظِيمٌ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: "هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبَانَ عَنْ فَضِيلَةِ الْإِنْفَاقِ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِعِظَمِ عَنَاءِ النَّفَقَةِ فِيهِ وَكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ; وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَشَدَّ عَلَى النَّفْسِ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ الْكُفَّارِ مَعَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَلِلسَّبْقِ إلَى الطَّاعَةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] ؟ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا. وقَوْله تَعَالَى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} الْآيَةَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَعَاصِي وَمُسَاكَنَتَهَا وَأُلْفَهَا تُقَسِّي الْقَلْبَ وَتُبْعِدُ مِنْ التَّوْبَةِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ" لهذه الآية وجعل قوله: {وَالشُّهَدَاءُ} صِفَةً لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ; وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو الضُّحَى وَالضَّحَّاكُ: "هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وخبره: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَ عَمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْقُرَبِ وَالرَّهْبَانِيَّة، ثُمَّ ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ رِعَايَتِهَا بقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} . وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ مَا يُنْذِرُهُ وَيُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَعُمُومُهُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَعَ قُرْبَةً قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فَعَلَيْهِ رِعَايَتُهَا، وَإِتْمَامُهَا، فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي

صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرَبِ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا إلَّا وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: "كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَابَهُمْ الله بتركها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الآية". آخر سورة الحديد.

مِنْ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قلابة قَالَ: "كَانَ طَلَاقُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ جَعَلَ اللَّهُ فِي الظِّهَارِ مَا جَعَلَ فِيهِ، وَجَعَلَ فِي الْإِيلَاءِ مَا جَعَلَ فِيهِ. " وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "كَانَتْ النِّسَاءُ تُحَرَّمُ بِالظِّهَارِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الْآيَةَ". وَأَمَّا الْمُجَادَلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} : "فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا خويلة" وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بِنْتُ ثَعْلَبَةَ وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، قَالَتْ إنَّ زَوْجَهَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ" وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، فَقَالَتْ: اُنْظُرْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ" فَأَعَادَتْ ذَلِكَ مِرَارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ قَتَادَةُ: "حَرَّمَهَا ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ لَهَا فَيَطَأَهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا أَرَاك إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ; وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ وَرَفْعُ النِّكَاحِ; وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ فِيهَا بِالطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ" فَكَيْفَ حَكَمَ فِيهَا بِعَيْنِهَا بِالظِّهَارِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالطَّلَاقِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ؟ وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فِي الْمَاضِي قِيلَ لَهُ: لَمْ

يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ" فَلَمْ يَقْطَعْ بِالتَّحْرِيمِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ أَعْلَمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ سَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ وَيَنْقُلَهُ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى تَحْرِيمِ الظِّهَارِ الْآنَ، فَجَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْآيَةَ فَلَمْ يُثْبِتْ الْحُكْمَ فِيهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ حَكَمَ فِيهَا بِمُوجِبِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} ، يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي تَشْبِيهِهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأُمِّ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَهِيَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا. وقَوْله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وَلَمْ يُخَصِّصْ الْمَذْكُورِينَ فِي الثَّانِيَةِ قِيلَ لَهُ: الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ: "الْوَطْءُ، فَإِذَا حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ" وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: "إذَا تَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ لَزِمَهُ" وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ" وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَتَادَةَ: "إذَا أَرَادَ جِمَاعَهَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ". وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مَعْنَى الْعَوْدِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْكَفَّارَةُ" وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَهُمْ اسْتِبَاحَةُ وَطْئِهَا فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا. وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "لَوْ وَطِئَهَا ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ"، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا أَجْمَعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَلَمْ يُجْمِعْ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ". وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ وَطِئَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّهُ وَطِئَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا أَجْمَعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا وَطَلَبَ الْكَفَّارَةَ فَمَاتَتْ امْرَأَتُهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "إذَا أَجْمَعَ رَأْيُ الْمَظَاهِرِ عَلَى أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ; لِأَنَّ العود

هُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُجَامَعَتِهَا". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا قَالَ: "أَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ رَاجَعَهَا أَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَصِلْ إلَى مِيرَاثِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ فَلَمْ يُطَلِّقْ فَقَدْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مَاتَتْ أَوْ عَاشَتْ". وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يُعَدُّ خِلَافًا أَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُعِيدَ الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ أَنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ خَوْلَةَ حِينَ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ فَقَالَ: لَا أَجِدُ، فَقَالَ: "صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ: لَوْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَادَ أَنْ يُغْشَى عَلَى بَصَرِي، فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْعَزْمَ عَلَى إمْسَاكِهَا وَوَطْئِهَا; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إرَادَةَ الْجِمَاعِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الطَّلَاقَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَلْ طَلَّقْتهَا، وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إعَادَةَ الْقَوْلِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ أَعَدْت الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ; فَثَبَتَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الظِّهَارِ يُوجِبُ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ. وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ الْحَالِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الظِّهَارُ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} قَبْلَ هَذِهِ الْحَالِ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وَالْمَعْنَى: وَيَعُودُونَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس: 46] وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ، فَيَكُونُ نَفْسُ الْقَوْلِ عَوْدًا إلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] . وَالْمَعْنَى: حَتَّى صَارَ كَذَلِكَ، وَكَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: هَذِي الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا مَعْنَاهُ: صَارَا كَذَلِكَ; لِأَنَّهُمَا فِي الثَّدْيِ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ وَكَمَا قَالَ لَبِيدٌ: وَمَا الْمَرْءُ إلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ وَيَحُورُ يَرْجِعُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هَهُنَا يَصِيرُ رَمَادًا. كَذَلِكَ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إلَى حَالِ الظِّهَارِ الَّذِي كَانَ يَكُونُ مِثْلُهُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي الظِّهَارِ إيجَابُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ مُوَقَّتًا بِالْكَفَّارَةِ، فَإِذَا كَانَ الظِّهَارُ مَخْصُوصًا بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ هُوَ الْعَوْدَ إلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ بِالظِّهَارِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: يَعُودُونَ لَلْمَقُولِ فِيهِ، كقوله عليه

السَّلَامُ: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ فِي الْمَوْهُوبِ، وَكَقَوْلِنَا: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَجَاؤُنَا، أَيْ مَنْ رَجَوْنَا; وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يَعْنِي: الْمُوقِنَ بِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَخْبِرْ مَنْ لَاقَيْت أَنْ قَدْ وَفَيْتُمْ ... وَلَوْ شِئْت قَالَ الْمُنَبِّئُونَ أَسَاءُوا وَإِنِّي لَرَاجِيكُمْ عَلَى بُطْءِ سَعْيِكُمْ ... كَمَا فِي بُطُونِ الْحَامِلَاتِ رَجَاءُ يَعْنِي مَرْجُوًّا وكذلك قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} مَعْنَاهُ: لِمَا حَرَّمُوا، فَيَسْتَبِيحُونَهُ فَعَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الِاسْتِبَاحَةِ وَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ وَالْإِمْسَاكَ فَيَكُونُ الْعَوْدُ إمْسَاكُهَا عَلَى النِّكَاحِ; لِأَنَّ الْعَوْدَ لَا مَحَالَةَ قَدْ اقْتَضَى عَوْدًا إلَى حُكْمِ مَعْنًى قَدْ تَقَدَّمَ إيجَابُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمْسَاكِ عَلَى النِّكَاحِ فِيهِ تَأْثِيرٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ يَعُودُونَ} وَ "ثُمَّ" يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ فَقَدْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقَوْلِ بِلَا تَرَاخٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الْوَطْءِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَيْضًا; لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَوْلِ هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا تَحْرِيمُ الْعَزِيمَةِ، وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الْمَحْظُورِ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً فَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حُكْمُهَا بِالْوَطْءِ، فَالْعَزِيمَةُ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا حُكْمَ لَهَا، وَأَيْضًا لَا حَظَّ لِلْعَزِيمَةِ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ، وَالتَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزِيمَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا؟ وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ". فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ الْعَوْدُ إعَادَةَ الْقَوْلِ مَرَّتَيْنِ; لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وَمَعْنَاهُ لَفَعَلُوا مِثْلَ مَا نُهُوا عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا قَدْ انْعَقَدَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَقَائِلُهُ خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجْعَلُ قَوْلَهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} تَكْرَارًا لِلْقَوْلِ وَاللَّفْظِ مَرَّتَيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ ثُمَّ يُكَرِّرُونَ الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ، فَفِيهِ إثْبَاتُ مَعْنًى لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ. وَإِنْ حَمَلْته عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ لِمِثْلِ الْقَوْلِ فَفِيهِ إضْمَارٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَالْقَائِلُ بِذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَمُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: وَأَنْتَ إذَا حَمَلْتَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَأَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَقَدْ زُلْتَ عَنْ الظَّاهِرِ قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الظِّهَارُ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ فَاَلَّذِي يَسْتَبِيحُهُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ بِالْقَوْلِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَوْدًا لِمَا قَالَ; إذْ هُوَ مُسْتَبِيحٌ لِذَلِكَ الْوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ بِعَيْنِهِ وَكَانَ عَوْدًا لِمَا قَالَ مِنْ إيجَابِ التَّحْرِيمِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْوَطْءَ إذَا

كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَحُكْمَ الْوَطْءِ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ حَرَّمَهُ بِالظِّهَارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْدَامُ عَلَى اسْتِبَاحَتِهِ عَوْدًا لِمَا حَرَّمَ فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُطَابِقًا لِلَّفْظِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَتْ الِاسْتِبَاحَةُ هِيَ الْمُوجِبَةَ لِلْكَفَّارَةِ فَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الِاسْتِبَاحَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ إيقَاعِ الْوَطْءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ فَهَذَا يُلْزِمُك إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِنَفْسِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْوَطْءِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إيقَاعَ الْوَطْءِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ، وَهَذَا خِلَافُ الْآيَةِ، وَلَيْسَ هُوَ قَوْلُك أَيْضًا. قِيلَ لَهُ: الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ، فَقِيلَ لَهُ: إذَا أَرَدْت الْوَطْءَ وَعُدْت لِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمْته فَلَا تَطَأُ حَتَّى تُكَفِّرَ، لَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّهَا شَرْطٌ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [لنحل:98] يَعْنِي فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَقَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَالْمَعْنَى: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَقَدِّمُوا الْغَسْلَ. وَقَوْلِهِ: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] . وَكَقَوْلِهِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، وَالْمَعْنَى: إذَا أَرَدْتُمْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً، وَإِنَّمَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ، وَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ وَطْأَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ عَاشَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ; إذْ كَانَ حُكْمُ الظِّهَارِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ فَقَطْ مُوَقَّتًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُكَفِّرْ فَالْوَطْءُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ فَإِنْ وَطِئَ سَقَطَ الظِّهَارُ وَالْكَفَّارَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ حُكْمَ الظِّهَارِ وَمَا أَوْجَبَ بِهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِأَدَائِهَا قَبْلَ الْوَطْءِ لِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، فَمَتَى وَقَعَ الْمَسِيسُ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْآيَةِ; لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ أَوْ مُعَلَّقٍ عَلَى شَرْطٍ فَإِنَّهُ مَتَى فَاتَ الْوَقْتُ وَعَدِمَ الشَّرْطُ لَمْ يَجِبْ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَاحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ مِثْلِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي. فَهَذَا حُكْمُ الظِّهَارِ إذَا وَقَعَ الْمَسِيسُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: "اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ" فَصَارَ التَّحْرِيمُ الَّذِي بَعْدَ الْوَطْءِ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ وَطِئَ مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بَعْدَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: "لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ فِي آخَرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ

وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ "عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ". قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي فَجَامَعْتهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ؟ فَقَالَ: "اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ" فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ بَعْدَ الْوَطْءِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ الظِّهَارِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ بَطَلَ الظِّهَارُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ"، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَحْرِيمُ الظِّهَارِ لَا يَقَعُ إلَّا مُوَقَّتًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ الْمُظَاهِرُ وَجَبَ تَوْقِيتُهُ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا لَا يتوقت لَمَا انْحَلَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بِالتَّكْفِيرِ كَالطَّلَاقِ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارُ الْيَمِينَ الَّتِي يُحِلُّهَا الْحِنْثُ، فَوَجَبَ تَوْقِيتُهُ كَمَا يتوقت الْيَمِينُ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ; لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّهُ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ يَقَعُ مُوَقَّتًا بِالزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا يتوقت بِتَوْقِيتِ الزَّوْجِ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ قِيلَ لَهُ: إنَّ الطَّلَاقَ لَا يتوقت بِالزَّوْجِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ وَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ. وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ طَلَاقًا غَيْرَهَا، فَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ تَوْقِيتٌ بِحَالٍ، وَالظِّهَارُ مُوَقَّتٌ لَا مَحَالَةَ بِالتَّكْفِيرِ فَجَازَ تَوْقِيتُهُ بِالشَّرْطِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ إيلَاءٌ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيّ "لَا يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَإِنْ طَالَ تَرْكُهُ إيَّاهَا" وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ "لَا يَدْخُلُ عَلَى حُرٍّ إيلَاءٌ فِي ظِهَارٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَارَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ ظِهَارِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ على ظهاره إيلاء". وقال ابن القاسم عنه" يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ إذَا كَانَ مُضَارًّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ ظِهَارِهِ. "وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى ظِهَارِهِ إيلَاءٌ. وَقَالَ ابن القاسم عنه" يدخل الإيلاء على الظهار إذَا كَانَ مُضَارًّا وَمِمَّا يُعْلَمُ بِهِ ضِرَارُهُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْكَفَّارَةِ فَلَا يُكَفِّرُ فَإِنَّهُ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ وُقِفَ مِثْلُ الْمُولِي فَإِمَّا كَفَّرَ، وَإِمَّا طَلُقَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ". وَرُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَدْخُلُ عَلَى الظِّهَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ الظِّهَارُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا صَرِيحًا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الطَّلَاقِ بِهِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" وَمَنْ أَدْخَلَ الْإِيلَاءَ عَلَى الْمُظَاهِرِ فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَيْضًا نَصَّ اللَّهُ عَلَى حُكْمِ الْمُولِي بِالْفَيْءِ أَوْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ. وَنَصَّ عَلَى حُكْمِ الْمُظَاهِرِ بِإِيجَابِ كَفَّارَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ; إذْ مِنْ حُكْمِ الْمَنْصُوصَاتِ أَنْ لَا يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُجْرًى عَلَى بَابِهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ وُقُوعُ الْحِنْثِ وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالْوَطْءِ فَلَيْسَ هُوَ إذًا فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ وَلَا فِي حُكْمِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُولَى سَوَاءٌ قَصَدَ الضِّرَارَ أَوْ لم يقصد

لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْصِدْ الضِّرَارَ بِالظِّهَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، وَإِنْ قَصَدَ الضِّرَارَ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ; لِأَنَّ نَفْسَ الْإِيلَاءِ يُنْبِئُ عن قصد الضرار. فإذ هُوَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ. قِيلَ لَهُ: الظِّهَارُ قَصْدٌ إلَى الضِّرَارِ مِنْ حَيْثُ حَرَّمَ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ الْمُضَارَّةِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ فَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمَةٍ ظِهَارٌ" وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالُوا: "هُوَ ظِهَارٌ". وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَقَالُوا: "يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْ أَمَتِهِ كَمَا هُوَ مِنْ زَوْجَتِهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إنْ كَانَ يَطَأُهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطَأُهَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْصَرِفُ مِنْ الظِّهَارِ إلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] الْحَرَائِرَ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ: {أَوْ ما ملكت أيمانهن} عَلَيْهِ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ، فَكَانَ عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الظِّهَارِ مَأْخُوذًا مِنْ الْآيَةِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهَا مَقْصُورًا عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، لَمْ يَجُزْ إيجَابُهُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ ظِهَارٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، فَأَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْأَمَةِ لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَالْأَمَةُ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَتَى حَرَّمَهَا بِالْقَوْلِ لَمْ تَحْرُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْيَمِينِ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا; إذْ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا مِنْ جِهَةِ القول.

فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الْأُمِّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا" "هُوَ مُظَاهِرٌ، وَإِنْ قَالَ كَظَهْرِ فُلَانَةَ وَلَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا"، وَهُوَ

قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقَالَ مَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "يَصِحُّ الظِّهَارُ بِالْمُحَرَّمِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ" وَلِلشَّافِعِيَّ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْأُمِّ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ يَصِحُّ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا صَحَّ الظِّهَارُ بِالْأُمِّ وَكَانَتْ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ كَالْأُمِّ فِي التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ الظِّهَارُ بِهِنَّ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُنَّ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الظِّهَارَ بِالْأُمِّ مِنْ الرَّضَاعَةِ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَرُوِيَ نَحْوَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ "إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَنْسَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ إنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ الْأُمِّ" وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} اقْتَضَى ظَاهِرُهُ الظِّهَارَ بِكُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ الْأُمَّ دُونَ غَيْرِهَا وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْأُمِّ فَقَدْ خَصَّ بِلَا دَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الظِّهَارَ بِالْأُمِّ قِيلَ لَهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْأُمَّهَاتِ; لِأَنَّهُنَّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِنَّ حَدُّ الْآيَةِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يكون قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} عُمُومًا فِي سَائِرِ مَنْ أَوْقَعَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِهَا مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ; لِأَنَّهُ قَدْ نَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَلْزَمَهُ حُكْمَ الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ هَذَا الْحُكْمَ; لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ بِأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الظِّهَارِ بِسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ; لِأَنَّهُ إذْ ظَاهَرَ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَيْسَتْ هِيَ أُخْتَهُ وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا. فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُك عَلَى هَذَا إيجَابُ الظِّهَارِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ; لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِدَلَالَةِ فَحْوَاهَا عَلَى جَوَازِ الظِّهَارِ بِسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُنَّ; وَلِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُفِيدًا لِلتَّحْرِيمِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ; لِجَوَازِ أَنْ يَمْلِكَ بُضْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَتَكُونَ مِثْلَهَا وَفِي حُكْمِهَا. وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ يَقُولَ أَنْتِ عَلَيَّ كَمَتَاعِ فُلَانٍ أَوْ كَمَالِ فُلَانٍ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَمْلِكُهُ بِحَالٍ فَيَسْتَبِيحُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الظَّهْرِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا" إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّيِّ أَوْ كَرَأْسِهَا أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَإِنْ قَالَ كَبَطْنِهَا أو كفخذها

وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مُظَاهِرًا; لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالظَّهْرِ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ "قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأُمِّ" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ" إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّيِّ أَوْ كَيَدِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ; لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ نَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى حُكْمِ الظِّهَارِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي" وَالظَّهْرُ مِمَّا لَا يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ مَا لَا يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَيْهِ فِي حُكْمِهِ، وَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِهِ; إذْ لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مِنْ الْأُمِّ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الظِّهَارُ بِهِ; إذْ كَانَ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا، وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ لَهُ اسْتِبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَشْبَهَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَيْهَا مِثْلَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُحَرِّمُهُ الظِّهَارُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: "لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ" وَقَالَ عَطَاءٌ: "يَجُوزُ أَنْ يُقَبِّلَ أَوْ يُبَاشِرَ; لأنه قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} " وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الْوُقُوعُ نَفْسُهُ" وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَقْرَبُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ". وَقَالَ مَالِكٌ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: "لَا يَنْظُرُ إلَى شَعْرِهَا وَلَا صَدْرِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْعُوهُ إلَى خَيْرٍ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "يَأْتِيهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْجِمَاعِ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يَحِلُّ لَهُ فَوْقَ الْإِزَارِ كَالْحَائِضِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُمْنَعُ الْقُبْلَةَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي حَظْرِ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمَسِيسِ مِنْ لَمْسٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَأَيْضًا لما قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَأَلْزَمَهُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ لَتَشْبِيهِهِ بِظَهْرِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عَامًّا فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالْجِمَاعِ كَمَا أَنَّ مُبَاشَرَةَ ظَهْرِ الْأُمِّ وَمَسَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: "فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ" ; وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: "لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ"، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمَسِيسَ وَالْقُبْلَةَ.

فِي ظِهَارِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا"، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهَا

إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَظَهْرِ أَخِي كَانَتْ مُظَاهِرَةً مِنْ زَوْجِهَا، قَالَ عَلِيٌّ: فَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، فَأَتَيْتُ أَبَا يُوسُفَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَوْلَيْهِمَا فَقَالَ: هَذَانِ شَيْخَا الْفِقْهِ أَخْطَئَا، هُوَ تَحْرِيمٌ، عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَقَوْلِهَا أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ "هِيَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "تُعْتِقُ رَقَبَةً وَتُكَفِّرُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَكَفَّرَتْ يَمِينًا رَجَوْنَا أَنْ يُجْزِيَهَا". وَرَوَى مُغِيرَةٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: خَطَبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ فَقَالَتْ: هُوَ عَلَيْهَا كَظَهْرِ أَبِيهَا إنْ تَزَوَّجْته، فَلَمَّا وَلِيَ الْإِمَارَةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا، فَأَرْسَلَتْ تَسْأَلُ وَالْفُقَهَاءُ يَوْمِئِذٍ بِالْمَدِينَةِ كَثِيرٌ، فَأَفْتُوهَا أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً وَتَزَوَّجَهَا; وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ زَوْجِهَا يَوْمَ قَالَتْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَمْلِكُ نَفْسَهَا حِينَ قَالَتْ مَا قَالَتْ وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهَا إذَا قَالَتْ: "إنْ تَزَوَّجْته فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي" كَانَتْ مُظَاهِرَةً، وَلَوْ قَالَتْ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ كَانَ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا تَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: "أَنْتِ طَالِقٌ" لَا يَكُونُ غَيْرَ طَالِقٍ، كَذَلِكَ ظِهَارُهَا لَا يَلْزَمُهَا بِهِ شَيْءٌ. وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا ظِهَارٌ بِهَذَا الْقَوْلِ; لِأَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا بِالْقَوْلِ وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ; إذْ كَانَ مَوْضُوعًا لِتَحْرِيمٍ يَقَعُ بِالْقَوْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيُّ: "لَيْسَ بِشَيْءٍ"، وَقَالَ مَالِكٌ: "هُوَ مُظَاهِرٌ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالظِّهَارِ فِيمَنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَى ظَهْرِهَا بِحَالٍ، وَهُوَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِ أَبِيهِ وَالْأَبُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَوْ قَالَ: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ" لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْأَبِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: "عَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَرَادَ التَّكْرَارَ فَتَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ" وَقَالَ مَالِكٌ: "مَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ ظَاهَرَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَقَاعِدَ شَتَّى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ أَنَّ الظِّهَارَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمٍ تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ أَنْ تَجِبَ بِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا أَرَادَ التَّكْرَارَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ; لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِمَا أَرَادَ مِنْ التَّكْرَارِ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يَقْتَضِي إيجَابَ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ ظَاهَرَ مِرَارًا; لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ دُونَ المرار

الْكَثِيرَةِ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ مُتَعَلِّقَةً بِحُرْمَةِ اللَّفْظِ أَشْبَهَ الْيَمِينَ، فَمَتَى حَلَفَ مِرَارًا لَزِمَتْهُ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] مُوجِبًا لِلِاقْتِصَارِ بِالْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ عَلَى كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُظَاهِرِ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ" وَذَكَرَ الطحاوي عَنْ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: سَأَلْت الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ عَنْ رِجْلٍ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَلَمْ يُكَفِّرْ تَهَاوُنًا، قَالَ: تَسْتَعِدِّي عَلَيْهِ; قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ، فَقَالَ: تَسْتَعِدِّي عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ: "عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا وَيَحُولُ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا" وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالتَّكْفِيرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَصْحَابُنَا: "يُجْبَرُ عَلَى جِمَاعِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ أَبَى ضَرَبَتْهُ رَوَاهُ هِشَامٌ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ لِيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْجِمَاعِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ عَنْ الظِّهَارِ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْحَسَنِ: "يُجْزِي الْكَافِرَ"، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: "أَنَّهُ لَا يُجْزِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا الرَّقَبَةَ الْمُؤْمِنَةَ"، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَقْتَضِي جَوَازَ الْكَافِرَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُظَاهِرِ: "أَعْتِقْ رَقَبَةً" وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْإِيمَانَ، وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهَا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ; وَلِأَنَّ فِيهِ إيجَابَ زِيَادَةٍ فِي النَّصِّ وَذَلِكَ عِنْدَنَا يُوجِبُ النَّسْخَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ رَقَبَةٍ لِلْخِدْمَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا أَوْ كَانَ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ"، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "مَنْ لَهُ خَادِمٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَلَهُ أن يصوم"، قال الله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} . فَأَوْجَبَ الرَّقَبَةَ بَدِيًّا عَلَى وَاجِدِهَا وَنَقَلَهُ إلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا وَاجِدًا لَهَا لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِاسْتِبْقَاءِ الْمَاءِ وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ عِتْقُ هَذِهِ الرَّقَبَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ وَاجِدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا:

"لَا يَجُوزُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ قَدْ أَدَّى شَيْئًا عَنْ الْكِتَابَةِ، وَلَا الْمُدَبَّرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوِيهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ" وَقَالَ زُفَرُ: "لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا". وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا مُعْتَقٌ إلَى سِنِينَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "يُجْزِي الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "يُجْزِي أَنْ يَشْتَرِيَ أَبَاهُ فَيُعْتِقَهُ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِي مَنْ إذَا اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ،" يُجْزِي الْمُدَبَّرُ وَلَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، وَيُجْزِي الْمُعْتَقُ إلَى سِنِينَ وَلَا تُجْزِي أُمُّ الْوَلَدِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْزِيَانِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَحَقَّا الْعِتْقَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا ثَبَتَ لَهُمَا مِنْ حَقِّ الْعَتَاقِ يَمْنَعُ بَيْعَهُمَا وَلَا يَصِحُّ فَسْخُ ذَلِكَ عَنْهُمَا؟ فَمَتَى أَعْتَقَهُمَا فَإِنَّمَا عَجَّلَ عِتْقًا مُسْتَحَقًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ قَالَ لَهُ الْمَوْلَى: "أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ"; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ بِهَذَا الْقَوْلِ يَمْنَعُ بَيْعَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؟ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ وَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا فَقَدْ أَسْقَطَ الْمَالَ فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى شَيْئًا لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَنْفَسِخُ بِعِتْقِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عَنْ عِتْقِهِ بَدَلَ فَلَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ فَإِنَّهُ يُجْزِي إذَا نَوَى; لِأَنَّ قَبُولَهُ لِلشِّرَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَاهُ: يُعْتِقُهُ بِشِرَائِهِ إيَّاهُ، فَجَعَلَ شِرَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "أَنْتَ حُرٌّ" فَأَجْزَأَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ" وَقَالَ مَالِكٌ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ، وَهُوَ مُدَّانِ إلَّا ثُلُثًا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَأَمَّا الشَّعِيرُ فَإِنْ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ بَلَدِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا طَعَامَ أَهْلِ الْبَلَدِ أَطْعَمَهُمْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَطًا مِنْ شِبَعِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ حِنْطَةٌ أَوَشَعِيرٌ أَوْ أُرْزٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ أَقِطٌ، وَذَلِكَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْتَبَرُ مُدٌّ أُحْدِثَ بَعْدَهُ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْبَارِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا

ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: كُنْت امْرَأً أُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ ظِهَارِهِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "حَرِّرْ رَقَبَةً"، فَقُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي، قَالَ: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قَالَ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ "فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا"، قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ وَمَا لَنَا طَعَامٌ قَالَ: "فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْك فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُك بَقِيَّتَهَا". فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ مَالِك بْنِ ثَعْلَبَةَ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرِيهِ فَلْيَذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ فَلْيَأْخُذْهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ خَوْلَةَ: أَنَّ زَوْجَهَا ظَاهَرَ مِنْهَا فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَيْنَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى خَبَرِك وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زَيْدَانَ زَوْجُ خَوْلَةَ ظَاهَرَ مِنْهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَانَهُ بِبَعْضِ الْكَفَّارَةِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَ زَوْجَهَا حِينَ ظَاهَرَ مِنْهَا بِعِذْقِ مِنْ تَمْرٍ وَأَعَانَتْهُ هِيَ بِعِذْقٍ آخَرَ، وَذَلِكَ سِتُّونَ صَاعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَصَدَّقْ بِهِ". اخْتَلَفُوا فِي الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجَامِعُ حَتَّى يُطْعِمَ إذَا كَانَ فَرْضُهُ الطَّعَامَ" وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ عَنْ الثَّوْرِيِّ: "أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا". وَرَوَى الْمُعَافَى وَالْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ: "أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُطْعِمَ"، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُظَاهِرِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَجْزَهُ عَنْ الصِّيَامِ: "ثُمَّ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ" وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِ الرَّقَبَةِ وَجَبَ بَقَاءُ حَظْرِهِ إذَا عَجَزَ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَجِدَ الرَّقَبَةَ قَبْلَ الْإِطْعَامِ فَيَكُونَ الْوَطْءُ وَاقِعًا قَبْلَ الْعِتْقِ.

باب كَيْفَ يُحَيِّي أَهْلَ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} . رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ; إذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ"؟ قَالُوا سَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: "قَالَ سَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ". وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْك أَيْ عَلَيْك مَا قُلْتَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ السَّامُ أَنَّكُمْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَوْتَ; لِأَنَّ السَّامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "نَرَى أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْمُشْرِكِ السَّلَامَ وَلَا نَرَى أَنْ نَبْدَأَ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْن مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: صَحِبْنَا عَبْدَ اللَّهِ فِي سَفَرٍ وَمَعَنَا أُنَاسٌ مِنْ الدَّهَاقِينِ، قَالَ: فَأَخَذُوا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ هَذَا تَكْرَهُ؟ قَالَ: إنَّهُ حَقُّ الصُّحْبَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ; لِأَنَّ الرَّدَّ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الِابْتِدَاءَ; لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِكَرِهِ أَنْ نَبْدَأَ بِهِ الْكَافِرَ; إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا، وَلَا يُكْرَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَأَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قَالَ: قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ: أَخْتَلِفُ إلَى طَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَتْ لَك إلَيْهِ حَاجَةٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} قَالَ قَتَادَةُ: "كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُمْ تَفَسَّحُوا" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُوَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ". قَالَ قتادة: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قَالَ: "إذَا دُعِيتُمْ إلَى خَيْرٍ" وَقِيلَ: اُنْشُزُوا أَيْ ارْتَفِعُوا فِي الْمَجْلِسِ; وَلِهَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ; لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالرِّفْعَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ

عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَرْفَعُ مَجْلِسَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ لَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ فَضْلَهُمْ وَمَنْزِلَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" فَرَتَّبَ أُولِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ; إذْ جَعَلَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الَّتِي تَلِي النُّبُوَّةَ. وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: "إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ فَكُنْتُ إذَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ نُسِخَتْ". وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} كَفَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الْآيَةَ. فَوَسَّعَ لَهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ أَمَامَ مُنَاجَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَجِدُ. وَالثَّانِي: الرُّخْصَةُ فِي الْمُنَاجَاةِ لِمَنْ لَا يَجِدُ الصَّدَقَةَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تجدوا فإن الله غفور رحيم} ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الصَّدَقَةَ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الصَّدَقَةِ أَمَامَ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الْآيَةَ، قَالَ عَلِيٌّ: "مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي حَتَّى نُسِخَتْ وَمَا كَانَتْ إلَّا سَاعَةً". قَوْله تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمُحَادَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ وَحَيِّزٍ غَيْرِ حَدِّ صَاحِبِهِ وَحَيِّزِهِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلِ الْحَرْبِ; لِأَنَّهُمْ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّنَا، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ مُنَاكَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ; لِأَنَّ الْمُنَاكَحَةَ تُوجِبُ الْمَوَدَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] آخر سورة المجادلة.

وَمِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "أَوَّلُ الْحَشْرِ جَلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْيَهُودِ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى خَيْبَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الشَّامِ" وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ فَأَجْلَاهُمْ إلَى الشَّامِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِلُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا الْحَلْقَةَ، وَالْحَلْقَةُ السِّلَاحُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْجَلَاءِ عَنْ دِيَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ وَلَا اسْتِرْقَاقٍ وَلَا دُخُولٍ فِي الذِّمَّةِ وَلَا أَخْذَ جِزْيَةٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ; أَوْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ; فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَإِدْخَالِهِمْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يُجْلُوهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُقَاوِمَتِهِمْ فِي إدْخَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَالْمَعْنَى الثَّانِي: جَوَازُ مُصَالَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى مَجْهُولٍ مِنْ الْمَالِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَعَلَى الْحَلْقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِلُ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ. وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فِيهِ أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ضَرْبٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: "كُلُّ نَخْلَةٍ لِينَةٌ سِوَى الْعَجْوَةِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: "كُلُّ نَخْلَةٍ لِينَةٌ"، وَقِيلَ: "اللِّينَةُ كِرَامُ النَّخْلِ" وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ النَّخْلَةِ، نَهَى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مِنْ نَهَى وَبِتَحْلِيلِ مَنْ قطعها

مِنْ الْإِثْمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَوَّبَ اللَّهُ الَّذِينَ قَطَعُوا وَاَلَّذِينَ أَبَوْا وَكَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ: "أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ قَتَلَ وَسَبَى وَحَرَّقَ" وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمَّا تَحَصَّنَ بَنُو النَّضِيرِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ نَخْلِهِ وَتَحْرِيقِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْت تَرْضَى بِالْفَسَادِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الْآيَةَ. وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "لَمَّا وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ الْجَيْشَ إلَى الشَّامِ كَانَ فِيمَا أَوْصَاهُمْ بِهِ وَلَا تُقْطَعُ شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَأَوَّلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ سَيُغْنِمُهُمْ إيَّاهَا وَتَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا غَزَوْا أَرْضَ الْحَرْبِ، وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحَرِّقُوا شَجَرَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي مَوَاشِيهِمْ: "إذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ إخْرَاجُهَا ذُبِحَتْ ثُمَّ أُحْرِقَتْ". وَأَمَّا مَا رَجَوْا أَنْ يَصِيرَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ إنْ تَرَكُوهُ لِيَصِيرَ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ، وَإِنْ أَحْرَقُوهُ غَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ جَازَ، اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ وَبِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ} . الْآيَةَ الْفَيْءُ الرُّجُوعُ، وَمِنْهُ الْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} ، وأفاءه عَلَيْهِ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ وَالْفَيْءُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَالْغَنِيمَةُ فَيْءٌ وَالْجِزْيَةُ فَيْءٌ وَالْخَرَاجُ فَيْءٌ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِمَّا مَلَّكَهُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَالْغَنِيمَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَعْنًى لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ سَائِرُ وُجُوهِ الْفَيْءِ; لِأَنَّهَا مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْوَةً بِالْقِتَالِ، فَمِنْهَا مَا يَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْغَانِمِينَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ فَيْئًا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا مِنْ الْفَيْءِ الَّذِي جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إلَّا مَنْ جَعَلَهُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ; وَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يوجفوا عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَمْ يَأْخُذُوهُ عَنْوَةً، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ صُلْحًا، وَكَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ فَدَكَ وَقُرَى عرينة فِيمَا ذَكَرَهُ

الزُّهْرِيُّ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ الصَّفِيُّ وَهُوَ مَا كَانَ يَصْطَفِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْمَالُ. وَكَانَ لَهُ أَيْضًا سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَيْءِ هَذِهِ الْحُقُوقُ يَصْرِفُهَا فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَالْبَاقِي فِي نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ إلَّا مَنْ يَخْتَارُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَإِنَّمَا أُخِذَ صُلْحًا أَنَّهُ لَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُصْرَفُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي يُصْرَفُ فِيهَا الْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا صَارَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ حِينَ لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَ مَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْفَيْءِ فَجَعَلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْفَيْءِ الَّذِي أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ، وَهُمْ الْأَصْنَافُ الْخَمْسُ الْمَذْكُورُونَ فِي غَيْرِهَا، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْغَانِمَيْنِ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "كَانَتْ الْغَنَائِمُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا فَتَحَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعِرَاقَ سَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قِسْمَتَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ وَبِلَالٌ وَغَيْرُهُمَا، فَقَالَ: إنْ قَسَمْتهَا بَيْنَهُمْ بَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ; وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ، وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَجَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْقِسْمَةِ، وَأَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَوَافَقَتْهُ الْجَمَاعَةُ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ بِالْآيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَأَنَّهَا مَضْمُومَةٌ إلَى آيَةِ الْغَنِيمَةِ فِي الْأَرْضِينَ الْمُفْتَتَحَةِ، فَإِنْ رَأَى قِسْمَتَهَا أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَسَمَ، وَإِنْ رَأَى إقْرَارَ أَهْلِهَا عَلَيْهَا، وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ فِيهَا فَعَلَ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَابِتَةَ الْحُكْمِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْخَرَاجِ مِنْهَا حَتَّى يَسْتَوِيَ الْآخَرُ وَالْأَوَّلُ فِيهَا لَذَكَرُوهُ لَهُ وَأَخْبَرُوهُ بِنَسْخِهَا، فَلَمَّا لَمْ يُحَاجُّوهُ بِالنَّسْخِ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهَا عِنْدَهُمْ وَصِحَّةِ دَلَالَتِهَا لَدَيْهِمْ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَتَيْنِ بِمَجْمُوعِهِمَا: وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ فِي الْأَمْوَالِ سِوَى الْأَرْضِينَ وَفِي الْأَرْضِينَ إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ الْأَرْضِينَ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إنْ اخْتَارَ تَرْكَهَا عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا، وَيَكُونُ ذِكْرُ الرَّسُولِ هَهُنَا لِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فِي صَرْفِهِ إلَى مَنْ رَأَى; فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وَقَالَ: لَوْ قَسَمْتهَا بَيْنَهُمْ لَصَارَتْ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا الحق

بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ حُكْمُ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَمُوَافَقَةُ كُلِّ الصَّحَابَةِ عَلَى إقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا وَوَضْعِ الْخَرَاجِ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَمَسَحَا الْأَرْضِينَ وَوَضَعَا الْخَرَاجَ عَلَى الْأَوْضَاعِ الْمَعْلُومَةِ وَوَضَعَا الْجِزْيَةَ عَلَى الرِّقَابِ وَجَعَلَاهُمْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ: اثْنِي عَشَرَ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَمْ يَتَعَقَّبْ فِعْلَهُ هَذَا أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْفَسْخِ فَصَارَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِ الْأَرْضِينَ الْمُفْتَتَحَةِ عَنْوَةً، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "إذَا افْتَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَمَهَا وَأَهْلَهَا وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَجَعَلَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ الْخَرَاجُ وَيَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ وَيَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ لَهَا" وَقَالَ مَالِكٌ: "مَا بَاعَ أَهْلُ الصُّلْحِ مِنْ أَرْضِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَا افْتَتَحَ عَنْوَةً فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِي مِنْهُمْ أَحَدٌ; لِأَنَّ أَهْلَ الصُّلْحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَانَ أَحَقَّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَحْرَزَ لَهُ إسْلَامُهُ نَفْسَهُ وَأَرْضَهُ لِلْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ بِلَادَهُمْ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "مَا كَانَ عَنْوَةً فَخُمُسُهَا لِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمَيْنِ، فَمَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقِّهِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَخْلُو الْأَرْضُ الْمُفْتَتَحَةُ عَنْوَةً مِنْ أَنْ تَكُونَ لِلْغَانِمَيْنِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ صَرْفُهَا عَنْهُمْ بِحَالٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فِيهَا وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا وَعَلَى رِقَابِ أَهْلِهَا عَلَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ عُمَرَ فِيمَا فَعَلَهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ بَعْدَ خِلَافٍ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْ رِقَابِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغَانِمِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مِلْكَ الْأَرْضِينَ، وَلَا رِقَابَ أَهْلِهَا إلَّا بِأَنْ يَخْتَارَ الْإِمَامُ ذَلِكَ لَهُمْ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ لَمَا عَدَلَ عَنْهُمْ بِهَا إلَى غَيْرِهِمْ وَلَنَازَعُوهُ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ، فَلَمَّا سَلَّمَ لَهُ الْجَمِيعُ رَأْيَهُ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ بِالْآيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَانِمِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مِلْكَ الْأَرْضِينَ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْإِمَامِ ذَلِكَ لَهُمْ. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسْرَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَسْتَبْقِيَهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِلْكُ الْغَانِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ لَمَا كَانَ لَهُ إتْلَافُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يُتْلِفُ عَلَيْهِمْ سَائِرَ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسْرَى وَلَهُ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُمْ فَيَقْسِمَهُمْ بَيْنَهُمْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ لِلْغَانِمَيْنِ بِإِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فِي الرِّقَابِ وَالْأَرْضِينَ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا الْإِمَامُ لَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ وَنِصْفًا

بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا; فَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ مِلْكًا لِلْغَانِمَيْنِ لَمَا جَعَلَ نِصْفَهُ لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ وَقَدْ فَتَحَهَا عَنْوَةً; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فَقَدْ حَصَلَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالسُّنَّةِ تَخْيِيرُ الْإِمَامِ فِي قِسْمَةِ الْأَرْضِينَ أَوْ تَرْكِهَا مِلْكًا لِأَهْلِهَا، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَهْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ أَرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ". شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ فَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ مَنْعِ النَّاسِ لَهَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الْأَرْضِينَ وَأَنَّهُمْ يَعُودُونَ إلَى حَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مَنْعِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ عُمَرَ فِي السَّوَادِ وَأَنَّ مَا وَضَعَهُ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَجِبُ أَدَاؤُهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْت مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فِي السَّوَادِ إجْمَاعٌ; لِأَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ وَغَيْرَهُ قَدْ رَوَوْا عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنَ يَزِيدَ الْحِمَّانِيِّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَلِيٍّ بِالرَّحْبَةِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَضْرِبَ بَعْضُكُمْ وُجُوهَ بَعْضٍ لَقَسَمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ قِيلَ لَهُ الصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِتَرْكِ قِسْمَةِ السَّوَادِ، وَإِقْرَارِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ مَا ذَكَرْتَ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مَنْ خَاطَبَهُمْ عَلِيٌّ بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الَّذِينَ فَتَحُوا السَّوَادَ فَاسْتَحَقُّوا مِلْكَهُ وَقِسْمَتَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلْإِمَامِ فِيهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ غَيْرَ الَّذِينَ فَتَحُوهُ، أَوْ خَاطَبَ بِهِ الْجَيْشَ وَهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْهُمْ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ السَّوَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ; وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ فَتْحَهُ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ الْغَنِيمَةَ تُصْرَفُ إلَى غَيْرِ الْغَانِمِينَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا الْغَانِمُونَ، وَأَنْ يَكُونُوا أَخْلَاطًا فِيهِمْ مَنْ شَهِدَ الْفَتْحَ وَاسْتَحَقَّ الْغَنِيمَةَ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ، وَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ وَتُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِينَ شَهِدُوهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ خَاطَبَ بِهِ مَنْ شَهِدَ الْفَتْحَ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَكَانُوا هُمْ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلْإِمَامِ فِيهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْعَلَ حَقَّهُمْ لِغَيْرِهِمْ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَضْرِبُ وُجُوهَ بَعْضٍ.; إذْ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ حَقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ; لِمَا وَصَفْت وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِهَذَا الْخِطَابِ الَّذِينَ فَتَحُوهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ثُبُوتِ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَصِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ عُمَرَ فِي كَافَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ قِسْمَةِ السَّوَادِ، وَإِقْرَارِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: "أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ"، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا.

وَقَالَ آخَرُونَ: "إنَّمَا أَقَرَّهُمْ عَلَى أَرْضِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ وَأَرْضُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُلَّاكٍ لَهَا" وَقَالَ آخَرُونَ: "أَقَرَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ وَالْأَرْضُونَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ كَانَ حُرًّا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ فَقَالَ لَهُ: "إنْ أَقَمْت فِي أَرْضِك رَفَعْنَا الْجِزْيَةَ عَنْ رَأْسِك وَأَخَذْنَاهَا مِنْ أَرْضِك، وَإِنْ تَحَوَّلْتَ عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا"،. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دِهْقَانَةِ نَهْرِ الْمُلْكِ حِينَ أَسْلَمَتْ; فَلَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَمَا زَالَ عَنْهُمْ الرِّقُّ بِالْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَا: إنْ تَحَوَّلْتَ عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَا بِذَلِكَ أَنَّك إنْ عَجَزْت عَنْ عِمَارَتِهَا عَمَّرْنَاهَا نَحْنُ وَزَرَعْنَاهَا لِئَلَّا تَبْطُلَ الْحُقُوقُ الَّتِي قَدْ وَجَبَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي رِقَابِهَا وَهُوَ الْخَرَاجُ; وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْإِمَامُ عِنْدَنَا بِأَرَاضِي الْعَاجِزِينَ عَنْ عِمَارَتِهَا وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ فَهُوَ حُرٌّ، ثَبَتَ أَنَّ أَرَاضِيَهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ كَمَا كَانَتْ رِقَابُهُمْ مُبَقَّاةً عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ جَازَ لِلْإِمَامِ عِنْدَ مُخَالِفَيْنَا أَنْ يَقْطَعَ حَقَّ الْغَانِمِينَ عَنْ رِقَابِهَا وَيَجْعَلَهَا مَوْقُوفَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِصَرْفِ خَرَاجِهَا إلَيْهِمْ جَازَ إقْرَارُهَا عَلَى أَمْلَاكِ أَهْلهَا وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ; إذْ لَا حَقِّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَفْيِ مِلْكِ مُلَّاكِهَا عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِلْكُهَا، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْحَالَيْنِ فِي خَرَاجِهَا لَا فِي رِقَابِهَا بِأَنْ يَتَمَلَّكُوهَا. وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْوَةً بِالْقِتَالِ وَأَنَّ الْفَيْءَ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ"; قَالَ الْحَسَنُ: "فَأَمَّا سَوَادُنَا هَذَا فَإِنَّا سَمِعْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي أَيْدِي النِّبْطِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ فَارِسٍ، فَكَانُوا يُؤَدُّونَ إلَيْهِمْ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ فَارِسٍ تَرَكُوا السَّوَادَ، وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ مِنْ الدَّهَاقِينِ عَلَى حَالِهِمْ وَوَضَعُوا الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ وَمَسَحُوا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهمْ مِنْ الْأَرْضِينَ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ، وَقَبَضُوا عَلَى كُلِّ أَرْضٍ لَيْسَتْ فِي يَدِ أَحَدٍ فَكَانَتْ صَوَافِيَ لِلْإِمَامِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ النِّبْطَ لَمَّا كَانُوا أَحْرَارًا فِي مَمْلَكَةِ أَهْلِ فَارِسٍ فَكَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ ثَابِتَةً فِي أَرَاضِيِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ فَارِسٍ وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ النِّبْطُ كَانَتْ أَرَاضِيُهُمْ وَرِقَابُهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ الْفُرْسِ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ أَرْضُوهُمْ وَرِقَابُهُمْ فِي مَعْنَى مَا صُولِحَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَمْلِكُونَ أَرَاضِيَهُمْ وَرِقَابَهُمْ لَوْ قَاتَلُوهُمْ. وَهَذَا وَجْهٌ كَانَ يَحْتَمِلُهُ الْحَالُ لَوْلَا أَنَّ مُحَاجَّةَ عُمَرَ لِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ السَّوَادِ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ دُونَ مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا دَفَعَ عُمَرُ السَّوَادَ إلَى أَهْلِهِ بِطِيبَةٍ مِنْ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ، وَالْأُجْرَةُ تُسَمَّى خَرَاجًا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" وَمُرَادُهُ أُجْرَةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى إذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَسْتَطِبْ نُفُوسَ الْقَوْمِ فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَرْكِ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ وَحَاجَّ مَنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ بِمَا أَوْضَحَ بِهِ قَوْلَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ وَالْمُحَاجَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نُقِلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كُنَّا رُبُعَ النَّاسِ فَأَعْطَانَا عُمَرُ رُبُعَ السَّوَادِ فَأَخَذْنَاهُ ثَلَثَ سِنِينَ. ثُمَّ وَفَدَ جَرِيرٌ إلَى عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنِّي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَكُنْتُمْ عَلَى مَا قُسِمَ لَكُمْ، فَأَرَى أَنْ تَرُدُّوهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفَعَلَ، فَأَجَازَهُ عُمَرُ بِثَمَانِينَ دِينَارًا، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ قَوْمِي صَالَحُوك عَلَى أَمْرٍ وَلَسْتُ أَرْضَى حَتَّى تَمْلَأَ كَفِي ذَهَبًا وَتَحْمِلَنِي عَلَى جَمَلٍ ذَلُولٍ وَتُعْطِيَنِي قَطِيفَةً حَمْرَاءَ، قَالَ: فَفَعَلَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَلَّكَهُمْ رِقَابَ الْأَرْضِينَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُمْ رُبُعَ الْخَرَاجِ ثُمَّ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِمْ عَلَى أُعْطِيَّاتِهِمْ دُونَ الْخَرَاجِ; لِيَكُونُوا أُسْوَةً لِسَائِرِ النَّاسِ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِطَابَةٍ مِنْهُ لِنُفُوسِهِمْ وَقَدْ أَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّهُ رَأَى رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا أَمْرُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ أَعْطَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السَّوَادِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ" فَفَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْإِجَارَاتِ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَى الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمْ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا فَإِنَّ إجَارَةَ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُتْرَكَ رِقَابُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَلَا تُتْرَكَ أَرَاضِيهِمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَأَيْضًا لَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ رِقَابِهِمْ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبِيدَ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ إجَارَةَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَقَدْ أَخَذَ عُمَرُ الْخَرَاجَ مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شِرَى أَرْضِ الْخَرَاجِ وَاسْتِئْجَارِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا بَأْسَ بِذَلِكَ"، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ: "أَكْرَهُ اسْتِئْجَارَ أَرْضِ الْخَرَاجِ" وَكَرِهَ شَرِيكٌ شِرَى أَرْضِ الْخَرَاجِ وَقَالَ: لَا تَجْعَلْ فِي عُنُقِك صَغَارًا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِكَارٍ قَالَ: سَأَلَ رِجْلٌ الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ عَنْ الزَّرْعِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَإِنَّك تَزْرَعُ أَنْتَ فِيهَا فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَيْسَ فِي الشَّرِّ قُدْوَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتَرِيَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ خَرَاجٍ كَمَا يَكْتَرِيَ دَوَابَّهُمْ"

قَالَ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" إنَّمَا هُوَ خَرَاجُ الْجِزْيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وبراذان مَا براذان وَبِالْمَدِينَةِ مَا بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةُ براذان وَرَاذَانُ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اشْتَرَوْا مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَمْلَاكٌ لِأَهْلِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِلْمُسْلِمِ شِرَاهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ: "أَنَّهُ إنْ أَقَامَ عَلَى أَرْضِهِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ شِرَى أَرْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَالَ: "لَا تَجْعَلْ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي عُنُقِ هَذَا الْكَافِرِ فِي عُنُقِك"; وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: "لَا تَجْعَلْ فِي عُنُقِك الصَّغَارَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَخَرَاجُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِصَغَارٍ; لِأَنَّهُ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا كَانَتْ لَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ فَأَسْلَمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهِ وَيَسْقُطُ عَنْ رَأْسِهِ، فَلَوْ كَانَ صَغَارًا لَسَقَطَ بِالْإِسْلَامِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْنَعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ:"وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ؟ " وَالصَّغَارُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي الْأَنْصَارَ، وَقَدْ كَانَ إسْلَامُ الْمُهَاجِرِينَ قَبْلَ إسْلَامِ الْأَنْصَارِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} . قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى فَضْلٍ آتَاهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقِيلَ: لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ضِيقًا لِمَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، الْخَصَاصَةُ الْحَاجَةُ; فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِيثَارِهِمْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: مَعِي دِينَارٌ فَقَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك" فَقَالَ: مَعِي دِينَارٌ آخَرُ فَقَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك" فَقَالَ: مَعِي دِينَارٌ آخَرُ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ"، وَأَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَصَدَّقْ بِهَذِهِ فإني ما

أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، إلَى أَنْ أَعَادَ الْقَوْلَ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَمَاهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَعَقَرْته، ثُمَّ قَالَ: "يَأْتِينِي أَحَدُكُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى"، وَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَالرَّجُلُ بِحَالِ بَذَاذَةٍ، فَحَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ قَوْمٌ ثِيَابًا أَوْ دَرَاهِمَ، فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، فَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَرَاهَةُ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى النَّفْسِ ثُمَّ الصَّدَقَةُ بِالْفَضْلِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ وَخَشِيَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ إذَا فَقَدَ مَا يُنْفِقُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: "يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ؟ " فَإِنَّمَا كَرِهَ الْإِيثَارَ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ، فَأَمَّا الْأَنْصَارُ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ فَلَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] ، فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْإِمْسَاكِ، وَالْإِمْسَاكُ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنْ الْإِيثَارِ. وَقَدْ رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ شَاةٍ، فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنَّا فَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا تِسْعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ، فَنَزَلَتْ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الْآيَةَ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: جَاءَ رِجْلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ أَنْ تُصِيبَنِي هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ، فُو اللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أُطِيقُ مَنْعَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا الْبُخْلُ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أَنْ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرٍ حَقِّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} قَالَ ادِّخَارُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ". آخِرُ سُورَةِ الحشر.

ومن سورة الممتحنة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ; رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة حِينَ كَتَبَ إلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَنْتَصِحُ لَهُمْ فِيهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"أَنْتَ كَتَبْت هَذَا الْكِتَابَ"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا ارْتَبْت فِي اللَّهِ مُنْذُ أَسْلَمْت وَلَكِنِّي كُنْت امْرَأً غَرِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِي بِمَكَّةَ مَالٌ وَبَنُونَ فَأَرَدْت أَنْ أُدَافِعَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْلًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنِّي غَافِرٌ لَكُمْ". حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ مَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ لَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ; لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ وَيَسْتَبِيحُ إظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ إذَا صَدَرَ عَنْهُ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِكْفَارَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْإِكْفَارَ لَاسْتَتَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَتِبْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ عُلِمَ أَنَّهُ مَا كَانَ مُرْتَدًّا. وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ عُمَرَ مِنْ قَتْلِهِ; لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَقَالَ: "مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" فَجَعَلَ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ قَتْلِهِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ; لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إذَا كَفَرَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَإِنْ أَذْنَبُوا لَا يَمُوتُونَ إلَّا عَلَى التَّوْبَةِ; وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ وُجُودَ التَّوْبَةِ إذَا أَمْهَلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقْتَطِعُهُ بِهِ عَنْ التَّوْبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ في

مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَإِنْ أَذْنَبُوا فَإِنَّ مَصِيرَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ فِي إظْهَارِ الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مَعَ خَوْفِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: "لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك أَوْ لَتَكْفُرَنَّ" أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إظْهَارُ الْكُفْرِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ فِيمَنْ لَهُ عَلَى رِجْلٍ مَالٌ فَقَالَ: "لَا أَقِرُّ لَك حَتَّى تَحُطَّ عَنِّي بَعْضَهُ" فَحَطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَطُّ عَنْهُ وَجُعِلَ خَوْفُهُ عَلَى ذَهَابِ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحَطِّ، وَهُوَ فِيمَا أَظُنُّ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْأَهْلِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْهِجْرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ لِأَجْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِهِمْ، فَقَالَ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] الْآيَةَ. وَقَالَ: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] . وقَوْله تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية; وقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قِيلَ فِيهِ: الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ; فَأَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي إظْهَارِ مُعَادَاةِ الْكُفَّارِ وَقَطْعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} . فَهَذَا حُكْمٌ قَدْ تَعَبَّدَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَوْلُهُ: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} يَعْنِي فِي أَنْ لَا يَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الدُّعَاءِ لِلْأَبِ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ إبْرَاهِيمُ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ أَظْهَرَ لَهُ الْإِيمَانَ وَوَعَدَهُ إظْهَارَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَافِقٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ; فَأَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالتَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيم فِي كُلِّ أُمُورِهِ إلَّا فِي اسْتِغْفَارٍ لِلْأَبِ الْكَافِرِ. وقَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ; قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِإِظْهَارِهِمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطُهُمْ علينا فيفتنوننا.

بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ الْمُشْرِكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ. رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمٍّ لَهَا مُشْرِكَةٍ جَاءَتْنِي أَأَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ صِلِيهَا" قَالَ أَبُو بكر: وقوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إذْ لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ قِتَالِنَا، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ; لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} . وقد

رُوِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ; حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الْآيَةَ. رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: كَانَ مِمَّا شَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلَّا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الْآيَةَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ، قَالَتْ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ بَايَعْتُك كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمُبَايَعَةِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَقَدْ صَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ يَرُدُّونَهُ. وَرَوَى الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ فِي الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَهُوَ رَدٌّ إلَيْهِمْ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ فَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ تُسْأَلُ مَا أَخْرَجَكِ؟ فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ هَرَبًا مِنْ زَوْجِهَا وَرَغْبَةً عَنْهُ رُدَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ أُمْسِكَتْ وَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْلُو الصُّلْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَانَ خَاصًّا فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَيْهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ بَدِيًّا عَامًّا ثُمَّ نُسِخَ عَنْ النِّسَاءِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ; لِأَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا هَاجَرْنَ إلَيْهِ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى امْتِحَانَهُنَّ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ غَيْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَضْرَتِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَا حَقِيقَةُ الْيَقِينِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا

بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] يَعْنُونَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَرَقَ فِي الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] ؟، وَإِنَّمَا حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ; وَهُوَ مِثْلُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ قَدْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِالْحُكْمِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَحَمْلِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ أَلْزَمَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبُولَ قَوْلِ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانُ وَالْحُكْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ حَالِهِ، مِثْلُ الْمَرْأَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا وَحَبَلِهَا، وَمِثْلُ الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: "أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْتِ" أَوْ قَالَ: "إذَا طَهُرْتِ" فَيَكُونُ قَوْلُهَا مَقْبُولًا فِيهِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} فَقَالَ عَطَاءٌ: مَا عَلِمْنَا إيمَانَهُنَّ إلَّا بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِنَّ; وَقَالَ قَتَادَةُ: امْتِحَانُهُنَّ مَا خَرَجْنَ إلَّا لِلدِّينِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ.

بَابُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَزَوْجُهَا بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارَانِ، وَحَكَمَ اللَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِهَا بِأَنْ تَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ أَرَادَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ; وقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَمَا اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ رَدَّ الْمَهْرِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبُضْعَ وَبَدَلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا لَمَا جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ، فَنَهَانَا أَنْ نَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ: "قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ

مُسْتَقْبَلٍ"، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "إنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ". وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا حُكْمَ لِلدَّارِ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "إذَا أَسْلَمَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة قَبْلَ زَوْجِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ". وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ السَّفَّاحِ بْن مَطَرٍ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ نَصْرَانِيٌّ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ نَصْرَانِيَّةٌ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ، فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا" وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي النَّصْرَانِيِّ تُسْلِمُ امْرَأَتُهُ قَالُوا: "إنْ أَسْلَمَ مَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا"، وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ، وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلُهُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: "إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا" وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا فَهِيَ أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَصَلَ اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ; فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ"، وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَمَتَى اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارُ فَصَارَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَانَتْ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبَى الزَّوْجُ الْإِسْلَامَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا". وَهَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَام وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ: "هِيَ امْرَأَتُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ"، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا" وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ مِنْهُ بِإِسْلَامِهَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إذَا أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الزَّوْجُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ حَتَّى يَعْرِضَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا"، وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ، وَقَالُوا: "إنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ اعْتِبَارُ الْحَيْضِ إنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ، وَخَرَجَ إلَيْنَا أَيُّهُمَا كَانَ وَبَقِيَ الْآخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ" وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: "نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ كَانَ لَهُنَّ

أَزْوَاجٌ فِي الشِّرْكِ وأباحهن لَهُمْ بِالسَّبْيِ" وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] قَالَ: "كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ فَإِتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ" وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّبَايَا: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ". وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُسْبَ زَوْجُهَا مَعَهَا، فَلَا يَخْلُو وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهَا أَوْ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا أَوْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ إسْلَامَهَا لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فِي الْحَالِ; وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ بِدَلَالَةِ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ إذَا بِيعَتْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ. وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ عَنْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَكُنْ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ رَافِعًا لِلنِّكَاحِ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إلَّا اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، فَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالذِّمَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ حَرْبِيًّا كَافِرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا رَوَى يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ، وَقَدْ كَانَتْ زَيْنَبُ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ زَوْجُهَا بِمَكَّةَ مُشْرِكًا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيقَاعِ الْفُرْقَةِ فَيُقَالُ: لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: "رَدَّهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ"; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تَحِيضُ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي سِتِّ سِنِينَ، فَسَقَطَ احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رَوَى خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زَوْجِهَا أَنَّهَا أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا; فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِإِسْلَامِهَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ ثَانٍ فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى; لأن حديث

ابْنِ عَبَّاسٍ إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهَا زَوْجَةً لَهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ، وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ عَقْدٍ ثَانٍ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْإِخْبَارُ عَنْ حُدُوثِ عَقْدٍ ثَانٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَهُوَ أَوْلَى; لِأَنَّ الْأَوَّلَ إخْبَارٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَالثَّانِيَ إخْبَارٌ عَنْ مَعْنًى حَادِثٍ قَدْ عَلِمَهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقُولُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَالٌّ. فَقُلْنَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَكَحَدِيثِ زَوْجِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِخْبَارِهِ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا، وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ حَالٍ أخرى.

فَصْلٌ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُهَاجِرَةِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فَأَبَاحَ نِكَاحَهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِدَّةٍ، وَقَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ، فَحَظَرَ الِامْتِنَاعَ مِنْ نِكَاحِهَا; لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ. وَالْكَوَافِرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرِّجَالَ، وَظَاهِرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الرِّجَالُ; لِأَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْمُهَاجِرَاتِ. وَأَيْضًا أَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطْءَ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ، وَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ بِعِدَّةٍ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ" وَالْمَعْنَى فِيهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} ; قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: يَعْنِي رَدَّ الصَّدَاقِ، وَاسْأَلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا صَارَتْ إلَيْهِمْ، وَلْيَسْأَلُوا هُمْ أَيْضًا مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً مِنْهُمْ"; وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ إذَا ذَهَبَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَدَاقَ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا يَرُدُّونَ، وَأَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ". وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} : "مِنْ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْهَا". وَرَوَى زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "كَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} خَرَجَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ" وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} قال: "ليس بينكم وبينهم عهد" {فَعَاقَبْتُمْ} "وَأَصَبْتُمْ غَنِيمَةً" {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قال: "عوضوا

زَوْجَهَا مِثْلَ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ". وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: "يُعْطَى مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ يَقْسِمُونَ غَنِيمَتَهُمْ" وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: "إنْ فَاتَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ تَأْخُذُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ فَعَوِّضُوهُمْ مِنْ فَيْءٍ إنْ أَصَبْتُمُوهُ" وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مُخَالِفَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمْ يُعَوَّضُونَ مِنْ صَدَاقٍ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ صَدَاقٍ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ إذَا كَانَ هُنَاكَ صَدَاقٌ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقٌ رُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي رَدِّ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ. "فَإِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ جَاءَتْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْلَمَتْ أَيُعَوَّضُ زَوْجُهَا مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُمْتَحَنَةِ: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ؟ قَالَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ عَهْدِهِ، قُلْت: فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ الْآنَ مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، يُعَاضُ فَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ" وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ نَسْخُهَا؟ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَبِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا يُلْحِقْنَ بِأَزْوَاجِهِنَّ غَيْرُ أَوْلَادِهِنَّ" وَقِيلَ: إنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ قَذْفُ أَهْلِ الْإِحْصَانِ، وَالْكَذِبُ عَلَى النَّاسِ، وَقَذْفُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الْكَذِبِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ ذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسْعِدُهُنَّ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا جَلَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا جَنَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا". وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْن حوشب عَنْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَ: النَّوْحُ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نُهِيَتْ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ صَوْتِ لَعِبٍ وَلَهْوٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ عِنْدَ نَغْمَةٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ

وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ طَاعَةِ اللَّهِ; لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَعْرُوفٌ، وَتَرْكُك النُّوحَ أَحَدُ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَبِيَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَعْرُوفٍ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ فِي النَّهْيِ عَنْ عِصْيَانِهِ إذَا أَمَرَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلَّا يَتَرَخَّصَ أَحَدٌ فِي طَاعَةِ السَّلَاطِينِ إذَا لَمْ تَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى; إذْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ شَرَطَ فِي طَاعَةِ أَفْضَلِ الْبَشَرِ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا طَاعَةَ لَمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ". وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَطَاعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ" وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاس ذَامًّا"، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُخَاطَبَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ; لِأَنَّ بَيْعَةَ مَنْ أَسْلَمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ الْمِحْنَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَمْتَحِنُ الْمُهَاجِرَةَ الْآنَ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. آخر سورة الممتحنة.

وَمِنْ سُورَةِ الصَّفِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِبَادَةً أَوْ قُرْبَةً وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ; إذْ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَا يَفْعَلُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَإِنَّ إيجَابَهَا فِي الْقَوْلِ لَا يُلْزِمُهُ الْوَفَاءَ بِهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ"، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيمَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِثْلُ النُّذُورِ وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُونَهَا، وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُبَاحٌ، فَإِنَّ الْأَوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: "إنِّي سَأَفْعَلُ كَذَا" فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ اسْتِثْنَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا جَائِزَ لَهُ أَنْ يَعِدَ وَفِي ضَمِيرِهِ أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَحْظُورُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَمْ يَقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِهِ أَمْ لَا. فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ مَعَ خَوْفِ إخْلَافِ الْوَعْدِ فِيهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: "إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَصُومُ" فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ; لِأَنَّ تَرْكَ فِعْلِهِ يُؤَدِّيهِ إلَى أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَمْ يَفْعَلْ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: "أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَسَارَعْنَا إلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ الْجِهَادِ تَثَاقَلُوا عَنْهُ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ: جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا، وَلَمْ يَفْعَلُوا" وَقَالَ الْحَسَنُ: "نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَسَمَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ لِإِظْهَارِهِمْ لَهُ". وقَوْله تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ضَعْفٍ وَقِلَّةٍ وَحَالِ خَوْفٍ مُسْتَذَلُّونَ مَقْهُورُونَ فكان مخبره على ما أخبر

بِهِ; لِأَنَّ الْأَدْيَانَ الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الزَّمَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ وَالْمَجُوسِيَّةُ وَالصَّابِئَةُ وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ مِنْ السِّنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ تَبْقَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أُمَّةٌ إلَّا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَقَهَرُوهُمْ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا وَشَرَّدُوهُمْ إلَى أَقَاصِي بِلَادِهِمْ فَهَذَا هُوَ مِصْدَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِيهَا إظْهَارَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يُوحِي بِهِ إلَّا إلَى رُسُلِهِ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إظْهَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قِيلَ لَهُ إنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يَعْنِي دِينَ الْحَقِّ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَسُولَهُ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا; لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ دِينَهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ قَدْ أَظْهَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا أَنَّ جَيْشًا لَوْ فَتَحُوا بَلَدًا عَنْوَةً جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْخَلِيفَةَ فَتَحَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْقِتَالَ إذْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَتَجْهِيزِهِ لِلْجَيْشِ فَعَلُوا. وقَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إلى قوله: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِوَعْدِهِ مِنْ أَمْرٍ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. آخِرُ سُورَةِ الصَّفِّ.

وَمِنْ سُورَةِ الْجُمُعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} قِيلَ: إنَّمَا سُمُّوا أُمِّيِّينَ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَةَ، وَأَرَادَ الْأَكْثَرَ الْأَعَمَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْقَلِيلُ مِمَّنْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ; وَقَالَ النَّبِيُّ: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، وَقَالَ: إنَّا نَحْنُ أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لَا نَحْسُبُ ولا نكتب". وقال تعالى: {رَسُولاً مِنْهُمْ} ; لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [اعراف: 157] وَقِيلَ إنَّمَا سُمِّيَ مَنْ لَا يَكْتُبُ أُمِّيًّا; لِأَنَّهُ نُسِبَ إلَى حَالِ وِلَادَتِهِ مِنْ الْأُمِّ; لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالِاسْتِفَادَةِ وَالتَّعَلُّمِ دُونَ الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا الْمَوْلُودُ. وَأَمَّا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِي أُمِّيٍّ فَإِنَّهُ لِيُوَافِقَ مَا تَقَدَّمَتْ بِهِ بِالْبِشَارَةِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ; وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ تَوَهُّمِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ بِالْكِتَابَةِ; فَهَذَانِ وَجْهَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَمَعَ أَنَّ مُشَاكِلَةٌ لِحَالِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى مُسَاوَاتِهِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِيهِ، فَدَلَّ عَجْزُهُمْ عَمَّا أَتَى بِهِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لَهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ. رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَهُودَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِتَعَلُّمِ التَّوْرَاةِ وَالْعَمَلِ بِهَا فَتَعَلَّمُوهَا ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَشَبَّهَهُمْ اللَّهُ بِالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ الْكُتُبَ وَهِيَ الْأَسْفَارُ; إذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا حَمَلُوهُ كَمَا لَا يَنْتَفِعُ الْحِمَارُ بِالْكُتُبِ الَّتِي حَمَلَهَا; وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44] وَقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] إلَى قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ إنْ تَمَنَّوْهُ مَاتُوا فَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهَا

مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا ادَّعَوْا مِنْ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ لَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ; لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ الْمَوْتِ خَيْرٌ مِنْ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ فَوُجِدَ مَخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا وَاضِحٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَفْعَلُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً صَلَوَاتٍ كَمَا يَفْعَلُ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا هِيَ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الصَّلَاةُ الَّتِي إذَا فَعَلَهَا مَعَ الْإِمَامِ جُمُعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ فِعْلُ الظُّهْرِ مَعَهَا وَهِيَ رَكْعَتَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى شَرَائِطِ الْجُمُعَة وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا النِّدَاءِ هُوَ الْأَذَانُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْآيَةِ كَيْفِيَّتَهُ وَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي رَأَى فِي الْمَنَامِ الْأَذَانَ وَرَآهُ عُمَرُ أَيْضًا كَمَا رَآهُ ابْنُ زَيْدٍ وَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ وَذَكَرَ فِيهِ التَّرْجِيعَ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 58] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قَالَ "إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَدْ نُودِيَ لِلصَّلَاةِ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ" مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ يُؤَذِّنُ إذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ يُقِيمُ إذَا نَزَلَ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ كَذَلِكَ ثُمَّ عُمَرُ كَذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَفَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ إنْكَارَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ. رَوَى وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ الْغَازِ قَالَ سَأَلْت نَافِعًا عَنْ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِنْ رَآهُ النَّاسُ حَسَنًا". وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ "النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَاَلَّذِي قَبْلُ مُحْدَثٌ". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْحٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ "إنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيمَا مَضَى وَاحِدًا ثُمَّ الْإِقَامَةُ وَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُؤَذَّنُ بِهِ الْآنَ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَجُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ". وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ إنَّمَا ذَكَرُوا أَذَانًا وَاحِدًا إذَا قَعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَمَّا وَقْتُ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَرَوَى أَنَسٌ وَجَابِرٌ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ الْجُمُعَةَ ضُحًى ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ مَخَافَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ" وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَلَّيَاهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنِّي قَدَّمْتُ مَخَافَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ" عَلِمْنَا أَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْفُرُوضِ قَبْلَ أَوْقَاتِهَا لَا يَجُوزُ

لِحَرٍّ وَلَا لِبَرْدٍ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَسْبَابُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ أَوْقَاتِ الظُّهْرِ إلَى الضُّحَى، فَسَمَّاهُ الرَّاوِي ضُحًى; لِقُرْبِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَسَحَّرُ: "تَعَالَ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ" فَسَمَّاهُ غَدَاءً لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاءِ، وَكَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نَهَارًا وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ النَّهَارِ وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْفَرْضِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: "فَرْضُ الْوَقْتِ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ مِنْهَا" وَقَالَ آخَرُونَ: "فَرْضُ الْوَقْتِ الظُّهْرُ وَالْجُمُعَةُ بَدَلٌ مِنْهُ"، اسْتَحَالَ أَنْ يَفْعَلَ الْبَدَلَ إلَّا فِي وَقْتٍ يَصِحُّ فِيهِ فِعْلُ الْمُبْدَلِ عَنْهُ وَهُوَ الظُّهْرُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ النِّدَاءِ لَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَرَأَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: "فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ"; قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ قَرَأْت: "فَاسْعَوْا" لَسَعَيْت حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ التَّفْسِيرَ لَا نَصَّ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِلْأَعْجَمِيِّ الَّذِي كَانَ يُلَقِّنُهُ: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ الدخان طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 44,43] فَكَانَ يَقُولُ طَعَامُ الْيَتِيمِ"، فَلَمَّا أَعْيَاهُ قَالَ لَهُ طَعَامُ الْفَاجِرِ "، وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْهَامَهُ الْمَعْنَى وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْعَدْوَ، وَإِنَّمَا السَّعْيُ بِقَلْبِك وَنِيَّتِك". وَقَالَ عَطَاءٌ: "السَّعْيُ الذَّهَابُ" وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "السَّعْيُ الْعَمَلُ". قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَاسْعَوْا أَجِيبُوا، وَلَيْسَ مِنْ الْعَدْوِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ هَهُنَا إخْلَاصُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ السَّعْيَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ سُرْعَةَ الْمَشْيِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 205] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَمَلَ وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَلَكِنْ ائْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ يَمْشِي إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْنَتِهِ.

فَصْلٌ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِهِ; لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْبَوَادِي وَمَنَاهِلِ الْأَعْرَابِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَمْصَارِ وَلَا تَصِحُّ فِي السَّوَادِ"، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: "تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا بُيُوتٌ مُتَّصِلَةٌ وَأَسْوَاقٌ مُتَّصِلَةٌ، يُقَدِّمُونَ رَجُلًا يَخْطُبُ وَيُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا جُمُعَةَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا إلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ"، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْجُمُعَةُ جَائِزَةً فِي الْقُرَى لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي فِعْلِهَا فِي الْأَمْصَارِ; لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَأَيْضًا لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهَا فِي الْبَوَادِي; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِصْرٍ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي السَّوَادِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلْحَسَنِ: إنَّ الْحَجَّاجَ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْأَهْوَازِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَيُقِيمُهَا فِي حَلَاقِيمِ الْبِلَادِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ، وَأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ بِالطَّفِّ فَرُبَّمَا جَمَعَ وَرُبَّمَا لَمْ يُجْمِعْ; وَقِيلَ مِنْ الطَّفِّ إلَى الْبَصْرَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ فَرَاسِخَ وَأَقَلُّ مِنْ مَسِيرَةِ نِصْفِ يَوْمٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا هَذَا كَلَامٌ فِيمَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْمِصْرِ، فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الْمِصْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ وَتَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْجُمُعَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ الْجُمُعَةَ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ أَوْ مَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَمْصَارِ. وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ نَقَلَتهَا الْأُمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَعَمَلًا; وَقَالَ عُمَرُ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَإِنَّمَا قَصُرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ.

بَابُ وُجُوبِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ السَّعْيِ إلَى الذِّكْرِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ ذِكْرًا وَاجِبًا يَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مَوْعِظَةَ الْإِمَامِ" وَقَالَ عُمَرُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا: "إنَّمَا قَصُرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ" وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ وَاسْتَمَعُوا الْخُطْبَةَ، فَالْمُهَجِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَاَلَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً" وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَهُنَا هُوَ الْخُطْبَةُ; لِأَنَّ

الْخُطْبَةَ هِيَ الَّتِي تَلِي النِّدَاءَ، وَقَدْ أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْخُطْبَةُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْطُبْ صَلَّى أَرْبَعًا، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَطَاوُسٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ وَأَدْرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ بَعْضَهَا، فَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الرَّجُلِ تَفُوتُهُ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَرْبَعًا" وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا" وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ذُكِرَ لَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَوْلُ أَهْلِ مَكَّةَ إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَالسَّلَفِ مَا خَلَا عَطَاءً وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَذَهَبَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ جَاءَ فَأَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْهُ فَوَاتُ الرَّكْعَةِ مَنْ فَعَلَ الْجُمُعَةَ كَانَتْ الْخُطْبَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى بِذَلِكَ. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ وَرَكْعَةٌ مِنْهَا وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ: "إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى" وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ يُصَلِّي أَرْبَعًا" وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، فَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ" وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: "إذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ" وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالُوا: "مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: "إذَا أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ" وَقَالَ زُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "يُصَلِّي أَرْبَعًا" وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: "يُصَلِّي أَرْبَعًا، يَقْعُدُ فِي الثِّنْتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَمَرْته أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا". وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يُصَلِّي أَرْبَعًا"، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: "إذَا قَامَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً أُخْرَى" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ جَالِسًا لَمْ يُسَلِّمْ صَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي الظُّهْرَ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الصَّلَاةَ" وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: "إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي التَّشَهُّدِ قَعَدَ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَكَبَّرَ وَدَخَلَ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ قَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ بِتَكْبِيرٍ سَلَّمَ إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ ثُمَّ قَامَ فَكَبَّرَ لِلظُّهْرِ" وَقَالَ

اللَّيْثُ: "إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ خَطَبَ فَإِنَّمَا يُصَلِّي إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ يُسَلِّمُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ النَّاسُ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَخْطُبْ وَأَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" وَجَبَ عَلَى مُدْرِكِ الْإِمَامِ فِي تَشَهُّدِ الْجُمُعَةِ اتِّبَاعُهُ فِيهِ وَالْقُعُودُ مَعَهُ، وَلَمَّا كَانَ مُدْرِكًا لِهَذَا الْجُزْءِ مِنْ الصَّلَاةِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتِ مِنْهَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا"، وَالْفَائِتُ مِنْهَا هِيَ الْجُمُعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مُدْرِكُ الْمُقِيمِ فِي التَّشَهُّدِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ إذَا كَانَ مُسَافِرًا وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مُدْرِكِهِ فِي التَّحْرِيمَةِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْجُمُعَةِ; إذْ الدُّخُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ الْفَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى" وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا" قِيلَ لَهُ: أَصْلُ الْحَدِيثِ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ"، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ: مَا أَرَى الْجُمُعَةَ إلَّا مِنْ الصَّلَاةِ; فَذِكْرُ الْجُمُعَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ; وَالْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُورُ عَلَى الزُّهْرِيِّ، مَرَّةً يَرْوِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَرَّةً عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ حِينَ رَوَى الْحَدِيثَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ: أَرَى الْجُمُعَةَ مِنْ الصَّلَاةِ; فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ فِي الْجُمُعَةِ لَمَا قَالَ: مَا أَرَى الْجُمُعَةَ إلَّا مِنْ الصَّلَاةِ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ" لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً صَلَّى أَرْبَعًا، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى" وَأَمَّا مَا رُوِيَ: "وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا" فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْنَاهُ: وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا وَقَدْ سَلَّمَ الْإِمَامُ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّ وُجُوبَ الْجُمُعَةِ مَخْصُوصٌ بِالْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْمُقِيمِينَ دُونَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْعَاجِزِينَ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ: الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ" وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: "لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ" وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْعَدِ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحُضُورِ بِنَفْسِهِ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ" وَفَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقْعَدِ; لِأَنَّ الْأَعْمَى بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَهْتَدِي الطَّرِيقَ فَإِذَا هُدِيَ سَعَى بِنَفْسِهِ، وَالْمُقْعَدُ لَا يُمْكِنُهُ السَّعْيُ بِنَفْسِهِ وَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْمِلُهُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْأَعْمَى وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ; لِأَنَّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ وَهُوَ بَصِيرٌ إذَا أُرْشِدَ اهْتَدَى بِنَفْسِهِ وَالْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ بِالْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ، وَيُحْتَجُّ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِحَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي

ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلَيْسَ لِي قَائِدٌ يُلَازِمُنِي أَفَلِي رُخْصَةٌ أَنْ لَا آتِيَ الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا" وَفِي خَبَرِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ نَحْوُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأْتِهَا". وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ مَنْ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَاللَّيْثُ: "ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ" وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: "اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ" وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إنْ لَمْ يَحْضُرْ الْإِمَامُ إلَّا رِجْلٌ وَاحِدٌ فَخَطَبَ عَلَيْهِ وَصَلَّى بِهِ أَجْزَأَهُمَا" وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ شَيْئًا، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَ عِيرٌ فَنَفَرَ النَّاسُ إلَيْهِ وَبَقِيَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} , وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ الْجُمُعَةَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ رُجُوعَ الْقَوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَنَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ صَلَّاهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ الْأَرْبَعِينَ وَأَيْضًا الثَّلَاثَةُ جَمْعٌ صَحِيحٌ فَهِيَ كَالْأَرْبَعِينَ لَاتِّفَاقِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا جَمْعًا صَحِيحًا. وَمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ جَمْعًا صَحِيحًا، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَإِسْقَاطُ اعْتِبَارِ مَا زَادَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ، فَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ: "أَنَّ الْبَيْعَ يَحْرُمُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: "يَحْرُمُ بِالنِّدَاءِ" وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى،; إذْ كَانَ عَلَيْهِمْ الْحُضُورُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُمْ تَأْخِيرَ النِّدَاءِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنِّدَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَعْنًى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي بَعْدَ الزَّوَالِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَمَا قَدْ وَجَبَ إتْيَانُ الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ عِنْدَ نِدَاءِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "الْبَيْعُ يَقَعُ مَعَ النَّهْيِ"، وَقَالَ مَالِكٌ: "الْبَيْعُ بَاطِلٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لِوُقُوعِهِ عَنْ تَرَاضٍ. فَإِنْ قِيلَ: قال الله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُهُمَا فَنَقُولُ: يَقَعُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ عَقْدُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَيَقَعُ الْمِلْكُ بِحُكْمِ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ; وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ

عَنْ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَهُ وَصِحَّتَهُ، كَالْبَيْعِ فِي آخِرِ وَقْتِ صَلَاةٍ يُخَافُ فَوْتَهَا إنْ اشْتَغَلَ بِهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّتَهُ; لِأَنَّ النَّهْيَ تَعَلَّقَ بِاشْتِغَالِهِ عَنْ الصَّلَاةِ وَأَيْضًا هُوَ مِثْلُ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ وَالْبَيْعُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِهَا كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْك" وَرَوَى مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَاعَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ يُشْتَرَى فِيهِ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ أَوْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَخُصُومَتَكُمْ وَجَمِّرُوهَا يَوْمَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِهَا"، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ بَاعَ فِيهِ جَازَ; لِأَنَّ النَّهْيَ تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ العقد.

بَابُ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ" حَكَاهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَبَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَافِرَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ" وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أرطاة عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَجَّهَ ابْنَ رَوَاحَةَ وَجَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَتَخَلَّفَ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَّفَك؟ " قَالَ: الْجُمُعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَمِّعُ ثُمَّ أَرُوحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، قَالَ: فَرَاحَ مُنْطَلِقًا وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَا تُحْبَسُ الْجُمُعَةُ عَنْ سَفَرٍ"، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُ، وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ بِالْعَقِيقِ عَلَى رَأْسِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ غَدَاةَ الْجُمُعَةِ فَأُخْبِرَ بِشَكْوَاهُ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: خَرَجَ سَالِمٌ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَا: "لَا بَأْسَ بِالسَّفَرِ يَوْمَ

الْجُمُعَةِ مَا لَمْ تَحْضُرْ الْجُمُعَةُ" وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ النَّخَعِيِّ قَالَ: "إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ السَّفَرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلْيُسَافِرْ غَدْوَةً إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ النَّهَارُ فَإِنْ أَقَامَ إلَى الْعَشِيِّ فَلَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ" وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إذَا أَدْرَكَتْك لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ فَلَا تَخْرُجْ حَتَّى تُجَمِّعَ" فَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] فَأَبَاحَ السَّفَرَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَاضِحٌ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَإِبَاحَةِ السَّفَرِ فِيهِمَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَعْدَ الزَّوَالِ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِحُضُورِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى الْمُسَافِرِينَ، وَفَرْضُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَإِذَا خَرَجَ وَصَارَ مُسَافِرًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ; قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ إذْنٌ وَرُخْصَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ الْحَظْرِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إبَاحَةٌ وَإِطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَقِيلَ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِعَمَلِ الطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ، وَقِيلَ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا; وَهُوَ إبَاحَةٌ أَيْضًا وَهُوَ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ حَظَرَ الْبَيْعَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ كَمَا أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إبَاحَةٌ لِلْبَيْعِ الَّذِي حُظِرَ بَدِيًّا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] فَكَانَ الْمَعْنَى: يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَةِ السَّفَرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ، رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ قَالَا: "رَأَوْا عِيرَ طَعَامٍ قَدِمَتْ الْمَدِينَةَ وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ"، وَقَالَ جَابِرٌ: "اللَّهْوُ الْمَزَامِيرُ" وَقَالَ مجاهد: "الطبل" {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} "مِنْ الثَّوَابِ عَلَى سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَحُضُورِ الْمَوْعِظَةِ" {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} .

قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ قَائِمَةٌ; رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَلْقَمَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا؟ فَقَالَ: أَلَسْت تَقْرَأُ الْقُرْآنَ {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ؟. وَرَوَى حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُ، فَانْصَرَفَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ، فَجَاءَتْ عِيرٌ فَخَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ ابْنُ فَضِيلٍ وَابْنُ إدْرِيسَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَنْ حُصَيْنٍ، فَذَكَرَ ابْنُ فَضِيلٍ أَنَّهُ قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَذَكَرَ ابْنُ إدْرِيسَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ يَخْطُبُ"، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "نُصَلِّي" أَنَّهُمْ قَدْ حَضَرُوا لِلصَّلَاةِ مُنْتَظِرِينَ لَهَا; لِأَنَّ مَنْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي قوله تعالى: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءُ سِعْرٍ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَسَمِعُوا بِهَا فَخَرَجُوا إلَيْهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ كَمَا هُوَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ اتَّبَعَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لَالْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا" آخر سورة الجمعة.

وَمِنْ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سبيل الله} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "أَشْهَدُ" يَمِينٌ; لِأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: "نَشْهَدُ" فَجَعَلَهُ اللَّهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ: "أَشْهَدُ وَأُقْسِمُ وَأَعْزِمُ وَأَحْلِفُ كُلُّهَا أَيْمَانٌ" وَقَالَ زُفَرُ: "إذَا قَالَ: أُقْسِمُ لَأَفْعَلَنَّ، فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ لَأَفْعَلَنَّ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا" وَقَالَ مَالِكٌ: "إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أُقْسِمُ أَيْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ وَكَذَلِكَ أَحْلِفُ" قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: أَعْزِمُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَعْزِمُ بِاَللَّهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: نَذْرٌ لِلَّهِ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "أُقْسِمُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَأُقْسِمُ بِاَللَّهِ يَمِينٌ إنْ أَرَادَهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْعِدَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَأَعْزِمُ بِاَللَّهِ إنْ أَرَادَ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ" وَذَكَرَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ وَلَمْ يَقُلْ: بِاَللَّهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ، وَإِنْ قَالَ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَمِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ "أَشْهَدُ بِاَللَّهِ" يَمِينٌ فَكَذَلِكَ "أَشْهَدُ" مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: "نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ" ثُمَّ جَعَلَ هَذَا الْإِطْلَاقَ يَمِينًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] فَعَبَّرَ عَنْ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْقَسَمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي حَذْفِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي إظْهَارِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَسَمَ فِي كِتَابِهِ فَأَظْهَرَ تَارَةً الِاسْمَ وَحَذَفَهُ أُخْرَى وَالْمَفْهُومُ بِاللَّفْظِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] فَحَذَفَهُ تَارَةً اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِإِضْمَارِهِ وَأَظْهَرَهُ أُخْرَى، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ

عَبَرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُقْسِمْ" وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي" فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: "أَقْسَمْت عَلَيْك" يَمِينًا; فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ الْقَسَمَ لِقَوْلِهِ: "لَا تُقْسِمْ" وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا وَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ: " لَا تُقْسِمْ" ; لِأَنَّ عِبَارَةَ الرُّؤْيَا ظَنٌّ قَدْ يَقَعُ فِيهَا الْخَطَأُ، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَنْ يَبَرَّ قَسَمَهُ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْهُ لَمَّا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِيُخْبِرَهُ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ تَأْوِيلَ رُؤْيَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِهَا; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَرَوَى هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ عَلَى الشَّامِّ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَشُدُّ الْإِبِلَ بِأَقْتَابِهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ قَالَ لَهُ النَّاسُ: تَدَعُ عُمَرَ يَنْطَلِقُ إلَى الشَّامِ؟ وَاَللَّهِ إنَّ عُمَرَ لَيَكْفِيك الشَّامَ وَهُوَ هَهُنَا قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَّا أَقَمْت وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ فِيمَا خَاصَمَ فِيهِ عَلِيًّا مِنْ أَشْيَاءَ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيثَارِهِ: أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَّا سَلَّمْته لِعَلِيٍّ. وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْقَسَمِ وَأَنَّهُ يَمِينٌ، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا قَالَ: "أَقْسَمْت عَلَيْك " وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ: الْقَسَمُ يَمِينٌ وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: أَقْسَمْت وَأَقْسَمْت بِاَللَّهِ سَوَاءٌ.

بَابُ مَنْ فَرَّطَ فِي زَكَاةِ مَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَبَّابٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَالٌ يُبْلِغُهُ بَيْتَ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ"، وَتَلَا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى حُصُولِ التَّفْرِيطِ بِالْمَوْتِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا وَوَجَبَ أَدَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَكَانَتْ قَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى الْمَالِ فَلَزِمَ الْوَرَثَةَ إخْرَاجُهَا، فَلَمَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَدَاءَ فَائِتٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْمَالِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنْ يتبرع به الورثة. آخر سورة المنافقين.

وَمِنْ سُورَةِ الطَّلَاقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ بِالْخِطَابِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: اكْتِفَاءٌ بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ مَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطَابٌ لَهُمْ، إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ إلَّا مَا خُصَّ بِهِ دُونَهُمْ، فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ ثُمَّ عَدَلَ بِالْخِطَابِ إلَى الْجَمَاعَةِ; إذْ كَانَ خِطَابُهُ خِطَابًا لِلْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأُمَّتِك إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ. وَالثَّالِثُ: عَلَى الْعَادَةِ فِي خِطَابِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْأَتْبَاعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} [الأعراف: 103] . وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ; قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَلْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُفَارِقْهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا أَوْ يُمْسِكُهَا، فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ" رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ قَالَ: طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ". وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَبِي طَلْحَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُطَلِّقْهَا وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ الله في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَأَنَّ وَقْتَ الطَّلَاقِ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِيقَاعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ بِقَوْلِهِ: "يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا إنْ شَاءَ" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَبَاحَ طَلَاقَهَا فِي الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ إلَّا شَيْئًا رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "إذَا طَلَّقَهَا

وَهِيَ طَاهِرٌ فَقَدْ طَلَّقَهَا لِلسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا"، وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ; إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْحَامِلَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "إذَا طَلَّقَهَا حَامِلًا فَقَدْ طَلَّقَهَا لِلسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا"، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلَ الْحَدِيثِ وَأَغْفَلَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الْحَامِلِ. وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} مُنْتَظِمٌ لِلْوَاحِدَةِ وَلِلثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً فِي الْأَطْهَارِ; لِأَنَّ إدْخَالَ "اللَّامِ" يَقْتَضِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] قَدْ انْتَظَمَ فِعْلُهَا مُكَرَّرًا عِنْدَ الدُّلُوكِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا إبَاحَةُ الثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً فِي الْأَطْهَارِ، وَإِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: "إيقَاعُ الثَّلَاثِ فِي الْأَطْهَارِ الْمُتَفَرِّقَةِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ" وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّانِي: تَفْرِيقُهَا فِي الْأَطْهَارِ وَحَظْرِ جَمْعِهَا في طهر واحد; لأن قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} يَقْتَضِي ذَلِكَ لَا فِعْلَ الْجَمِيعِ فِي طُهْرٍ واحد، كقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لَمْ يَقْتَضِ فِعْلَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا اقْتَضَى فِعْلَ الصَّلَاةِ مُكَرَّرَةً فِي الْأَوْقَاتِ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا: إنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. وَالْآخَرُ: مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ عَلَى تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْوَقْتُ مَشْرُوطٌ لِمَنْ يُطَلِّقُ فِي الْعِدَّةِ; لِأَنَّ مَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَطَلَاقُهَا مُبَاحٌ فِي الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فَأَبَاحَ طَلَاقَهَا فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مِنْ السُّنَّةِ وَمِنْ مَنْعِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي الْأَطْهَارِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا جَازَ طَلَاقُ الْحَامِلِ بَعْدَ الْجِمَاعِ كَذَلِكَ الْحَائِلُ يَجُوزُ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ، قِيلَ لَهُ: لَا حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الْأَثَرِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا ثُمَّ جَامَعَهَا لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا قَدْ حَمَلَتْ مِنْ الْوَطْءِ وَعَسَى أَنْ لَا يُرِيدَ طَلَاقَهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا فَيَلْحَقُهُ النَّدَمُ، وَإِذَا لَمْ يُجَامِعْهَا بَعْدَ الطُّهْرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ عَلَمٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَيُطَلِّقُهَا وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ طَلَاقِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْعِدَّةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَبِقَوْلِهِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ عَدَدٌ لِلْمُطْلَقَاتِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ

الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ لَهُنَّ; فَيَكُونُ إحْصَاؤُهَا لِمَعَانٍ، أَحَدُهَا: لِمَا يُرِيدُ مِنْ رَجْعَةٍ وَإِمْسَاكٍ أَوْ تَسْرِيحٍ وَفِرَاقٍ. وَالثَّانِي: مُرَاعَاةُ حَالِهَا فِي بَقَائِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي طَلُقَتْ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ حَالٍ يُوجِبُ انْتِقَالَ عِدَّتِهَا إلَيْهَا. وَالثَّالِثُ: لِكَيْ إذَا بَانَتْ يُشْهِدُ عَلَى فِرَاقِهَا وَيَتَزَوَّجُ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرَهَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُ جَمْعُهَا إلَيْهَا وَلِئَلَّا يُخْرِجَهَا مِنْ بَيْتِهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ: "إنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ أَيْضًا إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً; فَذَكَرُوا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ السُّنَّةُ وَالثَّانِيَ أَيْضًا سُنَّةٌ; فَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ وَخِلَافُهُ سُنَّةً وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا حَلَالًا، وَلَوْ قَالَ: إنَّ الثَّانِيَ رُخْصَةٌ كَانَ أَشْبَهَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْعِبَادَاتِ وَمَا يَجُوزُ وُرُودُهُ مِنْهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ جَوَازَ وُرُودِ الْعِبَادَةِ بِمِثْلِهِ; إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ السُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ إيقَاعِ الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَالِاقْتِصَادِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَحْسَنَ مِنْ الْآخِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور:60] ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] وَخَيَّرَ اللَّهُ الْحَانِثَ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ أَحَدِ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةٍ وَأَيَّهَا فَعَلَ كَانَ فَرْضَهُ وَقَوْلُهُ: "وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا حَرَامًا" يُوجِبُ نَفْيَ التَّخْيِيرِ فِي شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ وَالْفُرُوضِ كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ حَرَامًا حَلَالًا; وَعُوَارُ هَذَا الْقَوْلِ وَفَسَادُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي الرَّدِّ عَلَى قَائِلِهِ وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا بِعَيْنِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وقَوْله تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} فِيهِ نَهْيٌ لِلزَّوْجِ عَنْ إخْرَاجِهَا وَنَهْيٌ لَهَا عَنْ الْخُرُوجِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ; لِأَنَّ بُيُوتَهُنَّ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْ إخْرَاجِهَا مِنْهَا هِيَ الْبُيُوتُ الَّتِي كَانَتْ تَسْكُنُهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَأَمَرَ بِتَبْقِيَتِهَا فِي بَيْتِهَا وَنَسَبِهَا إلَيْهَا بِالسُّكْنَى كَمَا قَالَ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] ، وَإِنَّمَا الْبُيُوتُ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا" وَمَنَعُوهَا مِنْ السَّفَرِ فِي الْعِدَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ إسْكَانَهَا وَنَفَقَتَهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إخْرَاجُهَا مِنْ بَيْتِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "خُرُوجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاحِشَةٌ"، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إلَّا أَنْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهَا" وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ عِصْيَانُ الزَّوْجِ" وَقَالَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ

أَسْلَمَ: "أَنْ تَزْنِيَ فَتُخْرَجَ لِلْحَدِّ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "إلَّا أَنْ تَنْشُزَ فَإِذَا فَعَلَتْ حَلَّ إخْرَاجُهَا" قال أبو بكر: هذه المعاني كلها يحتملها اللَّفْظُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا فَيَكُونَ خُرُوجُهَا فَاحِشَةً وَإِذَا زَنَتْ أُخْرِجَتْ لِلْحَدِّ وَإِذَا بَذَتْ عَلَى أَهْلِهِ أُخْرِجَتْ أَيْضًا; وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ بِالِانْتِقَالِ حِينَ بَذَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا، فَأَمَّا عِصْيَانُ الزَّوْجِ وَالنُّشُوزُ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَذَاءِ وَسُوءِ الْخُلُقِ اللَّذَيْنِ يَتَعَذَّرُ الْمَقَامُ مَعَهَا فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا عَصَتْ زَوْجَهَا فِي شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي إخْرَاجِهَا وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّأْوِيلِ الْمُرَادِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ انْتِقَالِهَا لِلْعُذْرِ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهَا الْخُرُوجَ لِلْأَعْذَارِ الَّتِي وَصَفْنَا. قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَكَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ بِتَعَدِّيهِ حُدُودَ اللَّهِ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ طَلَاقِ الْعِدَّةِ فَأَبَانَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وُقُوعَ طَلَاقِهِ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، قَوْله تَعَالَى عَقِيبَهُ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} يَعْنِي أَنْ يَحْدُثَ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يَنْفَعُهُ; لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ السُّنَّةِ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ حِينَ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ اعْتِبَارَ مَا عَسَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْ النَّدَمِ بِإِبَانَتِهَا; وَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ بِطَلَاقِهِ إيَّاهَا فِي الْحَيْضِ وَأَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا; لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ كَانَ خَطَأً فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ لِيَقْطَعَ أَسْبَابَ الْخَطَإِ وَيَبْتَدِئَهُ عَلَى السُّنَّةِ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالِ الْحَيْضِ لَا يَقَعُ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُؤَالُ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ لِابْنِ عُمَرَ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَذِكْرُهُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ بِالْمُرَاجَعَةِ قَالَ: قُلْت: فَيَعْتَدُّ بِهَا؟ قَالَ: "فَمَهْ؟ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ؟ " فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عُرْوَةَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ قَالَ طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ; فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ: "إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ". فَقَالَ الْمُحْتَجُّ: فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ فَيُقَلْ لَهُ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْت دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِالطَّلَاقِ، بَلْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ عَلَى

وُقُوعِهِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "وَرَدَّهَا عَلَيَّ" وَهُوَ يَعْنِي الرَّجْعَةَ. وَقَوْلُهُ: "وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا" يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُبِنْهَا مِنْهُ وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْهُ، كُلُّهُمْ يَقُولُ فِيهِ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يَعْنِي بِهِ مُقَارَبَةَ بُلُوغِ الْأَجَلِ لَا حَقِيقَتَهُ; لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ الَّذِي هُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا ابْتِدَاءً إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، يَعْنِي أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيُرَاجِعَهَا; وَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] .

بَابُ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ الْفُرْقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفُرْقَةِ أَيَّتَهمَا اخْتَارَ الزَّوْجُ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَبُو قلابة أَنَّهُ إذَا رَجَعَ وَلَمْ يُشْهِدْ فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ وَيُشْهِدُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا جُعِلَ لَهُ الْإِمْسَاكُ أَوْ الْفِرَاقُ ثُمَّ عَقَبَهُ بِذِكْرِ الْإِشْهَادِ كَانَ مَعْلُومًا وُقُوعُ الرَّجْعَةِ إذَا رَجَعَ وَجَوَازُ الْإِشْهَادِ بَعْدَهَا إذْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِشْهَادَ شَرْطًا فِي الرَّجْعَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِرَاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَأَنَّ الْفُرْقَةَ تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا وَيُشْهِدُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ عَقِيبَ الْفُرْقَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا، كَذَلِكَ الرَّجْعَةُ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْفُرْقَةُ حَقًّا لَهُ وَجَازَتْ بِغَيْرِ إشْهَادٍ إذْ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى رِضَا غَيْرِهِ وَكَانَتْ الرَّجْعَةُ أَيْضًا حَقًّا لَهُ، وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَأَيْضًا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْإِمْسَاكِ أَوْ الْفُرْقَةِ احْتِيَاطًا لَهُمَا وَنَفْيًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُمَا إذَا عُلِمَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُعْلَمْ الرَّجْعَةُ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ، فَلَا يُؤْمَنُ التجاحد بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا مَقْصُورًا عَلَى الْإِشْهَادِ فِي حَالِ الرَّجْعَةِ أَوْ الْفُرْقَةِ بَلْ يَكُونُ الِاحْتِيَاطُ بَاقِيًا، وَإِنْ أَشْهَدَ بَعْدَهُمَا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا إذَا أَشْهَدَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِسَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ; وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ شُهُودٍ إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، فَإِنَّ سُفْيَانَ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ بِالْبَيِّنَةِ"، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ احْتِيَاطًا مِنْ التجاحد لَا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَعَهَا وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ

مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَكَمِ قَالَا: "إذَا غَشِيَهَا فِي الْعِدَّةِ فَغَشَيَانُهُ رَجْعَةٌ". وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فِيهِ أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَلَى الْحُقُوقِ كُلِّهَا; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا اسْمٌ لِلْحَبْسِ وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِشْهَادِ ذَوَيْ عَدْلٍ عَلَى الرَّجْعَةِ; لِأَنَّ ذِكْرَهَا بَعْدَهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، فَانْتَظَمَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَفَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ.

بَابُ عِدَّةُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَ الْإِيَاسِ لِمَنْ ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ مِنْ النِّسَاءِ بِلَا ارْتِيَابٍ، وَقَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِارْتِيَابَ فِي الْإِيَاسِ; لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ حُكْمَ مَنْ ثَبَتَ إيَاسُهَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِارْتِيَابَ فِي غَيْرِ الْإِيَاسِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرِّيبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، فَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ قَالَ "قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَدَدًا مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ ارْتِيَابَهُمْ فِي عَدَدِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الِارْتِيَابِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَكَانَ بِمَعْنَى: وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الَّتِي يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا، فَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلُقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ بِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَاكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَلَّتْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَنَةً قَالَ: تِلْكَ الرِّيبَةُ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الَّتِي تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً قَالَ هَذِهِ رِيبَةٌ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو وَعَنْ طاوس مِثْلَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ عِنْدَ جَدِّهِ حِبَّانَ امْرَأَتَانِ هَاشِمِيَّةٌ وَأَنْصَارِيَّةٌ فَطَلَّقَ الْأَنْصَارِيَّةَ وَهِيَ تُرْضِعُ فَمَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ ثُمَّ هَلَكَ وَلَمْ تَحِضْ، فَقَالَتْ: أَنَا أَرِثُهُ وَلَمْ أَحِضْ،

فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ فَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ فَلَامَتْ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ، فَقَالَ هَذَا عَمَلُ ابْنِ عَمِّك هُوَ أَشَارَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: وَبَقِيَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَا تَحِيضُ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَشَاوَرَ عُثْمَانُ عَلِيًّا وَزَيْدًا فَقَالَا: تَرِثُهُ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي قَدْ يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ وَلَا مِنْ الْأَبْكَارِ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى حَيْضَتِهَا مَا كَانَتْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمَا: إن قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} لَيْسَ عَلَى ارْتِيَابِ الْمَرْأَةِ وَلَكِنَّهُ عَلَى ارْتِيَابِ الشَّاكِّينَ فِي حُكْمِ عَدَدِهِنَّ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ آيِسَةً حَتَّى تَكُونَ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَا يُرْجَى حَيْضُهُنَّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي الَّتِي يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا لِإِيَاسٍ مِنْهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ: "إنَّ عِدَّتَهَا الْحَيْضُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي السِّنِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ أَهْلُهَا مِنْ النِّسَاءِ فَتَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ" وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ: "تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهِنَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَةَ أَشْهُرٍ اسْتَقْبَلَتْ الْحَيْضَ، فَإِنْ مَضَتْ بِهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ" وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "إذَا حَاضَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثُمَّ ارْتَابَتْ فَإِنَّمَا تَعْتَدُّ بِالتِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ يَوْمِ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا لَا مِنْ يَوْمِ طَلُقَتْ"، قَالَ مَالِكٌ فِي قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} "مَعْنَاهُ إنْ لَمْ تَدْرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِي أَمْرِهَا" وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ شَابَّةٌ فَارْتَفَعَتْ حَيْضَتُهَا فَلَمْ تَرَ شَيْئًا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ: "فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ سَنَةً". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوْجَبَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةَ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِدَّةُ لِمَنْ قَدْ ثَبَتَ إيَاسُهَا مِنْ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} لِمَنْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ، وَكَقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] لِمَنْ قَدْ ثَبَتَ حَمْلُهَا، فكذلك قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} لِمَنْ قَدْ ثَبَتَ إيَاسُهَا وَتُيُقِّنَ ذَلِكَ مِنْهَا دُونَ مَنْ يَشُكُّ فِي إيَاسِهَا ثُمَّ لَا يخلو قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِارْتِيَابَ فِي أَنَّهَا آيِسَةٌ وَلَيْسَتْ بِآيِسَةٍ، أَوْ الِارْتِيَابَ فِي أَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ، أَوْ ارْتِيَابَ الْمُخَاطَبِينَ فِي عِدَّةِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ; وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِارْتِيَابَ فِي أَنَّهَا آيِسَةٌ أَوْ غَيْرُ آيِسَةٍ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ مَنْ جَعَلَ الشُّهُورَ عِدَّتَهَا أَنَّهَا آيِسَةٌ، وَالْمَشْكُوكُ فِيهَا لَا تَكُونُ آيِسَةً لِاسْتِحَالَةِ مُجَامَعَةِ الْيَأْسِ لِلرَّجَاءِ; إذْ هُمَا ضِدَّانِ لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا حَتَّى تَكُونَ آيِسَةً مِنْ الْمَحِيضِ مَرْجُوًّا ذَلِكَ مِنْهَا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الِارْتِيَابَ فِي الْيَأْسِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُسِنَّةَ الَّتِي قَدْ تُيُقِّنَ إيَاسُهَا مِنْ الْحَيْضِ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ، وَالِارْتِيَابُ الْمَذْكُورُ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ

وَهُوَ فِي الَّتِي قَدْ تُيُقِّنَ إيَاسُهَا ارْتِيَابُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْعِدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَشْكُوكِ فِي إيَاسِهَا مِثْلُهُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْجَمِيعِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا وَهِيَ شَابَّةٌ أَنَّهَا تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً فَهَذِهِ غَيْرُ مُرْتَابٍ فِي إيَاسِهَا بَلْ قَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا سَنَةً مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا غَيْرُ آيِسَةٍ، وَأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَتَرَاخِي مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مِنْ الْمُدَّةِ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَالْمُوجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةَ الشُّهُورِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّةَ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْحَيْضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَنْ طَالَتْ مُدَّةُ حَيْضَتِهَا أَوْ قَصُرَتْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا الْمُرَادُ الِارْتِيَابَ فِي الْإِيَاسِ مِنْ الْحَمْلِ; لِأَنَّ الْيَأْسَ مِنْ الْحَيْضِ هُوَ الْإِيَاسُ مِنْ الْحَبَلِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ رَدَّ الِارْتِيَابَ إلَى الْحَيْضِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ ارْتِيَابُ الْمُخَاطَبِينَ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بْنِ كَعْبٍ حِينَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَكَّ فِي عِدَّةِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِارْتِيَابَ فِي الْإِيَاسِ لَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إلَيْهِنَّ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إلَى الرِّجَالِ; لِأَنَّ الْحَيْضَ إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ جِهَتِهَا وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُصَدَّقَةً فِيهِ فَكَانَ يَقُولُ: إنْ ارْتَبْتُنَّ أَوْ ارْتَبْنَ فَلَمَّا خَاطَبَ الرِّجَالَ بِذَلِكَ دُونَهُنَّ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ ارْتِيَابَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْعِدَّةِ. وَقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يَعْنِي: وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَمِيرٍ، وَضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا وَهُوَ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ.

بَابُ عِدَّةُ الْحَامِلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بَعْدَهُمْ أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْتَدُّ الْحَامِلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آخِرَ الْأَجَلَيْنِ وَقَالَ عَمْرٌو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: عِدَّتُهَا الْحَمْلُ فَإِذَا وَضَعَتْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ مَا نَزَلَتْ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} إلَّا بَعْدَ آيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ تَارِيخِ نُزُولِ الْآيَةِ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الشُّهُورِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِهَا فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ عَلَى عُمُومِهَا غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ الْمُطَلَّقَةِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْحَمْلِ فِي الْجَمِيعِ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ

وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَنْ لَا يُجْعَلَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ; لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ بِلَا دَلَالَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ مُرَادَةٌ بِهَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ شُهُورِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا يُوجِبُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا دُونَ وَضْعِ الْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُرَادَةٌ بِهَا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْحَمْلِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ جَازَ اعْتِبَارُ الشُّهُورِ; لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي آيَةٍ أُخْرَى لَجَازَ اعْتِبَارُ الْحَيْضِ مَعَ الْحَمْلِ فِي الْمُطَلَّقَةِ; لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَفِي سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْحَيْضِ مَعَ الْحَمْلِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الشُّهُورِ مَعَ الْحَمْلِ. وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بِعَكَكٍ: أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، فَتَشَوَّقَتْ لِلنِّكَاحِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إنْ تَفْعَلْ فَقَدْ خَلَا أَجَلُهَا". وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُرَيْبًا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: إنَّ سبيعة وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَيَّامٍ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سبيعة أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِشَهْرَيْنِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَزَوَّجِي! " وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا عِدَّةَ امْرَأَةِ الصَّغِيرِ مِنْ الْوَفَاةِ الْحَمْلَ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ امْرَأَةِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَلَا بَيْنَ مَنْ يَلْحَقُهُ بِالنَّسَبِ أَوْ لَا يَلْحَقُهُ.

بَابُ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "لَا سُكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ إنَّمَا هِيَ لِلرَّجْعِيَّةِ". قَالَ أبو بكر: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ انْتَظَمَ الرَّجْعِيَّةَ وَالْمَبْتُوتَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْعِدَّةِ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا بِالْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يطلقها طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا"، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ تَضَمَّنَ الْبَائِنَ، ثُمَّ قَالَ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَجَبَ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ مِنْ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وَقَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الرَّجْعِيَّ

قِيلَ لَهُ: هَذَا أَحَدُ مَا انْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْخِطَابِ فِي الرَّجْعِيِّ دُونَ الْبَائِنِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَهُوَ عُمُومٌ فِي الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ. ثُمَّ قَوْلُهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ خَاصٌّ فِي الرَّجْعِيِّ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] عَامًّا فِي الْجَمِيعِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَسَنَتَكَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ" وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "لَا سُكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ وَلَا نَفَقَةَ"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ" وَكَانَ يُرَى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إنْ شَاءَتْ، وَقَالَ مَالِكٌ: "لِلْمَبْتُوتَةِ السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ نَفَقَةَ الْحَامِلِ الْمَبْتُوتَةِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "لِلْمَبْتُوتَةِ السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ; وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السُّكْنَى لَمَّا كَانَتْ حَقًّا فِي مَالٍ وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ لَهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ; إذْ كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ تَنَاوَلَتْ الْمَبْتُوتَةَ وَالرَّجْعِيَّةَ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ النَّفَقَةِ; إذْ كَانَتْ السُّكْنَى حَقًّا فِي مَالٍ وَهِيَ بَعْضُ النَّفَقَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} وَالْمُضَارَّةُ تَقَعُ فِي النَّفَقَةِ كَهِيَ فِي السُّكْنَى والثالث: قوله: {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} وَالتَّضْيِيقُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّفَقَةِ أَيْضًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَلَا يُضَيِّقَ عَلَيْهَا فِيهَا. وَقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} قَدْ انْتَظَمَ الْمَبْتُوتَةَ وَالرَّجْعِيَّةَ; ثُمَّ لَا تَخْلُو هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ أَوْ; لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهَا، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ لِلرَّجْعِيَّةِ بِالْآيَةِ لَا لِلْحَمْلِ بَلْ; لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ الْمَبْتُوتَةُ النَّفَقَةَ لَهَذِهِ الْعِلَّةِ; إذْ قَدْ عُلِمَ ضَمِيرُ الْآيَةِ فِي عِلِّيَّةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لِلرَّجْعِيَّةِ، فَصَارَ كقوله: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} لِعِلَّةِ أَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي تَقُومُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً لِلْحَمْلِ أَوْ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْحَمْلِ لَوَجَبَ أَنَّ الْحَمْلَ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الصَّغِيرِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ كَانَتْ نَفَقَةُ أمه

عَلَى الزَّوْجِ لَا فِي مَالِ الْحَمْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً فِي بَيْتِهِ. وَأَيْضًا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ نَفَقَةُ الْحَامِلِ فِي مَالِ الْحَمْلِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، كَمَا أَنَّ نَفَقَتَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ مَالٍ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ نَفَقَتَهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَمْ تَجِبْ فِي مَالِ الْحَمْلِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْبَائِنِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي نَصِيبِ الْحَمْلِ مِنْ الْمِيرَاثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَامِلِ بِالذِّكْرِ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ دَخَلَتْ فِيهِ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَلَمْ يَمْنَعْ نَفْيَ النَّفَقَةِ لِغَيْرِ الْحَامِلِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَبْتُوتَةِ; وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَمْلَ; لِأَنَّ مُدَّتَهُ قَدْ تَطُولُ وَتَقْصُرُ، فَأَرَادَ إعْلَامَنَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ مَعَ طُولِ مُدَّةِ الْحَمْلِ الَّتِي هِيَ فِي الْعِدَّةِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ النَّاشِزَةَ إذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، لِعَدَمِ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِ، وَمَتَى عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ هُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِ، فَلَمَّا اتَّفَقْنَا وَمَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى وَصَارَتْ بِهَا مُسَلِّمَةً لِنَفْسِهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّهَا الْمَبْتُوتَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ، وَإِنْ شِئْت قُلْت: إنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ شِئْت قُلْت: إنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلسُّكْنَى، فَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي اعْتَلَلْت بِهِ صَحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا بَائِنًا، فَأَتَتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى"، قَالَ: فَأَخْبَرْت بِذَلِكَ النَّخَعِيّ فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَسْنَا بِتَارِكِي آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا أُوهِمَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ" وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: قَدْ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فَقَدْ نَصَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَفِي الْأَوَّلِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ" وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: "لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا" يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصًّا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِهِمَا. وَاحْتَجَّ الْمُبْطِلُونَ لِلسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَمَنْ نَفَى النَّفَقَةَ دُونَ السُّكْنَى بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ هَذَا، وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ ظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ النَّكِيرُ عَلَى رَاوِيهِ، وَمِنْ شَرْطِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ تَعَرِّيهَا مِنْ نَكِيرِ السَّلَفِ أَنْكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي الْحَدِيثِ

الْأَوَّلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَرْوَانَ ذَكَرَ لِعَائِشَةَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَتْ: لَا يَضُرُّك أَنْ لَا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَالَتْ فِي بَعْضِهِ: مَا لِفَاطِمَةَ خَيْرٌ فِي أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي قَوْلَهَا: "لَا سُكْنَى لَك وَلَا نَفَقَةَ" وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النَّاسَ، اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا بِلِسَانِهَا، فَأُمِرَتْ بِالِانْتِقَالِ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ تُحَدِّثُ بِهِ. وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: "اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" ; قَالَ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ يَقُولُ: كَانَ أُسَامَةُ إذَا ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا رَمَاهَا بِمَا كَانَ فِي يَدِهِ; فَلَمْ يَكُنْ يُنْكِرُ عَلَيْهَا هَذَا النَّكِيرَ إلَّا وَقَدْ عَلِمَ بُطْلَانَ مَا رَوَتْهُ وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ رزيق عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهَا: "لَا سُكْنَى لَك وَلَا نَفَقَةَ" قَالَ: فَرَمَاهُ الْأَسْوَدُ بِحَصًى ثُمَّ قَالَ: وَيْلُك أَتُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَدْ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَسْنَا بِتَارِكِي كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تَدْرِي لَعَلَّهَا كَذَبَتْ; قَالَ اللَّهُ تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وَرَوَى الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: "أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَفْتَتْ بِنْتَ أَخِيهَا وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا بِالِانْتِقَالِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَرْوَانُ، فَأَرْسَلَ إلَى فَاطِمَةَ يَسْأَلُهَا عَلَى ذَلِكَ، فَذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَاهَا بِذَلِكَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَرْوَانُ وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} قَالَتْ فَاطِمَةُ: إنَّمَا هَذَا فِي الرَّجْعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَك وَسَآخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْت النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ النَّكِيرُ عَلَى فَاطِمَةَ فِي رِوَايَتِهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُنْكِرُونَ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ بِالنَّظَرِ وَالْمُقَايَسَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا خِلَافَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَمِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لَمَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهَا وَقَدْ اسْتَفَاضَ خَبَرُ فَاطِمَةَ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أرطاة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: "لَا نَفَقَةَ لَهُمَا وَتَعْتَدَّانِ حَيْثُ شَاءَتَا". فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي رَدِّ خَبَرِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مِنْ جِهَةِ ظُهُورِ النَّكِيرِ مِنْ السَّلَفِ عَلَيْهَا وَفِي رِوَايَتِهَا وَمُعَارَضَةُ حَدِيثِ عُمَرَ إيَّاهُ يُلْزِمُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ نُفَاةِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَمِمَّنْ نَفَى النَّفَقَةَ وَأَثْبَتَ السُّكْنَى، وَهُوَ لِمَنْ نَفَى النَّفَقَةَ دُونَ السُّكْنَى أَلْزَمُ; لِأَنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا حَدِيثَهَا فِي نَفْيِ السُّكْنَى لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْعِلَّةُ بِعَيْنِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِتَرْكِ حَدِيثِهَا فِي نَفْيِ النَّفَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهَا فِي نَفْيِ السُّكْنَى لِمُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله

تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} قِيلَ لَهُ: قَدْ احْتَجَّتْ هِيَ فِي أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنْ جَازَ عَلَيْهَا الْوَهْمُ وَالْغَلَطُ فِي رِوَايَتِهَا حَدِيثًا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ فَكَذَلِكَ سَبِيلُهَا فِي النَّفَقَةِ. وَلِلْحَدِيثِ عِنْدَنَا وَجْهٌ صَحِيحٌ يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِنَا فِيمَا رَوَتْهُ مِنْ نَفْيِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا اسْتَطَالَتْ بِلِسَانِهَا عَلَى أَحْمَائِهَا فَأَمَرُوهَا بِالِانْتِقَالِ وَكَانَتْ سَبَبَ النَّقْلَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ: "أَنْ تَسْتَطِيلَ عَلَى أَهْلِهِ فَيُخْرِجُوهَا" فَلَمَّا كَانَ سَبَبُ النَّقْلَةِ مِنْ جِهَتِهَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّاشِزَةِ، فَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا جَمِيعًا، فَكَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِإِسْقَاطِ النَّفَقَةِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِإِسْقَاطِ السُّكْنَى; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِنَا الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَتْ النَّفَقَةُ كَالسُّكْنَى; لِأَنَّ السُّكْنَى حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ تَرَاضِيهِمَا عَلَى إسْقَاطِهَا، وَالنَّفَقَةُ حَقٌّ لَهَا لَوْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِهَا لَسَقَطَتْ قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا; وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّكْنَى فِيهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كَوْنُهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِ. وَالْآخَرُ: حَقٌّ لَهَا وَهُوَ مَا يَلْزَمُ فِي الْمَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْبَيْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِأَنْ تُعْطَى هِيَ الْأُجْرَةُ وَتُسْقِطَهَا عَنْ الزَّوْجِ جَازَ، فَمِنْ حَيْثُ هِيَ حَقٌّ فِي الْمَالِ قَدْ اسْتَوَيَا. وَاخْتَلَفُوا فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وشريح وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: "نَفَقَتُهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ "لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ بَلْ هِيَ عَلَى نَفْسِهَا" وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: "لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ" وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "نَفَقَتُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا" وَقَالَ مَالِكٌ: "نَفَقَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا وَلَهَا السُّكْنَى إنْ كَانَتْ الدَّارُ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِسُكْنَاهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ بِكِرَاءٍ فَأَخْرَجُوهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سُكْنَى فِي مَالِ الزَّوْجِ"، هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: "لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ وَلَهَا السُّكْنَى إنْ كَانَ الدَّارُ لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهِيَ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى مِنْ الْغُرَمَاءِ وَتُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ وَيُشْتَرَطُ السُّكْنَى عَلَى الْمُشْتَرِي" وَقَالَ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ: "إذَا كَانَتْ حَامِلًا أُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ أُنْفِقَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ نَصِيبِهِ". وَرَوَى الْمُعَافَى عَنْهُ أَنَّ نَفَقَتَهَا مِنْ حِصَّتِهَا وَقَالَ

الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمَرْأَةِ يَمُوتُ زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ: "فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ حَتَّى تَضَعَ" وَقَالَ اللَّيْثُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ: "فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، فَإِنْ وَلَدَتْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَظِّ وَلَدِهَا، وَإِنْ لَمْ تَلِدْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا يُتْبَعُ بِهِ" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: "لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ". وَالْآخَرُ: "لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا غَيْرِ الْحَامِلِ وَلَا سُكْنَى، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَامِلُ مِثْلَهَا لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لِلْحَمْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُوجِبْهَا فِي نَصِيبِ الْحَمْلِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا قَالُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ، قَائِلٌ يَجْعَلُ نَفَقَتَهَا مِنْ نَصِيبِهَا، وَقَائِلٌ يَجْعَلُ النَّفَقَةَ مِنْ جَمِيعِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يُوجِبْهَا أَحَدٌ فِي حِصَّةِ الْحَمْلِ؟ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ لِأَجْلِ الْحَمْلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً لِأَجْلِ كَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ; لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لِلْعِدَّةِ لَوَجَبَتْ لِغَيْرِ الْحَامِلِ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ تَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ تَسْتَحِقَّ السُّكْنَى فِي مَالِ الزَّوْجِ بِدَلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّفَقَةَ إذَا وَجَبَتْ فَإِنَّمَا تَجِبُ حَالًّا فَحَالًّا، فَلَمَّا مَاتَ الزَّوْجُ انْتَقَلَ مِيرَاثُهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَالٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُهَا عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، قِيلَ لَهُ: الدَّيْنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي مِيرَاثِ الْمُتَوَفَّى إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا عَلَى الْمَيِّتِ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ مِثْلَ الْجِنَايَاتِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ إذَا وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ; وَالنَّفَقَةُ خَارِجَةٌ عَنْ الْوَجْهَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُهَا فِي مَالِهِ لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَعَلُّقُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَعَدَمُ مَالِهِ بِزَوَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ وَأَنَّ مِلْكَ الْمَيِّتِ قَدْ زَالَ إلَى الْوَرَثَةِ؟ فَلَمْ يَبْقَ لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ وَجْهٌ; أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ لَا نَفَقَةَ لَهَا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ؟. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلَّقَةِ، كَمَا كَانَ قَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عُمُومًا فِي الصِّنْفَيْنِ; قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} خِطَابٌ لَهُمْ، وَقَدْ زَالَ عَنْهُمْ الْخِطَابُ بِالْمَوْتِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِغَيْرِ الْأَزْوَاجِ، فَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ إيجَابَ نَفَقَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِحَالٍ.

وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قَدْ انْتَظَمَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْكَامٍ: مِنْهَا أَنَّهُ إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ غَيْرَهَا، لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ إذَا أَرْضَعَتْ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَلَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ; لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بَعْدَ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَبَنَ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَقَدْ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَنَافِعِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بِعُقُودِ الْإِجَارَاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِزْ أَصْحَابُنَا بَيْعَ لَبَنِ الْمَرْأَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَفَارَقَ لَبَنُ الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ لَبَنَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ شَاةٍ لِرَضَاعِ صَبِيٍّ; لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَحَقُّ بِعُقُودِ الْإِجَارَاتِ كَاسْتِئْجَارِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ؟. وقوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا تَشْتَطَّ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ فِيمَا تَطْلُبُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَلَا يُقَصِّرْ الزَّوْجُ لَهَا عَنْ الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ. وَقَوْله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} ، قِيلَ: إنَّهُ إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهَا وَرَضِيَتْ غَيْرُهَا بِأَنْ تَأْخُذَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْأَجْنَبِيَّةَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْأُمِّ; لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهِ وَالْكَوْنِ عِنْدَهُ. وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ عَلَى قِدْرِ إمْكَانِهِ وَسَعَتِهِ، وَأَنَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ أَقَلُّ مِنْ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ. وَقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} ، قِيلَ مَعْنَاهُ: مَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلِيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ، يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ نَفَقَةَ الْمُوسِرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَلْ عَلَى قِدْرِ إمْكَانِهِ يُنْفِقُ. وقَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} ، فِيهِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يُطِيقُ; وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ; إذْ كَانَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ قَبِيحًا وَسَفَهًا فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ تَأْكِيدًا لِحُكْمِهِ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ مَعْنًى آخَرَ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّفَقَةِ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ الْإِنْفَاقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَإِذَا لَمْ يُكَلَّفْ الْإِنْفَاقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ نَفَقَتِهَا; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَهَا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ آتَاهُ الطَّلَاقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُ النَّفَقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَلَا يَجُوزُ إجْبَارُهُ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ أَجْلِهَا; لِأَنَّ فِيهِ إيجَابَ التَّفْرِيقِ بِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ إلَّا مَا آتَاهُ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ مِنْ الْإِنْفَاقِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ وَأَيْضًا

إنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُهُ مَا لَا يُطِيقُ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُ كُلَّ مَا يُطِيقُ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ خِطَابِ الْآيَةِ. وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَجْلِ عَجْزِهِ عَنْ النَّفَقَةِ; لِأَنَّ الْعُسْرَ يُرْجَى له اليسر. آخر سورة الطلاق.

وَمِنْ سُورَةِ التَّحْرِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ عِنْدَ زَيْنَبَ، فَتَوَاطَأَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَلَى أَنْ تَقُولَا لَهُ: نَجِدُ مِنْك رِيحَ الْمَغَافِيرِ، قَالَ: "بَلْ شَرِبْت عِنْدَهَا عَسَلًا وَلَنْ أَعُودَ لَهُ"، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . وَقِيلَ: إنَّهُ شَرِبَ عِنْدَ حَفْصَةَ، وَقِيلَ: عِنْدَ سَوْدَةَ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ; وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ" وَقِيلَ: إنَّهُ أَصَابَ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَعَلِمَتْ بِهِ فَجَزِعَتْ مِنْهُ، فَقَالَ لَهَا: "أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أُحَرِّمَهَا فَلَا أَقْرَبُهَا؟ " قَالَتْ: بَلَى; فَحَرَّمَهَا وَقَالَ: "لَا تَذْكُرِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ"، فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَةَ، فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الْآيَةَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا قَدْ كَانَا مِنْ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ وَتَحْرِيمِ الْعَسَلِ، إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ وَأَنَّ الْآيَةَ فِيهَا نَزَلَتْ; لِأَنَّهُ قَالَ: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ شُرْبِ الْعَسَلِ رِضَا أَزْوَاجِهِ، وَفِي تَرْكِ قُرْبِ مَارِيَةَ رِضَاهُنَّ فَرُوِيَ فِي الْعَسَلِ أَنَّهُ حَرَّمَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ وَأَمَّا مَارِيَةُ فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: حَرَّمَهَا; وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى وَحَرَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: الْحَرَامُ حَلَالٌ وَأَمَّا الْيَمِينُ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: "حَرَّمَ جَارِيَتَهُ"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَرَّمَ وَحَلَفَ أَيْضًا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا فِيهَا التَّحْرِيمُ فَقَطْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُلْحَقَ بِالْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ يَمِينًا لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْيَمِينِ; لِأَنَّ الْيَمِينَ تَحْرِيمٌ للمحلوف

عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيمَ أَيْضًا يَمِينٌ; وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا يَخْتَلِفُ فِي وَجْهٍ وَيَتَّفِقُ فِي وَجْهٍ آخَرَ، فَالْوَجْهُ الَّذِي يُوَافِقُ الْيَمِينُ فِيهِ التَّحْرِيمَ أَنَّ الْحِنْثَ فِيهِمَا يُوجِبُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَخْتَلِفَانِ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَالَ: "قَدْ حَرَّمْت هَذَا الرَّغِيفَ عَلَى نَفْسِي" فَأَكَلَ مِنْهُ الْيَسِيرَ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ; لِأَنَّهُمْ شَبَّهُوا تَحْرِيمَهُ الرَّغِيفَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت مِنْ هَذَا الرَّغِيفِ شَيْئًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِسَائِرِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ أَنَّهُ اقْتَضَى تَحْرِيمَ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَالْكَثِيرِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الرَّجُلِ يُحَرِّمُ امْرَأَتَهُ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ الْحَرَامَ يَمِينٌ"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رِوَايَةٌ وَابْنِ عُمَرَ رِوَايَةٌ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ قَالُوا: "هِيَ ثَلَاثٌ" وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ بِمَنْزِلَةِ الظِّهَارِ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "النَّذْرُ وَالْحَرَامُ إذَا لَمْ يُسَمَّ مُغَلَّظَةٌ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا". وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ يَمِينٍ، وَأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا. وَقَالَ مَسْرُوقٌ "مَا أُبَالِي إيَّاهَا حَرَّمْت أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ" وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "مَا أُبَالِي حَرَّمْت امْرَأَتِي أَوْ مَاءً فُرَاتًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ يَمِينًا; لِأَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا فِي تَحْرِيمِ الثَّرِيدِ وَالْمَاءِ أَنَّهُ يَمِينٌ، فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا ذَلِكَ طَلَاقًا; وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَلَمْ تَظْهَرْ مُخَالَفَةُ هَذَيْنِ لِمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِلَغْوٍ وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا أَوْ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْحَرَامِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهُوَ يَمِينٌ وَهُوَ مُولٍ" وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: "أَنَّهُ إنْ نَوَى ظِهَارًا لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا; لِأَنَّ الظِّهَارَ أَصْلُهُ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ" وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ: "أَنَّهُ إنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا" وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "هِيَ ثَلَاثٌ وَلَا أَسْأَلُهُ عَنْ نِيَّتِهِ" وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: "الْحَرَامُ لَا يَكُونُ يَمِينًا فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَهُوَ ثَلَاثٌ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى" وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فُرْقَةً وَلَا يمينا فليس

بِشَيْءٍ هِيَ كِذْبَةٌ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "هُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ" وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ "هُوَ بِمَنْزِلَةِ الظِّهَارِ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَيْسَ بِطَلَاقٍ حَتَّى يَنْوِيَ فَإِذَا نَوَى فَهُوَ طَلَاقٌ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ عَدَدِهِ، وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِلَا طَلَاقٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَيْسَ بِمُولٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ جَعَلَ أَصْحَابُنَا التَّحْرِيمَ يَمِينًا إذَا لَمْ تُقَارِنْهُ نِيَّةُ الطَّلَاقِ إذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهَا: "وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك" فَيَكُونُ مُولِيًا، وَأَمَّا إذَا حَرَّمَ غَيْرَ امْرَأَتِهِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا آكُلُ مِنْهُ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مِنْهُ" وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، فَجَعَلَ التَّحْرِيمَ يَمِينًا، فَصَارَتْ الْيَمِينُ فِي مَضْمُونِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَمُقْتَضَاهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِذَا أَطْلَقَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْيَمِينِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهَا فَيَكُونُ مَا نَوَى، فَإِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ وَأَرَادَ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ; وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ: "بِاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً" فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ الثَّلَاثَ كَانَ ثَلَاثًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّلَاثُ بِوُجُودِ اللَّفْظِ وَجَعْلِ الْقَوْلِ قَوْلَهُ لِلِاحْتِمَالِ فِيهِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ أَنَّا لَا نَجْعَلُهُ طَلَاقًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَالَةِ لِإِرَادَةِ الطَّلَاقِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلطَّلَاقِ يَجُوزُ إيقَاعُ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَوْدَةِ: "اعْتَدِّي" ثُمَّ رَاجَعَهَا فَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: "اعْتَدِّي" لَاحْتِمَالِهِ لَهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ مَنَعَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: هُوَ يَمِينٌ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ عِنْدَنَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الطَّلَاقِ وَلَمْ تُقَارِنْهُ دَلَالَةُ الْحَالِ. وَزَعَمَ مَالِكٌ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا غَيْرَ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَقَدْ اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} مِنْ كَوْنِهِ يَمِينًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُ مُوجَبِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ كَوْنِ الْحَرَامِ يَمِينًا بِرِوَايَةِ مَنْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْعَسَلَ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ; وَلِأَنَّ مَنْ رَوَى الْيَمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ وَحْدَهُ; إذْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَمِينًا وَيَدُلُّ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَمِينٌ أَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ قَدْ اقْتَضَى لَفْظُهُ إيجَابَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَالْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى النَّذْرِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَفْعَلَ ذَلِكَ"، فَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ يَمِينًا بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ كَمَا تَجِبُ في النذر.

مطلب: يجب علينا تعليم أولادنا وأهلينا وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} قَالَ: "عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ الْخَيْرَ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "تُعَلِّمُهُمْ وَتَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا تَعْلِيمَ أَوْلَادِنَا وَأَهْلِينَا الدِّينَ وَالْخَيْرَ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ الْآدَابِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَّا مَزِيَّةٌ بِهِ فِي لُزُومِنَا تَعْلِيمَهُمْ وَأَمْرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّاعِيَ كَمَا عَلَيْهِ حِفْظُ مَنْ اُسْتُرْعِيَ وَحِمَايَتُهُ وَالْتِمَاسُ مَصَالِحِهِ فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ تَأْدِيبُهُ وَتَعْلِيمُهُ; وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى السَّعْدِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَهْرَمَانِ آلِ الزُّبَيْرِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا خَيْرًا مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جُبَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا بَلَغَ أَوْلَادُكُمْ سَبْعَ سِنِينَ فَعَلِّمُوهُمْ الصَّلَاةَ، وَإِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ". وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} قَالَ الْحَسَنُ: "أَكْثَرُ مَنْ كَانَ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُنَافِقُونَ، فَأُمِرَ أَنْ يَغْلُظَ عَلَيْهِمْ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ" وَقِيلَ: جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ بِالْقَوْلِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ بِالْحَرْبِ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْغِلْظَةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَهْيٌ عَنْ مُقَارَنَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "إذَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تُنْكِرُوا عَلَى الْفَاجِرِ فَالْقَوْهُ بِوَجْهٍ مكفهر". وقوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَتَا مُنَافِقَتَيْنِ مَا زَنَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ"; وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانَتْ امْرَأَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَدُلُّ على الضيف. آخر سورة التحريم.

وَمِنْ سُورَةِ نُونٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} قِيلَ: "مَنْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا"، وَسَمَّاهُ مَهِينًا لِاسْتِجَازَتِهِ الْكَذِبَ وَالْحَلِفَ عَلَيْهِ، وَالْحَلَّافُ اسْمٌ لِمَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ، يَعْنِي: وَقَّاعًا فِي النَّاسِ عَائِبًا لَهُمْ بِمَا ليس فيهم وقوله: {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} يَعْنِي يَنْقُلُ الْكَلَامَ مِنْ بَعْضٍ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ التَّضْرِيبِ بَيْنَهُمْ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ" يَعْنِي النَّمَّامَ. وقَوْله تَعَالَى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قِيلَ فِي الْعُتُلِّ: إنَّهُ الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَالزَّنِيمُ الدَّعِيُّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتُرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ البجلي عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلَا جعظري وَلَا عُتُلٌّ زَنِيمٌ"، قُلْت: وَمَا الْجَوَّاظُ؟ قَالَ: "كُلُّ جَمَّاعٍ"، قُلْت: وَمَا الجعظري؟ قَالَ: "الْفَظُّ الْغَلِيظُ"، قُلْت: وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ: "رَحْبُ الجوف". آخر سورة نون.

وَمِنْ سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دِيمَ عَلَيْهِ وَقَرَأْت: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "دَائِمُونَ عَلَى مَوَاقِيتِهَا" وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: "الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ". وقَوْله تَعَالَى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمَحْرُومُ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ تِجَارَةٌ" وَقَالَ أَبُو قلابة: "الْمَحْرُومُ مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَغَنِمَتْ، فَجَاءَ آخَرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فنزلت: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَعَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْمَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمَحْرُومِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِيهِ آخِرُ سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ.

ومن سورة المزمل بسم الله الرحمن الرحيم مطلب: في قيام الليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} رَوَى زرارة بْنُ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قُلْت لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم!، قَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} ؟ قُلْت: بَلَى قَالَتْ: "فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوَ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَزَلَ آخِرُهَا، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا نَحْوَ سَنَةٍ". وَقَوْله تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "بَيِّنْهُ تَبْيِينًا" وَقَالَ طَاوُسٌ: "بَيِّنْهُ حَتَّى تَفْهَمَهُ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قَالَ: "وَالِ بَعْضَهُ عَلَى إثْرِ بَعْضٍ عَلَى تُؤَدَةٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَسْخِ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُرَغَّبٌ فِيهِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا". وَرُوِيَ عَنْ عَلَى: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى إذَا انْفَجَرَ عَمُودُ الصُّبْحِ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَبَّحَ وَكَبَّرَ، حَتَّى إذَا انْفَجَرَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: "إذَا نَشَأْت قَائِمًا فَهِيَ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ كُلِّهِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "اللَّيْلُ كُلُّهُ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَهُوَ نَاشِئَةٌ وما

كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ"; وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ، وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} قَالَ: "أَجَهْدُ لِلْبَدَنِ وَأَثْبَتُ فِي الْخَيْرِ" وَقَالَ مجاهد: {وَأَقْوَمُ قِيلاً} قَالَ: "أَثْبَتُ قِرَاءَةً". وَقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} قَالَ مُجَاهِدٌ: "أَخْلِصْ إلَيْهِ إخْلَاصًا" وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَخْلِصْ إلَيْهِ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ" وَقِيلَ: "الِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ وَتَأْمِيلُ الْخَيْرِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ" وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِافْتِتَاحِ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقوله تعالى: {سَبْحاً طَوِيلاً} ، قَالَ قَتَادَةُ: "فَرَاغًا طَوِيلًا". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً" قَالَ مُجَاهِدٌ: وَاطَأَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ مُوَاطَأَةً وَوِطَاءً" وَمَنْ قَرَأَ "وَطْئًا" قَالَ: مَعْنَاهُ هِيَ أَشَدُّ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} إلى قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَانِيَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَسَخَ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ الْمَفْرُوضَ كَانَ بَدِيًّا. وَالثَّانِي: دَلَالَتُهَا عَلَى لُزُومِ فرض القراءة في الصلاة بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . وَالثَّالِثُ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِقَلِيلِ الْقِرَاءَةِ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَرَأَ غَيْرَهَا أَجْزَأَهُ; وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَزَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ; قِيلَ لَهُ: إنَّمَا نَسَخَ فَرْضَهَا وَلَمْ يَنْسَخْ شَرَائِطَهَا وَسَائِرَ أَحْكَامِهَا وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْقِرَاءَةِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّسْبِيحِ بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ; قِيلَ لَهُ: إذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي التَّطَوُّعِ فَالْفَرْضُ مِثْلُهُ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} يَقْتَضِي الْوُجُوبَ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَا مَوْضِعَ يُلْزِمُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالصَّلَاةُ نَفْسُهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْقِرَاءَةِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَإِنَّ عَلَيْهِ إذَا صَلَّاهَا أَنْ لَا يُصَلِّيَهَا إلَّا بِقِرَاءَةٍ، وَمَتَى دَخَلَ فِيهَا صَارَتْ الْقِرَاءَةُ فَرْضًا، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ شَرَائِطِهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدُ السَّلَمِ وَسَائِرُ

عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَمَتَى مَا قَصَدَ إلَى عَقْدِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْقِدَهَا إلَّا عَلَى مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ; أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدُ السَّلَمِ؟ وَلَكِنَّهُ مَتَى قَصَدَ إلَى عَقْدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْقِدَهُ بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ. فَإِنْ قِيلَ: إنما المراد بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الصَّلَاةُ نَفْسُهَا، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا; قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ فِيهِ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ إلَى الْمَجَازِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ; وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَك مَا ادَّعَيْت كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى فَرْضِ الْقِرَاءَةِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ; وَقَالَ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَعَبَّرَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ; لأنه من أركانها. آخر سورة المزمل.

ومن سورة المدثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "لَا تُعْطِ عَطِيَّةً لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا". وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا تَمْنُنْ حَسَنَاتِك عَلَى اللَّهِ مُسْتَكْثِرًا لَهَا فَيُنْقِصَك ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "لَا تَمْنُنْ بِمَا أَعْطَاك اللَّهُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ مُسْتَكْثِرًا بِهِ الْأَجْرَ مِنْ النَّاسِ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: "لَا تَضْعُفْ فِي عَمَلِك مُسْتَكْثِرًا لِطَاعَتِك". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا بِهِ، فَالْوَجْهُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ النَّجَاسَاتِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ; لِأَنَّ تَطْهِيرَهَا لَا يَجِبُ إلَّا لِلصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى عَمَّارًا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: "مِمَّ تَغْسِلُ ثَوْبَك"؟ فَقَالَ: مِنْ نُخَامَةٍ فَقَالَ: "إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ". وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ إذَا كَانَ رَطْبًا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: "عَمَلُك أَصْلِحْهُ". وقال إبراهيم: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} مِنْ الْإِثْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَرَهُ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثِيَابَهُ عَلَى عَذِرَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَجَازٌ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ; وَاحْتَجَّ هَذَا الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِغَسْلِ ثِيَابِهِ مِنْ الْبَوْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا كَلَامٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ وَالْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَجْرِ الْأَوْثَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَاجِرًا لِلْأَوْثَانِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَكَانَ مُجْتَنِبًا لِلْآثَامِ وَالْعَذِرَاتِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا جَازَ خِطَابُهُ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ تَارِكًا لَهَا فَتَطْهِيرُ الثِّيَابِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مِثْلُهُ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا قَطُّ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ وَفَسَادِهِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ مِنْ وُضُوءٍ

أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الطَّهَارَةُ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَشِرْكِهَا وَالْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ نَقَضَ بِهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَدِيًّا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ النَّجَاسَةِ، أَفَتَرَاهُ ظَنَّ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوصَى بِتَرْكِ الْأَوْثَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لَهَا وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يُخَاطَبَ بِتَرْكِهَا، فَكَذَلِكَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ، فَمَا فِي ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ أَمْرَهُ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ لَصَلَاةٍ يَفْرِضُهَا عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] . آخر سورة المدثر.

وَمِنْ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ; رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ"، وَقِيلَ: "مَعْنَاهُ بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ جَوَارِحُهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَوْ اعْتَذَرَ وَقَبِلَ شَهَادَةَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِذَارِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا; إذْ لَا تَنَافِيَ فِي هَذَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ; إذْ جَعَلَهُ اللَّهُ حُجَّةً عَلَى نَفْسِهِ وَشَاهِدًا عَلَيْهَا، وَلَمَّا عَبَّرَ عَنْ كَوْنِهِ شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ شَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَثُبُوتِهَا، فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ عُقُودِهِ وَإِقْرَارَهُ وَجَمِيعَ مَا اعترف بلزوم نفسه. آخر سورة القيامة.

ومن سورة الإنسان بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} إلى قوله تعالى: {وَأَسِيراً} عَنْ أَبِي وَائِلٍ: "أَنَّهُ أَمَرَ بِأَسْرَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ مَنْ يُطْعِمُهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الْآيَةَ وَقَالَ قَتَادَةُ: "كَانَ أَسِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكَ، فَأَخُوك الْمُسْلِمُ أَحَقُّ أَنْ تُطْعِمَهُ". وَعَنْ الْحَسَنِ: {وَأَسِيراً} قَالَ: "كَانُوا مُشْرِكِينَ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْأَسِيرُ الْمَسْجُونُ" وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قَالَا: هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَغَيْرُهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَظْهَرُ الْأَسِيرُ الْمُشْرِكُ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَسْجُونَ لَا يُسَمَّى أَسِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي إطْعَامِ الْأَسِيرِ قُرْبَةً، وَيَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهِ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ; إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا لَا يُجِيزُونَ إعْطَاءَهُ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَصَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَمَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهَا إلَى الْإِمَامِ، وَيُجِيزُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ جَوَازَ إعْطَائِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا، وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُجِيزُ دَفْعَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ إلَّا إلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. آخِرُ سُورَةِ الْإِنْسَانِ.

وَمِنْ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ ظَهْرَهَا لِلْأَحْيَاءِ وَبَطْنَهَا لِلْأَمْوَاتِ، وَالْكِفَاتُ الضِّمَامُ، فَأَرَادَ أَنَّهَا تَضُمُّهُمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَحْيَى عن مجاهد: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً} قَالَ: "تَكْفِتُ الْمَيِّتَ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ"; وَأَحْيَاءً قَالَ: "الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ لَا يُرَى مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُوَارَاةِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ وَدَفْنِ شَعْرِهِ وَسَائِرِ مَا يُزَايِلُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ وَشَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ دَفْنَهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ" وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَ غَيْرِهَا بِشَعْرِهَا، فَمَنَعَ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ} فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا". وَرُوِيَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَنَّهُ أَخَذَ قَمْلَةً فَدَفَنَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَصَى، ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مِثْلُهُ. وَأَخَذَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ قَمْلَةً عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَطَرَحَهَا فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَنْفِي الْأَوَّلَ وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي الْجَمِيعَ. آخِرُ سُورَةِ المرسلات.

ومن سورة إذا السماء انشقت بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّفَقُ النَّهَارُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ الله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "الشَّفَقُ الْبَيَاضُ" وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: "الشَّفَقُ السَّوَادُ الَّذِي يَكُونُ إذَا ذَهَبَ الْبَيَاضُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الشَّفَقُ فِي الْأَصْلِ الرِّقَّةُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ شَفَقٌ إذَا كَانَ رَقِيقًا، وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فَهُوَ بِالْبَيَاضِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحُمْرَةِ; لِأَنَّ أَجْزَاءَ الضِّيَاءِ رَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي وَقْتِ الْحُمْرَةِ أَكْثَفُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِذَمِّهِ لِتَارِكِ السُّجُودِ عِنْدَ سَمَاعِ التِّلَاوَةِ; وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ السُّجُودِ عِنْدَ سَمَاعِ سَائِرِ الْقُرْآنِ، إلَّا أَنَّا خَصَصْنَا مِنْهُ مَا عَدَا مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَاسْتَعْمَلْنَاهُ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَسْتَعْمِلْهُ عَلَى ذَلِكَ كُنَّا قَدْ أَلْغَيْنَا حُكْمَهُ رَأْسًا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخُضُوعَ; لِأَنَّ اسْمَ السُّجُودِ يَقَعُ عَلَى الْخُضُوعِ; قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ خُضُوعٌ عَلَى وَصْفٍ، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالْقِيَامَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ خُضُوعٌ وَلَا يُسَمَّى سُجُودًا; لِأَنَّهُ خُضُوعٌ عَلَى صِفَةٍ إذَا خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يُسَمَّ بِهِ. آخِرُ سُورَةِ إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ.

ومن سورة سبح اسم ربك الأعلى يسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ; رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ قَالَا: "أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ" "السُّنَّةُ أَنْ تُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} عَلَى جَوَازِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِسَائِرِ الْأَذْكَارِ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ الصَّلَاةَ مُتَّصِلًا بِهِ; إذْ كَانَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا تَرَاخٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ. آخر سورة سبح.

ومن سورة البلد بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ; قَالَ: "أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ" قَالَ: أَلَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الصَّدَقَاتِ; لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ فِي ثَمَنِهِ، وَهُوَ نَحْوَ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ الصَّدَقَاتِ: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] . وَقوله تعالى: {ذِي مَسْغَبَةٍ} ذي مجاعة. وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْمَتْرَبَةُ بُقْعَةُ التُّرَابِ، أَيْ هُوَ مَطْرُوحٌ فِي التُّرَابِ لَا يُوَارِيهِ عَنْ الْأَرْضِ شَيْءٌ"، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا رِوَايَةٌ: "الْمَتْرَبَةُ شِدَّةُ الْحَاجَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ تَرِبَ الرَّجُلُ إذَا افْتَقَرَ". وَقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} مَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا، فَصَارَتْ" ثُمَّ" ههنا بمعنى "الواو". آخر السورة.

ومن سورة الضحى بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} قِيلَ: لَا تَقْهَرْهُ بِظُلْمِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ. وَخَصَّ الْيَتِيمَ; لِأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُ اللَّهِ، فَغَلَّظَ فِي أَمْرِهِ لِتَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ عَلَى ظَالِمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اتَّقُوا ظُلْمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُ اللَّهِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ إغْلَاظِ الْقَوْلِ لَهُ; لِأَنَّ الِانْتِهَارَ هُوَ الزَّجْرُ وَإِغْلَاظُ الْقَوْلِ; وَقَدْ أَمَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِحُسْنِ الْقَوْلِ لَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء:28] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ جميع المكلفين. آخر السورة.

ومن سورة ألم نشرح بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ مَسْرُورٌ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّ الْعُسْرَ الْمَذْكُورَ بَدِيًّا هُوَ الْمُثَنَّى بِهِ آخِرًا; لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَرْجِعُ إلَى الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ، وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ; لِأَنَّهُ مَنْكُورٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَوَّلَ لَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ واللام. وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إذَا فَرَغَتْ مِنْ فَرْضِك فَانْصَبْ إلَى مَا رَغَّبَك تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "فَإِذَا فَرَغْت مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِك فَانْصَبْ إلَى رَبِّك فِي الْعِبَادَةِ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "فَإِذَا فَرَغْت مِنْ صَلَاتِك فَانْصَبْ إلَى رَبِّك فِي الدُّعَاءِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "فَإِذَا فَرَغْت مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك فَانْصَبْ إلَى عِبَادَةِ رَبِّك". وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَالْوَجْهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا كُلِّهَا فَيَكُونُ جَمِيعُهَا مُرَادًا، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ المراد به جميع المكلفين. آخر السورة.

ومن سورة ليلة القدر بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلَى قَوْلِهِ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} . قِيلَ: إنَّمَا هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ لِمَا يُقْسَمُ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي أَلْفِ شَهْرٍ، فَكَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا وَجْهُ تَفْضِيلِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَالنَّفْعِ الْكَثِيرِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَتَى تَكُونُ، وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِيهَا، فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَاطْلُبُوهَا فِي كُلِّ وَتْرٍ". وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْلَةُ تِسْعَ عَشَرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ". وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ". وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زنجويه النَّسَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: "هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ: "قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ فَإِنَّ صَاحِبَنَا - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا; فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يَتَّكِلُوا، وَاَللَّهِ إنَّهَا فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ! ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً، فَتَكُونُ فِي سَنَةٍ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي غَيْرِهَا وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي سَنَةٍ

فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ وَفِي سَنَةٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَفِي سَنَةٍ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا" إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ; إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِشَهْرٍ مِنْ السَّنَةِ وَأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: إنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَمْضِيَ حَوْلٌ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِوَقْتٍ فَلَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِوُقُوعِ الطلاق بمضي حول. آخر السورة.

ومن سورة لم يكن الذين كفروا بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، فِيهِ أَمْرٌ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُشْرَكَ فِيهَا غَيْرُهُ; لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ ضِدَّ الْإِشْرَاكِ وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالنِّيَّةِ لَا فِي وُجُودِهَا وَلَا فِي فَقْدِهَا فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي إيجَابِ النِّيَّةِ; لِأَنَّهُ مَتَى اعْتَقَدَ الْإِيمَانَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ ونفي الإشراك فيها. آخر السورة.

ومن سورة أرأيت الذي يكذب بالدين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا"، وَكَذَلِكَ قَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ وَرَوَى مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "يَسْهُونَ عَنْ مِيقَاتِهَا حَتَّى يَفُوتَ". وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا يُرَاءُونَ بِصَلَاتِهِمْ إذَا صَلَّوْا". وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "هُوَ الَّذِي لَا يَدْرِي أَعْلَى شَفْعٍ انْصَرَفَ أَوْ عَلَى وَتْرٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَسْلِيمَ"، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ مِنْهَا عَلَى غِرَارٍ وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا. وَنَظِيرُهُ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَالرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ لَهُ نَافِلَةٌ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: {سَاهُونَ} قَالَ: "لَاهُونَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَسْهُونَ لِلَهْوِهِمْ عَنْهَا، فَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا اللَّوْمَ لِتَعَرُّضِهِمْ لِلسَّهْوِ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ فِيهَا; إذْ كَانُوا مُرَائِينَ فِي صَلَاتِهِمْ; لِأَنَّ السَّهْوَ الَّذِي لَيْسَ مَنْ فَعَلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "يَدْفَعُهُ عَنْ حقه". وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْمَاعُونُ الزَّكَاةُ". وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ: "الْمَاعُونُ مَنْعُ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ"، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: "الْعَارِيَّةُ". وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْمَاعُونُ الْمَالُ". وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "كُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ الْمَاعُونُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ مُرَادًا; لِأَنَّ عَارِيَّةَ هَذِهِ الْآلَاتِ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً فِي حَالِ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا وَمَانِعُهَا مَذْمُومٌ مُسْتَحَقٌّ لِلذَّمِّ، وَقَدْ يَمْنَعُهَا الْمَانِعُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُنْبِئُ ذَلِكَ عَنْ لُؤْمِ وَمُجَانَبَةِ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق". آخر السورة.

ومن سورة الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ; قَالَ الْحَسَنُ: "صَلَاةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَنَحْرُ الْبُدْنِ" وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: "صَلِّ الصُّبْحَ بِجَمْعٍ وَانْحَرْ الْبُدْنَ بِمِنًى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إيجَابُ صَلَاةِ الْأَضْحَى، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ عَنْ أبيه عن علي {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قَالَ: وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى السَّاعِدِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ وَضْعُهُ عَلَى صَدْرِهِ". وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عن ابن عباس: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قَالَ: "وَضَعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ عِنْدَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَفَعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "يُقَالُ: اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِك". فَإِنْ قِيلَ: يُبْطِلُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَضْحَى إلَى الْبَقِيعِ، فَبَدَأَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ: "إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ"، فَسَمَّى صَلَاةَ الْعِيدِ وَالنَّحْرَ سُنَّةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا فِي الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْت; لِأَنَّ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَفَرَضَهُ فَجَائِزٌ أَنْ نَقُولَ: هَذَا سُنَّتُنَا وَهَذَا فَرْضُنَا كَمَا نَقُولُ: هَذَا دِينُنَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ فَرَضَهُ عَلَيْنَا، وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نَحْرِ الْبُدْنَ أَوْلَى; لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَلِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ غَيْرُهُ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ: نَحَرَ فُلَانٌ الْيَوْمَ; عُقِلَ مِنْهُ نَحْرُ الْبُدْنَ وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ النَّحْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ أَسْفَلَ السُّرَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. آخر السورة.

ومن سورة الكافرين بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَقَدْ قَالَ: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، فَإِنَّهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ، ثُمَّ جَعَلَ دِينَهُمْ دِينًا وَاحِدًا وَدِينَ الْإِسْلَامِ دِينًا وَاحِدًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ ملة واحدة. آخر السورة.

ومن سورة إذا جاء نصر الله بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ; رُوِيَ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً; لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الصُّلْحِ إلَّا بِتَقْيِيدٍ. وَقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ; رَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك" قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاك قَدْ أَحْدَثْتهَا؟ قَالَ: "جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي إذَا رَأَيْتهَا قُلْتهَا إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلَى آخِرِهَا". آخر السورة.

ومن سورة تبت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ; رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا كَسَبَ يَعْنِي وَلَدَهُ" وَسَمَّاهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكَسْبَ الْخَبِيثَ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أَفْضَلَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اسْتِيلَادِ الْأَبِ لِجَارِيَةِ ابْنِهِ وَأَنَّهُ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ كَمَا لَا يُقَادُ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} . إحْدَى الدَّلَالَاتِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَامْرَأَتَهُ سَيَمُوتَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُسْلِمَانِ، فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ سَمِعَا بِهَذِهِ السُّورَةِ وَلِذَلِكَ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنَّ مُحَمَّدًا هَجَانَا، فَلَوْ أَنَّهُمَا قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا وَأَظْهَرَا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدَاهُ لَكَانَا قَدْ رَدَّا هَذَا الْقَوْلَ وَلَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِدُونَ مُتَعَلَّقًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُسْلِمَانِ لَا بِإِظْهَارِهِ وَلَا بِاعْتِقَادِهِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَكَانَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: إنَّكُمَا لَا تَتَكَلَّمَانِ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ وَصِحَّةِ الْآلَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَالَاتِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَبَا لَهَبٍ بِكُنْيَتِهِ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ دُونَ الْكُنْيَةِ; لِأَنَّ أَبَا لَهَبٍ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ اسْمِهِ إلى كنيته. آخر السورة.

وَمِنْ سُورَةِ الْفَلَقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النفيلي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ; إذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَيَقُولُ: "يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا"، قَالَ: وَسَمِعْته يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَاهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَسَتَرْقِي مِنْ الْعَيْنِ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "لا رُقْيَةَ إلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّى" وَعَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ" قَالَتْ: قُلْت: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ فَكُنْت أَخْتَلِفُ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهُمَا كَفَّ عَنْهُمَا، إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ; قَالَ أَبُو صَالِحٍ: النَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ "السَّوَاحِرُ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ تَلَا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قَالَ: "إيَّاكُمْ وَمَا يُخَالِطُ مِنْ السِّحْرِ مِنْ هَذِهِ الرُّقَى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ السَّوَاحِرُ يَنْفُثْنَ عَلَى الْعَلِيلِ وَيَرْقُونَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَتَعْظِيمٌ لِلْكَوَاكِبِ وَيُطْعِمْنَ الْعَلِيلَ الْأَدْوِيَةَ الضَّارَّةَ وَالسُّمُومَ الْقَاتِلَةَ وَيَحْتَالُونَ فِي التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رقاهن،

هَذَا لِمَنْ أَرَدْنَ ضَرَرَهُ وَتَلَفَهُ وَأَمَّا مَنْ يَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ يُرِدْنَ نَفْعَهُ فَيَنْفُثْنَ عَلَيْهِ وَيُوهِمْنَ أَنَّهُنَّ يَنْفَعْنَ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا يَسْقِينَهُ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ فَيَتَّفِقُ لِلْعَلِيلِ خِفَّةُ الْوَجَعِ; فَالرُّقْيَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ رُقْيَةُ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَأَمَّا الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَقَدْ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَدَبَ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي التَّبَرُّكِ بِالرُّقْيَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ; لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِأَنَّهُنَّ يَنْفَعْنَ بِذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ يَعْتَقِدُ جَوَازَ نَفْعِهَا وَضَرَرِهَا بِتِلْكَ الرُّقْيَةِ; وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى شَرُّهُنَّ فِيمَا يَحْتَلْنَ مِنْ سَقْيِ السُّمُومِ وَالْأَدْوِيَةِ الضَّارَّةِ. وَقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قَالَ: يَقُولُ مِنْ شَرِّ عَيْنَيْهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رَوَتْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَرْقِيَ مِنْ الْعَيْنِ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ"، وَالْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِحَّةِ الْعَيْنِ مُتَظَاهِرَةٌ; حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إبْرَاهِيمَ السَّقَّاءُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ فَإِذَا استغسلتم فَاغْسِلُوا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ضَرَرَ الْعَيْنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ شَيْءٍ يَنْفَصِلُ مِنْ الْعَائِنِ فَيَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ; وَهَذَا هُوَ شَرٌّ وَجَهْلٌ، وَإِنَّمَا الْعَيْنُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ عِنْدَ الْعَائِنِ، فَيَتَّفِقُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ضَرَرٌ يَقَعُ بِالْمَعِينِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ إعْجَابِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَرَاهُ تَذْكِيرًا لَهُ لِئَلَّا يَرْكَنْ إلَى الدُّنْيَا وَلَا يَعْجَبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَحْوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ تُسْبَقُ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَابَقَ بِهَا فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إلَّا وَضَعَهُ" وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْعَائِنِ عِنْدَ إعْجَابِهِ بِمَا يَرَاهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ وَقُدْرَتَهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] فَأَخْبَرَ بِهَلَاكِ جَنَّتِهِ عِنْدَ إعْجَابِهِ بِهَا بِقَوْلِهِ، فَقَالَ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف:35] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] أَيْ لِتَبْقَى عَلَيْك نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى وَقْتِ وَفَاتِك. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ

الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الهذلي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى شَيْئًا أَعْجَبَهُ فَقَالَ اللَّهَ اللَّهَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ". وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. هَذَا آخِرُ كِتَابِ أَحْكَامِ القرآن، والله سبحانه هو الموفق المستعان.

باب تصادق الزوجين أن الولد ليس منه

بَابُ تَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يُنْفَى الْوَلَدُ مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ". وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "تَصْدِيقُهَا إيَّاهُ بِأَنَّ وَلَدَهَا مِنْ الزِّنَا يُبْطِلُ اللِّعَانَ فَلَا يَنْتَفِي النَّسَبُ مِنْهُ أَبَدًا" وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: "إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ" وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ حَامِلٌ وَقَدْ غَابَ زَوْجُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأَخَّرَهَا الْإِمَامُ حَتَّى وَضَعَتْ ثُمَّ رَجَمَهَا فَقَدِمَ زَوْجُهَا بَعْدَمَا رُجِمَتْ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ وَقَالَ قَدْ كُنْت اسْتَبْرَأْتهَا فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ وَيَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْفِيهِ هَهُنَا إلَّا اللِّعَانُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْتَفِيَ أَبَدًا عَنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ بِاللِّعَانِ وَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ فَهُوَ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَبَاحٍ قَالَ: زَوَّجَنِي أَهْلِي أَمَةً لَهُمْ رُومِيَّةً، فَوَقَعْت عَلَيْهَا فَوَلَدَتْ لِي غُلَامًا أَسْوَدَ مِثْلِي فَسَمَّيْته عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ طَبِنَ لَهَا غُلَامٌ مِنْ أَهْلِي رُومِيٌّ يُقَالُ لَهُ يُوحَنَّا، فَرَاطَنَهَا بِلِسَانِهِ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا كَانَ وَزَغَةً مِنْ الْوَزَغَاتِ فَقُلْت لَهَا: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: هَذَا لِيُوحُنَّهُ، فَرَفَعْنَا إلَى عُثْمَانَ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا فَاعْتَرَفَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، فَجَلَدَهَا وَجَلَدَهُ وَكَانَا مَمْلُوكَيْنِ.

باب الفرقة باللعان

بَابُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ". وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَاللَّيْثُ: "إذَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ". وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ: "لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ". وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: "لَا أَرَى مُلَاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ تَنْقُصُ شَيْئًا، وَأَحَبُّ إلي أن

باب نكاح الملاعن للملاعنة

بَابُ نِكَاحِ الْمُلَاعِنِ لِلْمُلَاعَنَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: "إذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ وَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَصَارَتْ الْمَرْأَةُ بِحَالٍ لَا يَجِبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا قَذَفَهَا لِعَانٌ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا"; وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: "لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا"; وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا عَلَى حَالِ التَّلَاعُنِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ لَا تُبِينُهَا مِنْهُ، وَأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِدَّةِ رُدَّتْ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ"; وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ بِبُطْلَانِهِ حِين فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَالْفُرْقَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ. وَيُحْتَجُّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِعُمُومِ الْآيِ الْمُبِيحَةِ لِعُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ، نَحْوُ قَوْلَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَقَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْفُرَقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا مِثْلَ فُرْقَةِ العنين وخيار الصغيرين

فصل

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يُنْفَى مِنْ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ بِاللِّعَانِ نَصَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ شَذَّ أَنَّهُ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" وَاَلَّذِي قَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِقَطْعِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ، وَلَيْسَتْ الْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِدُونِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِ بِاللِّعَانِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا بَطَلَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ بِالزِّنَا، كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ فَيُصَدِّقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا; وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لَامْرَأَتِهِ: "إذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ" وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يُسْتَبْضَعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلَهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إنْ أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ; وَنِكَاحٌ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ دُونَ الْعَشَرَةِ فيدخلون على المرأة كلهم

باب الاستئذان

بَابُ الِاسْتِئْذَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ قَالُوا: "الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ" فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِالْإِذْنِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وَقَالَ "غَلِطَ الْكَاتِبُ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ نَافِعٍ عن مجاهد: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قَالَ: "هُوَ التَّنَحْنُحُ وَالتَّنَخُّعُ". وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِئْذَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . وَالِاسْتِئْنَاسُ قَدْ يَكُونُ لِلْحَدِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وَكَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْفَرَدَ فِي مَشْرَبَةٍ له حين هجر نساءه، فاستأذنت عليه

في عدد الاستئذان وكيفيته

فِي عَدَدِ الِاسْتِئْذَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ رَوَى دُهَيْمُ بْنُ قِرَانٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ: فَالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ". وَرَوَى يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ:

باب في الاستئذان على المحارم

باب فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "سَأَلَ رِجْلٌ حُذَيْفَةَ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْت مَا يَسُوءُك". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ قُلْت: إنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مخارق عَنْ طَارِقٍ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ ". وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ: "سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ". فَلَمْ يُؤْمَرْ هَؤُلَاءِ بِالِاسْتِئْذَانِ إلَّا فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إلَّا أَنَّ أَمْرَ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَيْسَرُ لِجَوَازِ النَّظَرِ إلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْهَى مَنْ لا يجوز له دخول داره عن

باب ما يجب من غض البصر عن المحرمات

بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعْقُولٌ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا حَرُمَ عَلَيْنَا النَّظَرُ إلَيْهِ، فَحُذِفَ ذِكْرُ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمُرَادِ; وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو وَفْرٍ مِنْهَا فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةَ". وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "ابن آدَمَ لَك أَوَّلُ نَظْرَةٍ وَإِيَّاكَ وَالثَّانِيَةَ". وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَك النَّظْرَةُ الْأُولَى" إذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ قَصْدٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ فَهِيَ وَالثَّانِيَةُ سَوَاءٌ، وَهُوَ عَلَى مَا سَأَلَ عَنْهُ جَرِيرٌ مِنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] . وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} هُوَ عَلَى مَعْنَى مَا نُهِيَ الرَّجُلُ عَنْهُ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَا حَرُمَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إليه. وقوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقوله: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: "يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" مِنْ الزِّنَا، إلَّا الَّتِي فِي النُّورِ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهَا أَحَدٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حِفْظَهَا عَنْ سَائِرِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّنَا وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حِفْظِ الْفُرُوجِ هِيَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ; وَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَهَبَ فِي إيجَابِ التَّخْصِيصِ فِي النَّظَرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ مِنْ النَّظَرِ وَمِنْ الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ; وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ حَظْرَ النَّظَرِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ اللَّمْسَ وَالْوَطْءَ مُرَادَانِ بِالْآيَةِ; إذْ هُمَا أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ، فَلَوْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّظَرِ لَكَانَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ حَظْرَ الْوَطْءِ وَاللَّمْسِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] قَدْ اقْتَضَى حَظْرَ ما فوق ذلك من السب والضرب.

باب الترغيب في النكاح

بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لِوُرُودِ النَّقْلِ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَلَمَّا وَجَدْنَا عَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرَ الْأَعْصَارِ بَعْدَهُ قَدْ كَانَ النَّاسُ أَيَامَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَمْ يُنْكَرْ وَاتُّرِكَ تَزْوِيجُهُمْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الْإِيجَابُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الْإِيجَابُ أَنَّ الْأَيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أَبَتْ التَّزْوِيجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ وَلَا تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا. وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَيَامَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي الْجَمِيعِ; وَلَكِنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ وَاضِحَةٌ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ; إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مَنْدُوبٌ إلَى تَزْوِيجِ الْأَيَامَى الْمُحْتَاجِينَ إلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ فَهُوَ نَافِذٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ عَقْدُهُمْ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ فَهُوَ نَافِذٌ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ وَلَا أَمْرٌ فَعَقْدُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْعَقْدَ فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ النِّكَاحِ عَلَى إجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَلِيهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ النِّسَاءِ وَأَنَّ عُقُودَهُنَّ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ غَيْرُ جَائِزَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَخُصَّ الْأَوْلِيَاءَ بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي تَرْغِيبَ سَائِرِ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْأَيَامَى، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْأَيَامَى يَنْتَظِمُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ؟ وَهُوَ فِي الرِّجَالِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ". وَرَوَى إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ". وَقَالَ: "إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ". وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: زَوِّجُونِي فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَلْقَى اللَّهَ أَعْزَبَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا خلاد عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرحمن بن

باب المكاتبة

بَابُ الْمُكَاتَبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} . رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "مَا أَرَاهُ إلَّا وَاجِبًا"، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ أَمَرَ أَنَسًا بِأَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا، وَحَلَفَ عَلَيْهِ لِيُكَاتِبَنَّهُ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "إنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ فَعَزِيمَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ". وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "إنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشُّعَبِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَرْغِيبٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ"، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ سِيرِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَحَكَمَ بِهَا عُمَرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَسٍ لِمُكَاتَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَنَسٌ أَيْضًا يَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهَا وَاجِبَةً لَمَا رَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَلَمْ يَضْرِبْهُ. قِيلَ: لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَالْوَالِدِ الْمُشْفِقِ لِلرَّعِيَّةِ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ فِي الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى غَالِبِ ظَنِّ الْمَوْلَى أَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} "إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً وَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ". وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ: "مَا نَرَاهُ إلَّا الْمَالَ" ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] قَالَ: "الْخَيْرُ الْمَالُ فِيمَا نَرَى"، قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عباس: يعني بالخير المال. وروى

باب الكتابة الحالة

بَابُ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهَا حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً لِإِطْلَاقِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْأَجَلِ، وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا فِي حَالِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَوَاجِبٌ جَوَازُهَا حَالَّةً لِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "تَجُوزُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَإِنْ أَدَّاهَا حِينَ طَلَبَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: كَاتِبُوا عَبْدِي عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَضْرِبْ لَهَا أَجَلًا: "إنَّهَا تُنَجَّمُ عَلَى الْمُكَاتَبِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنْ كِتَابَةِ مِثْلِهِ وَقَدْرِ قُوَّتِهِ" قَالَ: "فَالْكِتَابَةُ عِنْدَ النَّاسِ مُنَجَّمَةٌ وَلَا تَكُونُ حَالَّةً إنْ أَبَى ذَلِكَ السَّيِّدُ". وَقَالَ اللَّيْثُ: "إنَّمَا جُعِلَ التَّنْجِيمُ عَلَى الْمُكَاتَبِ رِفْقًا بِالْمُكَاتَبِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ رِفْقًا بِالسَّيِّدِ". وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهَا حَالَّةً، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا عَنْ الرَّقَبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَثْمَانِ الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ فَتَجُوزُ عَاجِلَةً وَآجِلَةً. وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ حَالٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ مِثْلَهُ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْعِتْقِ فِي الْحَالِّينَ، إلَّا أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ الْأَدَاءِ وَفِي الْآخَرِ مُعَجَّلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا فِي جَوَازِهِمَا عَلَى بَدَلٍ عَاجِلٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا مُؤَجَّلَةً; إذْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْأَدَاءَ وَمَتَى امْتَنَعَ الْأَدَاءُ لَمْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمَوْلَى وَيَصِيرُ بِهَا الْمُكَاتَبُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَيَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَتَصَرُّفَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ الَّتِي يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ عِلَّةً صَحِيحَةً لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ حال; لأنه لم

باب الكتابة من غير ذكر الحرية

بَابُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُرِّيَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ ومالك بْنُ أَنَسٍ: "إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: إنْ أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَهُوَ جَائِزٌ وَمُعْتَقٌ بِالْأَدَاءِ" وَقَالَ الْمَزْنِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إلَى عَشْرِ سِنِينَ كَذَا كَذَا نَجْمًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يُعْتَقُ حَتَّى يَقُولَ فِي الْكِتَابَةِ إذَا أَدَّيْت هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ قَوْلِي قَدْ كَاتَبْتُك كَانَ مَعْقُودًا عَلَى أَنَّك إذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} يَقْتَضِي جَوَازَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَيَتَضَمَّنُ الْحُرِّيَّةَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فَكَاتِبُوهُمْ عَلَى شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُهَا كَلَفْظِ الْخُلْعِ فِي تَضَمُّنِهِ لِلطَّلَاقِ وَلَفْظِ الْبَيْعِ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ التَّمْلِيكِ وَالْإِجَارَةِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ وَالنِّكَاحِ فِي اقْتِضَائِهِ تَمْلِيكَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ"، فَأَجَازَ الْكِتَابَةَ مُطْلَقَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُرِّيَّةٍ فِيهَا، وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُرِّيَّةٍ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْعِتْقِ بالأداء.

باب المكاتب متى يعتق

باب الْمُكَاتَبُ مَتَى يُعْتَقُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْتَقُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَتَكُونُ الْكِتَابَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ"; قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ إسْنَادًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِيَةُ عَبْدٍ"، وَرَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ: "إنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَهُوَ غَرِيمٌ وَلَا رِقَّ عَلَيْهِ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إذَا أَدَّى ثُلُثًا أَوْ رُبُعًا فَهُوَ غَرِيمٌ" وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّهُ إذَا أَدَّى قيمة رقبته فهو غريم".

باب لزوم الإجابة لمن دعي إلى الحاكم

بَابُ لُزُومِ الْإِجَابَةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَى الْحَاكِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا وَدَعَاهُ إلَى الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ إجَابَتُهُ وَالْمَصِيرُ مَعَهُ إلَيْهِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} مَعْنَاهُ: إلَى حُكْمِ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى الْحَاكِمَ فَادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُعَدِّيهِ وَيُحْضِرُهُ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِ وَأَشْغَالِهِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا فليح قال: حدثني محمد بن

باب استئذان المماليك والصبيان

بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ اسْتِئْذَانُ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} الْآيَةَ. رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَا: "هُوَ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً وَالرِّجَالُ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ، قَالَ: لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُطْلَقُ فِيهِنَّ "الَّذِينَ" إذَا انْفَرَدْنَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: "اللَّائِي" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَجُوزُ إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ، كَمَا أَنَّ النِّسَاءَ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِالْأَشْخَاصِ; وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تُذْكَرَ الْإِنَاثُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ دُونَ النِّسَاءِ وَدُونَ الْإِمَاءِ; لِأَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ يَتْبَعَانِ اللَّفْظِ كَمَا تَقُولُ: "ثَلَاثُ مَلَاحِفَ" فَإِذَا عَبَّرْت بِالْأُزُرِ ذَكَّرْت فَقُلْت: "ثَلَاثَةُ أُزُرٍ" فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْمَمَالِيكِ وَلَيْسَ الْعَبِيدُ; لِأَنَّ الْعَبِيدَ مَأْمُورُونَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْأَمْرِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِمَاءِ دُونَهُمْ; إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ وَالصَّبَّاحُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ عَبْدَةَ وَهَذَا حَدِيثُهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْته يَقُولُ: "لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ آيَةَ الْإِذْنِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} الآية، إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: "إنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو: "فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَابَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ" فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ، فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ زَالَ الْحُكْمُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْآيَةَ

فصل

فَصْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّ الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً; إذْ لَمْ يَحْتَلِمْ قَبْلَ ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَهَا وَبَيْنَ مَنْ قَصُرَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ". وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سنة فلم يجز وعرض عليه

في اسم صلاة العشاء

فِي اسْمِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وَإِنَّ الْأَعْرَابَ يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ، وَإِنَّمَا الْعَتَمَةُ عَتَمَةُ الْإِبِلِ لِلْحِلَابِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} الآية. قال ابن

ومن سورة الفرقان

ومن سورة الفرقان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} الطَّهُورُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ وَتَطْهِيرِ غَيْرِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ ضَرُوبٌ وَقَتُولٌ أَيْ يَضْرِبُ وَيَقْتُلُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ. وَالْوَضُوءُ يُسَمَّى طَهُورًا; لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ مِنْ الْحَدَثِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يقبل الله صلاة بغير طهور" أَيْ بِمَا يُطَهِّرُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" فَسَمَّاهُ طَهُورًا مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ وَقَامَ مَقَامَ الْمَاءِ فِيهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: أَحَدُهَا: إذَا خَالَطَ الْمَاءَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ، الطَّاهِرَةِ. وَالثَّانِي: إذَا خَالَطَهُ نَجَاسَةٌ. وَالثَّالِثُ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ; فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ لِطَهَارَةِ الْبَدَنِ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ مِثْلُ الْمَرَقِ وَمَاءِ الْبَاقِلَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَا طُبِخَ بِالْمَاءِ لِيَكُونَ أَنْقَى لَهُ نَحْوُ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ السَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ فَلَا يُجْزِي، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ فِيهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُصْبَغُ بِصَبْغِهِ وَغَيَّرَ لَوْنَهُ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْمَاءِ". وَقَالَ مَالِكٌ، "لَا يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي يُبَلُّ فِيهِ الْخُبْزُ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا تَوَضَّأَ بزردج أَوْ نشاسبتج أَوْ بِخَلٍّ أَجْزَأْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّرَ لَوْنَهُ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا بَلَّ فِيهِ خُبْزًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ مُطْلَقٍ حَتَّى يُضَافَ إلَى مَا خَالَطَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الْأُشْنَانُ"; وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَشْرُطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْغُسْلِ بِغَيْرِ الْمَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] فِيهِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ على قولنا: أحدهما: أن قوله: {فَاغْسِلُوا} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِجَوَازِ إطْلَاقِ اسْمِ

ومن سورة الشعراء

ومن سورة الشعراء بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ: "الثَّنَاءُ الْحَسَنُ" فَالْيَهُودُ تُقِرُّ بِنُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ النَّصَارَى وَأَكْثَرُ الْأُمَمِ. وَقِيلَ: اجْعَلْ مِنْ وَلَدِي مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إلَيْهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قِيلَ: إنَّمَا سَأَلَ سَلَامَةَ الْقَلْبِ; لِأَنَّهُ إذَا سَلِمَ الْقَلْبُ سَلِمَ سَائِرُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْفَسَادِ، إذْ الْفَسَادُ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ فَاسِدٍ بِالْقَلْبِ فَإِنْ اجْتَمَعَ مَعَ ذَاكَ جَهْلٌ فَقَدْ عَدِمَ السَّلَامَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَرَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنِّي لَأَعْلَمُ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَّا وَهِيَ الْقَلْبُ". وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} أَخْبَرَ عَنْ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ; وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ بِهَذِهِ اللُّغَةِ فَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ نَقْلَهُ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا لِإِطْلَاقِ اللَّهِ اللَّفْظَ بِأَنَّهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مَعَ كَوْنِهِ فِيهَا بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْن كُهَيْلٍ عَنْ مجاهد في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قَالَ: "عُصَاةُ الْجِنِّ". وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قَالَ: "الشَّاعِرَانِ يَتَهَاجَيَانِ فَيَكُونُ لِهَذَا أَتْبَاعٌ وَلِهَذَا أَتْبَاعٌ مِنْ الْغُوَاةِ، فَذَمَّ اللَّهُ الشُّعَرَاءَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ مَا ذُكِرَ وَهُمْ الَّذِينَ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَشَبَّهَهُ بِالْهَائِمِ عَلَى وَجْهِهِ فِي كُلِّ وَادٍ يَعِنُّ لَهُ لَمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْهَوَى غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُ وَلَا فَسَادِهِ وَلَا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} "فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، يَمْدَحُونَ وَيَذُمُّونَ، يَعْنُونَ الْأَبَاطِيلَ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحَا. حَتَّى يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" وَمَعْنَاهُ الشِّعْرُ الْمَذْمُومُ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ قَائِلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُ قَدْ

ومن سورة القصص

ومن سورة القصص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ; وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنَافِعَهُ لَشُعَيْبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَشْرُطْ لَهَا مَهْرًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى وَشَرَطَ لِوَلِيِّهَا مَنَافِعَ الزَّوْجِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَشَرْطُهُ لِلْمَوْلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الَّتِي لَا يُوجِبُهَا الْعَقْدُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَشْرُطَ لِلْوَلِيِّ مَنْفَعَةً. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْعُقُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "قَضَى مُوسَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَوْفَاهُمَا". قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَسْلَمُوا، فَآذَاهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَصَفَحُوا عَنْهُمْ، يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا سَلَامُ مُتَارَكَةٍ وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] وَقَوْلِهِ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم: 46] وَقَالَ: إبْرَاهِيمُ {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَجُوزُ عَلَى جَوَازِ ابْتِدَاءِ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ السَّلَامَ يَنْصَرِفُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا: الْمُسَالَمَةُ الَّتِي هِيَ الْمُتَارَكَةُ، وَالثَّانِي: التَّحِيَّةُ الَّتِي هِيَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ، نَحْوَ تَسْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ أَحَدُهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ"، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَقَوْلِهِ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُفَّارِ: "لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإنَّهُ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وعليكم".

ومن سورة العنكبوت

وَمِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَوَاتُ لِوَقْتِهِنَّ". قُلْت: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قُلْت: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ". وَالْآيَةُ وَالْخَبَرُ يَدُلَّانِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَكَانَ مُشْرِكًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ لِلْوَلَدِ مِنْ الْوَالِدِ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الصَّلَاةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَنْ أَطَاعَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي الْقِيَامَ بِمُوجِبَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا قِيلَ: تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ; لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ وَأَذْكَارٍ لَا يَتَخَلَّلُهَا غَيْرُهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْفُرُوضِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَدْعُو إلَى الْمَعْرُوفِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبُهَا لِمَنْ قَامَ بِحَقِّهَا. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا وَقِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: إنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَسْرِقُ بِالنَّهَارِ; فَقَالَ: "لَعَلَّ صَلَاتَهُ تَنْهَاهُ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ الثَّلَاثُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: لَمْ تَكُنْ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الصَّلَاةَ يَرَى فِيهَا مَا تَقَرُّ عَيْنُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ وَمُجَاهِدٌ: ذِكْرُ اللَّهِ إيَّاكُمْ بِرَحْمَتِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إيَّاهُ بِطَاعَتِهِ وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ أَيْضًا وَأُمِّ الدَّرْدَاءِ وَقَتَادَةَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصلاة أكبر من الصلاة.

ومن سورة الروم

ومن سورة الروم بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} هُوَ الرَّجُلُ يَهَبُ الشَّيْءَ يُرِيدُ أَنْ يُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُؤْجَرُ صَاحِبُهُ فِيهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي لِيُثَابَ عَلَيْهِ وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ: الرِّبَا ربوان فَرِبَا حَلَالٌ وَرِبًا حَرَامٌ فَأَمَّا الرِّبَا الْحَلَالُ فَهُوَ الَّذِي يُهْدَى يُلْتَمَسُ بِهِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَرَوَى زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُسَافِرُ مَعَ الرَّجُلِ فَيَخِفُّ لَهُ وَيَخْدُمُهُ فَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ لِيَجْزِيَهُ بِذَلِكَ. وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ الضَّحَّاكِ {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ هُوَ الرِّبَا الْحَلَالُ الرَّجُلُ يُهْدِي لِيُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَذَلِكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ أَجْرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ إثْمٌ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] قَالَ لَا تُعْطِ لِتَزْدَادَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لَا تَسْتَكْثِرْ عَمَلَك فَتَمُنَّ بِهِ عَلَى رَبِّك. وقَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} يَعْنِي أَنَّهُ خَلَقَكُمْ ضُعَفَاءَ حَمْلًا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ ثُمَّ أَطْفَالًا لَا تَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَقْوِيَاءَ ثُمَّ أَعْطَاكُمْ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَالْعَقْلِ وَالدِّرَايَةِ لِلتَّصَرُّفِ فِي اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ جَعَلَكُمْ ضُعَفَاءَ فِي حَالِ الشَّيْخُوخَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] وَقَوْلِهِ: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70] فيبقى مسلوب القوى

ومن سورة لقمان

وَمِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} قَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، يَعْنِي ضَعْفَ الْوَلَدِ عَلَى ضَعْفِ الْأُمِّ وَقِيلَ: بَلْ الْمَعْنَى فيه شدة الجهد {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} يَعْنِي فِي انْقِضَاءِ عَامَيْنِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَبِهِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك مِنْ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّبْرِ وَإِنْ خَافَ عَلَى النَّفْسِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ إعْطَاءَ التَّقِيَّةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ فِي آيٍ غَيْرِهَا قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِك عَنْ النَّاسِ تَكَبُّرًا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ هُوَ التَّشَدُّقُ وَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ; لِأَنَّ الْمُتَشَادِقَ فِي الْكَلَامِ مُتَكَبِّرٌ، وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَ الصَّعَرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا وَرُءُوسِهَا حَتَّى يَلْوِيَ وُجُوهَهَا وَأَعْنَاقَهَا فَيُشَبِّهُ بِهَا الرَّجُلَ الَّذِي يَلْوِي عُنُقَهُ عَنْ النَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أَبَانَ تَعَالَى بِذَلِكَ أَنَّ أَمْرَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ عَامٌّ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وأكده بقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ عَلَى أَبِيهِ وَأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا قَذَفَهُ وَلَا يُحْبَسُ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ وَأَنَّ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُمَا إذَا احْتَاجَا إلَيْهِ; إذْ كان جميع ذلك من الصحبة

ومن سورة السجدة

وَمِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي قَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْت يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابٍ مِنْ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ"؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: رَأْسُهُ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: "اُكْفُفْ عَلَيْك هَذَا" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: "ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكَبُّ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدَ أَلْسِنَتِهِمْ؟ ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "لِلَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، ثُمَّ تَلَا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قَالَا: "الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ". وَقَالَ الْحَسَنُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} "كانوا ينتفلون بين

ومن سورة الأحزاب

ومن سورة الأحزاب مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ: "أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهَائِهِ"; وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْبَانِ، فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى". وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: لِي نَفْسٌ تَأْمُرُنِي وَنَفْسٌ تَنْهَانِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذَا". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ: فِي جَوْفِي قَلْبَانِ أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ، فَكَذَّبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ أَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِمَا ذُكِرَ; لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَبِ لَا مَجَازًا وَلَا حَقِيقَةً، وَلَا ذَلِكَ اسْمٌ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً مُجِحًّا فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ؟ فَقَالُوا: لِفُلَانٍ، فَقَالَ: "أَيَطَؤُهَا"؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَمْ كَيْفَ يَسْتَرِقُّهُ وَقَدْ غَذَاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ" فَقَوْلُهُ: "قَدْ غَذَّاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ إثْبَاتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانُوا يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي التَّحْرِيمِ، وَجَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] وَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ وَأَبْطَلَ مَا أَوْجَبَهُ الْمُظَاهِرُ مِنْ جَعْلِهِ إياها كالأم; لأن تحريمها تحريم مؤبد.

فصل

فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْخِيَارِ وَفِي التَّفْرِيقِ لِامْرَأَةِ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْآخِرَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} . الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرُوا وَذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ اخْتِيَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِرَاقِهِنَّ بِإِرَادَتِهِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أراد من نسائنا الحياة

باب الطلاق قبل النكاح

بَابُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِحَّةِ إيقَاعِ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ"، فَقَالَ قَائِلُونَ: "قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إلْغَاءَ هَذَا الْقَوْلِ وَإِسْقَاطَ حُكْمِهِ; إذْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَهَذَا الْقَائِلُ مُطَلِّقٌ قَبْلَ النِّكَاحِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "دَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَائِلِهِ وَلُزُومِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُجُودِ النِّكَاحِ; لِأَنَّهَا حَكَمَتْ بِصِحَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ; فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ إيقَاعُ طَلَاقِهِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ لَفْظِهِ". وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَاقِدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَلِّقًا فِي حَالِ الْعَقْدِ أَوْ حَالِ الْإِضَافَةِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: "إذَا بِنْتِ مِنِّي وَصِرْت أَجْنَبِيَّةً فَأَنْتِ طالق" أنه موقع للطلاق في حال

باب ما أحل الله تعالى لرسوله من النساء

بَابُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} . الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ ضُرُوبَ النِّكَاحِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي: مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ مُسَمًّى وَأَعْطَاهُنَّ. وَمِنْهَا: مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} . مثل ريحانة وصفية

باب ذكر حجاب النساء

بَابُ ذِكْرُ حِجَابِ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ

ومن سورة سبأ

وَمِنْ سُورَةِ سَبَأٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} . رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ثُمَّ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد: الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. قَوْله تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ التَّصَاوِيرِ كَانَ مُبَاحًا، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ" وَقَالَ: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُحْيِيَهَا وَإِلَّا فَالنَّارُ" وَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُصَوِّرِينَ". وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّ الْمُرَادَ مَنْ شَبَّهَ الله تعالى بخلقه. آخر سورة سبأ.

ومن سورة فاطر

وَمِنْ سُورَةِ فَاطِرٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَوَى عِكْرِمَةُ قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ، فَقَرَأَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ هَذَا. "وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ". قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} الْحِلْيَةُ هَهُنَا اللُّؤْلُؤُ وَمَا يُتَحَلَّى بِهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ تَحْلِفُ أَنْ لَا تَلْبَسَ حُلِيًّا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "اللُّؤْلُؤُ وَحْدَهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ذَهَبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17] وَهَذَا فِي الذَّهَبِ دُونَ اللُّؤْلُؤِ; إذْ لا توقد عليه". وقوله {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إنَّمَا سَمَّاهُ حِلْيَةً فِي حَالِ اللُّبْسِ، وَهُوَ لَا يُلْبَسُ وَحْدَهُ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يُلْبَسُ مَعَ الذَّهَبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْحِلْيَةِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ لَا يُوجِبُ حَمْلَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وَأَرَادَ بِهِ السَّمَكَ; وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16] وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ وَقَعَدَ فِي الشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فِيهِ الْإِبَانَةُ عَنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَنَّ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَعَدْلَهُ بِدَلَائِلِهِ أَوْصَلَهُ ذَلِكَ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ; إذْ كَانَ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُ عَدْلَهُ وَمَا قَصَدَ لَهُ بِخَلْقِهِ لَا يَخْشَى عِقَابَهُ وَلَا يَتَّقِيهِ; وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] فَأَخْبَرَ أَنَّ خَيْرَ الْبَرِّيَّةِ مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، وَأَخْبَرَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ بِاَللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهُ، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى طَبَقَاتٍ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنْهُ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا

ومن سورة يس

ومن سورة يس بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: "الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَيَرَاهَا بَنُو آدَمَ حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمَ غَرَبَتْ فَتُحْبَسُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: اُطْلُعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، فَهُوَ يَوْمُ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا. الْآيَةَ". قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَطْلُعُ فِيهَا الشَّمْسُ مِنْ حَيْثُ تَغْرُبُ قَامَ الْمُتَهَجِّدُونَ لِصَلَاتِهِمْ فَصَلَّوْا حَتَّى يَمَلُّوا ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى مَضَاجِعِهِمْ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّيْلُ كَمَا هُوَ وَالنُّجُومُ وَاقِفَةٌ لَا تَسْرِي حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ إلَى أَخِيهِ وَيَخْرُجُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وُقُوفَهَا عَنْ السَّيْرِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ بَيْنَ أَوَّلِ الْآيَاتِ وَآخِرِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، قِيلَ لَهُ: وَمَا الْآيَاتُ؟ قَالَ: زَعَمَ قَتَادَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالَ وَالدُّخَانَ وَدَابَّةَ الْأَرْضِ وخويصة أَحَدِكُمْ وَأَمْرَ الْعَامَّةِ" ; قِيلَ لَهُ: هَلْ بَلَغَك أَيُّ الْآيَاتِ أَوَّلُ؟ قَالَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا يَقُولُونَ: الدَّجَّالُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ". وَرَوَى قَتَادَةُ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: "لِوَقْتٍ وَاحِدٍ لَهَا لَا تَعْدُوهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ عَلَى سَيْرٍ وَاحِدٍ وَعَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ لَا تَخْتَلِفُ. وَقِيلَ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} لِأَبْعَدِ مَنَازِلِهَا فِي الْغُرُوبِ. قَوْله تَعَالَى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قَالَ: "ذَاكَ لَيْلَةُ الْهِلَالِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُدْرِكُهُ فَتَسْتُرُهُ بِشُعَاعِهَا حَتَّى تَمْنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهِ; لِأَنَّهُمَا مُسَخَّرَانِ

ومن سورة والصافات

وَمِنْ سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِذَبْحِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ إنَّمَا تَضَمَّنَ مُعَالَجَةَ الذَّبْحِ لَا ذَبْحًا يُوجِبُ الْمَوْتَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ حَصَلَ عَلَى شَرِيطَةِ التَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ وَعَلَى أَنْ لَا يَفْدِيَهُ بِشَيْءٍ وَأَنَّهُ إنْ فَدَى مِنْهُ بِشَيْءٍ قَائِمًا مَقَامَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ قَدْ اقتضى الأمر قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرُهُ قَدْ اقْتَضَى الْأَمْرَ بالذبح لما قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَلَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ فِدَاءً عَنْ ذَبْحٍ مُتَوَقَّعٍ. وَرُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَذَرَ إنْ رَزَقَهُ اللَّهُ وَلَدًا ذَكَرًا أَنْ يَجْعَلَهُ ذَبِيحًا لِلَّهِ، فَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالذَّبْحِ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَرَدَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَذَبَحَهُ فَوَصَلَ اللَّهُ أَوْدَاجَهُ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ وَكَانَتْ الْفِدْيَةُ لِبَقَاءِ حَيَاتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَصْرِفُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إيجَابَ شَاةٍ فِي الْعَاقِبَةِ، فَلَمَّا صَارَ مُوجِبُ هَذَا اللَّفْظِ إيجَابَ شَاةٍ فِي الْمُتَعَقِّبِ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وَجَبَ عَلَى مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ شَاةٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ نَحَرَ ابْنَهُ، قَالَ: "كَبْشٌ كَمَا فَدَى إبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ قَالَ: "يُهْدِي بَدَنَةً أَوْ دِيَتَهُ شَكَّ الرَّاوِي. وَعَنْ مَسْرُوقٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "يَحُجُّ وَيُهْدِي بَدَنَةَ". وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ قَالَ: "قَالَ بَعْضُهُمْ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَبْشٌ كَمَا فُدِيَ إسحاق".

ومن سورة ص

وَمِنْ سُورَة ص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى حَتَّى قَرَأْت: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قَبَا وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: "إنَّ صَلَاةَ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمَضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى". وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ أَوْصَانِي بِصَلَاةِ الضُّحَى وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَنَهَانِي عَنْ نَقْرٍ كَنَقْرِ الدِّيكِ وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ: لَا يَدْعُهَا، وَيَدْعُهَا حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ هَانِئٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى. وَعَنْ ابْنِ عُمَر: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "هِيَ مِنْ أَحَبِّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ إلَيَّ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ: "إنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إلَّا غَوَّاصٌ" ثُمَّ قَرَأَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] . قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} قِيلَ: إنَّهُ سَخَّرَهَا مَعَهُ فَكَانَتْ تَسِيرُ مَعَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ تَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ سَيْرُهَا دَلَالَةً عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ جَعَلَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْهَا لَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قَالَ: "جَزَّأَ دَاوُد الدَّهْرَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمًا لِنِسَائِهِ، وَيَوْمًا لِقَضَائِهِ، وَيَوْمًا يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قال أبو بكر: وهذا يدل

ومن سورة الزمر

وَمِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "ثُمَّ" رَاجِعَةٌ إلَى صِلَةِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهَا إلَى الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْأَوْلَادِ عَلَى مَعْنَى التَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ قَبْلَ الْوَلَدِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً} [الأنعام: 154] ونحو ذلك آخر سورة الزمر.

ومن سورة المؤمن

وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} قَالَ: بُنِيَ بِالْآجُرِّ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْنُوا بِالْآجُرِّ وَيَجْعَلُونَهُ فِي قُبُورِهِمْ". وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ عَنْ سَبِيعٍ الْكِنْدِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أن الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية". وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قَبْلَ الْقِيَامَةِ. آخِرُ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ.

ومن سورة حم السجدة

وَمِنْ سُورَةِ حم السَّجْدَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} . فِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ قَوْلٍ وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى لُزُومِ فَرْضِ الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ; إذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ أَحْسَنَ مِنْ الْفَرْضِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدُّعَاءُ إلَى اللَّهِ فَرْضًا، وَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ أَحْسَنِ قَوْلٍ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ أَحْسَنَ مِنْ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الْآيَةَ. قِيلَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقُولُونَ لَا تَخَفْ مِمَّا أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْهِ فَيُذْهِبُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا عَلَى أَهْلِهَا فَيُذْهِبُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّمَا يَقُولُونَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْقَبْرِ فَيَرَى تِلْكَ الْأَهْوَالَ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا غَيْرُك، وَيَقُولُونَ لَهُ: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُك فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَا يُفَارِقُونَهُ تَأْنِيسًا لَهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثم استقاموا} قَالَ: "أَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ وَالْعَمَلَ وَالدَّعْوَةَ". قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ذَكَرَ اللَّهُ الْعَدُوَّ فَأَخْبَرَ بِالْحِيلَةِ فِيهِ حَتَّى تَزُولَ عَدَاوَتُهُ وَيَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ، فَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الْآيَةَ. قَالَ: وَأَنْتَ رُبَّمَا لَقِيتَ بَعْضَ مَنْ يَنْطَوِي لَك عَلَى عَدَاوَةٍ وَضِغْنٍ فَتَبْدَأُهُ بِالسَّلَامِ أَوْ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِهِ فَيَلِينُ لَك قَلْبُهُ وَيُسْلِمُ لَك صَدْرَهُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الْحَاسِدَ فَعَلِمَ أَنْ لَا حِيلَةَ عِنْدَنَا فِيهِ وَلَا فِي اسْتِمْلَاكِ سَخِيمَتِهِ وَاسْتِخْرَاجِ ضَغِينَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] إلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] فَأَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ حِينَ عَلِمَ أَنْ لَا حِيلَةَ عِنْدَنَا فِي رِضَاهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ

ومن سورة حم عسق

ومن سورة حم عسق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى مَا سَبِيلُهُ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ; لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِرْبَةً، فَلَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْجَوَازِ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ" قَالُوا: "كُلُّ قُرَيْشٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "إلَّا أَنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي". وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ إلَّا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَالتَّوَدُّدَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ مَوْقِعِ الْمَشُورَةِ لِذِكْرِهِ لَهَا مَعَ الْإِيمَانِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّا مَأْمُورُونَ بِهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَالَ: "كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ". وَقَالَ السُّدِّيّ {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مَعْنَاهُ: مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ نَدَبَنَا اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ إلَى الْعَفْوِ عَنْ حُقُوقِنَا قِبَلَ النَّاسِ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وقَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ الْقِصَاصِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وَقَوْلُهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] . وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْآيِ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَفْضَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى ذِكْرِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ؟ وَهُوَ

ومن سورة الزخرف

وَمِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الرُّكُوبِ ... ومن سورة الزخرف بسم الله الرحمن الرحيم فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الرُّكُوبِ قَوْله تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّهُ شَهِدَ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - حِينَ رَكِبَ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، قَالَ: ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: "رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتُ وَقَالَ مِثْلَ الَّذِي قُلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعَبْدُ، أَوْ قَالَ "عَجَبٌ لِلْعَبْدِ إذَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا هُوَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَكِبَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَنُّك وَفَضْلُك عَلَيْنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ. وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى ذِرْوَةِ سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَقُولُوا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ". وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: "إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ رَدَفَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ: تَغَنَّ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ قَالَ له: تمن".

فصل في إباحة لبس الحلي للنساء

فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءٍ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ "رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الذَّهَبِ"، ثم قرأ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي

ومن سورة الجاثية

وَمِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قَالَ: "لَا يَهْوَى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ، لَا يَخَافُ اللَّهَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} يَعْنِي يُطِيعُهُ كَطَاعَةِ الْإِلَهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "كَانُوا يَعْبُدُونَ الْعُزَّى وَهُوَ حَجَرٌ أَبْيَضُ حِينًا مِنْ الدَّهْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ طَرَحُوا الْأَوَّلَ وَعَبَدُوا الْآخَرَ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ يَعْنِي لَا يَعْرِفُ إلَهَهُ بِحُجَّةِ عَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِهَوَاهُ". قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: نَحْيَا وَنَمُوتُ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ، وَقِيلَ: نَمُوتُ وَيَحْيَا أَوْلَادُنَا، كَمَا يُقَالُ: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ ابْنًا مِثْلَ فُلَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قَالَ: "قَالَ ذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ، يَقُولُونَ: إلَّا الْعُمُرُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلُ زَنَادِقَةِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ الْحَكِيمَ، وَأَنَّ الزَّمَانَ وَمُضِيَّ الْأَوْقَاتِ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ هَذِهِ الْحَوَادِثَ. وَالدَّهْرُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى زَمَانِ الْعُمُرِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَصُومُ الدَّهْرَ، يَعْنُونَ عُمْرَهُ كُلَّهُ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا الدَّهْرَ أَنَّهُ عَلَى عُمُرِهِ كُلِّهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك الْأَبَدَ" وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا أُكَلِّمُك دَهْرًا" فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ على ستة أشهر،

ومن سورة الأحقاف

وَمِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالَ الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وَقَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ فِي الْحَمْلِ نَقَصَ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَالرَّضَاعُ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّضَاعَ حَوْلَانِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ زَادَ حَمْلُهُ أَوْ نَقَصَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] : مَا نَقَصَ عَنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: "أَشُدُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً" وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "أَشُدُّهُ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ". وقَوْله تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِك فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: "أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} . قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَوْ شِئْت أَنْ أُذْهِبَ طَيِّبَاتِي فِي حَيَاتِي لَأَمَرْت بِجَدْيٍ سَمِينٍ يُطْبَخُ بِاللَّبَنِ" وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ عُمَرُ: "لَوْ شِئْت أَنْ أَكُونَ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا وَأَلْيَنَكُمْ ثِيَابًا لَفَعَلْت، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي" وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَاسٌ من أهل العراق، فقرب إليهم طعامه،

ومن سورة محمد صلى الله عليه وسلم

وَمِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ إلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن صالح عن معاوية بن صالح عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ شَكَّ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ". وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْت السُّدِّيَّ يَقُولُ فِي قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِثْخَانِ بِالْقَتْلِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ الْأَسْرَ إلَّا بَعْدَ إذْلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَقَمْعِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَمَتَى أُثْخِنْ الْمُشْرِكُونَ وَأُذِلُّوا بِالْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ جَازَ الِاسْتِبْقَاءُ. فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا إذَا وُجِدَ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ مَنٍّ أَوْ فداء، وذلك ينفي جواز القتل.

ومن سورة الفتح

ومن سورة الفتح مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا" وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ فَتْحَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً; إذْ كَانَ الصُّلْحُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ مُقَيَّدًا; لِأَنَّ مَنْ قَالَ: "فَتَحَ بَلَدَ كَذَا عُقِلَ بِهِ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ دُونَ الصُّلْحِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التلاوة: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} . وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ مَكَّةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} وقَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وَذِكْرُهُ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ الْمَعْنَى: سُكُونُ النَّفْسِ إلَى الْإِيمَانِ بِالْبَصَائِرِ الَّتِي بِهَا قَاتَلُوا عَنْ دَيْنِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحُوا مَكَّةَ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَعَاهُمْ إلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ وَدَعَاهُمْ عُمَرُ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ اتِّبَاعَ طَاعَةِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ عَلَى التَّخَلُّفِ عَمَّنْ دَعَاهُمْ إلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِمَا، إذْ كَانَ الْمُتَوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِمَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى قَتَادَةُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. رَضِيَ الله عنهما.

باب رمي المشركين مع العلم بأن فيهم أطفال المسلمين وأسراهم

بَابُ رَمْيِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهِمْ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسَرَاهُمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: "لَا بَأْسَ بِرَمْيِ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا أُسَارَى وَأَطْفَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحَرِّقُوا الْحُصُونَ

ومن سورة الحجرات

ومن سورة الحجرات مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ-: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ فِي كَذَا قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ هُمْ قَوْمٌ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَأَمَرَتْ الْجَارِيَةَ أَنْ تُسْقِيَهُ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَالَتْ: "قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا" وَتَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فِي صِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اعْتَبَرَتْ عُمُومَ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: "لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْدِيمِ الْفُرُوضِ عَلَى أَوْقَاتِهَا وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا وَفِي تَرْكِهَا، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُوجِبُ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ فِي تَرْكِ مَا فَعَلَهُ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنُّوا; لِأَنَّ التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ فَفَعَلْنَا غَيْرَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ تَقْدِيمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَحْتَجُّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَيْضًا وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَهْلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ; لِأَنَّ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسٍ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ، فَلَيْسَ فِيهِ إذًا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فِيهِ أَمْرٌ بِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] . وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا إذَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَالُوا فِيهِ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى الإنسان في كلامه ضرب من ترك

باب حكم خبر الفاسق

بَابُ حُكْمِ خَبَرِ الْفَاسِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَتَاهُمْ الْوَلِيدُ فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ فَفَرِقَ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ارْتَدُّوا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ بَعَثَ عُيُونًا لَيْلًا فَإِذَا هُمْ يُؤَذِّنُونَ وَيُصَلُّونَ، فَأَتَاهُمْ خَالِدٌ فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إلَّا طَاعَةً وَخَيْرًا فَرَجَعَ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: وَقَالَ مَعْمَرٌ: فَتَلَا قَتَادَةُ: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ

باب قتال أهل البغي

بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ حَتَّى اضْطَرَبُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا حَقٌّ تَدَارَآ فِيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً; لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: بَيْنِي وَبَيْنَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعَا حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: كَانَ قِتَالُهُمْ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْعِصِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِتَالِ، فَإِنْ فَاءَتْ إلَى الْحَقِّ بِالْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ لَمْ يُتَجَاوَزْ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَفِئْ بِذَلِكَ قُوتِلَتْ بِالسَّيْفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ; لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ دُونَ السِّلَاحِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْبَغْيِ وَتَرْكِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ أَحَدُ ضُرُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"، فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السِّلَاحِ وَمَا دُونَهُ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ إزَالَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ إلَى أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَمَا دُونَ السِّلَاحِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ بِالسَّيْفِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقِتَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ، وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ الْقَوْمَ تَقَاتَلُوا بِمَا دُونَ السِّلَاحِ، فَأَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقِتَالِ الْبَاغِي مِنْهُمَا وَلَمْ يُخَصِّصْ قِتَالَنَا إيَّاهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ مَتَى ظَهَرَ لَنَا قِتَالٌ مِنْ فِئَةٍ عَلَى وَجْهِ الْبَغْيِ قَابَلْنَاهُ بِالسِّلَاحِ وَبِمَا دُونَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَالِ قِتَالِ الْبَاغِي لَنَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقِتَالِنَا إيَّاهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا دُونَ السِّلَاحِ مَعَ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لِلْقِتَالِ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "مِنْ قَاتَلَكُمْ بِالْعِصِيِّ فَقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ" لَمْ يَتَنَاقَضْ الْقَوْلُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ إيَّانَا بِقِتَالِهِمْ; إذْ كَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي الْقِتَالَ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ وَأَيْضًا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الفئة الباغية بالسيف

باب ما يبدأ به أهل البغي

بَابُ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ اللَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْقِتَالِ مِنْهُمْ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يُدْعَوْا إلَى الصَّلَاحِ وَالْحَقِّ وَمَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْبَغْيِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: إنْ رَجَعَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْحَقِّ وَأَرَادَتْ الصَّلَاحَ وَأَقَامَتْ الْأُخْرَى عَلَى بَغْيِهَا وَامْتَنَعَتْ مِنْ الرُّجُوعِ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ إلَى الْحَقِّ قَبْلَ الْقِتَالِ، ثُمَّ إنْ أَبَتْ الرُّجُوعَ قُوتِلَتْ. وَكَذَا فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَدَأَ بِدُعَاءِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ إلَى الْحَقِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَبَوْا الْقَبُولَ قَاتَلَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ قِتَالَهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إذَا بَغَوْا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ الْخَوَارِجِ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا أَبَوْا الرُّجُوعَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ فَرَجَعَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ عَلَى أَمْرِهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكُوفَةَ خَطَبَ فَحَكَمَتْ الْخَوَارِجُ مَنْ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ وَقَالَتْ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، أَمَا إنَّ لَهُمْ ثَلَاثًا: أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ، وَأَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا دَامَتْ أَيْدِيهمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَأَنْ لَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا.

باب الأمر فيما يؤخذ من أموال البغاة

بَابُ الْأَمْرِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ الْبُغَاةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: "لَا يَكُونُ غَنِيمَةً وَيُسْتَعَانُ بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِمْ وَيُرَدُّ الْكُرَاعُ أَيْضًا عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْبُغَاةِ أَحَدٌ، وَمَا اُسْتُهْلِكَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ" وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "مَا وُجِدَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ فَيْءٌ يُقْسَمُ وَيُخَمَّسُ، وَإِذَا تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِدَمٍ وَلَا مَالٍ اسْتَهْلَكُوهُ". وَقَالَ مَالِكٌ: "مَا اسْتَهْلَكَهُ الْخَوَارِجُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رُدَّ"، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا قُوتِلَ اللُّصُوصُ الْمُحَارِبُونَ فَقُتِلُوا وَأُخِذَ مَا مَعَهُمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ النَّاسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي ذَلِكَ، فَرَوَى فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةَ قَالَ قَسَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَيْأَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا قُوتِلَ بِهِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ" فَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ غَنِيمَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَنِيمَةٌ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَسَمَ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ لِيُقَاتِلُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَلَمْ يُمَلِّكْهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن الدُّوَلِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَوَارِجَ نَقَمُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَحَاجَّهُمْ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: "أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ. " وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ بهرام عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: سَأَلْته أَخَمَّسَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمْوَالَ أَهْلِ الْجَمَلِ؟ قَالَ: لَا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ أَوْ مَالٍ اُسْتُهْلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ". وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَنَّمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَيْسَتْ مَعَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ فِي دِيَارِهِمْ لَا تُغَنَّمْ، وَإِنْ قُتِلُوا، كَذَلِكَ مَا مَعَهُمْ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يُخْتَلَفُ فِيمَا يُغْنَمُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا مَعَهُمْ، وَمَا تَرَكُوهُ مِنْهَا فِي دِيَارِهِمْ أَنَّ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِينَا مِنْهَا مَغْنُومٌ؟ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَلَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ؟ فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا أُسِرُوا، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، فَلِذَلِكَ غُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَالْخَوَارِجُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَا يُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ بِحَالٍ، فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أموالهم.

باب الحكم في أسرى أهل البغي وجرحاهم

بَابٌ الْحُكْمُ فِي أَسْرَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَجَرْحَاهُمْ رَوَى كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا". وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي البختري وَعَامِرٍ قَالَا: لَمَّا ظَهَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الْجَمَلِ قَالَ: "لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تذففوا عَلَى جَرِيحٍ"، وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ: "لَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا حُكْمُ عَلِيٍّ فِي الْبُغَاةِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: "إذَا لَمْ تَبْقَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ فِئَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْأَسِيرُ إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ وَيُجْهَزُ عَلَى الْجَرِيحِ وَيُتْبَعُ الْمُدْبِرُ" وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسَرَ ابْنَ بِثَرِي وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَقَتَلَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِي الْأَخْبَارِ الْأَوَّلُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فئة.

باب في قضايا البغاة

بَابٌ فِي قَضَايَا الْبُغَاةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْبَرْمَكِيِّ: "لَا يَنْبَغِي لِقَاضِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يُجِيزَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَا شَهَادَتَهُ وَلَا حُكْمَهُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَقَالَ: "لَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ فَحَكَمَ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُمْضِهِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَأْيَهُ فَيَسْتَأْنِفَ الْقَضَاءَ فِيهِ" قَالَ: "وَلَوْ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى بِقَضِيَّةٍ أَنْفَذَهَا مَنْ رُفِعَتْ إلَيْهِ كَمَا يُمْضِي قَضَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ". وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ: "تُكْشَفُ أَحْكَامُهُمْ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُسْتَقِيمًا أُمْضِيَ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إذَا غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى مَدِينَةٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ أَهْلِهَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ لَمْ تُعَدْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ إلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِي غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ أَوْ مَالِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا قَاتَلُوا وَظَهَرَ بَغْيُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ; لِأَنَّ إظْهَارَ الْبَغْيِ وَقِتَالَهُمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَظُهُورُ الْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كشارب الخمر والزاني

مطلب: الظن على أربعة أضرب

مطلب: الظن على أربعة أضرب وقَوْله تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} اقْتَضَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَعْضِ الظَّنِّ لَا عَنْ جَمِيعِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} يَقْتَضِي الْبَعْضَ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ جَمْعَيْهِ وَقَالَ في آية أخرى: {وَإِنَّ الظَّنَّ

ومن سورة ق

ومن سورة ق بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قَالَ: "مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ. " وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . رَوَى جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا" ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: "صَلَاةُ اللَّيْلِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ. وقَوْله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، قَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ركعتان بعد المغرب {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : "إذَا وَضَعْت جَبْهَتَك عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تُسَبِّحَ ثَلَاثًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ مَنْ ذَكَرْنَا قوله بديا أن قوله: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} أَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} هُوَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَهِيَ الْعَتَمَةُ وَالْمَغْرِبُ، فَوَجَبَ أن يكون قوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} هُوَ الصَّلَاةَ; لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ "فَسَبِّحْهُ"، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّسْبِيحُ فِي دُبُرٍ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَرَوَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُسَبِّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَأَتَى رِجْلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَبِّحُوا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثلاثا

ومن سورة الذاريات

ومن سورة الذاريات بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ: "الْهُجُوعُ النَّوْمُ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا أَقَلَّ لَيْلَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ إلَّا صَلَّوْا فِيهَا". وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ: "لَا يَنَامُونَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا" وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "قَلَّ لَيْلَةٌ تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَا يُصَلُّونَ فِيهَا إمَّا مِنْ أَوَّلِهَا، وَإِمَّا مِنْ أَوْسَطِهَا". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانُوا لَا يَنَامُونَ كُلَّ اللَّيْلِ"، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ" وَالْعِشَاءِ " وَرَوَى أَبُو حَيْوَة عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا سَجَدُوا اسْتَغْفِرُوا". وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "كَانُوا لَا يَنَامُونَ عَنْ الْعَتَمَةِ يَنْتَظِرُونَهَا لِوَقْتِهَا"، كَأَنَّهُ جَعَلَ هُجُوعَهُمْ قَلِيلًا فِي جَنْبِ يَقَظَتِهِمْ لِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرْضًا فَنَسَخَ فَرْضَهَا بِمَا نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَرَغَّبَ فِيهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي فَضْلِهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ فِي اللَّيْلِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ". وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قُلْت; لِأَبِي ذَرٍّ: أَيُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "نِصْفُ اللَّيْلِ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيُصَلِّي ثُلُثَ اللَّيْلِ وَيَنَامُ سُدُسَ اللَّيْلِ". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال: "ما يرقدون" {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ: "مَدُّوا الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ ثُمَّ جَلَسُوا فِي الدُّعَاءِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: "هُوَ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ". وَقَالَ ابْنُ سيرين: {وفِي

ومن سورة الطور

وَمِنْ سُورَةِ الطُّورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَمُجَاهِدٌ: "حِينَ تَقُومُ مِنْ كُلِّ مَكَان سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك". وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سُئِلَ الْأَعْمَشُ أَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَسْتَحِبُّ إذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك؟ قَالَ: "مَا كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً". وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ عُمَرَ: "يَعْنِي بِهِ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك، إلَى آخِرِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: "حِينَ تَقُومُ مِنْ مَنَامِك" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، مِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" وَرَوَى عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَ إلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ إسْرَاعَهُ إلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلَا إلَى غَنِيمَةٍ. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاجِبَتَانِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَدَعُوهُمَا فَإِنَّ فِيهِمَا الرَّغَائِبَ" وَقَالَ: "لَا تَدَعُوهُمَا وَإِنْ طَرَقَتْكُمْ الْخَيْلُ". آخِرُ سورة الطور.

ومن سورة النجم

ومن سورة النجم بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَا يُجِيزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَوَادِثِ مِنْ جِهَةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، بِقَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا; لِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ إذَا صَدَرَ عَنْ الْوَحْيِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ مُوجِبَهُ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ أَنَّهُ عَنْ وَحْيٍ. وقَوْله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} . رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ قَالُوا: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ"; وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْعِلْمِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ: "سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ" وَقِيلَ: "سَمَّيْتُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى; لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ "وَقَالَ الْحَسَنُ: "جَنَّةُ الْمَأْوَى هِيَ الَّتِي يَصِيرُ إلَيْهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ". وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ وَإِلَى الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَآهُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِنَّ عِنْدَهَا جَنَّةَ الْمَأْوَى. وقوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً: لَمْ أَرَ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ، فَإِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَهُوَ الزِّنَا وَوَجَبَ الْغُسْلُ"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: "إنَّ اللَّمَمَ النِّكَاحُ"، وَعَنْهُ أَيْضًا: "إنَّ اللَّمَّةَ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً: "اللَّمَمُ مَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا رِوَايَةً "هُوَ الَّذِي يُلِمُّ بِالْمَرْأَةِ" وَقَالَ عَطَاءٌ: "اللَّمَمُ مَا دُونَ الْجِمَاعِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "أَنْ تُصِيبَ الذَّنْبَ ثُمَّ تَتُوبَ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنْ تَغْفِرْ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا" وَيُقَالُ: إنَّ اللَّمَمَ هُوَ الْهَمُّ بِالْخَطِيئَةِ مِنْ جِهَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ بِهَا

ومن سورة القمر

ومن سورة القمر بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْلِبُ الْعَادَاتِ بِمِثْلِهِ إلَّا لِيَجْعَلَهُ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى انْشِقَاقَ الْقَمَرِ عَشَرَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فِي آخَرِينَ كَرِهْت ذِكْرَ أَسَانِيدِهَا لِلْإِطَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ سَيَنْشَقُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ انْشَقَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا خَفِيَ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ قِيلَ لَهُ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتِهِ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ لَمَا خَفِيَ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ" فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِغَيْمٍ أَوْ يَشْغَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّدْبِيرِ وَلِئَلَّا يَدَّعِيَهُ بَعْضُ الْمُتَنَبِّئِينَ فِي الْآفَاقِ لِنَفْسِهِ، فَأَظْهَرَهُ لِلْحَاضِرَيْنِ عِنْدَ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ وَاحْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ. وقَوْله تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْمَاءِ; لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا شِرْبَ الْمَاءِ يَوْمًا لِلنَّاقَةِ وَيَوْمًا لَهُمْ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ سَمَّى ذَلِكَ قِسْمَةً وَإِنَّمَا هِيَ مُهَايَأَةٌ عَلَى الْمَاءِ لَا قِسْمَةُ الْأَصْلِ. وَاحْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةً مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا. آخِرُ سورة القمر.

ومن سورة الرحمن

وَمِنْ سُورَةِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْعَصْفَ التِّبْنُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: "الرَّيْحَانُ الْوَرَقُ"، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ الرَّيْحَانَ الْحَبُّ وَقَالَ الْحَسَنُ: "هُوَ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَادًا; لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الرَّيْحَانِ أَنَّهُ الْمَشْمُومُ، وَلَمَّا عَطَفَ الرَّيْحَانَ عَلَى الْحَبِّ ذِي الْعَصْفِ وَالْعَصْفُ هُوَ سَاقُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّيْحَانَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ وَلَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ سَاقٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ الضَّيْمَرَانِ وَالنَّمَّامِ وَالْآسِ الَّذِي يُخْرِجُ وَرَقُهُ رَيْحَانًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ذَا سَاقٍ; لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} مُرَادُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، وَإِنَّمَا أُرْسِلَ مِنْ الْإِنْسِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "الْمَرْجَانُ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ" وَقِيلَ: "الْمَرْجَانُ الْمُخْتَلِطُ مِنْ الْجَوَاهِرِ، مِنْ مَرَجْت أَيْ خَلَطْت" وَقِيلَ: "إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ كَالْقُضْبَانِ يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ". وَقِيلَ: إنَّمَا قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} لِأَنَّ الْعَذْبَ وَالْمِلْحَ يَلْتَقِيَانِ فَيَكُونُ الْعَذْبُ لِقَاحًا لِلْمِلْحِ، كَمَا يُقَالُ يَخْرُجُ الْوَلَدُ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَإِنَّمَا تَلِدُهُ الْأُنْثَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا جَاءَ الْقَطْرُ مِنْ السَّمَاءِ تَفَتَّحَتْ الْأَصْدَافُ فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ". وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، رُوِيَ أَنَّهَا تَحْمَرُّ وَتَذُوبُ كَالدُّهْنِ، رُوِيَ أَنَّ سَمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حَدِيدٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صَارَتْ مِنْ الْخُضْرَةِ إلَى الِاحْمِرَارِ مِنْ حَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ كَالْحَدِيدِ إذَا أُحْمِيَ بِالنَّارِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} ; قِيلَ فِيهِ: لَا يُسْأَلُ سُؤَالَ اسْتِفْهَامٍ لَكِنْ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ وَتَوْقِيفٍ وَقِيلَ فِيهِ: لَا يُسْأَلُ في أول أحوال حضورهم يوم

ومن سورة الواقعة

وَمِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . رُوِيَ عَنْ سَلْمَانُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ" فَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ قَالَ: فَقَالَ لِأُخْتِهِ: أَعْطَوْنِي الْكِتَابَ الَّذِي كُنْتُمْ تَقْرَءُونَ فَقَالَتْ: إنَّك رِجْسٌ، وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقُمْ فَاغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ; وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ بِالْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ مَسَّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْقُرْآنُ الَّذِي فِي اللَّوْحِ المحفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ: "هُوَ فِي كِتَابِ مَكْنُونٍ لَيْسَ أَنْتُمْ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ"، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ "الْمُطَهَّرُونَ الْمَلَائِكَةُ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "لَا يَمَسُّهُ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَمَسُّهُ الْمَجُوسِيُّ وَالنَّجِسُ وَالْمُنَافِقُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَبَرِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقُرْآنَ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ وَالْمُطَهَّرُونَ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى النَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ كَانَ عُمُومًا فِينَا; وَهَذَا أَوْلَى; لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارٍ مُتَظَاهِرَةٍ أَنَّهُ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْن حَزْمٍ: "وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ" فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ ذَلِكَ بِالْآيَةِ; إذْ فِيهَا احتمال له. آخر سورة الواقعة.

ومن سورة الحديد

ومن سورة الحديد بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} الْآيَةَ. رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فَصْلُ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِيهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ عَظِيمٌ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: "هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبَانَ عَنْ فَضِيلَةِ الْإِنْفَاقِ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِعِظَمِ عَنَاءِ النَّفَقَةِ فِيهِ وَكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ; وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَشَدَّ عَلَى النَّفْسِ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ الْكُفَّارِ مَعَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَلِلسَّبْقِ إلَى الطَّاعَةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] ؟ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا. وقَوْله تَعَالَى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} الْآيَةَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَعَاصِي وَمُسَاكَنَتَهَا وَأُلْفَهَا تُقَسِّي الْقَلْبَ وَتُبْعِدُ مِنْ التَّوْبَةِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ" لهذه الآية وجعل قوله: {وَالشُّهَدَاءُ} صِفَةً لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ; وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو الضُّحَى وَالضَّحَّاكُ: "هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وخبره: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَ عَمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْقُرَبِ وَالرَّهْبَانِيَّة، ثُمَّ ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ رِعَايَتِهَا بقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} . وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ مَا يُنْذِرُهُ وَيُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَعُمُومُهُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَعَ قُرْبَةً قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فَعَلَيْهِ رِعَايَتُهَا، وَإِتْمَامُهَا، فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ من دخل في

من سورة المجادلة

من سورة المجادلة مدخل ... مِنْ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قلابة قَالَ: "كَانَ طَلَاقُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ جَعَلَ اللَّهُ فِي الظِّهَارِ مَا جَعَلَ فِيهِ، وَجَعَلَ فِي الْإِيلَاءِ مَا جَعَلَ فِيهِ. " وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "كَانَتْ النِّسَاءُ تُحَرَّمُ بِالظِّهَارِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الْآيَةَ". وَأَمَّا الْمُجَادَلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} : "فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا خويلة" وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بِنْتُ ثَعْلَبَةَ وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، قَالَتْ إنَّ زَوْجَهَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ" وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، فَقَالَتْ: اُنْظُرْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ" فَأَعَادَتْ ذَلِكَ مِرَارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ قَتَادَةُ: "حَرَّمَهَا ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ لَهَا فَيَطَأَهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا أَرَاك إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ; وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ وَرَفْعُ النِّكَاحِ; وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ فِيهَا بِالطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: "مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ" فَكَيْفَ حَكَمَ فِيهَا بِعَيْنِهَا بِالظِّهَارِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالطَّلَاقِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ؟ وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ في الماضي قيل له: لم

في الظهار بغير الأم

فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الْأُمِّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا" "هُوَ مُظَاهِرٌ، وَإِنْ قَالَ كَظَهْرِ فُلَانَةَ وَلَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يكن مظاهرا"، وهو

في ظهار المرأة من زوجها

فِي ظِهَارِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا"، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح عن الحسن بن زياد أنها

باب كيف يحيي أهل الكتاب

باب كَيْفَ يُحَيِّي أَهْلَ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} . رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ; إذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ"؟ قَالُوا سَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: "قَالَ سَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ". وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْك أَيْ عَلَيْك مَا قُلْتَ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ السَّامُ أَنَّكُمْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَوْتَ; لِأَنَّ السَّامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: "نَرَى أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْمُشْرِكِ السَّلَامَ وَلَا نَرَى أَنْ نَبْدَأَ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: "وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا" وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْن مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: صَحِبْنَا عَبْدَ اللَّهِ فِي سَفَرٍ وَمَعَنَا أُنَاسٌ مِنْ الدَّهَاقِينِ، قَالَ: فَأَخَذُوا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ هَذَا تَكْرَهُ؟ قَالَ: إنَّهُ حَقُّ الصُّحْبَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ; لِأَنَّ الرَّدَّ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الِابْتِدَاءَ; لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِكَرِهِ أَنْ نَبْدَأَ بِهِ الْكَافِرَ; إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا، وَلَا يُكْرَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَأَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قَالَ: قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ: أَخْتَلِفُ إلَى طَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَتْ لَك إلَيْهِ حَاجَةٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} قَالَ قَتَادَةُ: "كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُمْ تَفَسَّحُوا" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُوَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ". قَالَ قتادة: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قَالَ: "إذَا دُعِيتُمْ إلَى خَيْرٍ" وَقِيلَ: اُنْشُزُوا أَيْ ارْتَفِعُوا فِي الْمَجْلِسِ; وَلِهَذَا ذَكَرَ أَهْلُ العلم; لأنهم أحق بالرفعة، وهذا يدل

ومن سورة الحشر

وَمِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "أَوَّلُ الْحَشْرِ جَلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْيَهُودِ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى خَيْبَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الشَّامِ" وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ فَأَجْلَاهُمْ إلَى الشَّامِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِلُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا الْحَلْقَةَ، وَالْحَلْقَةُ السِّلَاحُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْجَلَاءِ عَنْ دِيَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ وَلَا اسْتِرْقَاقٍ وَلَا دُخُولٍ فِي الذِّمَّةِ وَلَا أَخْذَ جِزْيَةٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ; أَوْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ; فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَإِدْخَالِهِمْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يُجْلُوهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُقَاوِمَتِهِمْ فِي إدْخَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَالْمَعْنَى الثَّانِي: جَوَازُ مُصَالَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى مَجْهُولٍ مِنْ الْمَالِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَعَلَى الْحَلْقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِلُ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ. وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فِيهِ أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ضَرْبٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: "كُلُّ نَخْلَةٍ لِينَةٌ سِوَى الْعَجْوَةِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: "كُلُّ نَخْلَةٍ لِينَةٌ"، وَقِيلَ: "اللِّينَةُ كِرَامُ النَّخْلِ" وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ النَّخْلَةِ، نَهَى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مِنْ نَهَى وَبِتَحْلِيلِ مَنْ قطعها

ومن سورة الممتحنة

ومن سورة الممتحنة مدخل ... ومن سورة الممتحنة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ; رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة حِينَ كَتَبَ إلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَنْتَصِحُ لَهُمْ فِيهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"أَنْتَ كَتَبْت هَذَا الْكِتَابَ"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا ارْتَبْت فِي اللَّهِ مُنْذُ أَسْلَمْت وَلَكِنِّي كُنْت امْرَأً غَرِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِي بِمَكَّةَ مَالٌ وَبَنُونَ فَأَرَدْت أَنْ أُدَافِعَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْلًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنِّي غَافِرٌ لَكُمْ". حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ مَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ لَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ; لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ وَيَسْتَبِيحُ إظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ إذَا صَدَرَ عَنْهُ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِكْفَارَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْإِكْفَارَ لَاسْتَتَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَتِبْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ عُلِمَ أَنَّهُ مَا كَانَ مُرْتَدًّا. وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ عُمَرَ مِنْ قَتْلِهِ; لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَقَالَ: "مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" فَجَعَلَ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ قَتْلِهِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ; لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إذَا كَفَرَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَإِنْ أَذْنَبُوا لَا يَمُوتُونَ إلَّا عَلَى التَّوْبَةِ; وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ وُجُودَ التَّوْبَةِ إذَا أَمْهَلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقْتَطِعُهُ بِهِ عَنْ التَّوْبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ في

باب صلة الرحم المشرك

بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ الْمُشْرِكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ. رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمٍّ لَهَا مُشْرِكَةٍ جَاءَتْنِي أَأَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ صِلِيهَا" قَالَ أَبُو بكر: وقوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إذْ لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ قِتَالِنَا، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ; لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} . وقد

باب وقوع الفرقة باختلاف الدارين

بَابُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ; لِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَزَوْجُهَا بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارَانِ، وَحَكَمَ اللَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِهَا بِأَنْ تَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ أَرَادَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ; وقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَمَا اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ رَدَّ الْمَهْرِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبُضْعَ وَبَدَلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا لَمَا جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ، فَنَهَانَا أَنْ نَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ: "قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا" وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لم تحل له إلا بنكاح

فصل

فَصْلٌ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُهَاجِرَةِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فَأَبَاحَ نِكَاحَهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِدَّةٍ، وَقَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ، فَحَظَرَ الِامْتِنَاعَ مِنْ نِكَاحِهَا; لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ. وَالْكَوَافِرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرِّجَالَ، وَظَاهِرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الرِّجَالُ; لِأَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْمُهَاجِرَاتِ. وَأَيْضًا أَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطْءَ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ، وَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ بِعِدَّةٍ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ" وَالْمَعْنَى فِيهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} ; قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: يَعْنِي رَدَّ الصَّدَاقِ، وَاسْأَلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا صَارَتْ إلَيْهِمْ، وَلْيَسْأَلُوا هُمْ أَيْضًا مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً مِنْهُمْ"; وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ إذَا ذَهَبَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَدَاقَ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا يَرُدُّونَ، وَأَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ". وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} : "مِنْ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْهَا". وَرَوَى زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "كَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} خَرَجَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ" وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} قال: "ليس بينكم وبينهم عهد" {فَعَاقَبْتُمْ} "وَأَصَبْتُمْ غَنِيمَةً" {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قال: "عوضوا

ومن سورة الصف

وَمِنْ سُورَةِ الصَّفِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِبَادَةً أَوْ قُرْبَةً وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ; إذْ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَا يَفْعَلُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَإِنَّ إيجَابَهَا فِي الْقَوْلِ لَا يُلْزِمُهُ الْوَفَاءَ بِهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ"، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيمَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِثْلُ النُّذُورِ وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُونَهَا، وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُبَاحٌ، فَإِنَّ الْأَوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: "إنِّي سَأَفْعَلُ كَذَا" فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ اسْتِثْنَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا جَائِزَ لَهُ أَنْ يَعِدَ وَفِي ضَمِيرِهِ أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَحْظُورُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَمْ يَقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِهِ أَمْ لَا. فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ مَعَ خَوْفِ إخْلَافِ الْوَعْدِ فِيهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: "إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَصُومُ" فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ; لِأَنَّ تَرْكَ فِعْلِهِ يُؤَدِّيهِ إلَى أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَمْ يَفْعَلْ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: "أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَسَارَعْنَا إلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ الْجِهَادِ تَثَاقَلُوا عَنْهُ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ: جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا، وَلَمْ يَفْعَلُوا" وَقَالَ الْحَسَنُ: "نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَسَمَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ لِإِظْهَارِهِمْ لَهُ". وقَوْله تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ضَعْفٍ وَقِلَّةٍ وَحَالِ خَوْفٍ مُسْتَذَلُّونَ مَقْهُورُونَ فكان مخبره على ما أخبر

ومن سورة الجمعة

ومن سورة الجمعة مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْجُمُعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} قِيلَ: إنَّمَا سُمُّوا أُمِّيِّينَ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَةَ، وَأَرَادَ الْأَكْثَرَ الْأَعَمَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْقَلِيلُ مِمَّنْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ; وَقَالَ النَّبِيُّ: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، وَقَالَ: إنَّا نَحْنُ أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لَا نَحْسُبُ ولا نكتب". وقال تعالى: {رَسُولاً مِنْهُمْ} ; لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [اعراف: 157] وَقِيلَ إنَّمَا سُمِّيَ مَنْ لَا يَكْتُبُ أُمِّيًّا; لِأَنَّهُ نُسِبَ إلَى حَالِ وِلَادَتِهِ مِنْ الْأُمِّ; لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالِاسْتِفَادَةِ وَالتَّعَلُّمِ دُونَ الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا الْمَوْلُودُ. وَأَمَّا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِي أُمِّيٍّ فَإِنَّهُ لِيُوَافِقَ مَا تَقَدَّمَتْ بِهِ بِالْبِشَارَةِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ; وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ تَوَهُّمِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ بِالْكِتَابَةِ; فَهَذَانِ وَجْهَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَمَعَ أَنَّ مُشَاكِلَةٌ لِحَالِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى مُسَاوَاتِهِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِيهِ، فَدَلَّ عَجْزُهُمْ عَمَّا أَتَى بِهِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لَهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ. رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَهُودَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِتَعَلُّمِ التَّوْرَاةِ وَالْعَمَلِ بِهَا فَتَعَلَّمُوهَا ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَشَبَّهَهُمْ اللَّهُ بِالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ الْكُتُبَ وَهِيَ الْأَسْفَارُ; إذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا حَمَلُوهُ كَمَا لَا يَنْتَفِعُ الْحِمَارُ بِالْكُتُبِ الَّتِي حَمَلَهَا; وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44] وَقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] إلَى قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ إنْ تَمَنَّوْهُ مَاتُوا فَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهَا

فصل

فَصْلٌ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِهِ; لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْبَوَادِي وَمَنَاهِلِ الْأَعْرَابِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَمْصَارِ وَلَا تَصِحُّ فِي السَّوَادِ"، وَهُوَ قول الثوري وعبيد الله بن الحسن.

باب وجوب خطبة الجمعة

بَابُ وُجُوبِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ السَّعْيِ إلَى الذِّكْرِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ ذِكْرًا وَاجِبًا يَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مَوْعِظَةَ الْإِمَامِ" وَقَالَ عُمَرُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا: "إنَّمَا قَصُرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ" وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ وَاسْتَمَعُوا الْخُطْبَةَ، فَالْمُهَجِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَاَلَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً" وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَهُنَا هو الخطبة; لأن

باب السفر يوم الجمعة

بَابُ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ" حَكَاهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: "لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَبَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَافِرَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ" وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أرطاة عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَجَّهَ ابْنَ رَوَاحَةَ وَجَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَتَخَلَّفَ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَّفَك؟ " قَالَ: الْجُمُعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَمِّعُ ثُمَّ أَرُوحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، قَالَ: فَرَاحَ مُنْطَلِقًا وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَا تُحْبَسُ الْجُمُعَةُ عَنْ سَفَرٍ"، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُ، وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ بِالْعَقِيقِ عَلَى رَأْسِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ غَدَاةَ الْجُمُعَةِ فَأُخْبِرَ بِشَكْوَاهُ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: خَرَجَ سَالِمٌ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَا: "لَا بَأْسَ بِالسَّفَرِ يَوْمَ

ومن سورة المنافقين

ومن سورة المنافقين مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سبيل الله} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "أَشْهَدُ" يَمِينٌ; لِأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: "نَشْهَدُ" فَجَعَلَهُ اللَّهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ: "أَشْهَدُ وَأُقْسِمُ وَأَعْزِمُ وَأَحْلِفُ كُلُّهَا أَيْمَانٌ" وَقَالَ زُفَرُ: "إذَا قَالَ: أُقْسِمُ لَأَفْعَلَنَّ، فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ لَأَفْعَلَنَّ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا" وَقَالَ مَالِكٌ: "إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أُقْسِمُ أَيْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ وَكَذَلِكَ أَحْلِفُ" قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: أَعْزِمُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَعْزِمُ بِاَللَّهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: نَذْرٌ لِلَّهِ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "أُقْسِمُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَأُقْسِمُ بِاَللَّهِ يَمِينٌ إنْ أَرَادَهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْعِدَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَأَعْزِمُ بِاَللَّهِ إنْ أَرَادَ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ" وَذَكَرَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ: "إذَا قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ وَلَمْ يَقُلْ: بِاَللَّهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ، وَإِنْ قَالَ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَمِينَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ "أَشْهَدُ بِاَللَّهِ" يَمِينٌ فَكَذَلِكَ "أَشْهَدُ" مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: "نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ" ثُمَّ جَعَلَ هَذَا الْإِطْلَاقَ يَمِينًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] فَعَبَّرَ عَنْ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْقَسَمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي حَذْفِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي إظْهَارِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَسَمَ فِي كِتَابِهِ فَأَظْهَرَ تَارَةً الِاسْمَ وَحَذَفَهُ أُخْرَى وَالْمَفْهُومُ بِاللَّفْظِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] فَحَذَفَهُ تَارَةً اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِإِضْمَارِهِ وَأَظْهَرَهُ أُخْرَى، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابن عباس أن أبا بكر

باب من فرط في زكاة ماله

بَابُ مَنْ فَرَّطَ فِي زَكَاةِ مَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَبَّابٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَالٌ يُبْلِغُهُ بَيْتَ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ"، وَتَلَا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى حُصُولِ التَّفْرِيطِ بِالْمَوْتِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا وَوَجَبَ أَدَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَكَانَتْ قَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى الْمَالِ فَلَزِمَ الْوَرَثَةَ إخْرَاجُهَا، فَلَمَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَدَاءَ فَائِتٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْمَالِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنْ يتبرع به الورثة. آخر سورة المنافقين.

ومن سورة الطلاق

ومن سورة الطلاق مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ الطَّلَاقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ بِالْخِطَابِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: اكْتِفَاءٌ بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ مَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطَابٌ لَهُمْ، إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ إلَّا مَا خُصَّ بِهِ دُونَهُمْ، فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ ثُمَّ عَدَلَ بِالْخِطَابِ إلَى الْجَمَاعَةِ; إذْ كَانَ خِطَابُهُ خِطَابًا لِلْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأُمَّتِك إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ. وَالثَّالِثُ: عَلَى الْعَادَةِ فِي خِطَابِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْأَتْبَاعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} [الأعراف: 103] . وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ; قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَلْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُفَارِقْهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا أَوْ يُمْسِكُهَا، فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ" رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ قَالَ: طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ". وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَبِي طَلْحَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُطَلِّقْهَا وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ الله في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَأَنَّ وَقْتَ الطَّلَاقِ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِيقَاعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ بِقَوْلِهِ: "يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا إنْ شَاءَ" فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَبَاحَ طَلَاقَهَا فِي الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ إلَّا شَيْئًا رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "إذَا طَلَّقَهَا

باب الإشهاد على الرجعة أو الفرقة

بَابُ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ الْفُرْقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفُرْقَةِ أَيَّتَهمَا اخْتَارَ الزَّوْجُ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَبُو قلابة أَنَّهُ إذَا رَجَعَ وَلَمْ يُشْهِدْ فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ وَيُشْهِدُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا جُعِلَ لَهُ الْإِمْسَاكُ أَوْ الْفِرَاقُ ثُمَّ عَقَبَهُ بِذِكْرِ الْإِشْهَادِ كَانَ مَعْلُومًا وُقُوعُ الرَّجْعَةِ إذَا رَجَعَ وَجَوَازُ الْإِشْهَادِ بَعْدَهَا إذْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِشْهَادَ شَرْطًا فِي الرَّجْعَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِرَاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَأَنَّ الْفُرْقَةَ تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا وَيُشْهِدُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ عَقِيبَ الْفُرْقَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا، كَذَلِكَ الرَّجْعَةُ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْفُرْقَةُ حَقًّا لَهُ وَجَازَتْ بِغَيْرِ إشْهَادٍ إذْ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى رِضَا غَيْرِهِ وَكَانَتْ الرَّجْعَةُ أَيْضًا حَقًّا لَهُ، وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَأَيْضًا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْإِمْسَاكِ أَوْ الْفُرْقَةِ احْتِيَاطًا لَهُمَا وَنَفْيًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُمَا إذَا عُلِمَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُعْلَمْ الرَّجْعَةُ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ، فَلَا يُؤْمَنُ التجاحد بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا مَقْصُورًا عَلَى الْإِشْهَادِ فِي حَالِ الرَّجْعَةِ أَوْ الْفُرْقَةِ بَلْ يَكُونُ الِاحْتِيَاطُ بَاقِيًا، وَإِنْ أَشْهَدَ بَعْدَهُمَا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا إذَا أَشْهَدَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِسَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ; وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ شُهُودٍ إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، فَإِنَّ سُفْيَانَ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ بِالْبَيِّنَةِ"، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ احْتِيَاطًا مِنْ التجاحد لَا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَعَهَا وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بغير بينة؟ وقد روى شعبة عن

باب عدة الآيسة والصغيرة

بَابُ عِدَّةُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَ الْإِيَاسِ لِمَنْ ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ مِنْ النِّسَاءِ بِلَا ارْتِيَابٍ، وَقَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِارْتِيَابَ فِي الْإِيَاسِ; لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ حُكْمَ مَنْ ثَبَتَ إيَاسُهَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِارْتِيَابَ فِي غَيْرِ الْإِيَاسِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرِّيبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، فَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ قَالَ "قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَدَدًا مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ ارْتِيَابَهُمْ فِي عَدَدِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الِارْتِيَابِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَكَانَ بِمَعْنَى: وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الَّتِي يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا، فَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلُقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ بِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَاكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَلَّتْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَنَةً قَالَ: تِلْكَ الرِّيبَةُ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الَّتِي تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً قَالَ هَذِهِ رِيبَةٌ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو وَعَنْ طاوس مِثْلَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ عِنْدَ جَدِّهِ حِبَّانَ امْرَأَتَانِ هَاشِمِيَّةٌ وَأَنْصَارِيَّةٌ فَطَلَّقَ الْأَنْصَارِيَّةَ وَهِيَ تُرْضِعُ فَمَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ ثُمَّ هَلَكَ وَلَمْ تَحِضْ، فقالت: أنا أرثه ولم أحض،

باب عدة الحامل

بَابُ عِدَّةُ الْحَامِلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بَعْدَهُمْ أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْتَدُّ الْحَامِلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آخِرَ الْأَجَلَيْنِ وَقَالَ عَمْرٌو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: عِدَّتُهَا الْحَمْلُ فَإِذَا وَضَعَتْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ مَا نَزَلَتْ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} إلَّا بَعْدَ آيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ تَارِيخِ نُزُولِ الْآيَةِ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الشُّهُورِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِهَا فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ عَلَى عُمُومِهَا غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ الْمُطَلَّقَةِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْحَمْلِ في الجميع من المطلقات

باب السكنى للمطلقة

بَابُ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "لَا سُكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ إنَّمَا هِيَ لِلرَّجْعِيَّةِ". قَالَ أبو بكر: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ انْتَظَمَ الرَّجْعِيَّةَ وَالْمَبْتُوتَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْعِدَّةِ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا بِالْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يطلقها طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا"، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ تَضَمَّنَ الْبَائِنَ، ثُمَّ قَالَ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَجَبَ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ مِنْ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وَقَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} دل ذلك على أنه أراد الرجعي

ومن سورة التحريم

ومن سورة التحريم مدخل ... وَمِنْ سُورَةِ التَّحْرِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ عِنْدَ زَيْنَبَ، فَتَوَاطَأَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَلَى أَنْ تَقُولَا لَهُ: نَجِدُ مِنْك رِيحَ الْمَغَافِيرِ، قَالَ: "بَلْ شَرِبْت عِنْدَهَا عَسَلًا وَلَنْ أَعُودَ لَهُ"، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . وَقِيلَ: إنَّهُ شَرِبَ عِنْدَ حَفْصَةَ، وَقِيلَ: عِنْدَ سَوْدَةَ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ; وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ" وَقِيلَ: إنَّهُ أَصَابَ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَعَلِمَتْ بِهِ فَجَزِعَتْ مِنْهُ، فَقَالَ لَهَا: "أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أُحَرِّمَهَا فَلَا أَقْرَبُهَا؟ " قَالَتْ: بَلَى; فَحَرَّمَهَا وَقَالَ: "لَا تَذْكُرِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ"، فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَةَ، فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الْآيَةَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا قَدْ كَانَا مِنْ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ وَتَحْرِيمِ الْعَسَلِ، إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ وَأَنَّ الْآيَةَ فِيهَا نَزَلَتْ; لِأَنَّهُ قَالَ: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ شُرْبِ الْعَسَلِ رِضَا أَزْوَاجِهِ، وَفِي تَرْكِ قُرْبِ مَارِيَةَ رِضَاهُنَّ فَرُوِيَ فِي الْعَسَلِ أَنَّهُ حَرَّمَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ وَأَمَّا مَارِيَةُ فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: حَرَّمَهَا; وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى وَحَرَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: الْحَرَامُ حَلَالٌ وَأَمَّا الْيَمِينُ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: "حَرَّمَ جَارِيَتَهُ"، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَرَّمَ وَحَلَفَ أَيْضًا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا فِيهَا التَّحْرِيمُ فَقَطْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُلْحَقَ بِالْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ يَمِينًا لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْيَمِينِ; لِأَنَّ الْيَمِينَ تَحْرِيمٌ للمحلوف

مطلب: يجب علينا تعليم أولادنا وأهلينا

مطلب: يجب علينا تعليم أولادنا وأهلينا وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} قَالَ: "عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ الْخَيْرَ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "تُعَلِّمُهُمْ وَتَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا تَعْلِيمَ أَوْلَادِنَا وَأَهْلِينَا الدِّينَ وَالْخَيْرَ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ الْآدَابِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَّا مَزِيَّةٌ بِهِ فِي لُزُومِنَا تَعْلِيمَهُمْ وَأَمْرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّاعِيَ كَمَا عَلَيْهِ حِفْظُ مَنْ اُسْتُرْعِيَ وَحِمَايَتُهُ وَالْتِمَاسُ مَصَالِحِهِ فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ تَأْدِيبُهُ وَتَعْلِيمُهُ; وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى السَّعْدِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَهْرَمَانِ آلِ الزُّبَيْرِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا خَيْرًا مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جُبَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا بَلَغَ أَوْلَادُكُمْ سَبْعَ سِنِينَ فَعَلِّمُوهُمْ الصَّلَاةَ، وَإِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ". وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} قَالَ الْحَسَنُ: "أَكْثَرُ مَنْ كَانَ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُنَافِقُونَ، فَأُمِرَ أَنْ يَغْلُظَ عَلَيْهِمْ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ" وَقِيلَ: جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ بِالْقَوْلِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ بِالْحَرْبِ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْغِلْظَةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَهْيٌ عَنْ مُقَارَنَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "إذَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تُنْكِرُوا عَلَى الْفَاجِرِ فَالْقَوْهُ بِوَجْهٍ مكفهر". وقوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَتَا مُنَافِقَتَيْنِ مَا زَنَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ"; وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانَتْ امْرَأَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَدُلُّ على الضيف. آخر سورة التحريم.

ومن سورة نون

وَمِنْ سُورَةِ نُونٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} قِيلَ: "مَنْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا"، وَسَمَّاهُ مَهِينًا لِاسْتِجَازَتِهِ الْكَذِبَ وَالْحَلِفَ عَلَيْهِ، وَالْحَلَّافُ اسْمٌ لِمَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ، يَعْنِي: وَقَّاعًا فِي النَّاسِ عَائِبًا لَهُمْ بِمَا ليس فيهم وقوله: {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} يَعْنِي يَنْقُلُ الْكَلَامَ مِنْ بَعْضٍ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ التَّضْرِيبِ بَيْنَهُمْ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ" يَعْنِي النَّمَّامَ. وقَوْله تَعَالَى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قِيلَ فِي الْعُتُلِّ: إنَّهُ الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَالزَّنِيمُ الدَّعِيُّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتُرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ البجلي عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلَا جعظري وَلَا عُتُلٌّ زَنِيمٌ"، قُلْت: وَمَا الْجَوَّاظُ؟ قَالَ: "كُلُّ جَمَّاعٍ"، قُلْت: وَمَا الجعظري؟ قَالَ: "الْفَظُّ الْغَلِيظُ"، قُلْت: وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ: "رَحْبُ الجوف". آخر سورة نون.

ومن سورة سأل سائل

وَمِنْ سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دِيمَ عَلَيْهِ وَقَرَأْت: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "دَائِمُونَ عَلَى مَوَاقِيتِهَا" وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: "الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ". وقَوْله تَعَالَى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمَحْرُومُ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ تِجَارَةٌ" وَقَالَ أَبُو قلابة: "الْمَحْرُومُ مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ" وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَغَنِمَتْ، فَجَاءَ آخَرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فنزلت: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَعَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْمَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمَحْرُومِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِيهِ آخِرُ سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ.

ومن سورة المزمل

ومن سورة المزمل مطلب: في قيام الليل ... ومن سورة المزمل بسم الله الرحمن الرحيم مطلب: في قيام الليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} رَوَى زرارة بْنُ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قُلْت لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم!، قَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} ؟ قُلْت: بَلَى قَالَتْ: "فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوَ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَزَلَ آخِرُهَا، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا نَحْوَ سَنَةٍ". وَقَوْله تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "بَيِّنْهُ تَبْيِينًا" وَقَالَ طَاوُسٌ: "بَيِّنْهُ حَتَّى تَفْهَمَهُ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قَالَ: "وَالِ بَعْضَهُ عَلَى إثْرِ بَعْضٍ عَلَى تُؤَدَةٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَسْخِ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُرَغَّبٌ فِيهِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا". وَرُوِيَ عَنْ عَلَى: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى إذَا انْفَجَرَ عَمُودُ الصُّبْحِ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَبَّحَ وَكَبَّرَ، حَتَّى إذَا انْفَجَرَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: "إذَا نَشَأْت قَائِمًا فَهِيَ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ كُلِّهِ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "اللَّيْلُ كُلُّهُ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَهُوَ نَاشِئَةٌ وما

ومن سورة المدثر

ومن سورة المدثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: "لَا تُعْطِ عَطِيَّةً لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا". وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "لَا تَمْنُنْ حَسَنَاتِك عَلَى اللَّهِ مُسْتَكْثِرًا لَهَا فَيُنْقِصَك ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: "لَا تَمْنُنْ بِمَا أَعْطَاك اللَّهُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ مُسْتَكْثِرًا بِهِ الْأَجْرَ مِنْ النَّاسِ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: "لَا تَضْعُفْ فِي عَمَلِك مُسْتَكْثِرًا لِطَاعَتِك". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا بِهِ، فَالْوَجْهُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ النَّجَاسَاتِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ; لِأَنَّ تَطْهِيرَهَا لَا يَجِبُ إلَّا لِلصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى عَمَّارًا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: "مِمَّ تَغْسِلُ ثَوْبَك"؟ فَقَالَ: مِنْ نُخَامَةٍ فَقَالَ: "إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ". وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ إذَا كَانَ رَطْبًا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: "عَمَلُك أَصْلِحْهُ". وقال إبراهيم: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} مِنْ الْإِثْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَرَهُ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثِيَابَهُ عَلَى عَذِرَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَجَازٌ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ; وَاحْتَجَّ هَذَا الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِغَسْلِ ثِيَابِهِ مِنْ الْبَوْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا كَلَامٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ وَالْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَجْرِ الْأَوْثَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَاجِرًا لِلْأَوْثَانِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَكَانَ مُجْتَنِبًا لِلْآثَامِ وَالْعَذِرَاتِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا جَازَ خِطَابُهُ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ تَارِكًا لَهَا فَتَطْهِيرُ الثِّيَابِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مِثْلُهُ; وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا قَطُّ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ وَفَسَادِهِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَ كل شيء من الشرائع من وضوء

ومن سورة القيامة

وَمِنْ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ; رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ"، وَقِيلَ: "مَعْنَاهُ بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ جَوَارِحُهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَوْ اعْتَذَرَ وَقَبِلَ شَهَادَةَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِذَارِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا; إذْ لَا تَنَافِيَ فِي هَذَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ; إذْ جَعَلَهُ اللَّهُ حُجَّةً عَلَى نَفْسِهِ وَشَاهِدًا عَلَيْهَا، وَلَمَّا عَبَّرَ عَنْ كَوْنِهِ شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ شَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَثُبُوتِهَا، فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ عُقُودِهِ وَإِقْرَارَهُ وَجَمِيعَ مَا اعترف بلزوم نفسه. آخر سورة القيامة.

ومن سورة الإنسان

ومن سورة الإنسان بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} إلى قوله تعالى: {وَأَسِيراً} عَنْ أَبِي وَائِلٍ: "أَنَّهُ أَمَرَ بِأَسْرَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ مَنْ يُطْعِمُهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الْآيَةَ وَقَالَ قَتَادَةُ: "كَانَ أَسِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكَ، فَأَخُوك الْمُسْلِمُ أَحَقُّ أَنْ تُطْعِمَهُ". وَعَنْ الْحَسَنِ: {وَأَسِيراً} قَالَ: "كَانُوا مُشْرِكِينَ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْأَسِيرُ الْمَسْجُونُ" وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قَالَا: هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَغَيْرُهُمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَظْهَرُ الْأَسِيرُ الْمُشْرِكُ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَسْجُونَ لَا يُسَمَّى أَسِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي إطْعَامِ الْأَسِيرِ قُرْبَةً، وَيَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهِ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ; إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا لَا يُجِيزُونَ إعْطَاءَهُ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَصَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَمَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهَا إلَى الْإِمَامِ، وَيُجِيزُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ جَوَازَ إعْطَائِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا، وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُجِيزُ دَفْعَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ إلَّا إلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. آخِرُ سُورَةِ الْإِنْسَانِ.

ومن سورة المرسلات

وَمِنْ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ ظَهْرَهَا لِلْأَحْيَاءِ وَبَطْنَهَا لِلْأَمْوَاتِ، وَالْكِفَاتُ الضِّمَامُ، فَأَرَادَ أَنَّهَا تَضُمُّهُمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَحْيَى عن مجاهد: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً} قَالَ: "تَكْفِتُ الْمَيِّتَ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ"; وَأَحْيَاءً قَالَ: "الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ لَا يُرَى مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُوَارَاةِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ وَدَفْنِ شَعْرِهِ وَسَائِرِ مَا يُزَايِلُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ وَشَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ دَفْنَهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ" وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَ غَيْرِهَا بِشَعْرِهَا، فَمَنَعَ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ} فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا". وَرُوِيَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَنَّهُ أَخَذَ قَمْلَةً فَدَفَنَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَصَى، ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مِثْلُهُ. وَأَخَذَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ قَمْلَةً عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَطَرَحَهَا فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَنْفِي الْأَوَّلَ وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي الْجَمِيعَ. آخِرُ سُورَةِ المرسلات.

ومن سورة إذا السماء إنشقت

ومن سورة إذا السماء انشقت بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّفَقُ النَّهَارُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ الله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "الشَّفَقُ الْبَيَاضُ" وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: "الشَّفَقُ السَّوَادُ الَّذِي يَكُونُ إذَا ذَهَبَ الْبَيَاضُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الشَّفَقُ فِي الْأَصْلِ الرِّقَّةُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ شَفَقٌ إذَا كَانَ رَقِيقًا، وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فَهُوَ بِالْبَيَاضِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحُمْرَةِ; لِأَنَّ أَجْزَاءَ الضِّيَاءِ رَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي وَقْتِ الْحُمْرَةِ أَكْثَفُ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِذَمِّهِ لِتَارِكِ السُّجُودِ عِنْدَ سَمَاعِ التِّلَاوَةِ; وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ السُّجُودِ عِنْدَ سَمَاعِ سَائِرِ الْقُرْآنِ، إلَّا أَنَّا خَصَصْنَا مِنْهُ مَا عَدَا مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَاسْتَعْمَلْنَاهُ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَسْتَعْمِلْهُ عَلَى ذَلِكَ كُنَّا قَدْ أَلْغَيْنَا حُكْمَهُ رَأْسًا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخُضُوعَ; لِأَنَّ اسْمَ السُّجُودِ يَقَعُ عَلَى الْخُضُوعِ; قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ خُضُوعٌ عَلَى وَصْفٍ، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالْقِيَامَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ خُضُوعٌ وَلَا يُسَمَّى سُجُودًا; لِأَنَّهُ خُضُوعٌ عَلَى صِفَةٍ إذَا خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يُسَمَّ بِهِ. آخِرُ سُورَةِ إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ.

ومن سورة سبح إسم ربك الأعلى

ومن سورة سبح اسم ربك الأعلى يسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ; رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ قَالَا: "أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ" "السُّنَّةُ أَنْ تُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} عَلَى جَوَازِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِسَائِرِ الْأَذْكَارِ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ الصَّلَاةَ مُتَّصِلًا بِهِ; إذْ كَانَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا تَرَاخٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ. آخر سورة سبح.

ومن سورة البلد

ومن سورة البلد بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ; قَالَ: "أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ" قَالَ: أَلَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الصَّدَقَاتِ; لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ فِي ثَمَنِهِ، وَهُوَ نَحْوَ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ الصَّدَقَاتِ: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] . وَقوله تعالى: {ذِي مَسْغَبَةٍ} ذي مجاعة. وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْمَتْرَبَةُ بُقْعَةُ التُّرَابِ، أَيْ هُوَ مَطْرُوحٌ فِي التُّرَابِ لَا يُوَارِيهِ عَنْ الْأَرْضِ شَيْءٌ"، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا رِوَايَةٌ: "الْمَتْرَبَةُ شِدَّةُ الْحَاجَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ تَرِبَ الرَّجُلُ إذَا افْتَقَرَ". وَقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} مَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا، فَصَارَتْ" ثُمَّ" ههنا بمعنى "الواو". آخر السورة.

ومن سورة الضحى

ومن سورة الضحى بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} قِيلَ: لَا تَقْهَرْهُ بِظُلْمِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ. وَخَصَّ الْيَتِيمَ; لِأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُ اللَّهِ، فَغَلَّظَ فِي أَمْرِهِ لِتَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ عَلَى ظَالِمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اتَّقُوا ظُلْمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُ اللَّهِ". وقَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ إغْلَاظِ الْقَوْلِ لَهُ; لِأَنَّ الِانْتِهَارَ هُوَ الزَّجْرُ وَإِغْلَاظُ الْقَوْلِ; وَقَدْ أَمَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِحُسْنِ الْقَوْلِ لَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء:28] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ جميع المكلفين. آخر السورة.

ومن سورة ألم نشرح

ومن سورة ألم نشرح بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ مَسْرُورٌ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّ الْعُسْرَ الْمَذْكُورَ بَدِيًّا هُوَ الْمُثَنَّى بِهِ آخِرًا; لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَرْجِعُ إلَى الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ، وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ; لِأَنَّهُ مَنْكُورٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَوَّلَ لَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ واللام. وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إذَا فَرَغَتْ مِنْ فَرْضِك فَانْصَبْ إلَى مَا رَغَّبَك تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ" وَقَالَ الْحَسَنُ: "فَإِذَا فَرَغْت مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِك فَانْصَبْ إلَى رَبِّك فِي الْعِبَادَةِ" وَقَالَ قَتَادَةُ: "فَإِذَا فَرَغْت مِنْ صَلَاتِك فَانْصَبْ إلَى رَبِّك فِي الدُّعَاءِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "فَإِذَا فَرَغْت مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك فَانْصَبْ إلَى عِبَادَةِ رَبِّك". وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَالْوَجْهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا كُلِّهَا فَيَكُونُ جَمِيعُهَا مُرَادًا، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ المراد به جميع المكلفين. آخر السورة.

ومن سورة ليلة القدر

ومن سورة ليلة القدر بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلَى قَوْلِهِ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} . قِيلَ: إنَّمَا هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ لِمَا يُقْسَمُ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي أَلْفِ شَهْرٍ، فَكَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا وَجْهُ تَفْضِيلِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَالنَّفْعِ الْكَثِيرِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَتَى تَكُونُ، وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِيهَا، فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَاطْلُبُوهَا فِي كُلِّ وَتْرٍ". وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْلَةُ تِسْعَ عَشَرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ". وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ". وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زنجويه النَّسَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: "هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ". وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ: "قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ فَإِنَّ صَاحِبَنَا - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا; فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يَتَّكِلُوا، وَاَللَّهِ إنَّهَا فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ! ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً، فَتَكُونُ فِي سَنَةٍ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي غَيْرِهَا وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي الْعَشْرِ الأواخر من رمضان وفي سنة

ومن سورة لم يكن الذين كفروا

ومن سورة لم يكن الذين كفروا بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، فِيهِ أَمْرٌ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُشْرَكَ فِيهَا غَيْرُهُ; لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ ضِدَّ الْإِشْرَاكِ وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالنِّيَّةِ لَا فِي وُجُودِهَا وَلَا فِي فَقْدِهَا فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي إيجَابِ النِّيَّةِ; لِأَنَّهُ مَتَى اعْتَقَدَ الْإِيمَانَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ ونفي الإشراك فيها. آخر السورة.

ومن سورة أرأيت الذي يكذب بالدين

ومن سورة أرأيت الذي يكذب بالدين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا"، وَكَذَلِكَ قَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ وَرَوَى مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: "يَسْهُونَ عَنْ مِيقَاتِهَا حَتَّى يَفُوتَ". وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا يُرَاءُونَ بِصَلَاتِهِمْ إذَا صَلَّوْا". وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "هُوَ الَّذِي لَا يَدْرِي أَعْلَى شَفْعٍ انْصَرَفَ أَوْ عَلَى وَتْرٍ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَسْلِيمَ"، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ مِنْهَا عَلَى غِرَارٍ وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا. وَنَظِيرُهُ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَالرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ لَهُ نَافِلَةٌ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: {سَاهُونَ} قَالَ: "لَاهُونَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَسْهُونَ لِلَهْوِهِمْ عَنْهَا، فَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا اللَّوْمَ لِتَعَرُّضِهِمْ لِلسَّهْوِ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ فِيهَا; إذْ كَانُوا مُرَائِينَ فِي صَلَاتِهِمْ; لِأَنَّ السَّهْوَ الَّذِي لَيْسَ مَنْ فَعَلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "يَدْفَعُهُ عَنْ حقه". وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْمَاعُونُ الزَّكَاةُ". وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ: "الْمَاعُونُ مَنْعُ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ"، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: "الْعَارِيَّةُ". وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: "الْمَاعُونُ الْمَالُ". وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "كُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ الْمَاعُونُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ مُرَادًا; لِأَنَّ عَارِيَّةَ هَذِهِ الْآلَاتِ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً فِي حَالِ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا وَمَانِعُهَا مَذْمُومٌ مُسْتَحَقٌّ لِلذَّمِّ، وَقَدْ يَمْنَعُهَا الْمَانِعُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُنْبِئُ ذَلِكَ عَنْ لُؤْمِ وَمُجَانَبَةِ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق". آخر السورة.

ومن سورة الكوثر

ومن سورة الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ; قَالَ الْحَسَنُ: "صَلَاةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَنَحْرُ الْبُدْنِ" وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: "صَلِّ الصُّبْحَ بِجَمْعٍ وَانْحَرْ الْبُدْنَ بِمِنًى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إيجَابُ صَلَاةِ الْأَضْحَى، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ عَنْ أبيه عن علي {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قَالَ: وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى السَّاعِدِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ وَضْعُهُ عَلَى صَدْرِهِ". وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عن ابن عباس: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قَالَ: "وَضَعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ عِنْدَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ". وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَفَعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "يُقَالُ: اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِك". فَإِنْ قِيلَ: يُبْطِلُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَضْحَى إلَى الْبَقِيعِ، فَبَدَأَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ: "إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ"، فَسَمَّى صَلَاةَ الْعِيدِ وَالنَّحْرَ سُنَّةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا فِي الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْت; لِأَنَّ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَفَرَضَهُ فَجَائِزٌ أَنْ نَقُولَ: هَذَا سُنَّتُنَا وَهَذَا فَرْضُنَا كَمَا نَقُولُ: هَذَا دِينُنَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ فَرَضَهُ عَلَيْنَا، وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نَحْرِ الْبُدْنَ أَوْلَى; لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَلِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ غَيْرُهُ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ: نَحَرَ فُلَانٌ الْيَوْمَ; عُقِلَ مِنْهُ نَحْرُ الْبُدْنَ وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ; وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ النَّحْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ أَسْفَلَ السُّرَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. آخر السورة.

ومن سورة الكافرين

ومن سورة الكافرين بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَقَدْ قَالَ: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، فَإِنَّهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ، ثُمَّ جَعَلَ دِينَهُمْ دِينًا وَاحِدًا وَدِينَ الْإِسْلَامِ دِينًا وَاحِدًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ ملة واحدة. آخر السورة.

ومن سورة إذا جاء نصر الله

ومن سورة إذا جاء نصر الله بسم الله الرحمن الرحيم قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ; رُوِيَ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً; لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الصُّلْحِ إلَّا بِتَقْيِيدٍ. وَقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ; رَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك" قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاك قَدْ أَحْدَثْتهَا؟ قَالَ: "جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي إذَا رَأَيْتهَا قُلْتهَا إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلَى آخِرِهَا". آخر السورة.

ومن سورة تبت

ومن سورة تبت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ; رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا كَسَبَ يَعْنِي وَلَدَهُ" وَسَمَّاهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكَسْبَ الْخَبِيثَ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أَفْضَلَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اسْتِيلَادِ الْأَبِ لِجَارِيَةِ ابْنِهِ وَأَنَّهُ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ كَمَا لَا يُقَادُ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} . إحْدَى الدَّلَالَاتِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَامْرَأَتَهُ سَيَمُوتَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُسْلِمَانِ، فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ سَمِعَا بِهَذِهِ السُّورَةِ وَلِذَلِكَ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنَّ مُحَمَّدًا هَجَانَا، فَلَوْ أَنَّهُمَا قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا وَأَظْهَرَا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدَاهُ لَكَانَا قَدْ رَدَّا هَذَا الْقَوْلَ وَلَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِدُونَ مُتَعَلَّقًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُسْلِمَانِ لَا بِإِظْهَارِهِ وَلَا بِاعْتِقَادِهِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَكَانَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: إنَّكُمَا لَا تَتَكَلَّمَانِ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ وَصِحَّةِ الْآلَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَالَاتِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَبَا لَهَبٍ بِكُنْيَتِهِ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ دُونَ الْكُنْيَةِ; لِأَنَّ أَبَا لَهَبٍ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ اسْمِهِ إلى كنيته. آخر السورة.

ومن سورة الفلق

وَمِنْ سُورَةِ الْفَلَقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النفيلي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ; إذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَيَقُولُ: "يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا"، قَالَ: وَسَمِعْته يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَاهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَسَتَرْقِي مِنْ الْعَيْنِ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "لا رُقْيَةَ إلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّى" وَعَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ" قَالَتْ: قُلْت: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ فَكُنْت أَخْتَلِفُ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهُمَا كَفَّ عَنْهُمَا، إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ; قَالَ أَبُو صَالِحٍ: النَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ "السَّوَاحِرُ". وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ تَلَا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قَالَ: "إيَّاكُمْ وَمَا يُخَالِطُ مِنْ السِّحْرِ مِنْ هَذِهِ الرُّقَى". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ السَّوَاحِرُ يَنْفُثْنَ عَلَى الْعَلِيلِ وَيَرْقُونَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَتَعْظِيمٌ لِلْكَوَاكِبِ وَيُطْعِمْنَ الْعَلِيلَ الْأَدْوِيَةَ الضَّارَّةَ وَالسُّمُومَ الْقَاتِلَةَ وَيَحْتَالُونَ فِي التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رقاهن،

§1/1